Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
ووجد الشيخ الجبرتي في استئمان شاهين وتصديقه لوعود الباشا، دليلا على خسافة عقله؛ لأن الباشا وهو يبش في وجهه ووجوه أتباعه إنما كان يفعل ذلك وهو مصر لهم على كل كريهة، ولم يكن من المعقول في نظر الشيخ - أن يخلي محمد علي قصر الجيزة من صهره، زوج ابنته، ليسكنه شاهين.
بيد أنه وقت استئمان شاهين، كان لم يطرأ أي تغيير على موقف محمد علي من البكوات المماليك، فهو لا يزال يرحب بالذين ينفصلون عن إخوانهم، ويقبلون الحضور إلى القاهرة معترفين بسلطان باشويته، فيعيشون بها في هدوء وسلام تحت إشرافه ومراقبته، يعاملهم نفس المعاملة التي يلقاها قواده منها، ويلحقون فرسانهم بجيشه المزمع إرساله إلى الحجاز، وهو لا يزال عاقدا العزم على تعقب البكوات المخالفين والإمعان في تشريدهم، فموقف محمد علي إذا من البكوات بعد انتصارات اللاهون والبهنسا هو نفس موقفهم منهم عندما بدأت حملة 1810.
ولقد كان ترحيبه بالبكوات الذين انشقوا على إخوانهم أثناء هذه الحملة وإسكانهم الدور وإغداق العطايا عليهم، مبعث اعتقاد كثيرين بأن الباب العالي نفسه يريد من الباشا إنهاء خصومته مع البكوات، والتقرب منهم والصلح معهم بدلا من قتالهم؛ حتى يمكنه التفرغ لمسألة الحرمين الشريفين، وإنفاذ جيشه إلى الحجاز لاستنقاذهما، عبر عن هذا الرأي القنصل الفرنسي بالإسكندرية «سانت مارسيل» في كتابه إلى حكومته في 24 أغسطس 1810.
وأما إصراره على مناجزة البكوات المخالفين الذين تشردوا في أعالي الصعيد عقب معارك البهنسا، فلأن هؤلاء لم يرضوا بالهزيمة، فراحوا يجمعون فلولهم، وتقدموا من أسوان وإسنا، ثم اتخذوا من جهات قنا وقوص قاعدة يغيرون منها على الإقليم الممتد من قنا إلى أسيوط وما بعدها، فالتحم قواد الباشا معهم مرات عدة، حتى انتصر عليهم أحمد آغا لاظ وأرغمهم على الارتداد إلى قنا وقوص (يناير وفبراير 1811).
وعمد بكوات الصعيد، وقد حلت بهم الهزيمة، وضاع كل أمل لديهم بتاتا منذ معارك اللاهون والبهنسا في مقاومة الباشا دون الاستعانة بحليف قوي، وعمدوا إلى التآمر ضد باشويته مع ألد خصومه وأعدائه، سليمان باشا الكرجي، ولقد تقدم في فصل سابق عند الكلام عن سياسة محمد علي أنه كان بين البكوات وسليمان باشا صداقة مشهورة معروفة، كما تبادل الفريقان المكاتبات، وشكا محمد علي مر الشكوى من هذه العلاقات للباب العالي؛ لأن وجود هذه العلاقات إلى جانب أنه يمنع الباشا من الخروج لحرب الوهابيين - وكان قد صح عزمه على تلبية رغبات الباب العالي لمواءمة ذلك لمصلحته، للأسباب التي سبق أن عرفناها - فقد كانت لحمتها وسداها التآمر على باشويته وتقويض ملكه، بل ويتهم محمد علي سليمان باشا بأنه مدبر الفتنة ومحرض البكوات على العصيان والثورة، ولقد سبق أن ذكرنا رسالة محمد علي إلى الباب العالي في 3 نوفمبر 1810، التي بسط فيها مشاريع البكوات الذين بالصعيد، وهدد في الوقت نفسه بأنهم إذا اعتزموا الذهاب إلى سليمان باشا، ليبعثن بجيشه إلى العريش وغزة لقطع السبيل على المماليك بما في ذلك من اعتداء على أقاليم من باشوية سليمان الكرجي، وظل محمد علي يطلب بإلحاح تنحية سليمان باشا عن ولاية الشام، حتى يتسنى له إرسال الجيش إلى الحجاز، بل وطالب محمد علي - كما عرفنا - بإسناد ولاية الشام ذاتها إلى ابنه طوسون، وراح «دروفتي» يعلل هذه المطالب - في رسالته إلى حكومته في 11 نوفمبر 1810 - بأن الباشا يسوغ هذه (المشروعات الاستقلالية) بالأثر الذي أحدثه في نفسه مصادرته لكتاب كان قد بعث به سليمان باشا والي الشام حاليا إلى البكوات المماليك وقت محاربة هؤلاء لمحمد علي، واستمر محمد علي مصرا على مطالبته بعزل سليمان الكرجي حتى الشهور الأولى من عام 1811.
وأما المستأمنون من البكوات الذين يعيشون في القاهرة، وعلى رأسهم شاهين الألفي، فإنهم بالرغم من استئمانهم، وتمتعهم بالعيش الرغيد في القاهرة، فقد اختاروا في هذه المرة أيضا نقض عهودهم، فاستأنفوا مؤامرتهم ضد الباشا، وصاروا يتراسلون مع إبراهيم بك وعثمان بك حسن وسائر البكوات بالصعيد، واستطاعوا بواسطة هؤلاء إنشاء الصلات مع سليمان باشا، وعلاوة على ذلك، فقد استأنف شاهين صلاته مع «بتروتشي» وعملاء الإنجليز، وبلغت به الحماقة أن أطلع «دروفتي» على صورة من كتابه إلى «كولنجوود» بتاريخ 9 أغسطس 1809، وهو الكتاب الذي سطره له تحت تأثير «بتروتشي»، وقد بعث «دروفتي» بصورة هذا الكتاب إلى حكومته طي رسالة مؤرخة في 11 نوفمبر 1811، تحدث فيها عن حسن المعاملة التي لقيها من محمد علي، الذي أعاد إليه قسما كبيرا من الأملاك التي كان قد أعطاها له قبل خروجه على سلطانه في حادث 17 مايو 1810، وخشي محمد علي عندما شاهد تردد «بتروتشي» على شاهين، عودة هذا إلى التآمر عليه، لا سيما وأن الوكلاء الإنجليز عظم نشاطهم منذ عودة «بريجز» إلى الإسكندرية منذ مارس 1810، بعد أن كان قد غادرها - كما تقدم - وقت انسحاب حملة فريزر فعادت المؤامرات والمكائد إلى مصر بعودته، كما أكد «دروفتي» لحكومته منذ 12 مارس من العام نفسه.
وسواء أكان الوكلاء الإنجليز يتآمرون على محمد علي بالتعاون مع شاهين الألفي وزملائه، أم إنهم ما كانوا يبغون شيئا من ذلك، فقد كفت زيارات «بتروتشي» الكثيرة لشاهين؛ لإثارة شكوك محمد علي ومخاوفه من ناحية شاهين، وبخاصة عندما تبين له أن شاهين وزملاءه متصلون عن طريق بكوات الصعيد المخالفين بسليمان باشا، بل وصادر بعض المكاتبات المتبادلة بين سليمان باشا وبين هؤلاء، والتي تدين شاهين الألفي بتهمة الاشتراك في هذا التآمر. (11) مذبحة القلعة
وتضافرت عوامل عدة خلال شهري يناير وفبراير 1811 خصوصا، لإقناع محمد علي بضرورة إنهاء مشاغله من ناحية البكوات المماليك، بإنزال ضربة ساحقة ماحقة بهم، لا تقوم لهم قيامة بعدها، وكان أهم هذه العوامل - بلا شك - عدا اتضاح غدر مستأمني البكوات، ومثابرتهم مع سائر إخوانهم على الكيد له لهدم سلطانه، بل والقضاء على حياته هو نفسه، أن الباب العالي وعد بجعل باشوية مصر وراثية في أسرته في وضع مشابه لوضع وجاقات الغرب، إذا أنفذ محمد علي جيشه إلى الحجاز لقتال الوهابيين، أي إن الباشا صار يرى قاب قوسين أو أدنى، تحقيق ذلك المشروع الكبير الذي أخذ يعمل جادا لإخراجه إلى حيز الوجود، من أيام حملة «فريزر»، ودل وعد الباب العالي هذا على أن سياسة الباشا التي ارتكزت في تطورها الأخير، وعند رفض كل من إنجلترة وفرنسا لمشروع استقلاله، على الاتجاه صوب تركيا، مع ما يستتبع ذلك حتما - كما سبق أن أوضحنا - من الخروج إلى حرب الوهابيين - دل هذا الوعد على أن هذه السياسة قد أثمرت ثمرتها النافعة، وأن الجهود المضنية التي بذلها محمد علي لإنجاح هذه السياسة لم تذهب سدى؛ ولذلك فقد صار لزاما عليه اتخاذ كل إجراء يكفل انتصار جيشه في الحملة المقبلة في بلاد العرب، ومن أولى الإجراءات اللازمة، اطمئنانه إلى باشويته ذاتها، وعدم تعريضها لخطر هجوم أعدائه عليها أثناء وجود جيشه بالحجاز، ومعنى هذا الاطمئنان أن تكون حكومته موطدة الدعائم داخليا، وهذا ما كفله انفراده بالسلطة، وأن ينبسط سلطانها على أرجاء الباشوية، وهذا ما جعله يشن الحرب على المماليك عندما أعيته الحيل في إلزامهم الوفاء بعهودهم المتكررة معه، ثم ما صار يعتزمه من الفتك بهم للتخلص من شرهم نهائيا، حينما ثبت لديه تآمرهم عليه، واتضح له أن المستأمنين منهم أنفسهم ضالعون في هذه المؤامرة.
وكان أول ما لفت انتباهه إلى ضرورة اتخاذ إجراء حاسم مع البكوات، إلحاح قبو كتخداه في الآستانة وسائر وكلائه بها في ضرورة إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ثم تأكيدهم له بأن الباشوية الوراثية موعود بها إذا حقق رجاء الباب العالي فيه، وتعتبر رسالة محمد نجيب أفندي المؤرخة في 20 ديسمبر 1810 - وقد سبق إثباتها بنصها - من أهم الكتب في هذا الصدد.
ومنذ ذلك التاريخ، ظلت تترى في هذا المعنى رسائل وكلائه لدى الباب العالي، كما حلت مشكلة هامة أخرى ارتبطت بمسألة الخروج إلى حرب الوهابيين، هي مشكلة يوسف باشا كنج، من ذلك كتاب محمد نجيب في 9 يناير 1811، وكتابا أحمد شاكر في 27، 28 يناير، ومحمد نجيب مرة أخرى في 28 يناير، وهي التي تتضمن جعل إيالة مصر منحصرة في أولاد محمد علي وسلالته الطاهرة، مع توجيه رتبة الخان الرفيعة له.
Shafi da ba'a sani ba