تغير الجو. بالقياس إليهما على الأقل. وراحا يناقشان الاقتراح بجدية. وجاء آنذاك حسني علام من الخارج فأعلن عن عزمه على الانتقال من البنسيون إلى مقام جديد. وقصت عليه المدام قصة منصور باهي الغريبة فتلقاها بدهشة كبيرة وناقشها وقتا، ثم هز كتفيه العريضين كأنما ينفضهما عنه، وراح يعد حقيبته، ثم ودعنا وانصرف.
وتمتمت عقب انصرافه بحزن: عدنا وحدنا كما كنا.
فقال طلبة بمرح: لنحمد الله على ذلك.
انبعثت فيهما روح نشاط دفاق جرفت من قلبيهما شوائب القلق والكآبة. ازينت ماريانا كالأيام الخالية.
ارتدت فستان سهرة كحلي اللون فأضفى على بياض بشرتها نصاعة وبهاء، ومعطفا أسود ذا طوق من الفرو الأصيل. وانتعلت حذاء مذهبا. وتحلت بقرط من الماس وعقد من اللؤلؤ. ارتدت غانية جذابة نبيلة، وتوارت أمارات الكبر تحت قناع المساحيق. ترامقنا هنيهة وهي واقفة وسط المدخل وقفة استعراضية. ثم ضحكت بفرح بنت مراهقة ومضت هي تقول لطلبة: سأنتظرك عند الحلاق. •••
وجدت نفسي وحيدا، لا أنيس لي إلا عواء ريح عاتية. ناديت زهرة. ثلاث مرات ناديتها قبل أن تظهر من وراء البارفان. وقفت تعلوها مظاهر الحزن والهزيمة والانكسار حتى خيل إلي أنها ضؤلت واحدودبت.
أشرت إلى الكنبة فدلفت إليها في صمت، ثم استقرت تحت تمثال العذراء. شبكت ذراعيها على صدرها ورنت إلى الأرض. عصر قلبي عطف وحنان حتى امتلأت قنوات عيني بدمع غدة مضمحلة لم يعد من الميسور لها أن تروح عن صاحبها بالبكاء. قلت: لماذا تبقين وحدك كأنك بلا صديق؟ أصغي إلي، أنا رجل عجوز بل عجوز جدا كما ترين، وقد تعثر تيار حياتي ثلاث مرات أو أربع، تمنيت عند كل مرة أن أقتل نفسي، وكنت أهتف من قلب مكلوم: «لقد انتهى كل شيء.» وها أنت ترينني على رأس عمر مديد لا يظفر به إلا الأقلون، ولم يبق من عثرات اليأس إلا ذكريات غامضة بلا طعم ولا رائحة ولا معنى كأنما كانت من تجارب شخص آخر.
استقبلت كلماتي بلا حماس وبلا فتور. قلت: لنترك أحزاننا لزمن يبري الحديد ويفتت الحجر، ولكن عليك أن تفكري في مستقبلك، الحق يا زهرة أن المرأة لم تعد تريدك.
فبادرتني بشدة: لا يهمني ذلك. - ماذا أعددت للمستقبل؟
قالت وهي ترنو إلى الأرض ما تزال: كالماضي تماما حتى أحقق ما أريد.
Shafi da ba'a sani ba