Daga Bayan Mariro
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Nau'ikan
ورأيت العيد في دنيا الأطفال غير العيد في دنيا الكبار، فهؤلاء الصغار هم الذين ينعمون حقا بالعيد، وهم الذين ينجلي بهم معنى العيد؛ ولكم بث مرآهم من النشوة في قلبي، وبعث من جميل الذكريات في أطواء نفسي، فذقت السرور الصادق برهة في تذكري أيامي التي خلت والتي كان قصاراي فيها حلتي الجديدة وقروشي القليلة، وتمتعي ساعة بالأرجوحة التي أسمع اليوم صليل «جلاجلها» النحاسية وصرير أخشابها العالية، ولكن بأذن - وا أسفاه - غير تلك الأذن الصغيرة! وما أعجب هذا السرور الذي يجر في أعقابه الأسف والكآبة ...
وخرج الصبايا أسرابا عصر يوم العيد كعادتهن إلى الترعة البعيدة يحملن جرارهن، ويتجملن بحليهن ويخطرن في جديد ملابسهن، والشباب يأخذون عليهن الطريق جماعات جماعات، وهم مزهوون بحللهم الجديدة، وطواقيهم البيض وعصيهم الرفيعة من الخيزران ... ولكن نظرات البنات فاترة ساهمة، فليس من هؤلاء الفتية في هذا العام الباحث الخاطب والزوج المرتقب، وقد قل المال ورفعت الحب ثمن كل شيء.
وتجمعت في الأفق ظلال الغروب وراحت كدرتها تطوي نور النهار وبهجة العيد معا، وأويت إلى داري أعد في نفسي ما تصرم من أيامي في القرية، وأحصي ما بقي منها، وأعجب لسرعة انقضاء الأيام هنا على هذا النحو، وأقول: متى يقبل الصيف لأقضي في قريتي ما أقضي كل عام من شهوره، وكان آخر سؤال طرأ على خاطري: متى يعنى أدباؤنا بالريف وحياته فيصدق هذا الأدب وتتضح معالمه ويذهب عنه ما يعلق به من بهرج زائف وتقليد سخيف؟ ومتى يعنى أغنياؤنا بالريف وأهله، فيعرفون موضع الداء فيه؛ ليصلوا إلى العلاج الناجع ويستبدلوا بالكلام الذي لا غنية فيه ما يطلبه الريف وأهله من عمل نافع؟
من الفأس إلى السلاح
خففت إلى القرية منذ بضعة أيام، وقد أغراني الصحو والدفء أن أنعم بهما هناك يوما أو يومين في ملاعب صباي ومسارح هواي وجنة أحلامي؛ ورحت في رونق الضحى أثب كالفراشة من حقل إلى حق ومن غدير إلى غدير، وفي قلبي فرحة الغلام، وفي خيالي أحلام الشاعر.
وجلست أستريح ساعة في مصلى على جانب الطريق، أستند إلى جذع شجرة التوت العتيقة التي جردتها يد الشتاء العاتية من أوراقها، والتي طالما استروحت نسيم الأصيل الرخي في ظلها السابغ أثناء الصيف، وأخذت عيناي من بعد شخصا قادما في زي «الأفندية»، فلما صار بحيث أتبينه، رأيته في زي «الجند» وما لبث أن دنا مني فعرفته، ولما بلغ حيث أجلس نطق بالسلام مبتسما ورفع يده إلى رأسه محييا بالتحية التي تعلمها في الميدان ... وعجب إذ نهضت واقفا له، وإذ مددت إليه يدي أصافحه في اهتمام ثم جلس على حافة المصلى.
هذا هو حسن الفتى القروي المرح، القسيم المحيا، الذي تعرفه القرية كلها بمواويله الساحرة العذبة التي كان يمليها عليه في الأفراح ما هز قلبه من حب عف شديد، والتي ما لحق به في مضمارها أحد من منافسيه ... ولقد طالما رأيته بالأمس يخطر في ملابسه القروية في تلك البقاع، ولقد طالما سمعته من قريب أو من بعيد يبدأ أغانيه الحلوة بقوله: «آه ... ياما جرى لك يا قلبي.»
واليوم أراه في حلته العسكرية ينتعل ذلك الحذاء الضخم، ويضع على رأسه الطربوش ويمسك بيده عصا رفيعة من الخيزران، وقد زال عن وجهه سفع الشمس إلا قليلا، فبدا أكثر وضاءة وأجمل قسامة وأنضر عافية.
ولمحت في عينيه شيئا من القلق ولكن لم يغب عني سببه، فأنا أعرف أن هذا المصلى مكان انتظاره من يهواها قلبه، وهي قافلة من الترعة أو ذاهبة إليها؛ وأشرت إلى ذلك مداعبا ممازحا، فضحك ضحكة جميلة مازج الطلاقة فيها الخجل ... ولكن إشارتي إلى ما في نفسه زادت قلقه، كما تبينت في صفحة وجهه، فوجم برهة، وأدركت أنه يهم بالانصراف فأخذت أهدئ بالحديث روعه.
ولم يطل ذلك الحديث فقد رأيت الصفرة تغشى وجهه والخجل يتزايد في عينيه، فالتفت فإذا هي مقبلة تحمل جرتها، ورأيتها حينما دنت منا قد أخذتها ربكة المفاجأة فاضطرب هيكلها ثم أسرعت فأخفت وجهها بطرحتها ... وبدا لي فناديتها حين مرت، فأبطأت ولكنها لم ترد ولم تلتفت، فأكدت، فوقفت، ثم تغاضبت فأقبلت في حياء شديد، فصحت بها لتقدم وإلا نهضت فجئت بها على رغمها، فجاءت ووضعت يدها في يد خطيبها ثم انتزعتها مسرعة دون أن تتكلم، وهي تتلفت مخافة الرقيب، وأشرت إليه فحط عنها الجرة وأرغمتها على الجلوس، فجلست إلى جانب المصلى تحجب طرحتها نصف وجهها المتورد الجميل، وملء بدنها الاضطراب والنشوة والدهشة.
Shafi da ba'a sani ba