فاستلم «إبراهيم» و«مراد» أزمة الأحكام، وجعلا يعيثان فيها وكانا يتناوبان مشيخة البلد وإمارة الحج سنويا بعد أن أفنيا كل من كان على غير دعوتهما. فصفا الجو لهما.
أما قلباهما فكانا لا يخلوان من الضغائن المتبادلة لما طبع عليه كل منهما من الحب الذاتي، وقد اختلفا في الطباع والمناقب: كان «مراد بك» شديد البطش مقداما لا يهاب الموت.
وكان «إبراهيم بك» أكبر سنا، وأكثر اختبارا، ربعا ضخم القامة، حسن الطلعة، حاد البصر، وكان يتربص لمراد محاذرا بطشه لئلا يطلبه للنزال، ولولا ذلك لم يرض معه بالاجتزاء من الدخل على السواء. وكان لا يعارضه فيما يأتيه من الاستبداد، ووضع الضرائب، وسلب أموال الناس؛ لأنه شريكه في الأرباح الناتجة عن ذلك. وكان في إبراهيم رياء يظهر غير ما يضمر إذا استصرخ وعد مع العزم على الإخلاف. وكان جبانا، فإذا أراد أمرا لا يتظاهر به، وإنما يسعى إليه بالدسائس والمكايد.
أما «مراد بك» فلم يكن يعرف المكر وإنما كان يسعى في أغراضه بالقوة والحزم، وكان طويل القامة، عضلي البنية، شديد البأس، يقطع عنق الثور بضربة من سيفه وعلى وجهه ملامح الأسود، فإذا غضب يهابه ويخاف منه كل من يراه، حتى أحب أصدقائه، وكان كريم النفس، لا يبيت على غيظ، حر الضمير لا ينكر الحق، ولو كان عليه، مخلصا لأصحابه، مقيما على قوله، وكان طمعه بمقدار سخائه وحبه لذاته بمقدار حرية مبادئه وصراحته، وكان سريع الغضب لا يراعي في حال غضبه أمرا من الأمور وربما فتك بمصلحة نفسه.
وألم بالبلاد بعد عود هذين الأميرين إلى «مصر» جوع هائل، ويقال إنه جعل من كثرة ما ضبطاه من الحبوب في مصر العليا طمعا بالكسب، ثم ألقيا النظامات التي وضعها «حسن باشا قبطان» وأبدلاها بما يوافق مطامعهما الشخصية. فكثرت تعديات مماليكهما، وعلى الخصوص تعديات «أحمد محمد الألفى»، فثار الأهلون ثورة عامة لم يسعهما معها إلا توقيف تلك الإجراءات وقتيا، فخمدت الثورة، فعادا إلى ما كانا عليه فعاد الناس إلى الاضطراب. وكسدت سوق التجار لقلة الأمنية، وضربا على التجار الأجانب في الإسكندرية ضرائب فاحشة، فرفعوا شكواهم إلى قناصلهم، فلم تكن النتيجة إلا زيادة الاضطهاد.
كل ذلك كان يجري والسلطان «سليم الثالث» يعلم بذلك وهو من أرغب السلاطين بالإصلاح، ولكنه غلب على أمره. وفي أيامه وهذه حالة مصر، حمل عليها بونابرت سنة 1213ه أو 1798م، واحتلها، وهو آخر المراد بسطه من تاريخ العثمانيين بمصر في هذا الكتاب. (3) العلم والأدب ومشاهير العلماء والأدباء بمصر: في الأدوار الثاني والثالث والرابع من العصر العثماني
من سنة 1115-1213ه
إن الاضطرابات السياسية، واختلال الداخلية في الأدوار الثلاثة الأخيرة، وقفت من سيل القرائح، وشغلت الناس عن العلم والأدب، ومع ذلك فقد ظهر في هذه الفترة جماعة من الشعراء والأدباء والفقهاء ونحوهم. هاك أشهرهم: (3-1) الشعراء (1) «الحسن البدري الحجازي الأزهري»: توفي سنة 1131ه، وكان شاعرا عاما تعلم في الأزهر، ومال إلى الانزواء للمطالعة والنظم، وله فيه طريقة حسنة، وقد نظم أرجوزة في التصوف نحو ألف وخمسمائة بيت على طريقة الصارح والباغم، ضمنهما أمثالا وحكايات ونكات، وله ديوان على حروف المعجم سماه: «تنبيه الأفكار للنافع والضار»، منه نسخة خطية في المكتبة الخديوية وفي شعره صبغة عامية وسهولة يرضاها العامة، وفيها نصائح لهم ولسائر الناس، ومن أمثلة ذلك قصيدة بائية قال فيها:
أخي فطنا كن، واحذر الناس جملة
ولا تك مغرور الظنون الكواذب
Shafi da ba'a sani ba