وحتى هذا التسخير القائم على التجربة والملاحظة، أو على تطبيق ما يصح بالقوانين العلمية، حتى هذا نجده يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر، فمن المجتمعات الإنسانية ما كان أسبق من غيره في هذا المضمار، ومن المجتمعات أيضا ما كان في بعض أجياله سباقا، وفي بعضها محافظا جامدا قانعا، أو محاكيا ناقلا عن الغير.
وأما عن العلم بالمعنى الخاص، أي بمعنى استخدام مناهج معينة لإيجاد صلات تربط حقائق متماثلة متفرقة بعضها بالبعض، ولا يهتم الباحث في عمله هذا بالتساؤل عما إذا كان لعمله هذا فائدة عملية تطبيقية في الحال أو الاستقبال، أو العلم بالمعنى الخاص الآخر، أي بمعنى استخدام العلم لتعليل أو تفسير أو وصف هذا العالم أو هذا الكون، العلم بمعنييه هذين وثيق الصلة بمجتمع أو مجتمعات معينة، أو بزمن واحد دون سائر الأزمنة، هو الزمن الذي ابتدأ على نحو ما بالإيطالي جاليليو منذ ثلاثمائة سنة، ابتدأ متمهلا، ثم اشتدت حركته منذ نحو قرن ونصف قرن من السنين.
لنا إذن أن نقول: إن العلم بمعانيه المختلفة يعبر عن الشخصية العربية، ولكن على أي وجه أو على أي وجوه كان التعبير؟ كان سبيلنا إلى معرفة ذلك أن نسجل للعلماء الذين كتبوا بالعربية أسماء كتبهم ورسائلهم وما ورد عنهم في أخبار الحكماء والأطباء وطبقاتهم من مآثر، وهذا كله دون تحقيق، إلا فيما ندر، ثم نلحق بهذا فضل هؤلاء العلماء على أوربا، وهذا كله - أيضا - لا يدل على أكثر من أن الحركة العلمية في المجتمع العربي كان لها خطرها، وكان لها مقامها في الحضارة الإنسانية.
ولكن، على أي وجه أو على أي وجوه كان ذلك الخطر وذلك المقام؟ السبيل التي اتخذناها لم تهدنا إلى معرفة ذلك، وبعد، فما الذي ينبغي أن نصنع. الذي ينبغي على كل باحث أن يبدأ به هو أن يسأل الأسئلة الصحيحة، والسؤلان الصحيحان هما:
أولا:
إلى أي حد أقيم المجتمع العربي على العلم؟
وثانيا:
هل استخدم العلم في تعليل وتفسير ووصف العالم أو الكون.
للإجابة على السؤال الأول - إلى أي حد أقيم المجتمع العربي على العلم - يجب أن ندرس الآلات والأدوات التي استخدمها العرب مما ورثوا ومما استحدثوا، أي يجب أن ندرس ماذا استخدموا في بناء البيئة المادية التي عاشوا فيها؟
وفي الوقت نفسه، يجب أن ندرس الأسس العلمية التي أقاموا عليها علاقاتهم المدنية والروحية، أي ما استخدموا في بناء البيئة المعنوية التي عاشوا فيها، وما نعرفه عما ورثوا وما استحدثوا من آلات وأدوات ضئيل لا يعتد به، بالرغم من أن دراسة الأدوات والآلات هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما اهتدوا إليه من تطبيقات علمية سواء أكان ذلك بالملاحظة والتجربة، أو باستعمال قوانين عرفوها عن طريق النظر.
Shafi da ba'a sani ba