ثم واصل بلهجته الحكيمة المحذرة: إنه يملك مائة فدان، فهو يخندق في الخطوط الأمامية، ولا يحمل شهادة علمية، وعليك أن تفهم البقية. - ولماذا أقام في الإسكندرية؟ - إنه ولد حكيم، يبحث عن مشروع تجاري ناجح.
فقلت ضاحكا: عليه أن يغير سحنته المتعجرفة وإلا هرب الزبائن. ثم خطر لي أن أسأله عما يدعوه إلى الإقامة في بنسيون رغم أنه قديم عهد بالإسكندرية، فتفكر قليلا ثم قال: فضلت بنسيونا عامرا بالناس عن شقة موحشة داخل البلد. •••
ليلة أم كلثوم، ليلة الخمر والطرب، فيها تزحزح النقاب عن أشياء من خبايا النفوس.
إلى سرحان البحيري يعود أكبر الفضل في إحيائها ولعله تكلف أقل نصيب من نفقاتها! استرقت نظرات إلى طلبة مرزوق لم يقرأ معانيها أحد. أجل، عاودتني ذكريات حميمة، أحلام دموية، صراعات طبقية، كتب وتجمعات، بنيان من الأفكار راسخ الأساس. راعني ترهله وانكساره. وحركات شدقيه، وقبوعه فوق مقعده في استسلام، وتودده إلى الثورة بلا إيمان، وكأنه لم يكن من السلالة التي شيدت قلاعها من اللحم والدماء. أخيرا جاء دوره ليمارس النفاق بعد أن خلف مجده المتهدم الذابل أمة من المنافقين. وما حسني إلا جناح من النسر المهيض، لكنه جناح ما زال يرفرف ولا يخلو من قدرة على الطيران. ••• - أقول إن تلك التناقضات قد محيت تماما. - كلا .. إنها أزيحت بتناقضات جديدة، وسوف تثبت لك الأيام. •••
أما سرحان البحيري فسرى فينا كالروح بمرح حار لا يفتر وهو طيب القلب، ومخلص، لم لا؟ طموح بلا ريب، إنه التفسير المادي للثورة، وسرعان ما تبين لي أن عامر وجدي هو أعظم الحاضرين فتنة وأحقهم بالتقدير والحب. عرفت أنه عامر وجدي الذي راجعت العديد من مقالاته عند إعدادي لبرنامج «أجيال من الثورة». لقد استولت علي أفكاره المتطورة بل والمتناقضة، وسحرني أسلوبه الذي بدأ بالسجع وانتهى إلى بساطة نسبية لا تخلو من فخامة وجزالة. وقد سر باطلاعي على مقالاته سرورا دل على عمق إحساسه بالزوال والنسيان والجحود، فأثر ذلك في نفسي تأثيرا حادا محزنا. وقبض على القشة التي ألقيتها إليه في الماء فمضى يقص علي تاريخه الطويل، جهاده المستمر، التيارات التي لاطمته، والأبطال الذين آمن بهم. ••• - وسعد زغلول؟ .. لقد عبده الجيل السابق عبادة. - ما قيمة المعبودات القديمة؟ لقد طعن الرجل الثورة الحقيقية وهي في مهدها. •••
ولكن ما بال طلبة مرزوق يرمقني بحذر؟ لقد ضبطت عينيه المرتابتين الكارهتين في مرآة المشجب. لا يهم. ومثله خليق بأن يخاف خياله. وقد صببت له كأسا فشكرني فسألته عن رأيه في نظرات عامر وجدي التاريخية، ولكنه قال كالمعتذر: ما مضى قد مضى، دعنا نتهيأ للسماع.
أعجبت بزهرة وهي تقوم على خدمتنا ولكنها لا تكاد تبتسم إلا للنادر من نكاتنا، وتجلس عند البارفان لتراقبنا من بعيد بعينين جميلتين غير مبينتين. وقد سألها حسني علام وهي تقدم له شيئا: وأنت يا زهرة .. هل تحبين الثورة؟
فتراجعت في حياء عن دائرة المعربدين، ولكن المدام أجابت عنها إجابة شافية. وقد بدا أنه يحييها بسؤاله ويدعوها إلى المشاركة في الحديث، ولكني لمحت في أعماقه ضيقا يداريه فقلت: إنها تحبها بالفطرة.
ولكنه لم يسمعني أو أنه - الوغد - تجاهلني. وقد اختفى قبل نهاية السهرة، وأخبرت زهرة بأنه غادر البنسيون، وقد أعجبت بعامر وجدي الذي ظل ساهرا يسمع ويطرب حتى مطلع الفجر. وسألته وقد نهضنا للنوم: هل سمعت في ماضيك صوتا كهذا الصوت؟
فأجاب باسما: إنه الشيء الوحيد الذي لا نظير له في الماضي. •••
Shafi da ba'a sani ba