ولكي تتم المقابلة ذكر الإمام أصول الإسلام وبخاصة ما له علاقة منها بالحث على العلم - وهو موضوع النقاش - فالأصل الأول هو النظر العقلي لتحصيل الإيمان، وقد «بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبا غير واقف عند الظن فهو ناج. فهل يكون ركون إلى العقل أوسع من ذلك وأقوى؟ والأصل الثاني للإسلام هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، فإذا تعارض العقل والنقل أخذنا بما دل عليه العقل. وأما موقفنا إزاء المنقول فأحد اثنين: إما أن نسلم بصحته تسليما نعترف فيه بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله، وإما أن نحاول تأويله تأويلا يجعل معناه متفقا مع ما أثبته العقل؛ وإن هذين الأصلين من أصول الإسلام ليكفيان وحدهما للدلالة على موقفه من العلم، الذي هو أظهر ما تظهر فيه الحجة العقلية.» (ويذكر الإمام من أصول الإسلام ثمانية، ويتعقب آثارها بشيء من التفصيل من حيث مناصرة البحث العلمي والنظر العقلي).
4
لم تكن الدعوى ونقيضها في هذه المعركة على المستوى الفلسفي بالمعنى الخاص لكلمة «فلسفة» بل كانت على هذا المستوي بالمعنى العام للفلسفة، وهو المعنى الذي يتسع ليدخل في رحابه الجدل الديني على نحو ما كان شائعا عند فرق المتكلمين. وعلى أي حال فالذي يهمنا من الأمر هو ما حدث من صدام بين فكر وافد وتراث أصيل؛ كيف كان وإلى أية نتيجة أدى.
إن لقاء التعارض بين هانوتو - وغيره - من جهة، والشيخ محمد عبده من جهة أخرى لم يقتصر على فعل ورده بحيث ينتهي الأمر إلى صفر كأن لم يحدث تعارض ولا لقاء، بل كان من أثره أن تنبهت أذهاننا - ابتداء من الشيخ نفسه - إلى وجوب أن نعيد النظر إلى تراثنا الفكري وإلى السائد بيننا من عرف وتقليد، لنسلط عليه أشعة من تفكير العصر الحديث - وهو في صميمه تفكير علمي - لنرى على أي وجه نوائم بين أنفسنا وبين روح العصر بحيث يتكون من هذه المواءمة شخصية جديدة لا تفرط في ملامحها الأصيلة ولا تغمض العين على ضرورات العصر الراهن.
وفي سبيل بناء هذه الشخصية العربية الجديدة نشبت صراعات فرعية بين رجال الفكر عندنا، فمنها صراع هو استمرار لما قام به الشيخ محمد عبده من دحض لمفتريات خصوم الإسلام، دفعا لكل شبهة عن صلاحية أصولنا الثقافية للبقاء، حتى وإن اقتضى أمر بقائه ملاءمة تجذ الفروع وتبقي على الجذور. وكان عباس محمود العقاد هو فارس هذه الجولة، يمتطي الجواد نفسه الذي امتطاه من قبله الشيخ محمد عبده، مع زيادة في محصول الثقافة الغربية الجديدة وزيادة في التقريب بين الضدين ليلتئما في كيان عضوي واحد، على أن الإضافة الحقيقية التي أضافها العقاد إلى الإمام محمد عبده والتي جعلته بمثابة «التأليف» الذي يؤلف بين الدعوى ونقيضها في نتاج يحافظ عليهما معا ويعلو درجة، هي أنه لم يسلك مسلك الأستاذ الإمام في اصطناعه لمنهج هو أقرب إلى منهج المتكلمين الذين يولدون عن الأصول الدينية نتائجها دون أن يعرضوا لهذه الأصول نفسها، وبذلك يقنعون بكلامهم من يتفق معهم على الإيمان بتلك الأصول. وأما المنكر لتلك الأصول فيوشك ألا يكون الحديث موجها إليه؛ وأما منهج العقاد فهو منهج الفلاسفة الذين لا يبدءون بفروض مسلم بصحتها، ليكون الحديث موجها إلى المؤمن والمنكر على حد سواء.
يقول العقاد في فاتحة كتابه «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» إنه «لا محل للكلام على فضل دين من الأديان ما لم يكن أمر الدين كله حقيقة مقررة أو ضرورة واضحة، ولا معنى كذلك لأن نقصر الخطاب على المؤمنين المصدقين ولا نشمل به المتشككين والمترددين بل المنكرين والمعطلين؛ لأن المتشكك والمعطل أولى بتوجيه هذا الخطاب من المؤمن المصدق.»
ويبدأ العقاد بتحليل فكرة «الدين» نفسها - بغض النظر عن هذا الدين أهو هذا الدين أم ذاك - ليرد عنها ما قد تفهم به من دواعي التشكك أو الرفض، حتى إذا ما انتهى إلى نتيجة ترضي أصحاب الأديان جميعا وهي أن الدين ضرورة إنسانية، يعود فيتناول أوجه المفاضلة بين الإسلام وغيره من الديانات ليجد في الإسلام كل ما يطلب من عقيدة دينية، لكنه في هذا الكتاب وفي غيره (مثل كتابه «الفلسفة القرآنية» وكتابه «التفكير فريضة إسلامية») يلح إلحاحا شديدا على وجوب احتكام الإنسان إلى عقله الحر ، وفي هذا الاحتكام تكمن نقطة الالتقاء بين تراثنا من جهة وقبولنا لحضارة العلم الحديث من جهة أخرى.
لكن الذي يلفت النظر في هذا الصدد هو أن العقاد الذي ألح هذا الإلحاح كله على الجانب العقلي في تفهم العقيدة والدفاع عنها، وفي وجوب اضطلاع الفرد بالتفكير العقلي لأنه فريضة إسلامية، قد دخل في معركة جانبية مع الزهاوي في أهمية العقل بالنسبة إلى أهمية الخيال والعاطفة، وذلك أن الزهاوي ذو فلسفة مادية علمية يؤمن بالعقل وقدرته دون سائر القوى الإنسانية، فتصدى له العقاد مقيما له الحجة على أن الخيال والعاطفة لازمان للإنسان لزوم العقل أو هما ألزم، فيقول مشيرا إلى الزهاوي «يريد أن يعيش أبدا في دنيا تضيئها الشمس لا تغشيها سحب النهار ولا تنطبق فيها الأجفان ولا تناجى فيها الأحلام. وليست دنيا الحقيقة كلها نهارا وشمسا ولكنها كذلك ليل وغياهب لا تجدي فيها الكهرباء ... وقد خلق الخيال والبداهة للإنسان قبل أن يخلق العقل ثم جاء العقل ليتممها ويأخذ منهما لا ليلغيهما ويصم دونهما أذنيه.» لقد ظن الزهاوي - هكذا قال عنه العقاد في هجمته الناقدة - أن الإنسان لا يتصل بالكون إلا عن طريق عقله، مع أن العقل وحده لا يكفي، فانظر إلى الزهاوي نفسه وهو يعرض إحدى نظرياته الفلسفية التي أسماها بنظرية الدور، تر أن دفعة الحياة قد حركته إلى الكلام قبل أن يستطيع إخضاع هذا الكلام لقواعد المنطق العقلي «علي أنه بعد منطق لم يمتزج بالحياة في الصميم، لأنه يتعزى بالعلم، والحياة لا يعزيها أن تعلم بأنها خالدة إنما يعزيها أن تشعر بالخلود.»
5
وننتقل إلى معركة ثالثة هي في صميمها معركة حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ فمن المعلوم أن في الفلسفة طريقين للنظر إلى هذا الموضوع، أحدهما يجعل طريق المعرفة بادئا من داخل الإنسان متجها إلى خارجه، والآخر يجعله بادئا من خارج الإنسان متجها إلى داخله. والمثاليون والعقليون هم من أنصار الطريق الأول، والتجريبيون والعلميون هم من أنصار الطريق الثاني؛ الأولون يرون أنه لا بد من أصول ومقولات مجبولة في فطرة العقل على أساسها، يمكن استنباط دقائق المعرفة كما تستنبط الرياضة من مسلماتها دون حاجة منا إلى اللجوء إلى مشاهدات خارجية؛ والآخرون يرون أنه لا معرفة ما لم نبدأ بتحصيل معطيات حسية تجيئنا عن طريق الحواس مرئيات ومسموعات وملموسات إلى آخر ما قد تخصصت حواسنا في نقله إلينا عن العالم الخارجي، عالم الأشياء، على أن من الفلاسفة من يحاول الجمع بين الطريقين في عملية المعرفة ليقول إنه لا بد من مقولات العقل ومبادئه إلى جانب معطيات الحواس لكي يتم تحصيل المعرفة، لكن المعول في تقسيم المذاهب الفلسفية في موضوع المعرفة ووسيلتها هو: لأي جانب من الجانبين تكون الأولوية المنطقية؟ فمن جعل من الفلاسفة الأولوية للعقل، كان من المثاليين أو العقلانيين، ومن جعل الأولوية للحواس، كان من التجريبيين.
Shafi da ba'a sani ba