فما وقع من الأوصاف والمحاكاة مقتصدا فيه غير متجاوز فهو قول صدق. فإذا قيل في الشيء: إنه كالشيء، وكان فيه شبه منه، فهو قول حق. لأن الكاف وحروف التشبيه إنما وضعت لأن تدل على الشبه من حيث إنه موجود، قل أو كثر، لا من حيث الكمية، فقد يقوى الشبه ويضعف وتكون المحاكاة مع ذلك صادقة إلا أنها في أحد الحالين أوضح.
وكثير من الناس يغلط فيظن أن التشبيه والمحاكاة من جملة كذب الشعر، وليس كذلك. لأن الشيء إذا أشبه الشيء فتشبيهه به صادق، لأن المشبه مخبر أن شيئا أشبه شيئا، وكذلك هو بلا شك. ولأن التشبيه بإظهار الحرف وإضماره قول صادق، إذا كان في أحد الشيئين شبه من الآخر -ورد التشبيه في القرآن لأن الماء يشبه السراب بلا شك، والهلال شبيه بالعرجون القديم ولا بد. وكذلك جميع تشبيهات الكتاب العزيز، الشبه فيها ظاهر- فقد تبين أن الوصف والمحاكاة لا يقع الكذب فيهما إلا بالإفراط وترك الاقتصاد.
وحكم تقبيح القبيح الذي له نظير حكم ضده الذي فرغت منه.
وقد يقع الصدق أيضًا في تحسين القبيح، ووقوعه في ما هو الغاية في القبح أقل من وقوعه في ما هو دون الغاية من ذلك. وكذلك حكم تقبيح الحسن، فإن الصدق في ما هو الغاية في ذلك أقل منه في ما دونها.
وسيأتي لهذا زيادة بيان.
٧- إضاءة: ولنقسم الآن الكلام الشعري بالنسبة على الصدق والكذب القسمة التي يتبين بها كيف يقع الكذب في صناعة الشعر، وما الذي يسوغ منه وما لا يسوغ.
فأقول: عن الأقاويل الشعرية منها ما هو صدق محض، ومنها ما هو كذب محض، ومنها ما يجتمع فيه الصدق والكذب.
والكذب منه ما يعلم أنه كذب من ذات القول، ومنه ما لا يعلم كذبه من ذات القول. فالذي لا يعلم كذبه من ذات القول ينقسم: على ما لا يلزم علم كذبه من خارج القول، وإلى ما يعلم من خارج القول أنه كذب ولا بد.
فالذي لا يعلم كذبه من ذات القول، وقد لا يكون طريق إلى علمه من خارج أيضا: هو الاختلاق الإمكاني. وأعني بالاختلاق: أن يدعي الإنسان أنه محب ويذكر محبوبا تيمه ومنزلا شجاه، من غير أن يكون كذلك. وعنيت بالإمكان: أن يذكر ما يمكن أن يقع منه ومن غيره من أبناء جنسه، وغير ذلك مما يصفه ويذكره.
والذي يعلم من خارج القول أنه كذب ولا بد: الاختلاق الامتناعي، والإفراط الامتناعي والاستحالي.
والإفراط: هو أن يغلو في الصفة فيخرج بها عن حد الإمكان على الامتناع أو الاستحالة.
وقد فرق بين الممتنع والمستحيل، بأن الممتنع: هو ما لا يقع في الوجود وإن كان متصورا في الذهن، كتركيب يد أسد على رجل مثلا.
والمستحيل: هو ما لا يصح وقوعه في وجود، ولا تصوره في ذهن ككون الإنسان قائما قاعدا في حال واحدة.
فأما الإفراط الإمكاني فلا يتحقق ما هو عليه من صدق أو كذب، لا من ذات القول ولا من بديهة العقل، بل يستند العقل في تحقق ذلك إلى أمر خارج عنه وعن القول، إلا أن يدل القول على ذلك بالعرض. فلا يعتد بهذا أيضا. وإنما نسميه إفراطا بحسب ما يغلب على الظن.
٨- تنوير: والاختلاق الإمكاني يقع للعرب من جهات الشعر وأغراضه.
وجهات الشعر: هو ما توجه الأقاويل الشعرية لوصفه ومحاكاته مثل: الحبيب، والمنزل، والطيف في طريق النسيب. فمثل هذه الجهات يعتمد وصف ما تعلق بها من الأحوال التي لها علقه بالأغراض الإنسانية، فتكون مسانح لاقتناص المعاني بملاحظة الخواطر ما يتعلق بجهة جهة من ذلك.
والأغراض: هي الهيئات النفسية التي ينحى بالمعاني المنتسبة على تلك الجهات نحوها ويمال بها في صغوها لكون الحقائق الموجودة لتلك المعاني في الأعيان مما يهيء النفس بتلك الهيآت، ومما تطلبه النفس أو تهرب منه، إذا تهيأت بتلك الهيآت.
وسيأتي لهذا فضل بيان في القسم الرابع إن شاء الله.
٩- إضاءة: والاختلاق الامتناعي ليس يقع للعرب في جهة من جهات الشعر أصلا.
وكان شعراء اليونانيين يختلقون أشياء يبنون عليها تخاييلهم الشعرية ويجعلونها جهات لأقاويلهم، ويجعلون تلك الأشياء التي لم تقع في الوجود كالأمثلة لما وقع فيه، ويبنون على ذلك قصصا مخترعا نحو ما تحدث به العجائز الصبيان في أسمارهم من الأمور التي يمتنع وقوع مثلها.
1 / 23