Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
وشغل «ستيوارت» منذ أن تسلم القيادة بعد مغادرة اللورد «كافان» للبلاد في 10 أكتوبر، باسترجاع قلعة الفنار
«طابية قايتباي»، وكان أحمد خورشيد حاكم الإسكندرية قد بادر باحتلالها بعد تنازل «كافان» عنها على اعتبار أن الجيش البريطاني سوف يخلي الإسكندرية تباعا، فطالب ستيوارت الآن باستردادها مستندا إلى أن كافان إنما أخلاها على شريطة استعادتها في أي وقت يشاء، فدارت المكاتبات بينه وبين خورشيد مدة، شعر ستيوارت في أثنائها بازدياد علاقاته سوءا مع ممثلي الباب العالي، ولكنه استطاع أن يدخل بهذه القلعة قوة كبيرة (19 أكتوبر)، واستاء خورشيد واحتج خسرو، ولكن دون جدوى؛ لأنه؛ أي ستيوارت، كان يخشى من الطاعون الذي أخذ يتفشى وقتئذ بسبب مجيء السفن اليونانية والتركية دون انقطاع إلى الميناء الغربية من كافة موانئ الليفانت الموبوءة. ولأنه كان يعتقد - في قرارة نفسه - أن ما تنطوي عليه هذه الخطوة من إظهار عزمه على البقاء وتأخير الجلاء قد يحمل خسرو والباب العالي على الاتفاق مع المماليك، وفي 19 أكتوبر طلب «ستيوارت» من حكومته «تعليمات نهائية توضح ما يجب أن يكون عليه مسلكه شخصيا» في الظروف القائمة.
ذلك كان الموقف إذن عندما وصل «هوراس سباستياني» إلى الإسكندرية في 16 أكتوبر سنة 1802 يظهر دهشته - كما قدمنا - من استمرار الجيش البريطاني في مصر وعدم جلائه عنها، وقد ذكرنا عند الكلام عن بعثة سباستياني في مصر مبلغ الأثر الذي تركه نشاطه في نفس «ستيوارت»، وكيف أن هذا الأخير قد اتخذ من مجيء «سباستياني» إلى مصر وقرب وصول «القنصل الفرنسي» دروفتي دليلا على نوايا فرنسا العدوانية نحو مصر، واهتم ستيوارت باستجلاء أغراض هذه البعثة، وقال «ستيوارت» في رسالته التي فصل فيها إلى اللورد هوبارت في 18 أكتوبر أخبار هذه البعثة «إنه يجرؤ للمرة الثانية فيعبر عن اعتقاده الراسخ بأن الفرنسيين ينوون سواء بطريق المفاوضة أو بطريق أكثر صراحة ووضوحا استرجاع سلطانهم وتفوق نفوذهم في هذه البلاد ، وليس مجيء سباستياني إلا تمهيدا لذلك، ولكن الفرنسيين لا يزالون في حاجة إلى إنشاء صلات تربط السكان والمماليك بهم في مصلحة مشتركة، بخلاف الحال مع الإنجليز الذين أوجدوا هذه المصلحة فعلا لدرجة أن أقل كلمة تشجيع تبدر في هذه اللحظة من جانب الحكومة الإنجليزية تمكن الإنجليز من السيطرة على البلاد، وإذا أرادت «الحكومة الإنجليزية» الاستفادة من هذا النفوذ الذي تستمتع به؛ فإن إهمال كل لحظة تمر إنما يكون كسبا ومغنما لمنافسيهم «الفرنسيين».» وكان واضحا من هذا الكلام أن ستيوارت لا يزال يرجو إذا وافقت حكومته على تأخير الجلاء ودخل في روع العثمانيين أن تسليم الإسكندرية مرتهن بقبولهم الاتفاق مع البكوات حسب الشروط التي تريدها بريطانيا، أن يستطيع تحقيق الغرض من مهمته.
ولكنه كان من الواضح بسبب إصرار الباب العالي على موقفه كما عاد فأكده للحكومة الإنجليزية في لندن وللجنرال «ستيوارت» نفسه في الإسكندرية، وبسبب ما أبداه «سباستياني» من نشاط في القسطنطينية والقاهرة، أن فضلت لندن إغفال نصيحة «ستيوارت»، وأصدرت أوامرها بالإخلاء في 26 نوفمبر سنة 1802، مستندة في ذلك إلى سبب جوهري في نظرها، هو أن مهمة «ستيوارت» كانت حسم الخلافات بين الباب العالي وبين البكوات قبل انسحاب الجيش البريطاني من مصر في موعد أقصاه شهر يوليو، ولكن «ستيوارت» قد فشل في مهمته؛ ولذلك انتفى أي مسوغ لبقاء الجيش البريطاني في مصر أكثر من المدة التي قضاها بها، عندما دعت الحاجة إلى استخدامه في ميادين ومهام أخرى.
غير أنه في الوقت الذي صدرت فيه تعليمات لندن بالإخلاء، كان ستيوارت قد استطاع الاتصال بالبكوات بل وتوثيق علاقاته بهم؛ ذلك أن المماليك بعد وصولهم إلى الفيوم ما لبثوا أن استأنفوا زحفهم إلى الدلتا وتوغلوا في الوجه البحري، وفي 13 نوفمبر علم «ستيوارت» أنهم نزلوا في الحوش على مسافة مرحلتين من دمنهور في قوات تبلغ الألفين عدا حوالي أربعة آلاف أو خمسة آلاف من البدو، وفي 15 نوفمبر ظهر فجأة محمد الألفي في مراكز الإنجليز الأمامية عند بركة غطاس وطلب مقابلة «ستيوارت» بالإسكندرية فسمح له بذلك، وقد علم منه «ستيوارت» أن حال المماليك قد بلغ من السوء نهايته، وأن مواردهم قد استنفدت، ولا يمكن تعويض خسائرهم بسبب الحرب المستمرة، وأنهم قد جاءوا ليرجوه مرة أخرى أن يشفع وأن يتوسط لهم لدى الباب العالي، أو أن يفصل «ستيوارت» في مصيرهم حسبما يراه وأربك هذا الرجاء «ستيوارت» الذي لم تكن لديه تعليمات، فلم يسعه إلا أن يعد الألفي ببذل الجهد في التوسط لصالحهم ثانية، وأن يعرض على البكوات إذا عاكستهم المقادير الاحتماء في مراكزه العسكرية حتى يحصل على أوامر أخرى من حكومته، وعاد الألفي إلى معسكره في مساء اليوم نفسه، ثم ما لبث البكوات أن كتبوا «لستيوارت» من الحوش في 17 نوفمبر يبلغونه اقترابهم من الرحمانية، ويرجونه التوسط لدى خسرو باشا الذي كانوا قد كتبوا له من مدة سابقة برغبتهم في النزول إلى الوجه البحري لتسهيل المفاوضات، ولكنه بدلا من الجواب على رسالتهم أغلق في وجوههم كل الطرق وسير جنده ضدهم.
وكان موقف «ستيوارت» حرجا؛ لأن خسرو منذ 13-15 نوفمبر كان قد رفض بتاتا الاستجابة لمساعي «ديساد» ياور الجنرال «ستيوارت» الذي أوفد إلى القاهرة للحصول على معلومات من الباشا عن مهمة «سباستياني» ثم التوسط في مسألة البكوات، فقال خسرو: «إنه واثق الثقة كلها من أن حماية الجنرال «ستيوارت» للبكوات لا تعدو تمني الخير لهم والتوسط من أجل الحصول على مكان إقليم لإقامتهم، ولكنه يمتنع عليه؛ أي خسرو بسبب ما لديه من أوامر الإصغاء إلى أي حديث في هذه المسألة، بل يمتنع عليه بسبب صرامة هذه التعليمات؛ أن يدخل في مفاوضات أو مباحثات مع البكوات حتى ولو كانوا تحت أسوار القاهرة ذاتها»، وفضلا عن ذلك فقد كان خسرو ينتظر وصول نجدات من الدلاة من الشام، حوالي ثلاثة آلاف فارس، كما بلغ «ستيوارت» أنه أنفذ جيشا من حوالي الخمسة آلاف بقيادة الكخيا «يوسف بك» من القاهرة لقطع خط الرجعة على المماليك ومطاردتهم.
ومع ذلك لم يفقد «ستيوارت» الأمل، فبعث في 21 نوفمبر يقترح على خسرو باشا «كخطوة تمهيدية في سبيل السلام» وقف القتال بين الجانبين، على أن يضمن «ستيوارت» التزام البكوات للهدوء والسكينة، وبشريطة أن يتخلى الأتراك من جانبهم عن أية عمليات قد تستفز المماليك وتستثيرهم، ولكن اقتراح هذه الهدنة جاء متأخرا؛ لأن جيش يوسف بك - كما عرفنا - لم يلبث أن وصل دمنهور في 19 نوفمبر، وفي اليوم التالي وقعت معركة دمنهور أو الحوش التي انتصر فيها المماليك، وفي 22 نوفمبر ظهر الألفي من جديد في خطوط الإنجليز الأمامية عند بركة غطاس، يعلن نبأ الانتصار ويطلب مقابلة «ستيوارت»، كما أن البكوات بعثوا بكتاب في 21 نوفمبر إلى القائد الإنجليزي يخبرونه بأنه بعد أن تركهم صديقهم الميجور «مسيت
Missett » ياور الجنرال «ستيوارت»، صبيحة يوم 20 نوفمبر وقعت المعركة التي انتصروا فيها، بعد أن فشلوا في إقناع الأتراك بوقف القتال مدة يومين أو ثلاثة حتى تصل البكوات «أخبار من أصدقائهم الإنجليز؛ لأنهم لا زالوا يرجون ويلتمسون الصفح والرضى عنهم من الباب العالي وخسرو باشا»، وقال البكوات إنهم برغم هزيمتهم للأتراك هزيمة بالغة «لا يطلبون سوى كسب رضاء الباب العالي وجنده، وأنهم لم يضعوا أنفسهم تحت حماية «ستيوارت» إلا لما يعرفونه عن محبته وخالص وده لهم؛ ولذلك فهم يرجونه من جديد أن يحصل على السلام لهم وعلى اتفاق أو تسوية» لحسم خلافاتهم مع الباب العالي، ويبلغونه أنهم أرسلوا إليه أخاهم - الألفي - لينقل إليه نبأ المعركة «وهو مفوض للموافقة على أية تسوية أو ترتيب في استطاعة «ستيوارت» أن يصل إليه في صالحهم»، وكان هذا الكتاب بتوقيع إبراهيم بك شيخ البلد وعثمان بك مراد البرديسي.
فأوفد «سيتوارت» إليهم الميجور «مسيت» وهو «ضابط - قال عنه «ستيوارت» - إنه ينتمي لأسرته»، فقابل الألفي في بركة غطاس ليقف على سبب المعركة وتفصيلها، ولعل أهم ما تجدر ملاحظته هنا على نحو ما بينا سابقا تأكيد الألفي له انشقاقه على إخوانه الذين صح عزمهم على الاشتباك مع الأتراك، فلم يشترك في القتال «خوفا من عدم رضاء «ستيوارت»» عليه إذا فعل، وقد ألح الألفي في ضرورة مقابلة ليس «ستيوارت» وحده فحسب، بل والقبطان بك قائد البحرية العثمانية بالإسكندرية وخورشيد باشا حاكمها ، ولم يفد احتجاج «مسيت» بأن «ستيوارت» قد قرر التزام الحيدة وعدم التدخل ، ولكن الألفي صمم على عدم مغادرة المكان حتى يصله جواب «ستيوارت» وقال إنه مزود برسائل من البكوات، ورغب القبطان وخورشيد في مقابلة الألفي شخصيا وتسلم الخطابات التي قال إنه جاء بها من إخوانه فدخل الألفي الإسكندرية في 24 نوفمبر، وتمت المقابلة مساء اليوم نفسه، فتكلم الألفي طويلا عن مقاومته للفرنسيين، والخدمات التي أسدتها جماعته للجيوش المتحالفة والوعود التي أعطيت للبكوات، والاضطهادات التي تحملوها، والنجاح المستمر الذي أحرزوه في عملياتهم العسكرية ضد الأتراك، ومع ذلك، وبالرغم مما حدث جميعه، فإنه لا يزال يؤكد ولاءه وولاء سائر البكوات للسلطان العثماني، ولم يترك الصعيد إلى الوجه البحري إلا لرغبته في أن يكون قريبا من الإنجليز وليرجوهم التوسط في مسألة البكوات حرصا على راحة البلاد وإعادة الهدوء إليها.
وكان مقال الألفي مقنعا في حججه الظاهرة، ولكن القبطان وخورشيد لم يسعهما سوى الوعد بإبلاغ ذلك كله إلى خسرو باشا؛ لأنه لم تكن لديهما أية تعليمات - كما قالا - لإبرام أي اتفاق معه ومع إخوانه، ولخسرو وحده أن يتصرف حسب تعليمات حكومته، وكان معنى ذلك أنه لا أمل ولا رجاء في الحقيقة في الوصول إلى أية تسوية، وأما ستيوارت فقد تمسك بحيدته؛ حيث إنه أخفق في الحصول على الاتفاق الذي سعى كثيرا من أجله أو لوقف القتال، كما صرح بأنه لا يستطيع ولا يريد أن يضغط على البكوات ليمنعهم من اتخاذ الوسائل التي تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، أو ليحول دون متابعتهم لانتصارهم، ولكنه إذا حدث أن ساءت حال أحد الفريقين لدرجة تحملهم على الالتجاء لحمياته داخل مراكزه فإنه سوف يرحب بهم دون تفرقة أو تمييز، وقد علل ستيوارت السبب في تشجيعه على عقد هذا الاجتماع بقوله في رسالته إلى اللورد هوبارت في 24 نوفمبر «بأنه لم يكن بحال من الأحوال لتوقعه الوصول إلى أية نتيجة حاسمة، ولكن لإزالة الغيرة من صدور «الأتراك» وسوء الظن أو التفسير الذي قد تسببه مراسلات «ستيوارت» المنفصلة مع البكوات.»
Shafi da ba'a sani ba