وأمثال هذا اللفظ الزائف كثير، نديره بيننا في الحديث والكتابة، ونظن أننا قد أفهمنا وفهمنا؛ حتى يعن لنا أن نقف منه موقف المدقق، فيتبين ساعتئذ أننا في الحقيقة إزاء لفظ لا يعنى شيئا كنا أدرناه فيما بيننا على ثقة منا بعضنا ببعض، وعلى عقيدة منا بأن الكلمة ما دامت مما يكتبه الناس ومما ينطقون به، فيستحيل أن تكون قد خلقت عبثا، ولا بد أن يكون لها معنى! وشبيه بهذا أن يتداول جماعة منا ورقة نقد زائفة أمدا من الزمان قد يطول، على عقيدة منهم بصدق قيمتها؛ حتى تنتهي إلى من ينظر إليها نظرة الفاحص، فإذا هي مزورة؛ وقد تهتم الجماعة لهذا اهتماما يحفزها إلى تعقب المجرم الأول الذي أنزل في السوق هذا الزيف، ولو كشفوا عنه لسجنوه، فيا ليت نصيب مزور الألفاظ كان كهذا النصيب؛ ليستريح الناس من مضلل وضلال!
2
إنني إذا قلت هذا صاحوا: «مادي لعين، يريد أن يقبل الكلمة إذا دلت، وأن ينبذ الكلمة إذا لم تدل!» نعم؛ إنه لا يعجبهم أن نشترط للاسم أن يكون له مسمى خوفا على آلاف الكلمات التي يتداولها الناس دون أن يكون لها مسميات تقابلها في عالم الأشياء. فتراهم يسألونك مستنكرين: ماذا نحن صانعون بالكلمات التي تمس مشاعرنا وإن لم يكن لها مدلولات محسوسة؟ ماذا نحن صانعون بالحب والكراهية والغضب والحرية والمجد؟ أنقول ألفاظا كهذه أم نمحوها ما دامت مدلولاتها ليست شجرا من الشجر ولا حجرا من الحجر؟ أين نذهب بآمالنا وآلامنا وحالاتنا النفسية كلها؟ هل نعبر عنها أو نكم عنها الأفواه؟
وهاهنا نفرق للقارئ تفرقة واضحة بين نوعين من الكلام حتى لا يختلط عليه الأمر: فكلام يراد به وصف عالم الأشياء وما يتعاوره من أحداث، وآخر ينصرف به قائله إلى داخل نفسه لا إلى خارجها. فإذا نطقت بعبارة من النوع الأول وقعت عليك تبعة الإثبات، وأما إذا نطقت بعبارة من النوع الآخر فلا إثبات هناك ولا نفي. والعبارات العلمية هي من النوع الأول، وأما العبارات الفنية فمن النوع الآخر.
هبني وقفت مع زميلي إلى جوار شجرة، فقلت عنها: إنها من أشجار التوت وعمرها ستون عاما؛ وقال عنها زميلي: إن لونها يبعث البهجة في نفسه كلما رآها؛ فماذا يكون الفرق بين عبارتي وعبارته؟ الفرق هو أنني أتصدى لوصف الواقع الخارجي الذي لا دخل لمشاعري فيه؛ فلست أنا الذي جعلتها تثمر توتا، ولا أنا الذي ألزمتها أن تكون بهذه الحداثة أو هذا القدم؛ إنني أصف بعبارتي وقائع ليست جزءا من نفسي؛ ولذلك فأنا بمثابة من يدعي أمرا ينسبه للشجرة، والبينة على من يدعي، فلو طالبني زميلي - ومن حقه أن يطالبني إذا أراد - بإثبات ما أقوله وجب أن تكون لدي الوسائل التي يستطيع هو أن يشاركني فيها، والتي تثبت أنني قلت الحق عن الشجرة التي وصفتها بما وصفت؛ وأما عبارة زميلي التي قال بها: إن الشجرة تبعث البهجة في نفسه كلما رآها، فمن نوع آخر، هي عبارة لا صواب فيها ولا باطل، ولا إثبات ولا نفي؛ إنه «يعبر» عن ذات نفسه ولا «يقرر» أمرا عن الشيء الخارجي؛ وإذن فليس من حقي أن أطالبه ببرهان؛ وكيف يكون البرهان والأمر خاص به؟ إنه إذا كانت الشجرة نفسها تبعث الكآبة في نفسي والبهجة في نفسه فلا تناقض هناك؛ لي عندئذ شعوري، وله شعوره، لكن ما هكذا الأمر لو قلت عن الشجرة: إنها تثمر توتا، وقال هو: بل إنها تثمر الجميز، أو قلت: إن عمرها ستون عاما، وقال هو: بل مائة؛ فها هنا يكون بين قولينا تناقض، وعلى أحدنا أن يثبت للآخر صدق دعواه.
وأعود فأقول : إن «العلم» كله هو مما يقام على صدقه البرهان، وأما في «الفن» فلا برهان على ما يقوله الفنان. ونحن إذ نقول عن قطعة فنية إنها «صادقة» فإنما نعني «بالصدق» شيئا غير الذي نعنيه حين نقول عن نظرية في العلم إنها «صادقة»؛ فصدق النظرية العلمية مداره الخارج، وصدق القطعة الفنية مداره الباطن. صدق النظرية العلمية علاقة بينها وبين أحداث العالم الخارجي، وصدق القطعة الفنية علاقة بينها وبين أصداء العالم الداخلي. صدق النظرية العلمية لا يحتمل إثبات نقيضها؛ فلو قال عالم: إن الضوء يسير بسرعة كذا، وجب ألا يقول مرة أخرى: إنه يسير بسرعة أخرى في الظروف نفسها؛ وأما صدق القطعة الفنية فيحتمل التناقض، بل ليس هو مما يخضع لمبدأ التناقض أو عدمه؛ فلا حرج على الأديب - مثلا - أن يبتهج لشجرة التوت يوما، وأن يكتئب لها يوما. وقد يكون صادقا في كلتا الحالتين؛ لكن الحرج كل الحرج على العالم أن يقول عن الشجرة: إنها تثمر التوت؛ ثم يصبح ليقول عنها هي نفسها: إنها تثمر الجميز!
وماذا أريد بهذا؟ أريد أن أقول: إنك إذا أردت أن تسلك سبيل الفن فيما تقول - فقل ما شئت ما دمت تنصت إلى خطوات نفسك، أي أن الدنيا الخارجية لا تلزمك شيئا، ولا تنهاك عن شيء. قف أمام الشجرة وقل - إن شئت - إنني أرى سحابة خضراء سابحة في فضاء لا نهائي، وأنا من تلك السحابة قطرة راقصة؛ ولن يعترضك معترض بأن الذي أمامك شجرة لا سحابة، وأنها مثبتة في الأرض بجذورها، وليست هي بسابحة في الفضاء، وأنك قائم على قدميك فوق اليابس، ولست بقطرة ماء راقصة. لن يعترضك معترض بهذا لأنك لم تزعم لأحد أنك تصف ما تري كما يصفه العالم إذا وصف. وأما إن زعمت أنك إنما تصف ذلك العالم كما هو واقع فها هنا أنت مقيد بأشياء ذلك العالم وحوادثه، ولا يجوز لك أن تقول عنه إلا ما تستطيع الإشارة إليه لمن يريد منك أن تشير.
ونعود إلى هؤلاء الذين يسألوننا مستنكرين: إذا كنت تريد للفظ أن يشير إلى مسمى محسوس، فماذا نحن صانعون بمشاعرنا والتعبير عنها؟ نعود إلى هؤلاء لنجيبهم قائلين: إن الأمر مرهون بالدعوى التي يدعيها المتكلم: فهل يدعي أنه يصور الخارج أو أنه ينفعل بما يدور في نفسه؟ إن كانت الأولى فلا مندوحة له عن جعل ألفاظه رموزا تشير إلى وقائع محسوسة، وإن كانت الأخرى فهو حر من هذا القيد.
3
فالأمر إذن أمر رموز لغوية ومدلولاتها، فهذه الرموز إما أن نستخدمها أداة لتصوير ما هو كائن في عالم الأشياء، (وهذه لغة العلوم وما يجري مجراها)، وإما أن نستخدمها أداة للتعبير عما تختلج به نفس الإنسان من داخل، (وهذه لغة الفنون وما يجري مجراها) ولا ثالث لهذين الفرضين.
Shafi da ba'a sani ba