Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
وانتهز هذه الفرصة «بتروتشي» وغيره، ممن أغضبتهم سياسة الإمبراطور نابليون في أوروبا، وكانوا لذلك من أنصار الإنجليز، وراحوا يروجون لما كان يصلهم من أنباء ونشرات من مالطة مليئة بالطعن على نابليون والقذف في حقه، وكان المروجون - على وجه الخصوص - لهذه الدعاية السيئة ضد الإمبراطور، إلى جانب «بتروتشي»، كلا من قنصل إسبانيا في مصر «كامبو إيي سولر»، ورئيس الهيئة المشرفة في الإسكندرية على إيواء الذاهبين إلى الحج في الأرض المقدسة حيث عاش السيد المسيح، وهو «الأب أرمننجيلد»
Ermenengilde ، أما الأول فقد أعلن معارضته الصريحة لحكومة يوسف بونابرت الذي نصبه أخوه الإمبراطور ملكا على إسبانيا في يونيو من العام السابق (1808)، وطفق يذيع كل شتائم أو هجاء تتضمنه النشرات الآتية من مالطة ضد الإمبراطور وضد الملك يوسف.
وأما «الأب أرمننجيلد» فأصله من لوقا بإيطاليا، وصفه «سانت مارسيل» بأنه رجل معاند صلب الرأي، شديد التعصب مع كبرياء وعجرفة، ويكره فرنسا كراهة شديدة، ومع أنه كان قد وضع نفسه دائما تحت حماية فرنسا إلا أن خوفه من قطع العلاقات بينها وبين تركيا بعد حادث الصلح الأخير بين تركيا وإنجلترة، جعله - على حد قول «سانت مارسيل» - يستبدل بحماية فرنسا حماية «بتروتشي» له، بوصفه قنصل السويد العام، وذلك بتحريض من هذا الأخير، وغرض «بتروتشي» من ذلك أن يستميل الفرنسيين الموجودين بهذه البلاد إلى الانفضاض من حول القنصل الفرنسي والوكلاء الفرنسيين عموما، والانضواء تحت لواء رئيس هذه الهيئة الدينية بدافع الدين؛ لما لهذا الدافع الديني من تأثير على ذهنية المواطنين الفرنسيين الذين اعتقد «بتروتشي» خضوعهم للخرافات والأوهام الباطلة، فأبطل «الأب أرمننجيلد» الدعاء المعتاد لنابليون في كنيسته، وحمل على الإمبراطور حملة شعواء، كان مبعثها في الحقيقة عداءه له وللفرنسيين عموما أكثر من أي شيء آخر، ثم لم تلبث أن تزايدت هذه العداوة عندما انتهت اعتداءات نابليون على الولايات البابوية بإعلان ضمها إليه في مايو 1809، ووصلت الإسكندرية بعض «الأوراق » التي طبعت في مالطة، وأذيعت في الثغور فور وصولها، واعتبرت هذه - كما قال «سانت مارسيل» في رسالته إلى وزير الخارجية «شامباني»
Champagny
في 19 أبريل 1810 - «كأنها وثائق رسمية، بعث بها عملاء البابا، وهو الذي يحشد كل قوات الكنيسة للنضال ضد الإمبراطور». وقد أذاع «الأب أرمننجيلد» قرار الحرمان الذي أصدره البابا بيوس السابع
ضد نابليون في 11 يونيو 1809، ثم إنه كان من كبار أنصار الإنجليز بالإسكندرية نائب قنصل النمسا «جودارد»
Godard
الذي حيا دخول إبريق حرب إنجليزي إلى الميناء (في 6 أبريل) برفع علم دولته على مبنى قنصليته، محتذيا في ذلك ما فعله القنصل الإسباني العام «كامبو آبي سولر»، وقال «دروفتي» إن مهمة هذا الإبريق - بلا شك - هي حمل تقارير الحكومة إلى الهند، وقد زار ربانه حاكم المدينة الذي رحب به.
على أن الذي أقض مضجع «سانت مارسيل» أكثر من أي شيء آخر، كان مسلك «بتروتشي» مدبر كل هذه الفتن، وحامل لواء الحملة المقذعة ضد نابليون وضد الفرنسيين عموما، وسرد «سانت مارسيل» في إحدى رسائله إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في 15 مارس 1809، قصة هذا الرجل بصورة تظهره من كبار المغامرين الذين لا يتورعون عن التضحية بكل مبدأ في سبيل نفعهم الشخصي، فقال: إن «فرنسيسكو بتروتشي» أصله من ليفورنة، تبع الفرنسيين عند مجيء حملتهم إلى مصر، والتحق بالإدارة المالية كمشرف على أبواب الإيراد والصرف في أسيوط، فجنى من هذا المنصب ربحا عظيما، وصار صاحب ثراء عريض، حتى إذا أخلى الفرنسيون البلاد لم يسمحوا له بالذهاب معهم إلى فرنسا، فأقام برشيد، وعينه الإنجليز وكيلا بريطانيا بها، وأظهر «بتروتشي» في هذا المنصب الجديد همة ونشاطا عظيمين، كما تنكر لفرنسا، واشترى من رئيس البعثة الدبلوماسية السويدية بالقسطنطينية وظيفة القنصل العام للسويد في مصر، ثم وفد إلى الإسكندرية بعد جلاء جيش «فريزر» عنها وتولى الإشراف على مصالح بريطانيا في هذه البلاد «تحت ستار القنصلية السويدية».
ونشط الوكلاء الفرنسيون لإزالة الأثر السيئ الذي أحدثته هذه الحملة المقذعة ضد نابليون، وكان أخشى ما يخشونه أن يتأثر الباشا نفسه بها، لا سيما بعد أن عقد الصلح بين تركيا وخصومهم الإنجليز من ناحية؛ ولأنهم توقعوا انفصام العلاقات بين تركيا وفرنسا دولتهم من ناحية أخرى، وكان من المنتظر مصادرة السفن الفرنسية في المواني المصرية إذا أعلنت الحرب بين تركيا وفرنسا؛ ولذلك فقد بادر «دروفتي» بمقابلة الباشا، فاجتمع به اجتماعا طويلا ، وصار يستوضحه نواياه نحو الفرنسيين إذا انقطعت العلاقات بين حكومتهم وبين الباب العالي. ولما كان محمد علي يحرص على استبقاء صداقة الإمبراطور «ولا يريد إغضابه»، ويضن بحرمان الإسكندرية دخول السفن المحملة بالمتاجر الفرنسية إليها، وخروج هذه السفن منها تحمل المنتجات المصرية، وذلك حتى لا يتعطل النشاط التجاري في الثغر، ويخسر الباشا - إذا وقع هذا - موردا من موارد المال الذي هو في مسيس الحاجة إليه دائما، فقد أبى أن يكون فصم العلاقات بين تركيا وفرنسا مبعث أذى يلحق مباشرة بمصالحه، وطفق يهدئ من روع «دروفتي» ويتدبر معه الوسائل التي تكفل استمرار العلاقات التجارية مع فرنسا بصورة لا تظهره بمظهر العاصي لأوامر الباب العالي، فقال له: «لقد شهدت بنفسك نوع المعاملة التي لقيها الوكلاء والرعايا الإنجليز وقت أن استولى جيش حكومتهم بطريق الخيانة على الإسكندرية، وصار يعمل لطردي من هذه البلاد، إني لا أعتقد أن الباب العالي يرتكب حماقة الدخول في حرب مع فرنسا، وأما إذا حدث هذا، فلتنزل اللعنة حينئذ على الرجل الذي يأبى أن يعامل «الفرنسيين» كما عاملهم في الماضي.» وأسفر الحديث الطويل بين «دروفتي» والباشا عن موافقة محمد علي على اتخاذ الوسائل التي تكفل إقلاع السفن الفرنسية الموجودة بالإسكندرية قبل إذاعة الفرمانات التي تعلن نشوب الحرب بين فرنسا وتركيا، بل إن الباشا «إظهارا لما يكنه من احترام وتوقير للإمبراطور، أراد أن يفعل أكثر من ذلك»؛ وذلك - على نحو ما كتب «دروفتي» إلى «شامباني» من القاهرة في 29 أبريل 1809 - بتعهده «بأنه سوف يغمض عينيه عن حقيقة الجوازات التي سوف تحملها السفن الفرنسية الحاضرة إلى المواني المصرية، متسترة تحت أعلام الولايات البربرية أو وجاقات الغرب»، ومتخفية بصورة لا تعرف منها جنسيتها الحقيقية، ولا تسبب تورط الباشا مع الباب العالي وحلفائه الإنجليز. وبالغ الباشا في الاحتياط من عدم إثارة سخط الباب العالي والإنجليز عليه، فأشار بضرورة الكتمان «إذا وافق الإمبراطور على السماح لرعاياه الذين يمارسون التجارة في مصر، بالاستمرار في نشاطهم، وفق الشروط المتقدمة»، وطلب أن تحضر السفن الفرنسية «المتنكرة» إلى ثغر دمياط بدلا من الإسكندرية؛ أي بعيدة عن مراقبة الوكلاء الإنجليز النشيطين.
Shafi da ba'a sani ba