Daga Bayan Mariro
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Nau'ikan
واتجه إلينا ذلك التاجر وقال في لهجة اعتذار: إن قريبه فلان بك الذي ينفق عليه أمره ألا يعطيه شيئا إلا بإذن كتابي قال: «دا مسكين ضيع كل ما يمتلك في المكيفات اللهم احفظنا، وباع عفش بيته، وهل تاب بعد كده؟ لا، دا صنف لا يستحق النعمة.»
ومضيت وفي نفسي كلمة التاجر الأخيرة، وأنا أحدث النفس قائلا: كم ذا بمصر من هذا الصنف الذي لا يستحق النعمة!
صاحب السطان الزائف
ليس لديه من دواعي السلطان غير رتبة البك، أما المال فحظه الحقيقي منه قد لا يسلكه حتى في أمثالنا من عباد الله القانعين المتواضعين، ومع ذلك، فقد توافى له من البأس والسلطان ما يندر أن يتوافى لغيره من ذوي الثراء العميم والحسب القديم؛ واتفق له في غير مشقة من وسائل جمع المال ما لو اتفق لسواه من أهل الكدح والجد، لعد عندهم من أنعم الله التي ينسى معها كل عنت ويهون في سبيلها كل نصب ... وهو والحق يقال أحد أفراد أسرة فيها من رزق حظا عظيما من الثراء، وإن لم تكن كغيرها من الأسر الكبيرة القائمة حولها معرقة في الفضل والحسب.
كان يتداخلني العجب كلما ترامى إلي شيء من أنبائه، حتى لقد تاقت نفسي آخر الأمر إلى رؤيته كما كانت تتوق وهي غريرة إلى رؤية الغول مثلا، ولكن على بعد وفي مأمن من أظفاره وأنيابه وكما كانت تتوق قبل اليوم إلى رؤية الدتشي مثلا وغيره من غيلان الإنسانية، رؤية آمنة من غير الورق أو السينما! ولقد تميل النفس إلى رؤية ما تكره كما تميل إلى رؤية ما تحب وهذا من عجائب غرائزها!
وتحققت لي رؤيته أخيرا في قريتنا وهي ملتقى عدد من القرى، بينها قرية ذلك الآمر الناهي، وكان ساعة رأيته يجلس في حاشية من «محاسيبه» أمام مقهى من المقاهي على الطريق العام ، وهو لا يحلو له الجلوس إلا حيث يراه الغادون والرائحون، فما يراه أحد من ذوي المكانة إلا أقبل عليه مرحبا مسلما، وما من صاحب حاجة إلا ويشكو إليه حاجته، ويلتمس عنده طلبته.
وجلست غير بعيد أنظر إليه في جلبابه الفياض، وقد دفع طربوشه إلى مؤخر رأسه، واتكأ على عصاه تحت إبطه، وشمخ بأنفه، ورفعه رأسه إلى آخر ما يسمح به وضع طربوشه الذي ظللت أتوقع من حين إلى حين سقوطه وراء ظهره، حتى رأيته يهوي فعلا ولكن ليرفعه أحد الجالسين في أقل من ارتداد الطرف، وقد تزاحم عليه نفر منهم يطمع كل واحد أن يحظى بشرف إزالة ما علق به من التراب بكم جلبابه.
وجاء الندل مذ رأوه فأحنوا جباههم ورفعوا أيديهم يحيون «سعادة البك» في ابتسام واحتشام، ودارت أقداح الشاي والقهوة على الجالسين، وكان لا يني البك عن طلبها لكل قادم في لهجة كريمة حازمة.
وشكا البك من غبار الطريق، وسأل محنقا: ماذا يصنع المجلس القروي إذا؟ ووعد أن يتحدث في ذلك إلى المأمور فسيلقاه في المركز غدا، وإذا جاء ذكر المأمور تقدم رجل في يده عريضة، وهو يقول: «يا سعادة البك الله يخليك ...» وقطع عليه سعادة البك كلامه متسائلا: ألم تنته مسألته بعد؟ ثم تناول منه ورقته ودسها في جيبه، وصرفه طالبا إليه أن يقابله عند باب المركز صباح الغد، وما لبثت العرائض أن تزاحمت على جيب البك ... فهذا يرجو أن يكون خفيرا، وذلك يطمع أن يعين فراشا، وفلان يرجو نقل ابنه إلى بلد قريب، وآخر يستعجله ما وعد في أمره، وهو يكرر لهم جميعا وعوده مؤكدا مستمهلا إلى أمد قريب ...
وتسلل أحد جلسائه إلى هؤلاء، فتحدث إلى كل منهم على انفراد برهة، ثم عاد إلى حيث يجلس سيده وفي جيبه هو أيضا ورق ولكن من نوع آخر!
Shafi da ba'a sani ba