وكان «أحمد الجزار» ينظر إلى أبي الذهب نظره إلى عدو يناظره في ارتكاب الدنايا، فسعى في قتله، فلم ينجح. وكان لأحمد الجزار سيف مشهور بطيب فولاذه، وإتقان صنعه، فاتفق يوما أنه اجتمع «بمحمد أبي الذهب». فقال له «محمد»: «أرني حسامك لأجربن فرنده»، فأجابه أحمد: «لا يستل حسامي حتى يستباح قتيل»، ثم نهض للحال، وغادر القاهرة قاصدا «القسطنطينية» فوصلها. ثم عهدت إليه ولاية «عكا» بعد ذلك، وما زال بها حتى توفاه الله. (4) فتوح علي بك ومعاهداته
أما «علي بك» فبعد أن تغلب على الصعيد، ثار في خاطره حب الافتتاح، فجرد على «اليمن» جيشا تحت قيادة «محمد أبي الذهب» فسار في عشرين ألفا، فقطع برزخ السويس، ومضيق العقبة، ولم يبق على أحد من القبائل التي حاولت الوقوف في طريقه، وما زال حتى أتى اليمن وافتتحها.
وأمر «علي» فسار «إسماعيل بك» في ثمانية آلاف لافتتاح السواحل الشرقية للبحر الأحمر و«حسن بك» لافتتاح «جدة»، ولقب الجداوي إشارة إلى انتصاره على تلك المدينة، وما زال يعرف بهذا اللقب من ذلك الحين. ولم تمض ستة أشهر حتى افتتحت جزيرة العرب، وفي جملتها «مكة المشرفة» ولحق بها نهب شديد وأنزل شريفها، وأقيم مقامه ابن عمه الأمير «عبد الله» فوافق عليا على سلطته وسماه «سلطان مصر وخاقان البحرين»، فعل ذلك بصفته الدينية تملقا لعلي.
فلما حصل «علي بك» على ذلك من شريف مكة، أخذ يتمتع بحقوق السلطنة، فأمر أن يخطب باسمه في الصلوات العمومية أيام الجمعة، وضربت النقود باسمه سنة 1185 في القاهرة - كما سنرى.
وسعى «علي بك» في هذه السنة في أمر سيق به إلى حتفه؛ وذلك أنه عهد إلى «محمد أبي الذهب» أن يسير في ثلاثين ألفا لإخضاع بلاد الشام لأنه كان يعتبر هذه الولاية بعد خروجه من طاعة الدولة العلية عدوا قريبا يخشى منه على نفسه وعلى صديقه ومحالفه الشيخ «ضاهر» وكان ينظر إلى «سوريا» كأنها جزء طبيعي من مملكة مصر. وكانت في الواقع قسما منها في سائر أزمنة التاريخ التي كانت فيها مصر مستقلة، في الدولة الطولونية والفاطمية والأيوبية والمماليك وغيرها.
وسعى «علي بك» في التحالف مع الدول التي بينها وبين الآستانة عداوة، فاستخدم تاجرا إيطاليا اسمه «روستي» عقد له معاهدة سلمية مع البندقيين على أن يكونوا حلفاءه، ثم عهد إلى رجل أرمني اسمه «يعقوب» أن يستطلع من الكونت «ألكسيس أورلوف» قومندان القوات الروسية في البحرين (المتوسط والأسود) عن عقد معاهدة دفاعية هجومية مع قيصرة الروس «كاثرينا الثانية». فأجاب الكونت بالإيجاب وفتحت المخابرات بشأن ذلك، وطال أمرها كثيرا لبعد المسافة بين الطرفين.
أما جنود «علي بك» في سوريا، فصاحبها الظفر واتحدت بجنود الشيخ «ضاهر» فاستولوا على «غزة» و«الرملة» و«نابلس» و«القدس» و«يافا» و«صيدا»، وأخيرا حاصروا «دمشق» ولم تلبث يسيرا حتى سلمت. (5) خيانة أبي الذهب
فلما رأى «محمد أبو الذهب» تمام هذه الفتوح العظيمة على يده، حدثته نفسه أن يجعلها لنفسه، ثم قادته مطامعه إلى محاربة علي، واستخراج مصر من يده، ويظن أنه لم يقدم على ذلك من تلقاء نفسه، وإنما حمل عليه بأوامر جاءته من الآستانة لأن المخابرات السرية كانت متواصلة بينه وبينها بواسطة الباشا الذي أخرجه علي من مصر، فأمسك «محمد» عن المسير في البلاد العثمانية، وحول شكيمة مقاصده نحو الديار المصرية، فجمع ما كان لديه من الجيوش، وضم إليها الحاميات التي كان قد أقامها في المدن المفتتحة، وسار قاصدا مصر، لكنه لم يجسر على المسير إلى القاهرة رأسا خوفا من الإنكشارية والوجاقات الأخرى لعلمه بما في قلوبهم من الضغينة عليه. فعرج نحو الصحراء حتى أتى الصعيد، فحط رجاله هناك، واستولى على أسيوط في آخر يوم من سنة 1185ه . ثم استقدم قبائل العربان وطلب محالفتهم ومحالفة بكوات الصعيد، وجاهر بعزمه على خلع «علي بك». وسار قاصدا القاهرة، فوصلها في أوائل سنة 1186ه، فنزل بجيشه تجاه البساتين فوق مصر القديمة.
فلما علم «علي بك» ندم على ما وضعه من الثقة في رجل كان له أن يعتبر من سيرته الماضية أنه على غير الإخلاص والاستقامة، فجند 3 آلاف رجل بقيادة «إسماعيل بك» وأمرهم أن يمنعوا محمدا من عبور النيل، فسار إسماعيل، لكنه خاف سطوة عدوه، وورد عليه كتب مفعمة بالمواعيد يمازجها بعض التهديد فأخذ جانبه، وضم جيشه إلى جيشه فقطع «محمد بك» النيل، فاستقبله رجال إسماعيل بالترحاب، فاتصل ذلك بعلي فيئس من الفوز، فانقطع إلى القلعة بأهله وأصدقائه ورجال دعوته، وقد عزم على المدافعة إلى آخر نسمة من حياته. (6) علي بك في عكا
وبعد ثلاثة أيام، ورد إليه كتاب من الشيخ «أحمد» أحد أبناء صديقه الشيخ «ضاهر» أن يبرح القاهرة حالا ويأتي إلى أبيه في «عكا»، فخرج علي من القلعة بمن معه وسار من جهة الجبل الأحمر طالبا سوريا عن طريق الصحراء. وكان خروجه قبل دخول «محمد بك» القاهرة بيوم واحد؛ أي مساء 9 محرم سنة 1186ه - وهذه هي المرة الثالثة لخروجه منها إلى «سوريا» وفي معيته عدد يسير من الجند لا يبلغ ستة آلاف معظمهم من الخدمة الذين لا يستطيعون الدفاع، ولم يحمل معه من المال إلا ثمانمائة ألف زر محبوب يحملها 25 جملا، ونقل معه المصوغات والحلي ما يساوي أضعاف ذلك.
Shafi da ba'a sani ba