وظفرت بالزمالة في كيمبردج سنة 1885م، ثم ازداد الحظ إقبالا، فعينت محاضرا، ولبثت في التدريس بتلك الجامعة خمسة عشر عاما، وتركتها سنة 1910م لأشغل منصب التدريس في جامعة لندن، حيث لبثت أربعة عشر عاما، منها عشرة أعوام - من 1914م إلى 1924م - كنت خلالها أستاذا في الكلية الإمبراطورية للعلوم والتكنولوجيا.
كان أول كتاب أخرجته هو: «رسالة في الجبر» الذي صدر سنة 1898م، فأدى صدوره إلى انتخابي عضوا في الجمعية الملكية سنة 1903م، ثم جاء انتخابي زميلا في الأكاديمية البريطانية بعد ذلك بنحو ثلاثين عاما (1931م) نتيجة لما كنت قد أنتجته في ميدان الفلسفة.
ذلك أن برتراند رسل كان قد أخرج في عام 1903م الجزء الأول من كتابه «أصول الرياضة» فرأي كلانا أن ما كنت أزمع أن يكون مادة الجزء الثاني من كتابي «رسالة في الجبر» وما كان هو يزمع أن يكون مادة الجزء الثاني من كتابه «أصول الرياضة» يلتقيان في موضوعات بعينها، فاتفقنا أن نشترك في إخراج مؤلف واحد، وظننا أن سنة واحدة تكفينا لإنجاز العمل، لكن أخذ الأفق يتسع أمام أبصارنا حتى لقد لبثنا ثماني سنوات أو تسعا قبل أن نخرج معا كتابنا «برنكبيا ماثماتكا»، (ولنطلق عليه «أسس الرياضة» تمييزا له من أصول الرياضة الذي أخرجه رسل وحده). وكان رسل قد التحق بكيمبردج طالبا في أوائل العشرة الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقد استمتعت - كما استمتع العالم كله - بألمعيته، تلميذا لي بادئ الأمر، فزميلا وصديقا. وكان عاملا قويا في مجرى حياتنا إبان مقامنا في كيمبردج، لكننا اختلفنا بعدئذ في وجهة النظر - الفلسفية والاجتماعية معا - فأدى اختلافنا ذاك إلى امتناع التعاون في عمل مشترك.
وفي سنة 1924م - وكنت قد بلغت الثالثة بعد الستين - شرفت بدعوة جاءتني من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، أن أكون أستاذا بقسم الفلسفة فيها.
وظل وايتهد مقيما بالولايات المتحدة منذ ذلك الحين حتى وافته منيته سنة 1947م، وكان قد بلغ من عمره السابعة بعد الثمانين؛ فكانت تلك الفترة - ومداها ربع قرن - هي فترة الإنتاج الفلسفي الناضج؛ لأنه وإن يكن قد أخرج وهو في أرض الوطن مؤلفات هامة في التحليلات الرياضية المنطقية، إلا أن مذهبه الفلسفي لم يكتمل بناؤه إلا وهو في أمريكا إبان المرحلة الأخيرة من حياته، فهناك أخرج كتابه الذي عرض فيه لباب فلسفته، وهو: «التطور وعالم الواقع» (1929م) ومن مؤلفاته الأخرى «العلم والعالم الحديث» (1926م) ومغامرات أفكار» (1933م).
ولو شئنا أن نصف مهمة الفلسفة من وجهة نظره، لما وجدنا عبارة أفضل من عبارته التي يقول فيها: «الفلسفة هي محاولة التعبير عن الكون اللامتناهي بأداة اللغة رغم قصورها.»
2
لم تكن فلسفة وايتهد تلقى من اهتمام الباحثين إلا قليلا، وذلك يرجع أولا إلى الموجة المعاصرة في الفلسفة ، أعني تلك الموجة التي تمقت الميتافيزيقا مقتا يجعلها لا تصبر على فيلسوف مثل وايتهد، إلا يكن شبيها بالفلاسفة الميتافيزيقيين القدامى في مضمون بناءاتهم الفلسفية، فهو على كل حال ينزع منزعهم في طريقة التناول، ويرجع ثانيا إلى العسر الشديد الذي يصادفه القارئ في فهم فلسفته، وهو عسر مرده إلى مصطلحاته الجديدة التي أراد أن يسوق بها فكره حتى لا يختلط معناه بمعاني الألفاظ الدارجة في الحياة اليومية؛ فنفر الناس من دراسته بادئ ذي بدء نفورا أنساهم أنه هو شريك برتراند رسل في تأليف «أسس الرياضة»، كما أنساهم أن كتاباته الميتافيزيقية الأخيرة إن هي إلا امتدادات وتطبيقات للمنطق الرياضي الذي اشتغل به في الشطر الأول من حياته الفكرية، لكن الأعوام الأخيرة قد شهدت تغيرا في موقف الدارسين إزاء وايتهد، فرأينا المؤلفين والمعلقين يتجهون إلى ما كانوا قد أهملوه؛ وذلك لأنهم وجدوا في كتاباته مناقشة دقيقة عميقة لكثير من المشكلات التي يهتم بها فلاسفة العلم في يومنا الراهن، فلعله أن يكون من طليعة الفلاسفة الذين استخدموا المنطق الرمزي في معالجتهم للمشكلات المجسدة التي تصادفنا في مجرى الخبرة.
لقد كان الظن بادئ ذي بدء أن وايتهد بدأ حياته الفكرية رياضيا؛ علمي التفكير، لكنه انتهى آخر الأمر إلى شطحات ميتافيزيقية لا تمت بسبب إلى حياته العلمية الأولى. لكن الأبحاث التي أخذت هذه الأعوام الأخيرة تترى عن فلسفته، توضح كيف يتسق إنتاجه أولا مع آخر، فلا فرق بين علميته الأولى وميتافيزيقيته الأخيرة في المبدأ والأساس، بل هما تعبيران عن فكر واحد متسق مع نفسه.
والحق أن فيلسوفنا قد اجتاز مراحل ثلاثا يمكن تمييزها في مؤلفاته.
Shafi da ba'a sani ba