6
ودارت المعركة الرابعة حول موضوع لا تبلى جدته ولا يذهب عنه خطره، لأنه وثيق الصلة بقضية فكرية هي من أهم ما يشغل الإنسان في حياته من قضايا، ألا وهي قضية الحرية الإنسانية؛ ما مداها؟ أنجعل الفرد الإنساني كيانا مستقلا بذاته عن سائر الذوات وسائر الأشياء، حتى لنجعل من كل فرد عالما قائما بذاته، فنضمن له أوسع ما يمكن ضمانه من حرية، أم نجعله تجسيدا لحقيقة نوعية تشمله وتشمل سواه من أفراد نوعه، وبذلك لا يجاوز أن يكون ممثلا لطبيعة معينة مفروضة عليه لا يملك الفكاك من حدودها وقيودها؟
وقد أخذت الفلسفة الوجودية الحديثة - على اختلاف صورها - بفردية الوجود الإنساني، لتجيء ردا على طغيان الجماعة على الفرد وتحكمها في ضميره، وهو طغيان كثرت أشكاله في عصرنا الحديث بما ظهر فيه من ضروب «الشمولية» التي تلغي وجود الأفراد بالقياس إلى وجود «الكل» كما هي الحال في الأنظمة الشيوعية والفاشية والنازية.
وكان في مقدمة من اضطلع بالدفاع عن الوجود الفردي الحر الفعال، الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «الزمان الوجودي»؛ فالوجود عنده نوعان «فزيائي وذاتي» الثاني وجود الذات المفردة، والأول كل ما عدا الذات، سواء أكان ذاتا واعية أم كان أشياء، وليس ثمة فارق ضخم بين وجود الغير كذوات واعية أو كأشياء جمادية، فكلاهما بالنسبة إلى الذات المفردة من ناحية المعنى سيان، فالوجود الذاتي وجود مستقل بنفسه في عزلة تامة من حيث الطبيعة عن كل وجود للغير ، ولا سبيل إلى التفاهم الحق بين ذات وذات، إذ كل منهما عالم قائم وحده. أما وجود الغير فلا نسبة له إلى الذات إلا من حيث الفعل، ولذا لا تنظر إليه الذات إلا من هذه الناحية وتبعا لها يتحدد موقفها بإزائه» (ص135).
إن الذات الإنسانية المفردة الفريدة التي لا تنظر إلى سائر الذوات الأخرى وسائر الأشياء إلا من حيث هي وسائل تحقق لها إرادة الفعل، أقول إن هذه الذات الإنسانية كائنة حتما في زمان متعين الحدود له أول وله آخر وله امتداد محدود بهذين الطرفين، وهي خلال هذه الفترة الزمانية المحدودة لا تنفك محققة بأفعالها ما هو في وسعها تحقيقه من إمكانات، لكن الإمكانات لا تحدها حدود، وأما الفعل المتحقق فمحدود، ومن ثم كان سعادة الذات وشقاؤها؛ سعادتها بما تحققه، وشقاؤها بما لم تحققه. إن مجرد قولنا إن الإنسان حر يتضمن بالضرورة أنه يختار من بين الممكنات اللامتناهية أفعالا محدودة العدد؛ أي أن حرية الإنسان قاضية حتما على الإنسان الحر بقصور في سعادته، لأن السعادة لا تتم إلا بالتحقق الكامل لكل الإمكانات. وإذن «فالوجود شقي بطبعه، وسيظل شقيا؛ لأن الإمكانيات لا متناهية واللامتناهي لا يمكن اجتيازه، فإذا كانت السعادة الكلية لن تتحقق إلا بإحراز الكل، وإحراز الكل معناه اجتياز اللامتناهي، واجتياز اللامتناهي مستحيل، فالسعادة الكلية - إذن - مستحيلة» (ص222).
ولا يزول عن الإنسان شقاؤه إلا بأحد طريقين. فإما أن يجتاز اللامتناهي وهذا مستحيل عليه، وإما أن يبعد الإمكانات وهذا معناه إبعاد الفعل، وفي هذا محو لطبيعته الأصيلة التي هي فعل قبل أن تكون أي شيء آخر. لقد حاول فلاسفة أن يحققوا للإنسان سعادة كاملة فوضعوه في سرمدية لا تحدها حدود الزمان، لكنهم بهذا إنما يضعونه في حياة خاوية لا معنى لها «وقد آن للإنسان أن يتخلص من كل هذه الأوهام التي تقرر وجودا غير الوجود المتزامن بالزمان، فهذا واجب لا بد من أدائه إذا كان لنا أن نعيد للإنسان معناه وقيمته؛ ولهذا فإننا نقرر هنا في صراحة تامة، وبلا أدنى مواربة، أن كل وجود غير الوجود المتزامن بالزمان وجود باطل كل البطلان، وأن السرمدية المضادة للزمانية وهم من أشنع الأوهام» (ص223). •••
وهذه النتيجة الأخيرة هي التي تقتضي أن يرد عليها بما يخفف من حدتها تخفيفا يلائم بينها وبين جونا الفكري العام، ولست أعرف من تصدى للرد الجاد من مفكرينا سوى العقاد، لأنه، بعد أن حمد للوجودية تقريرها لحرية الضمير عند الفرد الإنساني، أخذ عليها خلطها بين وجود الفرد والوجود كله، وظنها أنه لا مكان لحرية الفرد إلا إذا ألغينا حقيقة النوع، على حين أن «وجود النوع الإنساني وجود حقيقي صادق في الحس كصدق وجود الفرد أو أصدق. ووجود النوع الإنساني حقيقة بيولوجية من حقائق اللحم والدم، وليس كما يقولون فرضا من فروض التصور في الأذهان، ولا يتم كيان الفرد نفسه إلا إذا نضجت فيه الوظائف النوعية التي يتحقق بها وجود النوع ...
واختلاف الأفراد في ملامح الشخصية لا ينفي التشابه بينهم في الخصائص النوعية ولا يجعل كلا منهم عالما مستقلا بأخلاقه وآدابه ومواطن اختياره واضطراره» (بين الكتب والناس، ص15-16).
وليس فيما كتبه العقاد رد مباشر على الدكتور بدوي، فضلا عن أنه لا يقع منه موقع النقيض بل هو أقرب إلى من أراد أن يؤلف بين النقيضين لو كان هناك قول ينقض ما ذهب إليه الدكتور بدوي في مذهبه الوجودي، أضف إلى ذلك كله أن العقاد يكتب عن الوجودية على إطلاقها، وللدكتور بدوي وجوديته المتميزة من سواها.
لم تكن هذه المعارك الأربع هي كل ما شهده الميدان الفلسفي عندنا من معارك لكني أراها أحق بالإثبات من سواها.
Shafi da ba'a sani ba