3
فطفق هؤلاء يتساءلون: أين يكون الإسلام من هذه الدعوة؟ وكان أن أرسل كاتب من فارس خطابا إلى جمال الدين الأفغاني (1838-1898م) يطلب منه أن يوضح له هذا المذهب «الطبيعي» الذي أخذ يتردد صداه بين رجال العلم والفكر، فأجابه الأفغاني بأن ألف رسالته في «الرد على الدهريين»، (والدهريون هم الماديون) لأن الأفغاني قد رأى في هذا المذهب خطرا على العقيدة الدينية، وعلى الحضارة الإنسانية، مما يوجب على المفكر المسلم أن يتصدى له.
ألف الأفغاني هذه الرسالة باللغة الفارسية، ونقلها إلى العربية الشيخ محمد عبده مستعينا بأديب أفغاني (هو عارف أبو تراب)، وهي تنقسم قسمين: اختص أولهما ببيان حقيقة المذهب الطبيعي ونشأته التاريخية، واختص ثانيهما ببيان أن الإسلام هو أفضل الأديان. وليس يهمنا الآن مضمون الرسالة بقدر ما يهمنا منهاجها؛ وذلك لأننا وإن كنا نراه قد عالج مسألة علمية - هي نظرية التطور - بغير العلم، إلا أنه كان يحتكم في كل خطوة إلى ما ظن أنه حجة عقلية. مثال ذلك أن يحاول البرهنة على أن نظرية التطور تقيم بناءها على أساس الصدفة، على حين أن نظام الكون نظام مدبر، ولا يجوز عند العقل أن تلد المصادفات العمياء مثل هذا النظام المحكم. ومثال ذلك أيضا أن يحاول البرهنة على أن نظرية التطور حين تجعل في النبات أو الحيوان جرثومة يكمن فيها نبات أو حيوان كامل التركيب وهذا بدوره يحتوي جرثومة وهلم جرا إلى ما لا نهاية له، فهي بذلك تجعل اللامتناهي ينتج عن المتناهي، وهو ما لا يجوز عند العقل. ومثال ذلك أيضا قوله: «إذا سئل داروين عن الأشجار القائمة في غابات الهند والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لا يحددها التاريخ إلا ظنا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته وشكله وأوراقه وأصوله وقصره وضخامته ورقته وزهره وثمره وطعمه ورائحته وعمره، فأي فاعل خارجي أثر فيها حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظن ألا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.»
على هذا النحو «العقلي» كان الأفغاني يعالج الأمور التي يراها مؤدية إلى تقوية الإيمان الديني والقومي عند المسلمين، وإلى درء الخطر كلما رأي خطرا يتهدد ذلك الإيمان. على أن الأفغاني كان أقوى تأثيرا بشخصيته ودروسه وأحاديثه منه بكتابته، فكان في تاريخنا الفكري الحديث أشبه بسقراط في تاريخ الفكر الفلسفي عند اليونان، كما كان تلميذه الشيخ محمد عبده أشبه بأفلاطون وقد استقر في «أكاديميته» ليدون ما أحدثه أستاذه في العقول من أثر، فانظر - مثلا - إلى الإمام في مقالاته التي يثبت فيها دورسا سمعها من الأفغاني، فيستهل إحداها (وهي عن فلسفة التربية) بقوله: في ليلة الأحد الماضي (يشير إلى أول يونيو سنة 1879م) انعقد درس جمال الدين الأفغاني، وانتظم في سلكه جمع غفير من نبهاء طلبة العلم وفضلائهم، ثم أخذ يبسط مضمون ما قاله الأستاذ. وفي مقالة أخرى (عن فلسفة الصناعة) يبدأ الإمام بقوله: قد عاد حضرة الأستاذ الفاضل، والفيلسوف الكامل، السيد جمال الدين الأفغاني إلى التدريس بعد فترة تزيد مدتها عن سنة فابتدأ حفظه الله يقرأ شرح إشارات الرئيس ابن سينا في الحكمة العقلية وهو كتاب جليل يحتوي من هذا العلم أصولا جليلة، غرست أصولها في بلاد المشرق من مدة تقرب من ألف سنة، إلا أنها تنبت فروعها في المغرب، واجتنيت ثمارها لغير غارسيها. إلا أن هذا السيد الفاضل قد جمع في تدريسه بين تدقيق الشرقيين وبسط الغربيين، يجمع إلى الأصول فروعها، وإلى المقدمات نتائجها، وإلى المجملات تفاصيلها، بانيا جميع أقواله على البراهين الثابتة والحجج القديمة. وحسبنا من كل أقوال الأفغاني قوله بأن الدين الإسلامي يطالب المؤمنين به بأن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم، وكلما خاطب خاطب العقل، وكلما حاكم حاكم إلى العقل. تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة، وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة. •••
وكان هذا نفسه هو الأساس الذي أقام عليه الإمام محمد عبده (1849-1905م) فكره الفلسفي، إذ كان أهم ما اهتم به هو أن يوضح العقائد الأساسية في الإسلام توضيحا يبين استنادها إلى منطق العقل، فتراه في كتابه «الإسلام والنصرانية» يفصل القول في الأصول التي يقوم عليها الإسلام، يجعل الأصل الأول لهذا الدين هو «النظر العقلي». والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح «فقد أقامك منه على سبيل الحجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟» (ط6، ص58)، ثم يجعل الأصل الثاني للإسلام «تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض» وفي شرح ذلك يقول: «... إنه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان : طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في عمله، والطريق الثانية تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل» (المصدر المذكور، ص59). وعلى هذا النحو راح الإمام يعدد بقية أصول الإسلام، لينتصر دائما لحكم العقل كلما أشكل الأمر، مما يجعله هو ومدرسته الفلسفية امتدادا صريحا للمعتزلة. ولم يقتصر الأمر عنده على ذكر مبادئ عامة، بل أخذ في مقالاته يطبق تلك المبادئ على موضوعات خاصة، كالقضاء والقدر، وتعدد الزوجات، وإصلاح التعليم، والتمدن ... إلخ الخ. ونكتفي هنا بمثل واحد لطريقته في التفكير على هذا المنهج، فنذكر مقاله عن «القضاء والقدر» - وهو جانب من العقيدة الإسلامية كثيرا ما اتخذ حجة على تأخر المسلمين، كما أنه كثيرا ما كان مقيدا لمن أساء فهمه من المسلمين - فيبين محمد عبده كيف أن هذا الاعتقاد هو نفسه الاعتقاد في الرابطة السببية بين الحادثات، على أن الإنسان قد يستطيع أن يرى من الأسباب ما هو حاضر لديه، لكن قد يمتنع عليه إدراك بقية التسلسل السببي في تتابع الحوادث. وسواء أدركه أو لم يدركه، فليس في القول بقيام الرابطة السببية ما يجوز أن يكون موضع اتهام، فقوام العلم نفسه هو هذه الرابطة في وقوع الحوادث. ولا ضير علينا في أن نتصور الإرادة الإنسانية نفسها حلقة من حلقات السلسلة السببية؛ إذ الإرادة متوقفة على إدراكنا لما يقع مما يؤثر في حواسنا؛ أي أنها تنبني على علم بما هو حادث. وما هو حادث مرتب مدبر.
إننا إذا ما خلصنا الاعتقاد بالقضاء والقدر من شناعة الجبر، وجدناه اعتقادا يحفز الإنسان على الجرأة والإقدام، ويخلق فيه الشجاعة والبسالة؛ إذ هو اعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره ويدعوها إلى الجود والسخاء، بل يحملها على بذل الأرواح في سبيل الحق، فانظر إلى هذا الاعتقاد الواحد لو أقمناه على منطق العقل، كيف يؤدي بنا إلى حرية في مجال العمل، على حين أنه إذا أسيء فهمه أدى إلى التواكل والخنوع.
هكذا تناول الإمام طائفة من المفاهيم الدينية بالتوضيح الذي يجعلها حوافز للنشاط والعمل. فمن قبيل ذلك أيضا فكرة التعارض الظاهري بين إرادة الله الكاملة وعلمه الكامل من جهة، وإرادة الإنسان من جهة أخرى؛ إذ يتساءل المتسائلون في هذا الصدد: أتجوز للإنسان حرية يفعل بها ما يريد، حين يكون الله قد علم علما سابقا بكل ما سيقع على طول الزمان؟ ويتصدى الإمام لهذا السؤال في كتابه «رسالة التوحيد» ليزيل عن موضوعه ما يكتنفه من غموض، حتى لا يكون سببا في تعطيل قدرات القادرين على العمل المنتج، فيقول في فصل عنوانه «أفعال العباد»: إن الله هو الذي قدر أن يجيء الإنسان مفكرا مختارا في عمله على مقتضى فكره، وكون علم الله محيطا بما يقع من الإنسان بإرادته لا ينفي أن يكون الإنسان حرا فيما يعمل وما يدع؛ لأن العلم السابق بما سيقع هو كعلم صاحب القضاء في الدولة أن العمل الفلاني إذا وقع حلت بفاعله العقوبة الفلانية، وإن ذلك ليكون معلوما عند فرد من الناس، ومع ذلك تراه يقدم على عمله، فانكشاف الواقع للعالم لا يصح - في نظر العقل - ملزما ولا مانعا. •••
ومثل هذا الموقف الذي وقفه الإمام محمد عبده تجاه المفاهيم الدينية من حيث تحليلها وتوضيحها لتظهر مسايرتها لأحكام العقل، ولتصبح عوامل على حرية الإنسان لا قيودا تكبله، وقفه كذلك الأستاذ عباس محمود العقاد تجاه طائفة كبيرة من المفاهيم الأدبية والسياسية والاجتماعية، فضلا عن تناوله لأصول العقيدة الإسلامية تناولا يسير به في نفس الطريق التي سلكها من قبله محمد عبده؛ وأعني إقامة الحجة المنطقية على ما بين تلك العقيدة وحرية الإنسان وكرامته من توافق تام. وإنه لمما يميز العقاد في جدله قدرته على دقة التحليل وتبيين الفوارق اللطيفة بين الأفكار المتقاربة، واستخلاص النتائج من مقدماتها.
ولقد حاول في مؤلفات كثيرة أن يبين كيف أن الإسلام يشجع بصفة خاصة، بل يفرض على الناس فرضا، أن يحتكموا إلى العقل في أمورهم، وأن يكون الإنسان حرا مختارا في حياته، مسئولا عن حريته تلك وعن اختياره أمام نفسه وأمام ربه. ففي كتابه «التفكير فريضة إسلامية» يقول: إن للقرآن مزية واضحة هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف، ولئن كانت كلمة «العقل» مختلفة المعاني، فقد ألم القرآن، بهذه المعاني كلها، حتى تكون الدعوة إلى العقل شاملة له بكل معانيه، فهو يشيد بالعقل حين يكون معناه الوازع الأخلاقي الذي يمنع عن المحظور والمنكر، ويشيد به حين يكون المقصود به بعض العمليات الإدراكية كعملية إنشاء التصورات الكلية وعملية ربط هذه التصورات الكلية في أحكام، وعملية استدلال النتائج من تلك الأحكام، وكذلك يشيد القرآن بالعقل حين يكون معناه حكمة الحكيم ورشد الرشيد. وإذ يحض القرآن على العقل بمعانيه تلك جميعا: العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، تراه «لا يذكر العقل عرضا مقتضبا، بل يذكره مقصودا مفصلا على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان».
وأما الدعوة إلى الحرية، فلم يترك العقاد بابا من أبواب الحياة والفكر إلا دافع عن وجوب الحرية فيه. ويكفينا في هذا العرض السريع أن نذكر له رأيا تميز به، وهو الرأي الذي جعل به الجمال والحرية شيئا واحدا، فالشيء جميل بمقدار ما هو حر طليق من القيود التي تعوق حركة الحياة، فالماء الجاري أجمل من الماء الآسن، والوردة التي تجري فيها الحياة أجمل من شبيهتها المصنوعة من ورق، والصوت الجميل هو الصوت «السالك» والعضو الجميل هو الذي يجيء بالمقدار الذي يمكنه من أداء وظيفته الحيوية، وهلم جرا. والأمة التي تعشق الجمال في الطبيعة وفي الفن لا بد محققة لنفسها الحرية السياسية؛ لأن الجمال والحرية وجهان لحقيقة واحدة. ففي مقال للعقاد عن «الحرية والفنون الجميلة» (نشر سنة 1923م) يقول إن حب الأمم للحرية يقاس بحبها للفنون الجميلة ولا يقاس بما ينشأ بين ظهرانيها من صناعات وعلوم نفعية تخدم مطالب العيش؛ ذلك لأن مطالب العيش محتومة على الإنسان لا قبل له بردها، وأما حين يكون الإنسان غير مدفوع بقوانين الطبيعة حين يختار ما يختاره أو يدع ما يدعه، فتلك هي الحرية بمعناها الصحيح ، وهي حالة تتحقق حين يتعلق الإنسان بالفن الجميل.
Shafi da ba'a sani ba