ولكن الطامة الكبرى، والبلاء العظيم، أن تتصدر بعض البلاد العربية حملة خسيسة غادرة، كلها نقد لمصر وأهل مصر، وشعب مصر، وحكام مصر بنوع خاص .. ما رأيكم أيها الأخوة العرب، في أننا راضون تمام الرضا عن حكامنا، قانعون كل الاقتناع بنزاهتهم ونبل مقاصدهم، عالمون بمخططاتهم القويمة السليمة الهادفة إلى صلاحنا وصلاح أحوالنا وإلى رفعة شأننا وشأن وطننا .. فخلوا عنا وكفوا عن نقدنا، وضعوا ألسنتكم داخل أفواهكم وارتدعوا.
بقول الشاعر:
عليك نفسك فتش عن معايبها
وخل عن عثرات الناس للناس
وقول الآخر:
لا تقف زلات العباد تعدها
فلست على هذا الورى بمسيطر
أقول لكم اتركونا وشأننا، وإذا أردتم أن تتكلموا - بحكم العادة - فليكن كلامكم عن غير مصر من دون سائر بلاد الدنيا؛ فمصر هي أمكم، وهي عورتكم الكبرى، وشرفكم الأول .. ومن ذا الذي يستطيع أن يتطاول على شرف أمه، إلا كل نذل عديم المبدأ، خسيس الأصل والمنبت، مجرد من الشهامة والكرامة والرجولة، شحيح العزة والنبل والأرومة.
مصر، يا سادة، لا ينتقدها إلا بنوها وأولادها؛ فهم وحدهم الذين يعرفونها ويعرفون كل شيء فيها، وهم أولى بصلاحها وإصلاحها وتدارك أمورها، وأقدر على رتق الثقوب وسد الثغرات في كيانها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والدولي .. مصر من قديم الزمان خير معلم وأكبر أستاذ مرشد، وأقوى ناقد ينتقد ذاته أولا، ولا يعاير أو يطاول، ولا ينظر إلى ما في عين أخيه من قذى، ناسيا أو متناسيا أعواد الخشب التي في عينيه.
مصر فوق النقد؛ لأنها ناقدة للذات من قديم الزمان، وفي كل نكثة من نكثاتها نقد لما يجري في باطنها من عيوب ومثالب؛ فنحن نرى أنفسنا بأنفسنا ولسنا في حاجة إلى من يرى لنا، ويقومنا ويقوم اعوجاجنا، لو كان فينا اعوجاج .. ومصر حين تنقد نفسها لا ترحم نفسها .. إنها تنكل وتضرب بيد من حديد على أيدي المفسدين والمبغضين والكارهين والمارقين المنقلبين عليها العاملين ضدها .. لقد أحرقت مصر بيد بنيها؛ لأنهم لم يكونوا راضين عن أوضاع فرضها عليهم قلة متآمرة حاكمة، استبد بهم الطغيان فحكموها بقلوب العميان .. هذه هي مصر الناقدة .. نقدها عنيف لاذع، وحارق مدمر .. وهو نقد نابع من داخلها وباطنها لا بوحي من غيرها ولا بإيحاء من جيران يغارون منها، ولا شعوب معادية لها.
Shafi da ba'a sani ba