Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
ومن واجبي أن أعترف - عدا ما ذكرت من أسباب سياسية - بأن الأمل في أن يسترد الجيش البريطاني تلك السمعة اللامعة التي فقدها، هو السبب القوي الذي يدفعني إلى المناداة بضرورة طرد الأرنئود، فهل من الحق أن يسمح لهؤلاء المتبربرين أن يستمتعوا بنصر لم يحرزوه بفضل بسالة أظهروها، وإنما جاءهم بسبب ظروف طارئة، وهل من العدل أن نتركهم دون عقاب على قسوتهم مع جرحانا في الهجوم الأول على رشيد، وهل من الحكمة أن ندع العالم بأسره يعتقد تفوق الجنود الأتراك على الجنود البريطانيين؟!
ومع ذلك، فمن واجبي كذلك ألا أخفي عنك أن تحقيق هذا الغرض يتطلب الآن قوات أعظم بكثير مما كان يكفي لبلوغه قبل ذلك بستة شهور، فمن المنتظر قطعا أن يبدي الأرنئود الذين أكسبهم انتصارهم الأخير علينا ثقة كبيرة في أنفسهم بعض المقاومة، ومن المحتمل أن يرفض المماليك الانضمام إلينا، حتى نحرز تفوقا في ميدان القتال، ولقد تم تحصين القاهرة، والباشا يبذل همته لتزويد القلعة المسيطرة على هذه المدينة بالمؤن والذخائر يوميا.
ولما كان من المقطوع به أن أحد أحزاب المماليك - وهو حزب البرديسي - مناصر للمصالح الفرنسية، فإني أوصي في حالة إرجاع الحكم إلى البكوات بحرمان هذا الحزب من المساهمة في هذه الحكومة، فإذا لم يسمح لرؤساء هذا الحزب بالدخول إلى القاهرة، واستمر إرغامهم على العيش في الصحراء، فهنالك ما يدعو قطعا إلى توقع انفضاض أتباعهم من حولهم، ومن شأن ذلك أن يجعلهم عاجزين عن تعكير صفو السلام العام.»
وفي رسالته الثانية إلى «كاسلريه» بتاريخ 17 يونيو، تحدث «مسيت» عن مهمة مندوبي شاهين الألفي، أحمد بك وأمين بك في الإسكندرية، كما بسط مسألة «بتروتشي» الذي استطاع بفضل النفوذ الذي كسبه لدى الباشا في القاهرة، أن يبعث باليوناني «قسطنطين كاريري» إلى الإسكندرية عن طريق رشيد، حتى يدلي بمعلومات صحيحة عن عدد من النقاط التي يهم «مسيت» معرفتها، وقد سبق أن تكلمنا عن هذه الرسالة، ولما كان «مسيت» قد سجل أجوبة هذا اليوناني على أسئلته، فقد بعث طي رسالته إلى «كاسلريه» بمحضر استجواب «كاريري »، وجاء في أقوال هذا الأخير: أولا: أن السيد «بتروتشي» قد طلب منه أن يبلغ «مسيت» بأن الباشا يميل كثيرا للوصول إلى اتفاق مع القائد العام البريطاني «فريزر» بشأن إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، ولكنه يخشى مما قد يقدمه الوكيل الفرنسي ضده من أقوال واحتجاجات إلى الباب العالي، فقد مضى أكثر من ثلاثة شهور دون أن يصل شيء إلى الباشا من القسطنطينية، وصار لذلك في وسع الوكيل الفرنسي أن يخدعه بالطريقة التي تحلو له في كل ما يتعلق بعمليات الجيوش الروسية والفرنسية العسكرية، حتى إنه حدث قبل مغادرتي للقاهرة بوقت قصير أن أعلن الوكيل الفرنسي رسميا أن بونابرت قد استولى على بطرسبرج، ولكنه لما كان السيد «بتروتشي» قد أكد للباشا أنه بدلا من الاستيلاء على بطرسبرج قد انهزم الفرنسيون على يد الروس في أكثر من موقعة، فقد رجاه الباشا أن يزوده بكل ما يمكنه العثور عليه من معلومات عن هذا الموضوع؛ ولذلك يرجو السيد «بتروتشي» أن تبعث إليه بتفاصيل المعارك، وثانيا: أن التذمر سائد في صفوف جند الباشا الذين طالبوا حديثا بمرتباتهم في صياح وضجة غير عاديين، وأن الباشا الذي لا يجد من المال ما يجيب به مطالبهم، قد عظمت همومه وصار قلقا مشغول البال كثيرا، وحظى السيد «بتروتشي» بثقته الكبيرة بإقراضه أربعين ألف قرش تركي، وأن عدد جنوده أقل من الثمانية آلاف، وثالثا: وأن الأتراك قد أقاموا سورا حول رشيد، وحصنوا مرتفعات أبي منضور، ووضعوا بطاريات مدفعية على ضفتي النيل عند مصب النهر، وأن عدد الجنود برشيد والجهات المجاورة لها حوالي أربعة آلاف، بعد أن نقص عددهم الذي كان من وقت قريب حوالي الخمسة آلاف، بسبب ذهاب كثيرين منهم إلى القاهرة للمطالبة بمرتباتهم، وأن الجنود الذين برشيد لا ينتوون الزحف على الإسكندرية، بل إن التحصينات التي أقاموها والتي ما برحوا يقيمونها لتنهض دليلا على أنهم أنفسهم يخشون من وقوع هجوم عليهم.
ورابعا: أن في رأي «كاريري» الذي كان برشيد عند الهجوم الأول عليها أن الإنجليز وقتئذ كانوا قد أخذوا المدينة فعلا ، وأولم «بتروتشي» وليمة غذاء للضباط الإنجليز، واندفع الأرنئود بعجلة نحو الشاطئ، فعبروا النهر في قوارب أو على ألواح أو قطع من الخشب، وجلس الجنود الإنجليز في هدوء في جماعات، كل ثمانية أو عشرة منهم معا، ثم في الحوانيت والقهاوي، عندما صدر الأمر بالتقهقر، وأن بطاريات المدفعية الإنجليزية لم تلحق إلا أذى بسيطا بالمدينة أثناء الهجوم الثاني عليها؛ لأن القنابل كانت صغيرة الحجم، ولم يطلق منها سوى عدد قليل طوال كل يوم من أيام الحصار، ووقع كثير منها في النيل، وأن الإنجليز لو أنهم اتخذوا موقعا في الدلتا تجاه رشيد لسقطت هذه في أيديهم؛ لأنه عندما ذهبت فرقة من الجند إلى الجانب الآخر من النهر لتحطيم بطارية من مدفعين، كان الأتراك قد أقاموها هناك، اعتقد الأتراك الذين خيل إليهم أن الإنجليز قد جاءوا لأخذ هذا الموقع والاحتفاظ به، أن الهزيمة قد حلت بهم بسبب ما توقعوه من قطع خط الرجعة عليهم، وخامسا: أن ستمائة من الجند الأتراك قد حضروا من الشام وقبرص، ونزلوا بدمياط في طريقهم إلى القاهرة، ومن المنتظر أن يصل غيرهم وعن طريق دمياط كذلك، حيث يحتشد الجند الأتراك في قبرص، ويستحث الباشا حاكمها على إرسال قسم منهم إليه بكل سرعة، ولن يجد هؤلاء صعوبة في الوصول إلى القاهرة، طالما أنه لا تقف سفينة حربية إنجليزية بالقرب من دمياط لمنع نزولهم بها، وسادسا: أن الباشا لم ينشئ تحصينات جديدة بالقاهرة، وإنما أصلح تحصيناتها القديمة، وأعاد حفر الخندق الذي كان قد أنشأه الفرنسيون وقت احتلالهم، ثم إنه زود القلعة بالذخائر والأسلحة وما إليها، وأخيرا: أن القاهريين عموما لا يعتقدون بأن صلحا قد أبرم بين الباشا وبين إبراهيم بك وجماعته، وأن الباشا وأتباعه وأنصار الفرنسيين هم الذين يروجون هذه الشائعة التي لا أساس لها .
وواضح أن كل غرض «مسيت» من هذا الاستجواب ثم إرساله إلى «كاسلريه» إقناع الأخير بمبلغ ما لدى الوكلاء الفرنسيين من نفوذ على محمد علي، وهو نفوذ إذا كان يخشاه الباشا للأسباب التي ذكرها «مسيت» بدرجة تمنعه من معالجة مسألة الأسرى الإنجليز مع الجنرال «فريزر»، فمن باب أولى أن يكون من أثره انتفاء أي أمل في رعاية المصالح البريطانية الأخرى الهامة، طالما بقي هذا النفوذ الضار في البلاد، وطالما بقي في الحكم الرجل الذي وقع تحت تأثيرهم، وإذا وجد البريطانيون أن من مصالحهم البقاء بالإسكندرية، أو توسيع نطاق عملياتهم العسكرية بصورة تكفل لهم احتلال البلاد بأسرها، وإخضاعها لنفوذهم - على نحو ما كان يريد «مسيت» نفسه - فليس هناك ما يخشونه؛ لأن جنود الباشا لا يبلغ عددهم الثمانية آلاف، يسود بينهم التذمر، ويتعذر على الباشا إرضاؤهم لحاجته الملحة إلى المال، وتحصينات القاهرة ضعيفة، ومن السهل وقف ما يأتيه من نجدات، إذا ضرب الحصار على دمياط من ناحية البحر، ومن السهل كذلك الاستيلاء على رشيد إذا أحكم العسكريون تدابيرهم، فلم تتكرر الأخطاء التي وقعت في الهجومين الأول والثاني عليها، واحتل البريطانيون الجانب الآخر من النهر، ومن المنتظر أن يلقى الإنجليز كل معاونة من البكوات المماليك في هذه المرة؛ لأن هؤلاء لا يزالون يرفضون الصلح والاتفاق مع محمد علي.
واستهل «مسيت» رسالته الثالثة إلى «كاسلريه» بتاريخ 23 يوليو، بالحديث عن جهوده فقال إنه كان مشغولا بفصل بعض قبائل العرب من خدمة الباشا، وببذر بذور الشقاق والخلاف بين تلك التي استعصى عليه إغراؤها بفصم كل علاقة لها به، ولقد ترتب على مجهوداتي هذه أن أحدا من الجنود الأتراك صار لا يجرؤ الآن على إظهار نفسه على الضفة اليسرى لفرع النيل الغربي في هذا الجانب من ناحية القاهرة، وأصبح البدو مسيطرين كل السيطرة على هذا الجزء من البلاد، حتى إنهم بعد أن كانوا يهربون البن وسائر أنواع السلع من العاصمة (القاهرة)، صاروا يحضرونها الآن إلى سوق الإسكندرية دون أن يخشوا من أية مصادرة، حقيقة تدر عليهم هذه التجارة ربحا وفيرا لدرجة إغرائهم بعدم المبالاة بأية أخطار قد يتعرضون لها بسبب هذه المجازفة، ولكنهم ليسوا مدفوعين في هذا العمل خاصة بحافز الأرباح المالية فحسب، الأمر الذي أجد من واجبي أن أسترعي انتباهكم إليه، وأهل مصر والباشا والوكلاء الفرنسيون أنفسهم مقتنعون جميعهم، بأننا سوف نستأنف القتال بمجرد أن تصلنا النجدات الكافية، ولقد وجدت لزاما علي أن أعمل على تعزيز هذا الرأي الذي يكفل وحده استمالة العرب إلى إمدادنا، ويمنع الباشا من محاولة قطع مواصلاتنا مع داخل البلاد، فلو أن الأولين اكتشفوا أن نوايانا نحو مصر لا تتعدى احتلال الإسكندرية، ولو أنهم لم يفترضوا أن هذه البلاد سوف تقع في أيدينا عاجلا أو آجلا ليتقرر مصيرها حسبما يراه جلالة الملك البريطاني لجعلهم الخوف من عاقبة غضب الباشا عليهم في المستقبل ينفون بأغلظ الأيمان وجود أية علاقة لهم بنا، لا يجنون منها نفعا، ولا يخشون شيئا من نبذها، وأما أن الباشا قد صار متيقنا من أننا نعتزم القيام بهجوم ثالث على رشيد، فينهض دليلا على تلك البطاريات التي أقيمت بناء على أمره حولها، وذلك الجيش القوي الذي احتفظ به في الجهات المجاورة لرشيد، والذي يتسنى له استخدامه في وقف الإمدادات ومنعها عنا بالإسكندرية، إذا أمن على ترك رشيد دون وجود جيش لحمايتها، فإذا منع عنا إمداداتنا حرم أهل الإسكندرية من وسائل العيش، واضطرت الحامية إلى الاعتماد على الأغذية المملحة فحسب، وهكذا ترون - يا صاحب السيادة - أن هذين الهجومين اللذين وقعا على رشيد وباءا بالفشل وصاحبتهما الكوارث قد عادا - في واقع الأمر - علينا بنفع عظيم، ولا يجب أن أخفي عنكم أن المماليك، وهم الذين قد رفضوا حتى هذه اللحظة كل عروض الباشا من أجل الصلح معهم، وقاوموا كل مكائد ومؤامرات وكلاء وأنصار فرنسا، من المحتمل جدا أنهم سوف يسلكون طريقا مغايرا، لو أنهم ما صاروا يتوقعون منا أن نعاونهم على امتلاك القاهرة، ولا يمكن الاستمرار طويلا على الخداع والغش الذي هو من صالحنا أن يظل كل مخلوق في مصر، ومن أي نوع كان متأثرا به، وإذا لم يكن لدى حكومة جلالة الملك البريطاني من الأسباب ما يدعوها إلى توقع عقد الصلح قريبا بين بريطانيا العظمى والباب العالي، فرجائي أن تتخذ الحكومة الإجراء الذي ترشدها الحكمة إليه كعمل ضروري ليس لتمكين الجيش من الاحتفاظ بموقفه الراهن من غير أن ينجم عن ذلك إرهاق لأهل الإسكندرية فحسب، بل وتأييد ذلك النفوذ الذي ظفر به في الماضي جيش جلالة الملك، والذي وضعت نصب عيني دائما أثناء السنوات الأربع الأخيرة المحافظة عليه تاما وغير منقوص، وكان في ختام هذه الرسالة أن أعلن «مسيت» خبر وفاة الكابتن «ديلانسي» - أحد الأسرى الإنجليز في قلعة القاهرة.
وفي هذه الرسالة عاود «مسيت» الحديث عن هزيمتي رشيد والحماد، فهون من أمرهما ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وحاول أن يقيم الحجة على أنه بدلا من أن تكون هذه الهزائم من الأسباب التي قد تستند عليها الحكومة الإنجليزية في تقرير الجلاء عن الإسكندرية، يجب أن تكون بفضل النفع العظيم الذي زعم أنه قد ترتب عليها، من دواعي البقاء بالإسكندرية، ثم توسيع نطاق العمليات العسكرية لتمكين المماليك من امتلاك القاهرة، وضرب «مسيت» على نغمة السمعة البريطانية، ووجوب التمسك بها وصولها لإغراء الوزير على الأخذ بمقترحاته، وتعزيز الجيش البريطاني في الإسكندرية، وعدم التخلي عن هذه الأخيرة ما دامت الحرب قائمة بين إنجلترة والباب العالي.
ولكن هذه الجهود جميعها ذهبت سدى، ولم يكن ضياعها إلا لسبب واحد، هو أن الحكومة الإنجليزية قد قررت اتخاذ الإجراء الذي أرشدتها الحكمة إليه، فأصدرت تعليماتها إلى الجنرال «فريزر» بإخلاء الإسكندرية والعودة بجيشه إلى قواعده في صقلية.
الإنجليز يقررون الجلاء
Shafi da ba'a sani ba