على أن الاتجاه الروحي يظهر أقوى ما يظهر في «التصوف» حين لا يقتصر أصحابه على اتخاذه موضوعا للدراسة فحسب، بل يصبح عندهم وجهة نظر ينظرون منها إلى الحياة الفكرية كلها. ومن هؤلاء الدكتور محمد مصطفى حلمي فهو يقول في كتابه «ابن الفارض والحب الإلهي» (1945م) (ص66 إلى 68): «إن الصوفية بأذواقهم الروحية وأحوالهم النفسية، ربما كانوا أقدر من العلماء والفلاسفة على إدراك الحقيقة الخفية ومعرفة الذات العلية، لا سيما أن العلماء يصطنعون منهجا تجريبيا قوامه المشاهدة الحسية والتجربة الخارجية، والذات الإلهية ليست من المادة في شيء ولا سبيل إلى إخضاعها لهذا المنهج التجريبي، وليس أدل على ذلك مما نلمسه في المذاهب المادية من عجز وقصور عن الوصول من أمر الحقيقة الإلهية إلى حل يلائم طبيعتها ويبين خصائصها في غير ما تشبيه، فنيوتن يفسر عالم المادة ودارون يفسر عالم الحياة، ولكن تفسيرهما من شأنه أن يجعل هذا العالم أو ذاك خلوا من كل روحانية ...» ويمضي المؤلف في القول بأن منهج العلوم القائم على المشاهدات الحسية والتجارب، إن صلح لدراسة الجانب المادي، فهو لا يصلح للبحث فيما يجاوز مظاهر الكون، أي أنه لا يصلح للبحث في الذات الإلهية، فإذا أريد البحث في هذه الذات الإلهية، كانت وسيلتنا هي الذوق الروحي، وهاهنا يكون الفرق بين كل من العلم والفلسفة من جهة والتصوف من جهة أخرى «فالعلم يؤسس القوانين المستندة إلى المشاهدة الخارجية والتجربة الحسية، والتي يفسر بها أحداث الكون وظواهره دون أن يتجاوز هذه الأحداث والظواهر إلى ما وراءها، والفلسفة تحاول أن تتعرف حقائق الوجود وحقيقة مبدعه ومفيضه عن طريق النظر العقلي ... أما التصوف فإن له غاية أسمى من غاية العلم والفلسفة. إذ هو يرمي إلى الاتصال المباشر بحقيقة الحقائق ويرمي إلى شيء آخر أبعد من هذا الاتصال، وهو الشعور بالاتحاد مع هذه الحقيقة العليا.»
وعلى هذا الأساس فإنه يتعين على الصوفي - وكأنما يعنى المؤلف نفسه - «أن يكون أسمى ما يكون عن عالم «المحسوس بما فيه من أحداث متغيرة، وظواهر متبدلة، وأعراض زائلة وأن يترفع بقلبه وذوقه عن النظر إلى الأشياء بعين الكثرة التي لا يعرف الماديون عينا غيرها يبصرون بها، وأن يتخذ سبيله إلى كشف الحقيقة من الإشراق الذي ينبثق من أعماق الروح وقد صفت وتحررت من سجنها المادي.» وهكذا بلغ المؤلف في كتابه عن «ابن الفارض» غاية المدى في امتزاج الكاتب بموضوعه في ميدان التأليف الفلسفي. وإن هذه الحساسية نفسها بين الكاتب وموضوعه لتبدو في كتابه «الحياة الروحية في الإسلام» (1945م). •••
كان البحث في الفلسفة الإسلامية من أهم ما قام به رجال الفلسفة عندنا، ففي هذا الباب أصدر الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885-1947م) كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة «الإسلامية»
9 (1944م) الذي وقف فيه وقفة العالم المحايد، فهو يختفي وراء نصوصه اختفاء من لا يريد أن يكون له ميل مرجح سوى ما توجبه النصوص، فالكتاب يشتمل على بيان لمنازع الغربيين والإسلاميين ومناهجهم في دراسة الفلسفة، فالباحثون الغربيون في طريقة عرضهم للموضوع تراهم وكأنما يقصدون إلى القول بأن في الفلسفة الإسلامية عناصر أجنبية، ثم يأخذون في رد تلك العناصر إلى مصادرها غير العربية وغير الإسلامية، موضحين أثرها الذي يرونه فعالا في توجيه الفكر الإسلامي. وأما الباحثون الإسلاميون فيغلب عليهم أن يزنوا الفلسفة بميزان الدين، لكن مؤلف «التمهيد» يتخذ لنفسه منهجا آخر في درسه لتاريخ الفلسفة الإسلامية، إذ «هو يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى وتتبع مدارجه في ثنايا العصور وأسرار تطوره.» (من المقدمة) لأنه يري «أن البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يكون أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية حين نبدأ باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخلوصها، ثم نساير خطاها في أدوارها المختلفة من قبل أن تدخل في نطاق البحث العلمي، ومن بعد أن صارت تفكيرا فلسفيا.» (ص101)؛ والنتيجة العامة التي يستخلصها القارئ من هذا الكتاب هي أن للمسلمين فلسفة خاصة بهم، مطبوعة بطابعهم، لها بداياتها البسيطة وأدوار نموها وازدهارها. •••
ونتيجة كهذه أيضا هي التي انتهي إليها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور في كتابه «في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه»، فهو منذ مقدمة الكتاب يعيب على الباحثين في الفلسفة الإسلامية أنهم يبدءون بفروض سابقة عن العقلية السامية مثلا، أو عن العرب بصفة خاصة وطريقة تفكيرهم، وبذلك ينتهون إلى نتائج قد تكون صادقة بالنسبة إلى تلك الفروض، لكنها هي وفروضها معا ربما كانت بعيدة عن الحق والواقع؛ ذلك لأن تلك الفروض في الغالب «لم توضع بعد موضع دراسة كاملة، ولم تستمد من التفكير الإسلامي نفسه في أصوله ومصادره، وإنما أملتها صورة مشوهة لما كان متداولا من المخطوطات اللاتينية.» (ص4)، ويقرر الدكتور مدكور في توكيد صريح بأن «هناك فلسفة إسلامية امتازت بموضوعاتها وبحوثها، بمسائلها ومعضلاتها، وبما قدمت لهذه وتلك من حلول، فهي تعنى بمشكلة الواحد والمتعدد، وتعالج الصلة بين الله ومخلوقاته ... وتحاول أن توفق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين والفلسفة، وأن تبين للناس أن الوحي لا يناقض العقل، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس وثبتت أمام الخصوم، وأن الدين إذا تآخى مع الفلسفة أصبح فلسفيا كما تصبح الفلسفة دينية، فالفلسفة الإسلامية وليدة البيئة التي نشأت فيها والظروف التي أحاطت بها، وهي كما يبدو فلسفة دينية روحية» (ص15). ويخصص المؤلف كتابه لبحث طائفة من النظريات الفلسفية التي يظنها إسلامية خالصة، كنظرية السعادة والاتصال، ونظرية النبوة. •••
وللدكتور أحمد فؤاد الأهواني دراسات إسلامية منوعة، تجدها مفرقة في كتبه، ففي كتابه «في عالم الفلسفة»
10 (1948م) فصل عنوانه «أمواج الفكر الإسلامي» يوضح فيه أولا كيف اندست عناصر الثقافات «الفارسية والوثنية والمسيحية واليهودية إلى الفكر الإسلامي واندمجت به، وتكون مع الزمن لون أو ألوان من الثقافة الإسلامية، هي مزيج من هذا الفكر الأجنبي والآراء الإسلامية، وقد نجد لونا من الثقافة إسلاميا بحتا، وقد نجد لونا آخر تغلب عليه النزعة اليونانية، وقد نجد لونا ثالثا يظهر فيه الطابع الفارسي وهكذا» (ص54).
على أن الجديد في تناول الدكتور الأهواني لموضوع الفلسفة الإسلامية في هذا البحث، هو تصوره لتاريخ تلك الفلسفة على أنه فكرات رئيسية تعاقبت واحدة في إثر واحدة، جيلا بعد جيل، فقد تشغل الأذهان اليوم فكرة يدور حولها البحث والجدل، ثم يجيء الغد بفكرة أخرى يدور حولها البحث والجدل، وهلم جرا. وهكذا جاء الفكر الفلسفي الإسلامي موجات متلاحقة، على رأس كل موجة فكرة أساسية، أي أن الفلسفة الإسلامية - على هذا التصور - لم تتناول موضوعات بعينها منذ بداية نشاطها إلى فتور ذلك النشاط، مع اختلاف على مر الزمن في درجة النمو والنضج، ويجمل بنا أن نذكر أن المؤلف حريص على أن يكون موضوع بحثه هو «الفكر الإسلامي» لا «الفلسفة الإسلامية» لأن «تفكير المسلمين انصب على المسائل الفلسفية كما انصرف إلى المسائل العلمية.» ورءوس الأفكار التي شغلت الأذهان على التتابع، والتي منها تكونت «أمواج الفكر الإسلامي» هي: الكفر والإيمان، التشبيه والتجسيم، التشيع، القدرية، الإرجاء.
ومن الدراسات ذات الشأن في ميدان الفلسفة الإسلامية مؤلفات الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة عن «الكندي وفلسفته» (1950م)، «إبراهيم ابن سيار النظام» (1947م) وكتابان للدكتور علي سامي النشار، هما «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» و«مناهج البحث عند مفكري الإسلام» وقد حاول فيهما موفقا أن يبين أصالة المسلمين في التفكير منهجا وموضوعا ومن الدراسات المقارنة التي تستهدف الهدف نفسه كتاب الدكتور محمود قاسم «في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام وصلتها بالفلسفة اليونانية» وكتاب الدكتور محمد البهي «الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي».
على أن المشتغلين بالدراسات الإسلامية قد انصرفوا بكثير من جهدهم إلى التصوف الإسلامي بصفة خاصة، يدرسونه دراسة علمية، وينشرون نصوصه محققة ومشروحة. وإننا لنزداد تقديرا لجهود الباحثين في هذا المجال، إذا علمنا أن العمل في هذا الميدان - كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي في مقدمة كتابه «في التصوف الإسلامي» - «لا يزال في أول شوط من أشواطه، بالرغم من الجهود العظيمة القيمة التي بذلتها طائفة من فضلاء العلماء الغربيين منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى اليوم.» وللدكتور أبو العلا دراسات كثيرة في التصوف، لكن محيي الدين بن عربي كان أهم موضوع عني ببحثه ونشره وشرحه، حتى لقد أصبح فيه حجة بين المشتغلين بالتصوف في الغرب والشرق على السواء.
Shafi da ba'a sani ba