١٢- تنوير: ولما ذكرته من انبعاث الخاطر وولعه بما قد ألفه واستثار الفوائد فيه فهو يحرص على إتمامه ما لا يولع بما لم يألفه ولا تقدمت له استثارة فائدة فيه قد يعتاص القول على الشاعر في مبادئ القصائد وصدورها ويتيسر في أوساطها وأعجازها. هذا على كونه في المبادئ أجم خاطرا وأشد تمكنا من القوافي.
١٣- إضاءة: ٤- والسبب الرابع من عوادي الشاعر عن التسرع في وزن الكلام أن تكون مواد العبارات في الذكر قليلة فيعز وجود ما يجيء من العبارات عفوا من غير احتيال ولا تكلف لذلك.
١٤- وأما ما يرجع إلى الشعر فمن ذلك: ١- أن يكون قدر الوزن فوق قدر المعنى، فيحتاج إلى إعمال الحيلة في ما يستحسن من الحشو، أو من المعاني التي يكون في اقترانها بالمعنى المقصود بالمقصد الأول تحسين للكلام وإبداع في حسن وضعه ونسقه وترتيب بعضه من بعض، فيقل أيضًا وجود ما يجيء من العبارات عفوا على هذه الصفة.
٢- أو يكون قد ر المعنى فوق قدر الوزن فيحتاج إلى الحذف والاختصار.
٣- أو يكون المعنى دقيقا داعيا إلى إيراد العبارة عنه على صورة يقل ورودها عفوا.
٤- أو يكون المعنى من المعاني التي العبارات عنها قليلة في اللسان، فلا يتمكن الخاطر من إيراد موزونة إلا بتعمل ومحاولة أو يكون للشاعر اختيار أن يورد المعنى في عبارة مخصوصة لكونها بارعة في نفسها أو بالنسبة إلى ما يليها.
١٥- إضاءة: والمرتبة الثانية من ليس له قوة على إحضار العبارة متزنة على البديهية إلا في قليل من المواضع، بل يحضر العبارات بحيث تقبل التغيير والتصيير إلى الوزن المقصود بأدنى سعي.
١٦- تنوير: والمرتبة الثالثة من لا يستطيع على إحضار العبارات متزنة أول إحضارها، ويحضرها مع ذلك غير قابلة التغيير إلى الوزن إلا بكد وتعب.
١٧- إضاءة: وكذلك القول في رد غير الموزون إلى الوزن بأحد التغييرات، تتفاوت (القدرة) أيضًا في الشعراء، فمنهم من يلوح له التغيير الممكن في العبارة بيسر، ومنهم من يلوح له ذلك ببطء، ومنهم من يقع في ذلك بين الطرفين.
وقد قامت أن ضروب التغييرات التي تصير غير الموزون متزنا هي: إسكان متحرك أو تحريك ساكن أو زيادة في اللفظ أو نقص منه أو عدل صيغة إلى أخرى أو تقديم وتأخير أو إبدال لفظة مكان أخرى أو اجتماع أكثر من واحد من هذه التغييرات.
١٨- تنوير: واعلم أن ذا القوة القوية على النظم قد يوجد أبطأ في القول من ذي القوة التي ليست متناهية، وذلك إذا قصد إبعاد الغاية في الروية والتنقيح فتطلب المعاني الشريفة ونزع بها المنازع اللطيفة وجهد في إبرازها من العبارات في صور بديعة؛ فيحتاج في كل ذلك إلى تنقيب وفحص ويحتاج معهما في قليل القول إلى كثير الزمان. فأما إذا كان ذو القوة الفائقة آخذا في مثل نمط ذي القوة القاصرة من الكلام فإن الأقوى قوة منها يربي على الأضعف في سرعة القول؛ ويكون التفاوت بينهما في ذلك على قدر ما بينهما من التفاوت في القوة. فربما نظم الأقوى الثلاثين بيتا فما فوقها خلال ما ينظم الأضعف عشرة الأبيات فما دونها. بل قد يربي عليه إرباء أكثر من هذا.
١٩- إضاءة: والعوام ومن جرى مجراهم ممن لم يحل من هذه الصناعة بطائل يغلط في هذا فينسبون سرعة الخاطر إلى الشاعر فيما لا يجب فيه أن ينسب إلى السرعة، وينسبون إليه الإبطاء فيما لا يجب فيه أن ينسب إليه بطء.
ومن هذا ما حكي من أبا العتاهية قال الشاعر كان قدم مع المأمون من خراسان: (في كم تصنع القصيدة؟) . فقال له: (قد أصنع القصيدة تبلغ ثلاثين بيتا في شهر) . فقال أبو العتاهية: (أما إني لا ملي على الجارية من ليلتي خمسمائة بيت) . فقال له الخراساني: (أما مثل قولك: (الهزج -ق -المترادف)
ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة
فإني أملي منه ألف بيت إذا شئت) . فانقطع أبو العتاهية وضحك الحاضرون منه.
٢٠- تنوير: ولا يجب ألا يقتصر على ما للقوة الناظمة من سليم الذوق وما يصح فيه دون ما يصح في العروض، وألا ينظم الكلام إلا بحسب ما يصح فيهما معا ليكون كلامه مع كونه جاريا على أوضح طرق المناسبات موافقا لكلام العرب في جميع ذلك.
1 / 67