Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
وفي أواخر سنة خمس وتسعين ومائة وألف (1781) تزوج الشيخ ربيبة صديقه علي عبد الله درويش الرومي برغبة منه، وما إن حصلت النسابة والمصاهرة حتى حوله بعياله إلى منزله؛ لتعب الوقت وتعطيل أسباب المعاش. (4-2) تصنيف «عجائب الآثار»
وكان في شهر مارس 1788، أن فاتحه أستاذه الشيخ مرتضى الزبيدي في معاونته على إتمام ترجمة لأعلام القرن الثاني عشر الهجري من مصريين وحجازيين، وكان الذي طلب من الشيخ مرتضى ذلك، مفتي دمشق، أبو المودة محمد خليل المرادي الحسيني، فكان ذلك مبعث «عجائب الآثار»، وقد انكب عبد الرحمن على عمله بكل همة، فسود أوراقا في حوادث آخر القرن الثاني عشر وما يليه وأوائل الثالث عشر الهجري، قال إنه «جمع فيها بعض الوقائع إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن أدركناها، وأمور شاهدناها.» وقد رجع الشيخ في تقصي هذه الوقائع إلى كل ما عثر عليه من مؤلفات ومصنفات، ولو أن هذه كانت قليلة، فإنه وإن كان قد دون أسماء مشهوري المؤرخين وتصانيفهم، كالطبري وابن الأثير وابن الجوزي وابن خلكان، والمسعودي، والذهبي، والسمعاني وابن حجر العسقلاني، والصفدي والسيوطي وابن عساكر، واليافعي، وأبي نعيم، والمقريزي، والعيني، وقد قال الشيخ عن تاريخه إنه في أربعين مجلدا، رأيت منه بعض مجلدات بخطه وهي ضخمة في قالب الكامل، والسخاوي، وابن دقاق، وابن خلدون وهو في ثمان مجلدات ضخام ومقدمته مجلد على حدة، من اطلع عليها رأى بحرا متلاطما بالعلوم، مشحونا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم. نقول إن الشيخ الجبرتي وإن كان قد ذكر كل هؤلاء المؤرخين ودون أسماء كتبهم، فقد استدرك قائلا: «وهذه صارت أسماء من غير مسميات، فإنا لم نر من ذلك كله إلا بعض أجزاء مدشتة بقيت في بعض خزائن كتب الأوقاف بالمدارس، مما تداولته أيدي الصحافيين، وباعها القومة والمباشرون، ونقلت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم.»
ولما عزم الشيخ على جمع ما كان سوده لكتابة تاريخه، أراد أن يوصله بشيء قبله فلم يجد بعد البحث والتفتيش إلا بعض كراريس سودها بعض العامة من الأجناد ركيكة التركيب، مختلفة التهذيب والترتيب، وقد اعتراها النقص من مواضع في خلال بعض الوقائع، وكان ظفر بتاريخ من تلك الفروع، لكنه على نسق في الجملة مطبوع، لشخص يقال له أحمد جبلي بن عبد الغني، مبتدئا فيه من وقت تملك بني عثمان للديار المصرية، وينتهي كغيره مما ذكره إلى خمسين ومائة وألف هجرية (1737)، ثم إن ذلك الكتاب استعاره بعض الأصحاب، وزلت به القدم، ووقع في صندوق العدم، ومن ذلك الوقت إلى وقتنا هذا لم يتقيد أحد بتقييد، ولم يسطر في هذا الشأن شيئا يفيد، فرجع الجبرتي إلى النقل من أفواه الشيخة المسنين، وصكوك دفاتر الكتبة والمباشرين، وما انتقش على أحجار ترب المقبورين، وذلك من أول القرن إلى السبعين، وما بعدها إلى التسعين أمور شاهدناها ثم نسيناها وتذكرناها، ومنها إلى وقتنا أمور تعقلناها وقيدناها وسطرناها إلى أن تم ما قصدنا بأي وجه كان، وانتظم ما أردنا استطراده من وقتنا إلى ذلك الأوان. وقد عاونه إسماعيل الخشاب في الوقوف على الصكوك والحجج وما إليها من الوثائق المودعة بدار المحكمة الكبيرة، وكان قد تنزل لحرفة الشهادة بها لضرورة التكسب في المعاش، ثم لم يلبث الفرنسيون أن عينوه؛ أي الخشاب، في كتابة التاريخ لحوادث الديوان الذي رتبوه لقضايا المسلمين.
ويعزو الشيخ عبد الرحمن الفضل في جمع هذا التاريخ إلى مفتي دمشق السالف الذكر، فيقول: إنه «السبب الأعظم الداعي لجمع هذا التاريخ على هذا النسق، فإنه كان راسل شيخنا السيد محمد مرتضى، والتمس منه نحو ذلك؛ أي جمع تراجم أهل بلاده وأخبار أعيان أهل القرن الثاني عشر الهجري، فأجابه لطلبته»، وشرع السيد مرتضى في جمع المطلوب بمعونة عبد الرحمن، ولم يذكر السبب الحامل على ذلك، ويذكر الجبرتي أنه ذهب يوما بما تيسر جمعه إلى السيد مرتضى وعنده بعض الشاميين، فأطلعه عليه، فسر بذلك كثيرا، وطارحه، وطارحه الجبرتي في نحو ذلك بمسمع من المجلس.
ولكنه حدث بعد هذه المقابلة بوقت قليل أن توفي السيد مرتضى (في أبريل 1791)، فتنوسي هذا الأمر شهورا، ووصل نعي السيد مرتضى إلى مفتي دمشق، أبي المودة، فبعث بكتاب إلى عبد الرحمن وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي تستدعي تحصيل ما جمعه الشيخ مرتضى من أوراقه، وضم ما جمعه عبد الرحمن وما تيسر ضمه أيضا وإرساله، وقد بلغ أبا المودة من الشيخ مرتضى نفسه أن عبد الرحمن الجبرتي قد أعانه على ذلك.
فنشط عبد الرحمن في فحص أوراق الشيخ مرتضى، وكان قد استطاع الظفر بها، وشراءها من تركته بعد وفاته، وهي في عشرة كراريس، رتبها الشيخ مرتضى على حروف التهجي وسماه المعجم المختص، ذكر فيه شيوخه ومن أخذ عنه أو ساجله أو جالسه من رفيق وصاحب وصالح، وقال: «أو من المشاهير، وقد أذكر فيه من أحبني في الله وأحببته أو استفدت منه شيئا أو أنشدني شيئا أو كاتبني أو كاتبته أو بلوت منه معروفا وكرما ... إلى آخر ما قال»، إلا أن الكراريس المذكورة لم تكمل، وترك في الحروف بياضات كثيرة، وغالب ما فيها - كما وجدها عبد الرحمن - أفاقيون من أهل المغرب والروم والشام والحجاز بل والسودان، والذين ليس لهم شهرة ولا كثير بضاعة من الأحياء والأموات، وأهمل من يستحق أن يترجم من كبار العلماء والأعاظم ونحوهم.
ويستطرد الجبرتي فيقول، إنه لما رأى ذلك، وعلم الباعث على جمع هذه التراجم، وتحققت لديه رغبة الطالب لذلك؛ أي أبي المودة السيد خليل مفتي دمشق، بادر بجمع ما كان سوده، وزاد فيه، وهي تراجم فقط دون الأخبار. وبينا هو مشتغل بذلك، جاءه نعي أبي المودة نفسه، الذي توفي في حلب في أواخر صفر سنة ست ومائتين وألف (أكتوبر 1791)، ففترت الهمة وطرحت تلك الأوراق في زوايا الإهمال مدة طويلة حتى كادت تتناثر وتضيع.
ولكن الجبرتي وإن كان قد طرح هذه الأوراق الخاصة بالتراجم دون الأخبار في زوايا الإهمال، فقد حرص من جهة أخرى على تدوين الوقائع وبخاصة ما استجد منها بعد هذا التاريخ على أيام الاحتلال الفرنسي، وكان يسجل كل واقعة بذاتها في جزازة مستقلة أو طيارة - كما يسميها - والدليل على ذلك أنه استطاع عند خروج الفرنسيين أن يضع كتابه الأول، وباكورة إنتاجه «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس» لإهدائه إلى يوسف ضيا باشا، بمناسبة استرجاع الدولة لهذه البلاد، وإنقاذها من المحتلين، وقد انتهى هذا التاريخ عند آخر شعبان 1216 / 4 يناير 1802، وأثبته في «عجائب الآثار» عند تدوينه بعد أن حذف مقدمته، وفصولا كان قد كتبها صديقه الشيخ حسن العطار. وثمة دليل آخر على تسجيله الوقائع ابتداء من سنة مائتين وألف (1786)، أنه استبدل بسرده الإجمالي للحوادث في الأعوام السابقة، والاهتمام أكثر الاهتمام بذكر الوفيات، إثبات الوقائع مفصلة بتدقيق يتناول أوقاتها في صبح أيامها وظهرها وعصرها ومغربها ومسائها، ثم إنه لم يعد يعتذر عن عجزه عن تحري تواريخ وفاة من ترجم لهم، كما كان يفعل خصوصا في الفترة السابقة على عام 1786.
ولم يبدأ عبد الرحمن كتابة تاريخه «عجائب الآثار» في النسق الذي ظهر فيه إلا بعد فترة طويلة من الزمن، وذلك عندما «حصل عندي باعث من نفسي على جمع الأوراق التي طرحت في زوايا الإهمال مدة طويلة مع ضم الوقائع والحوادث والمتجددات على هذا النسق»، وكان عندئذ - كما سبقت الإشارة إليه - أن راح ينقب في خزائن الكتب، ويطوف بالمقابر لقراءة أحجار ترب المقبورين، ويجد الذهن في استذكار ما كان سمعه من والده، ويسأل الأشياخ والمصريين، ويطلب معاونة إسماعيل الخشاب، في مراجعة الحجج والصكوك بالمحكمة، إلى غير ذلك من الوسائل التي لجأ إليها لاستيفاء معلوماته عن الموضوعات والحوادث السابقة التي أراد أن يصل تاريخه بها.
ولم يزعم الجبرتي أن ما سجله في تاريخه عن هذه الحوادث السابقة أو اللاحقة عن الصدق والحقيقة، وبمنأى عن كل مطعن وتجريح، فهو ما يفتأ يقول إن ما ذكره عن وقائع القرن الثاني عشر، وتراجم أعلامه، إنما هو «على سبيل الإجمال بحسب الإمكان، فإني لم أعثر على شيء من تراجم المتقدمين من أهل هذا القرن، ولم أجد شيئا مدونا في ذلك إلا ما حصلته من وفياتهم فقط، وما وعيته في ذهني، واستنبطته من بعض أسانيدهم وإجازات أشياخهم، على حسب الطاقة»، وأن ما جمعه كان «بحسب التيسير أن التفصيل متعذر، وجمع الشوارد في الظلام متعسر، وذلك بحسب الإمكان، وما وعاه الفكر والذهن خوان»، ثم يقول في ختام سنة خمس وعشرين ومائتين وألف (1810): «وانقضت السنة بحوادثها التي قصصنا بعضها؛ إذ لا يمكن استيفاؤها للتباعد عن مباشرة الأمور وعدم تحققها على الصحة، وتحريف النقلة وزيادتهم ونقصهم في الرواية فلا أكتب حادثة حتى أتحقق صحتها بالتواتر والاشتهار، وغالبها من الأمور الكلية التي لا تقبل الكثير من التحريف، وربما أخرجت قيد حادثة حتى أثبتها، ويحدث غيرها، وأنساها، فأكتبها في طيارة حتى أقيدها في محلها، إن شاء الله تعالى عند تهذيب هذه الكتابة، وكل ذلك من تشوش البال، وتكدر الحال، وهم العيال، وكثرة الاشتغال، وضعف البدن، وضيق العطن.»
Shafi da ba'a sani ba