٢- تنوير: ومما تنقسم غليه المحاكاة -وقد كان يليق بهذه القسمة أن تكون مدرجة في القسم المصدر به هذا المعلم فاستدركناها هنا إذ فاتت هنالك، وقد اندرج في هذه أيضًا بعض ما اندرج في تلك- وذلك أن المحاكاة إما أن تكون محاكاة وجود أو محاكاة فرض. وكلتاهما لا تخلو من أن تكون محاكاة مطلقة، أو محاكاة شرط، أو محاكاة إضافية، أو محاكاة تقدير وفرض. ومحاكاة الموجود بالموجود غما أن تكون محاكاة كلي بكلي، أو جزئي بجزئي، أو كلي بجزئي أو جزئي بكلي. وكل قسم من هذه فإما أن يحاكي فيه محسوس بمحسوس، أو محسوس بغير محسوس، أو غير محسوس بمحسوس، أو غير محسوس بغير محسوس. ولا يخلو أن يحاكى الشيء بما هو من نوعه الأقرب، أو جنسه الأقرب أو الأبعد، أو بغير جنسه.
٣- إضاءة: وينقسم التخييل بالنظر على متعلقاته قسمي: تخيل المقول فيه بالقول، وتخيل أشياء في المقول فيه وفي القول من جهة ألفاظه ومعانيه ونظمه وأسلوب.
فالتخييل الأول يجرى مجرى تخطيط الصور وتشكيلها. والتخييلات الثواني تجرى مجرى النقوش في الصور والتوشية في الأثواب والتفصيل في فرائد العقود وأحجارها.
وقد ذكرت في تأليف الألفاظ واقترانات المعاني، وأذكر بعد هذا إن شاء الله في الهيآت النظمية وضم بعض الأبيات والفصول إلى بعض وفي نسق أجزاء الجهات في أسلاك الأساليب مما يستحسن من ضروب الصيغة والهيئات المستحسنة في جميع ذلك ما تغنى بذكره هناك عن أن أنصه لك هنا.
وتلك الصيغ والهيئات هي التخاييل الثواني. وللنفس بما وقع به من ذلك تشاكل في الكلام ابتهاج لأن تلك الصيغ تنميقات الكلام وتزيينات له. فهي تجرى من الأسماع مجرى الوشي في البرود والتفصيل في العقود من الأبصار. فالنفوس تتخيل بما يخيل لها الشاعر من ذلك محاسن ضروب الزينة فيبتهج لذلك. ولهذا نقلوا إلى بعض الهيئات اللفظية التي من هذا القبيل أسماء الصناعات التي هي تنميقات في المصنوعات. فقالوا الترصيع، والتوشيح، والتسهيم من تسهيم البرود. وكثير من الكلام الذي ليس بشعري باعتبار التخييل الأول يكون شعرا باعتبار التخييل الثواني. وإن غاب هذا كثير من الناس.
٤- تنوير: وتنقسم المحاكاة من جهة ما تخيل الشيء بواسطة أو بغير واسطة قسمين: قسم يخيل لك فيه الشيء نفسه بأوصافه التي تحاكيه، وقسم يخيل لك الشيء في غيره.
وكما أن المحاكي باليد قد يمثل صورة الشيء نحتا أو خطا فتعرف المصور بالصورة، وقد يتخذ مرآة يبدي لك بها تمثال تلك الصورة فتعرف المصور أيضًا بتمثال الصورة المتشكل في المرآة فكذلك الشاعر تارة يخيل لك صورة الشيء بصفاته نفسه، وتارة يخيلها لك بصفات شيء آخر هي مماثلة لصفات ذلك الشيء. فلا بد في كل محاكاة من أن يكون جارية على أحد هذين الطريقين: إما أن يحاكى لك الشيء بأوصافه التي تمثل صورته، وإما بأوصاف شيء آخر تماثل تلك الأوصاف. فيكون ذلك بمنزلة ما قدمت من أن المحاكي للشيء، بأن يضع له تمثالًا يعطي به صورة الشيء المحاكي، قد يعطي أيضًا هيئة تمثال الشيء وتخطيطه بأن يتخذ له مرآة يبدي صورته فيها. فتحصل المعرفة بما لم يكن يعرف: إما برؤية تمثاله، وإما برؤية صورة تمثاله. فيعرف الشيء بما يحاكيه، أو بما يحاكي ما يحاكيه. وربما ترادفت المحاكاة وبني بعضها على بعض فتبعد الكلام عن الحقيقة بحسب ترادف المحاكاة وأدى (ذلك) إلى الاستحالة. ولذلك لا يستحسن بناء بعض الاستعارات على بعض حتى تبعد عن الحقيقة برتب كثيرة لأنها راجعة إلى هذا الباب. فمحاكاة الشيء نفسه هي المحاكاة التي ليست بواسطة، ومحاكاة الشيء بغيره هي المحاكاة التي بواسطة.
٥- إضاءة: وكل واحدة من المحاكاتين: المتحدة والمزدوجة -أعني أن الواحدة تشتمل على محاكاة الشيء نفسه على حسب ما ألف فيه، ومحاكاة الشيء بغيره على حسب ما ألف فيهما، ومحاكاته فيه على غير ما ألف. وأعني بغير المألوف أن تكون حاله مستغربة.
ومن محاكاة الشيء بغيره على غير ما ألف فيه قول أبي عمر ابن دراج: (البسيط -ق- المترادف)
وسلافة الأعناب يشعل نارها ... تهدي إلي بيانع العناب
فالمألوف أن يذوى النبات الناعم بمجاورة النار لا أن يونع، فأرغب في هذه المحاكاة كما ترى.
٦- تنوير: وللمحاكاة انقسام بحسب تنوعها إلى المألوف والمستغرب ومقابلة بعضها ببعض. فيحصل عن ذلك ستة أقسام:
1 / 29