شجعتني بحركة من يدها فواصلت قائلا: عند ذاك نادتني الإسكندرية، مسقط رأسي، ولما لم يكن لي فيها من قريب حي فقد قصدت الصديق الباقي لي في دنياي. - جميل أن يجد الإنسان صديقا يقاسمه وحدته. - أتذكرين أيام زمان؟
قالت بصوت مأساوي: ذهبت بكل جميل.
ثم في شبه غمغمة: ولكن علينا أن نعيش.
وجاء وقت الحساب والمساومة. قالت إنه لم يعد لها من مورد إلا البنسيون، ولذلك فهي ترحب بنزلاء فصل الشتاء ولو كانوا من الطلبة المزعجين، وفي سبيل ذلك تستعين بالسماسرة وبعض خدم الفنادق. رددت ذلك بحزن عزيز قوم ذل. واختارت لي الحجرة رقم 6 في الجناح البعيد عن البحر. واتفقنا على أجرة معقولة تصلح لشهور العام عدا فصل الصيف، على أن يكون لي حق الاستمرار في الإقامة صيفا إذا دفعت أجرة المصيفين. تم الاتفاق على كل شيء بما فيه الفطور الإجباري، وأثبتت المدام أنها تستطيع في الوقت المناسب أن تستنقذ قلبها من الذكريات لتحسن المساومة والتدبير. وسألتني عن حقائبي، فأجبت بأنها في أمانات المحطة. فقالت ضاحكة: لم تكن متأكدا من وجود ماريانا.
ثم واصلت بحماس: لتكن إقامة دائمة.
فنظرت إلى يدي التي ذكرتني بيد مومياء في المتحف المصري. •••
لا تقل حجرتي في شيء عن الحجرات المطلة على البحر، مستوفية لحاجتها من الأثاث والمقاعد المريحة ذات الطابع القديم. ولتبق الكتب في صندوقها إلا ما ندر مما قد أراجعه فيمكن وضعه فوق الترابيزة أو التسريحة. لا يعيبها شيء إلا أن جوها يسبح في مغيب دائم لأنها تطل على منور كبير يتسلق على جدرانه سلم الخدم حيث تهر القطط ويتناجى العاملون. وزرت الحجرات كلها. الوردية والبنفسجية والسماوية وكانت جميعها خالية. في كل أقمت صيفا أو أكثر في زمن مضى. ورغم اختفاء المرايا القديمة والسجاجيد الفاخرة والقناديل المفضضة والفنايير البلورية فما زالت مسحة أرستقراطية باهتة تعلق بالجدران المورقة والأسقف العالية الموشاة بصور الملائكة.
قالت وهي تتنهد وقد لمحت لأول مرة طاقم أسنانها: كان بنسيون السادة.
فقلت مواسيا: سبحان من له الدوام!
فعادت تقول وهي تلوي بوزها: أكثر النزلاء شتاء من الطلبة، وأما في الصيف فأستقبل كل من هب ودب. ••• - عامر بك، كن شفيعي عند دولة الباشا.
Shafi da ba'a sani ba