وننتقل الآن من إجمال إلى تفصيل، لنرى كيف أن مناشط الإنسان على تنوعها واختلافها كلها رمزية الطابع، وسوف أستخدم فيما يلي كلمة «رمز» وحدها لتدل على «الرمز» و«العلامة» معا، وذلك لسهولة استعمالها؛ سأبين كيف أن الرمز هو صلب الحياة الاجتماعية، ثم هو صميم العلم والفن والأدب والدين والأخلاق.
أما أنه صلب الحياة الاجتماعية، فأمر بديهي واضح، إذ يكفي أن نذكر أن هذه الحياة الاجتماعية مستحيلة بغير لغة، واللغة علامات ورموز.
إن اللغة وهي منطوقة مجموعة من أصوات، وكذلك وهي مكتوبة مجموعة من ترقيمات على الورق وغيره، وفرق بعيد بعد ما بين السماء والأرض بين الكلمة أو العبارة من حيث طبيعتها وهي أصوات منطوقة أو ترقيمات مكتوبة، وبين الحالات التي جاءت تلك الكلمة أو العبارة لترمز إليها؛ وأين موجة «صوتية» أنطق بها، أو قطرة من مداد أخطها على الورق، أين هذه من نشوة يحس بها صاحبها، أو حزن أو شبع أو جوع أو رضى أو سخط؛ بل أين الموجة الصوتية المنطوقة أو الكلمة المكتوبة بقطرة من مداد، أين هذه من الشيء المادي الحقيقي المسمى بها؟ فما أبعد الفرق بين النار الفعلية في العالم الخارجي وبين كلمة «نار» وبين الجنيه الحقيقي الفعلي الذي أشتري به ثيابا وطعاما، وبين كلمة «جنيه» وهكذا وهكذا؟
الحق أننا قد ألفنا استخدام اللغة إلفا شديدا حتى لنظن أن الكلمة هي نفسها الشيء الذي جاءت الكلمة لتدل عليه، فنظن أن كلمة «كتاب» أو كلمة «منضدة» هي نفسها الكتاب أو المنضدة؛ ومن نتائج هذا الإلف الشديد، أن نشأ خطأ كبير في فهم اللغة، وذلك عندما ترد كلمات بغير مدلولات حقيقية فيتعذر جدا على معظم الناس أن يتصوروا كيف يمكن أن تكون هنالك كلمات بغير مدلولات، ومن ثم يفرضون لها المدلولات فرضا حتى لو لم تصادفهم في خبرتهم بالواقع.
اللغة - إذن - بكل ما لها من أهمية وخطر في الحياة الاجتماعية وبنائها، هي مجموعة من علامات ورموز تختلف باختلاف الأمم، فلكل أمة مجموعتها الرمزية، وبغيرها يستحيل التفاهم؛ وتستحيل الصلة بين الأفراد. والأمر سهل عندما نستخدم الكلمات للدلالة على الأشياء الخارجية، لأن الكلمة والشيء كليهما يكونان من قبيل الكائنات المادية، وغاية ما في الأمر ترانا نرمز بكائن مادي إلى كائن مادي آخر، لكن الأمر لا يكون بهذه السهولة كلها عندما نستخدم الكلمات للدلالة على الحالات الشعورية الداخلية؛ فعندئذ تكون العملية الرمزية عبارة عن تحويل ما ليس بمادة في طبيعته إلى ما هو مادي بطبيعته؛ إذ تحول حالات الفرح والحزن والارتياح والغضب والحب والكراهية - وهي حالات نفسية - إلى كلمات تنطق أو تكتب، والنطق هواء والكتابة مداد، والهواء والمداد كلاهما مادي، لكنك تضطر إلى ذلك اضطرارا؛ إذ لا وسيلة لاطلاع سواك على حالاتك الداخلية إلا إذا عرضتها أمام عينيه أو على مسمع من أذنيه، وهذا هو نفسه ما جعل أصحاب الوجدان العميق، كالمتصوفة مثلا، يتشككون في قيمة ما يقال وما يكتب، إذ المهم في الحالة الوجدانية أن تمارس وتعاني لكي تدرك، لكن ما حيلة الإنسان ولا وسيلة أمامه - إذا أراد توصيل حالته إلى سواه - إلا أن يلجأ إلى الرمز؟
وكثيرا ما يلجأ الإنسان إلى الرمز بغير كلمات اللغة، فيستخدم الألوان لتدل على ما يريد الدلالة عليه. فاللون الأبيض - مثلا - قد يرمز به إلى النقاء والصفاء والطهر؛ لا بل دقق النظر هنا في كلمة النقاء، أو كلمة الصفاء ، تجدها هي نفسها استخداما رمزيا جاء ليدل على حالة عقلية أو نفسية معينة، وإلا فكيف تكون الحالة الداخلية منقاة؟ مصفاة؟ هكذا نري أنه إذا كان المرموز إليه حالة باطنية، كان لا بد من تحويلها إلى صورة مادية بينها وبينها شبه بوجه من الوجوه، فحالة الطهر - مثلا - شبيهة بالماء المصفى أو بالغلال التي نقيت من الشوائب، وهذه وهذه شبيهتان باللون الأبيض الخالي من البقع الملونة بألوان أخرى، تشبيه في تشبيه، أو قل: إنه رمز في رمز ولا مناص من ذلك. •••
إن تعبير الإنسان عن حياته الخلقية والفنية، كان يصبح ضربا من المحال بغير عملية الرمز؛ وحسبك أن تذكر ما شئت من صفات خلقية أو صفات جمالية، لتعلم أنها في حقيقتها رموز إلى الحقائق، وليست هي الحقائق نفسها.
إننا نصف الفعل المعين أو الشخص الفاعل بأنه رفيع أو شريف أو سام، والارتفاع والشرف والسمو كلها كلمات تصف حالات معينة من الأرض أو السماء. وكذلك قل في أضداد هذه الصفات، كالدنيء والسافل والوطيء ... إلخ. فلماذا يكون الجبل أفضل من الوادي حتى نتخذ من علو الأول، ومن انخفاض الثاني مثل هذه الدلالات الخلقية؟ إن الواقع في ذاته لا يبرر ذلك، لكنها ضرورة الرمز؛ ففي أنفسنا مشاعر إزاء قيم معينة، ونريد إخراجها في صورة مرئية أو مسموعة، مع أنها هي نفسها لا هي من المرئي ولا من المسموع، فلا حيلة أمامنا إلا أن نرمز معتمدين في ذلك إلى شبه قريب أو بعيد بين المرموز به والمرموز إليه.
وحسبك أن تنظر في كلمة رمزية واحدة، هي كلمة «الضوء» لترى كم استخدمها الإنسان، وبأي الصور استخدمها، ليرمز بها إلى حالات داخلية أراد أن يعبر عنها؛ فالضوء في ذاته ظاهرة طبيعية، كالهواء والماء والصخر والمطر والصوت والكهرباء، لكن الإنسان قد استخدمه ليدل به على القداسة وعلى الفضيلة وعلى الذكاء وعلى الجمال؛ كما استخدم ضده الظلام ليدل به على مهاوي الرذيلة وعلى الغباء وعلى القبح بشتى صنوفه وضروبه. يجوز أن يكون الأساس في هذا الرمز هو القيمة البيولوجية للضوء ، فبغيره لا تكون حياة، ثم انتقل حب الإنسان للحياة إلى حبه لعامل بقائها وهو الضوء، لكن مهما يكن الأساس، فالمهم عندنا الآن هو عملية الرمز، حين لم يجد الإنسان وسيلة يعبر بها عن حالة شعورية إزاء مواقف معينة سوى أن يتخير ظاهرة طبيعية ليرمز بها إلى الحالة الداخلية، أملا منه في أن يكون هنالك شبه بين الخارج والداخل.
وإن مثل هذا الانتقال من مجال إلى مجال لشائع في كلامنا شيوعا شديدا، فمن تمتعنا بدفء النار في الشتاء ننقل الأمر إلى علاقتنا بالأصدقاء حين تمتعنا متعة شبيهة بها، فنقول عن العاطفة عندئذ إنها دفيئة؛ ومن تمتعنا بحلاوة الأشياء الحلوة على مذاق اللسان، ننقل الأمر إلى غير هذا المجال، فنقول عن شخص إنه حلو الطباع، وهكذا.
Shafi da ba'a sani ba