Misir a Farkon Karni na Sha Tara
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Nau'ikan
الصعوبات الأولى والموقف الدولي
لم يعن رحيل القبطان باشا، تحمل عمارته أحمد خورشيد وعلي باشا سلحداره، وسائر أتباعه في أكتوبر 1805، أن الأمر قد استتب لمحمد علي، وأن الانقلاب الذي أوصله إلى الحكم في 13 مايو قد أسفر عن تقرير ولايته بصورة تجعلها بمأمن من انقلابات أخرى قد تحدث في أي وقت، ومن المنتظر عند حدوثها أن تطيح بولايته ما لم يتخذ باشا القاهرة الجديد من الوسائل ما يكفل درء هذا الخطر عنها.
ذلك أن أولئك الذين تعاهد معهم من رؤساء القاهريين الذين نادوا بولايته على إرساء قواعد الحكم العادل الرشيد ما كانوا يرضون بأن يتناسى الباشا شروط ذلك السند الذي وقعه، وهي شروط تهدف إلى تخليص القاهرة من شرور الجند ومنع اعتداءاتهم على الأهلين، ورفع المظالم والمغارم عن أفراد الشعب، وإبعاد شبح المجاعة عن القاهرة بفتح المواصلات وتأمين السبل بين القاهرة والصعيد مورد الغلال والحبوب.
ولم يكن في وسع الباشا نفسه أن يتناسى هذه الشروط أو يغفل تنفيذها؛ لأن ذلك حقيق بأن يبقي على حكومته صبغة الانقلاب، ولا معدى حينئذ عن بقائها مزعزعة البنيان، معرضة للانهيار إذا عصف عليها ريح انقلاب آخر، وقد كانت مصر كما شاهدنا مسرحا لعدة انقلابات منذ جلاء الفرنسيين عنها، لا تلبث أن تتداعى؛ فالجند إذا عجز الباشا عن كبح جماحهم وظلوا ينشرون إرهابهم في القاهرة، ويعيثون فسادا في كل مدينة وقرية يقصدون إليها أو يمرون بها، وظهر لدى بعض رؤسائهم أو مغامريهم طموح للسلطة العليا وانتزاع الولاية، والأهلون وزعماؤهم (وفي القاهرة خصوصا مهد كل الثورات والانقلابات السابقة العاتية) إذا ضاقوا ذرعا بحكومة أوجدوها هم أنفسهم - في اعتقادهم على الأقل - للأخذ بأسباب الإصلاح السريع الذي كان لا يعدو في نظرهم العمل الفوري لإزالة عبء التكاليف المالية التي أرهقتهم أو تخفيفه عن كواهلهم، ثم خيل إلى بعض المتصدرين منهم أن في استطاعتهم مشاركة السلطة العليا مسئولياتها، وأنهم يقدرون على تدبير انقلاب يستبدل بالحكومة القائمة غيرها، والمماليك - وهم المسيطرون على الصعيد، ثم على أقاليم واسعة في مصر الوسطى والوجه البحري - إذا بقيت شوكتهم ومنعوا عن القاهرة المؤن والأغذية، وحرموا خزانة الباشا من الميري وسائر الالتزامات المفروضة «للدولة» على ما بأيديهم من إقطاعيات ثم تحقق حلمهم في استرجاع القاهرة - غاية آمالهم ونهاية مقصدهم - فإن كل أولئك سوف يكونون متضافرين معاول هدم تقوض عروش هذه الحكومة الانقلابية الجديدة لو أن الباشا أغفل علاج قضاياهم وما يتفق مع صالح الحكم ويمكن من استقراره.
ولقد كان مبعث الصعوبات التي اعترضت طريق الحكومات السابقة، وزلزلت كيانها، والتي صادفت حكومة محمد علي عند تأسيسها ووجب عليه تذليلها واحدا في كلا الحالين؛ افتقار الخزانة والحاجة الملحة للمال، والتنازع على السلطة بين الولاة أو الباشوات وبين البكوات المماليك من ناحية، ثم بينهم وبين رؤساء الجند من ناحية أخرى، وضعف الباب العالي وعجزه عن فرض نفوذه وسلطانه على هذه الطوائف والأحزاب المتنازعة وبسط سيادته الفعلية على البلاد، ثم تنازع النفوذ بين إنجلترة وفرنسا للظفر بالتفوق السياسي في مصر.
وقد هددت المشاكل التي نشأت من هذه الصعوبات حكومة محمد علي تهديدا بليغا ومباشرا في السنتين الأوليين ونصف السنة الثالثة؛ أي من حين المناداة بولايته في مايو 1805 إلى حين جلاء الإنجليز عن الإسكندرية في سبتمبر 1807 بعد فشل حملتهم التي كانت قد جاءت بقيادة الجنرال «فريزر» لاحتلالها في شهر مارس من العام نفسه.
وشحذ محمد علي همته لمعالجة هذه المشاكل والذود عن كيان حكومته، وساعده ما كان قد وضعه من أسس في أثناء نضاله الماضي من أجل الوصول إلى الولاية والحكم على تناول هذه المشاكل بقسط وافر من النجاح، فاستمر المشايخ والزعماء القاهريون في معاونته، وابتدع محمد علي من الوسائل ما جعل هؤلاء في أحايين كثيرة ملزمين بهذه المعاونة إلزاما، فتيسر له المضي في فرض الإتاوات والمغارم والمظالم على الشعب دون أن يلقى مقاومة، ولم يكن في مقدوره التنحي عن سنن الطريق القديم؛ لنضوب معين الخزانة العامة بسبب كساد التجارة، وتعطل الزراعة، وخروج أقاليم الصعيد من حوزة الحكومة، وعدم دفع الميري عنها لوقوعها في قبضة البكوات المماليك؛ ولأن «جمارك» الثغور وأهمها الإسكندرية، يتولى إدارتها مندوبون عن الباب العالي وتضبط إيراداتها «إلى الترسخانة السلطانية بإسلامبول»، وكانت الإسكندرية ميناء القطر الأول منفصلة في شئونها عن باشوية القاهرة. وقد دفع محمد علي من هذه الإتاوات والفرض وما إليها مرتبات الجند، وسائر تكاليف الحكم والإدارة العامة، كما وجد منها بعض حاجته لإرسال الهدايا ورشوة رجال الديوان العثماني في القسطنطينية، أو مندوبي الباب العالي الذين جاءوا يحملون الأوامر والفرمانات لمناصرة أخصامه البكوات ونقله من مصر إلى ولاية أخرى، ثم استعان محمد علي بالمشايخ ووجهاء القاهرة و«المتصدرين» بها لتأييد قضيته لدى الباب العالي، والمماليك، فاستكتبهم العرائض (أو العرضحالات) لإظهار رضا الشعب عن حكمه وتشبثه ببقائه، وتقديم المسوغ الذي يستند عليه الباب العالي في ستر عجزه وفشله أمام إصرار محمد علي على نبذ أوامر السلطان ظهريا، والمقاومة السافرة إذا ألح هذا في عزله أو نقله، وتبرير تسليمه بالأمر الواقع جريا على عادته في كل ما وقع من أحداث في هذه البلاد منذ خروج الفرنسيين، ولقد كان غضب الباب العالي من وصول الباشا إلى الحكم قسرا عنه مصدر خطر مستمر عليه في هذه السنوات الأولى، ثم استعان محمد علي بالمشايخ والرؤساء القاهريين في إحباط تدابير المماليك؛ فكان منهم الوسطاء والمفاوضون معهم، عندما مهدت مفاتحاته مع الألفي الكبير في أثناء النضال ضد خورشيد لاستئناف المفاوضات والمباحثات معه، وإن اختلفت أغراض كلا الفريقين منهما، وعندما ساعد تفرق كلمة البكوات وانقسامهم على محاولة استمالة بكوات الصعيد إلى الوقوف موقف الحيدة وإبطال حركتهم لا سيما في أزمتين عصيبتين؛ إحداهما: عند نجاح مساعي الألفي لدى الباب العالي وعفو هذا الأخير عن المماليك وإرساله القبطان باشا في عام 1806 لإرجاع البكوات إلى سابق سلطانهم، ونقل محمد علي إلى ولاية سالونيك، والأخرى: عند مجيء حملة «فريزر»، ولم يكن مسعى محمد علي لبذر بذور التفرقة والشقاق بين المماليك وشل نشاطهم وسيلته الوحيدة لهدم قوتهم؛ فقد سير ضدهم الحملات والتجريدات والتحم جنده معهم في معارك متعددة في الوجهين البحري والقبلي على السواء، فكان النصر حليفهم تارة، وهزمهم البكوات تارة أخرى.
ولقد زاد من حدة المصاعب التي صادفها محمد علي في هذه السنوات الأولى، مثابرة إنجلترة وفرنسا على تنازعهما حول النفوذ في مصر، وزاد خطر هذا التنازع بسبب استئناف الحرب بين الدولتين منذ مايو 1803، وارتهنت مقدرات هذه البلاد بمبلغ نجاح كل من هاتين الدولتين في مسعاهما مع تركيا، وكان ما حدث من نشاط في القسطنطينية، ثم في القاهرة تبعا لذلك حقيقا بأن يزيد صعوبات محمد علي حدة على حدتها؛ ذلك أن هذا النشاط لم يلبث أن انتهى إلى فصم العلاقات بين تركيا وروسيا، وبينها وبين إنجلترة حليفة الثانية، وأسفر عن إرسال أسطول «دكويرث»
Duckworth
الإنجليزي إلى مياه القسطنطينية، وحملة «فريزر» إلى الإسكندرية في 1807، وكانت هذه الحملة الأخيرة أعظم الأخطار التي تعرضت لها حكومة محمد علي.
Shafi da ba'a sani ba