Daga Bayan Mariro
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Nau'ikan
وأيقن أربعتهم أنها لا تعرف العربية، فانطلقت ألسنتهم بألوان من القحة، عجبت ولن أزال في عجب، أن لم يبد على وجه أحدهم أي شيء من الخجل، وقد كان من ألفاظهم ما أخجل الآن لمجرد أن أتذكرها! ثم ذهب كل منهم يتظرف بما وسعته سماجته، فهذا يأتي بضروب من النكات لا يسيغها إلا ذوقه وذوق أصحابه، وذلك يداعب خاتمه الماسي وساعته الذهبية، وآخر يخرج حافظة نقوده فيقلب الأوراق المالية ثم يردها إلى جيبه، هذا فضلا عما تنافسوا في سرده من المغامرات التي صرف فيها ما صرف من الأموال، وكلها بالضرورة من نسج الخيال - كل أولئك و«محمد أفندي» في شغل عن ظرفهم، ولطف حديثهم بالنظر إلى فضاء الأرض.
ولما أفرغوا ما في جعبهم من بارد النكات وسخيف الحكايات، انتظرت أن يتطرق إليهم اليأس أو يمسهم شيء من برودة الموقف فيخجلوا؛ ولكنهم انتقلوا إلى ما هو أدهى وأمر مما كانوا فيه، فراحوا يصفون في طريقة بهيمية جمال تلك الآنسة وهي ساكنة لا يبدو على قسماتها إلا ما يبدو على قسمات تمثال من التماثيل من الثبات على حال واحدة ، ثم شاءت لهم دماثتهم أن يجعلوها موضعا لنكاتهم، فهي ابنة بائع إسفنج في الريف أو هي لا تكلف أكثر من نصف ريال يدفع لخريمي، إلى غير ذلك مما أمسك القلم عن ذكره من عبارات هؤلاء الظرفاء المهذبين!
ودنا القطار أخيرا من إحدى المدن فنهضت الفتاة لتنزل، ومدت يدها إلى الرف لتأخذ حقيبة صغيرة فتقدم أحد هؤلاء الظرفاء، وأنزلها لها فتناولتها، وهي تقول له في عبارة فصيحة: «أشكرك جدا يا أفندي.» ثم خرجت من الديوان.
ونظرت إلى وجوههم وحمرة الخجل تلهب وجنتي، وأشهد لقد شاع في تلك الوجوه الصفيقة شيء من هذه الحمرة، ولكن لعل مرد ذلك إلى وجودي، ولعلهم لو كانوا وحدهم لأجابوها بضحكة من ضحكاتهم، أو بنكتة من ظريف نكاتهم.
من خوف الكوليرا في كوليرا!
دخلت أزور ابن عم لي في داره فلقيتني زوجه في الدهليز وما وقع بصرها علي حتى قالت وهي تضحك: هلم فهذا منظر خليق بأن تراه من وراء منظارك، ولقد خطرت ببالي الساعة وأنت على السلم، وقادتني إلى حجرة الطعام حيث كان زوجها يتهيأ لتناول عشائه.
ودخلت في سكون ولم أحي فلم ينتبه إلي، ونظرت فإذا بالمسكين يجلس إلى المائدة وقد وضع رجله اليمنى في «حلة» على الأرض عن يمين مقعده تبينت فيها سائلا ما، ورجله اليسرى في «حلة» أخرى عن شماله، وهو يغسل يديه في وعاء على خوان قريب منه، وعلى صفحة وجهه سحابة مركومة من الهم، وضحكت وضحكت زوجته فرفع رأسه، وابتسم ابتسامة ضئيلة لم تلبث أن غرقت في هذا السحاب المركوم، وأراد أن ينهض فلم يستطع لبعد ما بين الحلتين، ثم قال في إشارة حازمة وفي لهجة جازمة: لا تؤاخذني أرجو أن تغسل يديك في هذا الوعاء، ونظر إلى زوجته نظرة عتب وسألها لم لم تطلب إلي أن أغسل يدي في الوعاء الخارجي لدى الباب، وكأنه لم يعجبه ضحكها في هذا الموطن، موطن الجد الرهيب، فطلب إليها في شيء من العنف أن تغسل يدها، وفهمت أن ذلك؛ لأنها سلمت علي، فمشت حمرة خفيفة في محياها الأبلج، ولم تجد بدا من إطاعته إشفاقا عليه، كما قالت مداعبة إياه في رفق ...
وراحت ربة البيت تشرح لي هذه السوائل التي يغمس فيها رجليه ويديه، وتضحك إذ تقص علي كيف يغسل يديه كلما لمس شيئا، وكيف يدعو بائع اللبن وبائع الصحف وغيرهما إلى غسل أيديهم قبل أن يناولوه شيئا، وكيف لا يفوته كلما نقص وعاء الغسيل لدى الباب أن يملأه بالمحلول.
وينظر إليها زوجها إذ تضحك فيمتلئ غيظا، ويسألها كيف لا تدرك وهي المثقفة المهذبة أن الأمر جد لا هزل، وفيم هذا الضحك الذي ينطوي على عدم المبالاة، والذي يفهم منه أنها لن تعمل في غيبته شيئا مما يدعوها إليه من وقاية؟
ولم تغب عن منظاري بقية «الاستحكامات» في الحجرة، فهذه مضخة قريبة، بها من السائل كيت وكيت، وتلك أخرى بها من المساحيق كيت وكيت، وثالثة ينطلق منها إذا فتحت غبار كثيف لمطاردة الذباب، وكم ذكرتني بشبيهاتها من المدافع التي كانت تنصب لمطاردة الطائرات زمن الحرب ...
Shafi da ba'a sani ba