Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
ولما كان الشيخ سليمان الفيومي قد توفي في يناير 1810، ومات كذلك الشيخ محمد الأمير في سبتمبر 1817، فقد انقضى عهد الأشياخ المتصدرين، وهم الذين عرفنا من قصصهم ما عرفنا، وأما غيرهم من المشايخ والمتعممين، فقد حذا أكثرهم حذوهم، وأصدر الشيخ الجبرتي حكمه عليهم فقال: إنهم قد «زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس، وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآتم والمسارعة إلى الولائم في الأفراح والمآتم، يتكالبون على الأسمطة كالبهائم، فتراهم في كل دعوة ذاهبين، وعلى الخوانات راكعين، وللكباب والمحمرات خاطفين، وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين»، وأما هذا الرأي فقد سجله الشيخ في حوادث شهر ربيع الأول عام 1231؛ أي في فبراير 1816.
الفصل الرابع
بسط سلطان الولاية
القضاء على المماليك
تمهيد
أتم إقصاء المشايخ بعد تطويع الجند، القضاء على العناصر المناوئة، أو التي تخشى مناوأتها لحكومة محمد علي، فانفرد بالسلطة، وكان انفراده بها من عوامل دعم أركان باشويته، كما أنه جاء في الوقت نفسه نتيجة لاضطراد رسوخ قدمه في هذه الباشوية بعد أن اجتاز بسلام العقبات التي اعترضت سبيله، وذلل الصعوبات التي صادفته منذ توليته في عام 1805، سواء ما تعلق منها بممارسته شئون الحكم الداخلية، أو كان متصلا بتدبر علاقاته مع الباب العالي والدول الأجنبية (إنجلترة وفرنسا خصوصا).
وواءم انفراده بالسلطة الهدف الذي جد في تحقيقه، تمكين الحكم الوراثي لأسرته في مصر، والشرط الأول لذلك - كما تبين - توطيد حكومته، فلم يكن من مقتضيات برنامجه إجازة مبدأ الشورى الذي طالب به فريق من المشايخ والمتصدرين؛ لأن مقصود هؤلاء من الشورى وقف إجراءاته المالية، ويستحيل عليه فعل ذلك؛ لأنه ما كان يرضى بوقفها على الرغم من شذوذها؛ لأنها السبيل الوحيد للحصول على المال من أسرع الطرق وأيسرها - المال الذي ظلت حاجته إليه ملحة طوال هذه السنوات للإنفاق منه في الوجوه التي تكفل دعم سلطانه الداخلي، وأهم هذه - كما شهدنا - ترويض الجند على الطاعة بدفع مرتباتهم إليهم، وتحصين القاهرة والثغور تهيؤا لدفع غزو أجنبي قد يأتي من ناحية إنجلترة أو فرنسا، أو لصد حملة قد يبعث بها الباب العالي إلى مصر لإقصائه من الحكم، وأخيرا لإعداد التجريدات المرسلة ضد البكوات المماليك، وكل أولئك أسباب لا معدى عنها لتثبيت باشويته وتقوية أركانها.
على أن الانفراد بالسلطة، وتقرير سلطانه في القاهرة والثغور وأرجاء الدلتا كان وحده لا يكفي لتأمينه على باشويته، طالما بقي الصعيد بأسره تقريبا - عدا بعض المراكز المبعثرة هنا وهناك - بأيدي البكوات المماليك، وخارجا عن سلطان باشويته؛ ولذلك فقد اقتضى نفس الهدف الذي أشرنا إليه، وجد في تحقيقه، إخضاع الصعيد لحكومته، وكان واضحا أن توطيد هذه الحكومة لن يتأتى إلا ببسط سلطانه في كل جوانب باشويته.
فالبكوات المماليك سوف يظلون شوكة في جانبه، ومصدر خطر ماثل على باشويته إذا ظلوا رافضين الاعتراف بسلطانه، وعجز عن تمكين سيطرته عليهم، وهو الذي عانى الكثير منهم خلال سنوات التجربة والاختبار السابقة بسبب عنادهم في مخاصمته وإصرارهم على مناوأته، فبسط سلطان الباشوية يعني أن يسرح هؤلاء حشودهم العسكرية، وكان فرسانهم قوة؛ لا جدال في أن محمد علي يخشى بأسهم، ويعني عدم لجوء الهاربين من جنده المتمردين إليهم حتى لا تظل معسكراتهم مواطن للتآمر على ملكه، وانفضاض العربان من حولهم، فتنكسر حدة أعمال السلب والنهب التي يشجعهم عليها تزاملهم مع المماليك والمنضوين تحت لوائهم في الإغارة على القرى والدساكر، ثم إنه يعني قبل كل شيء تحصيل الميري أو الضريبة على الأقاليم الواسعة التي في أيديهم، فكان لا مناص حينئذ من معالجة مسألة البكوات المماليك.
ولقد بدأ محمد علي يتدبر أمر البكوات منذ اعتلائه أريكة الولاية، وأجبرته شتى ملابسات الموقف، وكلما طرأ عليه تبدل، على ممارسة مختلف الطرائق معهم، حتى يخضد من شوكتهم، ويشتت من جموعهم، ويحول دون اتحادهم وتكتلهم ضده أو تعاونهم مع الغزاة الأجانب، أو مع الدول الطامعة في بسط نفوذها على البلاد، أو مع الباب العالي الذي يأبى إلا أن يسترجع سلطانه الشرعي عليها كاملا، فيراوغهم ويخادعهم تارة، ويخرج التجريدات لمطاردتهم تارة أخرى، ويعمل دائما لإشاعة الفرقة والانقسام في صفوفهم، ويبغي في أثناء ذلك كله كسب الوقت، والتمهيل حتى يتسنى له الفراغ من مشكلات أجدر لخطورتها بعنايته العاجلة، ويقربه انحسامها من الاقتدار على مناجزتهم وإيجاد الحل القاطع لمشكلتهم هم كذلك في النهاية، وكانت مذبحة القلعة المروعة السلاح البتار الذي قطعت به عقدتهم.
Shafi da ba'a sani ba