256

Misir a Farkon Karni na Sha Tara

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Nau'ikan

وعلق «دروفتي» و«سانت مارسيل» أهمية كبيرة على الجهود التي يبذلها «لاتور موبورج» في القسطنطينية حتى يقر الباب العالي وجهة النظر الفرنسية في مسألة السفن التي ترفع علم بيت المقدس لأسباب ذكرها كلاهما، فقال «سانت مارسيل»: إنه إذا أجيز للإنجليز الاستمرار في نقل بضائعهم في سفن يخفق عليها علم بيت المقدس، والاتجار مع باشا مصر دون مقاومة، فإنه لن يقف شيء في طريق نمو تجارتهم وانتعاشها لا في مصر وحدها فحسب، بل في كل بلاد الليفانت أو المشرق؛ لأن رئيس الهيئة الدينية «الكاثوليكية» في بيت المقدس «يتجر» في الجوازات أو «الرخص» التي تبيح للسفن رفع علم بيت المقدس، حتى انتشرت هذه الجوازات في جميع مواني الليفانت، وكان اليونانيون أسبق من أفاد من هذا الترتيب للدخول إلى مالطة، والاتجار مع الإنجليز؛ ولذلك فإنه إذا تسنى للوكلاء الفرنسيين تنفيذ ما لديهم من تعليمات في موضوع السفن الآتية إلى الإسكندرية، تحت العلم الإنجليزي، أو من بلاد يحتلها الإنجليز خارج الجزر البريطانية، أمكن وقف هذا الشر عند منبعه، وسوف يترتب على هذا النجاح نتائج عظيمة؛ لأن هذه السفن تأخذ اليوم من مصر الكتان الذي يطلبه الإنجليز لبحريتهم، «حتى إن عددا من السفن النمسوية الآتية من مالطة، محملة بالبضائع «الإنجليزية»، لم تنقل في عودتها سوى هذا الصنف، الذي يجب علينا وعلى الأتراك حرمان أعدائنا منه.»

وأما «دروفتي» فقد كان من رأيه أنه إذا جاء قرار القسطنطينية في مسألة «لاروز»، وموضوع السفن التي ترفع علم بيت المقدس عموما في غير صالح الفرنسيين، وقد بعث كذلك محمد علي نفسه، يطلب رأي الباب العالي في هذه المسألة، ثم إذا لم يلق «سانت مارسيل» تأييدا للإجراءات التي اتخذها مع السفينة «لاروز»، ولم يعاقب قبطانها العقوبة الرادعة على تمرده وعصيانه، ثم إذا كان القبطان أو التاجر الذي تملص من سلطان الحكومة الفرنسية بوضع نفسه تحت حماية دولة معادية لفرنسا؛ لتنمية التجارة الإنجليزية؛ لا يعامل بموجب القانون الذي صدر في 3 مارس 1781 لتنظيم شئون القنصليات الفرنسية، وما يتعلق بنشاط الرعايا الفرنسيين التجاري وملاحة السفن في أساكل الليفانت، ووجاقات الغرب، وينص هذا القانون ضمن ما ينص عليه، على ترحيل كل فرنسي إلى فرنسا ينبذ سلطة «الملك» ويعمل للتملص منها، بقبول حماية أجنبية ، ثم أخيرا إذا أعطى قنصل السويد أو بالأحرى الوكيل البريطاني - والمقصود هنا «بتروتشي» - حق حماية قبطان هذه السفينة، والتاجر، والسفينة ذاتها، والمتاجر الإنجليزية؛ لانتهى - إذا وقع ما تقدم - كل ما يتمتع به الوكلاء الفرنسيون في مصر من احترام هم جديرون به بفضل ما لهم من خلق عال، ولصارت إقامتهم بهذه البلاد عديمة النفع ولا جدوى منها، بل وغير مشرفة لحكومة فرنسا «أعظم الحكومات قاطبة»، التي يمثلها هؤلاء الوكلاء في مصر.

وقد تفاقمت الأزمة بين «سانت مارسيل» وطبوز أوغلي، عندما أصدر الباب العالي في نوفمبر 1808 في موضوع «لاروز» قرارا يقضي بمصادرة السفينة والبضائع التي حملتها، على اعتبار أن «لاروز» سفينة بريطانية، ويعتبر حاكم الإسكندرية مسئولا أمامه عن تنفيذ هذه المصادرة، وعارض «سانت مارسيل» في تسليم سكان المركب، ووافق طبوز أوغلي على إحالة المسألة على الباشا في القاهرة، ولكنه لم يمض يومان حتى بعث حاكم الإسكندرية بقوة من الجند لأخذ سكان المركب من القنصلية الفرنسية، ولم يشأ «سانت مارسيل» الاصطدام مع هذه القوة، فسلمها إلى الجند، وحز في نفسه أن تظل البضائع «المصادرة» في مخازن أصحابها، لاعتقاده أن السلطات الحكومية بالإسكندرية لن تعمد إلى مصادرتها وأخذها؛ لأن هذه السلطات - كما قال - «إنما تريد أن يسود التفاهم الطيب بينها وبين مالطة؛ كي تستمر علاقاتها التجارية مع هذه نشيطة». بيد أن هذه الأزمة لم تلبث أن انفرجت مؤقتا عندما عمد الباشا نفسه، «الذي أراد أن يتخذ قرارا في هذه المسألة يحسم الخلاف فيها وما يتفق مع وجهات نظره»، إلى وقف المصادرة حتى تأتي أوامر قاطعة وأخيرة من الباب العالي بصدد هذه المسألة.

ثم إن «سانت مارسيل» لم يلبث أن وجد من الحكمة وأصالة الرأي، الكف عن «مناقشة» موضوع الخلاف مع حاكم الإسكندرية، وآثر الوكلاء الفرنسيون التريث حتى تأتيهم التعليمات من حكومتهم في باريس أو من سفارتهم في القسطنطينية، وأما الوزير «شامباني» فقد أقر «سانت مارسيل» على سؤاله القائم بالأعمال الفرنسي في القسطنطينية التدخل لدى الباب العالي، ثم أوصاه ببذل قصارى جهده من أجل تنفيذ الإجراءات التي أمر الإمبراطور باتخاذها ضد التجارة الإنجليزية.

وعندما أبلغ «دروفتي» الوزير، في رسائله إليه في 21 أغسطس، 9، 17 سبتمبر 1809، فشل مفاوضات الصلح بين محمد علي والمماليك، وخروج جيش الباشا لقتالهم وانتصاره عليهم في الصعيد، مع بيان الأسباب التي ذكرها محمد علي ل «دروفتي» لاتخاذه هذه الخطوة، وفحواها خوفه من أن يتحد البكوات مع الإنجليز إذا اقتضت هؤلاء الظروف السياسية المتغيرة إرسال حملة لغزو هذه البلاد، لاعتقاد الباشا أن الحرب مع النمسا قد اقتربت نهايتها؛ ولتوقعه أن يعلن الباب العالي الحرب على إنجلترة قريبا، أصدر الوزير «شامباني» تعليماته في 31 مارس 1810 إلى «دروفتي» يقول فيها: «لقد قرأت باهتمام ما ذكرته عن الموقف في مصر، وعن آراء أو أهداف الباشا السياسية، ولكنني لا أزال عاجزا عن إعطائك أية تعليمات بشأن الحوادث التي تعرضها علي كأمور محتملة الوقوع، ويبدو لي أن من الأوفق الانتظار، حتى تقع هذه فعلا، وحينئذ يتسنى لنا تقرير الخطة التي يجب اتباعها حيالها.»

وتحدث «دروفتي» في رسالته للوزير في 4 ديسمبر 1809، عن عودة الباشا من حملته الناجحة ضد البكوات في الصعيد، ومجيء محمد بك المنفوخ، أحد زعماء المرادية معه، ثم إنه تحدث في 12 مارس 1810، عن عودة «صمويل بريجز» القنصل الإنجليزي إلى منصبه في الإسكندرية، واستئناف المكائد والدسائس الإنجليزية النشيطة بعودته، والتي منها إغراء الوكلاء الإنجليز - كما قال «دروفتي» - لمحمد علي، على إعلان استقلاله في وضع مشابه لوضع حكام وجاقات الغرب، ثم ما يبدو للقنصل الفرنسي، من أن الإنجليز لم يتخلوا عن مشاريعهم العدوانية على مصر، واستعدادات الباشا العسكرية لرد أي اعتداء يقع على باشويته.

ولكن وزير الخارجية الفرنسية اكتفى عند إصدار تعليماته إلى «دروفتي» في 30 يونيو، بذكر أنه قد أحيط علما بما جاء في تقاريره عن الموقف في مصر، وعن عودة «بريجز» إلى الإسكندرية، واستئناف الإنجليز لمؤامرتهم في مصر، وأثنى على مهارته في كشف سرهم، وأوصاه بالمضي في جمع المعلومات الوافية الدقيقة وإرسالها إليه بانتظام.

وهكذا كان من الواضح، أن حكومة الإمبراطور في باريس، ما كانت تهتم وقتئذ، فيما يتعلق بمجريات الأمور في مصر، إلا بجمع المعلومات الدقيقة والمفصلة عن الحالة القائمة في البلاد، ومعرفة مبلغ نشاط الوكلاء الإنجليز بها، ونمو العلاقات التجارية بين الباشا والإنجليز، كما أن وقف هذه العلاقات، وتنفيذ «النظام القاري» بعرقلة هذه التجارة، وغلق المواني المصرية إذا أمكن، في وجه المتاجر الإنجليزية ، كان أهم ما عنيت به هذه الحكومة.

أضف إلى هذا، أن ما عاد يهمها، أن يستطيع محمد علي دعم أركان باشويته، والذود عنها، ومن وسائل ذلك، حسم خلافاته مع البكوات المماليك، وتحصين الثغور، واستكمال استعداداته العسكرية، فأقرت حكومة الإمبراطور، امتناع «دروفتي» عن التوسط بين الباشا وبين المماليك، أو مرافقة محمد علي في رحلته التفتيشية على المواني الشمالية، وقابلت بفتور ما ذكره الباشا عن الأسباب التي جعلته يقاتل البكوات في الصعيد، وفحواها - كما ذكرنا - خوفه من نزول حملة إنجليزية بالبلاد، نتيجة لما توقعه من انتهاء الحرب بين فرنسا والنمسا، وقيامها بين الباب العالي وإنجلترة، ثم تخلي البكوات عن موقف الحياد الذي وقفوه أيام حملة «فريزر» في عام 1807. وكان من الجلي أن الباشا إنما قصد من ذكر هذه الأسباب ل «دروفتي» معرفة رأي الحكومة الفرنسية، وهل تبغي معاونته على رد العدوان الإنجليزي إذا وقع، والأهم من هذا كله، هل تبغي مؤازرته في بلوغ استقلاله، الذي تحدث في أمره إلى «دروفتي» على نحو ما سيأتي ذكره.

ولكن في عام 1810 - كما في العامين السابقين خصوصا - كان لا يزال موضوع الإمبراطورية الشرقية، أو بالأحرى، موضوع استكمال «الإمبراطورية» يحتل مكانا بارزا في تفكير نابليون، ولم يكن من سياسة الإمبراطور أن يستطيع محمد علي دعم أركان باشويته بالدرجة التي تمكنه من مقاومة الغزو المنتظر.

Shafi da ba'a sani ba