278

Misir a Farkon Karni na Sha Tara

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Nau'ikan

وعلاوة على ذلك، فقد اختار محمد علي هذا الوقت بالذات، ليعرض «مشروع استقلاله» بصورة واضحة محددة على القسطنطينية، ويطلب إعطاءه وضعا مماثلا لوضع وجاقات الغرب، فبعث إلى كتخداه محمد نجيب في 24 نوفمبر 1810 برسالة مطولة، تحدث فيها عن هزائم جيوش الدولة على يد الروس، والتي كان من أثرها أن اضطر السلطان إلى طلب النجدة من نابليون، ثم استطرد من ذلك إلى عرض مشروع استقلاله، وذكر مزاياه، والفائدة التي تعود من تحقيقه على الدولة ذاتها، فقال: «ولقد وجدت الوسيلة التي يمكن بها خدمة الدولة وقد سبق لي أن ذكرتها لكم - مخاطبا نجيب أفندي - وهي أن يعلن الباب العالي إيالة مصر حرة، في نفس الوضع الذي لوجاق الجزائر والوجاقات الأخرى؛ فإنه إذا حدث قيام حالة حرب بين الإنجليز والإمبراطورية العثمانية، فسوف يكون في وسعي البقاء بمنأى عن هذه الحرب، وأظل على صلات طيبة مع الإنجليز، وأستطيع حينئذ الحصول على خمس أو عشر سفن كبيرة، أرفع عليها علم الوجاق المصري فأجعل هذه السفن تطوف في البحر الأبيض، ولن ألقى صعوبات ما في تموين أهل القسطنطينية بالغلال وسائر أصناف الحبوب، وبالذخائر المصرية، وسوف أعمد إلى شحنها بكميات وفيرة من هذه المواد، وأبعث بهذه السفن المحملة إلى القسطنطينية دون انقطاع، ومن ناحية أخرى فلن تصادف مهمة استخلاص الحرمين الشريفين المسندة إلي أية صعوبات تعطلها، فسوف يقوم بها الباشا فورا، وهو مطمئن إلى نجاحه في هذه المهمة، حتى إذا انتهت مهمة الحرمين الشريفين، يعمد جلالة السلطان إلى سحب هذا الوضع الذي أعطي لإيالة مصر، وتعود هذه إلى الوضع الأدنى الذي كان لها، كمقاطعة عادية من مقاطعات الدولة فحسب، وما نحن وأهل هذه البلاد إلا عبيدا لمولانا صاحب الجلالة.»

وهكذا، كان من الواضح مما جاء في هاتين الرسالتين، أن الباشا بما أبداه من تشكك في نجاح الحملة إذا خرجت بدونه، وبما تقدم به الآن من طلب صريح، يبغي منه رفع ولايته إلى مرتبة الوجاقات قد صار يلوح بأن إنفاذ جيشه إلى الحجاز مرتهن بإجابته، ليس إلى مطلبه الخاص بعزل سليمان باشا من إيالة الشام فحسب، بل وإعطائه الحكم الوراثي في مصر كذلك.

ولقد كان لهذا التهديد الخفي أسوأ الوقع في دوائر الباب العالي، ونشط المعارضون لمطالب محمد علي ينشرون دعاية مسممة ضده، وأذاع بعض بطانة السلطان العثماني عن مطالب محمد علي، إن تلك إلا حجج ودعاوى، لا يبغي منها الباشا سوى المماطلة والتسويف، وأنه لن يخرج لحرب الوهابيين، ولو بذل له السلطان ملك الدنيا بحالها، ولقي وكلاء الباشا نصبا وتعبا في دفع هذه الاتهامات عن مولاهم، وراحوا يحذرونه مغبة إرجاء إرسال ابنه طوسون باشا قائد الحملة العام إلى السويس وإلى ينبع، كما صاروا يحذرونه من اتخاذ صلات سليمان باشا بالبكوات المماليك ذريعة للتخلي عن الحملة أو للإبطاء أكثر مما وقع في إنفاذها، وفضلا عن ذلك، فقد راحوا من ناحية أخرى يبذلون كل ما وسعهم من جهد وحيلة لالتماس العفو السلطاني ليوسف كنج، وإنهاء مسألته بصورة تبعث على الرضى وتحفظ سمعة محمد علي الذي أخذ على عاتقه أمام الملأ التوسط فيها، ثم إنهم كدوا وكدحوا حتى يظفروا من الباب العالي بجواب شاف للمسألة التي أثارها جديا الآن محمد علي، وهي رفع إيالة مصر إلى مرتبة الوجاق على نمط وجاقات الغرب، وعلى أساس تقرير الوراثة في باشويته، ولقد تبين لهؤلاء الوكلاء أثناء مساعيهم هذه أن الأمل عظيم في نجاحها، على الأقل بالدرجة التي تكفل قدرا كبيرا من الرضى، لو أن الباشا أنفذ جيشه إلى الحجاز بكل سرعة.

وعلى ذلك، فقد بادر محمد عارف ومحمد نجيب بالكتابة إليه من القسطنطينية في 8 ديسمبر يستحثانه على إرسال ولده طوسون باشا إلى السويس، ويؤكدان له «أن وصول هذا الخبر إلى الآستانة يحدث أثرا كبيرا في دوائر الديوان العثماني، ويكون مدعاة لبشر وفرح عظيمين، وبخاصة لأن هناك كثيرين ممن يعارضون إجابة مطالب الباشا، ويزعمون أن من العبث توقع قيام محمد علي بهذه الحملة؛ لأنه لو أعطي الباشا الدنيا بأسرها لما تحرك إلى الحجاز، ولما أرسل أحدا في هذه المهمة.»

وفي 20 ديسمبر 1810 بعث إليه محمد نجيب برسالة على غاية من الأهمية، يوضح له جسامة الأخطار التي ينطوي عليها تردده في إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ويبلغه شدة تذمر الباب العالي وشكواه المريرة مما يظهر له من مماطلة من جانب الباشا في هذه المسألة، ولهذه الرسالة بفضل ما تضمنته آثار خطيرة، من حيث إنها جعلت الباشا يحزم أمره نهائيا على إنفاذ الحملة الوهابية دون أي إبطاء من جهة، واتخاذ الإجراءات التي اعتقد وجوبها، وكان في قدرته هو اتخاذها محليا لتجنيب باشويته شرور سليمان باشا واجتراءه عليها أثناء غيبة جيشه في بلاد العرب البعيدة، وأما نص هذه الرسالة بتاريخ 23 ذي القعدة 1225 و20 ديسمبر 1810 فكان الآتي:

من محمد نجيب إلى مولاي صاحب الدولة محمد علي

لم أقصر في تبليغ جميع إرادات وإفادات أفندينا محمد علي كما أمر ... وقد حدث ذات ليلة أن دعاني أحد عظماء الدولة لمقابلته في عزلة، ودام الاجتماع بيننا أربع ساعات متصلة، فقال هذا العظيم: يا نجيب أفندي، دعنا نطرح الرسميات جانبا في هذه الجلسة، ونتكلم بصراحة ووضوح، فإنك لم تترك شيئا إلا قلته لنا ولغيرنا، في صالح حضرة والي مصر، إما كتابة وإما مشافهة، ولكن إني أسألك ماذا فعل المشار إليه لتنفيذ أية إرادة أصدرتها الدولة العلية إليه؟ لقد أهمل أوامرها جميعها، وهو وزير منذ ست سنوات، لقد اكتفى بأن صار يعد بإرسال ستين ألف كيلة من الحنطة وبضع مئات من أكياس النقود إلى مولانا السلطان صاحب الشوكة، وذلك في العام الماضي فقط، ولا يمكن أن تكون هذه الخدمة في خلال ست سنوات مبعثا للرضى والاطمئنان.

ثم إن محمد علي - كما استمر هذا العظيم يقول - كان قد وعد منذ ثلاث سنوات بإرسال خمسمائة كيس نقدا لإعانة الجهاد (ضد الوهابيين) ثم طلب أن يستبدل بها إرسال ذخائر، فصرح له بذلك، ولكن لم يظهر لهذه الذخائر أي أثر إلى الآن، وبالرغم من مضي أكثر من ثلاث سنوات على إحالة مسألة الحرمين الشريفين إلى عهدته، فقد ظل يتخلص دائما من القيام بهذه المهمة، فيقول سأذهب هذه السنة، أو سوف أذهب في السنة القادمة، ولم نلمس أثرا يدل على وجود أية نية لديه في هذا الشأن، بل كان كل ما شهدناه هو المماطلة والتسويف فحسب، وقول «لعل» و«ليت».

ومع أنه تعهد قطعا في العام الماضي وأكد الكلام بأنه سوف يخرج إلى الحجاز بعد ثمانية شهور دون انتظار لما يفعله واليا الشام وبغداد، ودون أن يطلب مليما واحدا، أو حتى ما يساوي المليم من الدولة العلية، وبالرغم من الإغداق عليه بالمهمات والإدارات الكثيرة، وفي وقت الضيق هذا (الذي تمر به الدولة)، ثم إعلاء قدره، وتلطيف خاطره بهذه الصورة التي لم يسبق لها مثيل، من جانب الطرف الهمايوني الأشرف بتفضيله بإرسال وكيل الخزينة الهمايونية له، فإنه لم ينفذ وعده بحجة الأمراء (البكوات) المماليك.

فهل تعتقدون أن مسألة هؤلاء البكوات، مسألة ذات خطورة حقيقة، أم أنتم تحسبون أنكم تستغفلون الدولة العلية بذلك؟ نعم إن نقض البكوات لعهدهم أمر واقع ومسلم به، ولكن لماذا لم يرسل محمد علي رأسين أو ثلاثة رءوس مقطوعة إلى مقر سياسة السلطنة العثمانية ، وعلى الأخص بعد خيانة شاهين بك الألفي الذي أنعم عليه محمد علي بإنعامات كثيرة؟ ولماذا أحضره إليه الباشا مرة بعد أخرى، ثم أكرم وفادته في المرة الأخيرة أكثر مما فعله معه في المرة الأولى؟ وهل يمكن إذا فكرنا في الأمر قليلا أن يقبل العقل ما فعله الباشا؟ أوليس هذا دليلا على أن ما فعله محمد علي نوع من التواطؤ مع الأعداء؟

Shafi da ba'a sani ba