Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Nau'ikan
5
استطاع شاب شجاع أن يدبر لي بعض المضادات الحيوية، ساعدت على كبح تدهور صحتي ولو قليلا. وقام بفعل جريء آخر؛ فحين يوضع أمام الزنزانة كيس كبير فيه خبز لتؤخذ الحصة بحسب عدد السجناء، كان يستغفل عناصر الخدمات ووكلاء الأمن ويأخذ أكثر من الحصة المقررة بضع قطع إضافية ويدخرها لي ليمنحني فرصة أكبر لمقاومة المرض الذي يواصل تقدمه ويحرز انتصارات واضحة في جسدي. هذا الشاب كان طالبا في الكلية العسكرية حين اعتقاله؛ لذا كان شجاعا وجريئا وفعل أشياء كثيرة لإبقائي حيا وإعانتي على تجاوز الأزمة، وسوف أبقى أحتفظ له بهذا الجميل رغم تواضعه وخجله عندما أذكره بها شاكرا. مرة وبعد سنوات طويلة التقيته في ظروف مثالية وشكرت له موقفه الخالد، رأيت على سحنات وجهه حياء كأنه خفر العذارى مما دفعه للطلب مني متوسلا ألا أعيد ذكر ذلك. لم أعد أذكر ذلك أمامه، لكن هل بوسعي ألا أذكر ذلك في كل مرة تخطر على بالي تلك الأيام؟ كلا، ليس بإمكاني تجاوز صنعه لي؛ لأني أعرف أي مخاطرة كان يخاطر بها لأجل دافع إنساني في قلبه الطيب، وأي تضحية كان مستعدا أن يقدمها لإنقاذ حياة إنسان مثله. مثل هذا الشاب كان يلقى في غياهب السجون؛ لأنه يحمل قلبا طاهرا وأخلاقا رفيعة ويتصدى بنبله وعلو أخلاقه لنظام يحمل كل الرذائل والمفاسد.
مع كل هذه الجهود التي بذلها صديقي، إلا أن ذلك لم يحل من تراجع صحتي، مما أشعل مخاوف جدية من انتقال العدوى إلى الآخرين. الخوف كان واضحا على وجوه بعض السجناء ممن لا علاقة لهم لا بالسياسة ولا المعارضة ولا الثقافة ولا أي شيء يمنحهم لقب سجين سياسي من خصال التضحية. دب الرعب بين هؤلاء وانضموا لجوقة المراقب الذي بذل جهودا كبيرا عند الخدمات لإقناع الأمن بضرورة إخراجي من الزنزانة ونقلي إلى زنزانة مخصصة للحجر الصحي يودع فيها كل المصابين بمرض التدرن الرئوي، وقد نجحت مساعيهم لاحقا.
قبيل نقلي إلى زنزانة الحجر الصحي ورغم شدة مرضي، إلا أني لم أتوقف عن روح التمرد والاحتجاج. في كل زنزانة هناك شخص يسمى مسئول الماء، له من الأهمية والمقام الكثير؛ لأنه يمسك بالماء عصب الحياة، وبالعادة في زنزانة مثل التي كنت فيها حيث يوجد مراقب يعد واحدا من أكثر المتعاونين مع الأمن خسة وجبنا ونذالة، فلا بد أن يكون مسئول الماء متناغما معه. وكان كذلك وإن لم يش بأحد إلى الأمن يوما، إلا أنه كان انتهازيا رخيصا. ولأن الماء شحيح، فمن المفترض أن نحظى بحصص متساوية، إلا أنه كان يسرق لنفسه ويرشو المراقب بحصة زائدة. واجهت سرقته وأحرجته باعتراض علني. كان يحاول سرقة الماء حين يطلب عناصر الخدمات سحب خرطوم الماء من زنزانتا إلى زنزانة أخرى بعد انتهاء الوقت المخصص لنا، يقوم هو في هذا الوقت بوضع الخرطوم في إناء خاص مستغلا الوقت القليل الذي يستغرقه سحب الخرطوم، وبدلا من أن يضع الماء في البرميل المخصص له يقوم بإخفائه لصالحه. لم تكن الكمية أكثر من قدحين إلى ثلاثة أقداح، لكن كانت بالنسبة لي مهمة جدا، والأهم أنه فاسد يستغل منصبه للتلاعب بثروة عامة لصالحه الخاص؛ لذا كنت أراه أمرا لا يحتمل السكوت عليه.
الغريب أني اكتشفت خواءه وجبنه بحركة معارضة صغيرة، كان رعديدا تهزه كلمة، ويفزعه موقف تصد واحد. مثله مثل كل المتظاهرين بالجبروت من الطغاة يفزعون من كلمة حق يلقيها امرؤ أعزل. إن ما يجعلهم كبارا مرهوبين هو وهم الخوف الذي يملأ نفوس الناس وليس أي شيء آخر؛ ولذلك سعى هو الآخر للتخلص من وجودي في الزنزانة. تواجدي في محل واحد معه أرقه كثيرا إلى حد أنه بعد عدة سنوات حين جمعتنا الصدف مرة أخرى في زنزانة جديدة، وجدته أيضا مسئول الماء، وبمجرد دخولي إليها، أول شيء فعله أن جاء إلي مباشرة، هامسا، طالبا مني بود واستعطاف ألا أثير عليه المشاكل من جديد وأزيحه من منصبه، وحاول إرضائي بمبالغة زائدة في الاحترام.
ازدادت قناعتي من هذا الموقف بأن المتجبرين ما هم إلا جبناء ألبسهم خوف الناس لباس القوة والجبروت. وصرت أتمسك أكثر بمنهجي بألا أهاب أحدا منهم ولا أتردد في مواجهتهم، ويزداد عجبي من الخشية التي تعتمر قلوب كثيرين من وهم القوة التي يصنعها الطغاة والمستكبرون لأنفسهم، ويخضعون لكذبتها ويظنونها حقيقة راسخة لا يمكن الفكاك من سطوتها.
قد يقال إن الحديث عن هذين الكوبين من الماء به مبالغة كبيرة، وإني جعلت من الحبة قبة، وصيرت أمرا هينا معضلة عويصة، وأعطيتها عناوين ضخمة من استغلال منصب وتلاعب بالثروة العامة إلى آخره من الشعارات الكبيرة. أستطيع أن أؤكد أن الأمر يستحق وكان فعلي بالتصدي مبررا جدا. أما حديثي عن العناوين الضخمة فمرده أن من يظهر فحشه في الجرائم الكبرى فهو ليس بحادث جديد، بل هو تاريخ طويل من حوادث صغيرة تراكمت، غفلت أو تغافلت عنها عيون الناس، ولما تعاظم عددها كبر خطرها وانفجرت. كان من السهل جدا وأدها أو إصلاحها من قبل وهي لم تزل صغيرة. لا معلول بلا علة، وتراكم الكم يحدث تغييرا في الكيف، وإن المبادئ لا تتجزأ والقيم لا تتغير، ومن كان هنا فسوف يكون هناك؛ إن صالحا أو طالحا، شينا أو زينا. أما هذان القدحان فقد تشترى بهما حياة إنسان في ذاك المكان المنسي؛ لأن الماء كان معدنا نفيسا أغلى من الياقوت والزمرد، وكان كل سجين يحرص أن يتصرف به بعناية شديدة واقتصاد مبالغ به.
في ليلة من الليالي نهض شاب من رقدته، وقد مر به طائف ذكره بفحولته، وبعيد مغادرته اكتشف أن ما خرج منه من مني قد أدخله في ورطة وأصاب ملابسه وبطانية ينام عليها؛ ولأن الماء شحيح جدا فلا يمكن له أن يغسل كامل ثيابه أو سائر البطانية مما اتسخت به، فكان عليه أن يحدد أي موضع أصيب بالقذارة ويحاول أن ينظفه، لذا خاطر بالنهوض من مكانه ليلا وجاء بقطعة صابون، ورسم على المواضع التي يريد غسلها دوائر صغيرة حتى لا يهدر الماء ويبذره؛ لأن الحصة محدودة شحيحة. النهوض في الليل أمر محظور وجريمة كبرى، وصادف لسوء حظه أن لمحه أحد عناصر الخدمات وهو يخط بالصابون حدود ما يريد غسله فوشى به إلى الأمن.
مساء اليوم التالي دخل ضابط الأمن وزبانيته وأخرجوه من الزنزانة، ليعذبوه تعذيبا أسطوريا لانتهاكه قواعد السجن في النوم ولرسمه هذه الدوائر الصغيرة، متهما إياه بممارسة السحر والشعوذة، وأنه دجال إلى آخره من التهم السخيفة التي لا أصل لها ولا أساس. جرى تعذيبه لأجل أقداح ماء أراد أن يوفرها، ونتيجة هذا التعذيب كانت أن فقد هذا الشاب عقله. بعد تسع سنين حينما رأيته آخر مرة، وجدته كما هو ما يزال يعاني من آثار ذلك التعذيب الذي أفقده عقله، ولم يطرأ عليه تغيير ولا تحسنت حالته. إذن، ثورتي على مسئول الماء كانت تستحق الاندلاع. القصص كثيرة ولكني أوردت لها قصة واحدة، كمن يكتفي بنعيب غراب واحد من كل خربة.
كل يوم يحمل قصة ألم جديدة، ترى شخصا يتعرض للضرب والأذى لسبب لا تصدق أنه يعد ذنبا حتى في أخس الشرائع. في إحدى الأماسي دخل أحد رجال الأمن إلى القسم ورأى سجناء يشبكون أكفهم من بين القضبان متكئين على حديدها، اعتبر ذلك سوء أدب لا يغتفر. ولقنوا درسا في عدم تكرار هذه المعصية الكبيرة بالضرب المبرح بالهراوات على أكفهم حتى تورمت وانتفخت محمرة من جراء السياط التي تلقوها. كنت أنظر من آخر الزنزانة إلى منظرهم وهم يعاقبون ولا أكاد أصدق أني سوف أنجو من الضرب مهما حاولت أن أكون بعيدا متواريا عن الأنظار. إنه أمر لا بد أن يحصل، لأنه - وبكل بساطة - لا يوجد منطق لتجنبه.
Shafi da ba'a sani ba