كاسيرر يضمن للإنسان الوحدة المتكاملة
أما بعد، فلئن كان التعصب لناحية واحدة من نواحي الإنسان وإهمال كل ما عداها ضربا من الجنون، لا يرده إلى حكمة العقل إلا النظرة المتزنة التي تلحظ شتى النواحي لتنسج منها نسيجا واحدا متكاملا يخلق من الإنسان وحدة متماسكة البناء: عقلا وعاطفة، وروحا وبدنا، وصحوا وحلما، وحاضرا وماضيا، فإن أرنست كاسيرر بين فلاسفة عصرنا هو الذي ضمن للإنسان هذه الوحدة المتكاملة بعد أن تجزأت على أيدي سواه أشلاء متناثرة.
مقومات الشخصية الإفريقية الآسيوية1
ألفان من ملايين البشر يسكنون آسيا وأفريقيا، وهم الثلثان من سكان العالم أجمع، فمن كل ثلاثة أفراد من الأسرة الإنسانية ينتمي اثنان إلى هاتين القارتين العظيمتين! والكتاب من هذا الخضم البشري العظيم، هم قلوبه النابضة وعقوله المفكرة وألسنته الناطقة، وأنتم - أيها السيدات والسادة - من هؤلاء الكتاب ممثلوهم! وإذن فالكلمة الواحدة تنطقون بها، إنما هي كلمة ينطق بها هؤلاء الملايين على لسانكم، فأكرم بها من كلمة وأعظم.
لقد يسألنا سائل - ونحن بصدد الحديث عن الشخصية الإفريقية الآسيوية ومقوماتها: أتكون لهاتين القارتين الفسيحتين شخصية واحدة برغم ما تحتويان عليه من أوجه التباين؟ إنهما لا تشتركان في ديانة واحدة، بل الديانات فيها متعددة، ولا تشتركان في نظام أسري واحد؛ فمنها ما يوحد في الأزواج ومنها ما يعدد، ولا تشتركان في نظام طبقي واحد؛ إذ الطبقات في بعضها صلبة الفواصل وفي بعضها الآخر لينة أو ممتنعة، ولا تشتركان في مرحلة اقتصادية واحدة؛ لأن أقطارها تتفاوت من أعلى درجات الصناعة إلى أدنى درجات الزراعة والرعي، ولا تشتركان في درجة واحدة من درجات التعليم ولا في لغة واحدة. أقول إن سائلا قد يسألنا منذ بداية الحديث قائلا: هل تكون للقارئين شخصية واحدة برغم هذا التباين كله؟ وجوابنا هو بالإيجاب. وفيما يلي بعض ملامح هذه الشخصية المشتركة.
فالقارتان تلتقيان في ماض واحد، وفي حاضر واحد، وفي مصير واحد.
أما ماضيهما المشترك فمنه القريب ومنه البعيد؛ وقريبه هو أن القارتين معا قد لبثتا حينا طويلا من الدهر هدفا لمطامع المستعمرين، ولطالما وحدت المصيبة بين المصابين. وكانت آسيا أسبق من أختها الإفريقية في هذه المحنة، فمنذ القرن الخامس عشر، كانت الهند وكان الشرق الأقصى كله هدف الرحالة والمستكشفين، ليمهدوا الطريق من بعدهم لأصحاب التجارة، وهؤلاء بدورهم يمكنون بعدئذ للساسة والحاكمين. ولم تكن أفريقيا عندئذ إلا مرحلة وسطى تعترض الطريق، يطوفون بها من هنا ويدورون حولها من هناك، لعلهم يصلون إلى الغاية المنشودة بأقل جهد وأقصر طريق. حتى كولمبس حين عبر المحيط الأطلسي لم يعبره إلا ليلتمس طريقه إلى آسيا.
ثم جاء القرن التاسع عشر، وجاءت معه النتائج الفادحة التي تولدت عن الثورة الصناعية، من حاجة أوروبا المنهومة إلى المواد الأولية - زراعية ومعدنية - وإلى الأسواق لمنتجاتها الصناعية؛ وها هنا اتجهت الأبصار إلى أفريقيا ؛ وتسابق القوم إلى خطفها، فلما أن تضاربت مصالحهم، راحوا يقسمونها فيما بينهم كما تقسم الغنيمة الباردة، التي لم يكسبها كاسبها بجهد مشروع. واشتركت في الغنيمة إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وبلجيكا وهولنده، وإن تكن إنجلترا قد خرجت من القسمة بنصيب الأسد لتفوقها على زميلاتها في الصناعة والتجارة وفي القوة البحرية. ولعل هذه الجريمة المشتركة قد أيقظت في المعتدين ضميرا به بقية من حياة، فراحوا يسوغون الفعلة لضميرهم بأنه واجب الرجل الأبيض إزاء من لم يرزقهم الله جلودا في بياض جلودهم، وشاعت على أقلام كتابهم عبارة «عبء الرجل الأوروبي» ليصوروا الأمر لأوهامهم تصويرا يخرجون به حماة للحضارة الإنسانية، بدل أن تصمهم وصمة السرقة والاعتداء.
ذلك هو الماضي المشترك القريب لقارتي آسيا وأفريقيا، وأما ماضيهما المشترك البعيد فهو أنهما أمدا العالم بدعامتين من دعائم المدنية، وهما دعامتا الفن والدين، فما من عقيدة دينية اهتز بها وجدان البشر إلا وهاتان القارتان أصلها ومهبط وحيها، ثم ما من فن إلا وجذوره نابتة في أرض هاتين القارتين. ولقد يطور الغرب هذا الفن أو ذاك تطويرا يبعد به عن أصله الآسيوي والإفريقي، لكنه لا يلبث أن يعود تائبا إلى أصله المتروك، كما هي الحال في عصرنا الحاضر بالنسبة إلى التصوير والنحت والموسيقى.
وكما تشترك القارتان في ماض واحد: ماض سياسي قريب، وماض ثقافي بعيد، فهما كذلك تشتركان في حاضر واحد، هو حاضر الكفاح ضد المستعمر، إثباتا لوجودهما وتثبيتا لشخصيتهما. وإذا كانت المحنة قد وحدت بين القارتين، فإن الكفاح للتخلص من هذه المحنة يزيد الوحدة بينهما قوة ووثوقا. أليس المستعمرون أنفسهم - على ما بينهم من ضروب الخلاف التي قد تبلغ حد الحروب الطاحنة - يتحدون علينا كلما رأوا في وحدتهم تلك ضمانا لبقاء الغنيمة في أيديهم؟ إذن فهل يكون غريبا أن نتحد من جانبنا في جبهة واحدة استخلاصا لحقنا المنهوب؟ إن آسيا وأفريقيا في أعين المستعمرين شيء واحد، وبلاد الغرب شيء آخر، وإلا فلماذا أجازوا لأنفسهم أن يستخدموا القنبلة الذرية على أرض آسيوية ولم يستخدموها ضد ألد أعدائهم من الشعوب الأوروبية؟ إنهم فعلوا ذلك لعقيدة راسخة في أنفسهم بأن الغرب غرب والشرق شرق، وما يجوز فعله هنا لا يجوز فعله هناك. وإذا كان هذا شعورهم الموحد ضدنا نحن أبناء آسيا وأفريقيا، فهل يقابل منا إلا بشعور موحد ضدهم؟
Shafi da ba'a sani ba