١- إضاءة: فأما القسم الأول فهو مثل ما يتداوله الناس من تشبيه الشجاع بالأسد، والكريم بالغمام. وهذا القسم لا سرقة فيه ولا حجر في أخذ معانيه لن النسا في وجدانها ثابتة مرتسخة في خواطرهم سواء ولا فضل فيها لأحد إلا بحسن تأليف اللفظ. فإذا تساوى تأليفا الشاعرين في ذلك فإنه يسمى الاشتراك، وإن فضلت فيه عبارة المتأخر عبارة المتقدم فذلك الاستحقاق لأنه استحق نسبة المعنى إليه بإجادته نظم العبارة عنه، وإن قصر فيه عمن تقدمه فذلك الانحطاط.
٢- تنوير: فأما القسم الثاني، وهي المعاني التي قلت في أنفسها أو بالإضافة إلى كثرة غيرها فما كان بهذه الصفة فلا تسامح في التعرض إلى شيء منه إلا بشروط: منها أن يركب الشاعر على المعنى معنى آخر، ومنها ما يزيد عليه زيادة حسنة، ومنها أن ينقله إلى موضع أحق به من الموضع الذي هو فيه؛ ومن ذلك أن يقلبه ويسلك به ضد ما سلك الأول، ومن ذلك أن يركب عليه عبارة أحسن من الأولى، وذلك كتحسين الشماخ العبارة عن معنى قول بشر ابن أبي خازم: (الوافر -ق- المترادف)
إذا ما الكرمات رفعن يوما ... وقصر مبتغوها عن مداها
وضاقت أرع المثرين عنها ... سما أوس إليها فاحتواها
فجاء الشماخ بهذا المعنى في عبارة أحسن من هذه وأوجز حيث يقول: (الوافر -ق- المترادف)
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
فما وجد فيه شرط من هذه الشروط أو ما جرى مجراها فسائغة مجاذبة الشاعر فيه من تقدمه، وما ليس داخلا تحت تلك الشروط وما جرى مجراها مما يزيد في المعنى زيادة مقبولة فهو سرقة محضة.
٣- إضاءة: وأما القسم الثالث وهو كل ما ندر من المعاني فلم يوجد له نظير؛ وهذه هي المرتبة العليا في الشعر من جهة استنباط المعاني، من بلغها فقد بلغ الغاية القصوى من ذلك، لن ذلك يدل على نفاذ خاطره وتوقد فكره حيث استنبط معنى غريبا واستخرج من مكامن الشعر سرا لطيفا. فإذا ساعدته العبارة في ذلك وكانت في رف صنعتها والحسن الظاهر. وما كان بهذه الصفة فهو متحامى من الشعراء لقلة الطمع فينيله إذ لا يكون المعنى من الغرابة والحسن بحيث مرت العصور وتعاورت ذلك الموصوف الألسنة فلم تتغلغل الأفكار إلى مكمنه إلا وهو من ضيق المجال وبعد الغور بحيث لا يوجد التهدي إلى مثله والتنبه إلى مظنه وجدانه في كل فكر، بل ذلك مقصور على بعض الأفكار وموجود لها في بعض الأحوال دون عض.
٤- تنوير: والمعاني التي بهذه الصفة تسمى العقم، لأنها لا تلقح ولا تحصل عنها نتيجة ولا يقتدح منها ما يجري مجراها من المعاني فلذلك تحاماها الشعراء وسلموها لأصحابها، علما منهم أن من تعرض لها مفتضح.
ألا ترى أنهم عابوا على ابن الرومي - وحظه من الاختراع الحظ الوافر - تعرضه لقول عنترة: (الكامل -ق -المتدارك)
وخلا الذباب بها يغني وحده ... هزجا كفعل الشارب المترنم
غردا يسن ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
بقوله يصف روضة: (الطويل -ق- المتدارك)
وغرد ربعي الذباب خلالها ... كما حثحث النشوان صنجا مشرعا
فكانت لها زنج الذباب هناكم ... على شدوات الطير ضربا موقعا
على أن ابن الرومي قد نحا بالمعنى نحو آخر، حين جعل تغريد الذباب ضربا موقعا على شدوات الطير. وهذا تخييل محرك إلى ما قصد ابن الرومي تحريك النفوس إليه وإبلاغها به. فمثل هذه المعاني النادرة إذا وقع فيها مثل قول ابن الرومي ووقع فيها زيادة ما من جهة، وإن كان فيها تقصير من جهة أخرى، يجب أن يصفح عن قائليها في ما وقع لهم من التقصير إذا وقع لهم بإزاء ذلك زيادة وإن كان ما قصروا عنه أجل مما زادوا. هذا إذا لم يكن بين المقصر عنه والمزيد تفاوت كبير.
٥- إضاءة: وأما من نقل المعنى النادر من غير زيادة فذلك من أقبح السرقات، لأنه تعرض لسرقة ما لا يخفى على أحد انه سرقة.
٦- تنوير: ومن أبرز المعنى النادر في عبارة أشرف من الأولى فقد قاسم الأول الفضل، إذ الفضل في اختراع المعنى للمتقدم، والفضل في تحسين العبارة للمتأخر. والقول الثاني الذي حسنت فيه العبارة بلا شك أفضل من الأول، لأن المعنى لا يؤثر فيه التقدم ولا التأخر شيئا، وإنما ترجع فضيلة التقدم إلى القائل لا القول فيه.
1 / 62