353

Misir a Farkon Karni na Sha Tara

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Nau'ikan

ورواية الشيخ الجبرتي إلى جانب أنها وافية، فهي ترسم صورة تبرز وقائع هذا اليوم الرهيب، وكأنها تجري متلاحقة في أثر بعضها بعضا أمام أعيننا، قال: «فلما كان يوم الخميس رابعه (4 صفر 1226 / 28 فبراير 1811) طاف ألاي جاويش بالأسواق على صورة الهيئة القديمة في المناداة على المواكب العظيمة، وهو لابس الضلمة والطبق على رأسه، وراكبا حمارا عاليا، وأمامه مقدم بعكاز، وحوله قابجية ينادون بقولهم: يارن ألاي، ويكررون ذلك في أخطاط المدينة، وطافوا بأوراق التنابيه على كبار العسكر والبينيات والأمراء المصرية الألفية وغيرهم، يطلبونهم للحضور في باكر النهار إلى القلعة؛ ليركب الجميع بتجملاتهم وزينتهم أمام الموكب.

فلما أصبح يوم الجمعة (5 صفر/أول مارس)، ركب الجميع وطلعوا إلى القلعة، وطلع المصرية بمماليكهم وأتباعهم وأجنادهم، فدخل الأمراء عند الباشا، وصبحوا عليه، وجلسوا معه حصة وشربوا القهوة، وتضاحك معهم، ثم انجر الموكب على الوضع الذي رتبوه.

فانجر طائفة الدلاة وأميرهم أزون علي، ومن خلفهم الوالي والمحتسب والآغا والوجاقلية والألدشات المصرية ومن تزيا بزيهم، ومن خلفهم طوائف العسكر الرجالة والخيالة والبيكباشيات وأرباب المناصب منهم، وإبراهيم آغا آغات الباب، وسليمان بك البواب يذهب ويجيء ويرتب الموكب.

وكان الباشا قد بيت مع حسن باشا وصالح قوج والكتخدا فقط غدر المصرية وقتلهم، وأسر بذلك في صبحها إبراهيم آغا آغات الباب.

فلما انجر الموكب وفرغ طائفة الدلاة، ومن خلفهم من الوجاقلية والألداشات المصرية، وانفصلوا من باب العزب، فعند ذلك أمر صالح قوج بغلق الباب، وعرف طائفته بالمراد، فالتفتوا ضاربين بالمصرية، وقد انحصروا بأجمعهم في المضيق المنحدر المقطوع في أعلى باب العزب، مسافة ما بين الباب الأعلى الذي يتوصل منه إلى رحبة سوى القلعة، إلى الباب الأسفل، وقد أعدوا عدة من العساكر أوقفوهم على علاوي النقر والحجر والحيطان التي به، فلما حصل الضرب من التحتانيين، أراد الأمراء الرجوع القهقرى، فلم يمكنهم ذلك لانتظام الخيول في مضيق النقر، وأخذهم ضرب البنادق والقرابين من خلفهم أيضا، وعلم العساكر الواقفون بالأعالي المراد، فضربوا أيضا.

فلما نظروا؛ أي المماليك، ما حل بهم سقط في أيديهم، وارتبكوا في أنفسهم، وتحيروا في أمرهم، ووقع منهم أشخاص كثيرة، فنزلوا عن الخيول، واقتحم شاهين بك الألفي وسليمان بك البواب وآخرون في عدة من مماليكهم راجعين إلى فوق، والرصاص نازل عليهم من كل ناحية، ونزعوا ما كان عليهم من الفراوي والثياب الثقيلة، ولم يزالوا سائرين وشاهرين سيوفهم، حتى وصلوا إلى الرحبة الوسطى المواجهة لقاعدة الأعمدة، وقد سقط أكثرهم، وأصيب شاهين بك وسقط إلى الأرض، فقطعوا رأسه وأسرعوا بها إلى الباشا ليأخذوا عليها البقشيش.

وكان الباشا عندما ساروا بالموكب ركب من ديوان السراية، وذهب إلى البيت الذي به الحريم، وهو بيت إسماعيل أفندي الضربخانة.

وأما سليمان بك البواب فهرب من حلاوة الروح وصعد إلى حائط البرج الكبير، فتابعوه بالضرب حتى سقط وقطعوا رأسه أيضا، وهرب كثير إلى بيت طوسون باشا يظن الالتجاء به والاحتماء فيه، فقتلوهم.

وأسرف العسكر في قتل المصريين وسلب ما عليهم من الثياب ولم يرحموا أحدا، وأظهروا كامن حقدهم، وضبعوا فيهم وفيمن رافقهم متجملا معهم من أولاد الناس وأهالي البلد الذين تزيوا بزيهم لزينة الموكب، وهم يصرخون ويستغيثون، ومنهم من يقول: أنا لست جنديا ولا مملوكا، وآخر يقول: أنا لست من قبيلتهم، فلم يرقوا لصارخ ولا شاك ولا مستغيث، وتتبعوا المشتتين والهربانين في نواحي القلعة وزواياها والذين فروا ودخلوا في البيوت والأماكن، وقبضوا على من أمسك حيا ولم يمت من الرصاص، أو متخلفا عن الموكب، وجالسا مع الكتخدا بك كأحمد بك الكيلارجي ويحيى بك الألفي وعلي كاشف الكبير، فسلبوا ثيابهم وجمعوهم إلى السجن، تحت مجلس كتخدا بك، ثم أحضروا أيضا المشاعلي ليرمي أعناقهم في حوش الديوان واحدا بعد واحد، من ضحوة النهار إلى أن مضى حصة من الليل في المشاعل، حتى امتلأ الحوش من القتلى، ومن مات من المشهورين المعروفين وانصرع في طريق القلعة، قطعوا رأسه، وسحبوا جثته إلى باقي الجثث، حتى إنهم ربطوا في رجلي شاهين بك الألفي ويديه حبالا وسحبوه على الأرض مثل الحمار الميت إلى حوش الديوان، هذا ما حصل بالقلعة.»

هذا، ويذكر المعاصرون أن اختيار طريق باب العزب لنزول الموكب منه ، كان أحد العوامل الحاسمة في نجاح المكيدة؛ لأنه طريق علاوة على انحداره وضيقه الشديدين كان كثير التعاريج، عميق الغور، بحيث صار جانباه من الصخر كحيطان عالية، فتعذر على المماليك ملاحظة ما بدا من نشاط الجند الواقفين على الصخور على جانبي الطريق عندما جاءت الإشارة بإطلاق النار، ثم إن السائرين في الموكب لم يكن في مقدورهم بسبب منعرجات الطريق رؤية زملائهم الأماميين أو الخلفيين؛ ولذلك بينما كان يدق المتقدمون على باب القلعة الضخم المصفح بالحديد (باب العزب) بعد إغلاقه المحكم، وتوقف طليعة أجناد المماليك وبكواتهم عند الباب وقد استولى عليهم الذهول، لم يدر سائر إخوانهم في المؤخرة بشيء مما وقع حتى وجدوا أنفسهم بغتة والرصاص ينهال عليهم.

Shafi da ba'a sani ba