Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Nau'ikan
كان يصل إلينا في بعض المرات - لعلها مرة واحدة أو مرتان بالشهر - لحم أحمر مستورد على ما يبدو من دول بعيدة مثل أستراليا أو نيوزيلندا؛ لذا كان يقدم لنا صلبا متخشبا كأنه جثة في كفن، ولا يلينه سوى ماء ساخن يأتي معه في قدر كبير. بعض السجناء ولأسباب دينية امتنع عن أكله، لكني لم أفعل ذلك؛ لأني كنت بحاجة إلى أي شيء يعيد لي قوتي، ومع استعادة الشهية تناولت كثيرا منه إلى الحد الذي تجاوزت به مرحلة الخطر تماما، بما يمكن اعتباره تعافيا بمقاييس زنزانة الحجر الصحي التي هي معايير لا علاقة لها بتشخيص الأطباء ولا موازينهم في العالم الخارجي. لم أتوقف عن أكل هذا اللحم حتى بعد ذلك بكل صراحة، لأني لم أكن مقتنعا بالامتناع عنه لأي سبب، والمرض كان حجة جيدة لإيقاف أي نقاش حوله أو جدل يمكن أن يقترحه أحدهم. ولحسن الحظ لم يحصل ذلك النقاش في زنزانة الحجر الصحي؛ لأنه كان أمرا في غاية الحمق أن تقول لمريض أوشك على الموت: هيا امتنع عن الأكل لنستعجل موتك. في أقسام أخرى جرت مثل هذه النقاشات وانتهت عند الكل بعدئذ إلى نتيجة واحدة وهي ضرورة أكله بتوجيه من متخصصين في أمور الدين وعلومه، ولا من داع للوقوف عند أسباب وهمية تحول دون تناوله.
تغلب المنطق والعقل كما ينبغي له ذلك في تسيير أمور الحياة؛ لأن الحياة خلقت بالعقل وبه وحده تسير ، وخلا ذلك ما هو إلا قصص تسلية وخرافات وأوهام لا تليق بعاقل أن يعتنقها، فهي تليق بالجهلة وأنصاف المجانين وتجدر بهم وحدهم دون غيرهم.
8
التعارف بين السجناء أخذ في المحجر مدى واسعا لغياب المراقبة الأمنية؛ ولذلك نزعت حذري من الاختلاط مع الآخرين بعد أن استعدت بعضا من عافيتي، وبدأت أتعرف إلى السجناء الموجودين في القسم وأقيم علاقات مع بعضهم. وأكثر ما أثار استغرابي حين دخولي السجن، أن نسبة كبيرة جدا من السجناء ليس لها شغل بالمعارضة السياسية، كانت ضحية اعتقالات عشوائية وتصفية انتقامية لمناطق جغرافية معينة أو بسبب عداوات وخلافات شخصية أو أسباب أخرى لا علاقة لها بالتنظيمات السياسية. هناك بعض من السجناء مما يمكن لي أن أسميهم أطفالا لصغر سنهم عند اعتقالهم لم يتجاوزوا حتى الثالثة عشرة من أعمارهم. بينما آخرون كانوا كبارا في السن، وبعض قليل منهم طاعن فيه إنما لا شغل لهم بالسياسة لا من قريب ولا بعيد، وهم أبعد ما يكونون عن أي نشاط سياسي أو ثقافي معارض أو حتى موال، فهم منخرطون بحياة تقليدية لا شغل لهم بغيرها. راعني سماع قصصهم المضحكة المبكية التي لا يفهم منها إلا شيء واحد هو وحشية النظام وانعدام القانون بالمطلق.
أحدهم كان سائق شاحنة بالكاد يفك الخط وسيق إلى الحرب العبثية المندلعة آنذاك، وجاء تقرير أمني يخبر عن نشاط مشبوه لجندي يعمل مع حزب معارض يحمل نفس اسم سائق الشاحنة هذا. ما إن وصل التقرير الأمني إلى الفرع الأمني في الوحدة العسكرية حتى سارعوا إلى اعتقال سائق الشاحنة وأذاقوه العذاب باعتباره خائنا عميلا، والرجل غير مصدق لما يحدث فهو لا يفقه حرفا واحدا مما يقولون، بينما هم يطالبونه بكشف أسماء التنظيم السري الذي لم يسمع به أصلا. بعد أشهر من الاعتقال انتبه المحققون الأمنيون إلى الخطأ واعتقلوا الشخص الحقيقي المقصود وتمت محاكمته، ومن ثم نفذ حكم الإعدام به. وبطبيعة الحال استبشر صاحبنا سائق الشاحنة خيرا، وصار يرجو الإفراج عنه في القريب العاجل بعد هذا الاكتشاف المتأخر لتشابه الأسماء، لكن الأمور جرت بطريقة أخرى، فبما أنه اعتقل بتهمة سياسية وقد رأى السجون السرية؛ لذا لا بد من محاكمته وحكم عليه بالفعل بالسجن المؤبد وظل معنا في السجن نفسه يقضي مدة محكوميته. وبعد كل هذه السنوات في سجن مخصص للمعارضة، والسياسة هي الموضوع الرئيسي بين السجناء، إلا أنه حين خرج من السجن عاد لوضعه الطبيعي ولم ينشغل بالسياسة ولا همه أمرها يوما كما لم تهمه من قبل.
كنت أحب الجلوس مع رجل كبير بالسن مطلع لا بأس بثقافته العامة، سياسي حقيقي، عرفت بعد فترة أن له في السجن ابن عم - وهو رجل كبير مثله - وبدافع من الفضول تعرفت عليه هو الآخر ظنا مني أنه شخص مثقف كابن عمه، إلا أني دهشت لسذاجته وأن لا صلة له بالسياسة ولا بالثقافة ولا المعارضة بأي نحو من الأنحاء، بل إنه كان يحسب المعارضة السياسية أناسا سيئين يسببون المشاكل والمتاعب للناس ولا ينبغي التعاطي معهم. ولم يمكن بوسعي مناقشته لكبر سنه؛ ولأنه بسيط وساذج جدا، والحوار معه قطعا سيكون مضيعة للوقت. والسبب الأقوى لتعذر نقاشه أن الرجل نفسه لم يكن مستعدا للنقاش في أي شيء، ولا يشغله شيء سوى تدبر حاله اليومي. أثار أمره استغرابي وصرت أتساءل بفضول كيف وصل هذا الرجل إلى هذا المعتقل الرهيب؟! وعلى أي أساس اتهم بهذه التهمة الخطيرة؟ ظل الفضول يدفعني لمعرفة ذلك والحياء يمنعني من سؤاله؛ لأنه قد يعتبر تدخلا في أمر شخصي أو يعد استهانة واستخفافا به. مرة وأنا في حديث ودي كالعادة مع ابن عمه المثقف تدرجنا بالكلام إلى أن وصلنا إلى منعرج في الحديث كان من المناسب جدا فيه أن أطرح سؤالا يفض لغز هذا الرجل وأحجيته بلا تحرج، فقلت له: «فلان ابن عمك رجل طيب مسكين، وإني لأعجب لوصوله إلى هذا السجن. من هذا الذي اعترف عليه أنه منخرط في تنظيم سياسي؟»
فصعقني برده الفوري قائلا وبلا مقدمات: «أنا اعترفت عليه!» - «لكن لماذا؟ أليس الرجل بعيدا عن توجهاتك؟» - «نعم، هو كذلك.»
واستطرد ساردا لي قصته بالقول: «اعتقلت في مرة سابقة قبل اندلاع الحرب لعدة أشهر بتهمة الاشتباه بالتعاون مع تنظيم سياسي، ولما لم يجد المحققون أي دليل معتبر لإدانتي أفرج عني. في وقتها كانت التحقيقات ليست بهذه الوحشية وكان من الممكن الإفراج عن كثير من المعتقلين؛ لأن كثيرا من الاعتقالات وقتها كانت تأديبية والقليل منها يودي بأصحابها لعقوبة الموت أو السجن. المهم بعد خروجي من الاعتقال وكعادة العراقيين في الأفراح والأحزان بالاجتماع جاء جمع غفير من الأصدقاء والأقرباء لزيارتي وتهنئتي بالخروج من المعتقل، وفي جلسة عامة سألني أحدهم بدافع الفضول العراقي المعروف: لماذا اعتقلوك؟ هل فعلت شيئا ضد الحكومة؟ أجبته جوابا طبيعيا متوقعا من أي شخص يخرج من المعتقل، نافيا التهمة عن نفسه؛ لأنه ليس من المعقول أن تفرج عني الأجهزة الأمنية لعدم امتلاكها لدليل ضدي وأنا أتبرع بإدانة نفسي. فقلت له: كلا، لم أفعل أي شيء ضد القانون.»
فانبرى ابن عمي هذا - وبصوت عال سمعه كل الحاضرين - قائلا: «الحكومة لا تعتقل أحدا بلا سبب.»
بهتني بهذا التعليق السخيف، لم أرد عليه كي لا تتطور المسألة وأصبح في موقف من يهاجم الحكومة ويتهمها أمام تبرئة ابن عمي لها واتهامه لي بالعمل ضدها، لكني أسررتها في نفسي وقلت في داخلي: «يا ابن العم، أنا متأكد أنهم سوف يعتقلونني ثانية وحينها سوف أقدم لك الدليل القاطع على أن الحكومة التي تدافع عنها تعتقل حتى من لم يكن عنده شيء ضدها.»
Shafi da ba'a sani ba