نعم إنه لا سبيل إلى تفسير الطبيعة وأحداثها إلا بهذين المبدأين معا، فلا تفسير - عند وايتهد - إلا إذا استطعت أن تضع الحادثة المراد تفسيرها في نسق واحد يجمعها مع غيرها، لترى أين تقع تلك الحادثة بالنسبة إلى ما عداها؛ وإذن فقيام الإطار النسقي النظري أمر لا مندوحة عنه، لنضع فيه كل حادثة ترد في مجرى الخبرة ويراد فهمها؛ وإلا فكيف يكون فهم لحادثة منتزعة من محيطها؟ وإذا قلنا إنه محال على كيان طبيعي أن يبتر عن كل ما عداه، فقد قلنا إنه لا بد لنا من إطار فكري عام نضع فيه الأحداث المتناثرة فتفهم، وهذا الإطار الفكري العام هو من شأن الفلسفة أن تبنيه.
لكن حذار أن نظن، كما ظن الفلاسفة السابقون، أن مثل هذا الإطار الفكري، الذي تقيمه الفلسفة لتفهم به العالم، هو شيء مطلق أزلي أبدي لا يتغير ولا يتبدل؛ كلا، فلا أمل لفيلسوف أن يبلغ هذا المدى؛ وأنى له أن يبلغه وهو مقيد بقيدين: مقيد باللغة التي يصور بها إطاره الفكري، واللغة أبعد ما تكون عن المطلق اللامحدود، ومقيد بخياله البشري المحدود؛ إذن فلنقنع بمبادئ تكون - على أحسن الفروض - تقريبات ندنو بها من المثل الأعلى، ونظل ندنو بها مهتدين بضوء خبراتنا بالعالم وما يجري فيه، فكلما اقتضت تلك الخبرة أن نغير من إطارنا الفكري غيرناه.
ذلك أن البناء الميتافيزيقي الذي نقيمه لنفهم به الطبيعة، لا بد له أن يفسر كل حقائق الخبرة الواقعة، فإن تعذر عليه ذلك، بدلناه بما هو أصلح منه، تماما كما نفعل في مجال العلم: نفرض النظرية لنفسر بها الظواهر، فإما فسرتها وإما عدلناها بما هو أصلح منها للتفسير؛ فهاهنا نلمس الفرق واضحا بين وايتهد وبين أسلافه من الفلاسفة العقليين الذين يشبهونه في تطبيق الرياضة - أو المنطق - على الطبيعة، أعني في تطبيق نسق من علاقات نظرية نقيمه بادئ ذي بدء لنفهم به العالم. أقول إننا نلمس هاهنا الفرق واضحا بين وايتهد وأسلافه العقليين، مثل ديكارت وإسبينوزا، فبينما هؤلاء يجعلون مبادئهم الأولى حقائق واضحة بذاتها لا سبيل إلى الشك فيها أو إلى تعديلها، نرى وايتهد ينظر إلى مبادئه الأولى وكأنما هي شيء سيق على سبيل الاختيار، فإما صلحت فأبقيناها، وإلا بحثنا عن بديل لها أصلح منها.
4
الفكرة السائدة عن فلسفة وايتهد عند معظم شارحيه، هي أنه قد مال آخر الأمر نحو الفلسفة الأفلاطونية؛ فلئن كانت نظرية المثل هي الركيزة الأساسية في فلسفة أفلاطون، وهي نظرية تفصل بين عالمين: عالم النماذج الصورية التي هي أقرب إلى الصيغ الرياضية في ناحية، وعالم الطبيعة المجسدة التي تحاول أن تقترب من تلك النماذج في ناحية أخرى، فكذلك فعل وايتهد حين تصور إطارا رياضيا من علاقات منطقية يفرض نفسه على أحداث الطبيعة؛ وإن الشبه بين الفيلسوفين ليشتد عندما يحدثنا وايتهد عما يسميه «عالم الكائنات الأزلية» فها هنا لا تكاد العين عند النظرة الأولى تفرق بين تلك الكائنات الأزلية عند وايتهد وبين المثل عند أفلاطون؛ ففي كلتا الحالتين نتصور عالما كاملا كمالا رياضيا ومنطقيا، نتصوره قائما منذ الأزل، ليجيء هذا العالم المادي المحسوس فيحاول بصيرورته وتغيره وتطوره وتقدمه أن يدنو من ذلك المثل الأعلى الكامل ما استطاع إلى الدنو من سبيل؛ أو إن شئت فقل إننا في كلتا الحالين نفرض وجود عالمين: عالم الممكنات من ناحية، وعالم الموجودات الفعلية من ناحية أخرى؛ ففي العالم الأول صور لما يمكن للأشياء أن تكون عليه لو بلغت حد كمالها، وفي العالم الثاني موجودات فعلية بما فيها من نقص يبعدها عن الصورة المثلى.
لكننا لو نظرنا إلى فلسفة وايتهد هذه النظرة الأفلاطونية لسلبناه أخص الخصائص التي تميز فلسفته بحيث تجعلها إحدى الفلسفات التجريبية التي تفسر الطبيعة بالطبيعة ولا تلجأ إلى أي شيء خارج الطبيعة أو وراءها أو فوقها؛ فالأمر على حقيقته هو أن وايتهد حين تحدث عن عالم لكائنات أزلية، فإنما أراد به بنية من المنطق المجرد، اشتقها الفيلسوف من الحوادث الفعلية كما تقع في الوجود الخارجي الفعلي، وما بين تلك الحوادث من علاقات. ألسنا نعيش في عالم من أحداث متشابكة في مجرى متصل مكاني زماني؟ جرد من هذا العالم صورة العلاقات التي تتشابك بها أحداثه، يكن لك الهيكل الصوري المجرد الذي يمثل بنية العالم، والذي بوساطته يمكن فهم العالم وتفسيره.
فليست الكائنات الأزلية التي يحدثنا عنها وايتهد بالكائنات ذوات الخصائص الكيفية، كفكرة الصلابة - مثلا - أو فكرة البياض وما إلى ذلك؛ بل هي كائنات غير مخصصة بخصائص، لكنها ترتبط في بناء ذي علاقات معلومة، كما هي الحال - مثلا - حين تبني نسقا رياضيا من رموز ليست بذات مدلول، ومع ذلك فارتباطها مع غيرها في نسق علاقي واحد يجعل لها نمطا معينا. وهكذا وايتهد ينظر إلى الخبرات البشرية، لا من أجل خصائصها الكيفية، بل ليستخلص منها تركيبها الرياضي وبنيتها المنطقية، وهذه هي التي يطلق عليها اسم الكائنات الأزلية؛ فهيكل العلاقات المجردة لا يتضمن ماهيات الأشياء المرتبطة بتلك العلاقات؛ فلك أن تتصور ما شئت من أشياء ما دامت ترتبط بتلك العلاقات الصورية؛ أي أنك لست ملزما بتحديد صفات معينة تميز بها ما نسميه بالكائنات الأزلية، والشيء الوحيد الذي أنت ملزم به هو شبكة العلاقات الرياضية المنطقية التي تصل تلك الأطراف بعضها ببعض، كائنة ما كانت طبيعة تلك الأطراف؛ فالأمر هنا شبيه بالدالة الرياضية ذات الرموز المجهولة الدلالة، مثل س، ص؛ فيجوز لك أن تضع مكان الرموز أي حقيقة شئت ما دامت تتسق مع العلاقات التي تكون بنية الدالة؛ وفي اللحظة التي تضع مكان الأطراف المجهولة حقائق معينة، تتحول تلك البنية الممكنة إلى كائن فعلي مكاني زماني محدد المعالم معلوم الصفات.
وكما أن وايتهد - بكائناته الأزلية - لا يشبه أفلاطون بمثله، فهو كذلك لا يشبه أرسطو بتصنيفه للأجناس والأنواع؛ لأن أرسطو أيضا يقسم ويصنف على أساس الخصائص الكيفية للأشياء، وفي رأي وايتهد أن هذا فيه تفتيت للكون إلى كيفيات مفككة معزول بعضها عن بعض، على حين أن جوهر العالم هو في العلاقات الرابطة، لا في الكيفيات المربوطة؛ فأنت تفهم العالم، لا بأن تعرف أنه مشتمل على ألوان وأصوات ... إلخ، مصنفة أنواعا وأجناسا، بل تفهمه بأن تعرف هيكل العلاقات التي تربط متغيرات في بنية منطقية؛ فعندئذ تصبح الكائنات العلاقية الصورية دالة على ما يمكن أن يكون في أية لحظة زمنية، لا على ما هو موجود بالفعل في إحدى لحظات الزمان.
5
قلنا إن وايتهد يبحث في خبرته عن عناصر يستعين بها على إقامة بناء ميتافيزيقي يشمل الكون كله، فما يصدق على الخبرة المباشرة، يصدق أيضا على الطبيعة بكامل ما فيها من أحداث، وذلك هو ما انتهى به إلى نظرية من أهم جوانب فلسفته، أطلق عليها كلمة من كلماته الاصطلاحية الكثيرة، التي تغمض المعنى على من لا يفهمها، وهي كلمة
Shafi da ba'a sani ba