ولو طلب إليك أو أبيح لك أن تتمنى، وأن تعرب عما تتمنى لتمنيت وطنا يجمع بين ما تحب من الرقي المادي والعقلي الذي تعجب به فرنسا، ومن خصال الخضوع للسلطان، والاستكانة للقوة، وعبادة المال التي تعجب بها في مصر، ويبرأ من هذه الخصال التي تنكرها هنا وهناك، وطنا يلائم حبك لنفسك، وإيثارك لها بالخير كل الخير، وازورارك بها عن كل ما يكره أو يشق أو يسوء، ولكن أرح نفسك من هذا العناء، وأعفها من هذه الأماني الكاذبة التي لن تتحقق؛ لأن تحقيقها شيء ليس إليه سبيل. فحيثما وجد الرقي العقلي والمادي الذي تحبه وجد النزوع الذي تكرهه، وتنكره إلى الحرية الحرة التي لا تبيح لأهلها خضوعا، ولا استكانة، ولا إذعانا لسلطان المال، وحيثما وجد الانحطاط المادي والعقلي الذي تكرهه وجد الإذعان والخضوع والاستكانة، وعبادة المال، والفناء في الثراء إلى غير ذلك من الخصال التي تعرفها وتألفها، وترضاها من مواطنيك.
فأنت بين اثنين يا سيدي، ليست لهما ثالثة ... إما أن تعيش في مصر كما نعيش مواجها ما تنكر من الضعف والقصور والتقصير والانحطاط، محاولا كما نحاول إصلاح ذلك، وإما أن تعيش في فرنسا مستمتعا بما يتوق إليه جسمك من هذا النعيم المادي الفارغ، وإلى ما قد يطمح إليه عقلك من هذا النعيم المعنوي الخصب، محتملا ما تعيب على الفرنسيين من طموحهم إلى الخير، ونزوعهم إلى الحرية، ومطالبتهم بالحق، والتجائهم أحيانا إلى ما يغيظك، ويحفظك من مظاهر التمرد، والغلو في الإضراب، وحرمانك بين حين وحين هذه اللذة أو تلك من لذات الجسم والعقل.
فأنت ترى هذه اللذات حقا لك، لا ينبغي أن ترد عنه، ولا أن تجد مشقة في الظفر به، متى شئت وكيف شئت. والفرنسيون يرون مثل ما ترى، ولكنهم لا يؤثرونك أنت وأمثالك بهذا الحق من دون عامتهم، وإنما يريدون أن يظفروا به كما تظفر به، وأن يحصلوا عليه كما تحصل عليه، متى شاءوا، وكيف شاءوا، وألا يذودهم عنه ذائد من فقر أو جهل أو مرض، ومن ظلم أو بغي أو طغيان.
فاختر لنفسك يا سيدي. وقد اخترت فأحسنت الاختيار ... فأنت لا تعيش في مصر لأنها لم تبلغ من الرقي العقلي والمادي ما تحب. ولكنك تستغل مصر؛ لأنها ترسل إليك المال الكثير الذي تشتري به النعيم الكثير، وأنت لا تعيش في فرنسا؛ لأن أهلها لا يخضعون، ولا يخنعون، ولا يقنعون. وإنما تقيم فيها إقامة الغريب، تستمتع بخيراتها، ولا تحمل مع أهلها شيئا من التبعات.
أنت تحيا على هامش مصر، ولكنك تستمد حياتك من صميمها، وأنت تحيا، وتنعم على هامش فرنسا، ولكنك تستمد حياتك ونعيمك من صميمها. يشقى المصريون والفرنسيون جميعا لتحيا أنت، وتنعم بالحياة، ثم لا يجد أولئك ولا هؤلاء منك معونة حين تنزل بهم النوازل، أو تلم بهم الخطوب؛ لأنك قد تركت مصر بجسمك وعقلك جميعا، وتركت فرنسا بجسمك وعقلك جميعا أيضا، وإن أقمت فيها وأطلت الإقامة؛ لأن إقامة الغريب في وطن لا تحمله من تبعات المواطنين شيئا.
لقد اخترت يا سيدي فأحسنت الاختيار فيما ترى ... عشت على هامش الوطنين، واستمددت حياتك وسعادتك من صميم الوطنين، ورضيت لنفسك هذه المنزلة، منزلة الطفيلي الذي ليس هو من أولئك ولا هؤلاء، ولكنه على ذلك يستغل جهد أولئك وهؤلاء، وليس كل الناس قادرين على أن يرضوا لأنفسهم ما رضيت لنفسك، وليس كل الناس يستطيعون أن يكونوا على هامش الحياة في أوطانهم أو في مهاجرهم، فانعم إن شئت بحياتك هذه التي آثرت بها نفسك، ولكن لا تنكر على غيرك من الناس أن تعيشوا كما يحبون، وانظر إلى الحياة إن شئت على أنها متاع عابث، أو عبث ممتع، ولكن لا تنكر على غيرك من الناس أن ينظروا إلى الحياة على أنها جد وكد، واحتمال للأثقال، ونهوض بالأعباء، ومحاولة للنفع، وسعي إلى الخير، وجهاد في سبيل الإصلاح.
أفهمت الآن لماذا تلقيت كتابك، فهممت أن أمزقه أو أحرقه أو أهمله؟ غاظني ما فيه من سخر بمصر لأنك لا تستطيع أن تجد فيها الفنادق التي تجدها في فرنسا، ولا تستطيع أن تجد فيها الملاهي التي تختلف إليها في فرنسا، ولا تستطيع أن تزور فيها المتاحف الفنية الرائعة الكثيرة التي تزورها في فرنسا، ولا تستطيع أن تنعم فيها بمثل ما تنعم به في فرنسا من ضروب اللهو، وألوان المجون، وفنون النعيم.
وغاظني سخطك على فرنسا؛ لأن العمال يضربون فيها فيكثرون الإضراب، ويضيعون عليك من لذاتك المباحة والمحظورة ما أنت حريص على تحصيله؛ ولأن الأحزاب تختلف فتسرف في الاختلاف، وتختصم فتغلو في الخصومة، وينشأ عن ذلك ما ينشأ من الإضراب والاضطراب والمظاهرات، وتردد الفرنك بين الرفعة والضعة، وبين الغلاء والرخص. ويؤثر ذلك كله في حياتك المادية بما يحدث فيها من العسر، وفي حياتك العقلية والشعورية بما يحدث فيها من الخوف والشك والقلق.
ولكن ما رأيك في أن مصر في حاجة إليك، وإلى أمثالك ليستنقذوها من ضعفها، وليبلغوا بها هذا الرقي الذي تحبه، وتتمناه ... فعد إليها، واعمل فيها واعمل لها، وامنحها وقتك وجهدك ومالك إن استطعت، ولكنك لن تستطيع ... فدعها إذن وما هي فيه، ودع أهلها وما هم فيه، إنك لا تستطيع أن تمنحهم معونة ولا حولا ولا قوة؛ تحول الأثرة بينك وبين ذلك ... فأرحها منك، وأرح نفسك منها . خذ ما ترسله إليك من المال، ولا ترسل إليها مكانه سخرية واستهزاء.
وما رأيك في أن فرنسا لم تخلق لك، ولا لأمثالك من الطارئين النازحين الذين يأكلون وينكرون وينعمون ويعيبون، وإنما خلقت لنفسها وأهلها قبل أن تخلق لغيرها من البلاد، وقبل أن تخلق لغير أهلها من الناس. فخذ منها ما تقدم إليك من ضروب اللهو والمتاع، وأد إليها ثمن هذا كله من المال الذي ترسله إليك مصر، وارض عن نفسك، وأنكر على فرنسا إن شئت، ولكن أخف إنكارك، واجعله شيئا بينك وبين ضميرك، ولا تتحدث به إلى الفرنسيين، ولو قد فعلت لألقوك في غيابات السجن إلقاء، أو لنفوك من الأرض نفيا. لا تتحدث إلي، فإني لا أحب الذين يأكلون وينكرون، وينعمون ويسخطون. وإني بعد هذا كله أعجب أشد الإعجاب وأقواه بما أجد في الفرنسيين من هذا النزوع إلى الحرية، والطموح إلى الكمال، والتوثب إلى الخير.
Shafi da ba'a sani ba