٧- إضاءة: ويشبه أن يكون هذا الضرب من الكلام مما غلط فيه من ليس من علية فصحاء العرب وبلغائها (بالحمل) على العلية منهم. فكل امرئ منهم إنما يأتم في الفصاحة بمن فوقه. فإذا وجد المؤتم منهم كلاما لمن يأتم به قد قصد به مقصدا يمكن أن يفهم على خلافه بل ربما كان خلافه أسبق إلى الفهم لكونه أشهر في ما يقال في الغرض المقصود بالكلام، وكان الشاعر قد عدل عن الأشهر إلى الأخفى إما اضطرارا على ذلك أو قصدا على الافتنان في معاني الكلام والاتساع في مذاهبه -فمن عادتهم أن يأخذوا الكلام من كل مآخذ ويجتلبوا المعاني من كل مجتلب وأن يتلاعبوا بالكلام على وجوه من الصحة- فهم الكلام على خلاف ما قصده القائل ورأى العبارة لا تدل على ما فهم إلا بعد القلب، فظن أن هذا مذهب في الكلام لمن يأتم به، وأن للشاعر أن يعبر عن المعنى بما لا يدل عليه إلا بعد القلب، ويكتفي بما يسبق إلى الأفهام في ذلك فيجعل ذلك مذهبا له فيخطئ فيه.
وعلى هذا النحو وقع كثير من المذاهب الفاسدة في كلام العرب لأن أرداف الفصاحة منهم إذا رأوا لصدورهم استعمالا ما في شيء قاسوا على ذلك ما يرون أنه مماثل لذلك الشيء، وقد تكون بينهما مفارقة من وجه أو أوجه فيغلطون في القياس، وكذلك في كثير مما يتأولونه عليهم.
فلذلك يجب ألا يقبل من الضرائر غلا ما وجد في ما اجتمعت عليه الروايات الصحيحة من كلام علية الفصحاء منهم مما تحقق براعته انتسابه إليهم كقصائد امرئ القيس والنابغة وزهير ومن جرى مجراهم.
٨- تنوير: وقد وقعت أبيات من الشعر حملها قوم على القلب وخرجها آخرون على وجوه يصح الكلام عليها لفظا ومعنى. كقول الحطيئة: (الطويل -ق- المتدارك)
فلما خشيت الهون والعير ممسك ... على رغمه ما أمسك الحبل حافره
لأن الحبل إذا أمسك الحافر فالحافر أيضًا قد شغل الحبل وأمسكه عن أن يتخلى عنه ويتلفت، فعلى هذا ليس بمقلوب.
وكذلك قول أبي النجم: (الرجز -ق- المتدارك)
قبل دنو الأفق من جوزائه ... لأن الجوزاء إذا دنت من الأفق دنا منها.
وقد حمل قوم قطري بن الفجاءة: (الكامل -ق- المترادف)
ثم انصرفت، وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام
على القلب. قالوا يريد قارح البصيرة جذع الإقدام كما يقال إقدام غر ورأي مجرب. والأحسن في هذا البيت حمله على غير القلب، وذلك على تأويلين: أحدهما أن يريد أن هذا الموطن الذي وصفه كان أعظم موطن حضره وأشد موقف شهده فيئس فيه من الحياة وأيقن بالتلف حين رأى نفسه دريئة للرماح ودمه قد خضب سرجه ولجامه كما ذكر في هذا الشعر، ثم خلص من هول ذلك الموقف ووقع الأمر على خلاف ما كان وقع في نفسه حين انصرف وقد قتل ولم يقتل، فحدثت له إذاك بصيرة أن الإقدام غير علة للحمام وأن من يركن إلى الإحجام خفية من أن يصاب فليس على بصيرة، إذ لو شهد ما شهدت ثم انصرف مصيبا لا مصابا لحديث له بصيرة بأن السلامة غير مقصورة على مواطن الدعة وأن الهلاك غير موقوف على مواقف المكافحة، وحمله اجتماع الظفر له والسلامة بالإقدام على ألا يركن إلى الإحجام. فعبر عن قرب عهد حدوث البصيرة له عند انصرافه عن تلك الحرب بأن جعل البصيرة جذعة لأن الجذع هو الذي على أول سنة الأخذ في الاستحكام وجعل الإقدام قارحا لأنه كان من سجيته ثابتا قبل البصيرة.
٩- إضاءة: والتأويل الثاني ما حكاه ابن سنان الخفاجي عن أبي العلاء صاعد به عيسى الكاتب أنه جاراه في بعض الأيام في هذا البيت، فقال صاعد: "ما المانع أن يكون مقصوده لم اصب أي لم ألف على هذه الحال بل وجدت على خلافها جذع الإقدام قارح البصيرة، ويكون الكلام على وجه غير مقلوب، فتمكن الدلالة على أن قوله في البيت لم أصب بمعنى لم ألف دون ما يقولون من أن مراده لم أجرح من قوله قبل:
لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى، متخوفا لحمام
لقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة، وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت، وقد أصبت، ولم أصب ... جذع البصيرة، قارح الإقدام
1 / 58