الإهداء
مقدمة
الباب الأول: التدوين
الفصل الأول: التاريخ
أولا: دراسة التاريخ
ثانيا: الحضارات العامة والخاصة
ثالثا: الوافد والموروث
رابعا: الحضارة الإسلامية
خامسا: تاريخ الفرق
سادسا: تقسيم العلوم
سابعا: أسماء الأعلام
ثامنا: الأقوال
الفصل الثاني: القراءة
أولا: قراءة التاريخ
ثانيا: التاريخ المتبادل
ثالثا: بداية التاريخ
رابعا: حكماء اليونان (الغرب)
خامسا: حضارات الشرق
سادسا: حضارة العرب
سابعا: حكماء الإسلام
الفصل الثالث: الانتحال
أولا: الانتحال إبداع حضاري
ثانيا: المنتحلات الصغرى
ثالثا: المنتحلات الأفلاطونية
رابعا: الانتحال الأرسطي
خامسا: الانتحال الأفلوطيني (اليوناني)
سادسا: الانتحال الأفلوطيني (الإسلامي)
سابعا: المنتحلات الطبيعية
الإهداء
مقدمة
الباب الأول: التدوين
الفصل الأول: التاريخ
أولا: دراسة التاريخ
ثانيا: الحضارات العامة والخاصة
ثالثا: الوافد والموروث
رابعا: الحضارة الإسلامية
خامسا: تاريخ الفرق
سادسا: تقسيم العلوم
سابعا: أسماء الأعلام
ثامنا: الأقوال
الفصل الثاني: القراءة
أولا: قراءة التاريخ
ثانيا: التاريخ المتبادل
ثالثا: بداية التاريخ
رابعا: حكماء اليونان (الغرب)
خامسا: حضارات الشرق
سادسا: حضارة العرب
سابعا: حكماء الإسلام
الفصل الثالث: الانتحال
أولا: الانتحال إبداع حضاري
ثانيا: المنتحلات الصغرى
ثالثا: المنتحلات الأفلاطونية
رابعا: الانتحال الأرسطي
خامسا: الانتحال الأفلوطيني (اليوناني)
سادسا: الانتحال الأفلوطيني (الإسلامي)
سابعا: المنتحلات الطبيعية
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (1) التدوين
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (1) التدوين
التاريخ - القراءة - الانتحال
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى حكماء الأمة من جيلنا.
قضاء على التغريب في عصر.
حسن حنفي
مقدمة
أولا: من «العقيدة والثورة» إلى «النقل والإبداع» (1) النقد الذاتي «من النقل إلى الإبداع» المحاولة الثانية لإعادة بناء علوم أصول الدين في مشروع «التراث والتجديد» في جبهته الأولى «موقفنا من التراث القديم» من أجل إعادة بناء العلوم الإسلامية طبقا لظروف العصر.
1
ولما كان بناء الشيء لا يظهر إلا بعد اكتماله، وعيوبه لا تظهر إلا بعد خلقه، وكان النقد الذاتي والتعلم من التجارب السابقة طريق الإصلاح والتغير والاتجاه نحو الكمال، بدا «من العقيدة إلى الثورة» محتويا على عدة عيوب رئيسية لا تتعلق بالموضوع ولكن بطريقة العرض، ليس في المضمون ولكن في الشكل. واستدعاء الذكريات في لحظات الخلق السابقة جزء من عمليات الخلق القادمة؛ فالذاكرة رصيد الشعور ومادته الأولى، وهو العنصر الرئيسي المكون للوعي التاريخي. والنقد الذاتي سنة متبعة في مشروع «التراث والتجديد» من أجل تطويره وإكماله من الداخل في عملية خلق مستمرة أشبه بسيرة ذاتية يتخلق فيها الموضوع من خلال الذات. ويمكن تلخيص هذه العيوب على النحو الآتي:
2 (أ)
لم يحدث التوازن المطلوب بين التراث والتجديد؛ فقد خرج أقرب إلى التراث منه إلى التجديد، يغلب عليه تحليل القدماء أكثر من تحليل المعاصرين؛ فيتناول الموضوعات القديمة أكثر مما يبين أثرها كمخزون نفسي في سلوك الأفراد والجماعات ووعيهم بالتاريخ، أقرب إلى القلة من المتخصصين منه إلى مجموعة المثقفين، وباختصار أقرب إلى العقيدة منه إلى الثورة. كان السبب في ذلك أنه بالإضافة إلى صعوبة إيجاد ميزان متعادل بين القديم والجديد، كان يتم الانتقال أحيانا من القديم إلى الجديد قفزا بعد أن يتم الاستغراق في القديم دون القدرة على الخروج منه خروجا طبيعيا منتقلا إلى الجديد؛ لذلك خرجت قفزات قديمة وأخرى جديدة متجاورات دون الانتقال بين الاثنين على نحو طبيعي متصل كتوالد طبيعي.
3
كان فك القيد من القدماء هو الهم الغالب على تثوير المحدثين، فما أسهل التثوير إذا ما كسرت القيود. والتحرر من الماضي هو شرط الثورة في الحاضر، والتخفيف من ثقل الحمل هو إسراع في التقدم. كان الغالب هو الفكر السالب؛ فالسلب أقوى من الإيجاب، والهدم يسبق البناء، والرفض متقدم على القبول خاصة في عصر يخشى من الرفض والتمرد والنفي، ويغلب عليه القبول والتسليم، ويلاحق فيه المفكرون والمبدعون. كان القصد هو التحرر من المنبع، وخلخلة الجذور حتى يتحقق التثوير خاصة بعد فشل تجاربنا الحديثة في النهضة في القرن الماضي، والثورة في هذا القرن، عودا إلى بدأ، ورجوعا إلى المنبع والجذور الأولى في السكون والخوف والاستسلام. كانت خلخلة الحائط المنيع من الأساس، مرة إلى الأمام ومرة إلى الخلف تكفي لأية هبة ريح لاقتلاعه بدلا من خبط الرأس فيه فتسيل الدماء. كان يكفي وضع بعض الزيت على المزلاج الصدئ وتحريك المفتاح مرتين فتحا وغلقا حتى يكفي ذلك لأية ريح تفتحه بدلا من ضربة رأس تسيل الدماء ولا ينفتح الباب. (ب)
غلب على الكاتب منهج العرض أكثر من منهج التحليل، عرض أقوال القدماء، ثم الدخول معها في حوار من أجل مراجعتها ثم خلخلتها والشك فيها دون تحليل النص وبيان مكوناته، كيف نشأ وتطور ثم انغلق حتى تحول إلى سلطة. كانت الغاية من العرض كشف القدماء، وإعادة بسط فكرهم حتى تسهل رؤيته، والتعرف على بنيته ثم التصويب عليه بعد أن أصبح لوحة مكشوفة. غلب على الحوار مع القدماء أسلوب المواجهة من الأمام وليس أسلوب الالتفاف من الخلف؛ لذلك صعبت معرفة أين ينتهي العرض وأين يبدأ النقد؟ متى ينتهي كلام القدماء ومتى يبدأ كلام المحدثين؟ أين ينتهي النص القديم ومتى يبدأ النص الجديد؟ كان يمكن إعادة كتابة النص القديم بأسلوب جديد عن طريق منهج القراءة وآليات التأويل، وهو ما كان يحدث أحيانا، ولكن الخطورة كانت في ضياع النصين معا، القديم والجديد، وبالتالي يتوارى التمايز والتقابل بين القدماء والمحدثين. وكان قد تم استعمال هذا المنهج من قبل في «مناهج التفسير في علم أصول الفقه»، ولم يكن مرضيا بسبب خروج نص يختفي فيه التمايز بين القديم والجديد، بين التراث والتجديد، مجرد قراءة لا أساس لها ولا منطق، عمل فلسفي خالص، ذهنان يتحاوران في لا زمان ولا مكان بهدف بيان إمكانية التجاوز والانتقال من مرحلة تاريخية قديمة بأسلوبها ومناهجها وموضوعاتها إلى مرحلة تاريخية جديدة مخالفة في تطلعاتها ووسائل تعبيرها وأهدافها، وسمي ذلك منهج النقل؛ أي مجرد إعادة كتابة النص القديم بأسلوب جديد، مستعملة لغة العصر، مثالية الشعور، ومنهج العصر، منهج تحليل التجارب الشعورية تحت تأثير الحركات الإسلامية المعاصرة.
4 (ج)
أتى مسهبا، مطولا، وكأنه موسوعة جديدة في علم العقائد منذ «المغني في أبواب التوحيد والعدل» للقاضي عبد الجبار. وبالتالي استحال عمليا الاطلاع عليه من الجمهور لإحداث التثوير المطلوب. يوضع في المكتبات العامة وليس في المكتبات الخاصة، يحمل على المناضد وليس بيانا يوزع على الناس في الشوارع. أوغل في التفصيلات الجزئية حتى ضاعت الرؤية الكلية، فلم يتحقق القصد من التثوير. كان الهدف هو العلم الدقيق قبل الأيديولوجيا، وحتى لا يتهم الكتاب بأنه ضحى بالأول في سبيل الثاني. كان الهدف أيضا مبارزة القدماء ضربة بضربة وطعنة بطعنة حتى يتم الانتصار عليهم في جولات متعددة وليس بالضربة القاضية. كان المطلوب تقويض الأسس النظرية التي قامت عليها تحليلات القدماء، وكان لا بد من خلخلتها. واقتضى ذلك التعامل مع الجذور جزءا جزءا حتى لا تقطع الجذوع والجذور باقية فتنتج جذوعا أخرى. وعلم الكلام ذاته علم حجاج وجدال وصنعة أدلة وبراهين، بل إن إثبات الشيء مرهون بالدليل عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيه بمنطق الأصوليين. كان العذر في ذلك ألا يترك تحليل المحدثين صغيرة ولا كبيرة، شاردة ولا واردة، عرضها القدماء حتى يتم تذويب الماضي كله في الحاضر، والقضاء على تكلسه وقدرته على التأثير في التاريخ. ولكن العيب في العصر الذي يبغي الاطلاع السريع، والتعامل مع أجهزة الإعلام، وملء الفراغ الثقافي والتعامل مع الثقافة في الأمد القريب، وليس تحليلا لجذورها التاريخية على الأمد البعيد. هو عصر ثورة المعلومات التي يهمها نقلها من أطراف الأرض إلى أطرافها بصرف النظر عن مضمونها. (د)
جاء التبويب أقرب إلى القدماء منه إلى المعاصرين، ليس فقط في البنية الثلاثية للعلم: المقدمات، والإلهيات (العقليات)، والنبوات (السمعيات)، بل أيضا في ألفاظه ولغته، مثل الذات والصفات والأفعال، والنبوة والمعاد، والإيمان والعمل والإمامة، مما يسهل على أهل التخصص المعاصرين تصنيفه ضمن العقيدة أكثر من تصنيفه ضمن الثورة. لم يكن هناك إشكال في المقدمات النظرية (المجلد الأول)؛ فقد وصلت نظرية العلم ونظرية الوجود إلى أكبر قدر ممكن من التعقيل والتنظير والتعميم، متجاوزة العقيدة إلى المبادئ العامة؛ أي إلى الأوليات التي تقوم عليها أية عقيدة.
5
كما أن «التوحيد» (المجلد الثاني) و«العدل» (المجلد الثالث) أقرب إلى العموم منهما إلى الخصوص، وإلى العقل منهما إلى النقل؛ فلفظ «التوحيد» لفظ فلسفي وميتافزيقي ووجودي، وليس بالضرورة لفظا عقائديا. إنما كان الإشكال في «السمعيات» التي غلبت عليها الألفاظ العقائدية: النبوة ، والمعاد، والإيمان، والعمل، والإمامة؛ لذلك آثرنا وضع اللفظ الجديد تحت اللفظ القديم؛ فالتوحيد هو الإنسان الكامل، والعدل هو الإنسان المتعين. والنبوة والمعاد يشيران، إلى التاريخ العام؛ والإيمان والعمل والإمامة يشيران إلى التاريخ المتعين. في الظاهر البنية القديمة لم تتغير، الإلهيات والسمعيات. وفي الحقيقة تغيرت لأنه أمكن تحويل هذين القسمين للعقائد إلى بعدين جديدين ينقصان في وجداننا المعاصر، الإنسان والتاريخ. آثرت الإبقاء على الشكل وتغيير المضمون، الشكل القديم لجذب القراء القدماء والأزهريين وعلماء أصول الدين، والمضمون الجديد لجذب القراء المحدثين والجامعيين والثوريين. وبلغة التضاد العصري، الأول لجذب السلفيين، والثاني لجذب العلمانيين، تحقيقا للمصالحة الوطنية بدلا من الاقتتال وسفك الدماء في الجزائر ومصر. والأفضل الإبقاء على الشكل وتغيير المضمون من تغيير الشكل والإبقاء على المضمون.
6
كان يمكن في مرحلة أخرى أن يصبح للجديد الأولوية على القديم، ولكن تضخم العمل في خمسة مجلدات جعل أي إضافة له بمثابة انتحار عملي. كما أن زيادة الجديد على القديم قد تقلل من آليات التخفي والحذر، وبيان إمكانية خروج الجديد من القديم كما تنص البعير بإخراج رأسها دون جسدها وترك إكمال الخروج لأجيال قادمة؛ فالتغيير على الأمد الطويل خير من الفرقعة على الأمد القصير. ومع ذلك فإن علوم الحكمة أكثر أمانا من علم أصول الدين، وعلوم للخاصة وليست علوما للعامة. فهل يؤدي ذلك إلى أن يكون للجديد الأولوية على القديم، وأن يتجه نحو الإبداع أكثر مما يتجه نحو النقل؟ إن الإسراع بمعرفة النتائج دون المقدمات، وبالحصاد قبل الزرع، وبالثمار قبل البذور، أمر بشري. ولكن التأسيس والتأصيل والبرهان ضرورة علمية؛ لذلك قد يغلب القديم على المجلدين: الأول «النقل»، والثاني «التحول». وقد يبدأ الجديد في المجلد الثالث «الإبداع» على حذر؛ فالأفضل أن يتولد الجديد من القديم، وأن يخرج الإبداع من النقل على نحو طبيعي، وربما على نحو خفي يصعب استئصاله.
7 (ه)
زادت نسبة الهوامش والنصوص الحرة مما جعل الكتاب مثقلا متضخما، قد لا ترن في آذان جميع القراء، وقد لا تثير عواطفهم ووجدانهم. بدت تكرارا لا فائدة منه. كان من الأفضل أخذ عبارات دالة أو تحليلها حتى تتحول إلى نصوص مدروسة وليس مجرد نصوص خام. وقعت مغالاة في إيراد النصوص حتى إنها بلغت نصف كل صفحة؛ أي نصف الكتاب، مجلدان ونصف من خمسة مجلدات، وأين القارئ اليوم الذي يستطيع استيعاب ذلك كله؟ ألا يؤدي ذلك التضخم إلى عكس المطلوب، أن تصبح العقيدة من عمل الخاصة وليست تنويرا للعامة؟ كان الهدف إشراك القارئ مع المؤلف في نفس التجارب، التعامل مع نص قديم مثير للأذهان، ومقلق للأعصاب، إشراكهم في الغضب والثورة، خاصة فيما يتعلق بنصوص السلطان، وإشراكهم في التأييد والدفاع، خاصة عن نصوص المعارضة وإبرازها للمعاصرين. فالجرأة في العقائد لها ما يساندها أيضا عند القدماء في تراث المعارضة الذي ضربت حوله مؤامرة الصمت وأصبح في طي النسيان. وقد يكون العذر في ذلك استعمال بعض آليات التخفي؛ فعلم العقائد ليس من السهل التعرض لنصوصه بالفهم والتأويل بعد أن أصبح علما مقدسا في الأذهان، وأصبح إنتاج القدماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فالنص القديم المثير للغضب يشارك القارئ فيه وينفعل به غاضبا نظرا لتجدد حاجات العصر. والنص القديم المثير للتأييد والدفاع عن حاجات العصر يحمي المؤلف من الاتهام بالخروج على السلف وأقوال القدماء. لو كان في النص القديم شر فهو منهم ننقطع عنه، ولو كان فيه خير فهو منا نحرص عليه. لو أثار النص الجديد أنصار القديم فهو نص القدماء، ولو أعجب النص القديم أنصار الجديد فهو نص المحدثين. ولا فرق في آليات التخفي بين استعمال نصوص القدماء أو نصوص المحدثين.
8
ومع ذلك لم يسلم الكتاب من الهجوم عليه من غير المتخصصين والمزايدين، والمتملقين للأذواق العامة، والراغبين في الشهرة، والحريصين على السيطرة على الرأي العام، شفطا للدولة والمجتمع من أسفل، بدلا من الانقلاب عليهما من أعلى، مجرد زوبعة لم تتحول إلى إعصار. (و)
غابت التحليلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تبين نشأة الأفكار والعقائد القديمة وحاجات العصر الحديثة وتجاربه ومطالبه، وحتى لا تبدو الأفكار طائرة في الهواء، لا مستقر لها ولا مكان. غاب البحث في تكوين النصوص وتدوينها وصياغة العقائد وتكلسها حتى يمكن بيان نشأتها في التاريخ قبل أن تصبح مقدسا خارج التاريخ مع أن البحث في النشأة والتكوين كان جزءا من التراث والتجديد.
9
وكان الاستماع إلى هذا النقد المستمر من علماء الاجتماع والمؤرخين يهز الأعماق ويجد له مهربا في تحليل الشعور. كان يشفع في ذلك أن المنهج المختار يبرأ عن رد الظواهر إلى أسبابها الاجتماعية فحسب، ويؤثر إبقاءها تصورات في الذهن وأبنية في الشعور في مجتمعات تراثية ترى حقائق مطلقة في وعيها، وأن وحيها خارج التاريخ. ومع ذلك فإن بيان نشأتها في ظروف اجتماعية معينة، وفي أتون الصراعات السياسية، يساعد على استعمالها في عصرنا كسلاح فكري بدلا من ممارسات المعارضة استنادا على تراث السلطة. الأفكار والعقائد وظائف اجتماعية وفاعلية في الجدل الاجتماعي، ولكن خشية الوقوع في منطق النشأة والتكوين حدث رد الفعل في الوقوع في منطقة البنية والماهية المستقلة. والجمع بين التاريخ والبنية في منهج مزدوج يفي بالمطلبين، حق الواقع الحامل للفكر، وحق الفكر المستقل عن الواقع. ولا ضير أن تتكامل المناهج، وأن تتكاتف الجهود، وأن تتعدد الرؤى، وكل ميسر لما خلق له.
10 (ز)
غياب المقارنات مع الفكر الغربي بوجه عام ولاهوت التحرير بوجه خاص حتى يجد الكتاب مستقرا له وميدانا وعلما قائما يربط نفسه به ويضع نفسه فيه. وإذا كانت الغاية من «التراث والتجديد» هو التحديث، فأين الحداثة؟ كان الخوف من المقارنات ناشئا عن رفض التحديث من الخارج عن طريق الانتساب إلى رؤية أو مذهب أو منهج غربي، ثم قراءة التراث ابتداء منه، إسقاطا أو قراءة أو تحليلات، وإيثار التحديث من الداخل بفعل الاجتهاد، وإعادة قراءة القديم بناء على متطلبات الحديث وحاجات العصر.
11
كانت النية حاضرة، وما زالت، في كتابة دراسة خاصة عن لاهوت التحرير عرضا ومناقشة ونقدا، إهداء إلى الأخوة أقباط مصر، لبيان إمكانية تثوير الدين إذا كان ما زال يغلب عليهم الاتجاهات المحافظة ومساعدتهم على التحديث والعلم بما يدور حولهم من اجتهادات النصارى في الخارج.
12
كان يمكن إكمال هذا النقص في الهوامش لمن شاء المقارنة، وإثارة للأسئلة، وتفتيحا للموضوعات، ووضعا لبرامج في المستقبل لجيل جديد من الباحثين. ربما ما زال هناك فصل حاد بين الجبهتين الأولى: موقفنا من التراث القديم، والثانية: موقفنا من التراث الغربي، كرد فعل على التعالم باستعمال الثقافة الغربية والزهو بمعرفتها، والدراية بأسماء أعلامها ومذاهبها، وحتى يحظى الباحث بحظوة تجعله أقرب إلى المحدثين منه إلى القدماء، وتخفيفا للشعور بالنقص من القدماء أمام المحدثين. (ح)
غلبة الإنشائية على المقدمة والخاتمة، وبعض أجزاء الخطاب في الداخل جعل العلماء ينأون عنه والسياسيين يبرءون منه. والإنشائية أيديولوجيا وليست علما، وعظا وليست تحليلا، خطابة وليست برهانا. وأخذ البعض ممن لا يقوى على الصبر هذه الأجزاء الإنشائية لنقد الكتاب كله وبالتمايز عنه، وهم علماء لا خطباء، عقلانيون لا دعاة. كان السبب الإجرائي هو أن «التراث والتجديد» كان مقدمة «من العقيدة إلى الثورة»، فلما صدر بمفرده قبل صدور الكتاب بثمانية أعوام، جاء الكتاب خاليا منها ومن أية مقدمة أخرى. وطال الوقت بحثا عن مقدمة بديلة، وأخيرا استقر العزم على تقليد القدماء بعد معرفة مقدماتهم. وكانت في معظمها مدحا لله وللسلطان. وجاءت مقدمة الكتاب قلبا لمقدمة القدماء، كما أن الكتاب كله قلب لعلم الكلام القديم رأسا على عقبة، انتقالا من مدح السلاطين إلى الدفاع عن الشعوب. وجاءت الخاتمة أقل إنشائية أيضا، قلب للقدماء من الفرق بين الفرق إلى الجمع بين الفرق، ومن الفرقة الناجية إلى الوحدة الوطنية. وكان السبب الفعلي هو أن الجمهور جزء من الخطاب حتى يحدث أثره فيه. ولما كان للجمهور لغته وأسلوبه، غلبت بعض الإنشائية في التحليل تحقيقا لهدف الانتشار في الغالبية على التأثير في الأقلية، وإيثارا للعلم النافع على العلم الخالص؛ فالعلم حركة وتغير ونشاط وفاعلية وتاريخ. ليس الهدف من العلم النظر بل العمل. والنظر ما هو إلا مقدمة للعمل، وقد يكون البحث النظري الخالص أحيانا ترفا لا قبل للتاريخ به إذا كان المنزل يحترق ويحتاج لمن يطفئ النار. صحيح أن البحث النظري على الأمد الطويل هو الحل الجذري، ولكن في مجتمعات مستقرة استطاعت أن تفي بالحد الأدنى من الخدمات والحاجات الأساسية والاستقلال والكرامة والوطنية. وهناك الأسلوب الفلسفي الذي يجمع بين التحليل العلمي والأسلوب الأدبي، يعرفه الخاصة والعامة، ويفي بشروط البحث النظري والبيان للناس.
13 (ط)
لم يحدث «من العقيدة إلى الثورة» الأثر المطلوب، ولم تقم الدنيا ولم تقعد. لم يحدث تحول في عقائد الناس، ولم تقع هزة في أروقة المتخصصين، بل ربما زادت العقيدة تكلسا وتشيؤا، وانقلبت الثورة على نفسها في ثورة مضادة. يرن عن بعد وليس له إلا رجع الصدى، ربما لتضخمه مما جعل البعض يطلب اختصاره في جزء واحد.
14
ربما لهموم الناس اليومية وانشغالهم عن العلم التأسيسي على الأمد الطويل. ربما لأننا نعيش في عصر الاستقطاب بين العقيدة والثورة؛ أي بين السلفية والعلمانية إلى حد الاقتتال وسفك الدماء، وبالرغم من نهاية عصر الاستقطاب في العالم وبداية العولمة عند غيرنا. ربما ليس له منبر شعبي يبسطه للناس وتقام فيه معاركه بالرغم من محاولة ذلك في «اليسار الإسلامي». ربما ليس له جماعة تطوره كما هو الحال في الجماعات والمدارس التي تنشأ حول المذاهب وأصحابها. ربما ليس له حزب يتبناه؛ فقد كبا الإصلاح الذي أراد «من العقيدة إلى الثورة» إقالته من عثرته وتطويره من أجل لم الشمل والوحدة الوطنية.
15
ربما ليس له حزب ثوري يقوم بتحويل الأيديولوجيا الثورية إلى ممارسات ثورية بالرغم من التنبيه على ذلك سلفا في «التراث والتجديد».
16
ربما لأن الإعلام والثقافة والتعليم ما زال كل ذلك تحت سيطرة الدولة التي تستعمل العقيدة لإيقاف الحراك الاجتماعي والدفاع عن الوضع القائم بلسان فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس، وتستعمل الثورة ضد العقيدة بفضل مثقفي الدولة وأجهزتها، تضرب هذا بذلك مرة، وذلك بهذا مرة أخرى حتى يضعف الجناحان ويقوى القلب. والكل يريد السلطة القائم فيها والمعارض لها، والثقافة لعبة السياسة، والوطن هو الخاسر.
17 (2) من علم أصول الدين إلى علوم الحكمة
كان من الطبيعي أن يأتي «من النقل إلى الإبداع» محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة بعد «من العقيدة إلى الثورة » محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، وكما تم الإعلان عن ذلك في مشروع «التراث والتجديد» لعدة أسباب، أهمها: (أ)
علم أصول الدين وعلوم الحكمة كلاهما علمان نظريان يؤسسان عقائد ونظريات في مقابل العلمين المنهجيين اللذين يؤسسان مناهج وطرقا، علم أصول الفقه وعلوم التصوف. وعلى الرغم من وجود موضوع منهجي في علم أصول الدين، وهو «العقل والنقل»، وموضوع منهجي آخر في علوم الحكمة وهو «المنطق»، إلا أن الطابع العام للعلمين هو الطابع النظري. وهذا لا ينفي وجود فكر عملي أخلاقي سياسي في كلا العلمين، الإيمان والعمل والإمامة في علم أصول الدين؛ وعلم الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل في الحكمة العملية في علوم الحكمة، ولكنه فكري عملي نظري؛ أي دراسة نظرية خالصة لموضوعات الأخلاق والسياسة والاقتصاد.
18 (ب)
علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وإعادة تفكير في نظرية العلم التي تحولت إلى منطق، ونظرية الوجود التي تحولت إلى طبيعات، والإلهيات التي ظلت إلهيات، والسمعيات أو النبوات إلى نفسانيات أو شرعيات، كما هو الحال عند إخوان الصفا بإضافتهم قسما رابعا إلى علوم الحكمة. المنطق تطوير لنظرية العلم، والطبيعات تطوير لنظرية الوجود، والإلهيات؛ أي نظرية واجب الوجود وتطوير لنظرية الذات والصفات والأفعال. وقد كان الفلاسفة الأوائل متكلمين قبل التحول إلى فلاسفة بفضل قراءة الوافد بالإضافة إلى الموروث مثل الكندي. ويقل الكلام تدريجيا حتى تبتلعه الفلسفة كما هو الحال في علم الكلام المتأخر ابتداء من القرن السادس. (ج)
علوم الحكمة أيضا تطوير طبيعي لعلم أصول الدين من حيث منهج الاستدلال؛ فبينما يعتمد علم أصول الدين على الدليل النقلي والدليل العقلي، فإن علوم الحكمة تعتمد في الغالب على الدليل العقلي وحده. صحيح أن الدليل النقلي وحده دون دليل عقلي دليل ظني طبقا لنظرية العلم في علم أصول الدين، وأن العقل أساس النقل عند المعتزلة، وأن من قدح في العقل فقد قدح في النقل لموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول عند ابن تيمية، ومع ذلك فإن استعمال الدليل النقلي يعادل استعمال الدليل العقلي في علم أصول الدين.
19
أما علوم الحكمة فإنها استغنت استغناء شبه كلي عن الدليل النقلي، واعتمدت على اتساق الخطاب العقلي وحده؛ فالحكمة تتجاوز الديانات والكتب المقدسة. هي الحكمة الخالدة الواحدة التي وراء تنوع الشرائع وتعدد الديانات. علوم الحكمة بهذا المعنى تطوير للاعتزال. كان الكندي متكلما قبل أن يصبح فيلسوفا، وله رسالة في الاستطاعة في موضوع خلق الأفعال. ثم خطا خطوة أبعد نحو علوم الحكمة، فكان أول فيلسوف، فيلسوف العرب. (د)
علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وتحول للعقائد إلى نظريات، وقواعد الإيمان إلى تصورات عامة للكون، وباختصار تحويل «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا». لقد وضع علم أصول الدين نظرية الذات والصفات والأفعال، وتنازعها تصوران، التشبيه والتنزيه، الحلول والمفارقة، التشخيص والتعقيل. ثم طورتها علوم الحكمة إلى نظرية واجب الوجود، الموجود لذاته في مقابل الموجود بغيره، انتقالا من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، دون ما حاجة إلى أدلة على وجود الله كما هو الحال في علم أصول الدين أو إلى دليل أنطولوجي كما هو الحال في الفكر الغربي. صحيح أن نظرية الوجود في المقدمات النظرية في علم أصول الدين قد اقتربت أيضا من مباحث الأنطولوجيا، ولكنها ظلت أنطولوجيا الأجسام المادية؛ أي الجوهر والأعراض، منها إلى الأنطولوجيا العامة.
20
وصحيح أيضا أن علوم الحكمة ما زالت متصلة بالعقائد بالرغم من تحولها إلى تصورات؛ فصفات واجب الوجود مثل العلم والحياة والقدرة تشبه صفات الذات في علم أصول الدين. كما أن موضوع قدم العالم وحدوثه هو الغاية القصوى من مبحث الوجود في علم أصول الدين من أجل إثبات حدوث العالم كدليل على وجود الله. وموضوع المعاد في علم أصول الدين مشابه لموضوع البعث في علوم الحكمة دون صوره الفنية ابتداء من عذاب القبر حتى الصراط والميزان والحوض. علم العقائد يغذي علوم الحكمة من الباطن وإن لم يبد على السطح في التصورات النظرية العامة في علوم الحكمة. (ه)
علم أصول الدين علم مفرد كما يدل على ذلك تسميته بلفظ مفرد، لم تتمايز علومه بعد إلى علم الإلهيات وعلم النبوات أو علم العقليات وعلم السميعات . في حين أن علوم الحكمة علوم بالجمع كما يدل على ذلك تسميتها بلفظ الجمع. تمايزت فيها علوم المنطق والطبيعات والإلهيات طبقا للقسمة الثلاثية الشهيرة. وبالتالي تعتبر علوم الحكمة أكثر تطورا من علم أصول الدين من حيث تحول العلم الواحد الشامل إلى علوم جزئية متخصصة. وقد حدث نفس التمايز في علوم التصوف بالنسبة إلى علم أصول الفقه؛ فقد تمايزت العلوم داخل التصوف لدرجة أن كل مقام أو حال أصبح علما في حين ظل علم أصول الفقه علما واحدا، وكما تدل على ذلك تسمية كل علم بالجمع أو المفرد. ولا تدل وحدة علم أصول الفقه على تأخره، بل على وحدة النسق العلمي بالرغم من اعتماده على علم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ المستمدين من علوم القرآن. ولا يدل تعدد علوم التصوف على تقدمها بل على تشعبها. (و)
علم أصول الدين يتعامل أساسا مع الداخل، مع الموروث الديني، في حين تتعامل علوم الحكمة أساسا مع الخارج، الوافد المنقول بعد أن أصبح موروثا بعد عصر الترجمة. صحيح أن علم أصول الدين يتعامل أيضا مع الخارج، ولكن في مرحلة متأخرة وليس في مرحلة النشأة، في مرحلة التطور والاكتمال وليس في مرحلة التكوين الأولى أو حتى في مرحلة الانهيار الأخيرة، مرحلة قواعد العقائد السلفية. وقد استخدم البعض منه كأدوات وثقافات حديثة لنصرة العقائد القديمة والدفاع عنها وليس كحقائق مستقلة بذاتها.
21
كانت أقرب إلى علوم الوسائل منها علوم الغايات، في حين أنها في علوم الحكمة أقرب إلى علوم الغايات منها إلى علوم الوسائل.
22
كان هدف علم أصول الدين الدفاع عن الأنا ضد الآخر، خاصة في البداية وعلى مستوى العقائد، في حين كان هدف علوم الحكمة تمثل الآخر واحتوائه واستعماله كأدوات وألفاظ للتعبير بها عن مقاصد الحضارة الجديدة الناشئة. وبالرغم من اقتراب علم الكلام المتأخر من علوم الحكمة، إلا أنها ظلت فيه خارجية عن بنية العقائد، مجرد مقدمات نظرية وصلت إلى حد ثلاثة أرباع العلم. أما علوم الحكمة فإنها تكاد تخلو من العقائد الكلامية المباشرة، وتعبر عن تصورات عامة وشاملة للكون اعتمادا على الثقافة الوافدة، ومن خلال مفاهيمها وألفاظها وتصوراتها. فإذا كان علم أصول الدين رؤيا للأنا من خلال الأنا وواقعها، فإن علوم الحكمة رؤيا للأنا من خلال تفاعلها مع الآخر. (ز)
كانت العقائد للعامة، وكان المشتغلون بعلم العقائد أكثرية حريصة على عقائد العامة، في حين كانت علوم الحكمة للخاصة، وكان المشتغلون بها أقلية تصدم عقائد العامة. كانت علوم العقائد تدرس في المساجد، في حين حمل لواء علوم الحكمة أفراد قلائل متهمون بالكفر من خطباء المساجد وأئمتها. صحيح أن الغزالي قد دعا إلى «إلجام العوام عن علم الكلام»، كما أن رسائل إخوان الصفا كانت تعبر عن الثقافة الشعبية، إلا أن الغزالي كان يود إبعاد العامة عن طرق النظر حتى تظل في اختيار التصوف لها كطريق. وإن إخوان الصفا في النهاية كانت من الصفوة المختارة والأقلية المثقفة. كان علماء الكلام من الحرفيين وتجار السوق، كان منهم النجار والعلاف والغزال، في حين كان الفلاسفة من العلماء والوزراء وعلية القوم وندماء البلاط. وإذا كان علم أصول الدين مستمرا كمخزون نفسي عند الجماهير، خاصة فيما يتعلق بتراث السلطة، فإن علوم الحكمة قد انقطع الاتصال بها لأنها كانت أقرب إلى الدوائر الخاصة المغلقة منها إلى الثقافة العامة لم يبق منها شيء في وعي الجماهير إلا جانبها الإشراقي من خلال التصوف. ومن هنا ارتبطت ثقافة الجماهير بعلم أصول الدين أكثر من ارتباطها بعلوم الحكمة. بينما ارتبطت ثقافة الصفوة بعلوم الحكمة أكثر من ارتباطها بعلم أصول الدين. وبدلا من علوم الحكمة القديمة انتشرت الثقافة الغربية المعاصرة كوافد حديث يملأ فراغ الموروث القديم. كما انتشرت أيضا بين الخاصة دون العامة. (ح)
كان هدف الفرقة الناجية من بين الفرق الهالكة تدعيم السلطة دفاعا عن النظام القائم، بينما كان الغرض الأساسي من علوم الحكمة تقويض السلطة القائمة من الداخل؛ إذ انتشرت في الجماعات السرية مثل إخوان الصفا، وارتبطت بفرق المعارضة العلنية مثل المعتزلة، أو السرية مثل التشيع.
23
صحيح هناك فرق كلامية للمعارضة كما أن هناك من الفلاسفة من كان جليس السلطان مثل: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، ولكن الغالب على العقائد السنية تدعيم الدولة السنية، بينما كان الغالب على نظريات الفلاسفة الاستقلال عن السلطة الدينية والسياسية. سجن ابن سينا ومحنة ابن رشد. لذلك لم يتعرض «من العقيدة إلى الثورة» لعقائد الشيعة؛ لأنها لم تكن مخزونا نفسيا مباشرا في مصر والوطن العربي والعالم السني، بالرغم من حب مصر لآل البيت، وتأسيس الأزهر لنشر الشيعة حتى صلاح الدين، ووجود الشيعة في الخليج والعراق. وهو على أية حالة نقص كبير يعيبه علماء إيران. ولكن علوم الحكمة ذات صلة وثيقة بالتراث الشيعي؛ لذلك أمكن إضافته بلا حرج، ليس فقط عند السجستاني والعامري، بل أيضا عند الطوسي وناصر خسرو والشيرازي وغيرهم. وربما للشيعة باع طويل في علوم الحكمة أكثر مما للسنة. (ط)
قام علم الكلام في صورة فرق؛ أي تيارات جماعية أو أحزاب سياسية أو قوى اجتماعية، مثل السنة والشيعة، والمعتزلة والخوارج، والمرجئة والجهمية. وقد كتب تاريخ علم الكلام بطريقة تاريخ الفرق وبطريقة نسق العقائد معا. في حين حمل لواء الحكمة أفراد قلائل: الكندي والرازي والفارابي والعامري وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد. صحيح أنه كان هناك رؤساء للفرق مثل الأشعري وواصل بن عطاء، وكان هناك فكر جماعي مثل إخوان الصفا، ولكن ظل التمايز بين العلمين هو التمايز بين عقائد الفرق ومذاهب الفلاسفة. المتكلمون كثرة والفلاسفة قلة. يعد المتكلمون بالمئات في حين يعد مشاهير الفلاسفة على أصابع اليدين. صناعة الكلام مشاع في حين صناعة الفلسفة نادرة. (ي)
وكما ارتبط علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، فكلاهما شقان لعلم واحد هو علم الأصول، الأول أصول النظر، والثاني أصول العمل، ارتبطت علوم الحكمة بعلوم التصوف من خلال حكمة الإشراق.
24
فمن الحكماء من ارتبط بالعقل والعلم، أي بالطبيعة، مثل الكندي والرازي وابن رشد. ومنهم من ارتبط بالذوق والإشراق مثل الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل. ومن الصوفية من ارتبط بالتصوف العلمي والرياضيات والمجاهدات مثل الصوفية الأوائل وصوفية المرحلتين الأخلاقية في القرون الثلاثة الأولى وصوفية المرحلة النفسية في القرنين الرابع والخامس. ومنهم من ارتبط بالتصوف النظري مثل صوفية القرنين السادس والسابع، السهروردي وابن الفارض وابن عربي وابن سبعين؛ ففي الجزء الرابع من «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا، وفي «حكمة الإشراق» للسهروردي، لا فرق بين علوم الحكمة وعلوم التصوف، بل قد نشأت خصومات وعداوات بين المجموعة الأولى، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، وبين المجموعة الثانية: علوم الحكمة وعلوم التصوف، بين علماء التنزيل وعلماء التأويل، بين استنباط الواقع من الوحي واستقراء الوحي من الواقع.
25
وهو النزاع الشهير بين الفقهاء من ناحية والصوفية والحكماء من ناحية أخرى، وعلى الرغم من النزاع بين الفقهاء والمتكلمين. (ك)
علوم الحكمة تالية على علم أصول الدين، كما أن علم أصول الدين سابق على علوم الحكمة في الزمان. نشأ علم أصول الدين أولا نشأة داخلية صرفة، ابتداء من أحداث محلية خالصة مثل الإمامة ومرتكب الكبيرة، واستمر الأمر كذلك على مدى قرنين من الزمان، في حين لم تنشأ علوم الحكمة إلا بعد عصر الترجمة، بعد دخول عنصر ثقافي جديد، هو الوافد، بالإضافة إلى الموروث القديم، فنشأ علم ثالث من حدث ثقافي يجمع بين الموروث والوافد. يطور الموروث ويعقله كي يتمثل الوافد. ويؤول الوافد ويوظفه للتعبير عن رؤية الموروث المتجددة. بدأ علم الكلام مبكرا منذ القرن الأول، واستمر إلى فترة متأخرة حتى القرن الثامن في علم الكلام الفلسفي عند الإيجي والتفتازاني والبيضاوي وأصحاب قواعد العقائد حتى «رسالة التوحيد» و«الحصون الحميدية». في حين بدأت علوم الحكمة متأخرة منذ القرن الثالث، وانتهت مبكرا في العالم السني حتى القرن السادس، ببارقة ابن رشد. واستمرت في إيران حتى القرنين التاسع والعشر عند صدر الدين الشيرازي وناصر خسرو. ولم يستطع السلطان عبد الحميد إحياءها بإعادة التحكيم بين الغزالي وابن رشد بين «تهافت الفلاسفة» و«تهافت التهافت».
26 (ل)
غلب علم أصول الدين على ثقافة المشرق دون المغرب، ربما لقرب المشرق من منطقة الديانات والمذاهب التي نشأ علم الكلام للرد عليها والدفاع عن الشبهات الآتية منها، في حين كان صقع المغرب بعيدا عن هذه المنطقة كما يعترف بذلك ابن رشد.
27
وبالرغم من جمع ابن حزم لأقوال المتكلمين في «الفصل» في إطار علم تاريخ الأديان المقارن، كان هناك عداء لعلم الكلام في المغرب على ما وضح في «الكشف عن مناهج الأدلة» لابن رشد. وربما كانت سيطرة الفقهاء في الأندلس على الحياة العقلية أحد أسباب غياب علم الكلام فيه. في حين شاعت الفلسفة في المغرب شيوعها في المشرق بالرغم من محنة ابن رشد. فظهر فلاسفة في المغرب كما ظهر فلاسفة في المشرق. ولا يعني ذلك وجود عقلية مشرقية صوفية إشراقية وعقلية مغربية عقلانية علمية؛ فقد ظهرت العقلانية والعلم في المشرق قدر ظهور التصوف والإشراق في المغرب. العقلية مفهوم أوروبي وافد، نشأ بدافع عنصري حضاري. إنما التيار الغالب مفهوم علمي ووصف تاريخي.
28
ثانيا: النقل والإبداع بين القدماء والمحدثين (1) نقل المحدثين
إذا كانت الغاية «من العقيدة إلى الثورة» هو التثوير ضد الاحتلال والقهر والتخلف، فإن الغاية «من النقل إلى الإبداع» هو القضاء على التغريب في عصرنا ضربا للمثل بنموذج القدماء، كيف تمثلوا الوافد ثم أعادوا إخراجه؟ كيف مارسوا النقل ثم قاموا بالإبداع؟ وإذا كان الهدف «من العقيدة إلى الثورة» هو القضاء على التحجر في الداخل، والتقوقع على الذات، وتحويل العقائد إلى أشياء ومقدسات، فإن الهدف من «النقل إلى الإبداع» هو القضاء على التبعية للخارج، وتقليد الآخر، وتحويل الثقافة الأجنبية إلى ثقافة عالمية، تعطي حقائق أكثر مما تعطي وقائع، ومصدرا للعلم بدلا من أن تكون موضوعا للعلم.
29
لذلك يأتي نقل المحدثين قبل إبداع القدماء نظرا لأن الأول هو الباعث على الثاني. هناك إذن علاقة في مشروع «التراث والتجديد» بين الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم»، والجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي». الأولى ترى الأنا من خلال الآخر، حين ترى الثانية الآخر من خلال الأنا. الأولى تجدد رؤية الأنا لذاتها من خلال ثقافة العصر، وهي في الغالب ثقافة الآخر. والثانية ترى الآخر العصري من خلال الأنا المتجدد عبر التاريخ ومن أجل رده إلى حدوده الطبيعية ، وإفساح المجال لتعدد الثقافات، ورد الاعتبار لثقافات الأطراف بعد أن كانت ثقافات المركز، وتحويل ثقافة المركز الحالية على الأمد الطويل إلى ثقافة الأطراف كما كانت عبر التاريخ. يمثل «من النقل إلى الإبداع» هذه العلاقة كنقطة التقاء بين الجبهتين؛ فهو دراسة لصلة الأنا بالآخر عند القدماء والعامل الموجه هو صلة الأنا بالآخر عند المحدثين؛ ومن ثم كان أقرب أجزاء الجبهة الأولى إلى الجبهة الثانية. «من النقل إلى الإبداع» لا يدرس كل علوم الحكمة في كل جوانبها المنطقية والطبيعية والإلهية والإنسانية، بل يدرس موضوعا واحدا فقط تبنى عليه علوم الحكمة كلها، وهو موضوع النقل والإبداع، الخيط الذي يربط أجزاء علوم الحكمة بناء على هم العصر وهاجس المحدثين. وهو هم حقيقي يقوم على افتراض الإبداع كما يقوم هم المستشرقين على افتراض النقل.
30
وهذا لا يمنع من قيام دراسات أخرى أكثر دقة حول النص العربي القديم، النص اليوناني وترجماته السريانية والعربية ومراحل الشرح والتلخيص والجمع والتأليف أكثر دقة، ليس استشراقا بل أبحاثا وطنية خالصة تحمل هموم العلم وهموم الوطن، هم التراث وهم التجديد، هم القديم وهم الجديد، رصيد التاريخ وأزمة الإبداع. هناك دافع وطني في البحث العلمي حتى ولو كان مجرد يقظة الذات تجاه الموضوع، خاصة الموضوعات التاريخية والحضارية، تضع الأنا في مواجهة الآخر؛ فالأنا غاية والآخر وسيلة، علوم الأنا هي علوم الغايات، وعلوم الآخر هي علوم الوسائل، خاصة وقد أخذ الآخر موقف الهجوم من الأنا منكرا دوره في التاريخ بعد أن تصدر المركز ودفع بجميع الحضارات البشرية إلى الأطراف. والوعي الحضاري هو أساس الوعي العلمي.
فبعد اتصالنا بالغرب منذ أكثر من مائتي عام، منذ فجر النهضة العربية الحديثة، بدأت علاقة التتلمذ والتعلم على يديه. وتم نقل المعلومات منه إلينا حتى أصبح العالم هو المتعلم؛ أي حامل العلم وناقله وليس مبدعه وخالقه. وطالت مدة نقل المعارف دون أن ينشأ علم جديد. ولما كان معدل الغرب في الخلق والإبداع أسرع بكثير من معدلنا في النقل والترجمة، ازدادت المسافة بيننا. وكلما ظننا أننا قاربنا اللحاق اليوم بما أنتجه بالأمس اتسعت الهوة بيننا حتى نصاب بالصدمة الحضارية، ونيأس من التقدم، ونكتفي بدور التابع، ويصبح الآخر في المقدمة ونحن في المؤخرة، حتى لا نكاد نراه فيتبع بعضنا بعضا. ونتحول إلى تلميذ أبدي لا دور له إلا النقل. ويكون الغرب هو المعلم الأبدي، دوره الأساسي في الإبداع. وتتراكم المعلومات طبقة فوق طبقة، وعلما فوق علم، حتى نطمس معالم الواقع ويغيب التنظير المباشر له. فتكون الثقافة في جانب والواقع في جانب آخر، ويصبح العلم حرفة وليس رسالة، وينشأ التكسب بالعلم، وتظهر طبقة من حملة العلم ونقلة المعلومات، تحصل على الشهادات والأوسمة، وتنال الجوائز المحلية والعالمية، وتصبح نجوما في أجهزة الإعلام تنافس نجوم الرقص والغناء. وتتكافأ النظريات، وتتعادل المذاهب دون قدرة على الاختيار أو النقد إما بمراجعتها على العقل أو بالتحقق من صدقها في الواقع، وتنفصل عن بيئتها الأولى التي خرجت منها، وتصبح «عالمية» خاصة بعد سيطرة أجهزة الإعلام الغربية على وسائل نقل المعلومات، فتنتشر حضارة الغرب وحدها، وتطمس معالم الثقافات المحلية، وتصبح الحضارة الإنسانية ذات بعد واحد، أحادية الطرف، وحيدة القرن. بل إن ثقافات الغرب قد تمت السيطرة عليها بثقافة أعم هي الثقافة الأمريكية؛ أي اللاتاريخي اللاحضاري الآلي الذي حاول الجمع بين الثقافات الأوروبية المحلية، الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية والإسبانية، على أيدي المهاجرين الجدد والفارين من القانون والباحثين عن الذهب، العنصري الطائفي الذي لم تؤثر فيه فلسفة التنوير في الأعماق، في التصورات وفي السلوك. ولما كانت الثقافة الأساس النظري لكل انتشار آخر، فسرعان ما تعم السيطرة الاقتصادية والعسكرية، وتعم التبعية، وتضيع الهوية لدى كل الشعوب غير الأوروبية. ولا خلاص من ذلك إلا بثورة عارمة مضادة تنقل الأمة من الفعل إلى رد الفعل، من التغريب إلى مقاومة الغرب؛ فمقاومة الغرب إنما هي نتيجة التغريب ورد فعل عليه. يولد الشيء نقيضه، ويتضمنه ليرثه ويحل محله.
لقد طالت فترة الترجمة والنقل عن الغرب بالرغم من مرور أكثر من مائتي عام. ولم نصل إلى مرحلة الشرح والتلخيص الواعي كمرحلة نحو العرض والتأليف من أجل الوصول النهائي إلى مرحلة الخلق والإبداع. لم نصل إلى مرحلة صياغة الحكمة النظرية والحكمة العملية إلى صياغة منطق وطبيعيات وإلهيات كما وصل القدماء. ترجماتنا معظمها عشوائي لأسباب المهنة، والقليل منها قصدي من أجل المساهمة في النهضة العربية المعاصرة.
31
غلب على مصطلحاتها التعريب؛ أي النقل الصوتي للفظ، وليس الترجمة أي النقل المعنوي، حتى امتلأت اللغة العربية المعاصرة بمعظم المصطلحات العلمية الحديثة المعربة، وخلت من الشروح أو التلخيصات أو التعليقات القادرة على الغوص في المعنى وإعادة عرضها بأسلوب جديد، وتوجيه مقاصدها من الوافد نحو الموروث لخدمة الثقافة المحلية وليس ترويجا للثقافة الأجنبية. وما زالت الترجمة مستمرة، ولم نصل بعد إلى مرحلة التأليف الفلسفي المستقل الذي يجتمع فيه الوافد والموروث، أو الذي يتم فيه توظيف الوافد من أجل إعادة صياغة الموروث طبقا لثقافة العصر، وإعادة عرض القديم من خلال الجديد من أجل بداية إبداع ثقافي عربي جديد.
32
كانت الترجمات امتدادا للموروث داخل الوفد وترويجا لثقافة الخارج في الداخل كنوع من الوكالة الحضارية له؛ فالعقلاني يروج للعقلانية، والعلمي يترجم الاتجاهات العلمية، والإنساني الوجودي ينقل الوجودية، والماركسي يبشر بالماركسية، والبنيوي يدعو إلى البنيوية حتى أصبح الفكر العربي المعاصر مجرد تجاور بين ثقافتين، الموروث والوافد دون تفاعل بينهما إلا في أقل القليل بطريق المرآة المزدوجة، قراءة الأنا في الآخر وقراءة الآخر في الأنا كما فعل الطهطاوي في «تخليص الإبريز».
كانت الثقافة الغربية نمطا للتحديث في الفكر الغربي المعاصر بتياراته الرئيسية الثلاث: الإصلاح الديني، والفكر الليبرالي، والتيار العلمي العلماني. وكانت فلسفة التنوير مطلبا للجميع، ونموذجا يحتذى به تلبية لمطالب الواقع من عقلانية وحرية ونزعة إنسانية وعلمية طبيعية وتقدم. كما ظهرت مذاهب سياسية تعبر عن اختيارات الصفوة مثل الليبرالية والقومية والماركسية في مقابل إسلامية الجماهير ونزعاتها المحافظة. وذاعت المذاهب والمناهج الفلسفية الغربية من مثالية ووضعية ووجودية وشخصانية وماركسية وظاهرية وبنيوية وأخيرا تفكيكية وما بعد الحداثة. فلما ظهرت عزلتها وسط الثقافة العامة وحصارها من الموروث حاولت التكيف معه. فخرجت لنا «الجوانية» باعتبارها مثالية إسلامية، و«الماركسية التاريخانية» أو «الماركسية الليبرالية» باعتبارها ماركسية عربية، و«الشخصانية الإسلامية» و«الوجودية العربية» و«الاشتراكية العربية» تستخدم فيها الثقافة المحلية لتبرير الثقافة الوافدة، وليس الثقافة الوافدة، كأدوات تعبير عن الثقافة المحلية.
33
صحيح أن إبداعاتنا عملية في إتمام حركة التحرر الوطني، وإنشاء دولنا الحديثة، والتصنيع، واستصلاح الأراضي، وفي الثورات الحديثة، ثورات الضباط الأحرار أو الثورة الإسلامية في إيران أو الثورات والهبات الشعبية في مصر والسودان والمغرب والجزائر وتونس والأردن وسوريا. ونظرا لأن هذه الإبداعات العملية لم تواكبها إبداعات نظرية على نفس المستوى انهارت معظم المشاريع القومية الليبرالية والقومية الاشتراكية والإسلامية. بل وتفاقمت الأزمات، واشتد الكرب: احتلال مزيد من الأراضي في فلسطين، انتهاك حقوق المواطنين، تفاقم أزمة الحريات العامة، ازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء، سيطرة التجزئة على الأمة الواحدة، اندلاع الحروب الطائفية والقبلية والعشائرية، زيادة التبعية للخارج، الاعتماد عليه في الغذاء والسلاح والتعليم والثقافة، ضياع الهوية لصالح التغريب، سكون الجماهير ولا مبالاتها لما يحدث في حياتها من انتهاك لاستقلالها ونيل من كرامتها الوطنية. كل ذلك يحدث في منطقتنا والعالم يجدد نفسه، الرأسمالية تجدد نفسها، والاشتراكية تحدث نفسها، بينما تنحسر أيديولوجيات العالم الثالث وتنهار مشاريعه في التحرير والاستقلال الوطني.
صحيح أن المشاريع العربية المعاصرة ظاهرة أمل في حياتنا الثقافية والسياسية في ظروف موقفنا الحضاري المثلث الجبهات: التراث القديم، والتراث الغربي، والواقع المباشر. وهي تعادل المذاهب الفلسفية الغربية في ظروف العصور الحديثة في الغرب وقطيعته المعرفية مع الماضي منذ عصر النهضة الأوروبي في القرن السادس عشر. يتم إبداعها في ظروف مغايرة لظروف القدماء؛ فقد نشأ معظمها مواكبا لهزيمة 1967م، وبالتالي خرجت من جرح الهزيمة. في حين خرج إبداع القدماء من نشوة الانتصار وزهو الغلبة. وكلاهما إبداع وإن اختلفت الظروف، وإن تعددت النماذج. انتشرت في مصر والمغرب والشام مراكز الإبداع في الوطن العربي والآن يلحق الخليج.
34
وقد تنشأ أجيال جديدة تتجاوزها وتطلق حدودها، وتبدع مناهجها الخاصة بدلا من استعارة المناهج الغربية، بنيوية في المغرب أو ماركسية في الشام أو مثالية في مصر أو اجتماعية في الخليج. وتتخلى عن روح التحزب السياسي والفكري، وإلا ارتدت قطعية مذهبية، وتثبت فاعليتها وأثرها على الناس وتحريكها للتاريخ بخروجها عن نخبويتها وعقول أصحابها إلى الفضاء الخارجي. (2) إبداع القدماء
وفي مقابل نقل المحدثين هناك إبداع القدماء. والدافع الحقيقي لكتابة «من النقل إلى الإبداع» هو إعطاء درس للناقلين المحدثين من المبدعين القدماء. ليست الغاية دراسة صلة الفكر الإسلامي بالفكر اليوناني أو كما يقال «أثر الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية» أو «التراث اليوناني في التراث الإسلامي» دراسة تاريخية صرفة بمنهج تاريخي مقارن، بمنهج الأثر والتأثر. فقد كثر اللغط في ذلك إما من المستشرقين لتفريغ الحضارة الإسلامية من مضمونها والقضاء على الإبداع الذاتي أو من الدارسين العرب التابعين للمستشرقين نقلا وترويجا أو ادعاء للتحديث وللانتماء إلى اليونان على حساب الثقافة المحلية، وللوافد على الموروث أو استسهالا لنقل ما هو شائع من أحكام طلبا للرزق واستيفاء ادعاء العلم بثقافتين. الهدف هو قراءة القدماء بهم المحدثين، ونعي المحدثين في علاقتهم بالغرب أمام القدماء في علاقتهم باليونان. الهدف هو تلمس مواطن الإبداع في علوم الحكمة بعد أن تم النقل والشرح والتلخيص والتعليق والعرض والتأليف، ثم الإبداع الخالص لمقارنة اللحظة الأولى باللحظة الثانية، عصر المأمون وعصر محمد علي، ديوان الحكمة ومدرسة الألسن، حنين بن إسحاق ورفاعة رافع الطهطاوي. الهدف هو تعلم نموذج الإبداع من القدماء أو لإعطاء نموذج إبداع جديد بعد أن طال نقل المحدثين، ولم يظهر إبداعهم بعد إلا على نحو جزئي وفردي دون أن يصبح بعد تيارا عاما، وعملا جماعيا، وسمة لمرحلة تاريخية. المهم قراءة هم الحاضر في نشوة الماضي وقراءة عظمة الماضي في مأساة الحاضر، قياس مرحلة الهزيمة بمرحلة الانتصار والعودة إلى مرحلة الانتصار للبحث عن جذور الهزيمة. «من النقل إلى الإبداع» دراسة لنموذج قديم لحل إشكال معاصر عن طريق تحليل الوعي التاريخي للأمة واكتشاف أنماطها السابقة فيه، في لا وعيها الثقافي الذي تراكمت عليه ثقافات السلطة والتقليد. وقد يصبح في الإمكان عن طريق الوعي التاريخي وإحياء النموذج الماضي درء مخاطر العصر والقضاء على الاغتراب فيه. والوعي بإبداع القدماء قد يكون أحد الوسائل لتجاوز نقل المحدثين. «من النقل إلى الإبداع» إذن محاولة لإعطاء نموذج من القدماء على الاحتراس من التغريب وعدم الوقوع فيه؛ فقد تعرف الحكماء القدماء على الغرب في عصرهم أي اليونان. ونقلوا عنهم المعارف في جيل واحد أو جيلين. وبمجرد بداية القرن الثالث، والنقل ما زال مستمرا بدأ الإبداع.
35
واستمر التأليف موازيا للنقل في القرن الرابع حتى انتهى مجموع النقل وعم التأليف كطابع عام لمرحلة تاريخية هي التي أصبحت عنوانا للحضارة الإسلامية وذروة لها.
36
كما استمر الشرح والتلخيص والتعليق في القرنين الخامس والسادس في خط مواز مع التأليف المستقل.
37
تمثل الحكماء حضارة الآخر بعد ترجمتها ونقلها ثم احتوائها بالشرح والتلخيص ثم نقدها وقبول ما يتفق منها مع العقل والطبيعة والتجربة الإنسانية وعذر الأخطاء فيها، وردها إلى طبيعية البيئة الثقافية الخارجية كاللغة والعادات والتقاليد وطبائع الشعوب الأجنبية.
وفي الوقت الذي كان يتناهى فيه الإبداع عندنا كان النقل يتم في الغرب منا إليه؛ فقد كان ابن رشد آخر الفلاسفة المسلمين في المغرب (595ه) معاصرا لأكبر المترجمين اللاتين فيه، جيرار الكريموني (583ه/1187م). وفي الوقت الذي سقطت فيه طليطلة (478ه) وقت إمام الحرمين في المشرق أستاذ الغزالي واللذين لم يؤثر فيهما هذا السقوط في بناء العقائد ولا في اختيار الأشعرية والتصوف، انتهى دورها كمركز للإبداع عند المسلمين، وبدأ دورها كمركز للنقل والترجمة عند النصارى. وكان اليهود حلقة الاتصال بين الاثنين، إبداع المسلمين ونقل النصارى. وإن من مهام «من النقل إلى الإبداع» أيضا هو إعادة كتابة تاريخ الوعي الأوروبي بالتاريخ الهجري ردا على تاريخ الحضارة الإسلامية بالتاريخ الميلادي ووضعها في مراحل تاريخ الوعي الأوروبي، مرحلة العصر الوسيط. «من النقل إلى الإبداع» دراسة لنشأة الحضارة الإسلامية وتطورها في علاقتها مع الآخر في مرحلة الازدهار والاكتمال وفي الوقت الذي كانت فيه الحضارة الغربية في العصر الوسيط في مرحلة التعلم والتتلمذ علينا حتى يتم الوعي بالمسار المتبادل بين الأنا والآخر من أجل القضاء على ظاهرة التغريب في عصرنا، والوعي بنهاية عصر ريادة الغرب وتبعية سواه.
38
وإن تذبذب وعينا التاريخي المعاصر بين التاريخين الهجري والميلادي، وميلنا إلى التاريخ الميلادي منذ عصر النهضة ليدل على تداخل المسارين، مساري الأنا والآخر، واغتراب المسار التاريخي للأنا في المسار التاريخي للآخر باستثناء إيران بعد الثورة الإسلامية، واليمن بعد الثورة الوطنية، ودول شبه الجزيرة العربية تأكيدا على المحافظة الدينية كدعامة أولى للنظم السياسية، ودرءا للثورة التي ارتبطت بالمذاهب السياسية الغربية، القومية والليبرالية والماركسية. وقد أكدت كل الشعوب الناهضة على التاريخ الوطني للأنا استقلالا عن الغرب وتأكيدا للهوية مثل اليابان. وإن الصهيونية تؤرخ لليهودية منذ خلق العالم وإلا أرخوا مرة مع اليونان، ومرة ثانية مع المسلمين، ومرة ثالثة مع الغرب الحديث. وما ينطبق على التاريخ ينطبق على الجغرافيا؛ فنحن الشرق الأوسط والصيني الشرق الأقصى بالنسبة إلى الغرب، مع أننا العالم العربي الإسلامي بالنسبة إلى أنفسنا، أوروبا غربنا وآسيا شرقنا. الغرب بالنسبة لنا هو الغرب الأدنى، وأمريكا بالنسبة لنا هو الغرب الأقصى. والحرب العالمية الأولى بالنسبة للغرب هي نهاية عصر الخلافة وبداية الحروب الصليبية الثانية بالنسبة لنا. والعصر الوسيط بالنسبة للغرب هو عصرنا الذهبي قبل ابن خلدون، والعصور الحديثة بالنسبة للغرب هي عصر الشروح والملخصات بالنسبة لنا قبل نهضتنا الحديثة منذ القرن الماضي وبالرغم من كبوتها هذا القرن.
وكان انفتاح القدماء على الآخر متعددا متنوعا دون أن تستأثر بهم حضارة على حساب أخرى. نقلوا حضارات الأمم السابقة بلا تحيز لإحداها أو سيطرة لها على ذهن الأمة. نقلوا ثقافات اليونان والروم من الغرب؛ وفارس والهند من شرق. فقد انتشر الإسلام شرقا قدر انتشاره غربا، بل كان انتشاره شرقا أسرع وأكثر امتدادا في البر نظرا لسهول آسيا الوسطى الممتدة حتى بحر الصين. كان النقل عن اليونان أكثر وأوسع انتشارا وأكثر حضورا وإثارة نظرا لانتشار الثقافة اليونانية على رقعة البلاد المفتوحة أكثر من أية ثقافة أخرى. وكانت قد انتشرت من قبل في الديانات السابقة مثل النصرانية واليهودية والديانات الشرقية كالمانونية وغيرها، هذا بالإضافة إلى ما تتميز به الثقافة اليونانية من خصائص تجعلها قريبة من الحضارة الناشئة الجديدة مثل العقلانية والقدرة على التأمل والاستدلال، والاتجاه نحو الطبيعة والفطرة، والنظرة الإنسانية للعالم. ولقد حاول القدماء ذلك صراحة كما فعل صاعد الأندلسي في «طبقات الأمم» حرصا على التعددية، وإعطاء كل شعب حقه والاعتراف بدوره في الحضارة البشرية العامة دون ما استثناء أو أثرة.
39
وقد تكون علاقة القدماء بالآخر وأولوية الغرب: اليونان والرومان، على الشرق: فارس والهند، مثل علاقتنا الآن بالغرب الحديث: أوروبا المعاصرة، وأوليتها على الشرق: الصين والهند، نظرا لارتباط تاريخنا الحديث، حقبة الاستعمار، بالغرب، بالرغم من تأييد الشرق لنا أثناء حركة التحرر الوطني، ونظرا لأن الغرب ما زال يمثل بالنسبة لنا مصدر التحدي الأول، مصدرا للعلم بدلا أن يكون موضوعا للعلم. وقد يكون ما رآه القدماء من خصائص مثالية عند اليونان، مثل العقل والطبيعة والإنسان، ما نراه حاليا منذ رواد النهضة العربية الحديثة في الغرب من مثل التنوير وهي نفسها المثل القديمة، العقل والطبيعة والإنسان والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم. لقد تحدث القدماء عن فارس والهند والصين أكثر مما نتحدث عنهم الآن. لم يعرف القدماء اليابان، ويكاد يعرفها المحدثون بالرغم من أن نهضة الشرق الحديث أكثر جذبا لنا من نهضة الشرق القديم وجذبها للقدماء.
40
لقد حدث حوار بين القدماء، بين أنصار فارس، زهرة الشرق، وأنصار اليونان درة الغرب، بين الحكمة الفارسية والحكمة اليونانية دون خصومة أو شقاق.
41
تعادل جناحا العالم الإسلامي، الشرقي والغربي، فطار العالم الإسلامي دون أن ينحرف غربا أو ينحرف شرقا:
لا شرقية ولا غربية . في حين طرنا نحن بجناح غربي قوي وجناح شرقي ضعيف، فاغتربنا، وانحزنا للغرب، ونشأت بيننا ظاهرة التغريب، وعمت وانتشرت حتى أصبح وعينا القومي مغتربا عن مسار الأنا في مسار الآخر.
42
وإذا وعينا الشرق فإننا نعي الهند أكثر مما نعي الصين أو اليابان، بل إن فارس التي شاركتنا الدين والحضارة والتاريخ حصرناها في أقسام اللغات الشرقية، وعاديناها في الجوار.
وإذا كان «من العقيدة إلى الثورة» قد أصبح هو العنوان المفضل للجزء الأول من الجبهة الأولى لإعادة بناء علم أصول الدين بعد أن كان العنوان في وصف المشروع الأول منذ عقدين من الزمان «علم الإنسان»
Anthropology
في مقابل «علم الله»
Theology ، فكذلك كان عنوان «من النقل إلى الإبداع» هو «فلسفة الحضارة» لأنه يتعلق بصلة حضارة الأنا بالحضارات الأخرى، اليونانية والرومانية والفارسية والهندية.
43
ويدل تركيب «من ... إلى» على هذا التمايز بين القدماء والمحدثين، والانتقال من القديم إلى الجديد، ومن مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى. كان من ضمن العناوين المقترحة، ولو في الخاتمة «من تمثل اليونان إلى رفض الغرب» إبرازا للتقابل بين إبداع القدماء في تمثل اليونان، واحتواء ثقافتهم، والتعبير عن الأنا من خلال الآخر، ونقل المعاصرين وتغريبهم واحتوائهم في ثقافة الغير وتبعيتهم لها. ولا ضير في نمطية التركيب «من ... إلى»، فما زال مؤثرا في النفس، «من العقيدة إلى الثورة» انتقالا من عقائد القدماء إلى ثورة المعاصرين، «من النقل إلى الإبداع» انتقالا من نقل المعاصرين إلى إبداع القدماء؛ فالمعاصرة لا تعني الزمان التاريخي بالضرورة بل الموقف الحضاري. وبهذا المعنى قد يكون القديم أكثر معاصرة من الحديث، وقد يكون الحديث أكثر قدما من القدماء. وتستمر هذه النمطية في التركيب في باقي أجزاء الجبهة الأولى «من الفناء إلى البقاء» لإعادة بناء علوم التصوف، «من النص إلى الواقع» لإعادة بناء علم أصول الفقه، «من النقل إلى العقل» لإعادة بناء العلوم النقلية.
44
ولفظ «النقل» هو اللفظ القديم لما نعنيه حاليا بلفظ الترجمة وما يعنيه الشوام بلفظ «التعريب»؛ أي نقل نص من لغة إلى لغة أخرى. وأحيانا يفيد النقل النقل الحرفي للمعني من لغة إلى لغة. في حين أن لفظ الترجمة قد يفيد الذهاب إلى ما هو أبعد من النقل إلى تأويل المعنى؛ أي إلى النقل المعنوي. النقل يتم على مستوى الألفاظ، والترجمة تتم على مستوى المعاني.
45
النقل مجرد تحريك اللفظ من لغة إلى لغة في حين أن الترجمة تعبير عن معنى اللفظ في لفظ بلفظ مرادف في لغة أخرى، وقد فضلنا اللفظ القديم «النقل» على الحديث «الترجمة» حرصا على التواصل مع القدماء. أما لفظ «الإبداع»، فإنه لفظ قديم، أحد أسماء الله الحسنى :
بديع السموات والأرض ، وهو لفظ حديث كثر استعماله من أجل الدلالة على أزمة الإبداع في عصرنا، الإبداع الشامل في الفكر والأدب والفن والعلم والسياسة، إحساسا بأن فترة النقل قد طالت، إما النقل عن القدماء أو النقل عن المحدثين.
46
وكثرت الندوات، وأنشئت المجلات، وقامت مراكز الأبحاث لتناول مشكلة الإبداع. وبالتالي يحتوي العنوان: «من النقل إلى الإبداع» على لفظ قديم ولفظ جديد، ويدل على الانتقال من القدماء إلى المحدثين، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن التراث إلى التجديد، ومن مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، وعلى نفس إيقاع «من العقيدة إلى الثورة».
أما العنوان الفرعي «محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة» فهو أيضا العنوان النمطي الفرعي لكل أجزاء الجبهة الأولى لإعادة بناء العلوم القديمة: علم أصول الدين، علوم الحكمة، علوم التصوف، علم أصول الفقه، العلوم النقلية بعد أن دخلت العلوم العقلية والطبيعية في علوم الحكمة النظرية، والعلوم الإنسانية، اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ في الحكمة العملية، وهو التعبير الوحيد المضاف إلى تعبيرات القدماء في تسمية علومهم لما كان عصرهم هو عصر العلوم الدينية والشرعية، في حين أن عصرنا هو عصر العلوم الإنسانية. وعلوم الحكمة هو التعبير المختار عند القدماء ابن سينا خاصة كعنوان فرعي في موسوعاته الكبرى «الشفاء»، وملخصها «النجاة»، وشرحهما، والإضافة عليهما وقراءتهما في «الإشارات والتنبيهات»، وليس الفلسفة والذي استعمله القدماء في وصف الفلسفة اليونانية وليس في تحديد معنى العلم.
47
فالتمايز بين الأنا والآخر واضح في العنوان الفرعي «علوم الحكمة» عند الأنا في مقابل «الفلسفة» عند الآخر. التعبير الأول عربي أصيل مستمد من الأصل الأول، القرآن الكريم:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ،
يؤتي الحكمة من يشاء ، في حين أن اللفظ الثاني معرب من اللفظين اليونانيين: فيلا سوفيا. وقد نقلا معربين: «الفلسفة»، ومترجمين: محبة الحكمة.
48
ثالثا: ظاهرة «التشكل الكاذب» (1) خطأ الحكم بالنقل والتأثر والخلط والتوفيق
ذاعت عدة أحكام خاطئة على علوم الحكمة منذ تسميتها الفلسفة الإسلامية بأنها امتداد لعلوم اليونان، وأن الحكماء؛ أي الفلاسفة، ما هم إلا أتباع المعلم الأول، وأن أقصى ما أبدعوه هو المعلم الثاني أو الشارح الأعظم. علوم الحكمة ما هي إلا شروح على متون الشرح لفظا بلفظ، وعبارة بعبارة، وفقرة بفقرة، وفصلا بفصل، وبابا بباب، وكأن المسلمين قد استبدلوا بنص الوحي نص أرسطو؛ فالأنا يدور في فلك الآخر. الآخر هو الأصل، والأنا الفرع. كان أقصى إبداع للحضارة الإسلامية هو شروحها على أرسطو ونقل ذلك إلى الغرب، استفاد منه أولا لتأييد الدين ثم لفظه ثانيا عندما اكتشف عورته وهو بصدد نشأة العلم الحديث إبان الفصل بين الفلسفة والدين، والعلم والإيمان. وقد أصدر هذا الحكم بعض المستشرقين. وتابعهم فيه بعض العرب المقلدين من محرري الكتب المقررة ومدعي التجديد إيحاء برفض المحلية وتبنيا لمحلية الثقافة وهي اليونانية، مستنكفا من حضارة الأنا ومدعيا ثقافة الآخر، إحساسا بالدونية. وبالإضافة إلى عيوب الاستشراق العامة المنهجية والموضوعية التي وراء كثير من أحكامه يخطئ هذا الحكم ليس فقط بالنسبة للحضارة الإسلامية في التقائها مع الحضارات المجاورة، بل بالنسبة لالتقاء الحضارات بعضها بالبعض الآخر. فلا توجد حضارة ناقلة لأخرى.
49
الحضارات كائنات حية، لكل منها استقلالها الذاتي، وحياتها الخاصة، وشخصيتها المتميزة، لكل منها جوهرها وبؤرتها ومحاورها وتصورها للعالم وقيمها. لكل منها عمرها ودورتها ودورها في تاريخ الحضارات البشرية. علاقاتها بالحضارات المجاورة تحكمه قوانين التقاء الحضارات ومنطقه والذي حاول الغرب صياغته في علم «أنثروبولوجيا الثقافة». إن لم يعرفه التابع العربي نظرا لعدم اطلاعه على الثقافة الغربية والعلوم الإنسانية، فإن المستشرق لا عذر له لأن الثقافة الغربية ثقافته، والعلوم الإنسانية علومه. وعادة ما يكون المستشرق لغويا مؤرخا لا شأن له بتطورات الثقافة الغربية ولا علومها، عالما داخل حضارته من الدرجة الثانية. وقد يكون على علم بها ولكنه بها ضنين؛ فهي إبداعات الحضارات المتميزة الحديثة لا تطبق إلا في الموضوعات المتميزة الحديثة. والحضارة الإسلامية ليست كذلك؛ فهي تنتمي إلى الحضارات اللاأوروبية، حضارات الأطراف التي وظيفتها النقل عن المركز. تنتمي إلى الحضارة السامية بما فيها من تناقض وسحر وتسلط في مقابل الحضارة الآرية التي تقوم على العقل والعلم والحرية. وهي نظرة عنصرية قديمة سادت الاستشراق الأوروبي في القرن الماضي. والواقع أن كل حضارة تتفاعل مع غيرها من الحضارات المجاورة، تأخذ منها طبقا لاختيارها الخاص، وتتمثل منها ما تريد، وتعيد توظيفه من منظورها وطبقا لاحتياجاتها. لا يوجد نقل حرفي أو تقليد فردي من حضارة لأخرى؛ فهذا افتراض نظري لا وجود له، يدل على عقلية الرائي وأهدافه أكثر مما يكشف الموضوع المرئي وتكوينه. هي عقلية تقوم على التفرقة بين المركز والمحيط، الأصل والفرع، المبدع والناقل، العبقري والمجدب، الأبيض والأسود، السيد والعبد، اليوناني والبربري. تلك كانت علاقة اليونان بغيرهم من الشعوب المجاورة، نموذج علاقة الغرب الحديث بالشعوب اللاأوروبية في أفريقيا وآسيا بعد القضاء على الشعوب الأصلية في أمريكا اللاتينية.
وقد يخف الحكم من النقل الآلي، والنسخ المطابق، والتقليد الأعمى إلى الأثر والتأثر، أثر الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية، وتأثر الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية. هنا على الأقل يوجد تمايز بين حضارتين، تمايز وجود، وأن كان هناك فيض من المركز إلى المحيط في الثقافة والعلوم. هناك أثر ميتافيزيقا أرسطو على إلهيات ابن سينا في العلة الأولى والمحرك الأول، وأثر فيض أفلوطين على تصور الفارابي للصلة بين العقل الأول والعقول العشرة، وأثر أفلاطون على أنصار الحكمة الإشراقية مثل إخوان الصفا، وأثر أرسطو على ابن رشد في كل شيء في المنطق والطبيعات والإلهيات. أقسام النفس وقواها عند ابن سينا من أرسطو، والمدينة الفاضلة عند الفارابي من جمهورية أفلاطون. ويرجع خطأ الحكم بالأثر والتأثر إلى السرعة والحكم بظاهر اللغة بالإضافة إلى عموم استعمال لفظي الأثر والتأثر؛ فاللغة ثوب الفكر بتعبير القدماء، شكل دون مضمون، لفظ دون معنى، بدن دون نفس، صوت بلا دلالة. واستعمال علوم الحكمة ألفاظ الفلسفة اليونانية ومصطلحاتها لا تعني تبني معانيها وتصوراتها أو وصف نفس الأشياء التي تحيل إليها هذه الألفاظ وتفيد نفس المعاني. اللفظ مجرد أداة ووسيلة وليس غاية أو قصد الحكم بالأثر والتأثر إذن حكم متسرع لا يذهب أبعد من مستوى الألفاظ بدعوى أنه حكم على المضمون. ينطلق من اللغة، ويمتد إلى الفكر، من العرض إلى الجوهر، ومن الظاهر إلى الحقيقة. وكان المستشرق قد تربى على أن أصول الحضارة عند اليونان كما تدل على ذلك الحضارة الغربية في عصورها الحديثة. كما أن المستشرق عنصري الحضارة، مركزي الثقافة، أبيض اللون، ومتفوق العصر كما يبدو في الأعمال السينمائية. وبالتالي يحيل موضوعه في الأطراف إلى أصوله في المركز، فيحكم بالأثر والتأثر. الغير عنده يرد إلى الأنا لديه؛ فيرد كل شيء إليه، وتصب الخيرات والثروات والسكان والعلوم والثقافات في المركز من المنابع التي خرجت منها: ذهب جنوب أفريقيا، عبيد أفريقيا، قطن مصر، توابل الهند، مطاط الملايو، ثقافة العالم القديم وعلومه. حضارة اليونان خلق عبقري على غير منوال. أثرت في حضارات الشعوب المجاورة، مصر وفارس وفينيقيا وكنعان وبابل وآشور، ولم تأخذ منها شيئا بالرغم من حداثة اليونان وقدم شعوب الشرق القديم.
50
والحقيقة أن لفظ أثر لفظ متشابه. الأثر متعدد المستويات: المستوى الأول اللغة، وهو ما حدث في علوم الحكمة، هو المستوى الظاهري الشكلي الخارجي. وهو ليس أثرا بالمعنى الدقيق بعد عصر الترجمة، بعد أن أصبحت اللغة مشاعا عند الجميع، لا فرق بين وافد وموروث. إنما الخلاف بين اللفظين المتشابهين هو خلاف فقط في علم الأصوات، في طريقة النطق مثل عقل
NOUS
الله
THEOU
طبيعة
، نفس
أو في الأصل الاشتقاقي الحسي الذي غالبا ما يشابه أيضا سواء في الصوت مثل عقل
LOGOS ، صراط
STRATA
أو في المعنى مثل روح
وكلاهما من معنى الريح أو الهواء.
51
والمستوى الثاني المعنى، والمعنى لا يستورد ولا يفد لأنه يفيد الشيء. والشيء واحد، يفيد معنى واحدا. فالعالم
COSMOS ، والإنسان
ANTHROPOS . المعنى واحد وإن اختلفت التصورات والمفاهيم، وهو المعنى الخاص للعالم وللإنسان في كل حضارة ولدى كل شعب. والمستوى الثالث الشيء المفيد للمعنى والمعبر عنه باللفظ. وهذا أيضا لا استيراد فيه ولا إيفاد؛ فالأشياء لا تنقل. والمستوى الرابع هو الذي قد يحدث فيه تفاعل والتقاء بين حضارتين، مستوى التصورات والمفاهيم الخاصة بكل حضارة والتي قد تتزاحم وتتداخل وتتبادل لصالح الحضارة الناشئة التي في طور التكوين؛ فالعلة الأولى في علوم الحكمة خالق، والمحرك الأول يعتني بالعالم. وهي تصورات جديدة على التصورات اليونانية التي جعلت العالم يشارك العلة القديمة في بعض مظاهر قدمها سواء في الفكر أو في المادة، والتي جعلت العالم يتحرك نحو المحرك الأول عشقا دون تدبير أو عناية. ويتم التأثير باستمرار لصالح الألفاظ في الحضارة الوافدة؛ إذ تدخل إليها تصورات جديدة لم تكن فيها من قبل، وليس لصالح الحضارة الناشئة التي لا تستعمل الألفاظ المشاعة بعد عصر الترجمة حرصا على وحدة الثقافة، وثقة بالمعاني والتصورات والأشياء. ولا مشاحة في الألفاظ.
وقد يتعدى الحكم الخاطئ النقل والأثر إلى سوء الفهم والخلط والتوفيق الهجين بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي، بين الحكمة والشريعة، بين العقل والإيمان، بين الفيلسوف والنبي، بين أرسطو ومحمد. إن أقصى إبداع لعلوم الحكمة هي الشروح والملخصات على أرسطو خاصة، صائبة أحيانا وخاطئة في معظم الأحيان، تخلط بين أفلاطون وأرسطو، بين أفلوطين وأرسطو، من عقلية لا تعرف النقد التاريخي أو الموضوعية العلمية. وهو أيضا حكم عام ومبتسر يحكم على ظاهر الأشياء. ويرجع الخطأ في الحكم إلى سببين: ذاتي يتعلق بعقلية المستشرق، وموضوعي خاص بطبيعة العمليات الحضارية التي تحدث في حالة التقاء الوافد والموروث في حضارة واحدة؛ فعقلية المستشرق عقلية مفرقة، تقوم على التمييز والفصل ورصد الاختلاف أكثر من رؤية التشابه إثر تجربة العصور الحديثة التي كشفت مخاطر الخلط بين الكنيسة وأرسطو، بين الإيمان والعقل، بين الدين والفلسفة، بين الكتاب المقدس المغلق وكتاب الطبيعة المفتوح. ولما كان المستشرق ابن حضارته فقد حكم على كل نتاج حضارة يقوم على الجمع بين الثقافات والتزاوج بينها، ورؤية العالم من منظور الوحدة أكثر من منظور الاختلاف بأن ذلك خلط وتلفيق وتوفيق، ويقوم على سوء فهم لأحد الطرفين، هو الغالب الوافد لتقريب المسافة بينه وبين الموروث. فأرسطو هو الفيلسوف النبي، حكيم اليونان، المعلم الأول، وسقراط أحد صوفية المسلمين، وهرمس هو النبي إدريس، وأفلوطين هو الشيخ اليوناني، فتقريب الوافد إلى الموروث أكثر من تقريب الموروث إلى الوافد؛ لأن الوافد يمكن تأويله بسهولة، في حين أن الموروث له قواعده وأصوله. وقد أمكن تقريب الوافد إلى الموروث عن طريق نسبة أعمال إلى أرسطو، تاسوعات أفلوطين، حتى يبدو كاملا، وبالتالي يصبح نموذج الفيلسوف الكامل، خاتم الأنبياء. كما أمكن تقريب الموروث إلى الوافد عن طريق التأويل العقلي للنصوص خاصة وأن علوم الحكمة قد وحدت بين الفلسفة والدين، بين الحكمة والشريعة، بين الوحي والعقل، استئنافا للاعتزال في جعل العقل أساس النقل، وتأكيدا لموقف الفقهاء، أن من قدح في العقل فقد قدح في النقل، وأن الاتفاق مع بداهة العقل وشهادة الحس والوجدان أحد شروط التواتر.
وهناك حكم آخر شائع يجعل الفلاسفة المسلمين مجرد دوائر منعزلة عن قلب الحضارة الإسلامية، تابعين لليونان، امتدادا للمشائية.
52
وهو مثل حكم المستشرقين مع اختلاف الدوافع. دافع المستشرق هو إثبات جدب الحضارة الإسلامية وخلوها من الإبداع. ودافع الممثل الجديد للأشعرية التقليدية في مصر والوطن العربي هو الدفاع عن علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، موطن الإبداع في الحضارة الإسلامية. وهو أيضا موقف بعض الفقهاء من المدرسة السلفية القديمة والحديثة من ابن حنبل حتى ابن تيمية وابن القيم ورشيد رضا. والحقيقة أن ذلك حكم ديني مسبق يقوم على الرد على المستشرقين وأخطائهم كما فعل مصطفى عبد الرازق من أجل الوقوع في خطأ مضاد، إثبات الأصالة على حساب التبعية بنفس سلاح المستشرقين، وهو إخراج الفلاسفة المسلمين من الدائرة. وهو إغفال لوظيفة الفلسفة بعد عصر الترجمة في التوحيد بين الموروث والوافد؛ فمن حيث طبيعة الحضارة الناشئة فإنها بعد أن انتشرت فوق رقعة الأراضي المفتوحة، نقلت ثقافات شعوبها إلى العربية، فأصبحت مزدوجة الثقافة، بين الموروث القديم والوافد الجديد، بين الأصل والفرع، بين الأنا والآخر. وكان من الطبيعي أن يخرج من بين المتكلمين المعتزلة من يتجرأ على الوافد باسم الموروث، ويحاول الجمع بينهما في ثقافة واحدة، درءا للتعارض بين النقل والعقل، وتأكيدا على وحدة الثقافة بين الداخل والخارج، بين التراث والتجديد بلغتنا، بين السلفية والعلمانية بلغة العصر، بين الأزهر والجامعة بلغة مناهج التعليم. علوم الحكمة إذن ليست دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية، لا تمثل قلبها، منفصلة عن الموروث، تابعة للوافد، لم تبدع كما أبدع علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. بل هي علوم تؤدي وظيفة حضارية محددة، وحدة الثقافة ضد ازدواجيتها. علوم الحكمة أشبه بالثغور للدفاع عن الحدود، في حين أن علم أصول الدين أشبه بالزوايا لتقوية الإيمان. الحكماء وزراء خارجية يتعاملون مع الخارج لصالح الداخل في ميدان العلاقات الدولية، مهمتهم الحفاظ على الأمن الخارجي وسلامة أرض الوطن. والمتكلمون وزراء داخلية مهمتهم الحفاظ على النظام والأمن الداخلي. ولا تعارض بين المهمتين، كلاهما ضروري لسلامة الدولة في الخارج والداخل. إن علوم الحكمة جزء من كل، وظيفتها التمثل والإخراج، والنقل والإبداع، واستيعاب الوافد في الموروث، ليس فقط من جانب الحكماء باسم الوافد، بل أيضا من جانب بعض الفقهاء باسم الموروث؛ فقد كتب ابن حزم، وهو الفقيه الظاهري المتشدد في علم الكلام «التقريب إلى حد المنطق والمدخل إليه» من أجل إرجاع أقيسة اليونان إلى أقيسة القرآن وأقيسة الرسول. وقد استعمل بعض الحكماء الوافد من أجل نقد الموروث كما فعل ابن رشد في «تفسير ما بعد الطبيعة» في استعمال النص الأرسطي من أجل نقد علم الأشعرية. أما وظيفة النقد والرفض والإبداع الموازي فإنها وظيفة علوم أخرى، قام بها الفقهاء الذين قاموا بنقد المنطق اليوناني الذي هو أساس الطبيعيات والإلهيات اليونانية. فكتبوا «الرد على المنطقيين» و«نقض المنطق» و«ترجيح أساليب القرآن على منطق اليونان». هناك إذن نوعان من الإبداع، الأول داخل علوم الحكمة ذاتها؛ فالنقل إبداع للمصطلحات وقراءة للنص المنقول وإعادة كتابة له. والشرح إبداع عن طريق تفتيت النص ومعرفة مكوناته العقلية. والتلخيص إبداع عن طريق إعادة تركيب النص، والقدرة على رؤية بؤرته، والغوص في قلبه، وإعادة التعبير عن قصده الرئيسي وحدسه الأولي. والتعليق إبداع لأنه نقل للوافد داخل الموروث، ومضغ الوافد لقمة لقمة حتى يسهل ابتلاعها قبل هضمها وتمثلها. والعرض إبداع لأنه تأليف في الوافد دون نصوصه وعرض لموضوعاته مباشرة دون توسط النص. والتأليف إبداع لأنه يتجاوز النقل ، ويتوجه إلى الأشياء ذاتها، ينظرها تنظيرا مباشرا بالاعتماد على المصدرين الرئيسيين للعلم، الموروث والوافد؛ ومن ثم كان الحكم بالنقل والتأثير والخلط والتوفيق من جانب الاستشراق أو بالتبعية لليونان وامتدادا للمشائية عند المسلمين من جانب الأصوليين المعاصرين حكما يكشف عن عقلية الحاكم وثقافته ودوافعه وأهدافه. ولا يقوم على تحليل موضوعي لظاهرة الالتقاء بين الثقافات، وتفاعل الحضارات، ومحاولة إخضاعها لمنطق علمي دقيق. «من النقل إلى الإبداع» إذن موجه ضد فريقين: الأول المستشرقون وأتباعهم من العرب الذين يرون علوم الحكمة مجرد نقل لفلسفة اليونان وامتداد للتراث اليوناني داخل التراث الإسلامي، حكما على ظاهرة اللغة، وتأثرا بالحضارة الغربية التي ترى أن اليونان هم الأصل، وبدافع النظرة الدونية للمركز إلى الأطراف؛ فالإبداع لا يكون إلا في المركز والأطراف ليس لها إلا التعليق والشرح. وإن كان لذلك فضل فهو في حفظ تراث الأصل اليوناني ونقله في العصر الوسيط إلى الغرب الحديث قبل أن ينقله الغرب بنفسه مباشرة بعد أن اكتشف نقص النقل الأول، زيادة ونقصانا، أو سوء فهم وخلط. والثاني الفقهاء القدماء والمحدثون؛ فهم الذين يعتبرون فلاسفة الإسلام مجرد دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية، يكفرونهم ولا يرون لهم أي دور إلا في تبعية اليونان، بل والتآمر على العقيدة من الفلاسفة الباطنيين والانحراف بها عن فهمها الصحيح عند متكلمي أهل السنة.
يقوم «من النقل إلى الإبداع» على فرض عمل مغاير، أن الحكماء لم يكونوا تابعين للنقل ولا نقلة عنهم، بل كانوا مبدعين، نقلوا أولا من أجل التمثل، ثم أبدعوا ثانيا تأكيدا على وحدة الثقافة. وهم ليسوا دوائر منعزلة على هامش الحضارة الإسلامية، بل مفكرون على التخوم مزدوجو الثقافة، يد في الموروث ويد في الوافد، يد تبني ويد تحمل السلاح. يقوم «من النقل إلى الإبداع» على فرض أن الحكماء كانوا ضد التغريب؛ فاليونان القديم أصل الغرب الحديث. وقف الحكماء أمام الوافد بطريقة المحاور، الند للند، من أجل استيعابه وتمثله، والأوسع نظرا يستوعب الأضيق أفقا، والأكمل تصورا يحتوي الأنقص رؤية. جمعوا بين الموروث والوافد على عكس المتكلمين الذين يتعاملون مع الموروث فحسب باستثناء المعتزلة وأصحاب الطبائع خاصة، وطوروا علم الكلام من علم داخلي إلى علم داخلي وخارجي، مدافعين ليس فقط عن الأمن في الداخل، بل أيضا عن الأمن في الخارج، فالمتكلمون نصف فلاسفة، والفلاسفة متكلمون كاملون. «من النقل إلى الإبداع» قراءة داخلية لتفاعل الوافد مع الموروث، ورد الوافد إلى وظائفه الداخلية بصرف النظر عن مصدره الخارجي وشده إلى الموروث بدلا من شد الموروث إليه؛ فالمياه في المصب لا تعود إلى المنبع. (2) جدل اللفظ والمعنى والشيء
وظاهرة التشكل الكاذب تخضع لمنطق جديد يقوم على جدل ثلاثي بين اللفظ والمعنى والشيء، يحكم الالتقاء بين الحضارات؛ فالحضارة ثقافة، والثقافة فكر، والفكر خطاب، والخطاب لغة، شفاهية أو مدونة. ولما كانت الثقافات القديمة التي وجدت على الأراضي المفتوحة نصوصا مدونة وليست فقط محادثة شفاهية تم نقلها من السريانية، لغة نصارى الشام، إلى العربية، لغة الفاتحين الجدد، أولا ثم من اليونانية إلى العربية ثانيا، إحكاما للنقل، ومنعا للتوسط من لغة ثالثة، وحتى يكون الخطأ في النقل احتمالا واحدا، من اليونانية إلى العربية، وليس احتمالين، من اليونانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية. وتدل حركة النقل على عدة أمور: (1)
الثقة بالنفس وعدم الخوف على الدين الجديد من الديانات القديمة، بل والإقبال على الثقافات السابقة في وقت لم تملك فيه الحضارة الناشئة ثقافة إلا الشعر والديانات العربية القديمة، والعادات والأعراف القبلية. كما تدل على الانفتاح على الآخرين، وأن فتوح البلدان لا تعني القضاء على ثقافاتها كما حدث في الاستعمار الغربي الحديث، بل الحفاظ عليها، والتعرف على مضمونها، ونقلها إلى لغة الفاتحين، وتقديرها واحترامها، واستخدامها كأدوات للتعبير، بل والدفاع عنها ضد سوء تأويلها والطعن فيها والنيل منها، وإكمال أوجه نقصها، والجمع بين شتاتها، وضمها كلها في منظومة واحدة، ورؤية شاملة تعبر عن تصورها للعالم، وإعطائها نسقا متكاملا، ومثالا خالدا على إبداع الثقافات. فتأكيد الهوية لا يمنع من الاختلاف، وإثبات الأنا لا ينفي الآخر، وتأصيل الذات لا يكون على حساب الغير، وليس كما يحدث هذه الأيام من انغلاق للأنا على ذاتها باسم الدفاع عن الهوية والأصالة، والخصومة مع الغير والعداء للآخر باسم تأكيد الأنا وإثبات الذات؛ فانغلق الأنا وانعزل الآخر، وحدث الشقاق في الأمة، وازدوجت الثقافة، ونشأ الصراع بين الأخوة الأعداء؛ بين السلفية والعلمانية، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد، بين العقيدة والثورة. ظاهرة «الشكل الكاذب» مجرد افتراض عقلي قادر على تفسير جدل اللفظ والمعنى والشيء في حالة الالتقاء الحضاري بين ثقافتين، مجرد ظاهرة لغوية لا تمس الإحساس أو الوجدان أو الفكر والنظر أو الممارسات العملية، مثل تحويل لفظ ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى إلى إلهيات، أو تحويل الله إلى عقل فعال. (2)
القدرة على الحوار مع الآخر، والتعامل معه من موقف الندية مع الاحتكام للعقل والطبيعة والتجربة الإنسانية. لم تأخذ الحضارة الناشئة دور العقيدة الجديدة المتعالية على ثقافات الغير، وهي عقيدة الفاتحين المنتصرين بناء على مركب عظمة. ونظرت لحضارات الشعوب المفتوحة نظرة دونية بناء على مركب نقص. بدأت الحضارة الناشئة بتقدير العلم واحترام العلماء؛ فهي وريث الديانات القديمة وحاملة لواء الفتح الجديد. ولا فرق بين الوحي والعقل، بين النبي والفيلسوف؛ لذلك وزن الخلفاء ثقل المخطوطات اليونانية القديمة ذهبا لإحضارها من بلاد الروم إلى عاصمة الخلافة. وانتسب النصارى إليها، وقاموا بخدمتها وترجمة التراث اليوناني من لغتهم السريانية إلى اللغة العربية. كانوا نصارى دينا، وعربا لغة، ومسلمين ثقافة. ولأول مرة في تاريخ التقاء الحضارات تحدث هذه الندية المتبادلة بين ثقافة الفاتحين وثقافة المفتوحين، بل وأحيانا لحساب ثقافات المفتوحين لغة ومثلا وتصورات، اعترافا بفضل الآخر على الحضارة الإنسانية، تأخذ البدن منه وتعطيه الروح. (3)
الوعي المستنير بالصلة بين اللفظ والمعنى والشيء، بين اللغة والفكر والعالم؛ فاللفظ مجرد أداة للتعبير، ولكنه ليس جوهر المعنى، فالمعنى مستقل عنه. اللغة مجرد شكل خارجي لمضمون الفكر، ويمكن التعبير عن نفس المعنى بألفاظ عديدة؛ فالله هو الجوهر والماهية، وواجب الوجود، والعلة الأولى، والمحرك الأول، والغاية القصوى، والخير المحض، والصورة الخالصة بألفاظ اليونان. وهو الكمال، والمثال، والمطلق، والصيرورة، والدافع الحيوي، والتطور الخالق، والحرية، والوجود، والمستقبل بلغة المعاصرين . اللفظ متغير والمعنى ثابت. والألفاظ تأتي من لغات متعددة، وتنطق بأصوات متغايرة. أما المعنى فلا يتغير من لفظ إلى لفظ أو من لغة إلى لغة. وقد تتغير التصورات والمفاهيم والرؤى التي هي تأويل للمعاني طبقا لنوعية الثقافات وخصوصية الحضارات، التحولات الدلالية للمعنى طبقا لطبائع الشعوب وأمزجتها. أما الشيء فهو الموضوع القصدي؛ فالعالم أصل الأشياء، لا خلاف عليه بين لفظ ولفظ، وتصور وتصور. العالم أصل اللغة، والأشياء منشؤها. (4)
الاعتراف بحدود اللفظ القديم الذي استعمله علماء الكلام، وأنه أصبح غير قادر على مواجهة الخارج، وإن كان قادرا على مواجهة الداخل، وأن مواجهة الخارج تتطلب ألفاظا من نوعه، وأسئلة مستمدة منه، وليس ألفاظا محلية تقليدية قديمة لا تقوى على الحداثة، وتعجز عن المعاصرة. هي ألفاظ دينية ارتبطت بدين معين، وبتراث خاص لا تقوى على رحابة العقل، وإطلاق الفكر في الوافد اليوناني. هي ألفاظ اصطلاحية مغلقة على ذاتها، يصعب الخروج منها أو الدخول إليها، ألفاظ شرعية يصعب معها الحوار والأخذ والعطاء، والتفاعل مع ألفاظ أخرى. المعنى الشرعي الاصطلاحي هو ركيزة المعنى الاشتقاقي والعرفي، هو المعنى الثابت، والعرفي هو المتحول، والاشتقاقي هو جذره الحسي في عالم الأشياء. هي ألفاظ نشأت من ثنايا الوحي، لها قدسيتها وإطلاقها، ولا يمكن تعقيلها أو تنظيرها أو حتى تأويلها. ليست ألفاظا عقلية عامة يمكن الحوار معها واستبدال بعضها بالبعض الآخر. هي ألفاظ خاصة لوحي خاص، الوحي الإسلامي، وليست ألفاظا عامة تنطبق على الوحي وعلى غيره من مراحل الوحي السابقة أو من الاجتهادات البشرية المستقلة. لا تتمتع بقدر كاف من العموم لمخاطبة الناس جميعا؛ فكل حضارة تنشأ إنما تبدأ من خصوصية المصطلحات. (5)
التسليم بعجز المصطلحات القديمة عن التعامل مع الثقافات الوافدة. لقد انتشرت هذه المصطلحات في علم الأصول وهو في مواجهة الداخل، ونجحت في كسب معاركها، ولكنها عاجزة عن مواجهة الخارج الذي يعتمد على العقل وحده، ويقدم مصطلحات عقلية صرفة. لقد تمت التضحية بالألفاظ القديمة وقصرها على علم الكلام وتبني الألفاظ الجديدة، وإنشاء علم بأكمله هي علوم الحكمة؛ فقد تجددت الحياة الثقافية، وانتشرت الثقافة الأجنبية، وأصبحت تمثل الآخر المطلق السراح تحديا للذات. لم تعد الألفاظ الاصطلاحية الخاصة قادرة على التصدي للغزو الثقافي الجديد فنشأت مصطلحات جديدة أكثر اتساعا وعقلانية، وأقدر على الحوار مع الثقافات الوافدة. (6)
الاعتراف بفضل المصطلحات الجديدة لما تتسم من عقلانية وطبيعية وواقعية وإنسانية. وهي من السمات الرئيسية للوحي وأسسه في العقل والطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ، والجرأة على استخدامها، وترك الألفاظ القديمة بالرغم من هجوم الفقهاء واتهام الحكماء بالتبعية والتقليد، والخروج على الموروث، والمروق عن الدين. كانت المصطلحات والألفاظ اليونانية بالمصادفة التاريخية عقلانية طبيعية إنسانية متفقة مع مضمون الألفاظ القديمة، فسهل انتشارها، والتعبير عن المعاني العقلية الطبيعية الإنسانية بألفاظ جديدة مطابقة لها، والبعض منها ألفاظ مشتركة بين القديم والجديد مثل العقل والنفس، والروح، والإنسان. فلماذا يحكم على هذه الألفاظ المشتركة بأنها وافدة من الخارج وليست نابعة من الداخل؟ الأقرب أن تكون هي الألفاظ القديمة بمعاني جديدة لا ترفضها المعاني الاصطلاحية؛ فالتجديد اللغوي إنما يحدث في حالة عجز الألفاظ القديمة عن التعبير عن المعاني الجديدة فقط. أما في حالة القدرة فتبقى الألفاظ التي يتطابق فيها القديم مع الجديد. (7)
كان من الطبيعي بعد عصر الترجمة وانتشار ثقافات جديدة بألفاظها أن تنشأ عملية تجديد عن طريق تغيير الألفاظ، إسقاط الألفاظ القديمة لعجزها عن التعبير عن المعاني الجديدة، واستعمال الألفاظ الجديدة كأدوات للتعبير والأكثر قدرة على الحوار والتفاعل بين الموروث والوافد. والألفاظ هي ثوب الفكر، والفكر بطبيعته متعدد الأثواب. وإذا ما كبر الثعبان غير من جلده وإلا ضاق عليه ومات. ودون هذه العملية تقع الأمة في ازدواجية الثقافة. تعجب الخاصة بالجديد فتتصل به وتنقطع عن القديم. فالفكر أولى بالحرص عليه من اللغة، والمضمون له الأولوية على الشكل. فتتمسك العامة بالقديم كرد فعل على الخاصة، وتتصل به وتنقطع عن الجديد، وبالتالي تقع الأمة في صراع بين العلمانية الجديدة والمحافظة القديمة، بين اختيار الصفوة وثقافة الجماهير.
ظاهرة «التشكل الكاذب» وهو الافتراض الذي يقوم عليه «من النقل إلى الإبداع» من أجل إعادة بناء علوم الحكمة تقوم على تحليل لغة الخطاب، الخطاب الموروث والخطاب الوافد من أجل معرفة كيف نشأ الخطاب الفلسفي الثالث وكيف تكون عن طريق عملية الاستبدال اللفظي مع الإبقاء على المعاني ثم التنسيق بينها في التعبير عن تصور للعالم يجمع بين أصالة الموروث وحداثة الوافد.
53
أما الأشياء ذاتها فإن التعبير عنها يمثل مرحلة الانتقال من النقل إلى الإبداع؛ فجدل اللفظ والمعنى أقرب إلى منطق النقل، في حين أن جدل المعنى والشيء أقرب إلى منطق الإبداع. وفي التأليف الخالص الذي يتجاوز النقل والتعليق والشرح والتلخيص والعرض يظهر الإبداع بالتعامل مع الأشياء مباشرة والتنظير لها، والتعبير عنها دون تمييز بين موروث ووافد على مستوى اللفظ أو المعنى بعد أن تم التوحيد بينهما في عملية «التشكل الكاذب». التأليف تنظير مباشر للواقع دون توسط نص قديم أو نص جديد، بل تحويل الواقع إلى نص إبداعي مستقبلي مضافا إلى النصين السابقين: النص الماضي القديم والنص الحاضر الجديد. وبالتالي يحدث التراكم المعرفي الضروري، ويظهر الإسهام الحضاري لكل ثقافة في تراكم حضاري للإنسانية جمعاء.
إن معظم الأحكام الخاطئة الخاصة بالنقل والتأثر والخلط والتوفيق إنما ترجع إلى أنها تتعامل مع «النقل» أكثر من تعاملها مع «الإبداع»، وتنظر إلى النقل نظرة خارجية محضة دون وعي بظاهرة «التشكل الكاذب». وتغفل الإبداع لأن التأليف حكر على اليونان. أما تأليف الشعوب الأخرى المجاورة السابقة على اليونان مثل شعوب الشرق القديم أو التالية لها مثل الشعوب الإسلامية، فإنه تأليف ديني أخلاقي سياسي، وليس تأليفا فلسفيا ميتافيزيقيا نظريا منطقيا خالصا، وهو ما يميز التأليف اليوناني القديم والتأليف الغربي الحديث. فالغرب وحده، في مصدره اليوناني القديم، أو في تطوره الحديث، هو الوحيد القادر على التنظير. أما الشعوب اللاأوروبية فليس لها إلا النقل والترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والعرض، التهميش على المتون.
رابعا: مناهج الدراسة لعلوم الحكمة (1) المنهج التاريخي والمنهج البنيوي
يمكن دراسة علوم الحكمة بعدة مناهج أهمها المنهج التاريخي والمنهج البنيوي. ولا يعني المنهج التاريخي ما هو متبع في دراسات المستشرقين وفي الكتب المقررة عند أساتذة الجامعات، مجرد رصد زماني لأسماء الفلاسفة وعرض مؤلفاتهم وتكرار مضمونها؛ فهذه هي النزعة التاريخانية عند المستشرقين التي ارتبطت بالمدرسة التاريخية في القرن التاسع عشر. وهي العادة المتبعة عند الأساتذة الذين يكررون القديم استسهالا أو كسبا أو إيثارا للسلامة أو للترقية.
المنهج التاريخي المقصود هو دراسة الحكماء طبقا للترتيب الزماني: الكندي (252ه)، الرازي (313ه)، الفارابي (339ه)، ابن سينا (428ه)، ابن باجة (533ه)، ابن طفيل (581ه)، ابن رشد (595ه)، وغيرهم من الفلاسفة الموازين مثل أبو البركات البغدادي (547ه) باعتباره تراكما تاريخيا في علوم الحكمة. كل فيلسوف يبني على فيلسوف طوليا، تنويعا على الاستشراق. وابن رشد يبني على الكندي طوليا لأنه استمرار للفلسفة العقلية. وكذلك الرازي يبني على الكندي طوليا لأنه استمرار للفلسفة العلمية. وفلاسفة المغرب يبنون على فلاسفة المشرق طوليا لأنهم تنويعات عليهم، ابن باجة تنويع على الفارابي، وابن طفيل تنويع على ابن سينا. أما الفارابي فإنه يبني على الكندي عرضيا لأنه يؤسس مذهبا موازيا، الإشراق في مقابل العقل، والفيض في مقابل الخلق، والتصوف في مقابل العلم؛ فالمذاهب كائنات حية يتولد بعضها من بعض.
54
تتكاثر بالتمدد والانفصال وبخلق مذاهب متداخلة أو متقابلة، متجانسة أو متعارضة، ومتماهية أو متباينة. ويظل هذا التطور الخالق قائما حتى ينقضي عمر الحضارة، ويخف الدافع الحيوي، ويضمر العلم حتى ييبس ويتكلس. كل مذهب وحدة حسية مستقلة، رؤية أو تصور للعالم، نافذة للحضارة على غيرها، معمار هندسي ونسق فكري، وعمل فني، وإبداع ذهني. المنهج التاريخي بهذا المعنى ليس رصدا للوقائع، ولا إحصاء لمؤلفات، ولا ترتيبا لنصوص، ولا سلسلة من الأحداث كما هو الحالة في النزعة التاريخية
Historicism ، بل هو إبداع حيوي، وخلق حضاري، ووحدة عضوية متنامية تحكمها بنية العضو وقوانين الحياة. هو تاريخ أحياء وليس تاريخ أموات، إحساس بنبض وليس رفات أكفان.
وقد يتناول المنهج التاريخي تطور علوم الحكمة من المتقدمين إلى المتأخرين كما هو الحال مع باقي العلماء. وقد لاحظ القدماء هذا التقابل بين المتقدمين والمتأخرين، بين السلف والخلف، بين الأوائل والأواخر، وبلغتنا بين القدماء والمحدثين. إلا أن المتقدمين في التراث أفضل من المتأخرين، والأوائل أكثر علما من الأواخر، والسلف أكثر إبداعا من الخلف، في حين أن المحدثين في عصرنا أفضل من القدماء منذ عصر النهضة الغربي في القرن الماضي.
وميزة المنهج التاريخي بهذا المعنى أنه يقدم دراسة لنشأة علوم الحكمة وتطورها ابتداء من النقل والتعليق إلى الشرح والتلخيص، وتطورها إلى العرض والتأليف، وذروتها في الإبداع المستقل. يقدم صياغة لكل مذهب فلسفي كرؤية للعالم وتجربة فلسفية واختيار ذهني ومنظور كوني. وعيبه ارتباط علوم الحكمة بأشخاص الحكماء مع أنها مستقلة عنهم، لها بنيتها المستقلة، وموضوعاتها المستقلة.
55
كما يصعب الإحصاء الكامل للأشخاص والتمايز بين المذاهب، وضرورة الاقتصار على كبار الحكماء: الكندي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد. وهنا لا بد من ذكر الأسماء ابن سينا وابن رشد نموذجا، والمذاهب المشتقة منها مثل السينوية والرشدية. أما الفلسفة الإشراقية أو الفلسفة العقلية أو العلمية فهي اختيارات وتيارات عامة تضم أكثر من فيلسوف ومذهب.
ويتطلب المنهج التاريخي أيضا تحليل صورة علوم الحكمة عند مؤرخيها ومؤرخي العلوم الإسلامية، سواء في المصنفات أو تاريخ المصنفين أو تاريخ العلوم أو تاريخ الطبقات أو تاريخ المصطلحات أو تاريخ الأمم في إطار التحليل العام للنصوص وكسند للأحكام العلمية وليس كتحليل مستقل؛ فعلوم الحكمة وصف لرؤى العالم تظهر من خلال رؤى المؤرخين. أما التاريخ الصرف؛ أي الحوليات، فإنها موضوع لعلم خاص هو علم التاريخ كعلم إنساني مثل الجغرافيا واللغة والأدب. تحتوي على مواد من أخبار الحكماء تحتويها كتب الطبقات. أما التاريخ السياسي الاجتماعي الصرف كأساس لنشأة علوم الحكمة وتطورها فإنها مسلمة منهجية متضمنة، لا تظهر صراحة خشية الوقوع في الرد التاريخي. فلا علم إلا في مجتمع، ولا فكر إلا في واقع، ولا مذهب إلا ويعبر عن قوة سياسية واجتماعية، ولا تصور إلا وله محدداته وأطره في علم اجتماع المعرفة. والمنهج التاريخي العضوي يتجاوز مسلمات المنهج التاريخي التقليدي الشائع.
56
والمنهج البنيوي يدرس علوم الحكمة، ليس كشخصيات أو مذاهب متتالية في الزمان، بل كموضوعات مستقلة أو كرؤية تركيبية أو منظور كلي واحد للعالم؛ فالحكمة إما منطقية أو طبيعية أو إلهية. المنطق آلتها أو منهجها. وتشمل الحكمة الطبيعيات والإلهيات، العالم والله. ولما كان القول الطبيعي هو نفسه القول الإلهي بلغته وألفاظه وتصوراته ومفاهيمه عن الزمان والمكان والحركة والسكون، والعلة والمعلول، على نحوين مختلفين، مرة موجبا في الطبيعة، فالعالم ذو زمان ومكان وحركة وسكون وعلة ومعلول، ومرة سالبا في الله، فالله لا زمان ولا مكان ولا حركة ولا سكون فيه. هو قول واحد مرة متجها إلى أسفل نحو العالم، ومرة متجها إلى أعلى نحو الله، مرة سلبا ومرة إيجابا، مرة على نحو نسبي ومرة على نحو مطلق، مرة على نحو حسي مشاهد ومرة على نحو غيبي عقلي. أما النفس فمحاصرة بين الطبيعيات والإلهيات؛ في الطبيعيات مرتبطة بالبدن وبالقوى النامية والغاذية والمولدة والمحركة والحساسة، وفي الإلهيات مرتبطة بالعقل الفعال أو الكلي وبالعقل المستفاد والعقل بالفعل. فلا يوجد قول مستقل في الإنسان، بل هو قول أيضا مردود إلى أسفل نحو البدن في الطبيعيات أو إلى أعلى نحو النفس في الإلهيات. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى.
57
ويمكن دراسة هذه الموضوعات مثل الفلسفة والدين أو العقل والوحي أو النفس وقوى العقل وأنواعه أو الأخلاق والسياسة عبر الفلاسفة؛ فالمهم هو الموضوع وليس الشخص في حضارة الأشخاص فيها يكشفون الموضوع ولا يخترعونه، يصفونه ولا يضعونه.
58
ويمكن دراسة الاتجاهات العامة لعلوم الحكمة مثل العقلانية (الكندي، والرازي، وابن رشد) والإشراقية (الفارابي، وابن سينا، وابن طفيل)، كما يمكن دراسة التفكير الجماعي، بقايا الفرق الكلامية (إخوان الصفا)، ويمكن أيضا التمايز بين المدارس طبقا للمدن (بغداد، والبصرة)، أو طبقا للصقع الجغرافي (المشرق، والمغرب).
وميزة هذا المنهج اكتشاف البنيات الذهنية والموضوعية المستقلة عن الأشخاص والمذاهب وحوادث التاريخ وتطوره. يتعامل مع علوم الحكمة باعتبارها علوما مستقلة لها يقينها ووسائل التحقق من صدقها في داخل أنساقها. علوم الحكمة علوم مستقلة عن أشخاص واضعيها. التوجه نحو الطبيعة مستقل عن شخص الكندي أو الرازي أو البيروني، بل هو توجه حضاري أساسا نشأ بدافع من توجيه الوحي للذهن نحو الطبيعة. والمنطق آلة للعلوم وسابق على الطبيعات والإلهيات. أيضا لا شأن له بأشخاص الفلاسفة لأن موضوعات الحكمة ثلاثة: الإنسان والطبيعة والله، بصرف النظر عن ترتيبها، موجودة في كل حضارة بصرف النظر عن خصوصيتها، في اليونانية: سقراط (الإنسان)، أفلاطون (الله)، أرسطو (الطبيعة). وفي الغربية في العصور الوسطى: أوغسطين (الإنسان)، أنسيلم، بونافنتورا (الله)، توما الأكويني (الطبيعة). وفي العصور الحديثة: ديكارت (الإنسان)، هيجل (الله)، ماركس، فيورباخ (الطبيعة). وهي التي جعلها كانط مثل العقل الثلاثة.
59
ولو لم يظهر هؤلاء الحكماء بأشخاصهم لظهر غيرهم بأسماء أخرى. تمثل علوم الحكمة نمطا معينا من التفكير، لغة ومعنى وموضوعا. لغتها عقلية خالصة، ومعانيها عامة وشاملة، وموضوعاتها الإنسان والعالم والله. وهي نفس البنية التي ظهرت في علم أصول الدين؛ فالمنطق في علوم الحكمة يعادل نظرية العلم في أصول الدين. والطبيعيات في علوم الحكمة تعادل نظرية الوجود (الجوهر والأعراض) في علم أصول الدين. والإلهيات في علوم الحكمة تعادل الإلهيات أو العقليات في علم أصول الدين. والسمعيات أو النبوات في أصول الدين تعادل الشرعيات عند إخوان الصفا الذين ركزوا بوجه خاص على الاجتماع والسياسة والتاريخ في الناموسيات والشرعيات. كما يمتاز هذا المنهج بأنه يجعل الباحث حكيما مع الحكماء، فيلسوفا مع الفلاسفة، على نفس مستوى المسئولية. يرى الموضوع من الداخل وليس من الخارج، صاحب دار وليس مستشرقا غريبا عليه، يتفلسف مع المتفلسفين. ويعود الأستاذ ليمارس دوره كفيلسوف وليس كمؤلف كتب مدرسية مقررة للترقية أو للإعارة. فيعاد بناء المنطق والطبيعات والإلهيات بعد أن مر عليها أكثر من ألف عام، ويعاد كتابة «الشفاء» من جديد من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر في مسار الأنا، وفي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين في مسار الآخر، حيث يبعث ابن سينا من جديد. والتفلسف في النهاية أسهل وأمتع من البحث التاريخي الخالص والتنقيب في الآثار. وهل تتساوى الحياة والموت؟ المنهج البنيوي هو المنهج الفلسفي الداعي إلى التفكير دون التأريخ للفكر؛ فالفكر لا تاريخ له، ولا يؤرخ له، بل يفكر فيه. الفكر موضوع للتفكير وليس موضوعا للرصد والإحصاء كالأشياء.
ومن الباحثين، مستشرقين وعرب، من يستمد سمعته وشهرته وقيمته من الذين عكفوا على دراستهم حتى لا يكاد يذكر الباحث إلا ويذكر صاحبه.
60
وهو تقليد استشراقي لرسم شخصيات الحكماء وتحويل علوم الحكمة إلى أشخاص الحكماء. ولما كان الحكماء من غير العرب باستثناء الكندي، فالفارابي تركي، وابن سينا فارسي، وابن رشد أندلسي، أقرب إلى المغرب منه إلى المشرق، فإن العرب أو الإسلام لم يكن لهما فضل أو دور في علوم الحكمة. في حين أن «من النقل إلى الإبداع» يتجاوز أسماء الحكماء إلى علوم الحكمة ذاتها، ولا يرتبط الباحث باسم فيلسوف بل بعلوم الحكمة ذاتها، علوم غير شخصية، أحد العلوم الرئيسية في الحضارة الإسلامية.
وقد يكون العيب الرئيسي في هذا المنهج هو إغفال الإبداعات الفردية، ومساواة الفلاسفة بعضهم ببعض، والوقوع في قدر كبير من التجريد والعمومية، والانتقال بالفلسفة إلى الميتافيزيقا، ومن الموضوع إلى الذات، ومن التاريخ إلى الفكر الخالص، بل ونسيان التاريخ والنشأة لصالح الماهية والبنية. وهذا اختيار فكري ومنهجي، مثل أفلاطون أو وقائع أرسطو.
وقد لا يكون هناك تعارض بين المنهجين: التاريخي والبنيوي؛ فالتاريخ تحقيق للبنية، والبنية تتكشف في التاريخ. التاريخ بلا بنية مجرد حصر كمي ورصد خارجي بلا دلالة. والبنية بلا تاريخ ماهية مجردة، معلقة في الهواء، لا مستقر لها ولا زمان.
61
لذلك حاول الفارابي الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم. ميزة قراءة كل فيلسوف على حدة الحفاظ على وحدة المذهب والرؤية بالرغم من تفكك الموضوع. وميزة قراءة الموضوع الحفاظ على وحدته بالرغم من تفكك الرؤية لكل فيلسوف. الغاية هي معرفة استقلال الموقف الحضاري ضد شبهة التقليد والتبعية وليس رصدا من من الحكماء قال هذا القول من الأقوال. (2) منهج تحليل المضمون
الفرق بين مناهج الدراسة القديمة لعلوم الحكمة، سواء تلك التي استعملها المستشرقون أو الأساتذة العرب، وبين منهج تحليل المضمون، هو أن المناهج الأولى تعتبر النص مصدرا للعلم، بينما النص في المنهج الثاني هو موضوع للعلم. النص لا يحتوي علما إلا بقدر ما يكشف عن مضمون بيان نشأته ومصدره كما يفعل المستشرقون، مجرد رد تاريخي يهدف إلى تبخير الموضوع والقضاء عليه. أما مجرد تكرار معناه فهو مجرد تحصيل حاصل كما يفعل الأساتذة العرب، لا يزيد شيئا. وكلاهما نقل دون إبداع. الأول نقل من الخارج، والثاني نقل من الداخل. الأول نقل من الخارج إلى الداخل ثم إرجاع الداخل إلى الخارج، والثاني نقل من الداخل الماضي إلى الداخل الحاضر. الأول نقل عبر الحضارات خارج الزمان، والثاني نقل عبر الزمان داخل الحضارة الواحدة. وليس النص مصدرا للمعلومات، بل هو موضوع للعلم، وهي نفس المسلمة التي قام عليها «علم الاستغراب»، الغرب ليس مصدرا لعلم، بل موضوع للعلم. لا يحتوي النص على أخبار، بل هو موضوع للتحليل. مهمة المؤرخ أو الباحث هنا نقل مهمة عالم الكيمياء. يحلل أكثر مما يركب. نقد النص سابق على استعمال النص لأنه لا يمكن استعمال النص دون معرفة مكوناته؛ فالعلم داخله وليس خارجه. ومنطق النص سابق على معنى النص لأن آليات تكوينه هو العلم به. النص نوع أدبي
Genre Literaire
تطبق عليه مناهج النقد الأدبي وليس مجرد وثيقة تاريخية، مصدرها وصحتها. الشكل الأدبي هو الذي يكشف عن عمليات إبداع النص قبل أن يكشف عنها المضمون، والتعرف على معناه. عملية إبداع النص أهم من النص المبدع؛ فالنص ما هو إلا آخر مرحلة من مراحل الإبداع، مرحلة التشيؤ والتيبس والتكلس. أما عمليات الإبداع فهو ما قبل النص.
62
هكذا تعامل القدماء أيضا مع نصوص اليونان وفارس والهند وكما نتعامل نحن مع نصوص الغرب الحديث؛ فالنص هو وحدة التحليل القياسية، سواء الأعمال كلها أم أبوابها وفصولها أم فقراتها وعباراتها.
ويتكون منهج تحليل النصوص من خطوات ثلاثة: (1)
وصف تكوين النص من أجل معرفة كيف تكون في التاريخ ابتداء من الحدث أو التجربة المعاشة في فترة التدوين؛ فالنص يبدأ في التاريخ من خلال وعي المؤرخ. يقع الحدث ويراه المؤرخ ويدونه بلغة ومفاهيم ورؤية، وربما ببواعث ودوافع لأنه جزء من الحدث، وله دور في التاريخ. النص ابن التاريخ دون إحدى لحظاته ثم انغلق النص، وتغيرت الأحداث، واستمر التاريخ، وتناقل الناس النصوص بعد أن تكلست واستقلت عن مسارها التاريخي، وتحولت إلى ثوابت عقلية في علوم الحكمة، ومقدسة في علم الكلام، وفي باقي العلوم النقلية، واستدلالية في علم أصول الفقه، وتوجهات عملية في علوم التصوف. والنص في علوم الحكمة يبدأ بالنقل ثم بالتحول من النقل إلى الإبداع، ثم ينتهي إلى الإبداع الخالص؛ ففي مرحلة النقل يتم استعمال الخطوة الأولى، وصف تكوين النص بداية بكيفية تدوينه في كتب تاريخ الحكمة ثم قراءتها ونقلها من ثقافة الآخر إلى ثقافة الأنا، ثم الإضافة عليها ابتداء من روحها وهو ما يسمى الانتحال. كما يبين تطور النص الانتقال من الترجمة إلى نشأة المصطلح الفلسفي إلى التعليق، أي تحرك النص المنقول إلى نص مفهوم باحتوائه وتمثله وإعادة التعبير عنه بلغة جديدة. كما يبين أيضا تذويب النص في الشرح بداية باللفظ، والتلخيص بداية بالمعنى، والجامع بداية بالشيء، حتى ينتهي تمثل النص الأول قبل إعادة عرضه وإخراجه وتوظيفه في بيئته الجديدة. وهو المنهج المستعمل في المجلد الأول «النقل».
63
ولا يتم وصف التكوين التاريخي للنص إلا بعيش الواصف التجربة التاريخية القديمة التي عاشها المترجمون والشراح والفلاسفة لإعادة بناء الموقف الحضاري القديم بناء على الموقف الحضاري الحالي؛ فوصف التكوين التاريخي للنص هو فهمه وليس مجرد بيان تركيبه.
64
والحقيقة أن الفهم لا يتم من الماضي إلى الحاضر إلا إذا كان الحاضر معاشا أولا، فتتم رؤية الماضي على أساسه. عيش الحاضر هو أساس فهم الماضي. وتجربة العصر هو أساس فهم التاريخ. لا يستطيع فهم التجربة القديمة إلا من عاش التجربة الحالية، وإلا كان كمن يقدم طبولا جوفاء لا يسمع منها إلا رجع الصدى أو كمن يتعامل مع أعاجم صماء لا يرى إلا الحركات. لا يفهم النص إلا كتجربة معاشة عند الباحث وفي الحضارة، فهم الماضي ابتداء من الحاضر، وفهم الحاضر كتراكم للماضي، وإعادة بناء الموقف القديم بناء على الموقف الحالي، رؤية الماضي في الحاضر، والحاضر في الماضي. وبالتالي تتحقق وحدة التاريخ ووحدة الحضارة، وتظهر البنية الثابتة عبر العصور.
65
وتتم الاستفادة من النموذج السابق في حل أزمة العصر، والاستفادة من علوم العصر والتجارب الحالية لفهم تجارب الماضي. لا تفهم علوم الحكمة ونشأتها في عصر الترجمة بفترتيها، الأولى في القرن الثاني والثانية في القرن الثالث عشر (التاسع عشر الميلادي) إلا بناء على تجارب معاصرة في التعامل مع النصوص الأجنبية واستئناف الحضارة مسارها في دورة ثانية. فإذا كانت الدورة الأولى قد تمت مع النص اليوناني، فإن الدورة الثانية تتم الآن منذ مائتي عام مع النص الغربي؛ فالحكيم هو الذي يقوم بالترجمة الآن من أجل احتواء النص الغربي والقضاء على الاغتراب الثقافي المعاصر. وبهذه التجربة الحضارية الجديدة يمكن فهم التجربة الحضارية القديمة عن طريق إعادة بناء الموقف الحضاري الماضي بناء على وجود موقف حضاري حالي، رؤية الحاضر في الماضي ورؤية الماضي في الحاضر. هذا هو السبيل لفهم عصر الترجمة وما تلاه من شروح وملخصات أولا، وعرض وتأليف وإبداع ثانيا. النص تجربة حية عند مؤلفه ولا يفهم إلا بتجربة حية مماثلة عند قارئه.
66
وباتحاد التجربتين يتم فهم النص الأول وإعادة كتابة النص الثاني. ودون معرفة تجارب العصر وهمومه سيظل النص القديم مغلقا، نصا ميتا. قراءة النص القديم لا تكون إلا بوعي يقظ وليس بوعي غافل.
67 (2)
تحليل مكونات النص. والنص خبرة فردية لصاحبه، وخبرة جماعية لمجتمعه وثقافته وحضارته. هو نص إبداعي من خلق الذات الواعية لموقفها الحضاري. وهو نص جماعي لأن الذات الواعية كائن حضاري يعبر عن موقف حضاري؛ فمكونات النص تكشف عن مكونات الوعي الفردي والجماعي، والوعي الفلسفي والوعي التاريخي. الحضارة موقف يتم التعبير عنه وتدوينه في نص فردي وجماعي. تحليل مكونات النص إذن هو منهج لشرح النص بإخضاع النص الفلسفي لعملية تحليل قبل التأويل لمعرفة البواعث العامة للحضارة ومقاصدها.
68
ولا فرق بين الوعي الحضاري القديم في تعامله مع النص اليوناني قديما والوعي الحضاري الحديث في تعامله مع النص الغربي حديثا. هناك إذن أربعة أطراف في هذا التحليل المزدوج للنص الماضي في الحاضر وللنص الحاضر في الماضي. الأول النص اليوناني القديم ، والثاني موقف القدماء منه، والثالث النص الغربي الحديث، والرابع موقف المحدثين منه. والأنا الواعي هو حلقة الاتصال بين الموقف القديم والموقف الحديث بأطرافه الأربعة، تقرأ الموقف الثنائي القديم، النص اليوناني موضوعا والقدماء ذاتا من خلال الموقف الثنائي الحديث، النص الغربي موضوعا والمحدثون ذاتا. تدرس الأنا الواعي الموقف كله ثم تبين موقع القدماء منه كما فصل القدماء عندما درسوا الموضوع ذاته وبينوا موقع اليونان منه خاصة ابن رشد. وقد تم استعمال هذا المنهج في المجلد الثاني «التحول».
وأهم مكونين للنص هما الموروث والوافد.
69
الموروث مما يأتي من الداخل، من الحضارة الناشئة، من العلوم النقلية، من علوم العرب. والوافد ما يأتي من الخارج، من الحضارة الغازية، من العلوم العقلية، من علوم العجم. ومن التفاعل بين الداخل والخارج ينشأ النص. في هذا التفاعل يبدو إبداع الذات، وتظهر عمليات الإبداع، «التشكل الكاذب»، من أجل حل قضية ازدواجية الثقافة، تغيير الوظائف، إكمال الناقص، عدل الميزان بين الأطراف، وضع الأجزاء المنتشرة في كل واحد، إيجاد نسق عقلي شامل، رؤية تطور المذاهب واكتمالها، إدراك دورات الحضارة وتعاقبها. الوافد من علوم الوسائل والموروث من علوم الغايات.
70
الوافد يعطي أدوات التعبير، والموروث هو مضمون التعبير. لو تحول الوافد من أداة إلى جوهر، ومن شكل إلى مضمون نشأت ظاهرة التغريب، وتقوقع الموروث على ذاته ما دام قد فقد أدوات تخارجه، وانغلق وتغرب معاديا الجسم الغريب الدخيل الذي أتى يزاحمه، وتجاوز وظيفة الأداة إلى حقيقة الجوهر.
ويكون تفاعل الوافد والموروث في النص نوعا أدبيا له مقوماته الذاتية وشكله الأدبي، ويتم التعامل معه كما يتعامل النقاد مع النص الأدبي. كما يجوز للفيلسوف أن يتعامل مع النص الأدبي باعتباره نصا فلسفيا. الجمالي في النص الأدبي، والإخباري في النص التاريخي، والإلزامي في النص القانوني، والإيماني العملي في النص الديني، والمعقول في النص الفلسفي.
إن النصوص التراثية كما بدت في العلوم القديمة كلها أنواع أدبية؛ فالنص الكلامي، والنص الفلسفي، والنص الفقهي، والنص الأصولي، أنواع أدبية قبل أن تكون مضمونا. فالنص الفلسفي في علوم الحكمة وحدة تحليل واحدة لا تاريخ ولا موضوعات له، بل نوع أدبي واحد في مقابل نصوص العلوم الأخرى باعتباره إبداعا حضاريا مشخصا.
وتحليل مضمون النص ليس تحليلا إحصائيا شاملا كما هو الحال في تطبيقات منهج تحليل المضمون في العلوم الاجتماعية في تحليل الخطاب، خطاب الرؤساء أو بيانات المحافظين ورجال الإعلام أو مواعظ رجال الدين؛ فالإحصائيات الكمية الصرفة دون وصف كيفي مجرد أرقام لعدد تكرار الأسماء والأفعال والحروف دون دلالة. إنما يكفي الإحصاء الدال، الكمي الكيفي. رؤية الكيف هي التي تحدد قدر الكم كما هو الحال في الاستقراء المعنوي عند الأصوليين القدماء، وهو الاستقراء الناقص الذي يفيد معنى التام في الغرب المعاصر. الإحصائيات تقريبية، قد تزيد وتنقص دون أن يؤثر ذلك على اتجاه النص العام. تحليل الخطاب ليس غاية في ذاته كما هو الحال أحيانا في العلوم الاجتماعية وفي تحليل الخطاب في الغرب المعاصر في علم اللسانيات الحديث، ولكنه وسيلة ضبط المعنى بدليل حسي لغوي مادي. تحليل المضمون لا يعطي المعنى، بل يؤكده ويبرهن عليه. ويعطي البراهين الجزئية على الحدوس الكلية، والتفصيلات التي تكمن وراء العموميات. ويكشف عن: (أ)
مدى استعمال الحجج النقلية، الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لمعرفة مدى اعتماد النص على الموروث أم على العقل، ومدى التكرار، ونوع الآيات والأحاديث، وطرق استخدامها مباشرة أم غير مباشرة، حرة نصية أم معنوية. (ب)
مدى ظهور الأنبياء، سواء من خلال الآيات والأحاديث أو بمفردهم باعتبارهم روادا للحكمة لمعرفة مدى نهل النص من الأنبياء أم من الحكماء خاصة في النصوص الفلسفية عند الشيعة، حيث تحول قصص الأنبياء من الماضي إلى الحاضر إلى فلسفة في التاريخ من الحاضر إلى المستقبل. (ج)
مدى الإحالة إلى الموروث العام في علوم الكلام والتصوف والأصول أو العلوم النقلية، وأهم أسماء الأعلام والمذاهب خاصة في النصوص المتأخرة التي غاصت فيها علوم الحكمة داخل منظومة العلوم كلها. (د)
الإشارة إلى التراكم التاريخي الفلسفي ومدى تكرار ظهور أسماء الحكماء لمعرفة كيف يبني حكيم على آخر، وكيف يقوم مذهب على آخر، ومدى إحالة اللاحقين للمتقدمين ، إحالة الفارابي إلى الكندي والرازي، وإحالة ابن سينا إلى الفارابي والرازي والكندي، وإحالة ابن رشد إلى ابن سينا والفارابي والرازي والكندي أم أن كل حكيم يبدأ من الصفر ويخفي مصادره في حضارة لا تعرف نسبة الأفكار إلى أصحابها، بل تجعلها إرثا عاما ينهل منه من يشاء كما هو الحال عند ابن سينا. (ه)
مدى حضور البيئة المحلية في النص، أسماء الخلفاء والأمراء والقواد أو أسماء المناطق الجغرافية، البحار والأنهار والبلدان أو أسماء المدن، بغداد والبصرة وبلخ ونيسابور، لمعرفة مدى ارتكان النص إلى بيئته المحلية وخروجه منها. (و)
نوع الإحالة إلى الوافد، مذاهب أو أسماء الأعلام، وأي المذاهب أو الأعلام أكثر إحالة من الآخر، أفلاطون أم أرسطو، جالينوس أم أبقراط لمعرفة توجه النص نحو الوافد ومدى حضور الوافد فيه. (ز)
مدى استعمال المصطلحات الوافدة، معربة أو منقولة، ومدى الاستقلال عنها بمصطلحات تلقائية شائعة من اللغة العادية، ونشأة المصطلح الفلسفي المستقل؛ فالحكمة لغة وأسلوب. (ح)
مدى حضور بيئة الوافد، أسماء الملوك والبلدان والبحار والأنهار والمدن والتواريخ والأمثال لمعرفة مدى تخليص النص المترجم من شوائبه الأولى التي نشأ فيها من أجل إعادة غرسه في بيئة أخرى بأقل قدر ممكن منها أو باستبدال بيئة محلية أخرى موروثة بها. (ط)
متى تغيب الإحالات إلى المصدرين الرئيسيين، الوافد والموروث، ويستقل الإبداع، وينتج نصا ثالثا جديدا لا أثر فيه للوافد أو للموروث أثرا مباشرا، وهو الإبداع الفلسفي العلمي الخالص، ومدى نسبة هذا الإبداع للتأليف السابق في مرحلة النقل، شرحا وتلخيصا وجمعا أو في مرحلة التحول من النقل إلى الإبداع عرضا جزئيا أو كليا، نسقيا أو أدبيا. (3)
قراءة النص من أجل إعادة توظيف بنيته الأولى التي تكونت في التاريخ حتى العصر الحاضر، سواء بنفس البنية أو ببنية أخرى معدلة أو مغايرة. النص في هذه الخطوة كائن حي، نشأ وتكون وتطور. له مكوناته الأولى ونموه ثم استقلاله. يبدأ مفعولا ثم يصبح فاعلا مثل انتقال الإنسان من مرحلة الطفولة والصبا إلى مرحلة الشباب والرجولة. وكما يولد ويحيا فإنه يهرم ويموت مثل الحكمة الطبيعية في علوم الحكمة والمقدمات النظرية خاصة نظرية الوجود في المبادئ العامة، والجوهر والأعراض في علم أصول الدين.
71
لا تتم قراءته إلا بمنهج حي مطابق. القراءة إعادة بناء القديم طبقا للجديد، إحضار الماضي في الحاضر، وإلغاء الفارق الزمني بين العصور، فهم الذات العارف فهما تاريخيا زمانيا من أجل التعرف على الموقف المعرفي الثابت له. وقراءة النص تعادل قضية المنهج أو نظرية المعرفة المسبقة التي يتطلبها الباحثون والمفكرون العرب المعاصرون المقلدون للغرب في أولوية نظرية المعرفة والمدخل المعرفي للعالم. وقد تم اتباع هذا المنهج في المجلد الثالث «الإبداع».
72
وتتم قراءة النص على مستويات ثلاثة: (أ)
عرض المادة القديمة كما هي وبأمانة تامة حتى يعرف المحدثون ما أنتجه القدماء عن طريق اكتشاف البنية القديمة التي يقوم عليها النص وقراءة ما بين السطور. وهي البنية القديمة التي تكونت في ظروف النص القديمة. (ب)
مناقشة المادة القديمة بعقد حوار مع بنيتها الداخلية وبيان كيفية توظيفها في ظروفها القديمة من أجل تفكيكها وخلخلة ثباتها وإعادة الحركة لها وتسخينها حتى يمكن بعد ذلك تعديلها جزئيا أو تغييرها كليا إلى بنية جديدة تعبر عن ظروف العصر. (ج)
إعادة بناء النص القديم بناء على ظروف العصر وإعادة كتابته بعد ألف عام، وكأن الحكماء قد بعثوا من جديد ويقومون بفعل التفلسف في ظروف جديدة، هو المستوى الإبداعي الخالص والذي يرى فيه الحكيم الجديد الحكيم القديم.
وتتحقق قراءة النص بخطوات أربع متمايزة: (أ)
تخليص النص القديم من شوائبه التاريخية والبيئة الثقافية القديمة، أسماء الأعلام والأماكن والشواهد حتى يصبح ماهية خالصة يسهل التعامل معها وتحريكها في التاريخ، من الماضي إلى الحاضر؛ أي التخلي عن الخاص من أجل العام، والانتقال من الحسي إلى العقلي، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن الزماني إلى الأبدي، ومن التاريخي إلى البنيوي. هكذا فعل ابن رشد في «تلخيص الخطابة» متخلصا من الشواهد والأمثلة اليونانية ومستبدلا بها الشواهد والأمثلة العربية. يعاد إنتاج النص من جديد. النص لم يعد وافدا؛ أي نازلا، بل أصبح موروثا عقليا جديدا في مقابل الموروث النقلي القديم. تقدمه الخاصة للعامة، وتقبله العامة مثل قبولها للمورث، فتتسع مداركها، وتتحدث رؤيتها للعالم. (ب)
نقل البنية الخالصة من الماضي إلى الحاضر، وتسليطها على العصر لمعرفة مدى استمرارها فيه، وأية وظائف قديمة أو جديدة تؤديها. صحيح أن النص الفلسفي لم يعش في الوعي المعاصر كما عاش النص الأشعري والنص الصوفي والنص الفقهي وإلا كنا قد استطعنا احتواء الحاضر والقضاء على التغريب في عصرنا كما استطاع القدماء احتواء الواقع والقضاء على عزلة النص. استطاع القدماء تخليص السقراطية من شوائبها وتركيزها على معرفة النفس ونقلها من «اعرف نفسك بنفسك» إلى «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، بإضافة البعد الرأسي الناقص إلى البعد الأفقي الموجود وإكمال علاقة الإنسان بالعالم بعلاقته مع الله، وإكمال علاقة الداخل بالخارج مع علاقة الداخل بالمفارق. وإذا كان أفلاطون قد عرف نصف الحقيقة وأرسطو قد عرف النصف الآخر، فإن الفارابي قد جمع بين النصفين في حقيقة كلية واحدة شاملة تجمع بين الآخرة والدنيا، بين النفس والبدن، بين العقل والحس، بين الله والعالم، بين الداخل والخارج، بين الخيال والواقع، بين الفن والعلم، بين الدين والفلسفة. وبالنسبة لنا قد يتحول المنطق الصوري القديم إلى منطق شعوري حديث. وقد تصبح الطبيعات العقلية القديمة إحساسا معاصرا بالطبيعة ينقص المعاصرين. أما الإلهيات الثنائية الرأسية القديمة فقد تتحول إلى إلهيات أفقية من نوع جديد، يصبح فيها الأعلى هو الأمام، والأسفل هو الخلف، ويتم تصور واجب الوجود في حركة وليس في ثبات، في التاريخ وليس خارج التاريخ. (ج)
ملؤها بمضمون جديد لو كانت مطابقة أو تعديلها طبقا للمضمون الجديد قوة واتجاها، أو تعديلها إن لم تكن مطابقة، زيادة أو نقصا أو توازنا وربما قلبا رأسا على عقب؛ فقد تغيرت المادة الثقافية من اليونانية والرومانية والفارسية والهندية إلى الغربية أساسا بعد أن ضعف جناحنا الشرقي حاليا وقوي جناحنا الغربي، فأصبحنا تقريبا طائرا وحيد الجناح. فالتوحيد بين الفلسفة والدين، بين العقل والوحي، بين الحكمة والشريعة ما زال بنية مطابقة لاحتياجات العصر الذي اتهمت فيه العقول بالقصور وضرورة فرض الوصايا عليها من السلاطين والعلماء، قدماء ومحدثين. ومقاربة المنطق في علاقته بالفكر مع الوحي وعلاقته بالحياة ما زالت مقاربة صحيحة تجعل الوحي منطقا، والمنطق وحيا، وتصنيف العلوم كلها في الحكمة الشاملة دون فصل بين العلوم الرياضية والطبيعية، والنقلية والعقلية ما زال وضعا قائما نظرا لفقدان النظرة الشاملة للحياة. فالماضي يصب في الحاضر، يقويه ويلبي حاجاته أو يتكيف طبقا لمطالبه. (د)
إنشاء بنية جديدة في حالة وصول التجديد إلى أقصى حالاته وأبعد حدوده، وخلق نص فلسفي جديد لا يكون فقط إعادة قراءة «الشفاء» أو إعادة إنتاجه من جديد، بل خلق «الشفاء» الثاني موازيا للأول وكأن ابن سينا قد بعث من جديد بعد ما يقرب من ألف عام، مستبدلا بأرسطو هيجل، وبسقراط هوسرل، وربما بالطبيعيين الأوائل وبالمدارس الأخلاقية بعد أرسطو كارل ماركس. وبدلا من أن تكون الحكمة ثلاثية: منطقية وطبيعية وإلهية، تكون أيضا ثلاثية: الشعور الخالص، والشعور بالآخرين، والشعور بالعالم، ثلاث دوائر متداخلة، مركزها الوعي، وحولها دائرتان، الدائرة الإنسانية وعالم الأشياء كما هو الحال عند هوسرل.
73
وبدلا من أن تنتهي الحكمة بالإلهيات، وتتوزع الإنسانيات، بدأها إخوان الصفا تحت اسم الناموسيات أو الشرعيات من أجل تلبية مطلب ناقص في عصرنا؛ ومن ثم تبرز الحكمة العملية ابتداء من الأخلاق والسياسة والتاريخ.
74
كما يمكن إبداع نص جديد كلية بتجاوز حكمة القدماء وبنيتها الثلاثية القديمة أو الجديدة إلى بنية أخرى نظرا لتعامل الحكيم الآن مع الغرب الحديث. قد تكون الحكمة أيضا ثلاثية: المثالية والواقعية وفلسفات الحياة (الإرادية أو العملية أو الوجودية) الرئيسية في الفلسفة الغربية كما كشف عنها الوعي الأوروبي.
75
خامسا: التبويب والأسلوب (1) التبويب الموضوعي
عادة ما يتم التبويب، خاصة إذا ما استعمل المنهج التاريخي التقليدي، عن وعي أو عن لا وعي، على نحو تاريخي زماني ابتداء من عصر الترجمة وانتقال التراث اليوناني إلى العالم الإسلامي، من المركز إلى الأطراف، ثم توالي الفلاسفة، واحدا تلو الآخر، ابتداء من فلاسفة المشرق: الكندي (252ه)، والفارابي (339ه)، وابن سينا (482ه)، ونهاية بفلاسفة المغرب: ابن باجة (533ه )، وابن طفيل (581ه)، وابن رشد (595ه)، ولا يكاد يذكر شيئا عن أبي بكر الرازي (313ه) أو الرازي صاحب الحكمة المشرقية (606ه)، وأبو البركات البغدادي (547ه)، وأبو الحسن العامري (391ه). ولا يكاد يذكر شيئا عن المترجمين الفلاسفة، مثل: يحيى بن عدي (364ه)، وثابت بن قرة (288ه)، وابن ناعمة الحمصي (القرن الثالث) وغيرهم. ولا يكاد يذكر شيئا عن الفلاسفة بعد ابن رشد نظرا لازدهارهم عند الشيعة في إيران، مثل: الطوسي (672ه)، ملا خسرو (885ه)، صدر الدين الشيرازي (1059ه)، وغيرهم. ولما كانت الشخصيات لا تضع حكمة، بل تعرض وتصف، فإن التبويب طبقا للأشخاص هو أسهل أنواع التبويب وأسوؤها في آن واحد، وأدلها على الكسل والترهل العقلي. وبالرغم من أن كل فيلسوف يمثل عصرا إلا أن العصر أدل من الفيلسوف. والفيلسوف كاشف للعصر وأدل عليه وليس صاحب مذهب فردي خاص به. وقد ارتبط الفيلسوف بالمذهب لدرجة اشتقاق اسم المذهب من اسم الفيلسوف مثل السينوية والرشدية كما حدث من قبل في علم الكلام من اشتقاق اسم الفرقة عادة من أسماء رؤسائها.
76
وبهذه الطريقة في التبويب بحجة المنهج التاريخي يتم تقطيع الموضوعات وتجاهل البناء واستحالة التفكير على علوم الحكمة، وكأن الباحث عارض سيئ لأجود بضاعة. كما يستحيل استيفاء حق كل فيلسوف في كم متناسب نظرا لاختلاف الأهمية، ولعظم أهمية ابن رشد على الكندي، وابن سينا على ابن طفيل، والفارابي على ابن باجة. وفي كل الحالات يغفل هذا التبويب ظروف العصر التاريخية والإطار الاجتماعي للمعرفة، وكأن الفلاسفة نجوم مضيئة في ليل بهيم.
أما التبويب الموضوعي فإنه التبويب الفلسفي المطابق لعلوم الحكمة في مرحلة الذروة، مرحلة «الشفاء»، والذي استمر بعده حتى ابن خلدون. يكشف عن البناء، ويدعو الباحث إلى التفلسف، وإلى أن يصبح جزءا من موضوعه، من الداخل وليس من الخارج، من أهل الدار وليس من المتفرجين أساتذة الجامعات العرب أو الغرباء المستشرقين. وهو التبويب الذي يقوم على تجميع الموضوعات، والكشف عن البناء. قد يصعب ذلك في الكندي والفارابي وابن رشد ويسهل في ابن سينا الذي وضع البنية الثلاثية لعلوم الحكمة وعند إخوان الصفا الذين وضعوا البنية الرباعية لها. ومع ذلك يمكن تجميع موضوعات السابقين واللاحقين لابن سينا في بنية «الشفاء»، وجمع المتناثر المتفرق في كل واحد متجانس. التبويب الموضوعي هو الذي ينبثق من الموضوع ذاته وهو يتخلق في الوعي الفردي والوعي الجماعي، ويتحول إلى بنية للحضارة. وهو التبويب الطبيعي الذي يصاحب الأشياء. التبويب والموضوع شيء واحد. التبويب موضوع مرئي، والموضوع تبويب ذهني. وهو لا يبتعد كثيرا عن تبويب القدماء وقسمة ابن سينا الحكمة إلى نظرية وعملية. النظرية تشمل المنطق والطبيعيات والإلهيات. والعملية تضم الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل. وهذه البنية وراء كل حكمة يونانية أو إسلامية أو غربية. وصلت إليها الفلسفة الغربية الحديثة في مرحلة الذروة عند هيجل عندما قسم الفلسفة إلى منطق، وفلسفة للطبيعة وفلسفة للروح.
77
مشروع «التراث والتجديد» يعيد بناء العلوم القديمة كأنساق كما تم ذلك من قبل في «من العقيدة إلى الثورة» كأنساق للعقائد وليس كتاريخ للفرق الكلامية المسماة في معظمها بأسماء رؤساء أصحابها. وعلوم الحكمة علم متكامل له نسقه بصرف النظر عن أشخاص المتكلمين والفلاسفة.
ولما كان أحد عيوب «من العقيدة إلى الثورة» هو الإسهاب، وأي قارئ يستطيع قراءة خمسة مجلدات، حتى ولو كان مؤلفها القاضي عبد الجبار صاحب العشرين مجلدا في «المغني في أبواب التوحيد والعدل»؟! ومن ثم كانت الخطة الأولى أن يأتي «من النقل إلى الإبداع» في مجلدين: الأول «النقل»، والثاني «الإبداع». الأول عن الحكمة النقلية، والثاني عن الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية. الأول تحليل للنصوص والثاني تركيب لها. الأول رصد للوافد، نقلا وتعليقا وشرحا وتلخيصا وعرضا، والثاني تفاعل الوافد والموروث تأليفا وإبداعا ونسقا. الأول يغلب عليه المنهج التاريخي ومنهج تحليل المضمون، والثاني يغلب عليه المنهج البنيوي ومنهج قراءة النصوص. الأول حفر البئر والثاني تفجير النفط بلغة أغنياء العصر. للموضوع إذن مرحلتان: الأولى رد الاعتبار إلى الفلسفة وإلى دورهم الحضاري في تمثل الوافد واستعماله للتعبير من خلاله عن الموروث؛ فقد كانوا زعماء حداثة. والثانية الحوار معهم، فكرا لفكر، وندا لند، وعصرا لعصر. الأولى نقل الخارج إلى الداخل، والثانية نقل الداخل الماضي إلى الداخل الحاضر. هناك إذن استدراك على ما فات، وتقدم من المجلدات الخمسة في «من العقيدة إلى الثورة» إلى مجلدين في «من النقل إلى الإبداع». ومجلدان بالنسبة لمجلدات «الشفاء» التي تفوق العشرة تقدم بالنسبة إلى كم القدماء. إن ضخامة إنتاج القدماء وبعض المحدثين لأن كلا منهم لديه مشروع متكامل وليس مجرد كتاب مقرر غير مترابط، ولا هدف له كمتطلب حرفة وليس لتحقيق رسالة. ومشروع «التراث والتجديد» به هذا النفس الطويل من القدماء، من «المغني في أبواب التوحيد والعدل» للقاضي عبد الجبار، ومن «الشفاء» لابن سينا، ومن «إحياء علوم الدين» للغزالي، ومن كتب التفسير والحديث والفقه المطولة. وفي كلتا الحالتين، القراء هم الضحايا. الأول يبدأ من صورة الفكر، النقل، والثاني يتعامل مع مضمونه، الإبداع. ولا تقل معرفة شكل الفعل عن مضمونه؛ فالفكر شكل ومسار واستدلال قبل أن تكون له مادة أو موضوع. الأول يحفر ويؤسس والثاني يبني ويشيد. الأول يستقرئ الجزئيات، والثاني يستنبط الكليات. الأول يغلب عليه النقل وتحليل المادة القديمة، والثاني يحاول الخروج من النقل إلى الإبداع عن طريق القراءة.
وكالعادة، وكما حدث في «مقدمة في علم الاستغراب» عندما تضخم وصف تكوين الوعي الأوروبي عن فصل واحد إلى خمسة فصول عن المصادر، والبداية، والذروة، ونهاية البداية، وبداية النهاية، تضخم النقل في وصف كيفية انتقال الوافد وتحوله إلى موروث عقلاني جديد من مرحلة الترجمة إلى التعليق إلى الشروح الثلاثة: الكبير والمتوسط والصغير، كما فعل ابن رشد، ثم إلى العرض ومراحله من العرض الجزئي إلى العرض الكلي إلى العرض النسقي والعرض الأدبي ثم إلى التأليف، حيث يتفاعل الوافد والموروث في مراحل متعددة ابتداء من تمثل الوافد وحده ثم تداخل الوافد والموروث، مرة مع أولوية الوافد ومرة مع أولوية الموروث حتى يختفي الوافد كلية وتصبح الأولوية للموروث في النهاية كما كانت الأولوية للوافد في البداية، وأخيرا إلى الإبداع الخالص حيث يختفي الوافد والموروث كلية ولا يعتمد العقل إلا على ذاته في إبداع نص فلسفي لا يحيل إلا إلى ذاته، وغالبا ما يكون هو النص العلمي الرياضي والطبيعي وأقل من ذلك النص الفلسفي. فلزم فصل هذه المراحل كلها في مجلد مستقل انفصل عن النقل وتولد منه، وهو «التحول». ولم يضف القدماء «النقل» ولا «التحول» كجزء من الحكمة؛ فالأوراق والثمار لا ترى جذورها، والرجولة لا ترى الطفولة، إنما يفضل ذلك الزارع الذي رأى الشجرة وهي تنمو وعالم النفس الذي درس طفله أو أطفال الآخرين من الطفولة إلى الرجولة.
78
ولما تضخمت الحكمة العملية وخشيت أن تنفصل إلى جزء رابع، وبالتالي يكاد يقترب «من النقل إلى الإبداع» من الهم الكمي السباق في «من العقيدة إلى الثورة» وخروجا على قاعدة القسمة الثلاثية: ثلاثة مجلدات، كل منها ثلاثة أبواب، كل منها ثلاثة فصول، جاء البابان الثاني والثالث في المجلد الثالث، كل منهما في أربعة فصول. الباب الثاني الحكمة النظرية في أربعة فصول: المنطق والطبيعات والإلهيات والإنسانيات إبرازا للنفس واستقلالها عن الطبيعات كبدن وعن الإلهيات في نظرية الاتصال بالعقل الفعال كنفس. والباب الثالث الحكمة العملية في أربعة فصول: الأخلاق، والاجتماع، والسياسة، والتاريخ، إدخالا للاقتصاد في الاجتماع، وإبرازا للتاريخ كإضافة معاصرة للحكمة العملية، وإجابة على سؤال: لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟
79 (2) الأسلوب المباشر
ليست الحكمة فقط معاني وتأملات، بل هي وسائل تعبير. والأسلوب المختار هو الأسلوب المباشر، وهو الأسلوب الذي يبعد عن الإنشاء والخطابة، والذي يعبر عن الأهواء والانفعالات أكثر مما يعبر عن وقائع أو حقائق تملقا لأذواق العامة. كما يبتعد عن الأسلوب المجرد الذي لا يقدر عليه إلا الخاصة للتعالي والتعالم على الجمهور وادعاء أهمية القول وضياع العالم أمام جهل الناس. وهو الأسلوب الذي يتوجه إلى جماهير القراء وبسطاء الناس الذين يجمعون بين المعرفة العامة والثقافة الخاصة. هو الأسلوب العادي الشائع الذي يتوجه إلى عموم القراء، يقدم للخاصة علوم الحكمة، ويكشف للعامة أزمة الإبداع. هو السهل الممتنع الذي اشتهر به كبار الفلاسفة، قدامى مثل سقراط وأفلاطون، ومحدثين مثل ديكارت وبرجسون. عرفه القدماء مثل أبو حيان وأبو سليمان السجستاني. يدرك أهمية العرض النظري المجرد، وفي نفس الوقت أهمية الصورة الفنية. يخاطب العقل والخيال، ويستعمل المقولات والصور.
80
كيف يمكن إيجاد أسلوب يتجاوز تجريد «الشفاء» وملله؟ وهو أسلوب لا شخصي لا يذكر أسماء الأعلام إلا اضطرارا حتى تظل الحقائق مستقلة عن الأشخاص، ووضع كل شوائب النص هذه في الهوامش، خاصة المجلد الأول «النقل» والثاني «التحول». أما الثالث «الإبداع» فالتعامل مباشرة مع النص الذي مات مؤلفه، ويعاد إنتاجه من جديد بواسطة القارئ. مات المؤلف، عاش القارئ. والنص اللاشخصي ليس ملكا لأحد، خلية حية تتكاثر طبقا لقوانين الحياة يموت ويحيا، ويتحول إلى طاقة منتجة وفعالة في التاريخ. النص طاقة مختزنة يفجرها القارئ، قنبلة زمنية موقوتة، دفنها المؤلف في رمال الصحراء، وفجرها القارئ بعد الاصطدام بها.
81
ولا تصدر أحكام بالثناء أو بالنقد، بالمديح أو التجريح، لا على القدماء ولا على المحدثين؛ فاجتهادات الفريقين بالرغم من اختلاف الظرفين لها أجر إن أخطأت، ولها أجران إن أصابت. إنما الأحكام عندي جزء من بناء الموضوع، حكم داخلي وليست حكما خارجيا، وكأن الموضوع هو الذي يحكم على نفسه بنفسه.
82
وهذا ناتج من أن «من النقل إلى الإبداع» إعادة دراسة لموضوعات علوم الحكمة، وليس نقلا لها كما فعل الفارابي مع اليونان، يفحص صدقها، ويعيد بناءها. لا تحتوي الأحكام على رأي خاص للهجوم أو للدفاع عن هذا الفيلسوف أو ذاك، بل وضع الحكماء في منظور كلي كمساهمات متعددة لبناء صرح واحد. ليس المطلوب هو إلقاء المدح أو الذم على هذا الفيلسوف أو ذاك، تخطئة أو تصويبا، تحقيرا أو تعظيما، ولكن إعادة وضع الكل في نسق عام حاولت علوم الحكمة وضعه. الوصف المزدوج لعلاقة الأنا بالآخر سواء عند القدماء مع اليونان أو عند المحدثين مع الغرب هو في حد ذاته حكم ورأي، ولكن من الداخل وليس من الخارج. الوصف حكم غير مباشر من داخل الموضوع وليس من خارجه. وإعادة بناء الموضوع من خلال إعادة تركيب الموقف هو حكم عملي داخلي وليس حكما خارجيا نظريا، حكم التزام ومسئولية وليس حكم فرجة أو تشفي. لا يوجد تجريح أو تخوين، اتهام أو سب، طعن في أحد أو اتهام للحكماء بأنهم دوائر منعزلة عن الثقافة الإسلامية أو متفلسفة، وليسوا فلاسفة أو كفرة ملاحدة، شيعة باطنية . هناك فقط محاولة لفهم طبيعة العمليات الثقافية التي تنشأ في حالة التقاء حضارتين، الأولى ناشئة والثانية وافدة. وإذا أخطأ أحد من القدماء أو المحدثين فله العذر. كل خطأ له دوافعه وظروفه، بيئته الثقافية وجوه الحضاري. هم رجال ونحن رجال. اجتهدوا على مستوى عصرهم وثقافتهم، ونجتهد على مستوى هذا العصر وثقافته. المسئولية واحدة. بنى القدماء وأعاد المحدثون البناء.
83
وإذا كان الحكم بالأثر الخارجي على مشروع «التراث والتجديد» في جبهاته الثلاث وفي أجزاء كل منها ما زال يصدر فإنه بطبيعة الحال صادر على هذا الجزء. فإن قيل إن «من العقيدة إلى الثورة» هو نقل فيورباخ في «جوهر المسيحية» إلى علم أصول الدين من أجل تأسيس «فيورباخية إسلامية» كما أن «التراث والتجديد»، هذا البيان النظري الأول، هو محاولة لوضع «ظاهراتية إسلامية» طالما يتحدث عن منهج تحليل الشعور، فقد يصدر حكم على «من النقل إلى الإبداع» أنه استعارة «التشكل الكاذب» من أشبنجلر في «أفول الغرب» كما يتهم البعض.
84
والحقيقة أن جدل اللفظ والمعنى والشيء وظاهرة الاستبدال اللغوي كأحد ظواهر التقاء الحضارات تنظير مباشر لتجارب حية في علاقة الأنا بالآخر، وحددت ذلك في الوعي بتجربة التعبير عن مضمون لفظ الله بألفاظ أخرى مستمدة من الفلسفة الغربية الحديثة. فهو الكمال (ديكارت)، والجوهر (أسبينوزا)، ومثال العقل (كانط)، والروح (هيجل)، والدافع الحيوي أو الطاقة الروحية أو التطور الخالق أو الديمومة (برجسون)، والفعل (بلوندل) والشخص (مونييه)، والجسم (ميرلوبنتي)، والوجود (هيدجر)، والحرية (سارتر)، إلى آخر هذه المفاهيم الحديثة التي تدل على المنطق في الفلسفة الغربية كما دلت عليه ألفاظ العلة الأولى، والمحرك الأول، والصورة المحضة من الفلسفة اليونانية القديمة. فلا أثر من مذهب أو فيلسوف قديم أو حديث، يوناني أو غربي على «من النقل إلى الإبداع». إنما في الذهن باستمرار مشاريع مماثلة للتراث والتجديد في الفكر الغربي مثل «إعادة البناء العظيم» لفرنسيس بيكون في القرن السابع عشر في البداية، وإعادة بناء العلوم لهوسرل في القرن العشرين، والأقرب إلى النفس «إعادة بناء التفكير الديني في الإسلام» لمحمد إقبال. فقد استعمل أيضا لفظ
Reconstruction ، بل إن مشروع الفلسفة الغربية كله منذ ديكارت حتى هوسرل هو إعادة بناء العلوم، إعادة بناء العصر الوسيط كله بناء على الذاتية الحديثة، وديكارت وكانط وفشته وهيجل، كيف يمكن أن تكون الذاتية موضوعا لنظرية العلم.
85
سادسا: المصادر والمراجع (1) استعمال المصادر القديمة
الاعتماد الأول في «من النقل إلى الإبداع» على المصادر الأصلية، وهي المصادر القديمة، المادة الخام. وهي النصوص موضوع التحليل المباشر والقراءة الفلسفية من أجل إعادة البناء. والتفضيل الأول للمصادر الكاملة كما كان الحال في كتب العقائد في علم أصول الدين، النصوص الرئيسية التي وضعت لعلوم الحكمة بنيتها، سواء في مرحلة النقل أو في مرحلة الإبداع. نموذج ذلك الترجمات العربية القديمة وشروح ابن رشد وتلخيصاته وجوامعه عليها في مرحلة النقل، وعروض الفارابي لفلسفة أرسطو، و«الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا في مرحلة التحول وبعض المؤلفات الفلسفية والرياضية والطبيعية، وكذلك رسائل الكندي الفلسفية والطبيعية بصرف النظر عن الترتيب الزماني في مرحلة الإبداع. فالبنية في التاريخ، في المعية الزمانية، وليست في التوالي الزماني. فابن رشد هو الشارح الأعظم في مرحلة النقل، والفارابي هو المعلم الثاني، وابن سينا الشيخ الرئيس في مرحلة التحول، والكندي فيلسوف العرب في مرحلة الإبداع.
وبعد الأعمال الكاملة تأتي الأعمال الجزئية، الرسائل والمقالات والسير الذاتية، مثل سيرة ابن سينا بيد تلميذه البوزجاني، وسيرة حنين بن إسحاق عما ترجم عن اليونانية. وتدخل في ذلك كل مؤلفات الفارابي التي وضعت في صيغة رسائل باستثناء كتاب الحروف و«آراء أهل المدينة الفاضلة» وكتاب «الموسيقى الكبير»، وكذلك «رسائل إخوان الصفا» لدلالتها على البنية الرباعية لعلوم الحكمة مثل دلالة أعمال ابن سينا وقسمته الثلاثة، نظرات جزئية تدخل في النسق الكلي. وهناك أعمال جزئية أخرى في إحدى فروع الحكمة، إما في المنطق أو في الطبيعيات أو في الإلهيات، مثل «الحكمة السعيدية في الحكمة الطبيعية»، ومثل كتب المنطق المتأخرة الذي أصبح علما مستقلا، نثرا أو شعرا، مثل «البصائر النصيرية» للساوي، و«السلم المنورق»، والشروح المتعددة على نصوص المنطق القديم في القرنين السابع والثامن بعد نهاية التأليف الفلسفي عند ابن رشد وقبل استئنافه في فارس على يد صدر الدين الشيرازي وملا خسرو.
وكنت قد ظننت تحت وهم مناهج التعليم ومقرراته في عصرنا وتبعيتها للاستشراق الغربي أن مؤلفات علماء الطبيعة والرياضة أدخل في تاريخ العلوم الطبيعية والرياضية منها في علوم الحكمة؛ فأعمال الكندي العلمية وكذلك رسائل الرازي وابن حيان والبيروني والحسن بن الهيثم وثابت بن قرة وأعمال حنين بن إسحاق الطبية وكذلك «القانون» في الطب لابن سينا و«الحاوي» للرازي، و«الكليات» لابن رشد، أقرب إلى تاريخ الطب عند العرب، وكذلك الأعمال الفلكية والموسيقية، كل ذلك أدخل في تاريخ العلوم عند العرب، والذي يبعد عن الحكمة الطبيعية التأملية الخالصة. وكان في مشروع «التراث والتجديد» في صياغته الأولى سيتم عرض هذه المادة في الجزء السادس من الجهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» بعنوان «العقل والطبيعة» محاولة لإعادة بناء العلوم الرياضية والطبيعية. ثم أضيف إليها «الوحي» في عنوان ثلاثي الإيقاع: «الوحي والعقل والطبيعة» يخرج عن ثنائية الإيقاع المتبع في باقي الأجزاء. ثم جاء التردد نظرا لأنها أصبحت مهنة خاصة لها متخصصوها. أصبحت موضوعا لعلم خاص ومعاهد خاصة في تاريخ العلوم، كجزء من تاريخ العلم العام تحت بند «تاريخ العلوم عند العرب». يرث ما قبله عند اليونان والشرق القديم، ويرثه من بعده في تاريخ العلم الغربي الحديث. ثم تبدد هذا الوهم بعد دراسة الحكمة الطبيعية، وأنها تشمل كل هذه العلوم الرياضية، الحساب والهندسة والموسيقى والفلك والكيمياء، بل والجغرافيا باعتبارها علم طبقات الأرض، والتاريخ نظرا لسيادة النظرية الجغرافية على تفسير أمزجة وطبائع الشعوب. ولا عجب أن يضم «الشفاء» القسم الرياضي، وأن تضم رسائل إخوان الصفا القسم الرياضي كذلك. والعجيب أنه هو الجانب الذي به الإبداع الخالص دون الإحالة إلى الموروث أو الوافد والذي يتم فيه التركيز على العقل والطبيعة تنظيرا مباشرا للواقع دون رؤيته من خلال نص الأوائل أو الأواخر.
وهناك مؤلفات فلسفية أخرى لم يكتبها حكماء خلص مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، بل كتبها مؤلفون موسوعيون مثل الغزالي، الذي كان متكلما مع المتكلمين في «الاقتصاد»، وحكيما مع الحكماء في «مقاصد الفلاسفة»، و«تهافت الفلاسفة»، ومنطقيا مع المنطقيين في «محك النظر» و«معيار العلم» و«القسطاس المستقيم». وهناك أيضا الرازي، الذي كتب «الحكمة المشرقية» جامعا بين الفلسفة والكلام، كما هو الحال في علم الكلام المتأخر. أما كتب المصطلحات فإنها جزء من علوم الحكم، مثل: «اصطلاحات المتكلمين والفلاسفة» للآمدي، و«التعريفات» للجرجاني، و«كشاف مصطلحات الفنون» للتهانوي، و«أبجد العلوم» لحسن صديق خان، و«دستور العلماء» للقاضي عبد الرسول؛ فهي قمة ما وصلت إليه علوم الحكمة من تجريد؛ فالفلسفة هي المصطلح، نشأة وتكوينا واكتمالا.
وهناك أعمال فلسفية نشأت في ثنايا الفلسفة الإسلامية، ولكن باسم الفلسفة اليهودية والمسيحية. كانت الفلسفة الإسلامية النموذج الذي بنيت عليه الفلسفتان الشقيقتان؛ فقبل اتصال اليهود والمسيحيين بالمسلمين لم تكن لديهما فلسفة عقلية. عرف اليهود الدراسات التوراتية، الشروح على التوراة والتلمود والمشناه. وغلب على علومهم النقل دون العقل، والتقليد دون التجديد، فلما اتصلوا باليونان ظهر فيلون، ولما اتصلوا بالمسلمين مرة ثانية ظهر سعيد بن يوسف الفيومي، وداود بن مروان المقمس، وباهيا بن باقوده، وسليمان بن جبرول، وموسى بن ميمون، وإبراهيم بن عزرا، وغيرهم من المتكلمين والفلاسفة العقليين اليهود الذين كتبوا أعمالها إما بالعربية، أو بالعربية بحروف عبرية، أو باللغة العبرية بناء على النسق الإسلامي أو الكلامي أو الفلسفي. ومنهم من تحول إلى الإسلام مثل ابن السموأل الذي كتب «بذل المجهود في إفحام اليهود» وأبو البركات البغدادي (ابن ملكا) صاحب «المعتبر في علوم الحكمة». ومنهم من تحول إلى الإسلام ثم ارتد إلى دين الآباء كما تنقل الروايات عن موسى بن ميمون صاحب «دلالة الحائرين». فهل تعتبر هذه الأعمال نصوصا في علوم الحكمة أم تظل أقرب إلى الفلسفة اليهودية؟ وهل يحلل «ينبوع الحياة» مثل «النجاة»، ويحل «دلالة الحائرين » مثل «فصل المقال»؟ وماذا عن باقي أعمال موسى بن ميمون في شروحه على التوراة والمشناه والوصايا العشر، هل هي أدخل في النموذج الإسلامي أم في التطبيق العبري؟ والحقيقة أن العامل الحاسم في ذلك هو مضمون النص بالإضافة إلى انتماء صاحبه الديني؛ فكتاب «المعتبر» داخل في علوم الحكمة لأن صاحبه اعتنق الإسلام وظل على اعتناقه، كما أن مضمونه في بنية ابن سينا الثلاثية لعلوم الحكمة. أما من ظل يهوديا مثل ابن جبرول أو من ارتد إلى اليهودية بعد أن اعتنق الإسلام فهو أقرب إلى الفلسفة اليهودية، حتى ولو كانت متبنية للنسق الإسلامي.
86
كما ظهر الأدب المسيحي الشرقي في حضن المسلمين؛ فهو جزء من تاريخ الفلسفة الإسلامية باعتبارها النموذج الذي تمت عليه صياغة الفلسفة المسيحية منذ يحيى بن عدي ونصارى الشام الأوائل حتى بولس الأنطاكي وفلاسفة الشرق المسيحيين، بل إن الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط المتأخر تعتبر امتدادا للفلسفة الإسلامية لاعتبارها النموذج العقلي للإيمان عند أبيلار وغيرهم من الفلاسفة العقليين منذ القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر الميلادي.
فهل تشمل علوم الحكمة النمط الفكري السائد بصرف النظر عن العقيدة؟ لو كان الرد بالإيجاب لدخلت الفلسفة اليهودية ضمن الفلسفة الإسلامية. فلا فرق بين ما يقوله موسى بن ميمون وبين ما يقوله ابن رشد، ولا فرق بين ما يقوله سعيد بن يوسف الفيومي وبين ما يقوله الفارابي في الغالب. والقراءون خير نموذج للفلاسفة اليهود المسلمين، وكذلك كل أنصار النزعة العامة في الفكر اليهودي.
87
ولا فرق بين ما يقوله الفلاسفة النصارى الذين عاشوا بين المسلمين وبين ما يقوله المسلمون منذ إنجيل المصريين، وإنجيل توما، وإنجيل برنابه، حتى فلاسفة الكنيسة الشرقية وفرقها مثل اليعاقبة مرورا بآريوس الذي يقول بوحدة الأقنوم في طبيعة السيد المسيح، ويؤكدون بشريته. فالاشتراك في الحضارة يجب العقيدة. ومع ذلك تم استبعاد هذه النصوص من أجل دراسات مستقلة عن الفلسفة اليهودية العربية والفلسفة المسيحية العربية التي تشارك الفلسفة الإسلامية في نفس النسق الفلسفي والنموذج الحضاري بالرغم من محاولات الغرب المعاصرة لضمها للفلسفة الغربية في العصر الوسيط.
وهناك أيضا تدوين علوم الحكمة في كتب التاريخ والطبقات مثل «الفهرست» لابن النديم، «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» لابن أبي أصيبعة، «طبقات الأطباء» للقفطي، «طبقات الأمم» لصاعد الأندلسي، «وفيات الأعيان» لابن خلكان، «تتمة صوان الحكمة» للبيهقي، «نزهة الأرواح» للشهرزوري، وغير ذلك من المصادر القديمة. وأهميتها في تدوين علوم الحكمة كما هي عند أهلها وفي حضارتها. وقد تكون هذه الصورة أدق من صورتها عند المحدثين، مستشرقين غربيين وباحثين عرب. والحقيقة أن هؤلاء المؤرخين ومؤلفي الطبقات ليسوا مؤرخين، بل فلاسفة حضارة، ينظرون إلى العلوم كمكونات حضارية، يحددون من خلالها رؤية حضارية بعيدا عن النزعة التاريخية في القرن التاسع عشر الأوروبي، بل إن الأخطاء التاريخية، سواء في تواريخ الميلاد والوفاة للحكماء، والنسبة الخاطئة للمؤلفات من الوافد والموروث لغير أصحابها، والنوادر المختلفة، كل ذلك له دلالاته الحضارية على الإبداع التاريخي. ولما كان «من النقل إلى الإبداع» يهدف أيضا إلى إعادة بناء علوم الحكمة من داخل الحضارة وليس من خارجها، فإن صورة هذه العلوم داخل الحضارة كما تصورها القدماء قد تساعد على إحكام صورتها الجديدة عند المحدثين. وتغني هذه المصادر عن كتب التاريخ خارج علوم الحكمة التي يتم منها عادة وضع إطار مادي للعلوم. في حين أن علوم الحكمة قد دونت تاريخها، وقرأت الآخر من منظور الأنا، بل وانتحلت نصوصا ناقصة في حضارة الآخر. فكيف لا يراسل الإسكندر أستاذه أرسطو أو أمه؟ وكيف لا يكتب أرسطو إلهيات إشراقية؟ وكيف لا يكتب اليونان فلسفة باطنية؟ وكيف لا يكتب سقراط عهدا قبل أن يموت؟
88
وهناك صورة لعلوم الحكمة في كتب الفرق، فالحكماء فرقة، أتباع سقراط وأفلاطون وفيثاغورس وأرسطو ضمن الفرق غير الإسلامية، خاصة عند الشهرستاني في «الملل والنحل». وقد تم عرض هذه الصورة في التدوين تلافيا لنقص «من العقيدة إلى الثورة»، الذي لم يتعرض لهذه الصورة؛ نظرا لأنه في نسق العقائد وليس في تاريخ الفرق.
وهناك صورة معادية لعلوم الحكمة في كتب الفقهاء المعادين للمتكلمين والحكماء والصوفية وكل اجتهاد أو إبداع إنساني بدعوى ابتعادها عن الشرع وخروجها على العقيدة ورجمها بالظن، وخطرها على العامة، وضلال الخاصة منذ محنة أحمد بن حنبل في موضوع خلق القرآن، حتى «مصارعة الفلاسفة» للشهرستاني، و«اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيم، ومجموع أعمال ابن تيمية في «منهاج السنة» و«موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» و«الرد على المنطقيين» و«نقض المنطق» حتى فتاوى ابن الصلاح. وقد تساعد هذه الصورة على نحو سلبي على معرفة وضع هذه العلوم من منظور فقهي خالص الذي يرفض الوافد لصالح الموروث، ويرجح أساليب القرآن على منطق اليونان. ولم يتم استعمال هذه المصادر لأنها أدخل في الفكر الفقهي؛ فالفقهاء هم حراس المدينة، دورهم في التطهير ودق نواقيس الخطر وأجراس الإنذار من أجل العودة إلى النص الخام قبل أن يعمل الاجتهاد الإنساني فيه.
وهناك ثالثا صورة هذه العلوم في كتب التاريخ العام، الحوليات والطبقات مع الطبري وابن كثير وغيرهم، وكتب التاريخ الشامل مثل «مقدمة» ابن خلدون؛ فعلوم الحكمة في النهاية جزء من التاريخ، تاريخ العلم والعلماء على الأقل. وهي أدخل في علم التاريخ كأحد العلوم الإنسانية، وأبعد عن علوم الحكمة من داخلها أو من خارجها في تاريخ العلوم والحضارات العامة.
89
أما المنتحلات والنوادر وكل ما أبدعته الحضارة إبداعا موازيا للتاريخ، فإنه يدخل ضمن المنتحلات الدالة على قدرة الحضارة على فهم روح الوافد، ثم إنتاج نص يعبر عن روح واحدة تجمع بين الموروث والوافد. تستخدم الوافد لإعادة كتابة الموروث، وتستخدم الموروث لإعادة إكمال الوافد، وذلك مثل رسائل الإسكندر إلى أمه، ووصايا أم الإسكندر إلى ابنها، وكتاب التفاحة لأرسطو.
90
وبطبيعة الحال لا يمكن نظريا وعمليا تحليل كل النصوص؛ فلا يمكن لأي باحث الاطلاع على كل ما أنتجته علوم الحكمة من مطبوع ومخطوط، حتى ولو أمكن الحصول عليه بمزيد من الجهد والصبر والوقت. فالبحث العلمي له حدوده الزمنية والبشرية، وإلا لما أمكن إصدار حكم على أي شيء انتظارا لتوافر المادة العلمية الكاملة في كل ميدان بحثي، ولتوقف البحث العلمي إلى يوم الدين نظرا لما يكتشفه الباحثون في دهاليز المكتبات القديمة كل يوم من مخطوطات جديدة. بل إنه يستحيل البحث العلمي على الإطلاق نظرا لضياع جزء كبير من التراث القديم إلى غير رجعة. وما بقي منه لا يمثل في حالة علوم الحكمة إلا ثلثه. لم يبق إلا ما هو في الإمكان، ما هو متاح؛ فبعض المطبوع غير متاح بالنسبة لقدرات أي باحث لصعوبة الحصول عليه من خارج الأوطان في عصر أصبح فيه تبادل الكتب والمجلات العلمية أشبه بتناول المخدرات. وحتى في عصر إنشاء معاهد المخطوطات في المنظمات العربية والإقليمية. والبعض ما زال مخطوطا، مصوراته قد تكون متاحة والبعض غير متاح. والمنشور منها أكثر بكثير من غير المنشور، ويعطي مادة كافية للحكم على الفيلسوف أولا وعلى مجموع نصوص علوم الحكمة ثانيا. فأعمال الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد المنشورة أكثر من الأعمال غير المنشورة إن وجدت. ولما كان المتاح المطبوع يعطي عينة ممثلة للمادة الأولى، فإن تحليله يكون ممثلا لتحليلات غير المتاح المطبوع أو المخطوط المفقود. وبالتالي يمكن إصدار أحكام عامة على التراث، علوم الحكمة نموذجا. الاستنتاجات العامة كاملة حتى ولو كانت مادة التحليل ناقصة. الروح مرئية في حين أن البدن قد تنقصه أحد الأعضاء. وهذا لا ينفي وجود الإنسان. وهو ما يسمى في المنطق بالاستقراء الناقص الذي يقوم عليه القانون العلمي دون الاستقراء التام الذي يستحيل تطبيقه إلا اعتمادا على مبدأ الاطراد في الطبيعة. ويسمى في علم أصول الفقه عند الشاطبي الاستقراء المعنوي، الذي يقوم على اطراد العلة في الفرع في حالة واحدة دون استقرائها في كل الحالات. لا يهم إذن غير المتاح من النصوص المطبوعة غير المتاحة أو المخطوطة أو المفقودة؛ فالمتاح فيه دلالة ومؤشر على غير المتاح، والحاضر يغني عن الغائب وإلا استحال الحكم انتظارا لعودة الغائب الذي قد لا يعود. يمكن إذن قياس الغائب على الشاهد. وما يشفع في ذلك أحيانا هو تكرار المادة المتاحة بحيث تتوقف أية مادة جديدة عن إضافة أية دلالة جديدة أو تغييرها أو تعديلها أو مناقضتها. بمجرد حصول الكيف تتوقف دلالة الكم، وبمجرد حصول المعنى يصبح تاما باكتمال المعنى وإن لم يكن تاما باكتمال الأمثلة. وماذا عن حريق مكتبة الإسكندرية وإغراق مكتبات بغداد، وما دمره الحريق أو العسكر، وما أتلفته غوائل الزمان؟ الروح لا تضيع، وإن ضاعت بعض أطراف البدن. حجة «الإنسان الطائر» عند ابن سينا و«أنا أفكر فأنا إذن موجود» عند ديكارت. والوعي التاريخي في النهاية مستقل عن الوثائق التاريخية، وإن كان محمولا فيها ومدونا عليها. إن عدم الاطلاع على كل النصوص حجة لا نهاية لها ولا حدود لها. فما ضاع ربما أكثر مما حفظ طبقا لما روته الأخبار عن حريق مكتبة الإسكندرية والكتب الملقاة في نهر دجلة كي تسير عليها الخيل، حتى تحولت مياه النهر إلى أحبار سوداء! ليس المهم اكتمال الوثائق، بل نوع العمليات الحضارية التي يمكن التعرف عليها بما تبقى من التراث القديم؛ فالمفهوم من المقروء عينة من المتاح المطبوع. والمتاح المطبوع عينات ممثلة للمطبوع كله. والمطبوع عينة ممثلة للمخطوطات المفقودة. والمخطوطات الموجودة عينات ممثلة للمخطوطات الضائعة والتي يمكن تحليل عناوينها لاكتشاف دلالاتها. وربما ما تم تأليفه، المطبوع والمخطوط والمفقود، ما هو إلا عينة ممثلة لمشاريع التأليف عند الحكماء التي لم تر النور. وكم من مشاريع الفكر ما زالت مطوية في أذهان أصحابها، ولها أكبر الدلالة على التحول من النقل إلى الإبداع. ولو انتظر الباحث استيفاء كل المادة لما صدر حكم عام، والأحكام العامة تتراءى من المستشرقين وغيرهم على الحضارة الإسلامية منذ قرنين من الزمان.
ولما كان أحد عيوب «من العقيدة إلى الثورة» الإكثار من النصوص القديمة أسفل الصفحات لدرجة قسمتها إلى نصفين، القراءة في النصف الأعلى والنص في النصف الأسفل، من أجل دعوة القارئ مشاركة الكاتب في حمل همومه وإدراك تصور القدماء ومدى بعده أو قربه من حاجات العصر، حتى يقدر الكاتب في غضبه من تراث السلطة ويفرح معه بتراث المعارضة، فإن استعمال النصوص القديمة في «من النقل إلى الإبداع» أصبح على نحو أقل تخفيفا على القراء، واكتفاء بالنصوص الدالة. وإذا كانت المحاولة الأولى لإعادة بناء علم أصول الدين قد وضعت النص الخام دون تحليل أو تفتيت أو هضم أو قضم حتى يسهل ابتلاعه، تكفي مشاركة القارئ الكاتب في «سد الزور»، و«ضيق الصدر»، والإحساس بالغم، بالإضافة إلى حمل هموم العصر، فإن هذه المحاولة الثانية «من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة، تقوم بتحليل النص وتفتيته والإجهاز عليه وعصره وترك الخارج منه، إلا إذا كان نصا دالا بأكمله مثل نص الكندي على الاعتراف بفضل القدماء في رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى أو نص ابن رشد عن اتفاق الحكمة والشريعة في «فصل المقال». وتتفق المحاولتان في الفصل بين أعلى الصفحة الذي يحتوي على التحليل الجديد وأسفل الصفحة الذي يضم الهوامش والشواهد والنتائج الإحصائية لتحليل مضمون النصوص.
91
أعلى الصفحة مخصص للروح وأسفل الصفحة مخصص للبدن حتى لا يتم كسر الخطاب وربطه افتعالا بنصوص قديمة. تعرض المطبخ بكل عبله دون أن تكتفي بتقديم الأطباق. كان من الممكن وضع نموذج ثالث، وتقسيم الصفحة ثلاثة أقسام: الأعلى يحتوي على تحليل بنيوي للموضوع وهو الزبد، والوسط يضم تحليلات النص والتي تجمع بين النتائج والمادة المحللة وهو الحليب المتبقي، والأسفل يضم النص الخام بعبله المستقى من المصادر الأولى، ماء الحليب، حتى ولو لم تكن محققة تحقيقا علميا حديثا مثل نصوص الجامعة العثمانية بحيدر أباد الدكن. ونظرا لعدم تعود القراء على هذا الأسلوب واحتمال تشتتهم بين ما يقرءون، وصعوبة الإخراج، وتضخيم الحجم، استبعد هذا النموذج الافتراضي من أجل الاكتفاء بالصفحة المزدوجة بين التحليل الجديد أعلاها والمادة المحللة أسفلها.
أما الإشارات إلى أسماء الحكماء، فإنه تم تفضيل النسبة على الكنية أو اللقب، الكندي وليس أبو يعقوب أو فيلسوف العرب، والفارابي وليس أبو نصر أو المعلم الثاني، وابن سينا وليس أبو علي والشيخ الرئيس، والغزالي وليس أبو حامد أو حجة الإسلام، وابن رشد وليس أبو الوليد أو الشارح الأعظم. فالكنية تحول العلم إلى شخص، وقد تقلل من هيبته وثقله في التاريخ، ولا يعرفها كل القراء. واللقب يضفي عليه هيبة أكثر مما هو عليها، تقدسه وتعظمه وتمنع من نقاشه والحوار معه وتجاوزه. كما أن هذه الألقاب من صنع التاريخ ومن وضع المؤرخين في عصور متأخرة عندما تحول الماضي إلى مقدس وعز الإبداع في الحاضر، وهو ما يعارض روح «من النقل إلى الإبداع»، بل ومشروع «التراث والتجديد» كله، الذي يقوم على أن الحاضر يزخر بإمكانيات أكثر من الماضي، وأن المستقبل أغنى وأثرى من الحاضر طبقا لروح التقدم في التاريخ. (2) إغفال المراجع الثانوية
المراجع الثانوية نوعان؛ الأول دراسات المستشرقين، والثاني دراسات العرب المحدثين. وتأتي في المرتبة الثانية من أجل تصحيح حكم خاطئ. وما دام الأصل موجودا فلم الفرع؟ وما دام «من النقل إلى الإبداع» دراسة نصية للمصادر الأولى، فلم مضغ اللقمة ثانية في فم الآخرين؟ إن أهمية الاستشراق ترجع فقط إلى تحقيق النصوص كوثائق تاريخية، والتعريف بالتراث وإخراجه من بطون المكتبات القديمة استئنافا لدور الحضارة في التحقيق العلمي للتراث، بداية باليوناني ثم المسيحي في العصر الوسيط وانتهاء بالتراث اللاأوروبي في الهند والصين والعالم الإسلامي. ترجع أهمية الاستشراق إلى توفير المادة العلمية دون تحليلها، إعطاء البدن دون الروح، والنظر إلى العالم دون الله. به كل شيء ولا شيء، المعلومات دون العلم، النظر دون الرؤية، وبطبيعة الحال الماضي دون الحاضر. فالمستشرق غريب على التراث وليس من أصحاب الدار، لا يهمه احتراق المنزل ما دام يتعامل مع الرماد، ولا يهتم بالأحياء طالما يخاطب الأموات. أما التحليلات والاستنتاجات والأحكام فشيء آخر يخضع لمناهج الاستشراق وتنبع من عقلية المستشرقين. الاستشراق بهذا المعنى «موضوع دراسة» وليس «دراسة موضوع». هو في حاجة إلى مراجعة علمية دقيقة قبل استخدامه كمرجع من أجل تصحيح الأحكام أو من أجل إيجاد الدلالة الحضارية للمادة التاريخية الخام.
92
نشأت معظم الدراسات الاستشراقية قبل نشأة علوم التأويل المعاصرة والأنثروبولوجيا الحضارية. لم يقم بها فلاسفة أو مفكرون أو مثقفون وطنيون يحملون هموم الفكر والوطن، بل لغويون ومؤرخون وضعيون على طريقة القرن التاسع عشر. ليس الهدف هو إثبات الإبداع الذاتي للشعوب، بل تفريغها من مضمونها وإثبات تقليدها للغير ، اليونان القديم أو الغرب الحديث في حالة دراسة الفكر العربي الحديث لنقل الأطراف إلى إبداع المركز. ما أسهل من إصدار قائمة مراجع الاستشراق من أية مكتبة عامة أو من هوامش آخر المستشرقين أو من الموسوعات والمعاجم أو من المجلات الاستشراقية المتخصصة ومؤتمرات جمعياتها السنوية، براءة من عقدة النقص أمام الاستشراق، وتأكيدا لمركب العظمة والتفوق عند الغرب. لقد بلغت الدراسات والبحوث الوطنية سن الرشد، ولم تعد في حاجة إلى هذا التحايل النفسي على الذات وعلى الآخر باسم البحث العلمي الدقيق.
93
ولا يعني الاستشراق فقط دراسة الأوروبيين لعلوم الحكمة، بل يشارك فيها أيضا بعض الباحثين والأساتذة العرب المحدثين، نصارى ومسلمين، في الجامعات الوطنية والخاصة، حتى أصبح هذا النمط من الدراسات هو العلم الذي تعطى في اجتيازه الشهادات والدرجات العلمية.
94
ولا يبحث العالم إلا همه. ولما كان همه هو إبداع المعاصرين وتجاوز نقلهم بدليل إبداع القدماء، فإن هم المستشرقين إثبات نقل القدماء بناء على نقل المعاصرين، وتأكيدا للمركزية الأوروبية القديمة عن اليونان أو الحديثة عند الغربيين المحدثين. ويمكن تحقيق هدفي موضوعيا في حين يصعب تحقيق هدف المستشرق إلا ذاتيا بناء على الأحكام المسبقة والحكم بظاهر اللغة في النصوص الفلسفية القديمة ونقص في العلم بمناهج التأويل الحديث والأنثروبولوجيا الحضارية، مع أنه تربى في الغرب وتعلم في جامعاته. ولكنه لا يستعمل ذلك كله إما كسلا أو تجاهلا. فدراسة الشرق تتم بأسهل الوسائل، اللغة والتاريخ، والتحرر الثقافي كقصد أقرب إلى الموضوعية من الغزو الثقافي كهدف.
إن الاستشراق العربي، وهو امتداد للاستشراق الغربي، إنما يقوم على التبعية للغرب والإعجاب بتقدمه، وأنه آخر ما وصلت إليه البشرية من تقدم، وأنه هو المبدع الخلاق، وما على غيره من الشعوب إلا التبعية والتقليد. وهذا إحساس بالنقص أمامه، والعجز أمام خلقه، ونسيان للإبداع الذاتي للشعوب عبر التاريخ مثل إبداع القدماء. ولو أخذ الاستشراق العربي موقفا حضاريا ذاتيا، واعتبر نفسه من الداخل وليس من الخارج مسئولا عن التطوير وإعادة البناء لتحول من استشراق عربي إلى بحوث وطنية.
أما النوع الثاني، وهو الدراسات الثانوية التي كتبها معظم أساتذة الجامعات المصرية خاصة والعربية عامة في عصر النفط ومن أجل الترقيات والإعارات والتدريس اعتمادا على كتب جامعية مقررة، فإنها لا تمثل تأليفا علميا بهدف البحث العلمي، فلا هي بالاستشراق الغربي الأصلي، ولا هي بالدراسات الوطنية المحلية. لا تحمل هموم العلم أو الوطن. يكرر بعضها أحكام الاستشراق تملقا للغرب وإحساسا بالدونية أمامه وتشدقا بالاطلاع عليه، والبعض لا يكاد يعرف اللغات الأجنبية الأصلية التي كتب بها ولم يعرفها إلا ببعض الترجمات المحلية. وتصدر أحكام مماثلة في عبارات عامة مثل تسمية علوم الحكمة الفلسفة العربية أو الحديث عن أثر اليونان في الفلسفة الإسلامية دون تحليل لمعنى الأثر ودون وعي بالنص كموضوع حضاري. مثل هذه المؤلفات هي مؤشرات على انهيار الدراسات الإسلامية والبحوث في علوم الحكمة كدليل على انهيار عام للحضارة آثر فيها خلفاء الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد على أن يكونوا متفرجين من الخارج وليسوا أصحاب دار، متكسبين بعرض القدماء وليسوا مطورين لهم، مفضلين عالم النفط الخارجي والساعات الإضافية الداخلية على محبة الحكمة.
95
وهناك بعض الدراسات العلمية الجادة قام بها بعض علماء اللغة المقارنة تخرج عن نطاق التخصص في علوم الحكمة، ولكنها من الدراسات المساعدة مثل كتب تاريخ الأدب السرياني.
96
ومن ذلك أيضا الدراسات اللغوية الخالصة في فقه اللغة المقارن والتي تقوم بها أقسام اللغات القديمة، اليونانية واللاتينية، والشرقية، مثل السريانية والعبرية. ويمكن الاستفادة منها واستنتاج دلالتها في النقل الذي لا يقدر عليه اللغوي وحده، بل يستطيع ذلك الناقل الفيلسوف مثل حنين بن إسحاق والمترجمين الأوائل.
وعيب هذه الدراسات أنها تخلو من الرؤية، ولا تقوم على تفلسف، ولا تتجه نحو هدف، ولا تضع افتراضا، ولا تقيم برهانا، تكرر نفسها وتنقل عن غيرها. يحفظ الطلاب، وتوزع دور النشر، ويطبع الأساتذة على نفقاتهم حتى يستحوذوا على كامل الربح. تحول إلى التجارة، وانتقل الهدف من ميدان البحث إلى ميدان الرزق. وهي تعبر عن العيب الرئيسي في الدراسات الجامعية التي لا ترتبط بمشروع حضاري شامل يربط أجزاءها، وينسق بين موضوعاتها، وتصب جميعها في تحقيق هدف مشترك وهو توظيف القديم لصالح الجديد، ومعرفة كل علوم الوسائل بما في ذلك الفلسفة الغربية الحديثة من أجل تطور علوم الغايات، واستعمال الآخر لتطوير ثقافة الأنا.
وما زال يقع الباحث تحت الأوهام والأحكام الخاطئة التي تلقى له وهو ما زال في مرحلة الدراسة الجامعية. إن الفلسفة الإسلامية شرح لليونان دون إعطاء البراهين والأدلة، ودون تحليل لغوي للنصوص، وإخراج النصوص الرياضية والطبيعية من النصوص الفلسفية بدعوى أنها أدخل في تاريخ العلم عن العرب تحت أثر مؤرخي العلم الغربي، وتقسيم الفلاسفة إلى فلاسفة المشرق: الكندي والفارابي وابن سينا، وفلاسفة المغرب: ابن باجة وابن طفيل وابن رشد طبقا لقسمة المؤرخين الغربيين العالم الإسلامي إلى مشرق ومغرب للفصل بين جناحيه، والإيحاء بالقطيعة المعرفية بين الاثنين، المشرق أقرب إلى إشراقيات إيران، والمغرب أقرب إلى عقلانية الغرب، وانتهاء الفلسفة بعد ابن رشد وكأن صدر الدين الشيرازي والطوسي وغيرهم لا وجود لهم، والسخرية من عصر الشروح والملخصات، عصر التدوين الثاني، وهو موضوع دراسة وتحليل، لكيف تعيش الحضارة على ذاتها، تجتر ما ابتدعته سلفا وتدونه بالذاكرة الجماعية بعد أن عز الإبداع، وصعوبة تصنيف الغزالي، وهو متكلم مع المتكلمين، فيلسوف مع الفلاسفة، أصولي مع الأصوليين، صوفي مع الصوفية ... إلخ. وغياب العلاقة مع فارس والهند والصين، وكأن الغرب اليوناني أكثر حضورا فينا من الشرق الآسيوي، والتركيز على اليونان دون الرومان إسقاطا من أولوية الغرب على الشرق في وعينا السياسي المعاصر.
إن الذي أمات الفلسفة هو الكتب المقررة للكسب والرزق، والرسائل الجاهزة سلفا بلا خطة أو رؤية. وما يحييها هو البحث الوطني الذي يقوم على رؤية للأنا ومسارها في التاريخ، والمشاريع القومية العامة التي تعد لنهضة فلسفية مواكبة لمرحلة جديدة يقوم بها المحدثون لوراثة القدماء.
97
أما الإحالات إلى الذات، والأعمال السابقة، دراسات ومقالات، فإنها لا تعني أية نرجسية أو غرور أو ثقة زائدة بالنفس، أن يكون الباحث هو مرجع نفسه، بل يعني أن «من النقل إلى الإبداع» هو جزء من مشروع «التراث والتجديد»، وأن اللاحق يعتمد على السابق، وأن السابق يؤدي إلى اللاحق، وأن الدراسة السابقة أو المقال السابق هو جزء من كل حتى يكتمل البناء دون تكرار اللبنات أو الأدوار السابقة ودون تكرار ما قيل سلفا على وجه الخصوص. كما أن ذلك يفيد في ربط أجزاء المشروع الممتدة على أكثر من ثلاثين عاما منذ ثلاثية الشباب «مناهج التفسير» و«تفسير الظاهريات» و«ظاهريات التفسير»، منذ منتصف الستينيات، حتى «من النقل إلى الإبداع» في أواخر التسعينيات. وقد يصل التذكير إلى حد التكرار تنبيها وإرشادا.
ولم تتم الإحالة إلى الآخر الغربي في صلب التحليل لإعادة قراءة النص الفلسفي القديم من داخله وبناء على ظروف العصر دون تطوير له من الخارج باستعمال مناهج أو استخدام مفاهيم وإسقاط تصورات وضرورة تجاوز أن تكون الثقافة الغربية المعاصرة إطارا مرجعيا لكل تجديد كما هو الحال في الفكر العربي الحديث، رؤية الأنا في مرآة الآخر، وتطوير ثقافة الأنا من خلال ثقافة الآخر. ومع ذلك أمكن التنبيه على احتمال قيام هذه المقارنات أسفل الصفحات لبحوث قادمة مستقبلية تقوم بوضع منطق جديد للحضارات المقارنة.
كما تهدف المقارنات مع الغرب الإعداد للخاتمة «من اليونان القديم إلى الغرب الحديث»؛ فقد كان الهدف «من النقل إلى الإبداع» بيان التقابل بين إبداع القدماء ونقل المحدثين. فلا فرق بين سقراط وأفلاطون وأرسطو بالنسبة إلى القدماء وبين ديكارت وكانط وهيجل بالنسبة إلى المحدثين. تعامل القدماء مع اليونان وبين الاثنين ما يزيد على ألف ومائتي عام، أربعمائة قبل المسيح وثمانمائة بعده حتى عصر الترجمة، في حين نتعامل نحن مع الغرب الحديث والمسافة الزمانية ليست بعيدة بيننا وبينه منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر وعصر النهضة في السادس عشر؛ أي أربعمائة أو خمسمائة عام على الأقل، ثلث الزمن الذي كان بيننا وبين قدماء اليونان. فالموضوع واحد بيننا وبين القدماء مع اختلاف الآخر، الآخر اليوناني قديما والآخر الغربي حديثا. واليونان في النهاية أصل الغرب. كما تهدف الإحالات إلى الغرب في أسفل الصفحات إلى وضع الغرب في إطار إسلامي بدلا من وضع الفكر الإسلامي في إطار الفكر الغربي إلى أن يعاد كتابة تاريخ الفكر الغربي في إطار لا غربي، وكما تمت محاولة من قبل في «مقدمة في علم الاستغراب». كما تهدف هذه الإحالات إلى بيان كيف تكون علوم الأنا هي علوم الغايات، بينما علوم الآخر هي علوم الوسائل.
وحتى يمكن تطوير الدراسات العليا ووضع خطة مستقبلية لها في ميدان الدراسات الفلسفية، تم التنبيه على بعض الموضوعات أسفل الصفحات تستحق التطوير والدراسة في خطة متكاملة لإعادة بناء العلوم القديمة بوجه عام وعلوم الحكمة بوجه خاص؛ فمشروع «التراث والتجديد» ما هو إلا نموذج لمشروع رؤية للدراسات الإسلامية الجديدة تطويرا للدراسات القديمة وحلا لأزمتها موضوعا ومنهجا.
إن هذه المقدمة الطويلة تصور الوضع الراهن لعلوم الحكمة كمدخل طبيعي لهذه المحاولة التي تجمع بين رصد الماضي وإبداع الحاضر، بين تحليل نقل القدماء ومحاولة إسهام المحدثين.
98
الباب الأول: التدوين
الفصل الأول
التاريخ
أولا: دراسة التاريخ
هناك فرق بين تاريخ الفلسفة الذي يقوم به المؤرخون راصدين تطورها التاريخي على نحو زماني خالص، ناظرين إليه من الخارج، فهم ليسوا فلاسفة محدثين ولا قدماء، وتاريخ الفلسفة الذي يقوم به فلاسفة محدثون أو قدماء، فهم فلاسفة يؤرخون لتاريخ الفلسفة، لهم رؤية ومنهج، ولهم غاية وهدف، شعوري أو لا شعوري، عن وعي أو عن لا وعي. هو تدوين للتاريخ يقوم على فلسفة في التاريخ، وليس مجرد رصد زمني لأعلامها. وعندما تؤرخ الفلسفة لنفسها عن طريق فلاسفتها، فإن ذلك بداية الوعي التاريخي والتراكم الفلسفي. ترى الفلسفة نفسها في التاريخ، وتؤرخ لنفسها بنفسها منذ البداية حتى الذروة. وعندما يؤرخ المؤرخون للفلسفة، فإن ذلك يكون بداية النهاية، توقف الوعي التاريخي الفلسفي عن الإبداع واكتماله في مرحلة تدوين الفلسفة لذاتها. البداية من الداخل والنهاية في الخارج. البداية ذات واعية، تاريخها جزء من إبداعها، والنهاية موضوع متحجر تحول إلى متاحف التاريخ.
1
فالمؤرخون فلاسفة، والفلاسفة مؤرخون، والوعي التاريخي لديهم هو الوعي الفلسفي، كما أن الوعي الفلسفي هو نتيجة الوعي التاريخي.
2
ويمكن عرض المؤلفات التي دونت الفلسفة بثلاثة مناهج: (أ)
المنهج التاريخي الذي يتم طبقا له ترتيب هذه المؤلفات زمنيا لمعرفة تطور طرق التدوين، نشأتها وذروتها ونهايتها، مما يكشف عن مسار الوعي الفلسفي التاريخي، ابتداء من القرن الثالث حتى هذا القرن، القرن الرابع عشر. وربما يكشف عن تطور النص التاريخي كنوع أدبي. وقد مضى الآن عقدان من الزمان من بداية القرن الخامس عشر استمرارا للقرن الماضي. ويكشف هذا التسلسل الزماني عن الحقائق التالية:
3 (1)
ظهور الوعي التاريخي مبكرا منذ عصر الترجمة وعند المترجمين، خاصة حنين بن إسحاق، واستمراره على أكثر من ألف عام؛ فالترجمة تدل على وعي تاريخي عند المترجم بالتدوين ونقل الحضارة الحديثة للحضارة القديمة، احتراما لها، واعتزازا بها في مسار حضاري واحد متصل. (2)
تبلور النص كوحدة مستقلة منذ عصر الترجمة في صيغة نوادر للفلاسفة والحكماء، كما فعل أيضا حنين بن إسحاق؛ فالقول أهم من القائل، والنص له الأولوية على المؤلف، والفكرة هي الماهية، والمعبر عنها هو العرض. (3)
ظهور الوعي التاريخي الفلسفي عند المشتغلين بالفلسفة أنفسهم كعمل فلسفي على تاريخ الفلسفة. فتاريخ الفلسفة يكتبه الفلاسفة، ويدونه أهل الدار وليس الغرباء، آل البيت وليس الدخلاء. المؤرخون فلاسفة يدونون صنعتهم. وقد تدهور الأمر في النهاية منذ القرن الماضي عندما دون الفلسفة مؤرخون لأي شيء ولكل شيء في آن واحد. فأصبح الفلاسفة جزءا من التاريخ العام. (4)
الفلاسفة المؤرخون هم الأطباء، مثل: حنين بن إسحاق، وابن جلجل، وابن هندو. وهم أيضا الوراقون مثل ابن النديم، ومؤرخو الديانات مثل البيروني، والمتكلمون مثل الشهرستاني والفلاسفة الخلص مثل السجستاني وابن فاتك، ومؤرخو الطبقات مثل القفطي وابن أبي أصيبعة وابن خلكان والكتبي، والمؤرخون الخلص مثل صاعد وابن خلدون، أو العلماء أصحاب النظرة الشاملة للعلوم كالخوارزمي والسكاكي وحاجي خليفة وإسماعيل باشا، أو أصحاب القواميس والموسوعات المحدثون مثل رضا كحالة والزركلي. (5)
تناثر البنية وتجزئتها في التاريخ؛ فالقول كمادة للتدوين يظهر في البداية عند حنين بن إسحاق، وفي المنتصف عند ابن هندو والمبشر بن فاتك. وهو أفضل نوع أدبي لأنه يؤرخ للأقوال وليس لأصحابها، وللماهيات وليس للأعراض. والتأريخ للوافد والمورث كمرآة مزدوجة تعكس صورة كل منهما في الآخر تظهر في البداية عند الخوارزمي والسجستاني، وفي الوسط عند البيهقي. وتاريخ الحضارات العامة والخاصة يظهر في البداية عند صاعد وفي النهاية عند ابن خلدون. وتقسيم العلوم يظهر في البداية عند ابن النديم وفي الوسط عند السكاكي والخوارزمي (أبو بكر) وفي النهاية عند طاش كبري زاده وحاجي خليفة وفؤاد سزكين. وأسماء الأعلام في البداية عند ابن الفرضي كما تظهر في الوسط عند القفطي وابن أبي أصيبعة وابن خلكان والشهرزوري وفي النهاية عند الزركلي ورضا كحالة.
4 (ب)
المنهج البنيوي الذي يكشف عن النص المدون كنوع أدبي يتجلى عبر الزمان، ابتداء من العام إلى الخاص، بصرف النظر عن التتابع الزماني، يستبقي البنية ويضحي بالزمان. ويكشف هذا المنهج عن الأنواع الأدبية الآتية: (1)
الحضارات العامة والخاصة، حيث تظهر علوم الحكمة من خلالها كما هو الحال عند صاعد عندما دون الحكمة. كما ظهرت في الحضارات القديمة وابن أبي أصيبعة، وكما فعل البيروني في تدوين عقائد حضارة واحدة هي حضارة الهند. (2)
الوافد والموروث باعتبارهما المكونين الرئيسيين لعلوم الحكمة، خاصة التقابل بين علوم العجم وعلوم العرب، وكما هو الحال عند الخوارزمي والسجستاني والبيهقي والشهرزوري. (3)
علوم الحكمة داخل الحضارة الإسلامية وحدها كما فعل ابن خلدون في «المقدمة»، وكأحد جوانب علومها وصناعاتها. (4)
الفلسفة كما تظهر في كتب الفرق باعتبارها فرقة يونانية لها أتباعها المسلمون كما فعل الشهرستاني. (5)
تقسيم العلوم وظهور الحكمة من خلالها كما فعل ابن النديم والسكاكي والخوارزمي (أبو بكر) وطاش كبري زاده، وحاجي خليفة وفؤاد سزكين. وهو غير إحصاء العلوم الذي يقوم به الفلاسفة لإحصاء العلوم الفلسفية وحدها، سواء كان ذلك ابتداء من المصنفين والمصنفات (ابن النديم) أو من المصنفات والمصنفين (طاش كبري زاده) أو تصنيف العلوم (السكاكي والخوارزمي) أو المصنفات (حاجي خليفة). (6)
أسماء الأعلام وظهور الحكمة من خلال الحكماء وإعطاء الأولوية للمؤلف على النص، وللشخص على القول، وللعرض على الجوهر، مثل: ابن الفرضي، والقفطي، وابن خلكان، والكتبي، والمحدثون مثل الزركلي ورضا كحالة. (7)
الأقوال وظهور الحكمة من خلال نصوصها بصرف النظر عن أشخاص الحكماء مثل حنين بن إسحاق وابن هندو والمبشر بن فاتك. (ج)
ويمكن الجمع بين المنهجين البنيوي والتاريخي، ليس بدافع التوفيق، بل من أجل استبقاء البنية وبيان تطورها في التاريخ؛ فالبنية هي الثمرة، والتاريخ هو تكوينها من البذور حتى الحصاد. البنية هي المصب والتاريخ هو المنبع والمسار. البنية هي الباقية والزمان يتغير ويتبدل. البنية هي الأبدية والتاريخ هو الزمان.
والأنواع الأدبية ليست فقط في العمل باعتباره وحدة، بل أيضا في طريقة التدوين، بين الباب والفصل والمقال، بل في الفقرات مثل عظيمة.
5
وقد ساهم المغاربة في تدوين التاريخ قدر مساهمة المشارقة. شارك الأندلسيون في التدوين مثل صاعد وابن جلجل.
6
والسؤال هو: هل التاريخ الموضوعي، الوصفي التقريري المحايد ممكن أم إن التاريخ هو علم إنساني يتوقف على رؤية المؤرخ، فلا يوجد تقرير بلا رؤية، ولا وصف بلا منظور، والحياد العلمي بهذا المعنى مستحيل؟ هي قضية الموضوع والذات. ما دام الموضوع مرئيا من ذات، وما دامت الذات ترى الموضوع؛ فالتاريخ في النهاية هو رؤية الذات للموضوع، ووصف الموضوع من خلال الذات. إنما السؤال هو في التناسب بين الاثنين إذا ما قل دور الذات إلى الحد الأدنى في الرؤية والصياغة كان الموضوع تاريخا. وإذا ما زاد دور الذات إلى الحد الأقصى في الفهم والتأويل والعبارة كان الموضوع قراءة. أما إذا اختفى الموضوع الأول كلية لحساب الذات وأبدعت موضوعا مشابها في الروح له أو بديلا عنه كان انتحالا. وفي الحالات الثلاث، لا فرق بين الذات والموضوع إلا في الدرجة.
ثانيا: الحضارات العامة والخاصة
(1)
ويتم تدوين التاريخ طبقا لمجموع الحضارات القديمة المعروفة في ذلك الوقت؛ فالحضارة هي وحدة التحليل. لا فرق بين حضارة وأخرى ومجموعها يكون الحضارة البشرية. وأول محاولة في ذلك هي لابن جلجل (298ه) في «طبقات الأطباء والحكماء»، وهو أول أندلسي ألف في الموضوع قبل صاعد، بل إنه يعتبر أول مؤرخ في الإسلام، مؤرخ وشارح ومؤلف ومصحح لأخطاء الأطباء.
1
وكانت مصادره لاتينية أكثر منها يونانية لعيشه في الأندلس قريبا من اللاتينية بعيدا عن المشرق العربي القريب من اليونانية والترجمات اليونانية. وتكثر المصادر إلى حد اعتبار الكتاب مجرد تجميع من مصادر سابقة، وهو طابع التأليف عند القدماء نظرا لشيوع النصوص كعمل جماعي وليست كملكية فردية . مصدره الرئيسي كتاب الألوف لأبي معشر، كتاب هروشيش صاحب القصص، كتاب القروانقة ليرونم الترجمان، كتاب أيزيدورس الأشبيلي، بالإضافة إلى كتب أخرى وردت في المتن. كما رجع إلى بعض المصادر الأصلية من كتب الأطباء.
2
كما يعتمد على مصادر شفاهية مروية بالسماع.
3
والدافع على التأليف هو سؤال وجه إلى ابن جلجل عن أول من وضع صناعة الطب نظرا لعدم وجود كتاب مدون في الموضوع. وتصعب الإجابة؛ فقد اندثر القوم وعز الأثر. ومع ذلك يمكن الاعتماد على المدونات السابقة في الموضوع، بالإضافة إلى بعض الأخبار الشفاهية أو المدونة لحكماء اليونان يمكن الاستدلال بها على السيرة الذاتية لكل حكيم. ويعترف بالنقل ويذكر المصدر المنقول عنه.
4
ويختلط التاريخ بالأسطورة والواقع بالخيال، مثل قسمة تاريخ العالم قبل الطوفان وبعده في السؤال عن بداية صناعة الطب، ومثل الحديث عن أبولن لا فرق بين الإله والإنسان.
5
ومع ذلك هناك حد أدنى من نقد المؤرخ للمصادر، وحد أدنى لقبول الأخبار التي تليق والتي تصل إلى حد الشناعة وتتجاوز المعقول.
6
ويظهر الشعر كمادة تاريخية من قرض الحكماء الأطباء أو من أصدقائهم.
7
ويقسم الكتاب إلى تسع طبقات. وتعني الطبقة طبقات الأمم؛ أي دوائر الحضارات، كما هو الحال فيما بعد عند صاعد. وبالرغم من أن ترتيب الطبقات لا يخضع للزمان، إلا أن تواليها يوحي بذلك. وبداية الحضارة في وحدة أولى تجمع اليونان ومصر وبابل وفارس ممثلة في الهرمسية، ويسميها الحكمة الطبية والفلسفة العلوية. ثم يبدأ الطب في الحكمة الرومية اليونانية دون تمييز بين اليونان والرومان، ثم اليونان بعد غزو الفرس لهم، ثم اليونان بعد بناء روما، ثم انتقال الثقافة اليونانية إلى الإسكندرية، ثم تحولها إلى العرب قبل الإسلام دون تسميتهم كذلك بل تسميتهم سلبا «من لم يكن في أصله روميا ولا سريانيا ولا فارسيا»، ثم حكماء الإسلام في المشرق، ثم حكماؤهم في المغرب ، وأخيرا الحكمة الأندلسية.
8
وأكبرها الأندلسية الإسكندرانية.
9
وإذا كانت الطبقات الخمس الأولى من اليونانية؛ أي من الوافد، فإن الطبقات الأربع التالية من العرب وحكماء المسلمين، يهود ونصارى ومسلمين. فالأولوية للوافد على الموروث، ولكن باعتبار عدد الحكماء، فإن حكماء العرب والإسلام يزيد على حكماء اليونان بمقدار الثلاثة أضعاف.
10
مقياس التصنيف إذن تاريخي من اليونان إلى الإسلام، وجغرافي بين المشرق والمغرب، وديني العرب قبل الإسلام وبعده. أما مقياس ترتيب الحكماء فبالشهرة والأهمية وليس الترتيب الزماني.
11
ولا يذكر من الحكماء الإسكندرانيين الطبقة الخامسة؛ أي أسماء أو أعلام منهم.
12
ومن حيث الحكماء كأفراد بصرف النظر عن انتمائهم الحضاري يتصدر جالينوس، ثم أسقليبيوس، ثم حنين بن إسحاق، ثم أرسطاطاليس، ثم سقراط وإسحاق بن عمران، ثم أبقراط بن يحيى بن إسحاق، ثم أبو جعفر، ثم سعد بن عبد ربه وأحمد بن يونس وأخوه الحرانيان، ثم هرمس، في المراتب العشرة الأولى. ويأتي أفلاطون في المرتبة الرابعة عشرة، وبطليموس والرازي في الخامسة عشرة، وديسوقريدس في السابعة عشرة، وإقليدس في الثانية عشرة من مجموع خمسمائة وعشرين مرتبة.
13
وفي رسم الشخصية، يذكر الاسم والمكان والأهمية والعصر والملامح العامة للشخصية، ومعظمها ملامح إيجابية من علم وفضل وسيرة حسنة، بشيوخه وتلاميذه. سقراط شيخ أفلاطون، وأفلاطون شيخ أرسطاطاليس ومعلمه. كما تذكر الملة والدين: اليهودية أو النصرانية والحرانية والإسلام. ومن حكماء الإسلام ممن برع في الطب والفلسفة، الطبقة السابعة، مسلمون ومسيحيون. والعجيب في الأسماء الألقاب مثل سم ساعة لقب إسحاق بن عمران، الحراني الذي ورد من المشرق إحساسا بجناحي العالم. ثم تذكر المؤلفات أساسا وقليل من الأقوال بصرف النظر عن صحة نسبتها. إنما هو قول صحيح فلسفيا ووجدانيا بصرف النظر عن صاحبه مثل الثمان كلمات الجامعة لأمور المصلحة عن العلم والدولة والرعية والجيش والعدل والصلاح التي تعزى إلى كسرى أنوشروان وأرسطو في آن واحد. ثم تذكر النوادر العجيبة تبين عظمة الحكيم وتتحقق من أسلوب السرد التاريخي في ثقافة تجمع بين العلم والأدب، والفلسفة والأسلوب، العقل والخيال، الحكمة والنبوة. تخفف عن القراء جفاف الفلسفة، وتجعل الكتاب مقروءا عند الجميع. فلا فرق بين سيرة الحكماء وسيرة الأنبياء في النوادر والحكايات والحوارات مع الخصوم، بل والإتيان بالأفعال العجيبة التي تستدعي الانتباه. النوادر تأليف شعبي قادر على نشر العلم باعتباره ثقافة، وتحويله من الخاصة إلى العامة.
14
وكما يذكر للفيلسوف نعمه من السلطان ورضى الأمراء عنه، فإنه تذكر محنهم وغضب السلاطين والملوك والأمراء عليهم، أو مآسيهم الشخصية البدنية أو النفسية والتي تصل إلى حد القتل.
15
ومعظمها العمى في آخر العمر أو الموت بعلل الأمراض، وهم أطباء مما يدل على سخريات الأقدار. (2)
والثانية محاولة «طبقات الأمم» لصاعد الأندلسي (462ه).
16
ويقترح في البداية عدة مقاييس للتصنيف، منها تصنيف البشر طبقا للأخلاق والعادات، ولكن لم يستمر هذا التصنيف لأن البشر كائنات حضارية تبدع ثقافة وفكرا وعلما وصناعة.
17
وأحيانا يكون مقياس التصنيف الزمن؛ فالأمم إما قديمة أو حديثة. ولا يذكر لفظ الحديث صراحة، بل يفهم ضمنا ويضم العرب والأندلس. فالحضارة الإسلامية حضارة حديثة بالنسبة لحضارات الأمم القديمة، وهي سبع: الفرس، الكلدانيون، اليونان، القبط، الترك، الهند والسند، الصين. وهو ما يسمى بلغة العصر تاريخ الشعوب السامية التي حملت الحضارة الإسلامية.
18
والحضارة مقياس التدوين، والفلاسفة داخلها؛ فالفيلسوف انبثاق فلسفي، والفلسفة بزوغ حضاري. ويصف صاعد الحضارة من الأعلى إلى الأدنى. يبدأ بإصدار حكم عام على الأمة محددا مكانتها في التاريخ ومدى عظمتها. ثم يحددها جغرافيا، ويبين مساحتها على الأرض، ثم يضيف تاريخها حسابيا بمنعطفات ملوكها. وهو نوع من التاريخ السياسي. ثم يصف البشر والسكان وسلالتهم مثل علم السكان أو الجغرافيا البشرية. ثم يصف الدين وهو الأهم، مصدر الحضارة والباعث على الفكر، وهو أقرب إلى تاريخ الأديان. وأخيرا يبين العلم وذروة الإبداع الحضاري. وهو نفس المسار الذي اتبعه ابن خلدون في المقدمة في أبوابها الست ابتداء من الجغرافيا حتى العلوم.
ومفهوم «الطبقة» وارد عند المؤرخين والفلاسفة لتأريخ الحضارات كما هو الحال عند صاعد في «طبقات الأمم» وعند ابن جلجل في «طبقات الأطباء والفلاسفة» داخل الحضارات أو عند ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» خارج الحضارات، وكأنهم ينتسبون جميعا على نحو أبجدي لحضارة واحدة. ولا يعني مفهوم الطبقة فقط الجيل؛ أي الزمن والعصر، بل قد يتضمن حكم قيمة التفاضل. وفضل المتقدمين على المتأخرين، وفضل الأوائل على الأواخر، وبالتالي فضل اليونان على الكل.
19
ومقياس تصنيف الحضارات هو الانشغال بالعلم.
20
فالعلم هو جوهر الحضارة وإبداعها. والأمم التي اشتغلت بالعلم ثمان: الهند، وفارس، والكلدان، واليونان، والروم، ومصر، والعرب، والأندلس، والعبرانيون. ولا تشتغل بالعلم إلا الصفوة أو النخبة الذين يعكفون على النفس وليس على الدنيا مثل الصين والترك. والأمم التي لم تعن بالعلم أيضا ثمانية، وفي مقدمتها الصين والترك والخزر، مضافا إليهم الصقالبة والروس والبرابرة وغيرهم. ويكون المجموع خمس عشرة أمة بمعنى قبيلة أو جماعة معظمهم في الشرق الأقصى وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية، وهناك أمم غير معروفة في وقتنا هذا مثل: برطاس، السريز، جوران، كشك، البرجمان قد يشيرون إلى التتار والمغول أهل الحرب الذين دمروا بغداد. ويدلل صاعد على أربعة أمم لم تعن بالعلوم؛ فالصين مملكة كبيرة، أهلها أصحاب صناعة عملية، يجدون في تجويد الأعمال وتحسين الصنائع والمهن التصويرية كما تبدو في نقش الحروف والزخرفة. والترك أهل حرب وفروسية. والزنوج والسودان والحبشة والنوبة أقرب إلى البهائم. والجلالقة والبرابرة يتميزان بالطغيان والجهل والعدوان والظلم، وأقرب إلى البدو، لا هم من أهل الشمال ولا هم من أهل الجنوب. والبهائم أفضل منهم في الصنعة والتصوير كالنحل والعنكبوت. والحيوان أفضل منهم في الحس والجسم. وقد يوحي ذلك التحليل ببعض الشعوبية والظلم التاريخي للصين، وقد كانوا أهل علم وحكمة، والترك وقد حفظوا العلوم في عصر الشروح والملخصات، كما أن للبرابرة ثقافاتهم وحضاراتهم ودياناتهم وممالكهم مما يصعب معه إصدار مثل هذا الحكم على السودان برداءة شيمهم وسفاهة أحلامهم.
21
ويختلف تدوين الحضارات من الناحية الكمية إما طبقا لأهميتها وهو الأغلب، أو طبقا لتوافر الأخبار عنها، وهو الأقل احتمالا؛ فقد كان الروايات عن الأمم القديمة ومصادر المعلومات الأخرى متوافرة كما وضح ذلك في علوم التاريخ والتفسير. وربما زاد الأندلس لأن المؤرخ أندلسي تتوفر لديه المعلومات عنها ولأنها ثقافته الوطنية. وتبدو الأولوية للموروث على الوافد، لحضارة الأنا على حضارة الآخر بنسبة كبيرة، أكبرها الأندلس وأصغرها الكلدان. وبمقارنة الوافد بالموروث كما نجد أن الوافد لا يزيد على خمسين علما، في حين أن الموروث يتجاوز الخمسمائة مما يدل على ضمور الوافد واتساع الموروث.
22
ولا فرق في تسمية الحضارة بين الموقع أو البلد، مثل: الهند، فارس، الأندلس، وبين الشعب أو الأهل أي البشر؛ فالبشر هم صناع الحضارة، وهم الذين يخلدون الموقع والبلد. وذلك مثل: الكلدان، اليونان، الروم، العرب، بنو إسرائيل، أهل مصر. ويلاحظ غياب لفظ الإسلام أو المسلمين؛ فالحضارة قومية أكثر منها دينية، ثقافة وطنية يلعب فيها الدين والعلم والصناعة أدوارا رئيسية.
23
ويعتمد تدوين التاريخ على مصادر سابقة مدونة أو شفاهية. ويرجع المؤرخ إما إلى مؤلفاته السابقة أو إلى مؤلفات الآخرين الأصلية.
24
كما أن القرآن والحديث مصدران للأخبار.
25
ولا يذكر شيئا بلا مصدر. ويأسف لعدم وجود أخبار كاملة لاستكمال أسماء الأعلام.
26
ويحيل إلى كتابه «جوامع أخبار الأمم من العرب والعجم». كما أن القرآن مصدر أخبار وأساس لمعرفة قوانين التاريخ وقيام الحضارات وسقوطها:
قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ، ومصدر أخبار عن النمرود من الكلدان. كما أن الحديث مصدر للأخبار لتفسير تشتيت اليهود: «ولا يبقى دينان في أرض العرب.»
27
كما أن الشعر مصدر للمعلومات.
28
الروايات الشفاهية أيضا مصدر للمعلومات، سواء كانت روايات المسلمين أو اليهود مثل حسداي بن يوسف.
29
والتاريخ الموضوعي تاريخ صرف تغيب منه الدلالة. أخبار رواها السابقون تطابق مجرى الأحداث. قد تقع أخطاء هنا وهناك نظرا للاعتماد على الروايات دون التحقق من صدقها كما طالب ابن خلدون بعد ذلك وكما هو الحال في مناهج النقد التاريخي، سواء في علم الحديث قديما أو عند المؤرخين المعاصرين حديثا.
30
ويشمل التاريخ، تاريخ الدول والمناطق الجغرافية وتاريخ الحضارات والملل والنحل في آن واحد. تاريخ الحوادث وتاريخ الثقافات، مما يدل على ارتباط تاريخ الحكمة بتاريخ الملل والنحل، وكما بدا ذلك عند مؤرخي الفلسفة مثل ابن النديم، ومؤرخي الملل والنحل مثل الشهرستاني.
31
وقد يتجاوز التقرير التاريخي الموضوعي الجغرافيا والتاريخ إلى الحضارة، الفلسفة والعلم والدين واللغة عند أرسطو وذكر شراحه اليونان. ولا فرق بين الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني. وأحيانا تذكر بعض الأعلام بلا دلالات من حيث الألقاب والمهن والاتجاه الفكري.
32
واليونان نقطة إحالة إلى الرومان لدرجة الخلط بينهما.
33
وتتعادل الحضارات بين أجنحتها المختلفة بين الشرق والغرب والجنوب؛ فقد كانت تلك مناطق الحضارات القديمة، إذ كان الشمال؛ أي أوروبا، الحالية لم تستيقظ بعد، ولم تبزغ حضاريا إلا بعد انتشار المسيحية من الجنوب والشرق إلى الشمال والغرب. فالهند وفارس والكلدان في الشرق، واليونان والروم في الغرب، ومصر والغرب في الجنوب الشرقي، والأندلس وبنو إسرائيل في الغرب الإسلامي. كانت الحضارة الإسلامية إذن في المشرق والمغرب. وكان الإسرائيليون جزءا من حضارة الأندلس.
ولا يكون الحديث عن الهند إيجابا إلا بالحديث عن الصين سلبا مع إطلاق بعض الأحكام مدحا للأولى وذما للثانية في أسلوب خطابي للمدح أو الذم؛ فالهند أمة عظيمة لها مآثر جليلة، وكأن المؤرخ صديق ما يعلم وعدو ما يجهل. ولبعد الهند لم تصل تآليفها إلا القليل. وقد عرفت «كليلة ودمنة» عبر فارس بعد أن ترجمها عبد الله بن المقفع من الفارسية إلى العربية. وبسبب الإعجاب بالهند، فإن صاعد لا يحكم عليهم بالخرافة في تصور زحل لحمايتهم من السواد، وعطارد لإعطائهم الحكمة والنظر. ويذكر مذاهبهم في النجوم ويذكر بعض علمائهم مثل كنكه وبعض ألعابهم مثل الشطرنج.
34
وفي الصين الملوك خمسة والناس أتباع: الصين، والهند، والترك، والفرس، والروم. وملك الصين ملك الناس لأنهم أتباع طبيعيون، والهند ملك الحكمة، والترك ملك السباع للشجاعة، والفرس ملك الملوك للعظمة، والروم ملك الرجال، وللملوك السير المحمودة.
35
ويمدح الفرس وهم المهزومون من الروم مما يدل على احترام الشعوب المغلوبة وثقافاتها. وهم أهل شرف وبذخ وعز، أوسط الأمم دارا وأشرفها إقليما، وأسوسها ملوكا.
36
وللكلدان علوم حكمة ورياضيات والإلهيات. ولم يصل من كتبهم شيء إلا عبر اليونان.
37
والعلوم في مصر أقرب إلى القراءة منها إلى التاريخ، وقراءة الفراعنة من خلال العمالقة وإعادة قراءة التراث الهرمسي.
38
ويشمل العرض التاريخي الموضوعي أيضا حضارة الأنا وليس فقط حضارة الآخر، حضارة العرب والأندلس وبني إسرائيل التي نشأت في حضن حضارة الأنا في المشرق والمغرب.
39
ويستعمل الشعر العربي كمصدر تاريخي للعرب. كما يستعمل القرآن والحديث لمعرفة طبائعهم وكيفية نشأة علومهم.
40
ومن عرض حضارة الأنا الموروثة يبدو الوافد في عصر الترجمة والشرح؛ فثقافة الأنا تحمل ثقافة الآخر ولا تستبعدها.
وتخصيص الأندلس بعد العرب هو تخصيص المغرب بعد المشرق، وبيان أدوار مدن قرطبة وطليطلة وسرقسطة وبلنسية. كما بانت أدوار البصرة والكوفة وبغداد. يصف صاعد الأندلس باعتبارها آخر المعمورة من ناحية الغرب قبل اكتشاف أمريكا في استطراد جغرافي يعود بعده إلى التاريخ الثقافي.
41
ويقسم علومها إلى أربعة علوم: الهندسة والرياضيات، الفلسفة والمنطق، الطب، أحكام النجوم. ويصنف الفلسفة إلى تعليم وهو علم رياضي وأحكام النجوم. ويصنف باقي العلوم حسب العلوم الكلية وهي الفلسفة، والجزئية وهي الرياضة. ويصنف أنواع الطب باعتباره علما طبيعيا. ثم يذكر أسماء مشاهير الإسلام من أهل العراق والشام ومصر في المشرق قبل التوجه إلى المغرب. وداخل كل علم يذكر الأسماء والأعلام، وهجرات الشاعر إلى مصر والحجاز والشام والعراق للتعلم قبل العودة إلى الأندلس؛ فالمغاربة تلاميذ المشارقة. ويذكر تواريخ الوفاة أكثر من تواريخ الميلاد والعمر. ويرسم صورة لبعض العلماء كمحاولة أولية لرسم الشخصيات كما بدا ذلك عند البيهقي، سواء السمات الذهنية أو البدنية. وبين وظائفهم عند الحكام ومحنة بعضهم وحرق كتبهم قبل ابن رشد إلا الطب والحساب إرضاء للعامة وتقبيحا لمذهب الخليفة السابق قبل أن يستجلب الخلفاء الكتب من جديد زينة لمجالسهم مما يبين أيضا ارتباط الثقافة بالسياسة. ويذكر صاعد أجيالا عدة من الشيوخ والشبان حتى وإن لم يكونوا من المشهورين. يذكر الاسم كله حتى ولو طال ونسبه إلى الرسول والمؤلفات وتقييمها، والبلد التي ينتسب إليها مثل البلنسي والسرقسطي، ومكان الولادة والوفاة، وتاريخ هجرته من الأندلس ومكان الهجرة ثم العودة. قد يتم الاستطراد في بعض دون الآخر مثل الطبري وكثرة تآليفه.
42
ثم يثني بوجه خاص على الفلاسفة؛ فلهم أفهام صحيحة، وهمم رفيعة، عرفوا أجزاء الفلسفة وأحكموا صناعتها. في حين يأسف للبعض الآخر لعدم إبداعهم والاكتفاء بتدوين مجرد كنانيش في الطب.
والعلوم في بني إسرائيل مثل العلوم في مصر، أقرب إلى القراءة منها إلى التاريخ لأنها نقل إلى تاريخ الأنبياء وأثر الإسرائيليات في علم التفسير عند عبد الله بن عباس باستثناء حساب اليهود وسنواتهم. أما أعلامهم فمعظمهم من الشبان.
43
وينطبق عليهم نفس العناصر المكونة لرسم الشخصية من حيل الميلاد والوفاة وخدمة الأمراء.
44 (3)
وقد استمر تاريخ الحضارات المقارن حتى القرن السابع في «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة (668ه) بالرغم من تعدد المناطق الجغرافية للحضارة الإسلامية الواحدة بين العراق وبلاد العجم والمغرب والشام ومصر ودخول بعض الثقافات كالسريانية داخل الثقافة الإسلامية، والإسكندرانيين داخل اليونان في مقابل الهند. فالحضارة هنا منطقة جغرافية داخل الحضارة الإسلامية الواحدة المتعددة.
45
لا فرق بين الديانات والملل والطوائف، حرانية، ويهودية ونصرانية ومجوسية وإسلام. وهي دائرة معارف ضخمة أقرب إلى التاريخ السردي الشامل مع أقل قدر ممكن من القراءة والتأويل، والأحكام المغالية، والخيال الشعبي.
46
وقد كان الهدف من التأليف ذكر نكت وسير للتمييز بين الأطباء القدماء والمحدثين؛ أي لإعادة كتابة تاريخ الطب، ومعرفة طبقاتهم على توالي الأزمان وتسلسلهم في مدارس طبية عبر التاريخ معلمين وتلاميذ، ومعرفة أسماء كتبهم؛ فالأعمال مقدمة للأقوال ووعاء لها.
47
لذلك ذكرت في بعض الأطباء الأخبار والأقوال. الأطباء عائلات، وأسر وأنساب، فصولون أخو أسقليبيوس.
والطب جزء من الحكمة، لذلك سمي الكتاب «طبقات الأطباء» أي الحكماء. أما الحكماء الرياضيون فقد ذكروا في كتاب آخر هو «معالم الأمم وأخبار ذوي الحكم». الحكماء إذن نوعان، حكماء أطباء وحكماء تعليميون، فصلا بين العلمين، الطبيعي والرياضي.
وبالرغم من قسمة الكتاب إلى خمسة عشر بابا، إلا أنها تتجمع في الحقيقة في ثلاثة أقسام بعد الباب التمهيدي عن أول من أحدث صناعة الطب والذي يكشف عن وحدة الحضارات البشرية القديمة اليونانية والمصرية والبابلية التي ورثتها الحضارة الإسلامية، وهي قضية الهرمسية.
48
القسم الأول يشمل أبوابا أربعا أولى من الثاني حتى الخامس عن اليونان أول المبتدئين بها ثم أسقليبيوس ثم أبقراط ثم جالينوس، وهي مرحلة وضع الطب القديم.
والقسم الثاني يضع أبوابا أربعة ثانية، من السادس حتى التاسع . وتضم المترجمين والشراح السكندرانيين والسريانيين واليونانيين مع الأطباء العرب قبل الإسلام، وهي مرحلة التحول من القدماء إلى المحدثين. والقسم الثالث يضم أبوابا ستة أخيرة: من العاشر حتى الخامس عشر عن الأطباء المتأخرين في العالم الإسلامي مقسما جغرافيا بين العراقين والجزيرة وديار بكر منطقة واحدة، ثم الاتجاه شرقا إلى بلاد العجم والهند، ثم الاتجاه غربا إلى المغرب، ثم شمالا إلى الشام، ثم جنوبا إلى مصر، وهي مرحلة إبداع المحدثين.
ويجمع هذا التقسيم بين الوافد والموروث. وينقسم الموروث طبقا للمناطق الجغرافية، وضم الهند وفارس ضمن الحضارة الإسلامية. القسم الأول عن اليونان أصغر الأقسام، والثاني عن الانتقال مثل القسم الأول حجما. ولكن القسم الثالث عن المسلمين يعادل ضعف القسمين الأولين.
49
وأكبر اليونان حجما أبقراط مما يبين أهميته، ثم جالينوس ثم المبتدئون ثم نسل أسقليبيوس.
50
وأكبر النقلة كما السريان ثم الأطباء العرب ثم الإسكندرانيون، وأصغرهم النقلة من اللسان اليوناني.
51
وأكبر المناطق الجغرافية ازدهارا بالطب داخل العالم الإسلامي الشام ثم العراقان والجزيرة وديار بكر، ثم تتساوى بعد ذلك تقريبا بلاد العجم والمغرب ومصر، ثم الهند أصغرها.
52
وإذا كان مقياس القسم الثالث هي المنطقة الجغرافية، فقد تعددت مقاييس التقسيم في القسمين الأول والثاني؛ ففي القسم الأول مقاييس التقسيم، إما التاريخ والزمان مثل تحديد الحدث الأول (البابان الأول والثاني والخامس)، أو المدرسة مثل أبقراط (الباب الرابع) أو الذرية من نسل أسقليبيوس (الثالث). وفي القسم الثاني تتعدد المقاييس أيضا بين الزمان والمكان والطائفة مثل الإسكندرانيين (السادس)، أو الدين والقوم مثل العرب (السابع)، أو الطائفة والحكم السياسي مثل السريان حتى ظهور دولة بني العباس (الثامن)، أو النقل واللغة مثل النقلة من اللسان اليوناني (التاسع).
والسؤال الآن: هل هناك خصوصيات حضارية لهذه المناطق الجغرافية الحاملة للحضارة الإسلامية؟
كان النقل في مصر عند الإسكندرانيين وفي الشام عند الحرانيين، الأول نقل اليونان وشروحهم، والثاني نقل العرب وشروحهم على اليونان. في حين هجا بعض الأطباء الشعراء في الشام اليهود مع مدح السلاطين وجالينوس.
53
واجتمع اليهود والنصارى والمسلمون في مصر. وجمعت مصر كل هؤلاء بما تتسم به من وحدة الدين الأصلي، التوحيد، بصرف النظر عن مراحله. ويغلب الشعر على أطباء العراق. وتغلب الحكم الإلهية والأخلاقية والسياسية على أطباء العجم. فالطب ليس علما طبيعيا فقط، بل هو جزء من علوم الحكمة النظرية، وهي نفسها مقدمة للحكمة العملية، ويظهر الطب الروحاني مع الطب الديني؛ فالطب واحد للنفوس وللأبدان.
والوافد أكثر حضورا في العمق من الموروث يتوزع في سبع عشرة مرتبة، في حين أن الموروث أكثر اتساعا من الوافد يتوزع في سبع وعشرين مرتبة. أعلام الوافد أقل كما (61 علما) من الموروث (415 علما)، في حين أنه أهم كيفا؛ إذ يتصدر جالينوس كل الأطباء (113ص)، ثم أبقراط (57) قبل أن يبدأ الموروث، حنين بن إسحاق (53). ويختلط مع الحكماء أسماء الشعراء المؤرخين والملوك والبشر والآلهة.
54
ولكن الوافد أقل حضورا من الموروث في المجموعات والأمم.
55
كما أنه أقل من حيث الأماكن.
56
ويأتي جالينوس في المقدمة من حيث المساحة كما هو الحال من حيث التردد ثم أرسطو ثم أبقراط، ثم سقراط وأسقليبيوس، ثم فيثاغورس ثم أفلاطون.
57
وبعد أن يتحول الوافد إلى موروث يصبح محمولا عليه، ومصدرا للروايات، وجزءا من الثقافة العامة.
58
أما الموروث فيتصدره حنين بن إسحاق رئيس المترجمين ثم ابن جلجل الطبيب المؤرخ الأندلسي، ثم جبرائيل بن بختيشوع. ولا يأتي ابن سينا إلا في المرتبة الرابعة، والرازي الطبيب بعده في المرتبة الخامسة.
59
ثم يدخل الأطباء والمؤرخون والفلاسفة والمترجمون في نفس الزمرة. ويدخل الموروث الشرقي مع الموروث الإسلامي سواء الفارسي، أنبياء وملوكا، زرادشت ودارا أو السند أو مصر القديمة مثل الملك أماسيس ملك مصر أو الشخصيات النصرانية مثل بطرس الرسول وبولس الرسول.
60
وقد يخضع التقدير الكمي لحكم شخصي للمؤرخ أو لدى توافر المعلومات حوله أو لأهميته في عصره مثل عظم الشهرزوري في مقابل صغر السهروردي.
61
ويتصدر أمين الدولة بن التلميذ الموروث ثم ابن سينا ثم حنين بن إسحاق. ويأتي ابن رشد في المرتبة الثالثة عشرة من سبع عشرة مرتبة.
62
كما يظهر عديد من أسماء الأنبياء والخلفاء والأمراء والأئمة والصحابة والملوك والقبائل والطوائف، ويتصدر الوافد على الإطلاق.
63
كذلك تتصدى أماكن الموروث وفي مقدمتها بغداد ثم مصر ثم الإسكندرية والعراق والهند، ثم دمشق ثم الأندلس وخراسان، ثم جنديسابور والشام قبل أن تظهر معها القسطنطينية.
64
وميزة الكتاب المتأخر الاعتماد على الكتب المتقدمة ووفرة المصادر المدونة قبل الإقلال من الروايات الشفاهية. ويعتمد ابن أبي أصيبعة على بعض المصادر الأصلية المترجمة للأطباء اليونان أو المؤلفة للأطباء المسلمين، سواء لمعرفة آرائهم أو روايات عنهم عن آخرين. وأحيانا لا يذكر اسم الكتاب نظرا لشهرته مثل كتاب ديسقوريدس أو الكناش الكبير لأريباسيوس.
65
وقد يكتفي بذكر المؤلف دون ذكر الكتاب، سواء بألفاظ القول أو ما يعادلها، مثل «ذكر» أو بدونها،
66
وقد يحدد ابن أبي أصيبعة المصدر بأنه رآه بخط صاحبه، وقرأه كما هو الحال في مناهج النقل المدون في علم الحديث.
67
وأحيانا ينقل الكلام نصا وبألفاظه وينص على ذلك.
68
كما يعرف الوافد من خلال الموروث، مثل معرفة أرسطو من خلال حنين بن إسحاق والفارابي، ومعرفة جالينوس عن طريق يحيى النحوي.
ويعرف الموروث من خلال كتب التاريخ السابقة مع ذكر أسمائها ومؤلفيها.
69
ولمزيد من التدقيق يحدد ابن أبي أصيبعة الخط ويتعرف عليه مع ذكر اسم الكتاب وصاحبه. وأحيانا يكفي التصريح بالنقل من بعض التواريخ.
70
وأحيانا يكتفي بأفعال القول مثل قال، حكى، ذكر قبل المؤلف دون تعيين لكتاب أو مصدر.
71
وأحيانا يذكر مجرد المؤلف والمصدر متضمن فيه؛ فقد أصبح المؤلف بديلا عن المصدر مثل ابن النديم، ابن جلجل، ابن هندو.
72
وهناك مصادر مجهولة غير موثقة مثل: ثبت في الأثر المروي عن السلف.
73
وهناك مصادر شفاهية عديدة تبدأ بلفظ «حدثني» كما هو الحال في السند في علم الحديث. وأحيانا يكون المحدث مذكورا باسمه. يكفي أنه موثوق به «حدثني من أثق فيه». وقد يروي عن المحدث مرة أو أكثر من مرة. وليس من الضروري أن يكون المحدث طبيبا، بل يكون فقيها أو قاضيا أو شيخا أو إماما. وقد يروى الحديث من أكثر من محدث كما هو الحال في التواتر في علم مصطلح الحديث زيادة في الثقة واطمئنانا للخبر. وقد تترك الروايات متعارضة دون توفيق بينها ما دام المؤرخ يجمع الأخبار. وقد يكون اللفظ مجرد عن «شيخنا» دون استعمال لفظ «حدثني».
74
والشعر العربي أحد المصادر في التدوين؛ فالشعر ديوان العرب في الجاهلية. ويمكن قرض الطب شعرا كما هو الحال في الأرجوزة المتأخرة كنوع أدبي عندما عاد الشعر أداة للتعبير بعد أن توقفت العلوم الإسلامية وحفظت في الذاكرة دون تطوير للقديم أو إبداع للجديد.
75
وقد عبر به بعض أطباء العرب قبل الإسلام باعتبار أن الشعر هو حامل للثقافة والعلم. يكثر الشعر وتقل الإلهيات عودا إلى ثقافة العرب القديمة قبل الإسلام. كثر الشعر في كتب التدوين المتأخرة مثل الشهرزوري، وعودة العرب إلى الأدب بعد أن توقف العلم بالرغم من ازدهار المنطق والرياضيات وأيضا الفلسفة في إيران في هذه العصور المتأخرة. كما يستعمل ابن أبي أصيبعة المصدر التجريبي المباشر، ويذكر التجارب الطبيعية بناء على ملاحظاته ومشاهداته.
76
يعتمد على العقل والتجربة وهما دعامتا الوحي.
وهو العصر الذي تم فيه التعبير عن العلوم بالشعر، مثل «الأجوزة» الطبية لابن شقرون.
77
وتنتهي بعض أسماء الأعلام بالنوادر والحكايات، والبعض بالأقوال والغالب بالأعمال وكثير منها بالأشعار. ندر الإبداع في الحكمة، الفلسفة والعلم، وعاد الإبداع إلى الشعر حتى ولو كان تعليميا. والبعض له دواوين شعر. ويكثر الشعر في أطباء العراق. ونقل الرازي وهو الأعجمي كتاب الأنس لجابر إلى الشعر. وابن الهيثم له تأليف في صناعة الشعر ممتزجة من اليوناني والعربي.
78
ونظرا لذكر أعلام كل قسم وسرد أسماء الأطباء للتوزيع الجغرافي للعالم الإسلامي، فلأول مرة يتم التركيز على الأعمال أكثر من الحياة؛ أي السيرة الذاتية أو الأقوال، كما هو الحال في السجستاني والبيهقي. ويختلف الحال في الوافد عن الموروث. فإذا كانت الأقوال هي الغالب على الوافد، فإن الأعمال هي الغالب على الموروث. الأقوال تسهل حركتها، والأعمال يسهل تصنيفها بين النقل والإبداع، الشرح والتأليف، سواء كان الشرح لتمثل الوافد أو نتيجة لتراكم داخلي في الموروث. وأحيانا تطغى الأقوال كنوع أدبي. لذلك بدأ الجملة بفعل «القول» في صيغة «قال» لا تميز شروح أرسطو وحدها، بل هو نوع أدبي لرواية الأقوال والاستشهاد بها. ويخضع لمنطق الرواية كما هو الحال في ألفاظ القول في علم الحديث.
79
وبلغت أهمية المؤلفات أنها أصبحت وحدة التحليل أكثر من السيرة أو الأقوال لدرجة الحديث عنها بالتفصيل وإجراء قوائم بها وتصنيفها.
80
كما غلبت على أسماء أخرى النوادر والحكايات وليس الأعمال وهم الأطباء الظرفاء والحكماء والقدماء.
81
وبالرغم من هذه التقسيمات الجغرافية وثبت الأعلام في كل منطقة ورصد مؤلفاتهم، إلا أن الكتاب يتميز بوحدة الرؤية وجمع العناصر كلها في كل واحد، كما تدل على ذلك عبارات التذكير بين اللاحق والسابق.
82
والأسلوب علمي دقيق، حتى وإن ظهرت بعض التشبيهات الأدبية بين الحين والآخر طبقا للأسلوب الشرقي، خاصة في التقابل بين الطب والحياة.
وهناك عنصران أساسيان في رسم السيرة الشخصية للفيلسوف؛ الأولى حياته وشخصيته وعلمه وسماته النفسية، عقله وقريحته ولغاته التي يتحدث بها. وأحيانا يذكر الاسم فردا مثل «أبو الحكم» نظرا لشهرته في عصره. وقد تتغير الشهرة من عصر إلى عصر. ولا يذكر لكل الأعلام تواريخ المولد والوفاة ولكن يحال إلى العصر، أهم الأحداث والشخصيات فيه.
83
ومن مظاهر حياته مآسيه التي تعرض لها بالمرض مثل العمى، أو السجن والتعذيب، وهو مصير الفلاسفة باعتبارهم مفكرين أحرارا، أو القتل دسيسة بالسم أو تنفيذا للأمر بالقتل من الخلفاء والسلاطين. وأخف المآسي المواجهات الفكرية والعلمية بين الحكماء، مثل تلك التي بين ابن بطلان وابن رضوان.
84
والبعض يتقلد الوزارة، ويصاحب الأمراء، ويكون زينة البلاط؛ فقد عمل بعض الأطباء بالسياسة، والسياسة لها مخاسرها أولا ومكاسبها ثانيا. ومخاسرها أكثر من مكاسبها. ربما يمدح البعض السلاطين مثل أبي الحكم.
85
بل إن البعض كتب مؤلفات إلى الأمراء والسلاطين والدعاء لهم بما في ذلك كتاب ابن أبي أصيبعة. وهذا لا يمنع من تشجيع بعض السلاطين والأمراء العلم والعلماء كما حدث أيام العباسيين في بغداد في عصر الانفتاح والنصر الأول، وأيام الأيوبيين في مصر في عصر رد الغارة الأولى على العالم الإسلامي من الصليبيين. (4)
وقد يؤرخ لحضارة واحدة خاصة تكون هي الأساس التي تتم عليه المقارنة مع الحضارات الأخرى، مثل الحضارة الهندية، من مؤرخ عربي مسلم، مما يدل على أولوية الشرق على الغرب، والهند على اليونان ضد أسطورة المركزية الأوروبية والعبقرية اليونانية. ومثال ذلك «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة» للبيروني (440ه).
86
ويمكن اعتباره أيضا في تاريخ الفرق غير الإسلامية؛ أي جزءا من علم الكلام مثل «الملل والنحل» للشهرستاني، ولكنه لا يتضمن عرضا للفرق الإسلامية أو لنسق العقائد بشكل تفصيلي، بل لفرقة غير إسلامية واحدة؛ ومن ثم كان أقرب إلى تاريخ عام للحضارات. ويعتبر البيروني كتابه ضد كتاب المقالات وتشويهها. وقد فعل مسكويه نفس الشيء مع فارس وحدها في «الحكمة الخالدة» مع ترجمة لجاويدان خرد ومقارنات مع اليونان الوافد الغربي ومع الحضارة الإسلامية، حضارة الآخر الشرقي مع الآخر الغربي مع حضارة الأنا.
87
ويتحقق البيروني أولا من صدق الروايات وصحة المصادر كما فعل ابن خلدون بعد ذلك في المقدمة قبل تدوين التاريخ من أجل معرفة الخبر الصادق من الخبر الكاذب. وينقد الأخبار عن جهل وتقليد المخبرين والتسليم برواياتهم. كما ينقد المصادر في كتب الفرق التي تعتمد على المنحول والمخلوط والروايات الخاضعة للأهواء، والمبالغة في ذكر المذهب كما فعل الإيرانشهري مع المانوية، والاعتماد على الروايات الشعبية دون تمحيص كما نقل الإيرانشهري عن زرقان في دراسته فرق الهند عامة والشمنية خاصة، والحجاج مع الخصوم. بل قد يتعدى الأمر إلى أخطاء النساخ والأعراض عن الترتيب المعروف. ويحكم على روايات الإيرانشهري بأنها غير محصلة أو عن غير محصل، وكذلك روايات ابن طارق.
88
ويمكن تصحيح الأخطاء بالمراجعة على كتب الأوائل أو بالمراجعة على الواقع المشاهد.
ويعترف «بتعذر استشفاف أمور الهند لأجل القطيعة» مما يدل على أن الغاية من الحضارات المقارنة، ورؤية حضارة الآخر من خلال حضارة الأنا هو التواصل بين الحضارات.
89
فالحضارات متصلة تاريخيا وبنيويا، واقعيا وذهنيا. وفي لحظات الخطر أو الضعف ينشأ التمايز بينها إلى درجة الانفصال والتعارض. ويحدد البيروني أسباب القطيعة في دراسة الهند في خمسة أسباب: الأول اللغة الهندية طويلة عريضة، تشبه اللغة العربية، تسمي الشيء الواحد بأسماء متعددة، وتطلق الاسم الواحد على عدة مسميات، ويقع فيها خلاف بين القصص والعامية، وعدم مطابقة حروفها للعربية، بالإضافة إلى أخطاء النسخ المقارنة باللغة العربية واللغة الفارسية. والثاني بسبب الديانة وطائفة المنبوذين والاستنكاف منها. والثالث العمل الاجتماعي والعادات والرسوم والزي مما يجعلها أقرب إلى الوثنية. والرابع العامل السياسي، وعداوة الشمانية للبراهمة، حتى قضى عليها زرادشت. والخامس التنافر الأخلاقي مع ديانات الهند.
ويعتمد البيروني على النصوص المقدسة الهندية؛ أي على المصادر الأولى، وليس فقط على كتب التاريخ؛ فالدين أصل الحضارة ومنبعها الأول. وقد ترجم منها البيروني نصين؛ «سانك» و«باتنجل» كنموذجين؛ الأول في مبادئ الموجودات، والثاني في تخليص النفس من البدن.
90
وهو يؤرخ للدين الخالص وفي نفس الوقت للدين الشعبي، الدين من حيث هو دين، دين البشر الواحد قبل أن يتجزأ في ديانات شعبية طبقا لاختلاف الزمان والمكان وتعدد الشعوب والأوطان. ولما كان الدين بؤرة الحضارة، يصبح تاريخ الدين تاريخا اجتماعيا وسياسيا وحضاريا شاملا. وفي التعامل مع النصوص، يذكر أسماء الكتب، ويقتبس النصوص، ويذكر أسماء الكتب المقدسة.
ويستعمل البيروني القرآن كمصدر للأخبار. كما يستعمل الكتب المقدسة السابقة مثل الإنجيل استعمالا معنويا وليس كشواهد نصية، احترازا من قضية التحريف.
91
كما يعتمد على منهج الملاحظة والمشاهدة، فالتنظير المباشر للواقع أفضل من الرواية الشفاهية والنص المدون، بل إن المشاهدة مقياس للتحقق من صدق الخبر، «ليس الخبر كالعيان»،
92
بالرغم مما قد تخضع له المشاهدة أيضا من خطأ في الإدراك أو التفسير.
ومن عناصر المنهج التاريخي عند البيروني يمكن التعرف على فلسفة كاملة للعلوم التاريخية تقوم على علم النفس التاريخي، وعلم الاجتماع التاريخي، مثل حب الشكر والمدح أو الذم والقدح كبواعث ودوافع لكتابة التاريخ. ويمكن تحديد المنهج التاريخي عند البيروني أيضا بأنه يقوم على العرض الموضوعي مع أقل قدر من النقد في حالة الأخطاء الشنيعة التاريخية أو العقائدية والمصطلحات والتعريف بها، ثم النقل عن المصادر كشواهد ودون الإحالة إلى الماضي أو إلى المستقبل والاكتفاء بتحليل الحاضر.
ويعتمد البيروني على مصادر مكتوبة وروايات شفاهية في آن واحد، وعلى المشاهدة والملاحظة في آن واحد، مما يجعل الكتاب أقرب إلى التجميع منه إلى التأليف. وقد كان ذلك سنة القدماء.
93
وقد يوحي ذلك أحيانا بالاستطراد والتجميع غير الدال، مثل مقارنة علم العروض العربي والهندي والفرسي؛ فالعلم معلومات، والمعلومات علم.
94
وتوحي هذه التواريخ التفصيلية أنها نقل من مصادر وليست بناء على حساب شخصي. وقد تعلم البيروني اللغة السنسكريتية، وعرف الحضارة الهندية من مصادرها الأصلية وليس من ترجمات عربية سابقة عليه. ويعرض العقائد مدعما بالنصوص مثل كتاب باتنجل، كتيا، بهارت، سانك. وربما لم يعتمد على مصادر عربية أو هندية سابقة كتبت قبله ذكرت الهند، بالرغم من اعتماده أحيانا على مؤرخي المغرب، هذا الصقع البعيد، مما يدل على وحدة الأمة وتواصلها.
95
وربما اعتمد البيروني على مترجمين كما اعتمد على كتب التاريخ الإسلامي كمصادر.
96
اعتمد على المصادر الهندية الأصلية. ويحيل البيروني إلى باقي مؤلفاته مما يدل على وحدة عمل المؤلف كمشروع فكري.
97
كما يبين الأسلوب وحدة العمل بالعود على بدء، وبالتذكير بما سبق، وبعبارات الربط بين الأبواب، وبالإحالة إلى ما سيأتي، وبإرجاء بعض الموضوعات إلى مناسباتها.
98
وبالرغم من أن البيروني يبدأ من التاريخ، إلا أن التاريخ ليس هو تاريخ الحوادث بداية من الجغرافيا والتاريخ الطبيعي وانتهاء بالتاريخ السياسي والاجتماعي، بل هو التاريخ الحضاري وبؤرته تاريخ الأديان والثقافات والشرائع، انتقالا من التاريخ غير الدال إلى التاريخ الدال؛ فالتاريخ ليس مجرد حوادث تاريخية، بل حقائق نظرية أو بنيات ذهنية.
99
وتغيب الدلالة أحيانا لحساب التاريخ، وإعطاء أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الهند.
100
ويذكر الأنهار ومخارجها وممارها على الطوائف في استدراك جغرافي. ويعطي معارف شتى من بلادهم وأنهارهم وبعض المسافات بين ممالكهم وحدودهم، إلا أن كثرة ورود أسماء الأعلام والكتب والأماكن وترجمة النصوص، قد تمنع من تسلسل الأفكار وفهمها دون ردها إلى حواملها التاريخية، مما يدل على أهمية حذف هذه الأسماء كلها من أجل الإبقاء على الأفكار كما هو الحال في المراحل التالية في التلخيص كما فعل ابن رشد في «تلخيص الخطابة». وفي النصف الثاني من الكتاب تقل الأفكار والحضارات المقارنة وتزيد الوقائع والتاريخ المحلي، وكأن البنية قد بدت قبل التاريخ، والكليات قبل الجزئيات. وبالرغم من سيادة أحيانا النزعة التاريخية، إلا أن الوصف الاجتماعي أحيانا يفوق «المقدمة» لابن خلدون. فيصف الزي الشعبي كثقافة وحضارة، والأعياد والعادات والتقاليد. فلا فرق بين العقائدي والشعائر، بين النظر والعمل. ويذكر النظام الاجتماعي، نظام المنبوذين والذي يسمى ألوان.
101
وتظهر النزعة التاريخية في ذكر اليونانيين دون مقارنة بالهند، وكأن البيروني يريد تقديم مجرد معلومات عن اليونان كما قدم معلومات عن الهند. ويخصص البيروني عشرات الأبواب لذلك.
102
وقد تضيع المقاصد العامة للكتاب وسط هذه التفصيلات والجزئيات التي بلغت ثمانين فصلا، مما يجعلها في حاجة إلى تجميع في موضوعات كلية لمعرفة العناصر الرئيسية المكونة للحضارة الهندية بوجه عام وللدين الهندي بوجه خاص. تكثر الأبواب عددا وتقل صفحاتها. وتقصر الأبواب تباعا من البداية إلى النهاية. ويمكن تجميع هذه الأبواب الثمانية في ثلاث مجموعات كبرى: العقائد، والشعائر، والحكمة. العقائد ثلاث: الله والعالم والنفس، كما هو الحال في كل الديانات، بل والفلسفات والشعائر؛ أي الدين باعتباره مؤسسات أربعا: الشعائر، والشرائع، والمجتمع، والرهبنة. والحكمة أربع: الحساب، والفلك، والتاريخ، والجغرافيا. ويسود الفلك والجغرافيا، وهما مستوى التحليل عند القدماء، وهي ميادين اهتمام البيروني.
103
وكأن الكتاب في الفلك، وما الأديان إلا مقدمة. وربما هذا الجمع بين الفلك والتاريخ هو الذي جعل دراسة البيروني للهند دراسة متميزة. وربما استعمل البيروني الهند لعرض علم الفلك، وهو من المتعمقين فيه. وتنتقل الموضوعات من الفلك إلى التشريع إلى الفلك من جديد بحيث يبدو أقرب إلى الفلكي منه إلى علم الاجتماع الديني.
من هذه المقدمة التاريخية العامة يمكن تلمس منهج البيروني في كتابة التاريخ الذي يقوم على التعرف على حضارة الآخر، مع احترام كامل لحضارة الغير، وعدم الإحساس بالنقص أمامها ، ثم تمثلها، ومقارنتها مع غيرها، والرد عليها بوضعها في إطار ثقافة الأنا. كما يقوم على التعاطف المسبق مع الموضوع المقارن من أجل فهمه والغوص فيه؛ فالحضارة كلها على مستوى واحد من الاحترام.
104
ويعطي البيروني مئات من الجداول والرسومات التوضيحية للتواريخ والمذاهب والديانات. ويمكن أيضا تحديد المنهج التاريخي عند البيروني على أنه يقوم على العرض الموضوعي دون الجدال، والتعريب للمصطلحات والتعريف بها مثل لفظ الشرف، والاعتماد على المصادر التاريخية والنصوص المقدسة الهندية مثل كتب باتنجل، كيتا، بهارت، سانك، ودون الإحالة إلى الماضي في تاريخ الهند أو التطوير إلى المستقبل، بل دراسة الدين في حاضره.
105
كما يستعمل علم النفس الاجتماعي في تحديد مراحل عمر البرهمن.
106
الحضارة الهندية موضوع المقارنة من أجل مزيد من العلم بها، ووضع الأقل معرفة في إطار الأكثر معرفة مثل اليونان داخل الحضارة الإسلامية للعرب والمسلمين الجامعة لثقافات اليهود والنصارى والسريان، بل ولأوروبا التي كانت آنذاك طرفا بالنسبة لمركزية الحضارة الإسلامية وعلى النحو الآتي:
107
ويبدأ البيروني بوضع الهند موضوع المقارنة مع الحضارات الأخرى، ثم نقل المقارنة تباعا حتى تصل إلى الهند مع نفسهما؛ أي الاقتراب من الموضوع عن بعد، الهند مع غيرها قبل الهند مع نفسها، الالتفاف حول الموضوع أولا وحصاره قبل الاقتراب منه والنفاذ إليه في العمق. وقد تتسع المقارنة أكثر من الهند واليونان بوضع فارس وسطا بين الهند والعرب، والهند واليونان، والكل وسط بين الصين والعرب.
ولا تعني المقارنة الجدل والخصومة والرد والتفنيد كما هو الحال في تاريخ الفرق في علم الكلام، بل مجرد رؤية الثقافات في مرايا الثقافات الأخرى مع تقدير كامل للتعددية الثقافية.
108
والحضارات المقارنة لا حدود لها موضوعا ومنهجا وغاية للتعرف على الروح في التاريخ؛ فالحضارة روح التاريخ ومحركه الأول.
109
وتبدو أهمية المقارنة في حالة غيابها والوقع في الأساطير الهندية المحلية غير المقارنة مما يفقدها دلالتها وأهميتها. وتحتاج المقارنة كي تصبح ممكنة إلى قانون عام أو بنية ذهنية واحدة تندرج تحتها كل الحالات الجزئية مثل البداية بقانون عام للنكاح في الأمم، وهو قانون فطري يقوم على الزوجة الواحدة وليس تعدد الزوجات.
110
وبمقارنة الموروث بالوافد، حضارة الأنا بحضارة الآخر، تظل الأغلبية لحضارة الأنا على حضارة الآخر، سواء كان الآخر شرقيا: الهند وفارس، أو غربيا: اليونان والرومان. الفزاري يسبق جالينوس، والإسلام يأتي قبل الروم. ولكن الهند والبراهمة والروحانيون باعتبارهم موضوع الكتاب ومقارنتهم بالمنجمين في فارس تأتي قبل الجميع. ويحيل إلى اليونان أكثر مما يحيل إلى فارس. ويذكر الصقالبة مع اليونان.
111
وتذكر الصين بالمقارنة مع الهند في حروف اللغة، والكتابة على الجلود بين الهند والصين ومصر اليونان والعرب، مع بعض الأحكام الشعوبية عن سفالة الزنج والصين.
112
وتتركز المقارنة بين الجانبين الشرقي والغربي، بين الهند واليونان، بين الموجودات العقلية في الهند والمثل عند أفلاطون، كما تتم المقارنة بين جغرافية اليونان وجغرافية الهند. وأحيانا تتم المقارنة بين الهند واليونان بتوسط العرب في الجاهلية؛ أي عبر التاريخ. وقد حدث اللقاء بين الاثنين أثناء حروب الإسكندر؛ إذ تشبه عقائد اليونانيين أيام الجاهلية عقائد الهند. الإسكندر نقطة الصلة بين الشرق والغرب. ويذكر فضل اليونان كمؤرخين. وقد استطاع اليونان تهذيب علومهم أكثر من الهند. وفازوا بالبحث النظري. فقد هذب الحكماء السبعة اليونان الفلسفة بعد أن نشأت مجسمة في الهند. فاليونان أكثر توحيدا وتنزيها وتقدما في الوعي من الهند.
ويهاجم براهجر اليونانيين لأنهم أنجاس، في حين أن الهنود قد جمعوا بين الطهارة والعلم.
113
ويختلف المؤرخون حول أول من أحدث مراكب القتال، مثقالوس في أثينا أو أفروذيس الهندي في مصر.
114
ولكن هل عرف البيروني اليونان معرفة مباشرة، وقد عاش في الهند معظم عمره، أم عن طريق الروايات غير المباشرة؟
ويقارن البيروني بين آراء الهند واليونان في النفس والروح والتناسخ وتسميتها آلهة، ومقارنة سقراط في خلود النفس في «فيدون» مع نتائج الهنود، ومقارنة التذكر والنسيان عند أبرقلس مع تناسخ الهنود أيضا.
115
ويقارن بين الهند واليونان خاصة الصقالبة في كيفية دفن الموتى، إذ تحرق الصقالبة موتاهم كالهند، واليونان بين الحرق والدفن.
116
ويقارن بين عقائد اليونان وعقائد الهند أيام الجاهلية ويجد تشابها بينهما. ويقارن بين أساطير الهند وأساطير اليونان للمقاربة بينها،
117
مثل القنطور اليوناني، الفرس الإنسان، وبين آلهة الهند والفرس، ومقارنة زيوس مع آلهة الهند، وكأن هناك بنية حضارية واحدة للإيمان، ومقارنة نشأة الأرض وأنساب الآلهة ونسب أبقراط مع أنساب الهند . ويقارن بين إماتة الشهوات عند فيثاغورس وعند الهنود.
118
وتتم مقارنة اللغة والألفاظ اليونانية واللغة والألفاظ الهندية، وكتابة الاثنين من اليسار إلى اليمين.
119
لم يكتب الهنود على الجلود كما فعل اليونانيون. وقد انتقلت الحروف من الهند إلى اليونان، وزاد اليونان عليها حروفا فيما يعرف الآن باسم اللغات الهندية الأوروبية. ويقارن البيروني بين الطب الهندي والطب اليوناني،
120
بين جالينوس وكلام الهند غير المحصل. ويقارن الهندسة والفلك اليوناني عند إقليدس والمجسطي بهندسة الهند وفلكها،
121
بين بلس وأرشميدس اليوناني ومقاييس الهند. وتتم مقارنة الشعر الهندي العربي الفارسي مع الشعر اليوناني.
122
ويقارن بين المدن اليونانية الرومانية والمدن الهندية.
ويبدو أن الهند عند البيروني ما هي إلا مناسبة لعرض اليونان، وأن المقارنة تتم لحساب اليونان التي تمثل تقدما حضاريا بالنسبة للهند مما يجعل البيروني يونانيا أكثر منه هنديا. وأحيانا تبدو اليونان كإطار مرجعي للهند وليس معيارا بالضرورة؛ فأيام سم سقراط بداية للتاريخ.
123
إنما تكثر المقارنة بين الحضارتين، فالهند درة الشرق، واليونان درة الغرب، بل تبدو اليونان كإطار مرجعي للهند أكثر من الحضارة الإسلامية.
والسؤال الآن: هل عرفت الهند الثقافة اليونانية وهي أبعد من فارس؟ هل كانت الثقافة اليونانية منتشرة في الهند أم كانت ثقافة المسلمين حملها معه من العالم العربي؟ أم إن الهند كانت تضم إيران وأفغانستان، وكل آسيا منطقة حضارية واحدة كانت بها مدارس يونانية مثل مدرسة بلخ؟
وتستمر المقارنات مع اليهود والنصارى والعبرية والسريانية ومع المانوية في فارس ومصر وأوروبا. وكلما اقتربت المقارنات مع حضارة الأنا يتحول التاريخ إلى قراءة حتى تصبح قراءة تامة بالمقارنة مع العرب والمسلمين. ويقارن البيروني بين اليونان وبين إسرائيل وآل فارس وأنبيائهم وملوكهم. كما يقارن بين التاريخ اليهودي والتاريخ الهندي. ويربط بين الإسكندر في مصر وعبادة آمون. ويقارن بين عبادة الأصنام والمنصوبات في الدين الشعبي في اليهودية والنصرانية والمانوية مع الهند. ويطبق علم النفس التاريخي ليفسر أسباب نشأة عبادة الأصنام، من الشخص إلى الواقع المادي احتراما للشخص وتحويل ذلك إلى قانون؛ فالوثنية هي الأصل وليس التوحيد. التوحيد ارتقاء عند كل الشعوب بما في ذلك اليهود والرومان. البداية بالواقعة المحددة ثم التعميم. ويقارن بين اسم الله في الهند «أوم» وفي اليهودية.
124
ويقارن بين المانوية والنصرانية في المباح والمحظور في الطعام والشراب ويعطي لذلك تعليلا علميا كما يفعل الأصوليون.
125
ويقارن أحيانا بين اليهود والفرس وليس بين اليهود والنصارى أو الفرس والهند. ويقارن بين نظام الطوائف في الهند وفارس وبين الاختيار اليهودي ويتساءل عن سببه، هل هو سبب حرفي أو اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو ديني أو عنصري. ويقارن بين المنانية والنصرانية من خلال أقوال ماني. كما يقارن بين المجوسية والهندوكية؛ فقد أنكر زرادشت الشمنية في تسمية الشياطين. كما يقارن بين الصابئة الحرانية والثنوية المنانية مع الهند في عبادة الأصنام.
126
ويقارن بين نكاح اليهود وزواج الفرس. ويقارن اللغة الهندية باللغة الفارسية، فكلاهما لغة متسعة، وأوروبا وآسيا جناحان للعالم الإسلامي، وجبال الألب امتداد لجبال الهيمالايا التي يسميها البيروني همنت. أما الزنج فيصفهم بالبلادة والسفالة ويفسر سلوكهم على نحو اقتصادي؛ فلا تحاسد فيهم إذ لا يملكون شيئا، ولا غم ولا حزن لهم، أعمارهم أطول، لا يعرفون موتا طبيعيا وإنما ينسبونه إلى السم.
127
ثالثا: الوافد والموروث
(1)
وهو مدخل ثان لتدوين التاريخ أقل من الحضارات المقارنة، ويكتفي بمصدرين؛ حضارة الأنا وحضارة الآخر، والآخر في الغالب هو الوافد اليوناني.
مثال ذلك «مفاتيح العلوم» للخوارزمي (387ه).
1
وهي دائرة معارف تجمع بين الموروث والوافد، بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية، بين علوم العرب وعلوم العجم. وداخل الموروث الوافد يوجد تصنيف للعلوم؛ فالحضارة علوم. وداخل العلوم توجد أسماء الأعلام؛ أي العلماء الذين يبنون العلوم، وليس المصنفات كما هو الحال في «الفهرست» لابن النديم، و«تاريخ حكماء الإسلام» للبيهقي. وقد تشير هذه القسمة، العرب والعجم، إلى بعض الشعوبية؛ فقد ساهم في علوم العرب غير العرب مثل سيبويه الذي فاق العرب. كما ساهم في علوم العجم غير العجم من العرب مثل الكندي وابن رشد. والعرب والعجم مسلمون وحد الإسلام بينهم، «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى».
ويبدو هذه المرة أن الوافد له الأولوية على الموروث، نظرا لحداثة الوافد والرغبة في تدوينه، وشيوع الموروث في علم الكلام وباقي العلوم الإسلامية، النقلية أو النقلية العقلية في القرن الرابع الهجري.
2
ولما كان الوافد وافدين؛ الوافد الشرقي والوافد الغربي، فإن للوافد الشرقي الأولوية على الوافد الغربي على عكس ما يقال عن حضور اليونان المطلق في الحضارة الإسلامية.
3
بل إن أرسطو لم يذكر إلا مرة واحدة، وأفلاطون لم يذكر على الإطلاق.
ويظهر التقابل بين الموروث والوافد في قسمة العلوم إلى علوم العرب وهي ستة، وعلوم العجم وهي تسعة، لصالح علوم العجم؛ نظرا لأنها هي التي في حاجة إلى تدوين وليس لأولويتها.
4
فعلوم العجم، اليونانيين وغيرهم، في النهاية هي علوم الوسائل، في حين أن علوم العرب هي علوم الغايات. الأولى علوم الكم والثانية علوم الكيف. الأولى علوم الدنيا والثانية علوم الدين. ولكن من حيث الكم يتساويان.
5
علوم العرب هي: الفقه، والكلام، والنحو، والكتابة، والشعر، والعروض، والأخبار، أربعة منها معروفة قبل الإسلام وهي: النحو والكتابة والشعر والعروض، والأخبار، واثنان فقط بعد الإسلام: الفقه والكلام، مما يدل على غلبة الثقافة العربية القديمة قبل أن تنشأ العلوم الإسلامية بفضل الوحي. يدخل أصول الفقه مع الفقه قبل علم الكلام للدلالة على ارتباط العلمين معا؛ أصول الفقه وأصول الدين. وتغيب باقي العلوم الإسلامية العقلية النقلية مثل الفلسفة وأصول الفقه والتصوف، وباقي العلوم النقلية مثل القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، وغياب العلوم العقلية الخالصة الرياضية والطبيعية، وكأنها من اختصاص العجم وحدهم. وأكبرها الأخبار ثم الكتابة ثم الفقه والكلام والشعر والعروض، وأصغرها النحو.
6
وتشمل الأخبار قصص الأنبياء تركيبا للموروث القديم على علم التاريخ.
أما علوم العجم فتسعة: الفلسفة، والمنطق، والطب، والأرتماطيقي، والهندسة، وعلوم النجوم، والموسيقى، والحيل، والكيمياء. أكبرها الطب من حيث الكم، وأصغرها المنطق.
7
وهي تشمل الرباعي: الرياضي، الحساب والهندسة والفلك والموسيقى ، ثم المنطق والطب بدل الطبيعيات، والفلسفة بدل الإلهيات، ثم إضافة علمين طبيعيين، الحيل والكيمياء. وتأتي الطبيعيات قبل الرياضيات وبعدها. وعلم الحيل يجمع بين الرياضي والطبيعي. والكيمياء في النهاية دون التفرقة بين العلم والصنعة. وتغيب باقي العلوم الطبيعية كالنبات والحيوان والصيدلة.
ويخلو هذا المدخل من أسماء الأعلام وأسماء المصنفات، لا تواريخ حياة ولا أقوال. أقرب إلى إحصاء العلوم عند الفارابي مما قد يدخله أيضا في تصنيف العلوم لو كان الخوارزمي في زمرة الفلاسفة.
ويغلب على الفقه الموضوعات التقليدية بما في ذلك أسنان الإبل والبقر والخيل والغنم ومقاييس العرب وأوزانها.
8
كما يغلب على الكلام تاريخ الأديان والفرق غير الإسلامية والنصرانية واليهودية والملل والنحل غير الإسلامية، وأوثان العرب وأصنامهم، ثم أبواب المتكلمين؛ أي قواعد العقائد، وهما طريقتا التأليف في علم الكلام.
9
وفرق النصارى واليهود هي فرق اليهودية العربية وليس الغربية كما نفعل هذه الأيام.
10
والملل والنحل غير الإسلامية تشمل المذاهب المقصاة من الإسلام، مثل التعطيل والتناسخ، وإنكار المعارف غير الحسية مثل السمنية، وبعض المذاهب النصرانية مثل المرقونية والمنانية، وبعض الفرق الفارسية مثل البهافريدية والهرابذة، والسوفسطائيون اليونان، والزنادقة في كل دين وملة. وكلها تيارات وجدت داخل الثقافة الإسلامية التي استوعبت كل وافد. فالوافد الغربي والوافد الشرقي حاضران كعقائد ضمن علم الكلام. والسريانية جزء من النصرانية؛ أي المسيحية العربية، في علم الكلام.
وفي النحو يبرز الخليل بن أحمد كمصدر لغوي؛ فهو أكثرهم ذكرا من الشافعي في الفقه. كما يذكر نحويو الكوفة والبصرة أكثر من ذكر الفقهاء المتكلمين.
11
ويظهر تقابل الموروث والوافد بين الخليل واليونان؛ فالنحو منطق العرب، والمنطق لغة اليونان كما لاحظ السيرافي في مناظرته الشهرية مع أبي بشر متى بن يونس.
12
فالمورث هو حامل الوافد، والوافد محمول على الموروث. والكتاب موضوع عملي.
13
والشعر والعروض يعرفه العرب من قبل.
14
والأخبار تضم ما قبل الإسلام وما بعده.
15
ملوك الفرس واليونان والروم من الوافد، وملوك اليمن وخلفاء المسلمين وملوكهم من الموروث. وتختتم علوم الفقه والنحو بالنوادر منبئة عن ظهور نوع أدبي جديد تجلى من قبل عند حنين بن إسحاق، ثم تبلغ الذروة عند ابن هندو والمبشر بن فاتك.
16
أما علوم العجم فتشمل اليونان والفرس والهند والصين؛ أي كل غير العرب. تضم الفلسفة أقسامها وأصنافها وجملها، مما يوحي أيضا ببداية نوع أدبي جديد هو الأقوال أو الحكم، وهو ما يشار إليه أيضا كنوادر في آخر الطب. ويضم المنطق أجزاءه الثمانية. ويضم الأرتماطيقي حساب الهند. والهندسة تضم المقدمات النظرية من أجل تأسيس العلم النظري. والنجوم يجمع بين النظر والصناعة. والموسيقى تجميع من كتب الحكماء. والحيل أيضا نظر وعمل، علم وتقنية. والكيمياء تضم العقاقير أي الصيدلة.
17
والفرس هم الأكثر ذكرا من اليونان، ثم يأتي اليونان ثم الروم، ثم إقليدس، ثم هرمس وأرسطوطاليس وفرفوريوس في المرتبة الثانية. ثم تأتي الهند في المرتبة الثالثة في الطب والرياضة ومع أخبار الإسلام أو الحساب والطبقات الاجتماعية في الهند. ثم تأتي الصين في المرتبة الرابعة كمثال للصقع البعيد، بلاد الواقواق، ولصناعة الآلات. وتأتي مصر في المرتبة الخامسة والترك في المرتبة السادسة.
18 (2)
ويتبع أبو سليمان السجستاني (بعد 391ه) في صوان الحكمة تقسيمها إلى وافد وموروث، وتحت كل منهما أسماء الأعلام.
19
وقد غلب عليه الوافد أكثر من الموروث؛ إذ يبلغ أسماء الوافد خمسة أضعاف أسماء الموروث.
20
فقد كان أبو سليمان ينتمي إلى مجموعة، كما يروي التوحيدي، تشارك في صياغة الفلسفة اليونانية علنا بعد أن قام بذلك إخوان الصفا سرا ومثل مجموعة اليونانيين في القرن الرابع ومعظمهم من النصارى.
21
كان يحفظ أقوال اليونانيين، ديموقراطيس وأرسطو وأفلاطون.
22
وتتلمذ على كبار المترجمين والمؤرخين للفلسفة اليونانية متى بن يونس ويحيى بن عدي؛ فقد حمل النصارى لواء الوافد مرتين في عصر الترجمة الأول في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وفي عصر الترجمة الثاني منذ القرن الماضي وهذا القرن إبان النهضة العربية الحديثة. وكان هناك حرص على جمع المخطوطات اليونانية. وهذا لا يعني أن أبا سليمان كان يوناني الاتجاه، بل إنه كان يمهد الطريق لغيره لتوظيف الوافد لصالح الموروث، وإعداد علوم الوسائل من أجل تحقيق علوم الغايات، بإخلاص تام وتجرد عن الدنيا؛ فقد كان يعيش على الكفاف. وكان شاعرا بالإضافة إلى الفيلسوف ومؤرخ الفلسفة.
وكما تنقسم الحكمة إلى وافد وموروث ينقسم الوافد إلى فلسفة عامة وطب؛ أي إلى فلسفة وعلم. ويعبران عن رأيين في ظهور الفلسفة؛ الأول الرأي الشائع عند المؤرخين، يونان، ومسلمين، والثاني رأي يحيى النحوي الذي يرى أن الطب شامل للفلسفة والرياضيات والفلك والسياسة؛ فالفلسفة علمية بالضرورة، ولا توجد فلسفة خارج العلم.
23
لذلك ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام؛ الأول «أول من عرف بالحكمة»، وهو رأي الفلسفة العامة. والثاني «رأي آخر في ظهور الفلسفة من تاريخ الأطباء»، والثالث «يحيى النحوي»، صاحب الرأي الثاني نظرا لأهميته لأنه يروي عن أطباء العرب وهو ما يعادل الموروث. والرأي الثاني له الغلبة كما على الرأي الأول.
24
ويمكن القول أن حنين بن إسحاق كان أول المسلمين لتوظيفه الوافد لصالح الموروث، ويحيى النحوي كان آخر اليونانيين لتمثله للوافد. يحتوي الكتاب إذن على قسمين؛ الأول تاريخ الفلسفة يونان ومسلمين، والثاني تاريخ الطب، يونان فحسب. فأبو سليمان مؤلف ثان راو عن المؤلف الأول مما يدل على غلبة الوافد عن طريق الرواية. هناك إذن آراء متعددة في ظهور الفلسفة وليس رأيا واحدا مما يدل على أن كتابة التاريخ لا تخضع لمنظور واحد.
25
والغالب على طريقة عرض الوافد والموروث هو وضع الأسماء قبل أن تنفصل وتصبح هي بمفردها نوعا أدبيا من كتب الطبقات، ومع ذلك تبرز أحيانا بعض الأقوال كما فعل البيهقي بعد ذلك في «تتمة صوان الحكمة» واقتباس بعض الحكم والوصايا من كتاب الفرس أو بعض المحاورات مثل أفلاطون للتعبير عن أفكاره في العلاقة بين الدين وبعض موضوعات النفس والطبقة والإلهيات والأخلاق والسياسة معتمدا فيها على عرض أفكار اليونان.
26
ويورد أبو سليمان أسماء ثلاثة عشر طبيبا يونانيا على لسانه، وأسماء مائة وأربعين طبيبا يونانيا آخر على لسان يحيى النحوي؛ أي مائة وثلاثة وخمسين اسما يضمون أسماء الفلاسفة صغارا وكبارا،
27
فلاسفة ورياضيين وعلماء وحكماء وشعراء ومشرعين بألقابهم مثل الحكيم والمعلم الأول والشيخ اليوناني وشراح وأطباء. وتتكرر بعض الأسماء مثل سقراط وفيثاغورس وأفلاطون وأرسطو وأنقسيمانس وأنكساجوراس وزينون؛ فالعلم الغزير ينسي التفرد ويدفع إلى التكرار. وقد استمر هذا التقليد عند المسلمين، الطبيب هو الحكيم، وكما هو الحال في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة؛ فالطب هو الإطار المرجعي للفلسفة والأساس النظري لها.
28
ويحفظ أبو سليمان الأهمية التقريبية لفلاسفة اليونان: أرسطو ثم الإسكندر ثم جالينوس ثم هوميروس ثم هرمس ثم فيثاغورس ثم أبقراط ثم أفلاطون ثم سقراط ثم ديوجينس ثم سولون، ثم الفلاسفة الصغار الأقل أهمية. وواضح أن أرسطو وصلته بالإسكندر هو الذي ألهب خيال المسلمين النبي القائد والفيلسوف الملك الذي كان على رأس المدينة الفاضلة عند أفلاطون والفارابي. ويأتي الشعراء مثل هوميروس قبل أفلاطون. وأبقراط الطبيب يأتي في المرتبة الثانية بعد جالينوس، فأبقراط هو الطبيب في حين أن جالينوس هو الحكيم. ويأتي فيثاغورس قبل أفلاطون لأنه مؤسس المدرسة. ثم يأتي سقراط مع الأخلاقيين مثل ديوجنس والمشرعين مثل سولون.
29
ويلاحظ عدم وجود نساء فلاسفة لا في الوافد ولا في الموروث.
والغاية من الكتاب إثبات تواريخ الحكماء وأسمائهم وبعض كلامهم وأخلاقهم، الاسم والتاريخ، الشخصية والقول، إعلانا عن تولد نوعين أدبيين آخرين، أسماء الأعلام عند القفطي والأقوال عند ابن هندو والمبشر بن فاتك، بالرغم مما يغلب على الأقوال من العرض النظري للآراء دون النصوص، الأقوال المباشرة. يريد أبو سليمان هدفين؛ التاريخ، والنكت والنوادر دون الرد على المقالات؛ فقد تم الرد على المقالات في كتب أخرى.
30
كانت الغاية حفظ الوافد ونقله بتمامه وكماله وإلا زال وفقد في ثقافة تحرص على التدوين كما دون القرآن ثم الحديث.
وبالرغم من توالي الأسماء بلا نسق ونظام، والانتقال من موضوع إلى موضوع دون ترتيب إلا أن الفلاسفة يتوالد بعضهم من بعض، الآخر من الأول في منظومة حضارية واحدة مثل أنساب الآلهة والقبائل.
31
ويوحي هذا التوالي بإمكانية تأسيس فلسفة في التاريخ لم تتبلور بعد. فلا يوجد تاريخ كمي صرف لا يتحول إلى كيف فأخذ سقراط الحكمة عند فيثاغورس فأصبحت هناك مدرسة. طاليس صاحب مدرسة «طبيعية»، وفيثاغورس صاحب مدرسة أخرى (رياضية).
32
وهذا التوالي له منعطفات كبرى ، خمسة من كبار الحكماء: فيثاغورس، سقراط، أفلاطون، أرسطو، زينون. ويتساوى جميع الفلاسفة في العرض القصير بما في ذلك كبار الفلاسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو؛ فالغاية هو المسح الشامل، الرؤية العامة، البانوراما الكلية، شريط الأحداث، الإحصاء من أجل الاحتواء.
33
ويعتمد أبو سليمان على مصادر شفاهية ومدونة، روايات وكتب. ويصرح أبو سليمان بالمصادر الشفاهية مثل: «سمعت الملك يقول»، «حدثني الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد مسكويه».
34
ويصرح بأنه فتش في الكتب. ويقتبس من حنين بن إسحاق من «نوادر الفلاسفة والحكماء»، ويحيى بن عدي والتوحيدي في كتاب «البصائر»، وابن النديم في كتابه الذي جمع فيه التاريخ؛ أي «الفهرست»، وعلي يحيى النحوي الذي يسميه الناس «المحب للتعب». ومن المصادر المترجمة مؤلفات أوزبيوس في الرد على هرقل فيما ناقض الإنجيل. ويشير إلى كتاب «الفصول» لأبقراط، وكتاب «تفضيل لذات النفس» لشهد بن الحسن.
35
وبعد توالي الأسماء وتوالدها بعضها من بعض، واحدا تلو الآخر، أرسطو من أفلاطون، وأفلاطون من سقراط، وسقراط من فيثاغورس، وكأننا في سلسلة من الرواة أو الطبقات، تظهر المدرسة الفكرية أو المذاهب أو بلغة المعاصرين البنية.
36
وهو ما قد يفسر التكرار؛ إذ يذكر الفيلسوف مرة في التاريخ، ومرة في البنية. هناك تقدم في تاريخ الفلسفة اليونانية حتى اكتمالها على يد أرسطو، وهو ما لاحظه ابن رشد بعد ذلك. فإن نيقوماخوس أقدم عهدا من بطليموس. وثاوفرسطس من أصحاب أرسطو خلفه على الكرسي، وكذلك أوديموس.
37
وقد تكون البنية مذهبا، وقد تكون منهجا. فالمنهج التجريبي عند الطبيعيين القائم على المشاهدة والحس هو المسئول عن المذهب الطبيعي. والمنهج العقلي عند الحكماء الخمسة الكبار هو المسئول عن الرؤية العقلية الصورية للعالم. أما جالينوس فقد جمع بين المنطق والتجربة؛ أي بين المذهبين أو المنهجين كما شهد بذلك عليه الإسكندر الأفروديسي. وهو ما فعله أيضا حنين بن إسحاق،
38
وكأن قانون التاريخ يسير من العقل، المادة، إلى رد الفعل، الصورة إلى الجمع بينهما في المادة والصورة، من التجربة إلى العقل إلى الجمع بينهما. ليس السجستاني مؤرخا مثل القفطي أو ابن أبي أصيبعة، بل هو فيلسوف يؤرخ للفلسفة،
39
يعي وحدة عمله، ويذكر بالسابق منها واللاحق، يختصر ويشرح حسب الموقف، ويعود على بدء، ويقدم ويؤخر من رؤية فلسفية شاملة.
40
ويبدع أبو سليمان فن رسم السيرة الشخصية للفلاسفة عن طريق رسم عناصر عشر أو بعض منها في شخصية كل فيلسوف وهي: (1)
الاسم ومكان الميلاد والعمر ونسبته مثل طاليس الملطي والسرخسي والقمي والحراني والدمشقي والسجزي والبغدادي والأنطاكي والصيمري والنيسابوري، ودينه مثل النصراني، ومذهبه مثل الحنفي أو الصابئي (ثابت بن قرة). (2)
النسب الفعلي مثل حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين أو النسب المعنوي، أفلاطون شريف النسب أو الفكري عن طريق التتلمذ مثل أفلاطون تلميذ سقراط، أرسطو تلميذ أفلاطون، وأرسطو معلم الإسكندر، أو الوضع الاجتماعي مثل القطيطوس غلام سقراط، وذكر المعنى الاشتقاقي للاسم مثل أفلاطون الذي يعني العريض الواسع. (3)
الأهمية والعصر مثل أول من تفلسف في مصر، واستتباب الملك في اليونان أيام الإسكندر، وأثره في المدرسة التي أنشأها مثل تأسيس أفلاطون الأكاديمية، وأرسطو للوقيوم. (4)
اللقب الذي يدل على المهنة أو الاتجاه الفكري حقيقة أو مجازا، مثل أبقراط الطبيب، أو بروس الشاعر، أو أرشميدس المهندس، ديوجانس الكلبي، ديمقراطيس الطبيعي. جالينوس الحكيم (الطبيب). (5)
الأسفار مثل طاليس الذي أتى إلى مصر، ثم رجع إلى اليونان، ثم ذهب إلى مالطة، وأفلاطون الذي أتى إلى مصر، الهجرة في سبيل العلم. واليونان تلاميذ المصريين. (6)
السيرة الشخصية وسماتها مثل سقراط الذي أعرض عن الدنيا، وشجاعة سقراط الذي أعلن خلافه مع اليونانيين في الدين، وأفلاطون الذي عبد ربه والذي سماه أرسطو العقل أو الروحاني. (7)
علاقته بالدولة والأمراء؛ أي بالسلطة السياسية مثل علاقة الكندي بأحمد بن المعتصم، وأرسطو بالإسكندر، والسجستاني بملك سجستان وعيسى الوزير. (8)
فلسفته، مصادرها وسماتها وأساليبها، مثل استدلال طاليس بقول هوميروس، وكذلك اعتماد أرسطو على هوميروس، وتكوين سقراط وفيثاغورس وإقليدس وأرشميدس وأفلاطون مدرسة واحدة. وأرخوطوس من شيعة فيثاغورس. واستعمل أفلاطون الرمز واللغة كراهية اطلاع أحد على أسرار الحكمة ليس من أهلها كما هو الحال في «المضنون به على غير أهله»، وعدم إقدام الكسول عليها، بل العاشق لها، وتشحيذ الطبائع وإفراغ الوسع والجهد للفهم. (9)
المؤلفات وشهرتها وتصنيفها مثل تصنيف أرسطو الكتب المنطقية وترتيبه الأبواب الطبيعية والإلهية.
41
ويحال إلى بعض الأعمال الجزئية. (10)
الأقوال المباشرة دون النظريات أو السيرة الشخصية مما ينبئ ببزوغ القول كوحدة للتحليل عند ابن هندو والمبشر بن فاتك.
ويستعمل الموروث مصدرا لمعرفة الوافد بعد أن تحول موروثا. فيعتمد أبو سليمان في مصادره عن أرسطو على الفارابي.
42
وهو أكبرهم مثل أرسطو اليونان، طبيب وفيلسوف. ويعرض نص رسالته في الأمراض البلغمية والعظام. ويتضح فيها أسلوب إخوان الصفا، فهما من نفس العصر.
ويأتي الكندي في المقدمة باعتباره أول الفلاسفة، فيلسوف العرب، بالرغم من أنه رديء اللفظ، قليل الحلاوة، متوسط السيرة، كثير الغارة على حكمة الفلاسفة.
43
وبعده أبو جعفر بن بابويه ملك سجستان، الذي كان أبو سليمان زينة مجلسه. وتشبه علاقته بالملك مثل علاقة أرسطو بالإسكندر مع ذكر مؤلفاته واقتباسات منه، ثم مسكويه ومؤلفاته، ثم أبو سليمان نفسه. ثم يأتي المترجمون مثل ثابت بن قرة ويحيى النحوي. ثم يأتي مترجمون آخرون مثل أبي عثمان الدمشقي وهو من متقدمي الأفاضلة، ونقلة كتب الأوائل مثل حنين وابنه وثابت بن قرة مع أخذ نماذج من الأقوال والحكم التي ترجمها. والفيلسوف أبو الحسن العامري شارح أرسطو مما يدل على الأهمية المتزامنة للمترجمين والفلاسفة. ثم يأتي المترجمون أبو الخير بن سوار، وابن زرعة وحنين بن إسحاق مما يدل على أهمية المترجمين حتى القرن الرابع الهجري.
44
وربما يبدو بعض الانتقاء في الموروث. فإذا كان ابن سينا ما زال صغيرا بالرغم من إبداعه المبكر، وكان الفارابي مجرد راو للوافد فأين الرازي الطبيب؟ (3)
ونظرا لغلبة الوافد على الموروث في «صوان الحكمة» عدل البيهقي (565ه) الميزان في «تاريخ حكماء الإسلام» أو «تتمة صوان الحكمة»، حتى لقد ربط المؤرخون والنساخ بينهما وكأنهما كتاب واحد، ونموذج للتأليف الجماعي مثل رسائل إخوان الصفا.
45
فلو كان البيهقي بمفرده لكان أدخل في التاريخ طبقا لأسماء الأعلام، ولكنه «تتمة صوان الحكمة»؛ ومن ثم فإنه يكمل الموروث بعد أن استوفى السجستاني الوافد في «صوان الحكمة». وقد تغير الاسم من «تتمة صوان الحكمة» إلى «تاريخ حكماء الإسلام» في فترة متأخرة. أضاف بعض حكماء خوارزم وخراسان وفارس والعراق وحكماء اليونان.
ولا يوجد أحد من الشام وإفريقية والأندلس. ربما بسبب بعده عن الشام ، واندلاع الحروب الصليبية، وانقطاع المشرق عن المغرب، وليس لكساد الحكمة في الشام ومصر نظرا لازدهارها في الأندلس. ترجم لفلاسفة القرنين الخامس والسادس. بعضهم من الصابئة والمجوس واليهود واليعاقبة والنساطرة داخل الحضارة الإسلامية. فهم مسلمون ثقافة وليس دينا. أكثر غير المسلمين من القرن الثالث والرابع؛ أي بعد بداية عصر الترجمة في القرن الثاني.
46
لذلك خلا من التعصب نظرا لوحدة الثقافة وتعددها.
والبيهقي محدث وأديب ومؤرخ وليس من الحكماء.
47
تعلم بطريقة الحفظ مما ساعد على التراكم التاريخي. لذلك نلمس الأسلوب الأدبي على تقديم الكتاب.
48
وقد كان سنيا في مجتمع شيعي. وإن ارتباط الوعي التاريخي بالوعي السياسي للمضطهدين لا يعني بالضرورة عدم ظهور الوعي التاريخي لدى غيرهم من الطبقات الاجتماعية.
فمن هم الحكماء الذين يؤرخ لهم البيهقي؟ هم الأطباء الفلاسفة الذين يدرسون البدن والنفس كما هو واضح حتى الآن في الاستعمال الشعبي، أن الحكيم هو الطبيب. لا فرق بين نصارى ومسلمين. فالوحدة الحضارة والثقافة المشتركة يتساوى فيها الجميع. لا فرق بين ديانات وحي وديانات طبيعة، فالوحي هو الطبيعة. لا فرق بين عرب وعجم كما هو الحال عند الخوارزمي؛ فقد ساوى الإسلام بينهم. لا فرق بين عرب ويونان؛ فقد حمل العرب لواء اليونان، وتحول اليونان إلى موروث عربي. لا فرق بين فلاسفة وصوفية ومؤرخين نظرا لوحدة العمل الحضاري بالرغم من تقسيم العلوم. لا فرق بين فلاسفة وعلماء رياضة وفلك؛ فالعلوم الرياضية جزء من منظومة العلوم الإسلامية، وهناك فلاسفة وصوفية وعلماء وأدباء في آن واحد مثل الخيام. لا فرق بين أفراد وجماعات؛ فرسائل إخوان الصفا عمل فردي وجماعي في آن واحد.
ومع ذلك يظل السؤال: ما مقياس الاختيار؟ ربما كان الفيلسوف معروفا في عصر المؤرخ ولم يعد معروفا في عصر لاحق؛ فالوعي التاريخي يتغير في مضمونه وأشكاله وصوره. لذلك تكثر الأعلام التي قد تكون بلا دلالة لنا باقية في وعينا التاريخي المعاصر. وبعض التراجم لها دلالات قصيرة للغاية لا ترتكز على شيء. وقد تكون الترجمة للنخبة وليس للطبقة المتوسطة أو الدنيا. وقد كان المتكلمون من الحرفيين يعيشون في الأسواق، النجار والغزال والحداد والإسكافي. وربما كان هناك فلاسفة لم يعرفهم المؤرخ، ولم يعرفوا هم أنفسهم أحدا بوجودهم. وفي مقابل ذلك يوجد تضخيم لبعض الأعلام مثل المغالاة في مدح الخوارزمي.
وتغيب فلسفة التاريخ من مجرد ذكر أسماء الأعلام وكما هو الحال في القواميس المعاصرة. فلا يوجد ترتيب زماني لا يدل على الارتقاء في الزمان ونشأة الوعي التاريخي. والترتيب الأبجدي عفوي عرضي لا يدل على شيء، والترتيب القومي لا يدل إلا على الوعي القومي، وهو ما يغيب عند البيهقي نظرا لاشتراك الأقوام جميعا في صنع حضارة واحدة تقوم على التعدد. لذلك كان من الطبيعي أن تكون دراسة العلوم أو المذاهب أو الموضوعات أكثر دلالة على التاريخ وكشفا عن الوعي التاريخي وهو يدون نفسه.
ورسم صور للفلاسفة ليس تاريخا موضوعيا قاموسيا، بل هو تصور لهم، إعادة بناء لوجودهم في الوعي التاريخي. فما عناصر الصورة؟ وما آليات تكونها؟ لا تهم الحقيقة التاريخية للحكماء بل صورهم في أذهان مؤرخيهم كما تعبر عن الوعي الجمعي. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرازي صائغا (البيهقي) أو مفتيا (ابن أبي أصيبعة). كانت غاية البيهقي كتابة مصنف جديد لعدم رضاه عن التأليف في هذا النوع في عصره.
49
وتدل الصورة التي يرسمها البيهقي على صور الفلاسفة في عصره. وربما لا تطابق هذه الصورة الواقع التاريخي الذي يصعب معرفته. وقد تتغير هذه الصورة من جيل إلى جيل طبقا لمراحل الوعي التاريخي المتغيرة. وقد اعتمد البيهقي مثل السجستاني على مصادر شفاهية ومدونة؛ فالمعرفة بالاحتكاك بالناس والسماع منهم لا تقل أهمية عن المعرفة المدونة. كما يصرح باستعماله بعض الوثائق.
50
ويأتي ابن سينا في مقدمة الفلاسفة لدرجة أنه يعادل كما خمس الكتاب كله، ومما قد يوحي بأن البيهقي سينوي الاتجاه كما سيفعل الشهرزوري فيما بعد في تضميمه فلاسفة الإشراق لأنه إشراقي. ثم يأتي الفارابي وأبو الفرج الطيب بعده؛ فالمفسر والشارح له نفس الأهمية التي للفيلسوف. ثم يأتي عمر الخيام وصورته في التراث، الأديب والمؤرخ والعالم والمتصوف. ثم يأتي ابن زرعة المترجم وابن الهيثم الرياضي؛ فقد ظلت الترجمة مستمرة حتى القرن الرابع موازية للشرح والعرض والتأليف. ثم يأتي النيسابوري والشهرستاني وأبو البركات وعلماء القرن الخامس.
51
ثم يتوالى الأعلام، يكثر عددها ويقل حجمها.
52
ويبلغ مجموع الأعلام في الموروث مائة وعشرة أعلام.
ويرسم البيهقي صورة لابن سينا وهو يذم أبا الفرج الجاثليق ويهجن تصانيفه بالرغم من اعترافه بتقدمه في الطب. ويعترض على بعض رسائله.
53
ويحكم بأنه تحاسد بين أهل العصر، وأنه استفاد من أبي القاسم وأن ابن سينا كان مؤذيا مهجنا. ويروي مشاجرة بين ابن سينا وأبي القاسم الكرماني خرجت على حدود الأدب. اتهمه ابن سينا بقلة عنايته بصناعة المنطق، واتهمه أبو القاسم بالمغالطة والغلط. ويروي دخول ابن سينا على مسكويه بأجزاء من الأخلاق لإصلاح أخلاقه أولا قبل تقدير مسافة الجوزة. ويرى البيهقي أن الذم والتثريب والتهجين ليس من دأب الحكماء والمبرزين. وقد تكرر نفس الشيء مع البيروني. وكانت عادة ابن سينا سرقة الأضواء والأفكار من غيره ويشكو إلى الحكام. ومع ذلك كان يمدح تلاميذه. ووصف المعصومي أنه بالنسبة إليه كأرسطو بالنسبة لأفلاطون.
والوافد قليل جدا من الشرق أو من الغرب، من الهند وفارس أو من اليونان والروم. ولا يوجد إلا بمناسبة ذكر المترجمين وهم من الموروث لأنهم عرب وليسوا من الوافد بالرغم من اشتغالهم به. وهناك ثلاثة مواقف منه: (أ)
الإعجاب بالوافد مثل أبو الفرج بن الطيب الجاثليق، الذي كان عالما باللغتين الرومانية واليونانية، وخلق أسطورة نسبه إلى اليونان. (ب)
الرد على اليونان مثل النصارى الذين ردوا على أفلاطون وأرسطو قبل المسلمين، ولم يكونوا أتباعا له ومثل شكوك يحيى النحوي على فروع وأصول من كتاب السماع الطبيعي، وتصنيفه كتابا في الرد على أفلاطون وأرسطو حتى هم النصارى بقتله. كما أورد ابن سينا في إقليدس شكوكا ، وله في الموسيقى مسائل غفل عنها الأولون. (ج)
الحياد الموضوعي التاريخي والقيام بالشرح للوافد مثل شرح متى بن يونس لكتب أرسطو، وشرح الفارابي لكتب أرسطو وإقليدس في الموسيقى وطيماوس. وقد بدأ ابن سينا بقراءة كتاب إيساغوجي على الناتالي حتى أحكم عليه المنطق ثم كتب إقليدس ثم المجسطي. فرغ من المنطق والطبيعي والرياضي، ولم يبالغ في الرياضي لأن من تذوق المعقولات ضن بذهنه في الرياضيات. ثم أقبل على العلم الإلهي دون خوف بفضل الفارابي وشرحه لأغراض ما بعد الطبيعة. وقرأ مع أبي عبيد المجسطي وأملاه المنطق. وصنف في جرجان المختصر من المجسطي. ومن مصنفاته غرض قاطيقورياس، والمنطق بالشعر، ومختصر إقليدس. وسأله الفقيه أبو عبيد شرح كتب أرسطو، فابتدأ بطبيعيات الشفاء، وفي المجسطي أورد عشرة أشكال في اختلاف النظر، وأنهى الحيوان والنبات.
54
وابن سينا مرجع للبيهقي، ليس فقط كفيلسوف، بل كمصدر لتاريخ الفلسفة. ويذكر البيهقي ثلاثة وعشرين علما مترجمين وشراحا لليونان ومصنفين في موضوعاتهم مباشرة أو اعتمادا على شرح المسلمين كالفارابي بعد أن تحول الوافد إلى موروث ثان، وبدأ التراكم التاريخي الداخلي. وتذكر بعض أقوال أرسطو لتنبئ بظهور القول كنوع أدبي جديد.
55
وإذا كان السجستاني قد رسم صورة شخصية الفيلسوف في عشرة عناصر، فإن البيهقي قد أدمجها في خمس: (1)
الأهمية والدور والرسالة وسمات الشخصية والعيوب الجسدية؛ فحنين بن إسحاق أول من فسر اللغة اليونانية ونقلها إلى السريانية والعربية. ولم يوجد في هذه الأزمنة بعد الإسكندر أعلم منه باللغتين العربية واليونانية. وثابت بن قرة كان حكيما كاملا في أجزاء علوم الحكمة. وعلي بن الطبري له همة رفيعة وعلم بالإنجيل والطرب. ومتى بن يونس كان حكيما نصرانيا شارحا لكتب أرسطو. والفارابي لم يكن قبله أفضل منه في حكماء الإسلام. وإخوان الصفا حكماء اجتمعوا وصنفوا رسائل. ويحيى النحوي من قدماء الحكماء نصرانيا فيلسوفا. والكندي مهندس خاض غمرات العلم. وأبو زيد البلخي من حكماء الإسلام ونصحائه وبلغائه. وأبو الفرج بن الطبيب الجاثليق من حكماء بغداد، حكيم ملئ أهدابه، دخل بيت الحكمة من أبوابه. والبيروني من أجلاء المهندسين. وأبو سليمان المنطقي حكيم، ويحيى بن عدي حكيم كامل من أفضل تلاميذ الفارابي. وعمر الخيام له باع طويل في علوم الحكمة بعد ابن سينا.
56
وهناك ما يقرب من مائة فيلسوف بعد كل منهم هذه العبارات القصيرة التي تبين معرفته باللغات وسبقه فيها أو بالطب والهندسة والحكمة والنجوم واللغة والأدب والشعر، مع تحديد الدين مثل النصرانية دون أي تمييز. كما يضيف سمات الشخصية والأخلاق الحميدة في حضارة لا تفرق بين العلم والأخلاق، فالسلوك جزء من تعريف الفيلسوف. ويبين أساتذته وطلابه ومدرسته مثل بهمنيار الحكيم تلميذ ابن سينا والمعصومي وكذلك أبو منصور الحسين بن طاهر بن زيلة، والجوزجاني من خواصه. ويتضح أن ابن سينا صاحب مدرسة وأتباع، ولتلاميذه تلاميذ، عمر الخيام ومحمد المروزي. كما تدخل تربيته وتعليمه واكتشافاته وما اشتهر عنه وتدخل وظائفه وصلته بالسلطان مثل أبي الحسن الأبردي طبيب السلطان أو إمام مسجد. وربما تغلب أحيانا بعض العبارات الإنشائية. وكلهم موضع مدح وإجلال وتقدير! (2)
تاريخ الميلاد والوفاة والمكان والنسب والتعليم وسمات الجسد. ونادرا ما يذكر تاريخ الميلاد والوفاة للفيلسوف، إما لصعوبة تحديده وإما لعدم أهميته. فالفيلسوف نمط مثالي. وقد يذكر أحدهما دون الآخر، الميلاد دون الوفاة أو الوفاة دون الميلاد. كما يصحح البيهقي أحيانا التواريخ، ويبين أخطاء المؤرخين والنساخ فيها. وبالنسبة لكبار الفلاسفة مثل ابن سينا يكون تاريخ الميلاد بالدقة مع طالعه، وكذلك تاريخ وفاته وولادة أقربائه ووفاتهم. وقد يتحول التاريخ إلى أسطورة كما هو الحال في ولادة الأنبياء ووفاتهم. وتذكر أسماء الأب والأم والأخوة والأخوات.
57
وقد تتحدد التواريخ ببعضها البعض؛ فالفلاسفة عائلة واحدة ونسب فكري واحد وتتحدد المسافات الزمنية في الميلاد أو الوفاة بينهم. ويذكر أعمار لفلاسفة يمكن استنباط الميلاد والوفاة منهما. وربما تكفي الحياة ومعالمها الرئيسية؛ أي السيرة الشخصية. ويذكر المكان، مكان الولادة والوفاة والدفن، وأمكنة الإقامة والرحلات.
58
كما يذكر النسب من ناحية الأب أو الابن كما هو الحال في العادات القبلية.
59 (3)
العصر والسلطة والأهواء والنوادر وحياة الفيلسوف ومآسيه. فالفيلسوف ابن عصره. تعامل مع السلطة فيها. وتنتابه أحيانا أهواء البشر بالرغم من حكمته. وتتعرض حياته للأزمات، لحظات الفرح والحزن، والمكسب والخسارة والتي تصل إلى حد المآسي. وقد عمل الكثير منهم في عصر المأمون والمعتصم. وخدم آخرون الملوك السامانية وأمراءها. ويعطي ابن سينا المثل على ذلك؛ فقد كان دائم الارتباط بالسلاطين حتى استوزر، ومولع بمصاحبة الحكام. وربما يكون أول من شرع خدمة الملوك بالرغم من وجود الفارابي في بلاط سيف الدولة الحمداني بحلب، وتعليم الكندي للمعتصم الفلسفة الأولى في بغداد. حرق المكتبة التي أطلعه عليها الأمير نوح بن منصور حتى لا يطلع عليها أحد غيره استعدادا لمؤامرة الصمت على مصادر «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات». وكان شغوفا بالخمر، شبقا للجماع. وكان البعض يعلم نشرا للحكمة والبعض الآخر أجرا، البعض له القدرة على قراءة الطالع. ولكن الفارابي رفض الهدايا، ونسج الثياب للأكل من عمل يده. وللفارابي نادرته أنه أضحك وأبكى وأنام بموسيقاه، ونقد بائع تمر لأنه أجاب بالكم على سؤال كيفي! وابن الهيثم عرض له إسهال، وعرف أنه سيموت.
60
وتحولت حياة بعض الفلاسفة إلى مآس بسبب تمسكهم بحرية الفكر مما سبب اضطهاد رجال الدين والسلاطين لهم. مثال ذلك ما حدث لحنين بن إسحاق. كان نصرانيا، وتفل في صورة عيسى لأنها أقنوم لا يجوزه الشرع والعقل. والله منزه عن الصورة والهيئة، فحبس وترك الدين وانشغل بالعلوم. وقد همت النصارى بقتل يحيى بن عدي لأنه نقد أفلاطون وأرسطو. واضطهد كثير من الفلاسفة بسبب جهل السلاطين وبطشهم، مثل عدم نجاح الطبيب دانيال في شفاء أمراض السلطان.
61
وأحرق محمد بن أحمد البيهقي لاتهامه بالباطنية من العامة معلقا «ولا قدر من القدر ولا تأخير لأجل.» وقد ثارت الجند على ابن سينا وحبسته وطالبت بقتله، واضطهد الحكام بأمر الله ابن الهيثم لاعتراضه على قياسه للنيل. وصلب أبو المعالي عبد الله بن محمد الميانجي لشطحاته الصوفية واتهام السلطان له كما حدث للحلاج. وحرق السلطان أبا حاتم المظفر الأسفزاري لعمله ميزان أرشميدس الذي يكشف الغش والعيار. وارتبط محمد المروزي بالسلطان، ثم لفظه السلطان. وارتبط محمد الأيلاقي بالسلطان ثم قتله. وأحرقت تصانيف عمر الساوي وبيته.
62
واضطهد فلاسفة آخرون لشجاعتهم مثل قتل اللصوص للفارابي دفاعا عن نفسه بعد أن رفض اللصوص أخذ المتاع. وهي نفس قصته قتل المتنبي كنمط مثالي لموت الشجعان. والبعض لقي من المآسي على طريقة الوجوديين المعاصرين؛ فالوجود مأساة مثل اكتشاف الرازي زيف صناعة الكيمياء فعمي، ووقع أبو الخير بن بهنام من على دابته فمات.
63
وكف بصر أبي العباس اللوكري في شيخوخته. وطلب أبو سعيد الأرموي مالا كثيرا لتأديب الملك حتى يذهب بعد ذلك للعلم ومات، وحصل غيره على المال. وحزن أبو الحسن الأبريسمي من حسد الناس له فمات. وأصاب أبا البركات البغدادي الجذام وعمي بعد أن نجا من القتل وحسن إسلامه. وأصاب علي بن شاهك الجدري وعمي. ومات ناصر الهرمزدي في داره رافضا دعوة السلطان. واستولى على محمود الخوارزمي نوع من السويداء فذبح نفسه بالقلم.
64
ويمكن أن يتحول ذلك كله إلى موضعات درامية حديثة. (4)
المؤلفات المصنفات. ويذكر البيهقي بعض مؤلفات حوالي سبعين فيلسوفا الصحيح منها والمنسوب إليه. وتتناول موضوعات الطب وعلم أحكام النجوم والحكمة والإلهيات والهندسة وتاريخ الأديان والأخلاق والفقه والمنطق واللغة والأديان، مما يدل على العلم الموسوعي للفيلسوف، نموذج ابن سينا. تجمع المصنفات بين العلوم النظرية والتطبيقية؛ أي التقنية بلغة العصر الحديث. وهناك تصانيف في موضوعات غير مألوفة مثل كتاب أبي الخير بن بهنام في تدبير المشايخ. ونظرا لأهمية بعض المصنفات يبدأ البيهقي بها دون باقي عناصر رسم الشخصية كما فعل مع محمد الشهرستاني. هو مجرد رصد كما هو الحال في المكتبات الحديثة من أجل إعطاء المعلومات الأولية عن الفيلسوف ومؤلفاته للمبتدئين في العلم. ويحكم البيهقي على بعض هذه المؤلفات بالقوة أو الضعف، يقيم بعضها، ويعلي من شأن مؤلفات ابن سينا التي تقوم على اتفاق الشرع والعقل. وقد كتبت بعض المؤلفات للدفاع عن البعض مثل أبي البركات البغدادي أو الهجوم على البعض الآخر.
65 (5)
الأقوال والكلمات والحكم والفوائد. وهي وحدة التحليل كنوع أدبي يبقي على القول دون القائل، والنص دون المؤلف. وهي جمل قصيرة من جوامع الكلم يسهل استذكارها واستدعاؤها واستعمالها في الحياة اليومية كنبراس للسلوك الفاضل، وما أكثرها. وهي الأبقى بعد أن ينسى الناس أصحابها والمؤلفات التي انتزعت منها. وهي الأقوال المأثورة المتناثرة التي تركها الفيلسوف تخلده من بعده وتنقش على قبره. ألف فيها الفارابي وابن هندو والمبشر بن فاتك.
66
والعجيب أن ابن سينا لا تروى عنه أقوال وحكم وهو أكبر الفلاسفة ذكرا. تجمع بين الدين والأخلاق في صورة الحكمة الخالدة. وتتنوع موضوعات الأقوال في الطب الوقائي والاستغناء عن الطب بنظام الطعام والشراب وعدم الإكثار من النكاح.
وفي الصحة العقلية رجحان العقل وحسن القول والسيطرة على الانفعالات، والتحكم في الأهواء، والحذر من الدنيا والمرأة والسلطان ومباهج الحياة، وضرورة القناعة والكد في طلب العلم، والصدق واحترام العلماء، ومعرفة النفس طريقا إلى معرفة الخالق، والاقتصار في التأليف وفي العلوم أصولها وفروعها، وتعلم التقسيم والتحليل والتهديد والبرهان. وفي العلاقات الاجتماعية رفض الزيف والمدح والنفاق ونقد الكذب والحقد، وضرورة النصيحة والمشورة، والإنصاف والعدل والكرم والاعتذار عن الذنب. وفي التاريخ والعصرية، لكل زمان علم والانشغال بالزمان. وفي السعادة الدنيوية والأخروية مثل الشوق إلى الحي القيوم والعرش والكرسي والقلم واللوح المحفوظ، وضرورة التحرر من سجن البدن. (د)
واستمر التقابل بين الوافد والموروث حتى القرن السابع الهجري في «نزهة الأرواح وروضة الأفراح» للشهرزوري (687ه).
67
والتمييز بين الوافد والموروث ليس مجرد إجراء بل هو تمييز فعلي. فلما كتب أبو سليمان صوان الحكمة في الوافد أكمله البيهقي في الموروث. كما قسم الشهرزوري «نزهة الأرواح» إلى مجلدين؛ الأول في الوافد والثاني في الموروث. وبالرغم مما يبدو في العنوان الأصلي من لفظ تاريخ وتطور في الزمان بين المتقدمين والمتأخرين وأنه معروف باسم «تاريخ الحكماء» إلا أن التاريخ هنا أقرب إلى القراءة منه إلى سرد أسماء الأعلام. ومن ثم فهو أكثر كتب التدوين اتجاها نحو القراءة كما يبدو في النصف الأول من العنوان «نزهة الأرواح وروضة الأفراح»، وبالتالي يصبح أهم تاريخ حامل للدلالات؛ فهو تاريخ إشراقي، صاحبه حكيم إشراقي من تلاميذ السهروردي مؤسس حكمة الإشراق. يجمع بين التاريخ والتطور الزماني للوافد والموروث وفي نفس الوقت يكتشف البنية المشتركة بين الاثنين، بنية الإشراق والفلسفة الخالدة. فكلهم مدرسة واحدة لا فرق بين وافد وموروث وفيلسوف وفيلسوف. لذلك يفرق بين الصناعة مثال الطب والشعر، والعلم وهي الحكمة. الأولى مهنة والثاني رسالة. الأولى تاريخ والثاني بنية. وقد يكون التشيع أحد أسباب بلورة الوعي التاريخي باعتباره معارضة سياسية؛ فالوعي التاريخي ابن الوعي السياسي. وكثيرا ما تم التدوين في جماعات المعارضة السرية والعزل السياسي كما تم تدوين التوراة أثناء الأسر البابلي، حفاظا على التراث الشفاهي من الضياع، وتمسكا بالهوية الحضارية. التدوين نوع من إثبات الأنا ضد الآخر، وإثبات الذات ضد الغير تمسكا بالهوية، وصراعا من أجل البقاء. لم تنته الفلسفة الإسلامية بعد ابن رشد كما يرجع البعض بل استمرت في إيران وازدهرت عند الشيعة بعد أفولها عند أهل السنة عند صدر الدين الشيرازي وغيره. وبالرغم من أن الاقتصار في الكتابة حكمة إلا أن الإسهاب هو عادة القدماء وبعض المحدثين.
68
ويحيل الكتاب إلى مصادر أصلية، نصوص الحكماء وأنفسها للعامري والغزالي والبلخي وابن هندو وإخوان الصفا والكندي، وبعض كتب تاريخ الحكمة مثل ابن النديم، وبعض كتب التاريخ مثل المسعودي وابن العربي والمقدسي من الموروث وفورفويوس من الوافد.
69
وتظهر نصوص الوافد أقل بكثير من نصوص الموروث. وتأتي نصوص أرسطو في المقدمة مثل إقليدس ثم أفلوطين ونيقلاوس (نقل ابن زرعة) وهرمس الثالث وأفلاطون وأبرقلس وألينوس وبطليموس وأرسخوطس.
70
والقرآن والحديث أيضا من ضمن المصادر.
71
وتذكر النصوص الأصلية في الموروث لستة وثلاثين علما أكثر من الوافد (عشرة أعلام). تأتي نصوص ابن سينا في المقدمة ثم السهروردي ثم ابن الخمار ثم مسكويه والرازي ثم الجوزجاني والبيروني والسجستاني ثم أبو زيد البلخي.
72
والطوسي والمعصومي الخازن ملك يزد، ثم سبعة عشر علما كل منهم مرة واحدة.
والحكماء شعراء، وشعرهم لا يقل شواهد عن حكمتهم. يذكر سبعة عشر حكيما شاعرا، واثنان مجهولان. في مقدمتهم السهروردي ثم عمر الخيام وابن الشبل ثم الفارابي ثم أبو النفيس ثم ابن هندو ثم الرازي الفيلسوف والرازي الطبيب ثم البستي ثم الكندي ثم الميانخي، وأبو سليمان السجستاني، وابن زرعة وأبو سهل النيسابوري وابن الداعي، والمعصومي وأبو البركات.
73
والكل بالعربية باستثناء شاعر واحد، الميانخي، له بيتان بالفارسية. ولا يذكر من الوافد حكماء شعراء إلا واحد هو سقراط!
وكثير من الأقوال مستمدة من «مختار الحكم ومحاسن الكلم» للمبشر بن فاتك، فالكل ينقل عن الكل لأنه مشروع حضاري واحد، وليس سرقة فرد من فرد. العمل الجماعي في مشروع مشترك شيء، والعمل الفردي بناء على الملكية الفردية شيء آخر. وأحيانا يتم اقتباس نص طويل مع الإحالة إلى المصدر كما هو الحال في الدراسات الحديثة.
74
وأحيانا تطغى الأقوال المباشرة دون عروض نظرية أو نقد وتقييم على عكس البيروني مع الهند. وربما يكون البيروني أفضل تاريخيا لأنه يذكر مصادره. وتغيب الأخبار والأقوال في الجزء الثاني في الموروث الإسلامي الأقل حجما من الوافد وأقرب إلى التاريخ منه إلى التأريخ. ولا يذكر أعلام الشيعة السابقين مثل حميد الدين الكرماني. وله مصادر أخرى وروايات شفاهية لم تدون. وأحيانا يكون الموروث مصدرا للوافد وحاملا له مثل روايات أبي معشر عن الهرامسة، وابن مسرة عن أنبادقليس، وأبو سليمان عن أرسطو.
75
وقد تكون الروايات عن الموروث مثل رواية البيهقي عن الساوي والشهرستاني والسرخسي، وللبغدادي عن ابن سوار عن البيروني وابن سينا، ونقد ما يروى عن أبي نصر.
76
وقد تكون الرواية من مصدر واحد.
77
ويوجد في كل اسم علم الأخبار والآداب، والسيرة والأقوال بداية للتمايز بين السيرة والقول لصالح القول كما هو الحال في الأناجيل الأربعة وفي الأحاديث النبوية.
78
وقد يكون ذلك صريحا بقسمين متمايزين وعنوانين مستقلين. وغالبا ما تكون الأقوال أكبر حجما من الأخبار مما يدل على أن وحدة الفكر الأولى هي القول. وهذا هو حال هرمس الهرامسة وأسقليبيوس وسقراط وأفلاطون وهوميروس وسولون وبطليموس وجالينوس. وفي حالة ديوجانس تذكر الأقوال من خلال الحكايات.
79
وتتساوى الرواية مع الأقوال في حالة فيثاغورس وأرسطاطاليس وزينون الأكبر بن طالوطاغورس.
80
وأبقراط وحده هو الذي يخل فيه التوازن لصالح الرواية.
81
وقد يكون ذلك بطريقة ضمنية في حالة شيث ولقمان، وأنبادقليس وثاوفرسطس، وأوديموس، وديموقريطس، وأبرقلس، والإسكندر الأفروديسي وزرادشت، ومهاردجيس، وماسوليوس.
82
أما في إقليدس فتتساوى السيرة والأقوال.
83
أما أنكساجوراس الملطي وآدابه فهي رواية خالصة. أما آداب طاطو فتحتوي على الأقوال وحدها دون الأخبار إيذانا باستقلال الأقوال، وكذلك أيسخيلوس وقابس السقراطي وأرسطيس وفلوطرخس وستيراس وتامسطيوس والإسكندر.
وينقسم الكتاب إلى قسمين؛ الأول الحكماء القدماء وحكماء الفرس واليونان، والثاني الحكماء والمتأخرون من الإسلاميين. الأول الوافد الغربي والشرقي والثاني الموروث باعتباره امتدادا للوافد. فواضح أولوية الوافد على الموروث كيفا وكما. فالوافد هو الأصل والموروث هو الفرع، والوافد يبلغ حوالي مرتين ونصف الموروث.
84
وقبل القسمين هناك مقدمة عن نشأة العلم بالشواهد، القرآن والحديث، وفصل «في ابتداء أحوال الفلسفة»، مجرد تاريخ موضوعي لليونان دون قراءة، مجرد ثبت بالأسماء قبل تأويلها وإدراك دلالتها.
أما من حيث الأماكن فالموروث له الصدارة على الوافد كيفا وكما، وذلك لتفاعل الاثنين داخل البيئة الجغرافية الإسلامية. فالأولوية المطلقة للشام ومصر، ثم بغداد ونيسابور ثم الهند، ثم بابل مع ساموس، ثم فارس مع صقلية، ثم فو، ثم بخارى وخراسان ورملة الشام وسوريا مع ملطية، ثم أذربيجان وخوارزم وجوزجان ومرو وهمذان مع تراقيا ورودس وفرغامس وقسطنطينية واللوقيوم، وأخيرا البصرة والري وسجستان وطوس والعراق وفلسطين ومراغة وممفيس ومنف وهراة وحران وحمص وساميا مع أفسيس وأمانيا والبحر الرومي وبيرون وديلوس وسيراقوستا وفينيقيا اللاتينية وميتا بونثا.
85
ويتصدر الوافد الموروث كيفا وكما من حيث أسماء الأعلام، كثرة كبار الوافد على كبار الموروث، في حين كثرة صغار الموروث على صغار الوافد. فيأتي أرسطو ثم أفلاطون ثم سقراط في المقدمة على الإطلاق قبل الإسكندر في مقابل الشهرزوري، وفيثاغورس قبل ابن سينا، وجالينوس وأبقراط وطاليس قبل الرسول والمسيح.
86
ويتوارى الإسكندر إلى المرتبة الرابعة من تسع عشرة مرتبة. وأحيانا يطغى التاريخ الخالص على أخبار الوافد مثل وصف جغرافية اليونان كما هو الحال في الدراسات الحديثة، ووصف لغة يونان، وذكر المعنى الاشتقاقي لكلمة يونان وترجمتها نقلا صوتيا إلى إغريق.
والوافد من حيث الكم له الأولوية على الموروث من حيث المساحة ، في حين أن الموروث له الأولوية على الوافد من حيث عدد أسماء الأعلام. الوافد نصف الموروث من حيث العدد، ولكنه أكبر من حيث الحجم. يأتي الإسكندر في المقدمة قبل سقراط وفيثاغورس وهرمس الهرامسة وأفلاطون وأرسطو وجالينوس وديوجانس ... إلخ في ثماني مراتب من سبع عشرة مرتبة. ولا يأتي أرسطو إلا في المرتبة الخامسة. وأول الوافد وهو الإسكندر ضعف أول الموروث وهو السهروردي. والإسكندر في المرتبة الأولى ثلاثة أضعاف أرسطو في المرتبة السادسة، مما يدل على أولوية حكماء الإشراق على فلاسفة الطبيعة. وعماد الإشراقيين بعد الإسكندر سقراط وفيثاغورس وهرمس وأفلاطون.
87
ومن حيث أسماء الأمم والقبائل يتصدر الوافد الغربي أيضا على الموروث. فيأتي اليونانيون والروم في المقدمة، ويتعادل المشاءون والفرس من الوافد الشرقي. ويتعادل المقدونيون والكلدانيون، والبطالسة مع الترك والحنفاء والمتكلمين والمعتزلة وإخوان التجريد.
88
أما الموروث فإن الصدارة فيه تأتي للشهرزوري، المؤلف نفسه ثم ابن سينا ثم الرسول ثم المسيح ثم السهروردي أستاذه ثم أبو سليمان السجستاني، ثم الشهرستاني ولقمان، ثم إبراهيم والمسعودي، ثم الفارابي وعمر الخيام ... إلخ، التسع مراتب الأولى من أربع عشرة مرتبة. ويدخل الأنبياء بمفردهم مثل الرسول والمسيح أو مع الحكماء مثل لقمان والشهرستاني، إبراهيم والمسعودي. داود مع يحيى النحوي ويحيى بن عدي والبيروني والقفطي. وسليمان مع حنين بن إسحاق وإسحاق بن حنين وأبو معشر والحسن البصري وخوارزم شاه والمعتضد والرازي (فخر الدين) والمسعودي والبيهقي.
89
فالأنبياء أيضا من زعماء الإشراق. ولا فرق بين الملوك مثل خوارزم شاه والمعتضد والمأمون وعلاء الدولة، والخلفاء مثل معاوية، والسلاطين مثل صلاح الدين وغياث الدين، والأمراء مثل نوح بن منصور، وبين الحكماء، مترجمين وفلاسفة وصوفية. ولا فرق بين الأفراد والجماعات مثل إخوان الصفا وبني موسى بن شاكر.
والموروث من حيث مساحة أسماء الأعلام الصدارة فيه للسهروردي، ثم لقمان الحكيم ثم ابن سينا، المراتب الثلاثة الأولى، وهم حكماء الإشراق من عشر مراتب.
90
أما من حيث الأسماء والقبائل فيتأخر الموروث عن الوافد كثيرا. ولا يظهر الفلاسفة إلا في المرتبة السابعة من مراتب تسع، ثم الأولياء وإخوان التجريد والترك والحنفاء والمتكلمون والمعتزلة، ثم أصحاب الكهف والباطنية والبرامكة وبنو أمية والصوفية، والعباسيون، والكرامية، والمسلمون.
91
كما تدل كثرة أسماء الأماكن الجغرافية على الموروث ومحلية الفكر.
أما الجناح الشرقي فهو بين الوافد والموروث، هو وافد لأنه من فارس والهند وبابل ومصر وكنعان، وهو موروث لأنه تحول من خلال الترجمة إلى موروث. كما أن الحضارة الإسلامية وريثة الحضارات الشرقية ومعبرة عنها ومطورة لها في إحدى مراحلها. وتظهر فارس في صورة فلاسفتها مثل زرادشت وبازماك وبهمنيار بن المرزبان، وملوكها مثل: دارا أو كسرى ونمرود بن كورش. كما تظهر الهند في صورة فلاسفتها وملوكها أيضا مثل كشتاسب وسابور وسنجر. وتظهر بابل في صيغة ملكها نبختنصر وفيلسوفها هرمس البابلي كما تظهر مصر وملكها أماسيس.
92
أما أسماء الأمم والقبائل فيأتي الفرس في المقدمة ثم الصابئة والعرب، ثم الكلدانيون، ثم المصريون وبنو إسرائيل ثم البراهمة والنصارى والهرامسة ثم الترك والحنفاء والعبرانيون ثم البابليون والحواريون والروس والعجم والمجوس.
93
ولكل شعب خصائصه تبدو في علومه كما هو الحال في علم اجتماع المعرفة في الغرب الحديث. الموسيقى عند اليونان والهندسة في مصر والحساب في فينيقيا والطبائع في الشام على عكس ما هو شائع من بداية كل شيء باليونان. وينشأ تدوين العلوم بعد نشأتها عند كل الشعوب، الصين والهند وفارس ومصر واليونان والأندلس عند ملوك الطوائف. ولا فرق بين كسرى أنوشروان والمأمون وهارون الرشيد وشرلمان في حب العلم وتشجيع العلماء، وحدة حضارية واحدة قديمة. لذلك نشأت صناعة الورق عند القدماء مع التدوين. فالتدوين مهنة وصناعة.
94
والحكماء إما هنود مثل البراهمة الذين ينكرون النبوات، وإما عرب وهم أقلية يقولون بالطبع بالإضافة إلى خاطرات الفكر وربما بالنبوات، وإما يونان وهم الروم، قدماء ومتأخرين. والمتأخرون مشاءون ورواقيون وإسلاميون. فالفلسفة الإسلامية امتداد للفلسفة اليونانية في عصر متأخر.
95
وترسم الشخصية (86 شخصية) بالعناصر الرئيسية المكونة لملامحها مع تجاوز السيرة والاسم والنسب والمولد والوفاة والحياة والسيرة إلى الاتجاه الفكري والأعمال والأقوال. ومع ذلك فهي سيرة باهتة خالية من القراءة والتأويل على عكس قراءة أعلام الوافد. فالمسلمون يستأنفون حضارة اليونان، وحكماء الإسلام هم امتداد لحكماء اليونان، والمتأخرون بالنسبة إلى المتقدمين. وليس لكل الفلاسفة ميلاد أو وفاة، إنما العمر والحياة والعصر يكفيان. فليس الزمان متقطعا في لحظات، بل ديمومة في حياة. وبالرغم من تعدد الثقافات والديانات داخل الحضارة الإسلامية، إلا أنه أحيانا تذكر ملة الفيلسوف، الحرانية الصابئة، أو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، سواء إذا بقي على دينه أو تحول إلى الإسلام.
96
وواضح أن ابن سينا مدرسة بمفرده له تلاميذ عدة.
97
وله أصدقاء كثيرون. وكان أبو سليمان المنطقي السجستاني مدرسة بأكملها، حلقة مفكرين. والإخوان أنفسهم مدرسة، تذكر كجماعة وأحيانا يذكر أفرادها مستقلين مثل العوفي.
98
وقد تذكر مع حياته المأساة الشخصية التي مر بها مثل الإصابة بالعمى أو الأصفهاني الذي يصل إلى حد الاتهام بالكفر، والقتل مثل السهروردي واختلاف الناس في طريقة قتله، منع الطعام عنه وهو سجين، الخنق، السيف، الحرق.
99
وهناك نوادر نمطية تقال في كل فيلسوف مثل قصة مداواة ابن هندو لمن ينكر الطبيعة بوضع كتاب الطب تحت رأسه.
100
وهناك حياة الفيلسوف وسمات الشخصية مثل الإنفاق على طلاب العلم،
101
وله شهرة مثل أبي النفيس.
وتذكر مؤلفات الفيلسوف كلها أو بعضها، والبعض منها له عناوين إبداعية مثل «الأمد الأقصى»، «الإبانة عن علل الزمان».
102
وقد تكون المؤلفات شروحا على الموروث أو على الوافد.
103
ومعظمها للجمع بين الحكمة والشريعة. وقد تكون المؤلفات بالفارسية.
104
وتذكر آراء الفيلسوف ونظرياته.
105
ويذكر اتجاهه الإسلامي الذي يؤثر الموروث على الوافد.
106
فالتوجه الإسلامي نحو الطب باعتباره علم الأبدان حتى يجعل علم الأديان ممكنا. والتوجه نحو الفلك مدفوع بآيات النظر في السماء والكواكب والنجوم. والتوجه القرآني نحو النفس هو الذي دفع إلى تأسيس علم النفس الخلقي. ويظهر الاتجاه إذا كان الحكيم متكلما كالشهرستاني الذي جمع بين الحكمة والشريعة، عكس البيهقي، اعتمادا على الغزالي.
رابعا: الحضارة الإسلامية
وقد تم تدوين الفلسفة كأحد أقسام العلوم داخل الحضارة الإسلامية ككل. فالحضارة الإسلامية هي وحدة التحليل الأولى، والفلسفة علم من علومها. مثال ذلك «المقدمة» لابن خلدون (808ه)، في الباب السادس «في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه».
1
يأتي العلم بعد ارتقاء المجتمعات وتطورها وانتقالا من البدو إلى الحضر ونشأة الدول والعمران والمجتمعات المستقرة. فالعلم ظاهرة مدنية.
2
ويتضمن خمسين فصلا، أربعة وعشرون منها في أصناف العلوم، وستة وعشرون حول العلوم وطرق تحصيلها.
ويهتم ابن خلدون قبل تقسيم العلوم بمناهج التعليم، وينقد عقلية الشروح والملخصات والنقل، نقل الكتب من بعضها من أجل الحث على الإبداع. فكثرة التأليف تعوق عن التحصيل خاصة لو كان التأليف نقلا عن نقل، ولا يخرج من القلب، ولا يصنف جديدا. ويحمل ابن خلدون هموم قصر العمر الذي لا يكفي لكثرة التحصيل وكثرة التأليف وكثرة النقل. فالعلم كيف وليس كما، إضافة الجديد وليس نقل القديم.
3
ويبين ابن خلدون مناهج التعليم التي تؤدي من النقل إلى الإبداع: التعلم تدريجي، وتقريب العلم للمتعلم على سبيل الإجمال حتى تحصل له ملكة العلم ويترقى في المراتب فيتعلم بنفسه، فالفطرة أساس التعليم، وعدم الانقطاع عن مجالس العلم حتى لا ينسى، وعدم خلط علمين في وقت واحد تمييزا بين العلوم وكأن ابن خلدون لا يدرك أهمية التخصصات البيئية، ونسق العلم ووحدة المعرفة البشرية. كما يتجه المتعلم نحو الموضوع وينظره تنظيرا مباشرا؛ إذ لا يكفي قراءته في كتاب، بل الحصول عليه بالتجربة. فالعلم لا يستنبط من النص بل يستقرى من الواقع. ليس العلم فقط هو المدون المقروء، بل هو أيضا الشفاهي المسموع، ليس علاقة بين المتعلم والكتاب بل بين المريد والشيخ كما هو الحال عند الصوفية وفي ثقافة سمعية وليست مرئية. ويتوزع العلم على مراحل العمر. ويتجه العلم معا نحو العمل. لذلك لا يستحسن التوسع في العلوم الإلهية، والتحول «من العقيدة إلى الثورة»، وأن يحمل العلم «هموم الفكر والوطن». والعلوم الإلهية هي علوم المقاصد في حين أن العلوم الدنيوية هي علوم الوسائل، والتوسع في الدنيوية يحقق نفعا لتحقيق المقاصد الكلية. والعلوم الإلهية ليست فقط علوم الكتاب والسنة، بل هي علوم المقاصد الكلية للشريعة وهي الضروريات الخمس، المحافظة على الحياة والعقل والدين والعرض والمال، وهي المصالح العامة التي تسمى بلغة العصر حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، والتي فيها تلتقي العلوم الإلهية والعلوم الإنسانية، علوم الغايات وعلوم الوسائل. وينقد ابن خلدون الموقف الطبقي للعلماء الذي يبرر عجزهم عن العلم أو رغبة الفقراء منهم للتكسب به أو الرد عليهم بنفس المنطق ولنفس الغاية كما فعل ابن سينا.
4
ويثير ابن خلدون قضيتين خلافيتين؛ الأولى ابتعاد العلماء عن السياسة، والثانية أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم.
5
فالقضية الأولى تعارض توجه العلم نحو العمل، وتحول النظر إلى ممارسة، والعياذ من علم لا ينفع، وضد التزام العالم بقضايا الوطن، وتحويله إلى مجرد حامل علم أو بائع له لمن يشاء في الداخل أو الخارج. فالعلم والمال لا وطن لهما. وعدم تسييس العلم تحويله إلى مهنة أو حرفة، وليس إلى رسالة أو أمانة بدعوى لا سياسة في الجامعة ولا جامعة في السياسة مثل عدم تسييس الدين وتحوله إلى مجرد إيمان وعقائد وشعائر وطقوس بدعوى لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، وكما يقال في عصرنا الحاضر دفاعا عن نظم التسلط والطغيان.
والقضية الثانية قد تكون كلمة حق يراد بها باطل؛ فهو حكم تقريري تعززه الأحاديث النبوية «العلم في فارس»، «لو كان العلم في الثريا لناله رجال من أهل فارس». ويؤيده الواقع، فالفرس غالبية السكان والأكثر عددا. وقد كانوا أهل حضارة أو علم سابق على الإسلام وليسوا بدوا. وربما لكونهم من المعارضة السياسية والأقلية المضطهدة تجاه النظم السياسية والأغلبية القاهرة. والأقليات المضطهدة عادة ما تلجأ إلى العلم كأداة للقوة مثل حال اليهود في العالم اليوم. ربما لأن العرب تفرغوا للرياسة واستأثروا بها فتفرغ الفرس للعلم وأبدعوا فيه. والعلم هو السلطة الفعلية الدائمة والسياسة هي السلطة الوقتية الذاهبة. وقد يراد بذلك الباطل إذا ما تم تأويله على نحو شعوبي عنصري، وكأن الفرس أصحاب عبقرية خاصة بهم كما هو الحال في النظريات العنصرية الغربية المعاصرة.
وفي نفس الوقت يقول ابن خلدون بدورات التاريخ، وبذهاب العلم بذهاب الأمصار، وبانتقاله من العجم إلى مصر، نظرا لتحول العجم إلى البداوة، ومصر إلى الحضارة، فمصر أم الدنيا، وإيوان الإسلام، وينبوع العلم والصنائع، مصر المحروسة. وبقي بعض الحضارة إلى ما وراء النهر؛ أي إلى آسيا، وبالتالي تكون مصر وآسيا وريح الشرق محور الحضارة القادم.
6
كان لديه إحساس بوجود حضارة في الشمال، الإفرنجة في شمال الأندلس أيام تغلب النصرانية وازدهار العلوم العقلية عند الفرنجة، وكأن الحضارة قد تحولت من العجم إلى مصر، وحفظتها مصر في عصر الموسوعات في نفس الوقت الذي تحولت فيه إلى الشمال، إلى أوروبا المعاصرة.
7
وانتقل الصراع من الشرق إلى الغرب إلى الشمال والجنوب، وبالتالي تكون دراسة الغرب المعاصر جزءا من تاريخ الحضارة الإسلامية وانتقالها من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال. وقد تعود بعد ذلك، طبقا للإرهاصات الحالية من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب.
8
وبعد هذه المقدمة النظرية في العلم والتعليم يصنف ابن خلدون العلوم تصنيفا ثلاثيا: العلوم النقلية والعلوم العقلية وعلوم اللسان العربي على قدر متساو تقريبا في الكم أو مع زيادة ملحوظة في العلوم العقلية.
9
وهي القسمة الشائعة في تصنيف العلوم لولا أن ابن خلدون يستبدل بالعلوم النقلية العقلية علوم اللسان العربي. وهي قسمة تبدو معاصرة تشبه قسمة مشروع «التراث والتجديد». فالعلوم النقلية هي التراث القديم، والعلوم العقلية هي التراث الغربي، وعلوم اللسان العربي هي الواقع المعاش. وتسمى العلوم النقلية العلوم الوضعية لأنها تقوم على الخبر؛ أي التاريخ والشرعيات؛ أي الواقع العملي في سلوك الناس، وكما قال الشاطبي قبله إن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية. ويسمي العلوم العقلية الطبيعية لأنها تشمل العلوم الرياضية والطبيعية نظرا لوحدة الوحي والعقل والطبيعة.
10
وتشمل العلوم النقلية ثمانية علوم: القرآن والتفسير والقراءات، الحديث، الفقه، الفرائض، أصول الفقه، الكلام، التصوف، تعبير الرؤيا. ويلاحظ وضع علم التفسير في علوم القرآن وهو علم مستقل، وقسمة علم الفقه إلى فقه وفرائض وهو نفس العلم، وإدخال علم أصول الفقه والكلام والتصوف ضمن العلوم النقلية وهي من العلوم النقلية العقلية مع الفلسفة، وإدخال علم تعبير الرؤيا مع العلوم النقلية لتأليف ابن سيرين فيه، وهو أحد أعلام الصحابة مع أنه لم يدخل مسبقا في تصنيف العلوم على نحو مطرد. وهو أدخل في التصوف أو الفلسفة لارتباطه بالنفس وبالتالي يكون أقرب إلى العلوم النقلية العقلية، واستبعاد علم السيرة وهو تطوير لعلم الحديث، وتحول من القول إلى الشخص.
والعلوم العقلية سبعة : العدد والهندسة (مناظرة ومخروطات وكروية) والهيئة (الأزياج)، والموسيقى، والمنطق، والطبيعات (الطب والفلاحة)، والإلهيات. والعلوم الأربعة الرياضية الأولى هي الرباعي المعروف في مقابل الثلاثي الذي وصفه ابن خلدون في القسمة الثالثة، علوم اللسان العربي، ويستبدل به ثلاثي الحكمة المنطق والطبيعات والإلهيات دون أن يسميها فلسفة. وهي أدخل في العلوم النقلية العقلية. وقد يكون الدافع على جعلها علوما عقلية خالصة هو ضمها إلى الوافد، وبالتالي سهولة نقدها واستبعادها قبل تحريمها بفتاوى ابن الصلاح بعد ذلك بقرن.
ثم يضع مجموعتين من العلوم خارج إطار المنظومة لاستبعادها ونقدها. الأولى السحر والطلسمات، والكيمياء، والثانية الفلسفة والنجوم. وهما المجموعتان اللتان يأخذ فيهما ابن خلدون موقفا صريحا بالإبطال في العنوان «في إبطال الفلاسفة وفساد منتحليها».
11
وتظل علوم أخرى خارج المنظومة، مثل النبات والحيوان والمعادن والصيدلة، وهي من العلوم الطبيعية. وعلوم الجغرافيا والتاريخ، وهو مؤسس النظرية الجغرافية وفلسفة التاريخ.
وبالنسبة للعلوم النقلية؛ أي الموروث، يبين دخول الإسرائيليات في التفسير، كما يبين صلة الحديث بالفقه؛ فالفقه إعادة تبويب للحديث. ويفيض في بيان أهمية أصول الفقه وهو الأصولي؛ فهو من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدرا وأكثرها فائدة، ويقارنه مع علوم القرآن. يذكر داود الظاهري ولا يذكر ابن حزم وهو أندلسي مثله. ويذكر ابن رشد فقيها لا فيلسوفا مع أبي زيد وابن يونس وأبي عمرو بن الحاجب، ولا يذكر ابن حنبل ضمن المدارس الفقهية الأربع.
12
ويدافع عن التصوف السني الأشعري ويعتبره من العلوم الشرعية. ويرفض التصوف الشيعي الذي ينتهي إلى الحلول والاتحاد والتصوف الإشراقي الفلسفي عند ابن سينا، وكأن التصوف السني لم يقل بالاتحاد والحلول والوحدة؛ وحدة الشهود عند ابن الفارض ووحدة الوجود عند ابن عربي. وبين الصلة بين التصوف والتشيع كنوع من المقاومة الوجدانية القلبية؛ فمملكة الروح قادرة على هزيمة مملكة الجسد ، ومدينة الله أقوى من مدينة الأرض. وفي علم تعبير الرؤيا يعتمد ابن خلدون على نظرية الأبخرة لتفسير الرؤية الصالحة، وهي نظرية فلسفية تعتمد على تفسيرات الفلسفة للرؤيا بنظرية الاتصال وهو يبطل الفلسفة ويبين فساد منتحليها.
13
أما بالنسبة إلى العلوم العقلية فيعتبر ابن خلدون الحساب فرعا لعلم العدد، وكذلك المعاملات مع أنها تطبيقات له كالمحاسبة. ولا يتحدث عن الدوافع لنشأة هذا العلم، حاجة الفرائض، الصلة والمواريث، إلى الحساب. كما يجعل الكريات والمخطوطات من فروع الهندسة وكذلك المناظرة من خلال الرؤية والنظر مثل ابن الهيثم؛ أي المنظور بلغة العصر. كما يجعل الأزياج من فروع علم الهيئة.
14
وينقد التجربة في الفلك نظرا لقصر العمر وهي تستلزم التكرار. وفي الغالب لا ينقد ابن خلدون العلوم العقلية خاصة الرياضية لأنها علوم الوسائل لا علوم الغايات، يتفق عليها الجميع ويقينية مضبوطة.
أما المنطق والطبيعات والإلهيات فإنها علوم عقلية صرفة لا شأن للعلوم النقلية بها؛ ومن ثم لا يمكن لعلم الكلام، وهو من العلوم النقلية، إصدار الأحكام عليها بالصواب والخطأ نظرا للتمييز بين العلمين في البداية. ولم ينشأ الخلط بينهما إلا عند المتأخرين عندما تحول علم الكلام إلى علم فلسفي وتسربت الفلسفة إلى علم الكلام بعد نقد الغزالي لها.
15
غرض الكلام هو الرد على الملحدين وغلاة الصوفية وليس المنطق والطبيعات من هذا النوع. بل إن ابن سينا «كان يخالف أرسطو في الكثير من مسائل «الطبيعيات» ويقول برأيه فيها».
16
أما علوم اللسان العربي؛ النحو، واللغة، والبيان، والأدب، فهي ضمن علوم الوسائل لا الغايات. العلوم اللسانية إذن لفظ قديم وليس لفظا حديثا. وتأتي في النهاية بعد العلوم النقلية والعلوم العقلية وليس في البداية كما هو الحال في الغرب الحديث.
17
والنحو ينظر الممارسة في الواقع باعتباره هو العلم الذي يضع قواعد اللغة ومنطق الكلام. ويفصل ابن خلدون اللهجات العربية، واللسان المضري، رادا اللسان إلى القبيلة، عرب وبربر، ثم قسمة العرب إلى قبائل، مضر وغيرها. ويركز على الملكة والذوق في اللغة، وأنها لا تحصل للمستعربين من العجم لرسوخهم في العجمة البربرية . اللغة وجدان وليست اكتسابا، وطبيعة وليست صنعة، موهبة وليست تعليما، من ممارسة البدو وليست من تقعر الحضر.
18
ويعتبر ابن خلدون علم البيان حادثا في الملة ربما من حيث القواعد وليس من حيث الممارسة التي صاغها الوحي في القرآن من حيث إن صناعة النظم والنثر في الألفاظ لا في المعاني، مع أنه يصعب التمييز بين اللفظ والمعنى. فتعريف البلاغة هو «اقتضاء القول طبقا لمقتضى الحال». وينقد ابن خلدون المحفوظ في النثر ويقبله في الشعر لأنه يقوي الذاكرة ويخصب الخيال. وينقد التكسب بالشعر حتى صار غرضه هو الكذب والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين.
19
ويكثر في نهاية المقدمة من الشعر والأزجال والموشحات الأندلسية مؤكدا على الخصوصية الإقليمية الأندلسية، وكما يفعل بعض المغاربة المعاصرين متوشحين بمفهوم القطيعة المعرفة الوافد من الغرب الحديث وشاعرا بأنه قد خرج عن القصد من كتابة المقدمة.
20
إنما القضية في العلمين اللذين يخرجهما ابن خلدون من تصنيف العلوم، وهما الكيمياء وما يرتبط بها من سحر وطلسمات، والفلسفة وما يرتبط بها من أحكام النجوم. فالكيمياء أبعد العلوم عن الصنائع. ويؤثر ابن خلدون بدلا منها في وصف العمليات الكيميائية التدبير على بركة الله واعتبارها «من جنس النفوس الروحانية وتصرفها في عالم الطبيعة، إما من نوع الكرامة إن كانت النفوس خيرة أو من نوع السحر إن كانت النفوس شريرة». ويعتبرها أقرب إلى صنعة البداوة، اصطنعها خالد بن يزيد بن معاوية من الجيل العربي البدوي الأول، والعرب على أية حال أبعد عن العلوم والصنائع.
21
كما يبطل ابن خلدون علم أحكام النجوم وتأثير الكواكب فيما تحتها، فلا فاعل إلا الله؛ فهي صناعة باطلة من حيث الشرع وضعيفة من حيث العقل، وضارة للعمران البشري لما تفرزه من عقائد فاسدة على العوام.
22
ويبطل صناعة الكواكب ويجعل المعاش بالطرق الطبيعية كالفلاحة والنجارة. وينقد علم السحر والطلسمات والشعوذة لأنه موجه إلى غير الله والسجود له، والوجهة إلى غير الله كفر. ويبين، وهو المؤرخ، تاريخ السحر عند العبرانيين والكلدانيين والمصريين والربانيين والبابليين والنبط والهنود والسودان والترك وجابر بن حيان. وينقد المشتغلين بالأعمال السحرية وإشراك الروحانيات والجن والكواكب في أفعال البشر وظواهر الطبيعة. ولم تفرق الشريعة بين السحر والطلسمات، وحرمته للسيطرة على الأفعال الناقصة في الدنيا. ومع ذلك يحاول تفسيره على نحو معنوي، استعداد النفوس البشرية للتأثير في عالم العناصر من غير معين وهو السحر، وبمعين وهي الطلسمات كما هو الحال في التنويم المغناطيسي في العصر الحديث، ولأثره في الروح المعنوية. كما يعترف للمتصوفة ببعض الكرامات بالإمداد الإلهي ومن آثار توابع النبوة. وقد سحر الرسول وفكت عائشة عقدته! والعجيب أن ابن خلدون ينقد الفلاسفة ويبين فساد منتحليها بأكثر مما يفعل مع بطلان السحر وفساد منتحليه!
23
والقضية الثانية «في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها» مع صناعة النجوم وثمرة الكيمياء في نهاية العلوم العقلية.
24
والفلسفة هي الوحيدة التي لها فصل في إبطالها، وبيان أن هذا الفصل مهم. ويبدأ ابن خلدون بعرض تاريخي لنشأة الفلسفة وتطورها مع تقييمها. ويلخص الفلسفة والمنطق والأخلاق بداية بالوافد ونهاية بالموروث دون تحديد لتواريخ مولد أو وفاة، وهو المؤرخ الحصيف. ويتساءل عن أصلها من فارس وعراق العجم جزء من فارس أو من الروم وتعني اليونان باعتبار أن الروم ورثة اليونان، ونظرا لأن حروب العرب كانت مع الروم.
25
ويفسر نشأة المنطق، البداية بالحس والنهاية إلى التجريد كما يفعل الأشاعرة. ويعارض الميتافيزيقا، وينقد نظرية الفيض. ويعتبر الفارابي وابن سينا من الضالين.
26
ولا يذكر ابن رشد إلا ملخصا لأرسطو. ينقد البراهين الفلسفية ونظرية المعرفة الفلسفية. ميزة الفلسفة الوحيدة شحن الذهن في ترتيب الأدلة والحجج! والشريعة المحمدية فيها الكفاية.
27
موقف ابن خلدون من الفلسفة موقف فقهي خالص يمهد لموقف ابن الصلاح، ويستأنف حملة الغزالي عليها في «تهافت التهافت» و«المنقذ من الضلال». ويوقف محاولة ابن رشد رد الاعتبار إليها والدفاع عنها في «تهافت التهافت». يدافع عن النقل ضد العقل، وعن التفسير والفقه ضد الفلسفة والعلم. ويرى أن سعد بن أبي وقاص كتب إلى عمر بن الخطاب بوجود كتب، فأمره بإغراقها في الماء دون أن يتحقق من صدق الرواية، كما طالب هو بذلك في نقد أغلاط المؤرخين في مقدمة «المقدمة». وينقد دخول الفلسفة إلى الأندلس، ويتمنى أنها لم تدخل، وكأن التاريخ يتحرك طبقا لأمنيات المؤرخ حتى ولو كان ماديا جدليا على رأي المعاصرين.
28
ويستشهد برأي أفلاطون على ظنية الإلهيات؛ فقد شهد شاهد من أهلها.
29
فما سبب هذا العداء للفلسفة؟ هل وقع ابن خلدون تحت سيطرة فقهاء الأندلس الذين حرقوا كتب ابن رشد قبله بمائتي عام؟ هل لأنه ظاهري الاتجاه والظاهرية بنت الأندلس عند داود وابن حزم؟ هل لأنه حسي النزعة مادي المنهج ينأى عن المجردات؟ هل هو موقف مسبق وليس دراسة عملية موضوعية من مؤرخ علمي حصيف؟ هل لأنه أشعري المذهب وعداء الأشاعرة للعقل معروف كما بين ابن رشد في «مناهج الأدلة»؟ هل هو موقف عصر ينبئ بفتاوى ابن الصلاح في تحريم الفلسفة؟
وتتأكد أشعرية ابن خلدون بنقده المستمر للمعتزلة، نقد «الكشاف» للزمخشري لأنه يأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة. وينصر أهل السنة ضد المعتزلة «على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة». صحيح أنه ينقد الشيعة أيضا والقول بعصمة الأئمة، بل وينقد بعض الصحابة، ولكنه مقلد للمدارس الفقهية الأربعة.
30
كما يستعمل ابن خلدون الحجج النصية، الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كحجج ضد الخصوم ودفاعا عن النفس كما يفعل أهل السلف وبمنطق العلوم النقلية، وهي التي جعلها العلوم الموروثة، فيهاجم الفلاسفة بالقرآن ويتوعدهم به، ويمنع تعلم علوم أهل الكتاب، وينقد الكيمياء باعتبارها ضد العلم الإلهي، وكذلك علم أحكام النجوم، فالقلم البشري عاجز عن الإحاطة بما دونه.
31
ويستعمل القرآن لتأييد السحر، وهي آيات تدل أيضا على تحريم السحر، وأنه من صنع الشياطين والكفرة، وإثبات قوانين الطبيعة.
32
ويتم إثبات العلم الإلهي والأفعال الإلهية، أفعال الهداية من الله بالقرآن.
33
العلم الإلهي يقين مطلق، في حين أن العلم البشري معرض للخطأ. والعلم الحق من الله الذي أودعه الكتاب والآيات، مع أنها أيضا آيات متشابهات في حاجة إلى إحكام، وبالتالي إلى إعمال العقل. والعلم تدريجي. ناله قوم من فارس.
34
وبالرغم من إثبات العلم الإنساني إلا أنه يحذر من الطب الإنساني، ويسميه الطب المزاجي، ويدافع عن الطب النبوي! مع أن الطب النبوي عارضته التجربة بزيادة الإسهال بشرب العسل، «صدق الله وكذب بطن أخيك!»
35
وأخيرا يدافع ابن خلدون عن القرآن والسنة والنسخ والرؤية الصحيحة والتوحيد والإيمان والصلاة وتعدد الخلق بالقرآن والسنة فيقع في الدور، وبالرغم من مقارنته القرآن بالنثر والنظم.
36
كما تتجلى الأشعرية في العبارات الإيمانية التي تتخلل «المقدمة» من أولها إلى آخرها، في وسط الباب أو الفصل وليس بالضرورة في أوله أو آخره حتى لقد تختلط بعض اللازمات مع القرآن المستعمل استعمالا حرا دون تنصيص. وتعبر هذه اللازمات عن أن الهداية والتوفيق والتأييد والعون من الله.
37
وكل مشيئة فبمشيئة الله، له الحكم والخلق والتقدير.
38
والله علام الغيوب، عليم بكل شيء. وهو أعلم بالصواب وبحقائق الأمور.
39
ربما أخذ ابن خلدون أكثر مما يستحق في عصرنا بسبب المغاربة أنصار الخصوصية والقطيعة، والماركسيين المشارقة وقراءتهم المادية الجدلية له، والمستشرقين الوضعيين الباحثين عن أصول الوضعية الاجتماعية عنده. مع أنه أشعري حتى النخاع، فقيه من الفقهاء ضد الفلسفة والعلم. ابن خلدون التاريخي ضد ابن خلدون المعاصر. وابن خلدون نفسه يفتح الطريق لأجيال قادمة لإكماله كما فعل ابن سينا في آخر كتاب الشعر من «الشفاء». يطالب بالغوص في المسائل، وتعيين موضوع العلم، وإكمال المتأخرين للمتقدمين، وكأنه يطالب بابن خلدون جديد يكمل المسار، ويأتي بعده بسبعة قرون كما أتى هو بعد نشأة الحضارة الإسلامية بسبعة قرون. يؤرخ للنهضة كما أرخ هو للانهيار. وإذا كان ابن خلدون القديم قد كتب المقدمة في خمسة شهور، فإن ابن خلدون الجديد قد يعيد كتابتها في العمر كله لو استطاع بسبب قصر العمر.
40
خامسا: تاريخ الفرق
وقد دونت كتب تاريخ الفرق أيضا تاريخ الفلسفة. ووضع الفلاسفة ضمن الفرق غير الإسلامية «الخارجون عن الملة الحنيفية والشريعة الإسلامية». كما هو الحال عند الشهرستاني (548ه) في «الملل والنحل»، والتي تبلغ ثلاثة أجزاء من مجموعة الخمسة أجزاء نظرا لإفاضة الشهرستاني فيها واضعا الفلاسفة لأول مرة مع الديانات والملل والنحل: اليهود، النصارى، المجوس، والزرادشتية، والمزدكية، والثنوية ، والشنتوية ... إلخ. وأهل الأهواء والنحل: الصابئة وأصحاب الروحانيات والحنفاء (الجزء الثالث). ثم يخصص جزءا بأكمله (الرابع وبعض الخامس) للفلاسفة اليونان بعد الصابئة: هرمس، أصحاب الهياكل والأشخاص، الحرانية، الفلاسفة، ويجعل المتأخرين من فلاسفة الإسلام نموذج ابن سينا امتدادا لليونان مع العرب في الجاهلية: الهند، أصحاب الروحانيات، عبدة الكواكب، عبدة الأصنام، حكماء الهند (الجزء الخامس). والشهرستاني هو الوحيد الذي أعطى هذه الأهمية للفرق غير الإسلامية. ولم يكتف باليهود والنصارى كما فعل ابن حزم ولكن أضاف فلاسفة اليونان وفلاسفة الإسلام والصابئة وحكماء الهند. ومع ذلك يوجد بعض التكرار للفلاسفة وللثقافات خاصة الهندية والفارسية، ربما بسبب الجمع بين منهج العرض الذي يذكر فيه الموضوع ومنهج المقارنة الذي يعاد فيه مقارنة الموضوع.
1
ويتميز الشهرستاني بإدراك جيد للمذاهب وإحساس فلسفي بها. وفي عرضه للآراء والأقوال بصيرة ووضوح تكشف عن قدرة على التفلسف فهما وتعبيرا وإيصالا حتى في أشد الموضوعات تجريدا مثل رياضة فيثاغورس ومنطق ابن سينا، وفلسفة أرسطو في ست عشرة مسألة تعرض الإلهيات والطبيعات دون المنطق اكتفاء بعرضه عند المتأخرين من فلاسفة الإسلام، ابن سينا نموذجا.
2
وقد يخطئ أحيانا في تصنيف المذاهب عندما يجعل هيراقلطس وأباسيس من مدرسة فيثاغورس الرياضية، وهم من المدرسة الطبيعية.
3
وتبدو أحيانا نغمة التشيع في تاريخ الشهرستاني مثل انبثاق نور إبراهيم جليا في إسحاق وخفيا في إسماعيل، ووصية موسى لهارون جلية وليوشع خفية؛ لأن الإمامة بعضها مستقر وبعضها مستودع.
4
يدخل الفلاسفة إذن ضمن أهل الأهواء والنحل في مقابل أرباب الديانات، دين الوحي في مقابل دين الطبيعة الذي يقوم على الفطرة السليمة والعقل الكامل والذهن الصافي.
5
وأحيانا يضل العقل ويختلف العقلاء في مدارس فكرية ست هي: (1)
السوفسطائيون: إنكار المحسوس والمعقول، وبالتالي استحالة قيام العلوم لأنهم ينكرون المعارف كلها، حسية أو عقلية. فلا يوجد شيء يمكن معرفته. وإن عرف فإنه لا يعرف على وجه اليقين. (2)
الطبيعيون الدهريون: الاعتماد على الحس وحده وإنكار المعقول، وإثبات كل ما هو محسوس وإنكار كل ما يتجاوز الحس. (3)
الفلاسفة الإلهيون: إثبات المعقول دون الحدود والأحكام والشريعة والإسلام. يكفي الوصول بالعقل إلى مبدأ العالم والمعاد، والوصول إلى الكمال المطلوب، فالسعادة في العلم والمعرفة والشقاء في الجهل والسفه. الشرائع أمور مصلحية، والحلال والحرام أمور وضعية، عالم الروحانيين من الملائكة والعرش والكرسي واللوح والقلم، أمور معقولة وصور خالصة لها خيالات جسمانية. وأحوال المعاد والثواب والعقاب للترغيب والترهيب للعوام. الفلاسفة دهرية وحشيشية وطبيعية وإلهية أخذوا علومهم من مشكاة النبوة، فوقعوا في الغرور واشتغلوا بالأهواء. (4)
الصابئة الأولى: إثبات الأحكام والحدود العقلية، من العقل ومن الوحي في مراحله الأولى، غاذيمون وهرمس وهما شيث وإدريس، وأنكروا تطور الوحي وتوالي الأنبياء بعدهما، وبالتالي ينفون شريعة الإسلام. (5)
المجوس واليهود والنصارى: إثبات المحسوس والمعقول والحدود والأحكام العقلية والأنبياء الأول والأواخر دون آخر الأنبياء وآخر الديانات. (6)
المسلمون: إثبات المحسوس والمعقول والحدود والأحكام العقلية والأنبياء الأوائل والأواخر حتى آخر الشرائع والديانات.
لقد أدخل الشهرستاني لأول مرة الفلاسفة ضمن إطار تاريخ الأديان في خمسة أجزاء في «الملل والنحل»، الأول والثاني عن الفرق الإسلامية، الأول عن الأصول؛ أي علم العقائد (الكلام)، والثاني عن الفروع؛ أي علم الفقه. والثالث والرابع والخامس عن «الخارجون عن الملة الحنيفة والشريعة الإسلامية». الثالث عن اليهود والنصارى والمجوس، وأصحاب الاثنين المانوية وسائر فرقهم. وفي آخره «أهل الأهواء والنحل»، وهم الصابئة (باقي الجزء الثالث)، والحنفاء وهرمس وأصحاب الهياكل والأشخاص والفلاسفة، يونان ومسلمين (الجزء الرابع وأول الخامس)، ثم آراء العرب في الجاهلية وآراء الهند وأصحاب الروحانيات والكواكب وعبدة الأصنام وحكماء الهند (معظم الخامس).
6
القسمة إذن ثلاثية؛ أهل الكتاب، والمجوس، والفلاسفة. وتقوم على الكتاب: من له كتاب محقق مثل التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى، ومن لهم شبهة كتاب وهم المجوس بعد أن رفعت صحف إبراهيم إلى السماء بعد ما وقع من المجوس. والدين الطبيعي الذي ينتسب إليه الفلاسفة. فالدين نوعان؛ دين كتاب ودين طبيعة. والخارجون عن الملة الحنيفية والشريعة الإسلامية يقولون بشريعة وأحكام وحدود أعلام.
7
وهنا تدخل الأسطورة في عمل المؤرخ في شبهة الكتاب ورفع صحف إبراهيم مع أن التوراة أيضا وصفت بأنها
صحف إبراهيم وموسى ، ولم ترفع. وكذلك انبثاق نور إبراهيم في شعبتين؛ بني إسحاق وبني إسماعيل. فالكتاب مدون قبل البعثة، والصحف غير مدونة تأتي وترفع. وقد سمي اليهود والنصارى «أهل الكتاب» لأن الناس كانوا نوعين؛ أهل كتاب يقرءون كاليهود والنصارى، وأميون لا يقرءون ولا يكتبون كالعرب. الفريق الأول في المدينة، والثاني في مكة. الأول ينصرون الأسباط ويذهبون مذهب بني إسرائيل، والثاني ينصرون دين القبائل ويذهبون مذهب بني إسماعيل، وكلاهما من نور إبراهيم. الأول ظاهر والثاني خفي. يظهر الأول في النبوة والثاني في المناسك والعلامة. قبلة الأول بيت المقدس، وقبلة الثاني البيت الحرام. شريعة الأول ظواهر الأحكام، والثاني رعاية المشاعر ورفاهية القلوب. خصماء الأول الكفار مثل فرعون وهامان، وخصماء الثاني المشركون مثل عبدة الأصنام والأوثان.
8
كانت الأمة اليهودية أكبر من الأمة النصرانية في شبه الجزيرة العربية، ولكن بعد دخول أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وأستراليا في النصرانية تفوق الآن النصارى اليهود، ويفوق المسلمون الديانات جميعا من حيث العدد. لم يغير المسيح من شريعة اليهود، بل أكملها بالأخلاق والمواعظ، ولم ينقد اليهود إليه اتهاما له بأنه غير الشريعة، من السبت إلى الأحد، وحلل أكل الخنزير، وبدل الختان والغسل. وقد جمعت الشريعة الإسلامية بين الاثنين واتهمتهما معا بالتحريف. ويستعمل الشهرستاني القرآن والحديث مصادر له لمعرفة اليهودية في النصرانية وأهل الأهواء والنحل وهرمس.
9
ولا يعلن الشهرستاني عن مصادره كما أعلن المؤرخون الآخرون. هو فيلسوف يعرض المقالات والنظريات والآراء والأفكار. فالفكرة هي وحدة التعليل أو القول المنثور غير المباشر، وليس المنصوص المباشر نقلا عن آخرين، فلا يهم المصدر بل الموضوع، لا يهم السند بل المتن، مما يجعل الشهرستاني أقرب إلى ابن هندو والمبشر بن فاتك اللذين أرخا للأقوال والحكم والمأثورات وليس للأشخاص باستثناء بعض النوادر في حياة الفلاسفة كما فعل حنين بن إسحاق خاصة نادرة أبقراط ووطنيته، ورفض خدمة ملك الفرس. ويروي نصفها عن ابن سينا.
10
وأحيانا قليلة يذكر بعض الرواة، سواء في عرض الوافد أو الموروث، سواء كانت الرواية مباشرة من الفلاسفة أو عن فلاسفة نقلوا عنهم.
11
ويبدو أرسطو مؤرخا يروى عنه ما رواه عن الفلاسفة السابقين. ويفرق الشهرستاني بين الحكم والرأي؛ فبعض الفلاسفة يعرض حكمهم مسبوقة بلفظ قال، حتى ولو لم يكن قولا مباشرا ولكنه منقول عن مصادر مدونة سابقة. وبعض الفلاسفة يعرض رأيهم؛ أي آراءهم ونظرياتهم، دون أن تكون مسبوقة بأفعال القول.
12
أما أبرقلس، فإن الشهرستاني يعرض شبهه على قدم العالم وتشبه حجج ابن رشد.
13
والشبهة لا حكمة ولا رأي، بل ظن وشك يمكن الرد عليه فيها، مما يجعل الحكمة مقبولة على الإطلاق، والرأي مقبول نسبيا. الحكم معظمها أخلاقية إنسانية روحية، والرأي طبيعي أو إلهي. وإذا كانت الحكم للأفراد، فإن الرأي للأفراد والمدارس الفكرية.
ويبدو القرآن مصدرا تاريخيا في قصص الأنبياء لمعرفة الديانات السابقة، خاصة الصابئة والحرانيين وعبادة الأصنام والهياكل والأشخاص، وهي الديانات التي حاججها القرآن على لسان إبراهيم.
14
وقد تبدو المصادر غير المعلنة مثل الاعتماد على الغزالي في «مقاصد الفلاسفة»، وربما «التهافت» لعرض آراء أرسطو، أو «النجاة» لعرض آراء الفلاسفة المتأخرين رواة عن أرسطو؛ فقد ساروا وراءه وتابعوه مقلدين متهالكين عليه، مع أن أرسطو يخطئ ويصيب.
15
كما اعتمد الشهرستاني على مصادر أخرى تثبت أن نقل ثامسطوس وابن سينا عنه، وهما الشارحان الكبيران، لم يكن نقلا دقيقا.
16
والنقل ليس إلا مجرد ربط دون رؤية أو تأويل أو توظيف. تغيب الدلالة على النقل خاصة لو كان المنقول مجردا في حاجة إلى قراءة وتأويل. وكمتكلم يبدأ الشهرستاني بالإلهيات حتى ولو كانت ما بعد الطبيعة؛ أي المقارنات، إلا مرة واحدة مع المجسطي وبطليموس، وبالرغم من وجود الدلالات وهي زيادة الموضوعات الإسلامية مثل النبوة والوحي والمعاد على أرسطو ومحاجة ابن سينا في الطبيعيات.
وواضح أولوية الوافد على الموروث في الفلسفة.
17
ويتصدر أرسطو أعلام اليونان ثم أفلاطون على الإطلاق ثم سقراط والإسكندر الرومي، ثم أبقراط، ثم فيثاغورس، ثم ثامسطيوس، ثم فلوطرخس وديموقريطس وطاليس، ثم أنبادقليس وفرفوريوس، ثم هرمس، ثم زينون الأكبر وأبرقلس، ثم بطليموس وأنكساجوراس، ثم الشيخ اليوناني وثاوفرسطس وأنكسمانس وأغاذيمون ثم هيراقليطس وأبيقورس وإقليدس وهوميروس وسولون الشاعر وديوجانس الكلبي وأطوسايس الكلبي، ثم خريبوس وزينون الشاعر وزينون الأصغر وبارميندس وأكسونوفان وهرقل وآخرون. ومع المدارس يتصدر المشاءون والرواقيون. ومن الكتب نواميس أفلاطون، السماء والعالم والآثار العلوية لأرسطو، وفاذي (فيدون) لسقراط (أفلاطون)، والمجسطي. ومن حيث الأقوام يتصدر اليونان على الروم على الإطلاق.
18
قد يوجد بعض الخلط بين زينون الأكبر وزينون الأصغر وزينون الشاعر وزينون فقط.
ومن حيث الكم يتصدر الوافد الموروث كذلك مع استبعاد هرمس العظيم لأنه مشترك بين الاثنين. ويتصدر أرسطو الوافد ثم فيثاغورس ثم أفلاطون ثم سقراط ثم أنبادقليس ثم أبرقلس ثم طاليس وهوميروس وأبقراط ثم حكماء أهل المظال (الرواقيون) وخروسيس وزينون والإسكندر والشيخ اليوناني ثم أنكسمانس وزينون الأكبر وديموقريطس وشيعته وفرفوريوس ثم أنكساجوراس وديموقريطس وسولون وإقليدس وديوجانس، ثم فلوطرخيس وهرقل وثامسطيوس.
19
وواضح أن الشهرستاني من المدرسة الفيثاغورية، كما أن الشهرزوري من المدرسة الإشراقية نظرا لتصدر مدرسة الفيثاغوريين التي ينتسب إليها كبار الفلاسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو في مقابل المدرسة الطبيعية. فالعقل هو المقياس يشترك بين اليونان المسلمين، بين موضوع التاريخ وذات المؤرخ.
ويبدأ الشهرستاني قبل الحديث عن الفلاسفة بتعريف الفلسفة اشتقاقا من اللفظ اليوناني «محبة الحكماء». والحكمة قولية وفعلية، وكأنها سنة؛ أي نظرية وعملية؛ أي عقيدة وشريعة. النظر طريق العمل. بعض الحكماء قدموا النظر على العمل، والبعض الآخر قدم العمل على النظر، وكلاهما الحق والخير. ويمكن للعقل الكامل الوصول للقسمين معا. أما الأنبياء فأعطوا الأولوية للعمل ولقسم من النظر، والحكماء أعطوا الأولوية للنظر وقسم من العمل. غاية الحكيم أن يتجلى لعقله نظام الكون حتى يتشبه بالإله عن طريق العقل. وغاية النبي أن يتجلى له نظام الكون فيقضي المصالح العامة عن طريق الترغيب والترهيب. والتشكيل والتخييل. فالفلاسفة يقبلون الأنبياء. ومن استمد علمه من مشكاة النبوة فإنه يقدرهم أعظم تقدير إلى حد التعظيم.
وقد اختلف الحكماء في الحكمة النظرية. كما خالف الأواخر الأوائل، والمتأخرون المتقدمين في عديد من المسائل. كانت مسائل الأوائل محصورة في الطبيعيات والإلهيات، في الباري والعالم، ثم زادوا الرياضيات. وبالتالي انقسم العلم إلى ثلاثة أقسام: علم ما وهو العلم الإلهي الذي يطلب ماهيات الأشياء، وعلم كيف وهو العلم الطبيعي الذي يطلب كيفيات الأشياء، وعلم كم الذي يطلب فيه كم الأشياء، وهو العلم الرياضي، سواء كان الكم مجردا (الحساب) أو مخالطا (الهندسة). ثم أضاف أرسطو المنطق وسماه تعليمات جرده من كلام القدماء؛ إذ لم تخل الحكمة منذ نشأتها من قوانين المنطق، وجعلها آلة العلوم. فأرسطوطاليس مبدعا واضعا للمنطق، بل هو تجريد وتنظيم وتقنين لأقوال الحكماء السابقين. فأصبحت الحكمة أربعة: العلم الإلهي وموضوعه الوجود المطلق، والعلم الطبيعي وموضوعه الجسم، والعلم الرياضي وموضوعه الأبعاد والمقادير، والعلم المنطقي وموضوعه المعاني الذهنية.
20
ولا يكتفي الشهرستاني بالعرض التاريخي السردي أو التأويلي، الموضوعي أو الذاتي، الخارجي أو الداخلي، بل يتجاوزه إلى النقد، سواء كان نقد الوافد أو نقد الموروث؛ فقد أغفل مفكرو المتأخرين من فلاسفة الإسلام ذكر مقالات اليونان كمؤرخين إلا القليل من النوادر، وكأن وظيفة فلاسفة الإسلام مجرد التأريخ الموضوعي السردي كما يفعل الشهرستاني. وما سر عظمة ابن سينا إلا أنه صمت عن مصادره وأعطى فلسفة عقلية خالصة جعلها الشهرستاني نموذجا لفلاسفة المسلمين دون غيرها. بل إن بعض نقلهم كان تزييفا، كما هو معروف في قضية النسبة الخاطئة للنصوص لغير مؤلفيها. ويصرح الشهرستاني بأنه تجاوز الفلاسفة وتحقق من صدق النقل وتعقبه بالنقد تاركا الاختيار للقارئ في مقارنة القدماء بالمحدثين، الأوائل بالأواخر.
21
ويعتمد الشهرستاني على تصحيح تاريخ الفلسفة اليونانية على سابقيه مثل فرفوريوس وهو على مذهب أرسطو، من روى عن أفلاطون أنه يقول بحدوث العالم وأن له بداية في الزمان.
22
ويرد الشهرستاني على أنكسيمانس في قوله إن الباري أبدع الأشياء ولا يعلمها إنكارا للعلم الإلهي «وهذا من القول المستبشع.» فهناك صواب وخطأ في العقائد، فالقول بأن الباري لا يعلم شيئا محال شنيع أو أنه يعلم بعض الصور دون البعض نقص لا يليق بالكمال. والقول بأنه يعلم جميع الصور والمعلومات «وهذا هو الرأي الصحيح»،
23
وكأن المؤرخ للفلسفة قد ترك وضعه إلى المتكلم الأشعري. ويرد على شبه اليونان، أبرقلس وأرسطو، بل وابن سينا في قدم العالم. فأكثرها مغالطات وتحكمات خصص لها الشهرستاني كتابا خاصا ينقضها على قوانين منطقية على نقيض تعصب أبرقلس وأنصاره الذين حاولوا إيجاد العذر له بأنه يناطق الناس بمنطقين؛ روحاني وجسماني. وكان من يحاورهم جسمانيين. فخرج على طريق الحكمة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا وهو البرهان وليس الجدل الذي يدعو إلى التشتت، ويجد كل صاحب هوى فيه ما يريد.
24
أما الموروث فيتصدر ابن سينا على الإطلاق، فهو نموذج فلاسفة الإسلام والممثل لهم جميعا بالرغم من ذكر عشرين آخرين لا فرق بين رواة وفلاسفة، بين مترجمين وشراح، ولا فرق بين كبار الفلاسفة مثل الكندي والفارابي والعامري ومسكويه وصغارهم.
25
ويعتبرهم جميعا من المتأخرين. واليونان من المتقدمين، امتدادا لليونان عند المسلمين كما يدعي المستشرقون المحدثون في الغرب، وكأنهم لا أصالة لهم ولا دور حضاري لهم إلا تبعية اليونان. كلهم أتباع أرسطو إلا القليل الذي تابع أفلاطون مما يكشف عن نزعة عقلية واقعية عند المسلمين. رمزهم ابن سينا وزعيمهم الأول، يقتبس منه الشهرستاني عرضا للفلسفة، المنطق والإلهيات والطبيعيات؛ فابن سينا هو الفلسفة، والفلسفة هو ابن سينا.
26
وهو إجحاف بالفلاسفة إلا ابن سينا، إعطاء الفلاسفة أقل مما يستحقون، وإعطاء ابن سينا أكثر مما يستحق. ويشمل الموروث أيضا القرآن والأنبياء، شيث وإدريس وداود ولقمان. والنصارى جزء من تاريخ الإسلام.
27
ويقارن الشهرستاني فلاسفة اليونان بين بعضهم البعض؛ فالفلسفة اليونانية تمثل وحدة واحدة، كلا حضاريا واحدا، يختلف الفلاسفة فيما بينهم ويتفقون داخل الحضارة اليونانية قبل أن ينتشر الخلاف بين الفلاسفة خارجها عند الشراح، يونان ومسلمين. الفلسفة اليونانية تشرح بعضها البعض، لها مسارها الخاص، وبيئتها الخاصة، ترد إلى الداخل قبل أن تنتشر في الخارج. وهو ما فعله ابن رشد فيما بعد في شروحه على أرسطو بإرجاعه إلى تراثه اليوناني وجدل الفلسفة اليونانية من سقراط إلى أفلاطون إلى أرسطو، فلا يفهم الجزء إلا بوضعه في الكل الذي خرج هذا الجزء منه. ويبدو أن هناك تقسيما للعمل لا إرادي بين فلاسفة اليونان؛ إذ اقتصر سقراط من الفلسفة على الإلهيات والأخلاقيات دون التعرض للمنطق والطبيعيات كما سيفعل أرسطو فيما بعد، وبالتالي تكتمل دورة الفلسفة اليونانية بين سقراط الإنسان، وأفلاطون الإلهي، وأرسطو الطبيعي.
28
وقد يتحول الخلاف بين الفلاسفة إلى معارك وردود مثل رد الحكماء المتأخرين على أنكساجوراس في إثباته جسما مطلقا لم يعين له صورة سماوية أو عنصرية، وفي نفي النهاية عنه ، وفي قوله بالكمون والظهور، وفي بيان سبب الترتيب وتعيينه المرتب.
29
ويبين الشهرستاني بداية الفلسفة اليونانية وأول القائلين ببعض آرائها؛ فأنكساجوراس هو أول من قال بالكمون والظهور، وهي الألفاظ التي ظهرت عند أصحاب الطبائع من المعتزلة.
30
والشعر عند اليونان كان سابقا على الفلسفة، وتلك أهمية هوميروس وطاليس. وقد خالف أرسطو أستاذه أفلاطون؛ فعند الأستاذ كل إنسان مسير لما خلق له، له طبع مهيأ لشيء لا يتعداه، وعند التلميذ إن كان الطبع سليما صلح لكل شيء، وهو الخلاف بين الطبع والاكتساب. وعند الأستاذ النفوس الإنسانية أنواع لا تتعداها إلى ما عداها، وعند التلميذ النفوس الإنسانية نوع واحد إذا تهيأت نفس لشيء تهيأ النوع لها. كما اختلف فيثاغورس وسقراط هل الحكمة قبل الحق أم الحق قبل الحكمة؟ ويحكم الشهرستاني في هذا الخلاف بأن الحق أعم من الحكمة، إلا أن الحق قد يكون جليا وقد يكون ضعيفا. أما الحكمة فإنها أخف من الحق ولا تكون إلا جلية. الحق مبسوط في العالم مشتمل على الحكمة المستفيضة في العالم. والحكمة موضحة للحق المبسوط في العالم. الحق ما به الشيء والحكمة ما لأجله الشيء.
31
وتتم المقارنات بين فلاسفة اليونان من أجل إيجاد بنية للموضوع بعد تركيبه ورؤيته ومعرفة اختلاف الأسماء عليه؛ فتاريخ الفلاسفة يؤدي إلى الفلسفة، والتاريخ يكشف عن البنية، فما سماه أرسطو البخت سماه جرجيس قوة روحانية مدبرة للكل. وزعم الرواقيون أنه نظام لعلل الأشياء. وقال رابع إنه الحد. كما خالف أرسطو ومن بعده من الحكماء أستاذه أفلاطون في نظرية المثل أو الصورة مرجعين الصورة إلى الأجسام، والأنفس إلى الأبدان.
32
وأحيانا تكون المقارنة بين الوافد والموروث؛ فالموضوع واحد، والفلاسفة المتأخرون في الإسلام هم استمرار للفلاسفة المتقدمين اليونان. ويدخل المسلمون طرفا في خلافات اليونان لبيان المواقف المتشابهة والمختلفة بين الثقافتين، أو من أجل استعمال مواقف الموروث لحل خلافات الوافد؛ فقد اختلف الأوائل في الإبداع والمبدع، هل هما معنى واحد، أم إن الإبداع نسبة إلى المبدع وإلى المبدع. وهو نفس إشكال المسلمين في الإرادة بالنسبة للمريد والمراد، وفي الخلق بالنسبة للخالق والمخلوق. وكذلك مقارنة خروسيبوس وزينون الرواقي من اتحاد الجوهرين؛ البدن والنفس، وهما شيء واحد عند الحسن البصري. وأحيانا تتم المقارنة في لا زمان؛ فالفلاسفة جميعا يعيشون معا ويتعاصرون ويتحاورون في ذهن المؤرخ مثل ظهور أبو زكريا الصيمري مع الإسكندر.
33
وكان اليونان على صلة بغيرهم من الثقافات البابلية والفارسية والهندية والمصرية، يتعلمون ويعلمون، مما يجعل تاريخ الفلسفة اليونانية هو في نفس الوقت تاريخ الثقافات القديمة كلها. والدليل على ذلك هرمس اليوناني البابلي المصري الإسلامي. وتتم المقارنات مع حكماء الهند وفارس والروم والعرب من خلال عرض الفلسفة اليونانية، بالإضافة إلى أقسامهما المستقلة، وكأن اليونان هم المركز والثقافات القديمة هي المحيط.
34
فالحرانية تنسب مقالاتها إلى أغاذيمون وهرمس وأعيانا وأواذي، وهم أنبياء أربعة، أو إلى سولون جد أفلاطون لأمه. وكان لفيثاغورس تلميذان رشيدان؛ فلنكس (مرزنوش) دخل فارس، ودعا الناس إلى حكمة أستاذه بالإضافة إلى مجوسية قومه، فأخذ المجوس الجسمانية، وتركوا الروحانية.
35
ودخل تلميذ آخر (قلانوس) الهند، ودعا الناس إلى حكمة أستاذه مضافة إلى البرهمية، فأخذت الهند الروحانية، وتركت الجسمانية. وفي الهند رمز الحمامة المطوقة، والحمامة الواقعة في الشبكة للخلاص من المادة أو الانغماس فيها. وكان لليونانيين بيوت ليس بها نار للديانة المجوسية، وآخر به نار على باب القسطنطينية في بلاد الروم، والبعض في شرق الصين. كانت فارس هي المركز، وشرقها في الهند والصين وغربها في اليونان والرومان هما الأطراف.
36
وتبدو مصر أحيانا منبعا للفكر اليوناني، ويبدو الفلاسفة اليونانيون تلاميذ للحكماء المصريين، فقيل إن فلوطرخيس - وهو أول من شهر بالفلسفة ونسبت إليه الحكمة - قد تفلسف بمصر قبل أن يعود إلى ملطية. ويقارن أيضا اليونان مع النصارى، الظلم والهاوية عند أرسطو بالظلمة الخارجة عند النصارى.
37
ويقارن الشهرستاني بين الفلسفات القديمة وموقفها من النبوة؛ فبعض حكماء الهند من البراهمة لا يقولون بالنبوات مثل بعض حكماء العرب. وهم شرذمة قليلة لأن حكمتهم فلتات طبع وخطرات فكر، في حين يقول آخرون بها. وقد انقسم حكماء الروم إلى قدماء ومحدثين، أوائل وأواخر، يونان مثل الرواقيين والمشائين ومسلمين ، وهم حكماء العجم، لأنه لم يكن للعجم قبل الإسلام فلسفة، بل كانوا يستقون حكمهم من الملل القديمة أو من سائر الملل. وخلط الصابئة الحكمة بالصبوة، حكمة الروم واليونان هي الأصل، وغيرهم كالعيال لهم! ويجعلهم مجموعتين؛ الحكماء السبعة ومن تبعهم من الحكماء.
38
ويفرد الشهرستاني للهند مساحة كبيرة وختم بها أرباب الملل والنحل؛ فالهند أمة عظيمة وآراؤهم مختلفة بين براهمة ودهرية وثنوية، تؤمن بإبراهيم، وأكثرهم صابئة تختلف فيما بينها بين قائل بالروحانيات، وقائل بالهياكل، وقائل بالأصنام، وحكماء على طريقة اليونان في العلم والعمل. (1)
البراهمة: والاسم ليس مشتقا من إبراهيم؛ لأنهم ينكرون النبوات أصلا، بل من برهام؛ لاستحالة النبوة في العقول وتعارض كثير من الشرائع مع العقول مثل الشعائر وذبح الحيوان، وهم ثلاثة أصناف:
39 (أ)
أصحاب البددة، شخص لا يولد ولا ينكح ولا يطعم ولا يشرب ولا يهرم ولا يموت. وأقل منهم مرتبة البرديسعية. ويكمن الكمال بخصال عشر: الجود، العفو، التعفف، التفكير بالخلاص، رياضة العقل بالعلم، تصريف، النفس، لين القلب، حسن المعاشرة، الإعراض عن الخلق، بذل الروح في سبيل الحق. (ب)
أصحاب الفكرة، وهم العلماء المهتمون بالنجوم. وتخالف طريقتهم طريقة الروم. الروم تحكم بالطبائع، والهند تحكم بالخواص. (ج)
أصحاب التناسخ؛ تناسخ الأدوار والأكوار. (2)
أصحاب الروحانيات، وهي وسائط تأتيهم بالرسالة من الله في صورة بشر من غير كتاب، فيأمرهم وينهاهم ويسن لهم الشرائع. ودليله الإعراض عن الدنيا، وهي فرق: (أ) الباهودية، الرسول ملك روحاني اسمه باهوديه. (ب) الكابلية، الرسول ملك روحاني، اسمه شب. (ج) البهادونية، الرسول ملك عظيم اسمه بهادن في صورة إنسان. (3)
عبدة الكواكب: (أ) عبدة الشمس. (ب) عبدة القمر (الجندريكينية). (4)
عبدة الأصنام: (أ) المهاكالية. (ب) البركسهيكية. (ج) الدهكينية، صنم على صورة امرأة. (د) الجلهيكية، عبادة الماء. (ه) الأكنواطرية، عبادة النار. (5)
حكماء الهند: أدخل المذهب تلميذ فيثاغورس قلانوس، وتلميذه الهندي، برحمنن؛ أي تهذيب النفس. لم يحاربهم الإسكندر بعد أن قتل جزءا منهم وناظرهم. المناظرات دونها أرسطو.
كما تتم المقارنة مع آراء العرب في الجاهلية بعد الفلاسفة؛ وذلك لأن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، اعتبار خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات، والغالب عليها الفطرة والطبع. في حين أن الروم والعجم يتقاربان أيضا على مذهب واحد، اعتبار كيفيات الأشياء، والحكم بأحكام الطبائع، والغالب عليهم الاكتساب والجهد؛ فعند الشهرستاني العرب أقرب إلى الهند منهم إلى اليونان والعجم، والعجم أقرب إلى اليونان منهم إلى العرب والهند. عند العرب البيت العتيق بناه الله تحقيقا لرغبة آدم وتوبته على شكل البيت المعمور في السماء، طواف الملائكة من نور. ثم بناه شيث وصي آدم من الحجر والطين، ثم أعاد بناءه إبراهيم بعد الطوفان، جمعا بين الأسطورة والتاريخ. وأول من وضع الأصنام فيه عمرو بن لحي تقليدا للشام، فأحضر هبل وإساف ونائلة على شكل زوجين للتقرب إلى الله زلفى. بيوت المجوس النيران، وبيوت العرب الأصنام. وكان للهند والعرب بيوت سبعة مبنية على السبع الكواكب في الهند وفارس وأرض العرب تم هدمها بعد الإسلام.
40
والعرب قسمان؛ معطلة ومحصلة بعض التحصيل. والمعطلة أقسام: (أ)
إنكار الخالق والبعث والإعادة، وإثبات الطبع المحيي والدهر المغني اعتمادا على الطبائع المحسوسة وقصر الحياة والموت. (ب)
الإقرار بالخالق ونوع من الإعادة، وإنكار الرسل وعبادة الأصنام شفعاء عند الله، والحج لها، والنحر والهدايا والقرابين والمناسك والمشاعر، وهم من الدهماء وبعض النخبة. وقد كانت شبهتا العرب: إنكار حشر الأجساد وبعث الرسل، فآمن البعض بالتناسخ وطلب رسولا غير بشري، وآمن آخرون باليهودية أو المسيحية أو الصابئة.
والمحصلة أقسام طبقا لانشغالهم بالعلوم: (أ)
علم الإنسان والتواريخ والأديان، ومنها الدين الطبيعي الذي كان يقر بالبعث والثواب، جزاء وعقابا، كما كان يؤمن عبد المطلب. وكان قس بن ساعدة يعتقد بالتوحيد ويؤمن بالحساب.
41
وكان هناك آخرون يؤمنون بالخالق، وخلق آدم وبالبعث. وقد حرم عامر بن الظرب الخمر على نفسه.
42
وكان ينقصهم وضع المرأة وقوانين الزواج وتحريم الزنا والجمع بين الأختين. وكانوا يحرمون الأشهر الحرم ويرمون الجمار ويوفون يوم عرفة ويوم النحر. وكان البعض يغتسل من الجنابة ويغسلون الموتى ويكفنونهم. (ب)
علم الرؤيا، وكان أبو بكر على علم به. (ج)
علم الأنواء، يتولاه الكهنة والقافة منهم .
سادسا: تقسيم العلوم
(1) المصنفون والمصنفات
إذا كان التدوين قد بدأ بتاريخ الحضارات العامة والخاصة، ثم بالوافد والموروث، ثم بالحضارة الإسلامية، ثم بتاريخ الفرق، فإنه يتحول الآن إلى تقسيم العلوم كمنظومة عامة تندرج أسماء الأعلام تحتها كما هو الحال في «الفهرست» لابن النديم (385ه). فلا يوجد تاريخ بلا تصنيف. وهو طور لا زماني يكشف عن بنية النص الفلسفي كنوع أدبي قبل أن ينفصل النص نفسه إلى أسماء الأعلام حتى القواميس المعاصرة أو إلى حكم وأقوال وأمثال، وهي وحدة التحليل المثلى للنص في أرقى أنواع الأدبية التي تسمح بتحليل المضمون بعد ذلك للنصوص الفلسفية؛ فالغاية أسماء الكتب من منظور أعم ورؤية حضارية مقارنة أشمل حتى لو أدى ذلك إلى التكرار وإلى إدخال أسماء الكتب في أخبار أقرب إلى التاريخ الخالص دون القراءة باستثناء حلم المأمون. لذلك وضع عنوان «أسماء كتبهم» أو «الكتب المصنفة» في معظم الفنون. وإذا كان «الفهرست» هو عمليا أول كتاب في تاريخ التدوين، فربما كان لمهنته كوراق دافع في ذلك لرصد الكتب التي لديه وفي الأسواق.
1
وربما ساعد على ذلك كونه معتزليا شيعيا؛ أي من المعارضة العلنية والسرية التي يتبلور فيها الوعي بالتاريخ.
وقد استعمل ابن النديم مصادر مدونة وشفاهية؛ استعمل القرآن كمصدر تاريخي عن تاريخ الأديان مثل باقي المؤرخين، كما استعمل الشعر العربي كمصدر من مصادر المعرفة كما كان الحال عند العرب قبل الإسلام لمعرفة أخبار الأمم السابقة، حيث يختلط الواقع بالخيال.
2
كما يعتمد على تفسير ابن عباس. وعلم التفسير لم يذكر ضمن تقسيم العلوم، وهو تفسير مملوء بالإسرائيليات؛ فالأسطورة تكمل تاريخ الأمم السابقة منذ آدم ونوح، وتختلط بالآيات. الأسطورة والتاريخ، الحكاية والرواية مصدران للمعرفة؛ فقد وضعت الكتابة قبل آدم بثلاثمائة عام وهو ما زال في الطين، ثم اكتشفت بعد الطوفان. ولما هدمت الكعبة وجدوا حجرا مكتوبا عليه أن السلف بن عبقر يقرأ على ربه السلام.
3
ويعترف ابن النديم باعتماده على مصادر مدونة أخرى،
4
لدرجة أنه يحدد خطوط أصحابها كما يعتمد على روايات شفاهية وحكايات مروية.
5
ويسأل ويستقصي ويتتلمذ ويتعلم ويقرأ على آخرين.
6
يتسم بالتواضع وبالأمانة العلمية، ويعلن أنه لا يعلم الروسية إذا كانت كلمات أو حروفا، وأن من المعتزلة من لا يعرف أمره غير ذكره مع إحساس بالعصر والزمن ومشاهدة الأحداث في أسلوب مقتضب دون إنشائيات أو مقدمات، تاريخ أكثر وقراءة أقل.
7
ولم يستعمل ابن النديم القرآن كمصدر تاريخي إلا آية واحدة بمناسبة ابن الرواندي، بالرغم ما توحي به خواتيم الفقرات والعبارات الدينية من إيمان دفين.
8
وقد اتبع ابن النديم تقسيما عشريا للعلوم يضم ثلاثة وثلاثين فنا، يبدأ بعلم اللغة كما بدأ الفارابي بعلم اللسان في «إحصاء العلوم».
9
والغالب على كل مقال تقسيم ثلاثي للفنون، الأولى والثانية والسابعة والثامنة، إلا المقالة الرابعة والتاسعة (ثنائي)، والخامسة (رباعي)، والسادسة (ثماني)، والعاشرة بلا تقسيم. ويتصدر المؤرخون من حيث الكم ثم الفلاسفة ثم النحويون ثم التدوين ثم المذاهب والاعتقادات ثم الفقهاء، ثم الكلام ثم الشعر ثم العلماء ثم الكيميائيون أصغر المقالات.
10
ويبدو من هذا التصنيف توتر داخلي في الزمان بين علوم اللغة والشعر السابقة على الإسلام والعلوم الإسلامية التالية له، الفقه والكلام والفلسفة وتاريخ الأديان والكيمياء في فترة يتم فيها التدوين ويكتب التاريخ. فعلوم العرب تأتي قبل علوم الإسلام، بما في ذلك علوم العجم.
المقالة الأولى لغات الأمم، العرب والعجم، أقلامها وخطوطها وكتاباتها. فالكتابة تأتي قبل الكلام، والتدوين قبل الشفاه. تاريخ الحضارة هو تاريخ الكتابة وليس تاريخ الكلام، بما في ذلك أنواع الأقلام والأوراق. وينشأ التاريخ المدون بأول من وضع الخطوط.
11
والتقابل بين العرب والعجم هنا في اللغة وليس في العلم كما هو الحال عند الخوارزمي وليس في العرق، ولا يتضمن أي نوع من الشعوبية. وأن وضع الكتب السماوية والقرآن في هذا المقال عن تدوين الكتابة يبين دورها في تقنين الكتابة وأشكال الحروف والحرص على استمرارها في التاريخ.
12
ويرتبط علم القراءات وهو أقرب إلى الشفاه وعلم الأصوات بالكتابة والتدوين. وإذا كان القرآن قد دخل في علم الكتابة وعلوم التدوين، وهو من العلوم النقلية، فإن باقي العلوم النقلية كالحديث والتفسير والسيرة لم تدخل في تقسيم العلوم مع أن الحديث والسيرة يدخلان في تدوين التاريخ، والتفسير عادة ما يقارن بعلوم القرآن.
وفي المقالة الثانية يتم تصنيف علوم النحو طبقا للمدن التي تحولت إلى مدارس نحوية مثل البصرة والكوفة أو مدارس تجمع بينهما.
وتضم المقالة الثالثة علم التاريخ، أخبار النسابين وأصحاب السير والأحداث والآيات، بما في ذلك كتاب الخراج وأخبار الأدباء والندماء والمغنين؛ فلا فرق بين التاريخ العام والتاريخ الحكومي والتاريخ الشعبي.
وتضم المقالة الرابعة أخبار الشعر والشعراء ومناقضاتهم، ورواة القبائل في العصرين الجاهلي والإسلامي حتى دولة بني العباس.
والمقالة الخامسة عن الكلام والمتكلمين طبقا للفرق وليس للعقائد، كل فرقتين في فن مثل الشيعة والإمامية، والمجبرة والحشوية، مع أن جهم جبري في الأفعال تأويلي في المعاد. أما المعتزلة والمرجئة فلا يجتمعان في الإيمان والعمل، المعتزلة تربط والمرجئة تفصل، ولا في الموقف من السلطة، فالمعتزلة معارضة والمرجئة سلطة، والخوارج بمفردهم. والعجيب وضع العباد والزهاد والمتصوفة مع المتكلمين وإخراج أصول الفقه وهو الشق الثاني من علم الأصول من أصول الدين. ويبين أواصر القربى بين المعتزلة والشيعة باعتبارهما من فرق المعارضة. ويعرف بالفرق لا بالأشخاص. ويقرر ضياع كتب كثير من فرق المعارضة؛ لذلك تبدو أسماء الكتب المذكورة أقل شهرة. ويربط بين الإسماعيلية والقرامطة، ويضعهم مع الصوفية وليس مع الشيعة الإمامية. ويعرض رد الصوفية على المعتزلة مما قد يبرر وضعهم مع المتكلمين في الخلاف بين منهج الذوق ومنهج النظر. ويبين اشتغال بعض المتكلمين بالفلسفة؛ فلهشام بن الحكم كتاب على أرسطاطاليس في التوحيد، وللحسن بن موسى النوبختي اختصار الكون والفساد لأرسطاطاليس أيضا.
13
والمقالة السادسة عن الفقهاء في مذاهب ثمانية بإضافة الفقه الظاهري عند داود وابن حزم وفقه الشيعة وفقه الخوارج (الشراة)، وإخراج فقه أحمد بن حنبل، وربما يعني به فقه أصحاب الحديث، وإدخال فقه الطبري الذي لا يعلم له فقه في عصرنا.
والمقالة السابعة هي بيت القصيد عن الفلاسفة، تضع الطبيعيين المنطقيين في فن دون الإلهيين، والمهندسين والحساب في فن ثان من العلوم الرياضية، والطب في ثالث من العلوم الطبيعية . وتستبعد الحكمة العملية، الأخلاق والسياسة والاقتصاد، وكل ما سماه إخوان الصفا العلوم الإلهية الناموسية والشرعية؛ أي الإنسانيات. ويعرض للترجمة والشرح، الموجود والمفقود، ودور عبد الله بن المقفع مترجما، وأسماء النقلة من الفارسية إلى العربية وباقي اللغات، ونقلة الهند والنبط. وينقل حكايات الفلاسفة بألفاظها. ويتحدث عن أسطورة هرمس، والجمع بين الفلك والخرافة، السقوط والرفع، من الوحدة إلى التفرقة، ثم من التفرقة إلى الوحدة، من الطهارة إلى الدنس، ومن البراءة إلى الذنب.
14
فقد كتب هرمس في النيرنجيات والخواص والطلسمات. ويبين أول من تكلم في الفلسفة، طاليس وفيثاغورس، وأهمية سقراط في السياسات، وأفلاطون وأخبار أرسطاطاليس وترتيب كتبه في قسمة رباعية: منطقيات وطبيعيات وإلهيات وخلقيات. ويعرض أسماء الفلاسفة الطبيعيين كاتجاهات ومدارس وليس كأسماء. ويضم الموروث إلى الوافد، الكندي وأرسطو. ويفصل أعمال الكندي في الفلسفة والكريات والمنطق والحساب والموسيقى والنجوم والفلك والهندسة والأنواعيات والطب، والإحكاميات والجدل والنفس والسياسة والإحداثيات (وقوع الحوادث) والأبعاديات (هندسة الأرض)، والتقدميات (التنبؤ).
والمقالة الثامنة عن العلماء، وهو لفظ عام لا يدل على علم بعينه، ولكن يضم المسامرين والمخرفين في فن، والمشعبذين والسحرة في فن ثان، وعلماء متفرقين في فن ثالث! وهو تصور قديم للعلم بمعنى العلم المزيف أو التعالم، لا فرق فيه بين الظرفاء والمدعين والكذابين. ويضم أسماء العفاريت الذين دخلوا على سليمان وأحاديث البطالين والمغفلين، والتمييز بين الطريقة المحمودة والطريقة المذمومة في العزائم والطلسمات والحيل والرقيات.
والمقالة التاسعة عن المذاهب والاعتقادات، وهو ما يعادل الفرق غير الإسلامية في علم الكلام التي تطورت فيها الفلسفة كما فعل الشهرستاني في «الملل والنحل»، ثم تحولت من تاريخ الأديان إلى تاريخ الحضارات مقارنة ودخول الشرق مع الغرب في دائرتين حضاريتين، ثم تنويع الشرق إلى منطقتين حضاريتين، العراق وفارس، والهند والصين، العراق بالحرانية، وفارس بالثنوية ، والهند والصين كامتدادات حضارية.
والمقالة العاشرة الصنعويون؛ أي المشتغلون بالسيمياء (أي الكيمياء غير العلمية)، السحر من أجل القوة بالرغم من الحديث عن المشعوذين والسحرة في المقالة الثامنة عن العلماء وإخراج هؤلاء من زمرة العلماء.
ويضع ابن النديم «الفهرست» في إطار حضاري عام، وعلى نحو مقارن بين الشرق والغرب، جناحي الحضارة الإسلامية، العرب والسريان والعبرانيون والترك والفرس والهند والصين شرقا، واليونان والرومان والأرمن والروس والإفرنج غربا. فقد نبش العرب التاريخ بالترجمة بعد حلم المأمون، وكانت الكتب قد انتهت بعد أن تنصرت الروم. دونوا أحاديث العشق والعشاق بما في ذلك عشق الإنس والجن كما فعل الأصفهاني وابن حزم. وانضم المتكلمون والفلاسفة لزمرة المؤرخين.
15
وقام السريان بمهمة الترجمة، وساهم معهم ابن وحشية من الكلدان. وترجم عبد الله بن المقفع من اللسان الفارسي. ويذكر ابن النديم أسماء كتب الفرس، فلا فرق بين عرب وعجم. كما كتب ابن قتيبة كتاب «التسوية بين العرب والعجم» بالرغم من بيان الجاحظ فضائل العرب. والترك متعددو اللغات، وهي منتشرة في كل شرق أوروبا وغرب آسيا، وسط بين الشرق والغرب، مثل مصر وبابل منشأ العلوم.
16
ويذكر ابن النديم الهند وأسماء الكتب فيها مثل «سه الهندي»، وسائر الكتب في الخرافات والأسمار والأحاديث والفأل والزجر والجوارح والمواعظ والآداب والحكم. كما يعرض مذاهب الهند.
17
ويضم إليها السودان اعتمادا على الجاحظ ونظرا لتجاور أفريقيا والهند عبر المحيط الهندي. ويذكر الصين امتدادا لديانات فارس والهند. ويصف قلم الصين وطابعهم الحسي.
18
ونظرا لحضور الجناح الشرقي أكثر من الجناح الغربي، يقل الحديث عن اليونان والرومان والأرمن والإفرنج.
19
ويستشهد بقول سقراط في فضائل الكتب، وبأفلاطون وإقليدس لبيان فضل الخط، وبأرسطو مع العتابي وطريح بن إسماعيل والكندي وعبد الحميد لبيان فضل القلم. ويذكر بليناس الحكيم. ويورد أسماء كتب الروم في الأسماء والتواريخ واللغة. فلا فرق بين حضارة اليونان والروم. ويرى أن «الأيطومولوجيا»؛ أي علم الاشتقاق، وافد إلى اليونان من مصر.
20
وكان على وعي بوجود الغرب قبل ابن خلدون في هذا الوقت المبكر؛ فيتحدث عن قلم لذكبروه ولسكاه، أمة بين رومية والإفرنج يكتبون من اليسار إلى اليمين، وحروفها مستوية مثل الرومية.
21
ويضع ابن النديم الخطوط العامة لرسم شخصية الفيلسوف من خمسة عناصر، كما هو الحال عند السجستاني والبيهقي: (1)
الاسم والكنية وتاريخ الميلاد والوفاة والعمر. ويكون الاسم بالابن والأب، والكنية بالقبلية أو المكان أو المذهب أو المهنة. وتكون الوفاة بالسنة والشهر واليوم وأحيانا بالساعة. (2)
الأساتذة والتلاميذ والأصحاب، من أخذ عنهم ومن تتلمذوا عليه ومن صاحبوه. (3)
العصر الذي عاش فيه، والسلاطين الذين اتصل بهم. وتبدأ السيرة بلفظ «أخبار». (4)
الأخلاق والشيم والطبقة من العلم. (5)
المؤلفات وأسماؤها وتصنيفها وبيان أهميتها من حيث نشأة العلم وتطوره.
22
وقد فقد معظمها مثل كتب «خلق الإنسان»، والتي كان يمكن أن تجيب على سؤال: لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟ ولمن كتبت، لله أم للسلطان؟ وأحيانا يتم وصف الكتاب، حجما وخطا وأبوابا، بالرغم من غزارة التأليف بالعشرات وربما بالمئات للمؤلف الواحد، مما يدل على بزوغ المؤلف من ثنايا المؤلفين، وبداية ظهور النص كوحدة مستقلة للتحليل، سواء كانت القصائد أو الرسائل أو الكتب المصنفة في الكلام والفقه والأصول والفلسفة أو الحيوان وعجائب البحر، والإشارة إلى علماء لم يتركوا وراءهم مؤلفات وكأنها هي الأبقى بعد أن يذهب الأصحاب.
23 (2) المصنفات والمصنفون
وبطريقة أكثر علمية وموضوعية يدون «مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم» لأحمد مصطفى الشهير بطاش كبري زاده (968ه) الفلسفة بطريقة تقسيم العلوم أيضا، بحيث أصبحت الفلسفة جزءا صغيرا من كل، جانبا واحدا في منظومة المعرفة الشاملة. بالرغم من العنوان الإشراقي «مفتاح السعادة» والتسلطي «مصبح السيادة»، ولكنه دال على حياة العصر العقلية والسياسية.
24
والكتاب مقسم إلى سبع دوحات: العلوم الخطية، والعلوم اللفظية، وعلم الأذهان، وعلوم الأعيان، والحكمة العملية، والعلوم الشرعية، وعلوم الباطن. علوم اللغة أولا. والكتابة تسبق النطق، والتدوين يسبق الشفاه، والوجود العيني هو الحقيقي والذهني هو المجازي كما هو الحال عند ابن النديم. وعلوم الأذهان تشمل المنطق والجدل، وعلوم الأعيان تشمل العلم الإلهي والطبيعي (ولكل منهما فروع) والهندسة والبيئة والعدد والموسيقى. فالله والطبيعة من علوم الأعيان مع الرباعي الرياضي . والحكمة العملية تشمل الثلاثي المعروف: الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل. والعلوم الشرعية هي العلوم النقلية التقليدية، القرآن والحديث والتفسير والفقه وأصول الفقه مع أن أصول الفقه من العلوم النقلية العقلية وباستبعاد السيرة. وعلوم الباطن مثل «إحياء علوم الدين» للغزالي تضم العبادات والعادات ، والمهلكات والمنجيات. فكل علمين متقابلان. الخط واللفظ، الأذهان والأعيان، الشرع والباطن؛ أي التنزيل والتأويل، النظر والذوق، الظاهر والباطن، الجوارح والقلب. ونظرا لأهمية العلم والوعي به، فإن هناك مقدمة عامة عن فضيلة العلم، وشرائط التعلم، وشرائط العلم، والنظر والتصفية. ولفظ الدوحة لفظ صوفي. والحقيقة يمكن تصنيف الدوحات السبع كلها في طريقين؛ الأول تحصيل النظر، والثاني ثمرة العمل، ولكن يظل للعمل الأولوية على النظر كما.
25
ويوجد عدم تناسق بين الطرفين، الطرف الأول دوحات ست، والثاني دوحة واحدة في المجلد الثالث كله. كما لا يوجد تناسق في الدوحة السادسة عن الفروع إذ إنها تضم المجلد الثاني كله.
ومن حيث الكم يطغى التقابل بين العلوم الشرعية وعلوم الباطن، بحيث يعادلان خمسة أضعاف العلوم الخمسة السابقة. وهو تقابل أصيل غير دخيل، في الموروث وليس في الوافد.
26
كما أن العلمين الأولين، الخطي واللفظي من علوم اللغة، وهو أيضا من الموروث حتى قبل الإسلام. لا يظهر الوافد إذن إلا في التقابل الثاني بين علوم الأذهان (المنطق والجدل) وعلوم الأعيان (الإلهي والطبيعي، والرباعي الرياضي)، وربما في ثلاثي الحكمة العملية التي هي بين الموروث والوافد.
وقد يبدو التصنيف بناء على تحليل العلم من اللفظ إلى المعنى أو من المعنى إلى اللفظ، من الخط إلى الذهن، ومن الذهن إلى العين. كما يبدو أحيانا ابتداء من الصلة بين العقل والنقل. فالعلوم الاعتقادية مثلا متعلقة بالنقل (القراءات، رواية الحديث) أو بفهم المنقول (التفسير ودراية الحديث) أو تقريره وتشييده بالأدلة، الآراء في علم أصول الدين أو الأفعال في علم أصول الفقه أو استخراج الأحكام المستنبطة (علم الفقه).
27
وقد يكون التصنيف بناء على أن العلوم قسمان؛ معاملة ومكاشفة، أفقية ورأسية.
ويحتوي «مفتاح السعادة» على 322 علما، يأتي في مقدمتها علم اللغة، ثم علم التواريخ ، ثم علم الدواوين، ثم علم المحاضر. وفي المرتبة الخامسة يأتي علم المنطق (الميزان). وفي السادسة يأتي العلم الإلهي. وبعد ذلك يأتي علم النحو وعلم الكيمياء، ثم علم العروض وعلم آداب الملوك، ثم علم الطب ثم علم الجناس وعلم البديع وعلم أدوات الخط. وواضح امتداد علوم اللغة واختفاء علوم الحكمة.
28
وتظل الأولوية لعلوم اللغة والأدب، حوالي مائة وخمسين علما، في مقابل باقي العلوم كلها التي لا تتجاوز المائة.
أما بالنسبة لأسماء المصنفات، فمن مجموع 2065 مصنفا يأتي «الكشاف» للزمخشري في المقدمة، ثم «إحياء علوم الدين» و«الطبقات الكبرى» للسبكي، و«الصحاح» في اللغة للجوهري، ثم كتاب سيبويه، ثم «الشفاء» لابن سينا، مع «الإتقان» للسيوطي، و«صبح الأعشى»، ثم «جواهر القرآن» للغزالي، ثم «تهافت الفلاسفة». فواضح من هذه الأهمية أولوية علوم التفسير والفقه واللغة والتصوف والأدب قبل أن تظهر الفلسفة ممثلة في كتاب «الشفاء» ثم «التهافت»؛ أي نقد الفلسفة، ووضع «جواهر القرآن» بدلا عنها.
29
وقد اعتمد الكتاب على مصادر مدونة؛ فقد بعد هذا العصر عن المصدر الشفاهي إلا بالنسبة للمشايخ والتلاميذ. وبطبيعة الحال يظهر القرآن وخاصة الحديث كمصدر للتاريخ.
30
ثم تظهر بعض الأعمال الرئيسية؛ أي المصادر بلغة العصر مثل «الإحياء» للغزالي، «مناهج البلغاء» لحازم القرطاجني، «عوارف المعارف» للسهروردي. كما تظهر بعض المراجع من كتب التاريخ السابقة مثل «وفيات الأعيان» لابن خلكان، «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة. «تاريخ الإسلام» للذهبي، «طبقات الشافعية» للإسنوي، و«أخبار الحكماء» للقفطي.
31
والقرآن والحديث مصدران رئيسيان كما هو الحال في المقدمات الأربعة الأولى. كما يتدخل التوراة والإنجيل كمصدرين مكملين نظرا لوحدة المصدر في الكتب المقدسة.
32
ويتم أحيانا التحقق من صدق الروايات المستعملة كمصادر.
33
وتتنوع المصادر، فمثلا في بيان فضيلة العلم والتعليم يتم الاعتماد على الآيات والأخبار والآثار ودلائل يقتضيها العقل السليم.
34
وبعض العلوم قسمة أو تسمية تدل على وعي علمي بالتصنيف مثل علم الوضع،
35
وكما استعمل الشاطبي من قبل «أحكام الوضع». كما تدل بعض أقسامه على حالة العصر وحاجاته مثل الجنس كما هو الحال في العصور المتأخرة مثل كتاب النساء وعلم الغنج مع الرقص والموسيقى والآلات.
36
ويدل هذا التصنيف للعلوم على وعي علمي تاريخي وليس مجرد إحصاء كمي؛ فالتصنيف خبرة علمية معاشة.
37
كما يبدو الوعي التاريخي في الإحساس بالفرق بين المتقدمين والمتأخرين.
ويقع المؤلف في الاستطراد نظرا لخروجه عن الموضوع بقصد إعطاء أكبر قدر ممكن من المعلومات حوله، فيذكر به، ويحيل إلى السابق، ويعترف بالإطناب.
38
وفي نفس الوقت يتم الإغراق في الإيمانيات؛ فالله أعلم بالصواب والموفق للرشاد والمستعان.
39
والشعر أيضا كما هو الحال في المؤلفات المتأخرة مصدر من مصادر التاريخ. وهو ثقافة العرب الأولى قبل الإسلام وبعده في العصور المتأخرة. تعطي الشواهد الشعرية على أهمية العلم عامة والعلم المنقول خاصة بالرغم من التعامل مع العلوم بمنطق المدح والذم. ويعبر بالشعر عن أهمية علوم القرآن.
40
وتكثر الشواهد الشعرية في عديد من الموضوعات.
41
وأحيانا تأتي الشواهد الشعرية للمبالغات، مثل معجزات العلماء أو التشنيع على المعتزلة.
42
وبعد عرض العلوم تعرض المؤلفات أولا والمؤلفين من خلال المؤلفات ثانيا؛ فالعلم هو الوحدة الأولى، والمصنفات الوحدة الثانية، والمصنفون الوحدة الثالثة على شكل هرمي، مع حرص على الترتيب الزماني بغية وصف النصوص الأولى قبل شروحها وملخصاتها. فالأعمال هي وحدة التحليل قبل أن تتحول إلى أقوال. تبدأ السيرة بالعمل ثم بالمؤلف، ثم تأتي أعماله بلغاتها المختلفة.
وأحيانا أخرى يأتي المؤلف بعد العلم ثم المؤلفات بعد المؤلفين، مع حرص على التوالي الزماني نظرا لعلاقة المريدين بالمشايخ وطبقا لمفهوم الطبقات حسب الأهمية العلمية وليس الترتيب الزماني؛ فالعلماء لهم أنساب مما يدل على التواصل بين الأجيال.
وعيب هذه الطريقة دخول المؤلف تحت أكثر من علم، فقه وتاريخ، فالشخصية متعددة الجوانب. وقد يوصف جسم المؤلف نحيفا أم بدينا، قصير القامة أم مديدا، كما هو الحال في وصف الطبري.
43
وأحيانا تذكر الأعلام دون مصنفاتهم إعلانا عن نوع جديد من التدوين، وهي الأعمال دون المصنفات.
والغاية من تدوين العلوم غاية عملية وليست غاية نظرية، لذلك تذكر الفوائد الدينية للعلوم. ليس القصد مجرد وضع العلوم في نسق كلي كما كان الحال عند المؤرخين والفلاسفة الأوائل، بل مجرد تحقيق منافع عملية لعصر متأخر يغلب عليه التدهور والانحطاط. ومن الأفضل في كلتا الحالتين تصنيف الأسماء في مجموعات أقل من أجل التعرف على المدارس الفكرية التي تعبر عن بنية العلم. وقد كانت المصنفات في القرنين الأول والثاني شفاها في الغالب، ثم تحولت إلى مدونات في القرنين الثالث والرابع على الأقل فيما يتعلق بعلوم القرآن. وبدأ التراكم الفلسفي في الظهور في الشروح والهوامش والتخريجات على النصوص الأولى داخل الموروث وليس فقط مع الوافد، بل وتتم ثلاثة أنواع من الشروح: الكبير والوسط والصغير، البسيط والوسيط والوجيز قبل ابن رشد بالرغم من أن الشرح خطوة إلى الأمام والتلخيص خطوة إلى الوراء. الشرح امتداد والتلخيص انقباض. وفي علم رواية الحديث، البداية بالتأليف وليس بالمؤلف، بالطريقة الأولى وليس بالطريقة الثانية. وفي حالة المؤلفين تذكر بعض التواريخ للميلاد أو الوفاة أو للحوادث الكبرى أو على العموم في أوائل القرن أو وسطه أو نهايته. ومعظمهم معمرون.
44
ومن الموروث تتصدر مؤلفات الغزالي ثم الرازي ثم ابن سينا ثم الفارابي ثم ابن حيان وابن الهيثم ثم الطوسي ثم ابن النفيس. ولا يذكر من مؤلفات ابن رشد والبيروني ومسكويه وابن باجة وابن طفيل وأبو بكر الرازي إلا مؤلفا واحدا لكل منهم.
45
أما من حيث أسماء الأعلام فيتصدر الشافعي، ثم ابن عباس، ثم علي بن أبي طالب، ثم أبو حنيفة، ثم السيوطي، ثم أحمد بن حنبل، ثم عمر بن الخطاب، ثم مالك، ثم شمس الدين الذهبي. ولا يظهر أي فيلسوف إلا في المرتبة العاشرة مع أبي بكر. ويأتي الغزالي في المرتبة الثالثة عشرة، والتوحيدي في السابعة عشرة، وابن سينا في المرتبة السابعة والعشرين، والفارابي في المرتبة الثامنة والثلاثين، والكندي في المرتبة الواحدة والأربعين، وحنين بن إسحاق في المرتبة الثالثة والأربعين، وابن البيطار وابن حزم وابن خلدون في المرتبة الأخيرة الرابعة والأربعين. أما ابن رشد فلا ذكر له تقريبا مما يفسر انحسار الفلاسفة عن العلوم وتواري الفلاسفة.
46
وقد يكون ابن رشد قد توارى فعليا داخل العالم الإسلامي بعد محنته في الأندلس وسيطرة الدولة العثمانية على مظاهر الحياة العلمية في البلاد. ثم حيا السلطان معركة «التهافت» و«تهافت التهافت» تعيد لابن رشد صورته وحضوره. إنما غاب من كتب التدوين ربما لأنه أسطورة خلقها الرشديون اللاتين وعداء الكنيسة له، وربما لأثره على نشأة العصور الحديثة في الغرب، وربما من صنع المغاربة وقريبا لابن خلدون تحت وهم الخصوصية والقطيعة.
وتذكر محنة الفلاسفة والمتكلمين مثل عضد الدين الإيجي الذي مات مسجونا، واتهام مؤيد الدين الطغرائي وقتله حسدا وخوفا من فضله، وقتل المقتدر لابن المعتز، وقتل الباخزري في مجلس أنس.
47
وقد تكون المحنة وجودية بمرض أو موت طبيعي.
48
وقد يظهر ذلك في رنة حزن وأسى في أسلوب المؤلف «إنا لله وإنا إليه راجعون»، و«لا حول ولا قوة إلا بالله». والحديث عن الغزالي هو أطول الأحاديث مع إعطائه لقب المناضل عن الدين مع بيان لأساتذته الإسماعيليين بالرغم من كتابته «فضائح البطنية»، وحدوث رؤية له، واقتباس نص من «المنقذ من الضلال»، لوصف سيرة حياته الذاتية.
49
مع أنه منذ بدأ تأليف «الإحياء» بدأ الرد عليه.
وواضح أن جغرافية الفكر الإسلامي كلها من الموروث، وتتصدر العراق بغداد والبصرة والموصل والكوفة، ثم الشام دمشق وحلب وبيت المقدس، ثم الحجاز مكة والمدينة وبدر، ثم مصر القاهرة، ثم آسيا خراسان ونيسابور وأصبهان وسمرقند وبخارى والري وخوارزم وهراة وبلخ. ولا يكاد يذكر من جغرافية الوافد شيئا. فالحضارة كلها تنبع من البيئة الإسلامية، مدنها ومدارس تعليمها.
50
ويبدو أيضا ضعف الجناح الشرقي؛ فلم تذكر الهند والصين إلا نادرا. فيحكى أن أهل الصين والروم في زمان قديم تباهوا في صناعة النقش، كما أتى علم خواص الإقليم من الهند. ووجد في بلاد الهند، طبقا للخيال الشعبي، حجر منقوش عليه بالعبرية. وقد اختلفت طرق الهند في علم السحر بين تصفية النفس كما هو واضح في كتاب «مرآة المعاني في إدراك العلم الإنساني»، وعن طريق النبط ثم عمل عزائم في أوقات مناسبة كما هو واضح من كتاب ابن وحشية.
51
ومن مصادر الموروث وتاريخه القديم تذكر أيضا طريقة العبرانيين والقبط والعرب في السحر، وذكر أسماء مجهولة المعاني كأنها أقسام وعزائم يزعمون أنهم يسخرون بها ملائكة قاهرة للجن.
52
أما بالنسبة للكلام فقد لعن الله اليهود والنصارى والمجوس والقدرية والخوارج والروافض والزناة وآكلي الربا والظلمة.
53
كما ينقد الاعتزال لأن أفعال الله مخلوقة له، ومكتسبة للعباد، ومرادة له، ومتفضل عليها بالحق. وله تكليف ما لا يطاق، وله إيهام البريء، ولا تجب عليه رعاية الأصلح، فلا واجب إلا بالشرع. وبالرغم من الصلة الوثيقة بين الفقه والاعتزال، إلا أنه يتم الهجوم على الاعتزال في عرض تاريخي غير موضوعي لعلم الكلام.
54
ويتهم الاعتزال ظلما. التفسير الاعتزالي تهمة مثل «الكشاف» للزمخشري بالرغم من الاعتراف بأنه «معتزلي قوي في مذهبه مفتخر به».
والمنطق جزء من الكلام وليس من الفلسفة؛ لأن الفلسفة مخالفة للشرع، أكثرها الإلهي والطبيعي وكل الرياضي، فلا مانع منه مثل الحساب إلا أن يستدرج إلى مانع، وهو نفس موقف الغزالي.
55
والكلام داخل تاريخ الفقه. الفقه هو العلم الشامل كما كانت الحكمة في الأيام الخوالي. يرد الكلام إلى الفقه. ورئيس أهل السنة في الكلام رجلان، أحدهما حنفي والآخر شافعي. والفقه علم نقلي خالص؛ ومن ثم ينقد صلة الفقه بالاعتزال خاصة وكل فقه الفرق عامة، فقه المعتزلة والخوارج والشيعة.
56
ويضيع الموروث العقلي خاصة الموروث الفلسفي وسط الموروث النقلي خاصة القرآن والحديث والفقه. وتكاد تغيب الفلسفة كلية إلا من الهجوم عليها وتكفيرها، متكلمين وفلاسفة. الفلسفة ضد الارتقاء إلى أعلى لأنها ضياع الإيمان، وبالتالي تدفع إلى الاتجاه إلى أسفل. والحكمة تمويه، اخترعها الفارابي وابن سينا وجملها الطوسي. وقد سموا أنفسهم حكماء الإسلام وهم أعداء الله والأنبياء والرسل، تخالف الشرع. كلها دراسة ترهات وضلال، فهي مذمومة. وقد حرمها ابن الصلاح في فتاويه في العصر السابق.
57
الفلاسفة محرفون للشريعة عن مواضعها، لا يحفظون القرآن ولا الحديث، يتجملون بالشريعة خوفا من المسلمين، ولا يعتقدون بالشرع، ويهدمون قواعد الشرع وينقضونها، فالحذر منهم. ويحرم الاشتغال بالحكمة. فالحكمة ضارة بالمسلمين واليهود والنصارى. شرط الفلسفة عدم مخالفة الشريعة وعدم مزج الفلاسفة بكلام العلماء، فالمتكلم هو العالم والمقياس. والفلسفة بعد ابن رشد كلها شروح على المتقدمين. ولا يكاد يذكر ابن خلدون.
ويغرق الموروث في التصوف، وتكثر الأدعية والشحاذة، وما يسميه إقبال فلسفة السؤال، ومعظمها أدعية فردية لمكاسب شخصية، ولا تعبر عن مصالح الأمة وهمومها وقضاياها الكبرى. بل إن أدعية الرسول مشابهة لأدعية الصوفية مثل أدعية الصحابة. وتكثر لدرجة أنها تبتلع أسماء المؤلفات والمؤلفين، وهما الغاية من التدوين. أصبح الخضر بديلا عن ابن رشد، والدعاء يتناقض مع الإيمان والقضاء والقدر. فإذا كان كل شيء مقدرا مسبقا فما فائدة الدعاء؟ وقد كان هذا هو حال العصر، الدولة العثمانية والدفاع عن مصر ضد الاحتلال الفرنسي بقراءة البخاري في نفس الوقت الذي كان الغرب فيه يفكر ويعمل ويجد. وينتهي العلم ويصب في الدين، وينتهي الانفتاح الحضاري ويبدأ الانغلاق على الذات. ويرث الآخر مسار التاريخ بعد أن خرج منه الأنا. وتكبل الحياة بالدعوات كما هو الحال في الاتجاهات التقليدية حتى لا يكاد يخلو فعل من دعاء حتى ولو كان الجماع. ويتحدث الرسول للصوفية ويظهر لهم في مناماتهم تأكيدا لشرعية العلم. والصوفية كلهم شافعية نظرا للرابطة الجوهرية بين التصوف والأشعرية منذ الغزالي. ويرتبط التصوف بالشعر، فكلاهما إبداع وجداني، عود إلى الروح العربية بعد انتهاء الإبداع الحضاري في العلوم العقلية والطبيعية.
58
والتصوف ليس مجرد علم، بل هو طريق ومنهج وأسلوب حياة ونظرة كلية للعالم. فالشعائر لها جوانب صوفية. والاستعداد ليوم الجمعة يوم الخميس مساء مجاز. وفقه الوجود مسبوق في «قوت القلوب». ويتجاوز التصوف العلاقة التجارية مع الله في الثواب والعقاب وعدد الحسنات المضافة، والسيئات المخصومة، والتحول من مكان الصلاة إلى زمانها.
59
وعلوم القرآن معظمها مستمد من أبواب علوم القرآن التقليدية ولا جديد فيها، كل جزأين فيه علم حتى لقد تصل الأبواب في السيوطي والزركشي إلى مئات العلوم، وضياع أهم موضوعين «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ» اللذين يبينان ارتباط الوحي بالمكان والزمان في زحمة باقي العلوم. وتبين أمثال القرآن، كما تبين أحاديث الرسول تطابقها مع جمهرة أمثال العرب.
60
والقرآن يحيل إلى العلم ويدفع إليه . كما يتوجه نحو القراءة والتدوين عن طريق القسم بالقلم.
61
وبالرغم من قلة القرآن والحديث في الدوحات لأنها بنيات عقلية ثم إحصائية يتم الاستشهاد بالقرآن في علم الفراسة وفي علم النحو والاستقامة والاعوجاج، وعلم الاهتداء بالبراري والقفار، وعلم الفأل، وعلم الهيئة، وكذلك علم العدد، وعلم خواص الأعداد التامة والمتباعدة، وعلم السياسة وآداب الوزارة.
62
ويستعمل الأسلوب القرآني الحر كنموذج للأسلوب العربي. ويتم اكتشاف منهج السؤال والجواب في صياغة الآيات. الواقع يسأل والوحي يجيب مؤيدا إجابات الواقع ومختارا بينها أو مكملا لبعضها. وقد تحول القرآن في العصور المتأخرة من موضوع للعلم إلى أحجية وطلسمات للشفاء، وإلى وثنية ورقية خطية مرئية، وتقبيله مثل الحجر الأسود، زينة للعرف ومحلى بالذهب والفضة والقطيفة الحمراء في صندوق مرصع بالجواهر:
لا يمسه إلا المطهرون .
63
وتعطى تفصيلات عديدة بحيث تختفي بنية العلم وغايته ويصبح غير قابل للاستعمال. وبالرغم من ترقيم بعض قواعد التفسير إلا أنها لم تتحول إلى منهج عام. ومعظمها قواعد لغوية نحوية، وكأن التفسير مجرد علم يتعلق باللغة، وكأن اللغة عالم مستقل بذاته لا صلة لها بالعالم، ولا شأن لها بالأهواء والرغبات عند المفسر ولا بالمصالح الجماعية للطبقات الاجتماعية. لذلك تتداخل علوم القرآن مع علوم النحو وعلم أصول الفقه في المبادئ اللغوية، وكأن الغاية هي مجرد بيان البلاغة في القرآن والحديث إلى حد الوقوع في الدور، تفسير القرآن باللغة، وتفسير اللغة بالقرآن. وأكثر الشواهد القرآنية في التفسير والتأويل، وجه الحاجة إلى التفسير، شروط المفسر وآدابه، غرائب التفسير.
64
وتعرض مناهج التفسير لأن التفسير مرتبط بالعلوم. فهناك التفسير النحوي، همه الإعراب (الزجاج، الواحدي، أبو حيان)، وهم التفسير الإخباري القصصي الإخبار عمن سلف صحيحا كانت الرواية أم باطلة (الثعلبي). والتفسير الفقهي يستنبط الأحكام الفقهية والأدلة على المخالفين (القرطبي). والتفسير العقلي مملوء بأقوال الحكماء والفلاسفة لدرجة الخروج على الآيات، به كل شيء إلا التفسير (الرازي)، والتفسير الابتداعي يقوم على تحريف الآيات وتسويتها على المذاهب الفاسدة. والتفسير الإلحادي هو تفسير الصوفية والشيعة (أبو طالب المكي، الكرماني، محمود بن حمزة). والتفسير الصوفي ليس تفسيرا اعتمادا على ابن الصلاح وفتاويه (السلمي، ابن عطاء الله). ويسهب في تفصيل تفسير الرازي لأهميته.
65
وللمفسر شروط: مطابقة المفسر، تجنب ألفاظ الحكاية عن الله، التحرز من إطلاق الزائد على بعض الحروف، التحرز من إطلاق لفظ التكرار. وله علوم ضرورية: اللغة ، النحو، التصريف، الاشتقاق، المعاني، البيان، البديع، القراءات، أصول الدين، أصول الفقه، أسباب النزول، القصص، الناسخ والمنسوخ، الفقه، الأحاديث المبنية لتفسير المجمل والمبين، علم الموهبة اعتمادا على حديث «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لا يعلم». وهي علوم تجمع بين اللغة والقرآن والحديث والفقه والتاريخ.
66
وعلم التفسير على أقسام: إما سر لله أو سر للنبي أو ما أعلنه النبي للناس. وهو إما بالسمع وإما بالعقل سواء اتفق عليه كاستنباط الأحكام أو اختلف في جوازه مثل تأويل المتشابه. وما عدا ذلك فهو التفسير بالرأي من غير حصول علوم التفسير أو تفسير المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو التفسير المقرر للمذهب الفاسد عندما يكون المذهب أصلا والتفسير فرعا، أو تفسير مراد الله على القطع من غير دليل، أو التفسير بالاستحسان والهوى. وأين مناهج التفسير السياسي، مناهج التفسير ومصالح الأمة التي فيها يصبح التفسير جزءا من المعارك الاجتماعية؟
67
ومع ذلك تدخل الإسرائيليات كمادة متاحة لتفسير قصص الأنبياء ما دام التفسير تاريخيا، وما دامت الإسرائيليات متاحة في الثقافة في شبه الجزيرة العربية. ويبدو القرآن مجرد عقائد، إلهيات ونبوات ومعاد وقضاء وقدر كما هو الحال عند الرازي، لا شأن له بالسلوك الفردي والجماعي. وقد يؤدي ذلك إلى نوع من إباحية السلوك ما دامت العقائد منفصلة عنه، لها عالمها المستقل المنفصل عن السلوك في العالم أو إلى نوع من الاستسلام للقدر العام للوح القضاء والقدر المحتوي على ما كان وما يكون كليا وجزئيا. ولم يتم تطوير «علم الجفر والحدثان»، وهي إحدى صور فلسفات التاريخ القديمة وعلم الأدوار والأكوار. وقد تم التوسع قليلا في مفهوم الوحي. ويكلم جبريل غير النبي أو يسمعه مثل ابن عباس.
68
كما يمكن تطوير استقلال العالم عن السلطان فلا يدخل إليه حتى لا يقع في الغواية وتبرير ظلمه، ويستبعد ما يقال عن الأدب مع السلاطين.
69
ويؤخذ علم الحديث باعتباره نموذجا للتدوين الصحيح من حيث دقة الرواية؛ فقد جمع أبو داود 50000 حديث، تقلصت إلى 40000، ثم إلى 8000، ثم إلى أربعة آلاف حديث .
70
وتؤيد الأشعرية كمذهب رسمي بأحاديث مروية في فضائل الأشعري وكأن الرسول يتنبأ بالغيب؛ فقد ظهر الرسول له في المنام وطالب بنصرة المذاهب المروية عنه، فإنها الحق. ويمده الله بمدد من عنده تمنعه من الخطأ، فروى «الإمامة من قريش»، «قدموا قريشا ولا تتقدموا عليها».
71
وقد تتمثل شجاعة القدماء في فصل السند عن المتن في الحديث، ويتم استعمال الأحاديث غير الموقوفة على السند إبقاء للمتن.
72
ويبدو صدق المتن حينئذ في صدق التجربة البشرية التي وراءها والتي يرتكز عليها. كما يدل الحديث القدسي على صعوبة الفصل بين كلام الله وكلام البشر بوجود كلام متوسط بين الاثنين. وأحيانا يستعمل الحديث على نحو مرسل دون تنصيص كجزء من الخطاب الحر، كما هو الحال في استعمال الآيات. الحديث هو روح الوحي والعقل البديهي والطبيعة الخيرة والواقع المعاش. وحسن صوت النبي جزء من دعوته؛ فالسمع أقرب إلى القلب من العقل. لذلك يتداخل علما التفسير والقراءة.
73
وقد تحول علم الحديث كما تحول علم القرآن إلى وثنية بتقديس كتب الحديث واستعمالها؛ فالانكباب على كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» في أيام الوباء نافع ومفيد؛ بل إن الرسول نفسه يقوم بعمل أحجية لتقوية الإيمان وشفاء المرضى، حقيقة بدنية أم إيحاء نفسيا، هذا هو السؤال. ليست وظيفة الأحاديث الإخبار بالغيبيات؛ بل بيان العمليات. فالحديث لا يعطي أصلا جديدا، ولكن يبين طرق التطبيق، ويعطي بعض التفصيلات الجزئية. ويعتمد علما القرآن والحديث على بعضهما البعض، إثبات القرآن بالحديث، وإثبات الحديث بالقرآن، إثبات فضل السنة بالقرآن وإثبات فضل القرآن بالسنة مما يوقع في الدور أو تحصيل الحاصل.
74
بل إن كثيرا من جوانب الفقه القديم يمكن تغييرها، مثل ملازمة المسجد حتى العصر، وهو ما يناقض القرآن بالانتشار في الأرض بعد أداء الصلاة.
75
ويسهب في عرض الفقه القديم. وتتكرر المادة الفقهية لدخولها في أكثر من علم. ويطول عرض أبي حنيفة. ولم يأخذ أي من الحكماء نفس المساحة التي أخذها الشافعي (ص11). وهو علم نقلي خالص لم يقع الاجتهاد فيه؛ ومن ثم تغيب عنه الأسس النظرية. ولا يعرض إلا للشافعية والحنفية وكأنه لا يوجد فقهاء مالكية وحنابلة، المصلحة والظاهر ونوادر الأئمة هي نوع من التحايل الفقهي. ويعرض فقه باقي الأئمة مثل فقه محمد بن الحسن الشيباني في مذهب مستقل.
ويغرق الموروث في الفقه، فقه الأشكال والرسوم وموت الحياة والغسل والكفن وإخراج الفرح والتزين إلى دائرة المحرمات.
76
والصلاة صلاة المودع وليست صلاة الفرح. ولا يؤخذ من القرآن إلا آيات الحزن دون الفرح، ولا يؤخذ من الحديث إلا أحاديث البكاء والحزن. وكلها عادات عربية، سنة عادة وليست سنة عبادة مثل إطالة اللحى، أو من أجل التمايز مع الطوائف الأخرى مثل خضاب الكفار، اللحية والسواد. والسؤال الآن: ما فائدة هذه العلوم كلها وقد انقضى عصرها وقدمت عادتها وتغيرت العصور والأزمان من مرحلة تاريخية أولى إلى مرحلة تاريخية ثانية، من النصر إلى الهزيمة، ومن الفتح إلى الاحتلال، ومن مركز العالم إلى هامشه؟ لقد استقرت هذه العلوم وانتهى عصرها والغاية من وضعها مثل القراءات بالرغم من وجود أصوات جديدة لدى المسلمين في أفريقيا وآسيا وأوروبا. هناك إحساس عند طاش كبري زاده بدورات التاريخ، حتى ولو كانت مرتبطة بالأشخاص.
77
وهو فقه مفعم بالتصوف، فالعلم هو الفقه والتصوف؛ فأبو حنيفة صاحب مقامات وعلى اتصال بعالم الباطن. ورأى الشافعي الرسول في النوم، ووضع النبي من فيه على لسانه وفمه وشفته: «امش بارك الله فيك» من أجل تأكيد سلطة الشافعي. وقد كان لدى المؤرخين إحساس تاريخي بالعصر والزمان. واستمرار العلوم النقلية في التاريخ بعد الاختفاء التدريجي للعلوم العقلية يدل على نفسها الطويل، وأنها هي المخزون النفسي المستمر عبر التاريخ. بينما لا تنشأ العلوم العقلية إلا في لحظات الازدهار الحضاري.
78
أما الوافد الغربي فقد بدأ يتوارى أيضا بحيث لم يعد له وجود إلا بصيصا من ضوء في ليل بهيم، فأصبح لا يمثل إلا نصف في المائة (0,5٪) من مجموع أسماء الأعلام. ومع ذلك يأتي أرسطو في المقدمة ثم الإسكندر ثم إقليدس ثم أرشميدس وسقراط، ثم بطليموس وأبقراط الحكيم، ثم أرمانوس وأقليمون وإيرن ومنوفلس وزينون وفيثاغورس وفيلن. حتى هرمس الذي كانت له الصدارة أولا نموذجا للقاء الحضاري بين مصر واليونان وبابل والأنبياء أصبح في الدرجة الأخيرة.
79
أما من حيث المصنفات فلم يعد الوافد يمثل أكثر من 1٪ من مجموعة المصنفات، سبعة عشر مصنفا، مع شرح واحد لأحدها. ويأتي في الصدارة السماع الطبيعي وكتاب النفس وكتاب نيقوماخوس لأرسطو، ثم المجسطي، وتسطيح الكرة لبطليموس، وعلم المناظر والهندسة لإقليدس، ثم طيماوس لأفلاطون الذي يعزى إلى أرسطو نظرا لسيادة صورة أرسطو، وإيساغوجي وتدبير المنزل لبروش وديسقوريدس وكتاب علم جر الأثقال لإيرن، وأكر ساوذوسيوس، وأكر مالاناوس، وكتاب بروشن في تدبير المنزل، وكتاب الفراسة لأقليمون، وكتاب هروشيش اللاتيني الوحيد. كما بين أفلاطون الإلهي خواص الأعداد المتحابة والمتباغضة.
80
أما من حيث الأماكن فقليلة للغاية لا تتعدى ستة أسماء لا تتكرر، خمسة من اليونان: اليونان وأثينس وأثينا وفرغاموس وغلس، واسم واحد من الوافد الشرقي بابل.
وتصبح صورة اليونان تلك الحضارة التي تمارس السحر مثل الهند، عن طريق تسخير روحانية الأفلاك والكواكب كما هو واضح في كتاب الوقوفات للكواكب.
81
ويكثر الوافد في الدوحة الثانية في العلوم الباحثة عما في الأذهان من المعقولات، وتشمل علمين؛ الأول علوم آلية تعصم من الخطأ في الكسب، وهو علم المنطق أو علم الميزان. والثاني علوم تعصم عن الخطأ في المناظرة والدرس وتشمل آداب الدرس والنظر والجدل والخلاف.
82
وتظهر الثقافة اليونانية عن بعد، بعد انقضاء سبعمائة عام كما نتكلم نحن الآن عن ابن خلدون وابن تيمية. يظل الحديث عن الوافد اليوناني قليلا.
83
ثم بعد ذلك تمثل الموروث له عند ابن سينا والفارابي.
ويستعمل الوافد للاستشهاد به على بعض الموضوعات؛ فهو وسيلة وليست غاية، دليل على موضوع وليس الموضوع ذاته، مثل الاستشهاد بأفلاطون على أهمية العلم. كما يستعمل الوافد كرواية تخبر عن شيء وتنقل خبرا، مثل الاعتماد في شرائط المتعلم ووظائفه على رواية زينون عن أرسطو عن أفلاطون عن سقراط أسوة بالسند في علم الحديث.
84
وأحيانا يكون الوافد مجرد تاريخ وخبر بلا دلالة أو توظيف، بقايا معلومات قديمة بلا علم مثل الإشارة إلى كتاب أرسطوطاليس باعتباره من الكتب الناقصة في العلم الطبيعي، وإلى أبقراط الحكيم باعتباره أول من دون الطب. ولا يوجد أعلم بعد أرسطو في العلم الطبيعي من أبقراط وجالينوس، وذكر علم الفراسة لأقليمون، وعلم المرايا المحرقة لدنوفلس، وعلم جر الأثقال وبرهان إيرن، وكتاب المساحة لإقليدس وعلم المناظر مختصر لكتاب إقليدس، وكتاب المجسطي لبطليموس. ومن الكتب النافعة علم الأكر المتحركة، أكر مالاناوس، وأكر ساوذوسيوس. ومن الكتب القديمة كتاب تسطيح الكرة لبطليموس، وكتاب بروش في علم تدبير المنزل.
85
وهي كلها كتب نافعة في علومها دون أي عرض نظري لأهميتها من حيث هي علم. وهي مجرد تطبيقات عملية لعلوم لا تهم أسسها النظرية. وتذكر بعض كتب الموروث الشارحة للوافد مثل تحرير خواجة نصير الدين الطوسي لكتاب إقليدس.
86 (3) تصنيف العلوم
وإذا كان تقسيم العلوم قد بدأ عند ابن النديم بأولوية علوم العرب قبل الإسلام، اللغة والشعر على علومهم بعد الإسلام، فإن القرن السابع شاهد طغيان ذلك حتى أصبح اللغويون وحدهم هم العلماء. (أ)
حدث ذلك في «مفتاح العلوم» للسكاكي (626ه)؛
87
إذ تنقسم العلوم إلى ثلاثة أقسام: الصرف، والنحو، والمعاني والبيان (البديع، الاستدلال، العروض، القافية).
88
وكلها علوم اللغة والشعر، علوم العرب ونهاية علوم العجم، الموروث ونهاية الوافد، الجاهلية الأولى ونهاية علوم الحضارة العقلية والنقلية والعقلية النقلية. تعود الحضارة إذن إلى أصلها الأول الذي خرجت منه، اللغة والشعر، والذي حاول الوحي وراثتهما وتطويرهما إلى علوم إنسانية. ويأتي علم الأصوات في مقدمة علوم اللغة كما هو الحال في اللسانيات الحديثة في الغرب مع الإحالة إلى أئمة اللغة ابن جني وسيبويه والخليل.
ويظهر القرآن باعتباره الميدان التطبيقي لعلم اللغة. شعار الكتاب آية:
كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون . فالقرآن لغة عربية مكتوبة بلغة العرب. وإذا كان فيه شواذ، فالشواذ في اللغة والعروض. القرآن حجة لغوية على غيره. لا يصحح القرآن طبقا لقواعد اللغة، بل تصحح اللغة طبقا للغة القرآن. القرآن والشعر شواهد لغوية. وخير تفسير للقرآن هو التفسير اللغوي. وكأن الإنسان في حاجة إلى كل هذه القواعد اللغوية لفهم القرآن، وكأن العلم علم مستقل بذاته مثل عالم الخطاب في علم تحليل الخطاب في الغرب المعاصر.
89
ويظل القرآن نموذج الشعر العربي وأوزانه. والآيات القرآنية على أوزان الشعر العربي وقوافيه.
90
فالقرآن لغة وشعر طبقا لقواعد اللغة وبحور الشعر. وتذكر الآيات القرآنية بالمئات كشواهد خاصة في علم المعاني والبيان في مقابل حديثين نبويين. كما تكثر العبارات الإيمانية التي يرد فيها العلم البشري كله إلى العلم الإلهي.
91
ولم يبق من الوافد الذي يتراءى عن بعد من ذكريات الماضي البعيد إلا أسلمة جالينوس مرة واحدة؛ فقد كان ماهرا في الطب، وختم القرآن في التراويح سنة. ويشير إلى كتاب «الجواهر» وإلى «صوان الحكم» دون تحديد السجستاني أو البيهقي.
92
لا يعني ذلك أن السكاكي عالم لغة قدير فحسب؛ بل له دلالة حضارية أعمق في تطور العلوم وتصورها وتدوين التاريخ. (ب)
وكما وضعت علوم اللغة والشعر حدا للعلوم العقلية بل والنقلية، سطت العلوم النقلية على العقلية في «مفيد العلوم ومبيد الهموم» للخوارزمي المتأخر. والفلسفة في الحالتين هي الخاسرة. وبصرف النظر عن المؤلف، وهل الكتاب منحول عليه أم لا، وبصرف النظر عن مكانه مغربيا أو شاميا، فإن النص دال على عصره المتأخر، خاصة بحديثه عن الإفرنج.
93
ولا يوجد تصور لتقسيم العلوم إلا من رصد اثنين وثلاثين كتابا دون ترقيم مما يدل على غياب النسق، معظمها موضوعات فقهية داخل علم الفقه.
94
ويمكن تجميع هذه الكتب في عدة علوم طبقا للأهمية الكمية: الفقه، والكلام والتصوف، والتاريخ والطبيعيات، والحديث.
95
كما يلاحظ غلبة العلوم النقلية وغلبة الفقه عليها، والحديث أقلها، وغلبة التصوف والكلام على العلوم النقلية العقلية، وغلبة الكلام على الفلسفة، وظهور الطبيعيات وحدها، الطب والجغرافيا والتاريخ، دون منطق أو إلهيات طبقا للقسمة الثلاثية لعلوم الحكمة، وغياب الوافد كلية وكأنه لم تكن له الصدارة قبل ذلك بعدة قرون. بل تغيرت بعض الأسماء العقلية إلى إيمانية مثل موضوعات علم الكلام دون تسميته مثل قواعد الدين الذي يشمل نظرية العلم أساسا، وكتاب أحكام النبوة الذي يتناول موضوع النبوة، وكتاب الغرائب الذي يشمل بعض أمور المعاد مثل العقل والروح والثواب والعقاب، وكتاب الرد على الكفرة ويتناول الفرق غير الإسلامية، وكتاب المناظرات الذي يتكرر مرتين وهو أقرب إلى منهج الكلام، وكتاب فتن آخر الزمان عن أشراط الساعة. يشمل علم الكلام سبعة كتب تدور حول الله والرسول، وكما هو الحال في علم العقائد المتأخر. وتظهر بعض المسائل الأخلاقية التقليدية مثل آداب الضيافة، ومقاومة الرذائل مثل الكذب والغيبة والغضب والحسد والبخل والحرص والطمع والخيانة والجشع والكبر والعجب والرياء ومذمة الخلق، وبعض المسائل التقليدية مثل تحريم أواني الذهب والفضة وكتاب الجهاد. أما العقلاء فلهم سلوتهم بالحوادث ومخاطبة النفس وتسلية النفس لموت الأقارب وتسلية الله لعباده.
96
والكتاب تجميع لا تأليف كما هو الحال في العصر العثماني، عصر الشروح والملخصات والموسوعات، عصر التدوين الثاني بعد أن توقف العقل عن الإبداع، وبدأت الذاكرة في التدوين. تغلب عليه الحجج النقلية كما هو الحال في الحركة السلفية المتأخرة؛ بل إنه مجرد مجموعة من الآيات والأحاديث المتراصة بعضها فوق بعض، ولا تكاد تخلو صفحة واحدة منها. هناك بقايا عقلانية تتراءى عن بعد، من ذكريات عصور خلت، مثل أن أول ما يحجب عن المكلف النظر كما هو الحال في علم أصول الدين، والبداية بسلطان العقل وحاكم الشرع، ولكنها لا تصمد أمام طوفان الحجج النقلية. ويمكن معرفة مناهج التفسير وكيفية استعمال الأدلة النقلية مثل:
اهدنا الصراط المستقيم .
97
كما أن الأحاديث المروية قد لا تكون صحيحة كما هو الحال عن الصوفية، بدليل غياب السند والاكتفاء بعبارة «وفي الخبر». كما يدل طول الحديث على انتحاله.
ويأتي النص الشعري مؤازرا للنص الديني؛ فالشعر قبل الإسلام يعادل الوحي بعده، ويقومان بنفس الوظيفة، المصدر المركزي للمعرفة. لذلك نصح عمر بن الخطاب: «عليكم بشعر جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم.» وتتوارى العلوم الإسلامية العقلية، والعقلية النقلية، هذا الإبداع الحضاري لحساب المركز الأول كما تفعل الحركة السلفية من أحمد بن حنبل حتى محمد بن عبد الوهاب.
98
وتغلب النزعة الصوفية الأخلاقية على الكتاب. ويبدو ذلك من العنوان «مفيد العلوم ومبيد الهموم»؛ فالخطاب موجه إلى الفرد والجماعة والأمة لإصلاح الأخلاق، خطاب عملي وليس خطابا نظريا، ديني وليس علميا، باطني وليس عقليا. يتوجه الخطاب إلى الذات وليس إلى الموضوع؛ لذلك تغلب عليه روح العجائب مع أن العلم لا عجائب فيه، ليس فقط في باب واحد بل في الكتاب كله بما في ذلك غرائب الفقه وعجائب البلدان، التاريخ والأرض والمدن ببابل والحيوانات والبحار والأنهار والأحجار والقضاء.
99
والشيطان هو الذي يعلم الدين مما يدل على الخيال الأدبي. ويصوغ الخيال الإبداعي مناظرة بين أهل القبور وأهل القصور. وتثبت النبوات بالمعجزات وكلها من صنع الخيال، في حين أن إثبات النبوة لا يحتاج إلى معجزات. ويقوم الأولياء بالكرامات، وتتحول الرسالة إلى الرسول والنبوة إلى النبي في مسار تشخيص للأفكار،
100
كما تبرز النساء باعتبارها إطارا مرجعيا لأشخاص كما هو الحال في عصور الانحلال.
101
ولا يجدون في الرسول إلا مزاحه وأزواجه ونكاحه، وآداب النكاح ومعاشرة النساء وصحبتهن وجواز العزل، وشهوة الفرج، وأن كل النساء يتساوون بالليل، وقدر ما تصبر المرأة بعيدا عن زوجها. وفي كتاب الباه تعطى الوصفات والمراهيم لكثرة الجماع وزيادة المني.
102
كان يمكن تطوير بعض الموضوعات القديمة فيما يتعلق بالحقوق والشريعة. في رأي بعض المعاصرين تعطى الأولوية للواجبات على الحقوق، فالواجبات على العباد، والحقوق لله أيضا على العباد كما عبر محمد بن عبد الوهاب في «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد» في مقابل «الواجبات العقلية» عند المعتزلة.
103
والتكفير هو الحكم الغالب على الكتاب للوافد والموروث على السواء. وأكبر الكتب كما هو كتاب «الرد على الكفرة»، ويدعو إلى العصمة من البدع والكفر والطغيان، وأن يغرق الله كتبهم بمياه الطوفان!
104
وأولهم الفلاسفة لجعلهم النبوة مكتسبة، وقولهم بأنه لا يمكن عن طريق الرياضة وصفاء النفس الوصول إلى عالم الروح، ومنه إلى عالم الملكوت، ومنه إلى عالم الغيب.
105
وبالإضافة إلى الفلاسفة الإشراقيين يتم تكفير أيضا الفلاسفة الطبيعيين كما فعل الأفغاني من الوافد من الغرب والشرق ومن الموروث على حد سواء.
106
الفلاسفة قوم من اليونانيين تحذلقوا في المعقولات فتحيروا في الإلهيات، وبنوا مقالاتهم على التشهي والدعاوى. ويدعون أنهم أحكم الخلق، ويدل مذهبهم على عكس ذلك. كانوا يدعون إلى قطع النسل وكأنهم من الرهبان، واطلع الله سراءهم فأغرق كتبهم بسيل عرمرم! اعتقدوا أن الآلهة ثلاثة: المبدأ والعقل والنفس، وينفون الصفات، ويعتبرون الحركة أزلية، وأصل العالم الهيولى، أزلي قديم، بسيط قبل أن يعرض له التركيب، الفلاسفة كفار، واليونان في ضلال، يقولون إن الثواب والعقاب للروح دون البدن، وهو مذهب السوفسطائيين.
107
كما يكفر الباطنية والمعتزلة والخوارج من الفرق الكلامية؛ فالباطنية ضالون ملاحدة جهال، والخوارج ليسوا من أهل السنة لأنهم يحكمون بالكفر على من يخرج عمله على الإيمان، والمؤلف نفسه يحكم بالكفر على المخالفين في الرأي. والقدرية والأكراد إخوان الشياطين، والمعتزلة يشنعون على أهل السنة أنهم يقولون إن النبي ليس نبيا في قبره، ويقولون بالمنزلة بين المنزلتين. ويكفر البراهمة ومعهم أبو العلاء المعري الذين يؤسسون الدين على العقل، وينكرون النبوة، مع أن العقل أساس النقل. في حين أن الفقهاء وضعوهم ضمن أهل الكتاب لأنهم يعرفون الخير ويقومون بالأعمال الصالحة. ويعتمد على حديث الفرقة الناجية وهم أهل السنة والأشاعرة، والهالكة وهم المتكلمون وعلى رأسهم المعتزلة لنفيهم الصفات وغلاة المشبهة الذين يثبتونها، والقدرية لإثباتهم خلق الأفعال، والمجبرة لنفيها، والخوارج والنجارية والجهمية والروافض والحرورية وكل الفرق الفرعية حتى تكتمل اثنتين وسبعين فرقة طبقا للحديث، وكأن التاريخ قد توقف في الماضي، ولا توجد فرق أخرى في المستقبل حتى نهاية الزمان.
108
ولا يذكر من الوافد إلا أفلاطون وسقراط وجالينوس والإسكندر وأستاذه (دون ذكر أرسطو) وبطليموس.
109
كما تذكر الفلسفة اليونانية والسوفسطائي. ويسمي أفلاطون الزنديق، ويعتبر أفكاره مزاعم، ويقول بانطباع الجنين في الرحم.
110
وسقراط وأفلاطون من الطبائعيين أئمة الكفر. أصل العالم لديهما أربعة أشياء هي طبائع العالم، الحركة والبرودة وهما فاعلتان، والرطوبة واليبوسة هما منفعلتان. وقال بطليموس بأن الفلك بما فيه من سيارات قديمة أزلية وهي مدبرات العالم.
111
ولا يذكر من الموروث إلا ابن سينا والرازي ومعه أبو العلاء المعري (وكان من البراهمة) بين الفلسفة والشعر. ويوضع ابن سينا مع الملاحدة والحسين بن الصباح والرازي الزنديق. جعلوا للشريعة ظهرا وبطنا. وحرفوا المصاحف وهدموا وقتلوا الذراري والصبيان، وشتموا الأنبياء، ونسخوا الشرائع بالإمام.
112
ويرى ابن سينا من شيعة أفلاطون (وليس أرسطو) الدهري اليوناني. وقد قال بعض الملاحدة منهم إن العقول متفاوتة، وكأن تفاوت العقول، وهو أمر مقرر في العقل والشرع، مدعاة للإلحاد.
113
وبعد تكفير كل الفلاسفة شرقا وغربا ومسلمين يعتمد الخوارزمي المتأخر على الصحابة والفقهاء، خاصة الشافعي وأبا حنيفة، مع تفضيل الشافعي لأنه هو الذي جعل السنة المصدر الرئيسي. فالقرآن معروف من السنة، والإجماع يقوم على السنة، والسنة لها الأولوية على القياس حين التعارض. وتتوحد الشافعية مع الأشعرية منذ القرن الخامس بفضل الغزالي حتى الإصلاح الديني.
114
حل الفقهاء والصحابة محل الفلاسفة والعلماء الذين لا يكاد الكتاب يذكر أيا منهم. ويكثر من نوادر الفقهاء بدلا من نوادر الفلاسفة.
115
وتخضع أدعية الصحابة مع أدعية الأنبياء تقديسا للماضي، وكأن قضاء الحاجات بالأدعية لا يشرع للكسل ومضاد للعقل والشرع.
وينتهي الكتاب بفتن آخر الزمان وما يحدث فيه وأشراط الساعة، وحوادث آخر الزمان، عندما يتمنى كل إنسان الموت، ويكون الأخير هو الأشر. وتحدث الوقائع العظام وفتنة الخوارج.
116
ويمتلأ الكتاب بالعبارات الإيمانية في أواخر الكتب والفقرات. فالله أعلم، وهو أعلم بالصواب، وهو أعلم وأحكم، وهو المستعان والموفق، والملهم كل شيء بإذنه ومشيئته، والحمد لله أولا وآخرا.
117
وكالعادة في هذه العصور المتأخرة يتم التوحيد بين الله والسلطان. كما يظهر في أسلوب الكتاب الرغبة في التسلط منذ البسملة والحمدلة للقاهر المعز له المذل، السلطان الرافع الخافض، المقدر الواحد الذي يخضع له الجميع طاعة وإذعانا ووضاعة وتبعية.
118
ويتم الدعاء للاثنين بنفس البنية الذهنية والتوجه النفسي والدلالة السياسية. كما يتضمن الأسلوب نصائح من عل تدل على التسلط والتوجه والإدانة وليس تفكيرا وتحليلا. ويتحول التسلط الديني إلى تسلط سياسي، والتسلط السياسي إلى تسلط اجتماعي اقتصادي. فإذا كان الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، إلا أن الفقير الصابر له الجنة. وعلى المؤمن الرضا بقضاء الله وقدره.
119
ويكشف تأويل الآيات عن البنية النفسية الاجتماعية للقاهر والمقهور؛ بل إن الكتاب كما هي العادة في العصور المتأخرة قد كتب للسلطان. وما أكثر ما كتب للسلطان!
120
وتعقد مناظرة بين العقل والدولة تبين ميزة كل منهما، واتهام كل منهما الآخر، ثم محاولة التوفيق بين الاثنين مما يدل على أن هم المؤلف كان في تدوين العلوم؛ أي العقل، والمحافظة على السلطة؛ أي الدولة. فالعقل يصوغ الخطاب والدولة تمهد سبل العيش. العقل أساس الإسلام والدولة مناط بقاء الدين والدنيا. العقل يأمر وينهى، والدولة تبقى وتفنى. العقل حجة الله، والدولة عطاء الله. العقل صاحب الأنبياء، والدولة ذراع الأنبياء. دون العقل تكون البهيمة، ودون الدولة يكون الموت. العقل مذكور في القرآن، والدولة مذكورة أيضا في القرآن:
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . ولا تعني دولة في الحقيقة دولة بالمعنى الحديث، بل مجرد التداول بين أيدي طبقة الأغنياء. ومع ذلك هناك اتهامات متبادلة بين العقل والدولة، بين سلطة العلماء وسلطة الأمراء، بين الفيلسوف والمال بتعبير القدماء. يتهم العقل الدولة بأنها حرمان وهموم وأحزان، وتتهم الدولة العقل بأنه يعطي مجرد ثقافات حسنة. يتهم العقل الدولة بأنها قدرة وجاه وتسلط، وتتهم الدولة العقل بأنه لا يعطي إلا ثقافات نسبية. يتهم العقل الدولة بقبولها مشاركة الكفار فيها، وتتهم الدولة العقل بأنها عقل فرعون. وأخيرا تتم المصالحة بينهما؛ فبدون العقل كدر الآخرة، وبدون الدولة نكد الدنيا. فالعقل رباني، والدولة سماوية؛ ومن ثم يحتاج الناس إلى العقل والدولة؛ أي إلى اجتماع السلطة الدينية والسلطة السياسية في دولة الخلافة.
121 (4) المصنفات (أ)
ويدون حاجي خليفة (1017-1067ه) في «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»، تاريخ الفلسفة بعد تقسيم العلوم بطريقة المصنفات.
122
وهو مجرد رصد أبجدي لأسماء المصنفات بعد مقدمة عامة في تقسيم العلوم يسميها «أحوال العلوم». وهو التقليد الذي سيستمر في قواميس المصطلحات مثل «كشاف مصطلحات الفنون» للتهانوي. ومثله أيضا «إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون» لإسماعيل باشا.
123
ولا تعطي المقدمة أي تصنيف للعلوم، بل مجرد «أحوال العلوم»؛ أي الحديث حول العلم وليس في العلم في خمسة أقسام:
الأول تعريف العلم وتقسيمه وماهيته، والعلم المدون وتقسيمه ومراتبه، وموضوع العلوم ومبادئها والغاية منها. وهي مسائل عامة للغاية لا تتعلق بتدوين الفلسفة على نحو خاص. والثاني منشأ العلوم والكتب، إفهامات وإفصاحات أهل الإسلام؛ أي فهم العلوم وطرق التعبير عنها وتطبيق ذلك على العلوم الإسلامية. وتطول الإفصاحات وهي الأهم بالنسبة للتدوين. وتنقسم إلى الحكمة من إنزال الكتب؛ أي تدوين الوحي، وأقسام الناس بحسب المذاهب والديانات، ثم أقسام الناس بحسب العلوم. ويقسم الناس إلى الحضارات المختلفة التي تتكون منها الحضارة الإسلامية: الهند، الفرس، الكلدانيون، اليونان، الروم، مصر، العبرانيون، العرب. ويتضح من الأسماء التبادل بين أسماء البلد، مثل الهند ومصر، وأسماء القوم مثل الفرس والكلدانيون واليونان والروم والعبرانيون والعرب. اثنان من الشرق: الفرس والهند، واثنان من الغرب: اليونان والروم، وأربعة من التراث العربي الإسلامي السابق على الإسلام: الكلدانيون والعبرانيون ومصر والعرب. والثالث المؤلفون والمؤلفات، ويشمل أقسام التدوين والشرح والمصنفين. والرابع فوائد من أبواب العلم، وهي أمور عامة مثل القسم الأول، تشمل عشر فوائد: مصادر العلوم الإسلامية، أن أكثر العلماء من العجم، أن العلم من جملة الصنائع، أن الرحلة في طلب العلم مفيدة، موانع وعوائق العلوم، الحفظ، شرائط تحصيل العلم، شروط الإفادة ونشر العلم، ما ينبغي أن يكون عليه العلماء، التعلم، وهي أمور تجمع بين العلم والتعلم، بين الموضوع والمنهج. والخامس لواحق المقدمة: أنه فرض عيني، وتعيين موضوعه وأسمائه، وهي: العربية واللسان والأدب.
124
ويلاحظ غياب العلوم الفلسفية كلها من هذه المقدمة عن أحوال العلوم. وحتى في أسماء العلوم لا توجد إلا علوم اللغة والأدب، وهي علوم العرب قبل الإسلام، وليست العلوم الإسلامية بعده. ومع ذلك، وبالرغم من وجود حاجي خليفة في القرن الحادي عشر بعد تكفير الفلسفة، إلا أنه يدافع عنها وعن المنطق؛ فالمنطق ميزان للعلوم، والمعرفة معرفة حقائق الأشياء، وليس فيها ما ينافي الشرع والدين غير المسائل التي أوردها صاحب «التهافت». وليس في كتب الحنفية أي تحريم للمنطق غير الأشباه، وبدونها يمكن استعماله. وأما تصريح الشافعية بنفيه فإنه من باب سد الذرائع وصرف الطبائع إلى علوم الشرائع؛ فمقياس القبول أو الرفض هو الشريعة والدين. والمواقف منه ليست مواقف الفلاسفة، بل الفقهاء، الحنفية والشافعية، الشافعية تحرمه ولا تستعمله في حالة الوقوع في الأشباه. وما زالت شبه الغزالي ضد الفلسفة مقبولة في المسائل الثلاث الكبار والسبع عشرة الصغار. فسيف التحريم ما زال مصلتا دون تحليل جديد كما فعل ابن رشد في «فصل المقال».
125 (ب)
ومن نفس النوع بعض محاولات المسلمين المحدثين في الغرب مثل «تاريخ التراث العربي» لفؤاد سزكين. وهو ليس تدوينا مباشرا، بل تدوين كما في فهارس المكتبات ومجموعات وقوائم المخطوطات طبقا للبلاد مع فهرست مختصر للمكتبات دون رؤية أو قراءة طبقا للنزعة التاريخية في الاستشراق الغربي واستئنافا لكتاب بروكلمان الشهير «تاريخ الأدب العربي». ويتم التاريخ حتى 430ه فقط.
126
ويغلب على التصنيف العلوم. وداخل كل علم العصور أموي أو عباسي مثل القراءات والتفسير والحديث والتصوف أو الجمع بين العصر والمذهب مثل العقائد والفقه. وكان المشروع في البداية يشمل ثلاثة مجلدات لم يخرج إلا الأول، والثاني لم يتم، والثالث لم يصدر على الإطلاق. يشمل المجلد الأول علوم القرآن، القراءات والتفسير وعلم الحديث طبقا للعصرين الأموي والعباسي. ويشمل المجلد الثاني الفقه والعقائد. وكل منهما ينقسم إلى عصور: أموي وعباسي ومذاهب. والفقه العباسي ينقسم إلى المذاهب الأربعة أو إلى مذاهب الشيعة والسنة: الإمامية، والزيدية، والإسماعيلية، والقرامطة، والنصيرية، والإباضية، أو إلى مذاهب مستقلة. كما تنقسم العقائد العباسية إلى سنة ومعتزلة، مع أن مذاهب الشيعة ليست فقط في الفقه بل في العقائد. ولم يتم إكمال الشعر والنثر واللغة والأدب؛ أي علوم العرب قبل الإسلام. والمجلد الثالث الذي لم يخرج، فإنه كان من المفروض أن يشمل العلوم الفلسفية: الترجمة والفلسفة والعلوم الطبيعية.
سابعا: أسماء الأعلام
(1)
كان أول من دون تاريخ الحكماء عن طريق أسماء الأعلام هو إسحاق بن حنين (298ه) في «تاريخ الأطباء والفلاسفة».
1
وهو نص قصير دخل في معظم كتب تاريخ الفلسفة التالية.
2
لا يهم الترتيب الزماني؛ فالمعاصرة خارج الزمان، مثل تتلمذ خالد بن يزيد على يحيى النحوي الذي عاش في الإسكندرية قبل ظهور الإسلام بقرن.
والمصدر الرئيس لإسحاق هو يحيى النحوي، لأنه أجود التواريخ وأصح الآراء. وهو المحب للتعب، إذا درس شيئا استقصاه وأوفاه. أول الأطباء أسقليبيوس وآخرهم جالينوس، وزاد إسحاق الفلاسفة المعاصرين للأطباء ليكون أتم وأشمل.
3
نسخه إسحاق وصححه، وأكمل ما بدأه، وحوله من عمل تقريبي ظني إلى عمل يقيني تاريخي.
وتشغله قضية البداية. أول من اشتغل بالطب ردا على مناظرة بين أبي العباس بن فراس وابن العباس بن شمعون عن أقدم الأطباء، أبقراط أو من سبقوه بحضرة الوزير. وهي سبب تأليف الكتاب بناء على أمر الوزير. وتدوين التاريخ صعب خاصة لو كان البعيد، وليس في متناول كل المؤرخين. وكل مؤرخ يتناول حسب ما وقع إليه أو ما سمع عنه. أما المؤرخ الفيلسوف فهو الأقدر على التاريخ. فطلب الوزير من إسحاق كتابة تاريخ صغير يحل فيه المسألة. وكان ذلك حوالي 290ه. ويذكر الأطباء بناء على الكتب المدونة والأحاديث المشهورة من العلماء الثقات.
4
ويخضع التصنيف لقسمة عقلية تطابق الواقع التاريخي حلا لقضية البداية والخلاف حولها. فالأجسام إما محدثة، وبالتالي يكون الطب حادثا عند قوم، وإما قديمة وبالتالي يكون الطب قديما عند قوم آخرين. وقد يكون الطب مع حدوث الإنسان مصاحبا له، أو يكون بعد حدوثه فيكون تاليا له. فإذا كان بعد حدوث الإنسان فإما أن يكون إلهاما أو كسبا. فإذا كان إلهاما فإنه قد يكون رؤية أو تجربة. وإذا كان كسبا فإما أن يكون قد نشأ في مصر ودواء الراسن أو عند هرمس الذي استخرج الصنائع والفلسفة ومنها الطب أو عند أهل فولس الذين استخرجوا الأدوية القابلة التي عالجت امرأة الملك أو من أهل موسيا وأفروجيا الذين عالجوا الأمراض بالألحان وأول من عرفوا الزمر، فشفاء النفس شفاء للبدن، أو من سحرة فارس أو من الهند أو من الصقالبة.
5
والتقسيم الفرعي كله في الحادث، ولا ينقسم القول بقدم الطب لأن القديم لا ينقسم. وتظهر أهمية المنهج في الطب في القول بالاكتساب، بالقياس أم بالتجربة. ويجمع إسحاق بين الاثنين، فكل منهما مكمل للآخر، وهو رأي أفلاطون الطبيب الذي أحرق الكتب التي تقول برأي واحد! ثم قوى أبقراط القياس والتجربة معا . ثم أتى أطباء بين بقراط وجالينوس وحولوا الطب إلى حيل، وأفسدوه وأخرجوه عن القياس والتجربة حتى أتى جالينوس وقضى على هذه الحيل وأحرق كتبها. ويذكر إسحاق ثمانية أطباء منذ وقت ظهور الطب في جزيرة فو: أسقليبيوس الأول الذي استخرج الطب ثم غوروس ثم مينس ثم برمانيدس ثم أفلاطون الطبيب ثم أسقليبيوس الثاني ثم أبقراط ثم جالينوس الذي ختم الطب. وبطبيعة الحال لم يعرف يحيى بن عدي إلا الأطباء اليونان، ولم يكن قد ظهر حكماء الإسلام بعد. ولكن يضيف إسحاق الأطباء الإسكندرانيين وهم شراح جالينوس. فتاريخ الطب يبدأ باليونان وينتهي باليونان. ويتم حساب السنين بين هؤلاء الأطباء الثمانية بالآلاف، وتنتهي إلى المئات، مما يدل على خلل في حساب التواريخ، وأن المقصد ليس هو الترتيب الزماني، بل الترتيب الذهني. كما يجعل إسحاق حوالي ثمانية قرون منذ جالينوس حتى وقت المناظرة في القرن الثالث الهجري، وهو تاريخ صحيح، فقد عاصر جالينوس المسيح.
6 (2)
وكما انفصلت المصنفات والعلوم إلى مدونات مستقلة، انفصلت أسماء الأعلام في مدونات مستقلة مثل قواميس الأعلام المعاصرة. مثال ذلك «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي (464ه).
7
وهو مختصر الزوزني «المنتخبات الملتقطات»، وأحيانا يسمى تاريخ الحكماء. ولأول مرة توضع الهمزة فوق الألف، وهي تفرقة في الفكر العربي الحديث لإيجاد لفظين للتاريخ الموضوعي والثاني للتأريخ الذاتي أو الوعي بالتاريخ.
8
وهناك روايات للكتاب مثل رواية أبي سليمان السجستاني. والسؤال: كيف تم الاختصار وما مقاييسه؟
ولأول مرة يتم تصنيف الأعلام طبقا للحروف الأبجدية دون تصور حضاري أو علمي أو تاريخي زماني، كما هو الحال في القواميس الحديثة مثل الزركلي. وقد ظهر هذا التصنيف الأبجدي ابتداء من القرن السابع بعد اكتمال التجربة الفلسفية في التاريخ وضعف البعد الحضاري الأول. مما قد يدفع البعض إلى اعتبار القفطي وراقا مثل ابن النديم أكثر منه حكيما. والترتيب الأبجدي داخل كل حرف غير موجود. فهذا من صنع العصور الحديثة، ولو أن القدماء جعلوه في معاجم اللغة. وقد يبدأ الموروث قبل الوافد مما يدل على أنه حتى في أسماء الأعلام لا يمكن جعلها مجرد ثبت، بل هناك أجنحة حضارية. فإذا اختفت هذه الأجنحة الحضارية المتضمنة ظهرت أسماء الأعلام خالية من أي دلالة.
9
وسبب التأليف، ربما بهذه الطريقة هو اختلاف علماء الأمم في أول من تكلم في الحكمة وأركانها النظرية مثل الرياضة والمنطق والطبيعيات والإلهيات، والعملية مثل الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل. فقد ادعت كل فرقة أنه كان من عندها، وهو ليس الأول على الحقيقة. ربما تصنيف الحكماء طبقا لأسماء الأعلام يخفف من هذه الحدة الشوفينية القومية بلغة العصر. كما أن القافية أي الأبجدية تجعله سهل التناول. لذلك اتسم الأسلوب بالموضوعية والهدوء والاقتصار وعدم الخروج على الموضوع أو الجدال.
10
وقد يكون السبب هو جمع أشهر الحكماء من كل قبيل وأمة قديما وحديثا إلى زمان المؤلف مع كل قول انفرد به أو كتاب أو حكمة نسبت إليه بصرف النظر عن التحقق من صدق الرواية من أجل تجاوز الجهل بالتاريخ، ومعرفة القدماء، اعتبارا بما مضى. فالتاريخ عبارة وقصص كما هو الحال في قصص الأنبياء، «لما لم يكن للتاريخ محل ذكر». عرض الحكمة الخالدة في شخص إدريس نبي الحكماء أو حكيم الأنبياء لبيان اتفاق الحكمة والشريعة رمزا، ثوابا عند الله. وأحيانا يكون اسم العلم اسما واحدا مثل أفلاطون، أفريطون، أريباسيوس، أليطراؤس. وأحيانا يكون مع لقبه للتمييز بينه وبين آخرين مشاركين في نفس الاسم مثل أفلاطون الطبيب. وأحيانا يميز اللقب، الدين أو الطائفة، مثل النصرانية واليهودية والمجوسية والحرانية والكلدانية.
11
لذلك لا يهم الترتيب الزماني. فالفلسفة خارج الزمان، ويمكن أن يتعاصر فيلسوفان فكريا وليس زمانيا، مثل تعاصر أقليمون وسقراط.
وقد تتكرر أسماء كثيرة متشابهة من حيث الاسم الأول. ولا يميز بينها إلا اللقب، لا فرق بين موروث ووافد.
12
وقد يحتاج الأمر إلى تصنيف للألقاب والكنى. الاتفاق في الحروف الأبجدية عرض خالص لا دلالة علمية أو حضارية له. وليست كل الأسماء بذات دلالة. الكثير منها مجرد أخبار.
ويبدو حضور المشرق العربي أكثر من حضور المغرب العربي، مما يدل أيضا على استحالة مجرد ثبت بالأعلام. ويخطئ من يظن أنها مجرد تاريخ وأخبار دون أن يحاول معرفة الدلالة العلمية والحضارية من بين الأعلام.
13
وقد لا يكفي الاسم الأول بمفرده للتعرف على العلم. ربما كان مشهورا في عصره بهذا الاسم، ولم يعد كذلك في العصور التالية.
14
والألقاب الشائعة هي المكان ثم المهنة ثم القوم ثم الصفة أو السمة المميزة كالحكيم، ثم الدين، اليهودية والنصرانية، والترتيب الزماني، الأول والثاني والثالث، ثم صفات النفس وصفات البدن، والنسب، والدرجة من العلم، التلميذ أو الأستاذ. وتتراوح المهنة بين الحرفة بمعنى الصنعة والعلم. ومعظمهم من العلماء مع الحكماء. وكان للطب والفلك أي الطبيعيات والرياضيات الأولوية على باقي العلوم.
15
وكما هو الحال في رسم الشخصيات عند السجستاني والبيهقي ترسم أيضا شخصيات الأعلام في عناصر رئيسية: (1)
الاسم واللقب والنسب والنسبة. ويذكر الاسم مباشرة أو بالنسبة إلى الأب والابن، مع النسب مثل أبقراط من نسل أسقليبيوس. أفلاطون شريف النسب مع أسرته وربما أقربائه. وكنيته ولقبه ومهنته مثل البخاري والطبيب، والحكيم والفيلسوف على التبادل. وأحيانا يذكر اشتقاق الاسم مثل أرسطوطاليس تام الفضيلة، والقوم الذي ينتسب إليه، يوناني، رومي، كلداني، حراني. (2)
الحياة، الميلاد والوفاة، والسيرة الشخصية وسماته وخصائصه مثل الذكاء والتعليم والأساتذة، والعصر والنظم السياسية التي عاش فيها العلم مدى اتصاله بالملوك والأمراء. يذكر الميلاد والوفاء أو سنة مهمة في حياته وربما قبره وما نقش عليه لتخليد ذكراه مثل أفلاطون، وحياته ونوادرها، وصورة العلم في قومه مثل صورة أفلاطون وسيرته وأعماله وليست فقط نظرياته وآراؤه، وأساتذته وتلاميذه وأصحابه مثل أرسطو معلم الإسكندر وتلميذ أفلاطون، وابن سينا تلميذ الفارابي، ونقله عنه وتعلمه على يديه. والزمان الذي عاش فيه، الحقيقي أو الأسطوري مثل زمان الطوفان. ويذكر تاريخ الميلاد والوفاة للمسلمين وليس لليونان لسهولة الأول وصعوبة الثاني. (3)
مرتبته في العلم واتجاهه ومدرسته وأسلوبه وأهم اكتشافاته ومصادره. فأرسطن فيلسوف طبيعي. وأرسطو أول من رتب المنطق، والفزاري أول من قام بالإعراب. وإبراهيم قويري عبارته كانت غلقة. وأحمد بن محمد بن كثير الفرغاني له حوار على كتاب بأعذب لفظ وأبين عبارة، وإخوان الصفا واستعمالهم الرمز. وأهميته في عصره أنه كان متصدرا في وقته مثل أوديمس، وأفاد أهل زمانه مثل أرمينس. وأيامليخس فيلسوف معروف في وقته، أو أولوية في الزمان مثل أبولونيوس أقدم من إقليدس. (4)
المؤلفات والأعمال والمصنفات مثل الترجمات والشروح وتصنيفها مثل تصنيف كتب أرسطو إلى كلية وجزئية وإحصاء علومه إلى آلة مثل المنطق، وعلم نظري وعلم عملي. أما أفلاطون فلا توجد له مؤلفات لأنها لم تترجم. والمؤلفات خطوة نحو الأقوال مثل عرض ابن بطلان من خلال نصوصه ويسهب أحيانا في ذكر مؤلفات بعض الأعلام، فحياته هي مصنفاته مثل ثابت بن قرة وجالينوس والرازي الطبيب وفخر الدين الرازي ويحيى بن عدي ويعقوب بن إسحاق بن الصباح.
ولا يوجد نسق كمي واحد لاستيفاء هذه العناصر الأربعة. فقد يطول أحدها على حساب الآخر مثل إطالة حياة جبرئيل بن بختيشوع، ونوادره وحكايته وسيرته الشخصية على حساب مؤلفاته. ونفس الحال على جبرئيل ابنه. ولا تعرض أفكار ونظريات جورجيس بن بختيشوع. ويتم تفصيل السلوك الشخصي لأبي معشر البلخي، فقد كان مدمنا للخمر.
16
وفي السيرة تذكر محنة الفيلسوف مثل سجن إبراهيم بن هلال بن إبراهيم واتهامه بأنه كلب كافر صابي يحمى به في نار جهنم.
17
كما قتل أحمد بن محمد بن الطيب السرخسي تلميذ الكندي لإفشائه سر المعتضد. كما قتل يحيى بن سهل المنجم والمنجم الخارجي.
ومصادر القفطي التواريخ والأخبار، والقصص، وكتب التفسير. ولا فرق في التواريخ والأخبار بين الموروث والوافد، بين الشهرستاني وابن جلجل ويحيى النحوي وابن النديم وأبو سليمان السجستاني وموسى بن شاكر وأبو الحسن العشري وصاعد والتوحيدي والمسعودي ويوسف بن الحكم وابن بطلان وهلال بن الحسن وبين جالينوس وبقراط وأفلاطون.
18
وقد تكون الرواية مزدوجة تجمع بين الموروث والوافد. أما روايات الموروث عن الموروث أو الوافد عن الوافد فهي أقرب إلى السند في علم الحديث. والاعتماد الأكثر على ابن النديم في «الفهرست» فهو الأقرب ذكرا (12) ثم ابن جلجل (6) في مقابل مرة واحدة لكل مصدر موروث. وبالنسبة للوافد فإن الاعتماد أكثر على جالينوس فهو الأكثر ذكرا (4) في مقابل مرة واحدة لكل مصدر وافد. وأحيانا يذكر اسم المصدر مع صاحبه مثل ذكر موسى بن شاكر في أول كتاب المخطوطات، وجالينوس في كتابه في الحث على الطب وفي مقالته الأولى إلى غلوقون، وفي حيلة البرء، وأفلاطون في النواميس. وأحيانا يتحدد موضع الكتاب في الصدر مثل صدر كتاب حيلة البرء لجالينوس. وأحيانا يوصف المؤلف ومكانه مثل السجستاني نزيل بغداد.
19
وقد تكون المصادر مباشرة بالاطلاع على الرسائل والكتب مثل الاطلاع على رسالة إبراهيم بن سنان بن ثابت في ذكر ما صنفه، واطلاعه على كتاب المخطوطات لموسى بن شاكر.
20
ويتم التحقق بالعقل من صدق الروايات والاعتماد على الإجماع ومعرفة المخبرين حتى لا يقع المؤرخ فيما وقعت فيه النصارى.
21
وهناك مصادر شفاهية عن طريق الرواية المباشرة. وقد تكون هناك مصادر مجهولة يشير إليها القفطي. ولا يوجد اعتماد على القرآن أو الحديث كمصادر للتاريخ باستثناء حديث واحد في ابن أبي رقية صاحب «الأنباء في أسماء الحكماء» عندما رفض الرسول معالجة الطبيب قائلا: «أنت طبيب والرفيق الله.»
22
هذا بالإضافة إلى العبارات الإيمانية التي تتخلل الكتاب بعد البسملة والحمدلة. فالله أعلم، وهو أعلم بالحقيقة، وهو المستعان والموفق والمؤيد، بيده المشيئة وله الحمد. فالتعبير عن الله بلغة الفلاسفة أنه خالق الكل، وعالم ما قل وجل، وواهب العقل.
23
وكان الشعر أيضا من المصادر، فالشعر مصدر التاريخ، وقد يكون للاستشهاد به والعظة على نادرة في حياة الحكيم. وهي نفس وظيفة الوحي بعد ذلك كمصدر للتاريخ وعظة للمؤمنين. ولم يقتصر الشعر على الشعراء، فهناك شعر الفلاسفة مثل ثابت بن قرة وجرجيس وعلي الطبيب وعمر الخيام وابن بطلان والمظفر بن أحمد الطبيب وأبي البركات البغدادي وابن سينا. فلا فرق بين الفلسفة والشعر والعلم. وقد يقال الشعر في الفلاسفة مدحا أو ذما . فقد يكون الفيلسوف شاعرا، وقد يكون هو موضوع الشعر. وقد يكون الشعر في العلم وصفا وهندسة مثل الشعر في الأسطرلاب، حتى تحول الشعر في العصور المتأخرة إلى نوع أدبي يؤلف فيه الفقه والمنطق والعروض والنحو.
24
وقد لا يدل التفاوت الكمي في أسماء الأعلام أو في حجم كل علم على أهمية أكثر أو أقل بقدر ما يدل على توافر المعلومات أو ندرتها أو على مقاييس الاختيار والتفضيل للمؤرخ نفسه. كما قد تدل على مدى أهمية المؤلف في عصره وليس على ممر العصور. فكم من الأعلام كانت مهمة في عصرها ولم تستمر. وكم من الأعلام لم تكن معروفة في عصرها ثم عرفت بعد ذلك في التاريخ. بعض الأسماء نكرات الآن وربما كانت مشهورة في عصرها. فمثلا أين ابن رشد الطبيب الفيلسوف الفقيه المتكلم الشارح لأرسطو؟ ألم يعرف في المشرق؟ هل هو أسطورة من صنع الرشدية اللاتينية والمغاربة والفكر العربي المعاصر؟ وهل المؤرخون سينويون، من أنصار ابن سينا والإشراق لأفرادهم مكانة كبيرة له، أم أن هذه هي صورته في التاريخ؟ وتتكرر نفس النوادر النمطية الخاصة بالتعرف على أحوال النفس بمظاهرها البدنية، الحب بالنبض، وكما هو الحال في علم الفراسة.
25
ويتصدر الموروث الوافد إذ يبلغ ما يربو على ثلاثة أضعاف.
26
ومن مجموع أسماء الأعلام المذكورة لا يزيد أسماء الأعلام اليونانية عن الربع. ويتصدر أرسطو الوافد والموروث معا في المرتبة الأولى، ثم يتصدر الموروث في المراتب الثانية والثالثة والرابعة والخامسة. ثم يظهر الموروث مع أفلاطون في المرتبة السادسة، ثم إخوان الصفا مع أسقليبيوس في المرتبة التاسعة، ثم سنان وأبو الحسن بن سنان مع بقراط في المرتبة الثالثة عشرة، ثم ابن الهيثم وصالح والفارابي ويحيى النحوي ويحيى بن عدي وبنو موسى بن شاكر مع إقليدس وبطليموس وهرمس الثالث في المرتبة الخامسة عشرة.
27
ويحدث تراكم داخلي في الموروث بشرح نصوصه.
28
وكانت الثقافات والديانات المجاورة جزءا من الحضارة الإسلامية وامتدادا للموروث عبر التاريخ والجغرافيا. كان الصابئة والكلدانيون جزءا من الأمة، وكذلك الهنود والفرس والمصريون والربانيون، وهم على دياناتهم ولغاتهم وثقافتهم. كانت مراكز الثقافة بين بغداد وبصرة والكوفة. ولعل البصرة كانت مركز النحاة والمتكلمين والفلاسفة والمعتزلة جمعا بين العلم والعقل. لذلك تسمى الشريعة الإسلامية، الملة الإسلامية أو الإسلام. وتتصدر الثقافة الهندية على الفارسية للأعلام مثل محمد بن إبراهيم الفزاري صاحب الثقافة الهندية، والخوارزمي العالم بالسند هند بعد أن أقام ببلاد الهند وليس البيروني وحده. وكان لأحمد بن عمر الكرابيسي معرفة بحساب الهند. ودخلها يوسف بن يحيى. وتدخل أفريقيا متأخرا في الإطار الحضاري الإسلامي مثل علي الطبيب الأفريقي، ولو أنه كان مرتزقا بالطب. وتوضع الثقافة اليونانية في إطار الثقافات القديمة في الهند وفارس ومصر وعند الكلدانيين والروم والعرب والعبرانيين.
29
ويضم الوافد على الموروث دون أي استعلاء حضاري من طرف على آخر. ولا يذكر دين الفيلسوف لأن الحضارة وحدت بين الطوائف والملل. لذلك تم وضع غير المسلمين، البابليين والحرانيين (الصابئة)، واليهود والنصارى مع المسلمين. ومن أعمال الموروث شرح الوافد. فلا يوجد حكيم إلا وشرح الوافد وإلا كان متكلما أصوليا صوفيا.
ويتصدر أرسطو الوافد ثم يأتي أفلاطون في المرتبة السادسة ثم جالينوس وسقراط في المرتبتين السابعة والثامنة، ثم أسقليبيوس في المرتبة التاسعة، ثم أبقراط في المرتبة الثالثة عشرة، ثم إقليدس في المرتبة الخامسة عشرة.
30
ويعرض أعمال أرسطو كتابا كتابا مع شراحه العرب مثل يحيى النحوي واليونان مثل أيامليخس، أراسيس، أرمينس، أوديموس.
31
بل يتم تحليل مقالة مقالة في الكتب الطبيعية. وأحيانا تذكر مجرد معلومات بلا دلالة مثل مقالات أنكساجوراس المنقولة في مدارس التعليم. ولا فرق بين اليونان والرومان. فالفيلسوف اليوناني هو الفيلسوف الرومي. فالرومي تجمع بين الصفتين دون تمييز بين اليونانية واللاتينية. ربما كانت لغة اليونان هي السائدة حتى عند الرومان مثل مدرسة الإسكندرية.
وأحيانا يوضع الوافد في مجموعات تمثل مدارس فكرية مثل الحكماء الخمسة: أنبادقليس، فيثاغورس، سقراط، أفلاطون، أرسطو، بصرف النظر عن الترتيب الزماني. ويتم الحديث عن سقراط داخل أفلاطون فكلاهما ينتسبان إلى مدرسة واحدة. ويكون الحكماء عناصر متعددة داخل المذهب الواحد. فأرسطو الطبيعي أكمل أفلاطون الرياضي. بينما مال سقراط بالمدرسة نحو النفس منتقلا من الفلسفة الطبيعية إلى الفلسفة الخلقية. ويضع القفطي الفلسفة اليونانية في إطار لغتهم وبيئتهم وتاريخهم.
32 (3)
ويستمر تدوين التاريخ بطريقة أسماء الأعلام في «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» لابن خلكان (681ه)، وكما يدل عليه العنوان،
33
أي ذكر المشاهير بصرف النظر عن أنواعهم وإعطاء أنباء عنهم. فقد تحولت الفلسفة إلى فلاسفة، وتاه الفلاسفة وسط الأعلام ومشاهير الرجال، الخلفاء والملوك والأمراء والقواد والأدباء. ودخل الفلاسفة حتى ابن سينا ضمن مشاهير الرجال، مجرد أخبار وروايات شفاهية أو مدونة. انتهت الحكمة لصالح التاريخ. كما يصعب معرفة أسماء الحكماء غير المشهورين وسط المشاهير الغر الميامين. لذلك كثرت ألقاب الملك، الحاجب، المؤرخ، الكاتب، القاضي، المتكلم، الشاعر، قائد الأعنة في أفريقيا، أمير الجيوش، الغازي، إمام الحرمين، الوراق. وقلت ألقاب الحكيم، الفيلسوف. والأولى أن تغيب المؤلفات والأقوال ما دامت الغاية هي إعطاء أنباء أبناء هذا الزمان. وقد لا يذكر الباحث لشخصه بل لعلاقته بآخر. ومن يذكر لشخصه تكون صفحاته متصلة. وتكشف كل التراجم عن صورة الثقافة في الوعي الجماعي الذي يمثله وعي المؤرخ. وكلهم من الرجال، ولا أحد منهم من النساء بلغة العصر.
والترتيب الأبجدي لأسماء الأعلام ترتيب عرضي. ومع ذلك لا يخلو من بعض الدلالات مثل الترتيب الزماني الذي يكشف عن الطبقات كما هو الحال في الحوليات بالرغم من غياب البنية للفرق والمذاهب، وبالرغم من غياب التفاعل بين الموروث والوافد ومناطق الإبداع الحضارية. لذلك كان فهرس الأعلام أكبر الفهارس ثم القوافي مما يدل على أهمية الشعر، ثم الكتب المذكورة في المدن مما يدل على أهمية المصادر، والأماكن مما يكشف عن البيئة الجغرافية، والتراجم مما يدل على أهمية الأسماء المذكورة، والجماعات والقبائل والطوائف مما يدل على أهمية الانتساب القبلي، وأخيرا الألفاظ المضبوطة مما يدل على قدم التاريخ.
34
فبالنسبة للتراجم يتضح تصدر الموروث على الوافد على الإطلاق لدرجة أن الوافد ليس له ذكر. يتصدر صلاح الدين الأيوبي مما يدل على أهمية الحروب الصليبية ثم أبو يوسف الصفار الخارجي مما يدل على أهمية الخوارج وقوادهم والتفاوت في الأهمية بين صلاح الدين الذي يمثل ثلاثة أضعاف والصغار ثم يوسف بن تاشفين ويحيى بن أكثم مما يبين أهمية الدعاة والحكام والصوفية ثم جعفر البرمكي ثم الحلاج في المرتبة السادسة مما يدل على حضور التصوف في الوعي التاريخي. ولا يظهر فيلسوف مثل ابن سينا إلا في المرتبة السادسة عشرة، بعده الرازي الفيلسوف والفارابي، ثم الغزالي، ثم ثابت بن قرة وخالد بن يزيد وابن باجة، ثم حنين بن إسحاق. في حين يغيب الكندي وابن طفيل وابن رشد. ويأتي أبو حنيفة في المرتبة الحادية عشرة، والسهروردي في المرتبة السابعة عشرة قبل ابن سينا.
35
فابن سينا هو الترجمة السادسة والتسعون في الأهمية مع اثنين وأربعين ترجمة أخرى. ولا يختلف وضع المتكلمين والفقهاء والصوفية عن وضع الفلاسفة. ولا يعادل ابن سينا في مرتبته إلا ابن حزم والشاعر المتنبي.
36
فمن مجموع 855 شخصية لم يحظ الفلاسفة إلا بعشر منها؛ أي ما يعادل أقل من 1٪. ويغلب الشعر على الأخبار والعلماء والفقهاء، وكأن الشعر هو ما تبقى من الكل، عودا إلى ثقافة ما قبل الإسلام. حتى ابن زهر الطبيب شاعر. الفقهاء والقواد والأمراء والملوك والخلفاء والوزراء والصحابة الأوائل هم أبناء الزمان، وليس الفلاسفة، بما في ذلك نغم جارية المأمون. والغزالي هو الذي ما زال مسيطرا من الأيام الخوالي وحاضرا في الوعي الجمعي.
37
وبالنسبة للأعلام من مجموع 4369 علما لا يمثل الوافد إلا ثلاثة أعلام: أرسطو وإقليدس وأغسطس القيصر؛ أي أقل من 0,01٪. يتصدر الموروث الوافد على الإطلاق لدرجة غياب الوافد كلية تقريبا مما يدل على الانغلاق على التراث، وعدم وجود آخر حديث بديل عن الآخر القديم. يظل صلاح الدين هو الذي يتصدر بعد الرسول نظرا لهز الحروب الصليبية الوجدان التاريخي. ويظهر الشافعي في المرتبة السادسة مما يدل على سيطرة الشافعي. والمتنبي في المرتبة الحادية عشرة، وأبو حنيفة في السادسة والعشرين، والغزالي في الخامسة والأربعين، والرازي الفيلسوف في الخامسة والستين، وابن سينا في السابعة والستين، وابن باجة في الثالثة والسبعين، وإسحاق بن حنين في الخامسة والسبعين، ومتى بن يونس في السادسة والسبعين، وابن رشد وابن طفيل في المرتبة السابعة والسبعين والأخيرة. لم يظهر ابن رشد إلا مرة واحدة بمناسبة شخصية عبد المؤمن، ملحقا بالحاكم، صاحب المغرب. وذكر ابن طفيل أيضا مرة واحدة في نفس المناسبة.
38
فالأولوية للمؤرخين والملوك والكتاب والخلفاء والحكام والشعراء واللغويين والفقهاء والأئمة والأصوليين. وتكفي الدلالات وليست الإحصائيات الكاملة.
أما بالنسبة للوافد فلم يظهر إلا أرسطو في المرتبة الثانية والسبعين، وإقليدس في الخامسة والسبعين، وبطليموس وبقراط وجالينوس في المرتبة الأخيرة، السابعة والسبعين. ولم يذكر الوافد بمفرده، بل في علاقته بالموروث. فقد ذكر أرسطو مع حنين بن إسحاق والرازي وابن العميد والفارابي وليس بمفرده. يتفوق عليه الرازي. يضرب به المثل في المنطق المعياري وكمال العلم وفي علم الحيوان الذي لا يفرق بينه وبين الإنسان.
39
ويضرب المثل بإقليدس في كمال الهندسة.
40
وقد استطاع الفارابي حل مسائله مع المجسطي. كما يضرب المثل ببطليموس وكتاب المجسطي في التعليم والشرح والاختراع. شرح البتاني أربع مقالات له. وهو واضع الأسطرلاب.
41
وقد ذكر أبقراط بمناسبة ثابت بن قرة وابنه ودراسته، وبمناسبة أمين الدولة بن التلميذ بقراط عصره، وجالينوس زمانه أي نماذج علمية في التاريخ.
42
وقد أصبح اسم ذي القرنين من الموروث.
43
وقد بدأ الإحساس بالغرب في هذا العصر المتأخر. لذريق ملك الأندلس وأرطباس (قومس الأندلس) أثناء فتح الأندلس وأرمينياقس أثناء فتح أرمينيا، وأرناط البرنس أثناء الصليبيين. فقد قوى الإحساس بالغرب أثناء الحروب الصليبية والتعرف على الفرنجة، جفري الملك الفرنجي، ورجار الفرنجي. بسبب الحروب الصليبية بدأت صورة الغرب في كتب التاريخ، كما ذكر قيصر أثناء الفتح الأول.
44
ومن الجماعات الثمانية والأربعين يظهر الفرنجة في المرتبة السادسة، واليونان في المرتبة الأربعين.
وبالنسبة للجماعات والقبائل والأمم والطوائف لا يكاد يظهر الفلاسفة إلا في المرتبة الرابعة والثلاثين من ثمان وأربعين مرتبة. يأتي الشعراء في المقدمة عودا إلى الثقافة العربية قبل الإسلام، ثم العلماء أي الدين، ثم الفقهاء على العموم قبل الشافعية على الخصوص، ثم الأنباء على العموم بعد الشعراء على الخصوص، ثم المحدثون أي العلوم النقلية، ثم الصوفية مما يبين سيادة التصوف ، ثم النحاة عودا إلى علوم اللغة، ثم القضاة في النظم السياسية، ثم الكتاب من أجل التدوين، ثم الحفاظ لأهمية مناهج النقل، ثم المؤرخون، والشافعية والقراء تدوينا للعلوم النقلية ثم المعتزلة والأطباء والحكماء والحنفية، ثم اليهود، ثم الخطباء والأئمة، ثم المتكلمون ومعهم يظهر اليونان، ثم الفقهاء الشافعية، ثم بنو حنيفة والرواة والزهاد وفقهاء الشيعة، ثم الفلاسفة واللغويون والموحدون والنسابون، ثم الشراة وعلماء الأندلس والمالكية والمغنون، ثم الباطنية والرافضة والمجوس، ثم الأشاعرة وحفاظ الأندلس والحنابلة وأهل الظاهر وفقهاء نيسابور، ثم أهل الرأي والجهمية ورواة الأخبار وعلماء حلب وعلماء الحجاز والمتطببون والمتشيعون والمبتدعة.
45
ويبدو من الأماكن غلبة الموروث المطلق على الوافد. فمن ست وخمسين مرتبة تظهر بلاد الروم في المرتبة الخامسة والأربعين، في حين أن بغداد ومصر والشام ودمشق والبصرة والعراق والموصل وحلب والكوفة ومكة والمدرسة النظامية والمدينة والأندلس والقاهرة والديار المصرية ونيسابور وفارس والمغرب وواسط وأصفهان وأفريقية ومرو وإربل والإسكندرية وحمص ومراكش وقرطبة والقدس وبخارى وبلخ وخوارزم وسبتة؛ كل ذلك يأتي قبل بلاد الروم مما يدل على تواري الآخر كلية لحساب الأنا.
46
ويتضح أن عواصم الثقافة العراق ومصر والشام. أما الوافد الشرقي مثل الهند، فإنه يأتي في المرتبة السابعة والأربعين بعد بلاد الروم. كما تبدو أهمية المدرسة النظامية وباقي مدارس التعليم.
كما تبدو الأولوية المطلقة للموروث على الوافد في المصادر التي اعتمد عليها ابن خلكان ومعظمها مصادر الكتاب والأدباء والمؤرخين والشعراء والنسابين والنقاد، والنحويين والفقهاء.
47
ولا يوجد فيها نص فلسفي واحد. ويبدو فيها النقل دون الاعتماد على المشاهدة والرواية المباشرة وتفسير الأحداث.
ومن المصادر يذكر ابن خلكان أسماء كتب عديدة في المتن؛ ما يقرب من الألفين.
48
في خمس عشرة مرتبة. ومن نصوص الفلاسفة لا يكاد يذكر إلا خمسين منها؛ أي ما يزيد عن 4٪ من مجموع الكتب المذكورة. تأتي مؤلفات الغزالي في المقدمة ثم الرازي الفيلسوف، ثم ابن سينا، ثم ابن حزم والتوحيدي ثم الرازي الطبيب وجابر بن حيان وخالد بن يزيد وابن الطبري وأبو البركات البغدادي.
49
وتغلب على مؤلفات الرازي الشروح على الداخل. ومن الوافد لا يذكر إلا المنطق والنفس والسماع الطبيعي لأرسطو، وأيساغوجي، وحيلة البرء لجالينوس، وكتاب إقليدس، والمجسطي لبطليموس مع شرح البتاني لأربع مقالات له.
50
ولا توجد عناصر ثابتة لرسم الشخصية عند ابن خلكان، ومع ذلك فبمقارنة الفلاسفة العشرة المذكورين: إسحاق بن حنين، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة ، والرازي الطبيب، والفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن باجة، والرازي وابن زهر الحفيد يمكن التعرف على العناصر الآتية:
51 (1)
ذكر الميلاد والوفاة والطالع والاسم والموطن والأسرة، والشهرة والرحلات والتعليم، والصلة بالأمراء والملوك وصورته في عصره. (2)
السمات الشخصية البدنية أو النفسية. فابن سينا كان عبقريا، منكبا على العلم، مزاجه الجماع، والمحنة التي يمر بها الفيلسوف مثل سجن ابن سينا، وموت ابن باجة بالسم في فاس. (3)
ذكر التخصص مثل الطب، ولكن الغالب على البعض الشعر، مثل إسحاق بن حنين وابن باجة وابن زهر وابن سينا والرازي، وعلى البعض الآخر الفلسفة مثل ثابت بن قرة. والرازي فقيه أكثر من فيلسوف. (4)
الأعمال والمصادر والأسلوب والعبارة؛ أي التأليف والمعرفة باللغات مثل الرازي ومعرفة اللسانين العربي والأعجمي. مع الاستشهاد بأقوال تلاميذه وأقرانه. (5)
التقييم النهائي مثل الحكم على إسحاق بن حنين بأنه خال من الأهمية العلمية والفلسفية، وابن زهر الأندلسي الحفيد شاعر وليس طبيبا، والرازي فقيه أكثر من فيلسوف، والرازي يفوق أرسطو وبطليموس عظمة ويذكر من شعره:
المرء ما دام حيا يستهان به
ويعظم الرزء فيه حين يفتقد
والفارابي فهم أرسطو. وابن باجة جمع بين الشعر والفلسفة. ويروى عن خاقان القيسي في «قلائد العقيان» اتهامه بالكفر في نص طويل به حيثيات التكفير: التعطيل، وانحلال العقيدة، ورفض الكتاب، والقول بتدبير الكواكب، والسخرية من المعاد، وبالتالي إنكار الأديان.
52 (4)
وينهار هذا النوع الأدبي في تدوين تاريخ الفلسفة حتى العصر الحاضر في قواميس الأعلام مثل «الأعلام» لخير الدين الزركلي وغيرها؛ إذ يتوه الفلاسفة بين «تراجم أشهر الرجال من العرب والمستعربين والمستشرقين». فيه كل شيء من الشرق والغرب، الماضي والحاضر، الأنا والآخر، مع ذكر المصدر المنقول عنه تاريخ الميلاد والوفاة أو الوفاة فحسب. وتذكر الأعلام طبقا للترتيب الأبجدي مع بيان كيفية تعريب الاسم في المقدمة. وكان مقياس الاختيار لهذه الأعلام السؤال عنهم، وهو الدافع على تأليف الكتاب. ويتحول التدوين إلى مجرد أعلام بالأسماء وإعطاء معلومات مدرسية قاموسية صغيرة للمبتدئين بلا رؤية أو قراءة أو تأويل.
53
ثامنا: الأقوال
(1)
هو النوع الأدبي الأخير للتأليف، فالنص هو وحدة التحليل. وكان من أوائل الأنواع ظهورا تاريخيا في «نوادر الفلاسفة والحكماء أو آداب الفلاسفة لحنين بن إسحاق» (260ه).
1
وقد تتحول الأقوال إلى أمثال شعبية عامة متطابقة عند كل شعب تعبر عن حكمة البشر الخالدة.
2
هي حكم وأمثال ونوادر يسهل حفظها ونقلها وروايتها والإبداع على منوالها. ولا يهم نسبة القول إلى صاحبه. فالقول مستقل عن القائل، والنص على المؤلف ولا ضير من الخلط بين ديوجنس المتجرد وديوجنس الكلبي.
3
ولا ضير من نسبة القول الجميل إلى أكثر من حكيم.
والنص ليس أصليا بل هو مجرد مختصر. ويتم تقطيع النص بعبارة «قال أبو زيد حنين بن إسحاق.» سواء كان ذلك من المترجم أو من الناسخ. وأحيانا «قال حنين بن إسحاق.» فقط دون الكنية. والدوافع على التأليف هي معرفة آداب القدماء والاستئناس بها للمساعدة على الوصول إلى الملكوت الأكبر الروحاني. فالوافد وسيلة، والموروث غاية. ويتم ذلك في إخراج مسرحي. إذ وجد حنين مصحفا مكتوبا بالذهب والفضة وفي أوله صورة الفيلسوف على كرسيه والتلاميذ بين يديه، صورة خيالية للشيخ والمريد، كونفوشيوس وتلاميذه، بوذا وأتباعه، الشيخ والحواريون، محمد والصحابة، وهي طريقة تعلم أهل الشرق. والأسلوب أدبي يصل إلى حد الافتعال في استعمال السجع. وهناك إحساس بالتغاير بين المؤرخ وموضوعه. فيتحدث عن اليونان باعتبارهم الآخر.
4
وينقسم الكتاب إلى عدة أنواع أدبية متداخلة على النحو الآتي: (1)
فرق الفلاسفة وهو مجرد تاريخ عن الفلسفة ونشأتها وفرقها كما فعل الفارابي في «فيما ينبغي أن يحصل قبل تعلم الفلسفة». (2)
ذكر الفلاسفة أي تعريفهم. (3)
نقوش نصوص خواتيم الفلاسفة، وهو ما نقش على خاتم كل فيلسوف وكأنه خاتم سليمان من حكمة باقية. (4)
اجتماعات الفلاسفة في بيوت الحكمة في الأعياد وتفاوض الحكمة بينهم وهو إخراج مسرحي لعقد حوار بين الفلاسفة، ثم تصدر حكمة أرسطو خاطبا أمام الأشهاد، حوار الحكمة الخالدة، الوحدة والتعدد، الحقيقة ورؤاها المتعددة. ومرة يجتمع أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أو عشرة أو ثلاثة عشر. (5)
آداب الفلاسفة المذكورين بالحكمة، وهو الجزء الأكبر من الكتاب والذي تسير عليه كتب الأقوال التالية . وهم خمسة عشر فيلسوفا بالإضافة إلى الإسكندر وأمه وحكماء الأمم الذين حملوا تابوت الإسكندر وما قالوا في تعزيته. (6)
سؤالات الفلاسفة وأجوبتهم، وهم أقرب إلى صغار الفلاسفة بأسلوب السؤال والجواب كما هو الحال في المسائل الفقهية. (7)
مكاتبات الحكماء وأجوبتهم، وهو نفس النوع الأدبي السابق، ولكن كتابة وليس شفاها. (8)
آداب فلاسفة الجن وما نطقوا به أمام سليمان؛ فالحكمة ليست فقط على لسان الإنس، بل أيضا على لسان الجن، كما أنها على لسان الفلاسفة والحكماء على حد سواء. وهي أيضا على لسان الآلهة والبشر.
5
وكان حنين على وعي بهذه الأنواع الأدبية التي يؤلف فيها، الأخبار والنوادر والآداب السياسية، والسؤال والجواب، وخطاب الحكمة النافعة.
6
وهناك أنواع أدبية فرعية داخل آداب الفلاسفة المذكورين بالحكم، تتراوح بين الآداب وهو الأكثر على الإطلاق، ثم الكتاب أو المكاتبات، والرسائل جمعا أو مفردا ثم التسبيح والخبر والكلام والسؤالات والجواب والكلام والذكر وبعض الأفعال مثل الوفاة والحضور فيما يتعلق بالإسكندر.
7
وتبين اجتماعات الفلاسفة الثمانية حوار الحضارات. ففي أحد الاجتماعات حضر أربعة من الفلاسفة، يوناني وهندي ورومي وفارسي؛ اثنان من الغرب واثنان من الشرق في مجلس لوقانيوس الملك للإجابة على ماهية البلاغة. وبطبيعة الحال فضل الملوك قول اليوناني، البلاغة تصحيح الأقسام واقتباس الكلام. وعند الملك أنوشروان اجتمع أربعة من الحكماء وقال كل حكيم كلمته دون تفضيل الملك إحداهما على الأخرى. فالشرق يقبل الجميع في وحدة واحدة شاملة على عكس الملك اليوناني الذي اختار الحكمة اليونانية. ويعتبر ذيوجانس نفسه أغنى من ملك الفرس وأرضى بالا منه لأن له قليل يقنعه وللملك الكثير ولا يقنعه. ولا يهتم ذيوجانس بأحد، والملك يهتم بالكل، فالفرس بالنسبة لليونان هم الآخر المغاير، العدو وليس الصديق، يضرب بهم المثل حين التقابل.
8
ومعظم الحكماء من اليونان المغاير لثقافة حنين اليونانية وأقلهم من خارج اليونان مثل سليمان ولقمان، والصابئة واليهود والنصارى.
9
وتدخل المنتحلات في تدوين التاريخ، سواء في الإخراج أو في التدوين. فقد اجتمعت الفلاسفة في بيوت الحكمة في الأعياد وتفاوضوا بينهم في الحكمة. وفي هذا الإطار تخرج حكمة أرسطو . وتنقش الحكمة على نصوص خواتيم الفلاسفة لما في ذلك من إغراء وخيال شعبي مثل خاتم سليمان. وتكثر المنتحلات على أرسطو، سواء في آدابه أو تسابيحه أو نصائحه للإسكندر أو جوابه لوالدة الإسكندر لتعزيتها ودورها عليه. ومن المنتحلات أيضا خبر الإسكندر عند موته، وكتابه إلى أمه لعدم الجزع عليه وتعزيتها في نفسه وردها ووفاته وحمل تابوته من بابل إلى الإسكندرية، ووصية فيثاغورس الذهبية وآداب هرمس.
10
وتبدو التوجهات الإسلامية في المنتحلات مثل تسمية الإسكندر بذي القرنين لتعشيقه على القرآن لبلوغه المشرق والمغرب. ومن أمن شيء من العالم فمن الله عز وجل. وفي رسالته إلى أمه أن كل شيء خلقه الله يكون في أوله صغيرا ثم يكبر إلا المصيبة فإنها تكون كبيرة ثم تصغر. وفي رسالته إليها يعزيها في نفسه يبدؤها باسم الله، وينهيها بالسلام عليها ورحمة الله وبركاته كأحد الكتاب المسلمين. وفي كلام أمه لما قرأت كتابه في تعزيتها تدعو أن يلحقها الله به وتنهي بالسلام. وعندما حضر جماعة من الفلاسفة وحكماء الأمم حمل تابوت الإسكندر ببابل للتعزية توجهت له أم الإسكندر بدعوات إسلامية، مثل: لا سلبك الله فضلا، سددك الله وسدد بك، وأرشدك وأرشد إليك، أحسن الله جزاءك من حسن الارتياد وأوضح لك سبل الرشاد، جزاك الله خيرا. وقال لها بعض المعزين مستعملا التعبيرات الإسلامية: وأنت بحمد الله ممن زينه الله بالصبر وأعلى ذكره بالسلو ... فذخر الله لك أجره وأحسن عزاءك بعده. وقال لها آخر: أنت المتعزية بعزاء الله. ودعا الله أن يختم لها أكمل الأجر ويدخرها لأفضل الذخر. وفي كتاب أرسطو إلى أم الإسكندر لتعزيتها أن موته من قضاء الله الجاري في خلقه، وينهيه بتحية الإسلام؛ السلام عليكم ورحمة الله . وفي جوابها له تعبر عن شكرها لله، وتقرئه السلام. وتظهر التوجهات الإسلامية في الوصية الذهبية لفيثاغورس. أولها تبجيل الذين لا يحل بهم الموت من الله عز وجل وأوليائه؛ أي ملائكته، وإكرامهم بما توجبه الشريعة والوفاء بالإيمان، ويدعو الرب الواهب للحياة. وفي آداب هرمس لا يستطيع أحد أن يشكر الله عز وجل على نعمة بمثل الإنعام بها.
11
ولا تعني أسلمة الحكم اليونانية أي حكم سلبي، بل تعني مجرد إعادة صياغة الوافد في قلب الموروث على غرار حكم الأنبياء، لقمان ومحمد. ولم يكن المسلمون بدعا في ذلك، بل قام به النصارى أيضا في المجموعات البيزنطية. ويبدو ذلك في التاريخ. فرصد فرق الفلاسفة عند اليونان لا يتم بمعزل عن فلاسفة اليهود والنصارى والعرب والمسلمين كنقاط إحالة. فالعرب تسمي أصحاب المظلة الظلل، وتشبه اليهود بهم، واتخذوا مع النصارى الأروقة في المعابد وفي الكنائس والهياكل. وقد بنى المسلمون أيضا الأساطين والأروقة في المساجد لتعليم الصبية القرآن والألحان والأغاني والأنغام. لا فرق في ذلك بين اليهود والنصارى والمسلمين والصابئة والمجوس. يكفي فقط تحليل العبارات الدينية حول الله؛ أي العقيدة دون الشريعة؛ أي الأخلاق كنموذج على القراءة الإسلامية للتراث اليوناني. ولولا تدوين الحكمة عند اليونان لما استطاع المسلمون نقلها. وتظهر العبارات الإيمانية في نقل المسلمين للتراث اليوناني برحمة الله وتوفيقه، بعد أن من الله على المترجمين بتعليم العربية، فقاموا بالترجمة من اليونانية والعبرانية والسريانية والرومية إلى اللسان العربي المبين. فالحمد لله على النعمة والامتنان، والتوفيق له، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
12
وفي نقوش فصول خواتيم الفلاسفة يظهر الدين من ثنايا الأخلاق عند سقراط؛ فتقوى الله تحفظ من الوقوع في طريق الشر.
13
وأرسطو فيلسوف أخلاق وإلهيات أكثر منه فيلسوف منطق وطبيعيات. ولكل عمل كمال. وكمال الدين الورع عن المحارم ومعرفة الباري عز وجل باليقين به.
والفلاسفة مسلمون؛ أفلاطون يصلي، وعند أرسطو العلم موهبة الباري. وتظهر بعض عبارات الاعتزال على لسان الفلاسفة مثل شكر المنعم. بل تظهر بعض الأحاديث النبوية على لسان سقراط مثل خير الأمور أوسطها. ويعلق حنين بن إسحاق على آداب ذيوجانس أنها مأخوذة من كلام المسيح عليه السلام لأنه كان قبله، مع أن ذيوجانس كان قبل المسيح بأربعة قرون. والمقصود التشابه بين آداب ذيوجانس وأقوال المسيح، فالمسيحية هي ثقافة حنين، مثل تشابهها مع الإسلام، ولا فرق بين المسيحية والإسلام، فكلاهما ثقافة العرب.
14
وكل الفلاسفة موحدون بالله، المعروف منهم أو المجهول؛ فقد قال أحد الحكماء: «لو تناهت حكمة الباري في حد العقول لكان ذلك تقصيرا لحكمته.» وهو ما يشبه الآية:
لو كان البحر مدادا لكلمات ربي ، لا فرق بين دين العقل عند اليونان ودين الوحي عند المسلمين، وطبقا لحلم المأمون. وعند سقراط العشق قوة هيأها الباري عز وجل ليكون بها الحيوان والخير كله من الله. وعندما توفي ابنه قال: جعل الله تعالى ذكره الدنيا دار بلوى، وجعل الآخرة دار مبقى، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا وثواب الآخرة مما لدينا عوضا. فيأخذ ما يأخذ مما يعطي ويبتلي إذا ابتلى ليجزي.
15
وعند أفلاطون أن الله جل ثناؤه إنما جعل لنا أذنين ولسانا واحدا لنسمع ضعف ما نتكلم. ولكل شخص موهبته من الله عز وجل. وقد لا تظهر التعبيرات والألفاظ الإسلامية عند أرسطوطاليس، ولكن تسبيحه فلسفي؛ يا أزل الأزل، يا قديما لم يزل، يا مبدي قدم الأول من نارك. وتظهر العبارات الإيمانية في البداية والنهاية والوسط، سواء كانت من المترجم أو الناسخ، البسملات والصلوات والدعوات.
16
وفي آداب بطليموس، العاقل من عقل نفسه إلا عن ذكر الله تعالى، والحكمة لا تحل قلب المنافق، والموت باب الآخرة، والأعمال في الدنيا تجارة الآخرة، والإحسان إلى المسيء يعرضه لمقت الله تعالى ذكره. ومن لم يتعظ بالناس وعظ الله به الناس. وما أوطأ راحلة الواثق بالله، ونسى مثوى المطيع لله. ويفسر العشق بأن كل نصف يبحث عن النصف الآخر، لأن الله خلق كل روح مدورة ثم قطعها نصفين مثل أسطورة «الأندروجين» عند أفلاطون.
وفي آداب لقمان الحكيم يوصي ابنه بأن الاتكال على الله أروح، وألا يخلو فمه من ذكر الله، فإن فضل ذكر الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه وإرضاء الله بسخط المخلوق، وألا يأخذه في الله لومة لائم، وإصلاح الصلاح، ومجالسة من يذكرون الله، وإعطاء الناس حقوقها. فمن يمنع حقا يفتح الله عليه باب الباطل. وفي آداب سولون أمور الدين والدنيا، أحدها تحت الآخر، مثل القلم والسيف، ولا سيف تحت القلم. وهي الرؤية الإسلامية لصلة الدين بالسياسة، السياسة في خدمة الدين، وليس الدين في خدمة السياسة. وفي آداب إقليدس، من جلالة القلم أنه لم يكتب لله عز وجل كتاب إلا به، وكما أقسم الله بالقلم في القرآن وخلق به. والخط هندسة روحانية تظهر بواسطة الجسد. وعند فيلون الحكمة هي اختيار الإنسان ما يفعل لا بإكراه الشريعة. وفي مكاتبات الحكماء وأجوبتهم طالب أحدهم بالسؤال داعيا للسائل بالتوفيق من الله، وسأل السائل: بم تتلقى النعمة من الله عز وجل؟ وكان جواب الحكيم، تتلقى نعمة الله بكثرة شكره، ولزوم طاعته، واجتناب معصيته. كما أن رضا الناس ليس غاية في ذاته وإلا سخط الرب على من أرضى الناس وأغضب الله. فالإنسان لا تأخذه في الله لومة لائم. كما كتب حكيم أن الله قد حف الدنيا بالشهوات والآفات، وحلالها بالمؤذيات، وحرامها بالعقوبات، وحلاوتها بالمرارات طبقا لجدل الخير والشر.
17
وتبدأ آداب الفيلسوف مهاردجيس المعلم بالبسملة، والحمدلة على ما خص الله به من النعم. وفي آداب فلاسفة الجن في حوارهم مع سليمان عليه السلام أن من ضيع الأقرب أتاح الله له الأبعد. ثم أثبت سليمان صلى الله عليه جميع ما قاله الجن في حكمته.
18 (2)
واستمر هذا النوع الأدبي من التأليف في «الكلم الروحانية في الحكم اليونانية» لابن هندو (421ه). وكما يبدو من العنوان أن الغاية ليس مجرد تاريخ للفلسفة اليونانية، بل تحويله ونقله من مستوى العقل إلى مستوى الروح، ومن الحكمة إلى النبوة. وكان من الإمامية الاثنى عشرية، مما يطرح السؤال المستمر عن الصلة بين الوعي والتاريخ والاضطهاد، أو عن وفرة الثقافة الفلسفية الوافدة فيه كأداة للتحرر كما هو الحال في جماعة إخوان الصفا أو الصلة العرضية بين تدوين التاريخ والعمل بالوراقة وبخزائن الكتب.
19
وربما تكون صلة ابن هندو بالقاضي عبد الجبار وبالأجيال المتأخرة للمترجمين مثل ابن الخمار أحد العوامل المساعدة في بلورة الوعي التاريخي.
ولا تذكر مصادر للحكم، فالحكمة مستقلة بذاتها، علم بذاته، لا يحتاج حتى إلى قائل أو إلى مصدر. المصدر يربط الحكمة بالتاريخ، بالزمان والمكان والشخص، وهي مستقلة عن ذلك كله، متن بلا سند، قول بلا قائل، رسالة بلا رسول، نبوة بلا نبي، خلق دون خالق، كما هو الحال في الأمثلة العامية والآداب الشعبية. ولا يوجد ترتيب زماني أو موضوعي للحكم، فالحكماء خارج الزمان، وموضوعها واحد وهو حسن الأخلاق، ويتعاصر حكيمان ويتحاوران في الخلود وليس في الزمان مثل حوارات الإسكندر مع جالينوس. ومرة واحدة يذكر المكان في أسطراط مونيقوس الذي صار مرة إلى مدينة المرياس. ومعظمها كلمات، باستثناء مرة واحدة محاورات دارت بين أرسيجانس وسقراط، ومرة واحدة كلمات في كلمات سيافندس السكيت. وعادة ما تبدأ الأقوال مباشرة باستثناء كلمات سيافندس السكيت التي تبدأ بتعريف الحكيم.
20
وكما هو واضح من العنوان، أنه في تاريخ الفلسفة اليونانية وحدها؛ أي في الوافد دون الموروث كما هو الحال في «صوان الحكمة» للسجستاني قبل أن يكلمه البيهقي. ويذكر واحد وسبعون حكيما لهم 633 حكمة بالإضافة إلى مجموعة من الأقوال لا تنسب إلى قائلها (153 حكمة)، مما يبين أن وحدة الفكر هو النص وليس المؤلف، القول وليس القائل. فيكون مجموع الحكم المدونة (786 حكمة).
ويأتي في المقدمة أرسطو ثم أفلاطون ثم ديوجانس ثم سقراط ثم الإسكندر في المراتب الخمس الأولى من ست عشرة مرتبة. قد تذكر بعض أسماء الحكماء داخل عرض الحكيم مثل أرسطو داخل أفلاطون، والإسكندر وأفلاطون داخل أرسطاطاليس، وسقراط مع أرسجانس، وأفلاطون مع هوميروس، وهوميروس داخل الإسكندر، والإسكندر داخل ديمستانس وزينون الفيلسوف والسينوكراتس، وفورس، ملهى الإسكندر، وفلسطين مزاح الإسكندر. وأرسطو داخل طلاماخوس وأطرياس داخل أسطرا طونيوقس، والإسكندر داخل الأقوال غير المنسوبة. ويلاحظ تكرار بعض الأسماء مثل الإسكندر، ثامسطيوس، باذريوس. ليست الغاية الاسم بل القول. القول فريد ويتكرر الاسم مما يدل على الحكمة الخالدة الواحدة بالرغم من تعدد القائلين. أما الأقوال المفردة غير المنسوبة إلى قائليها، فتتوزع في ثلاثة عناوين تدل على نفس الشيء؛ الأول يدل على وعي بعدم نسبة القول إلى القائل، والثاني يدل على المثل اليوناني المستقل عن القائل كما هو الحال في الأمثلة الشعبية، والثالث يدل على النقل من اليونانية إلى العربية .
21
وقد ينسب العلم إلى المكان مثل أناخريسس الصقلي، عناين الطفيلي، سيفاندس السكيت. وقد ينسب إلى المهنة والوظيفة والصنعة مثل هوميروس الشاعر، سيمونيدس الشاعر، لوغاطس الشاعر، الإسكندر الملك، باسيليوس الملك، أبقراط الطبيب، ديجستانس الخطيب، زينون الفيلسوف، أبرقلس الفيلسوف، فلاسطيس الفيلسوف، مولون الطباخ من أهل صقلية جمعا بين المهنة والمكان، فورس ملهي الإسكندر، فلسطين مزاح الإسكندر، خوينقس مضحك الإسكندر. وقد يوضع له لقب من فلسفته مثل ديوجانس الكلبي، أو من رسالته في قومه مثل سولن أحد أنبياء اليونانيين. ويذكر لفظ اليونانيين مع سقراط وديوجينس بالمفرد (يونان)، والأقوال التي لم تنسب إلى أصحابها بالإضافة إلى ظهوره في العناوين الثلاثة الأخيرة: «منسوب إلى اليونانيين»، «ومن أمثال اليونانيين»، «مما نقل من أسفار اليونانيين»، وأمثال اليونانيين وأسفار اليونانيين. وتبرز شخصية الإسكندر المحورية، فله كلماته المستقلة، وله ذكر مع تلميذه أرسطو، ومع ديوجانس الكلبي، ومع ديمستانس الخطيب، ومع زينون الفيلسوف، ومع أكسينوكراش، ومع دنفيس، ولهخوس ملهيه، وفلسطين مزاحه، وقورنيقوس مضحكه.
22
وفي الحكم المنسوبة إلى اليونانيين دون قائلها يظهر الإسكندر، فأصبح الإسكندر محاورا مثاليا.
ولا يظهر الوافد الشرقي إلا عرضا، كيومرت آدم الفرس في أفلاطون، والفرس ودارا في الإسكندر الملك. أما الموروث فإنه يظهر في قراءة اليونان وإعادة بنائه على الموروث خاصة الشعر. فلا يذكر من الموروث إلا خالد بن يزيد والمتنبي في أفلاطون، وأبو العتاهية في أرسطوطاليس، وابن الرومي في إسكندر الملك، والمتنبي مرة ثانية في طيمن والخليل ابن أحمد.
وتختلف الحكم فيما بينها طولا وقصرا. وتأخذ الحكمة أحيانا شكل القول المفرد وأحيانا شكل الحوار، مثل الحوار بين أرسيجانس وسقراط في صيغة تقابل بين الحكمتين، والحوار بين أفلاطون وتلاميذه خاصة أرسطو، وديموقريطس وتلاميذه. ومعظمها حكم إنسانية أخلاقية عملية تندر فيها الحكم الإلهية المباشرة باستثناء بعض التعليقات من ابن هندو، بعض منها لصب الوافد في الموروث وإلغاء المسافة بينهما على عكس الشهرزوري الذي يصب الوافد العقلي في الموروث الديني. ومن عظمة الحكمة يمكن نسبتها لأكثر من شخصية. فما يهم هو القول وليس القائل، والنسبة إلى القائل لتعظيمه وتشريفه بالقول.
23
وتظهر المرأة كمحاورة وطرف مع سقراط والإسكندر.
ولأول مرة يتعدى التاريخ إلى التعليق، ويصبح التعليق بديلا عن القراءة من أجل إعطاء تأويل آخر أو لمجرد تأييده ببيت من الشعر تركيبا للوافد على الموروث. ولا تكون التعليقات إلا على أقوال كبار الحكماء مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو عندما يتم التقابل بين الوافد والموروث والاتحاد في تجربة إنسانية واحدة. وليست كل الأقوال تعليقات.
24
وهي بدايات التعليق كنوع أدبي مستقل.
وقد يكون التعليق اعتمادا على العقل الخالص من المؤرخ، مثل تعليق ابن هندو على خدمة الناس بعضهم لبعض، والتعلم في الصغر، والتعليق على قول أرسطو عن قوة الصدق في تحريك الجبل بأن شرط ذلك عدم الخداع أو البله أو الغباء، وتعليق على سقراط عن الفقر بمعنى القناعة، والتعليق على قول سقراط بأن القبح في النساء وجمال الروح في الرجال، وشرح الناموس عند سقراط يعني الشرع والأوضاع الشرعية شرحا لألفاظ الموروث، وشرح ضالة الجاهل عند سقراط وسلوك طريق العلم، وتعليق على سقراط بأن الموت جهل، وأن الموت بالإرادة هي إماتة الشهوة، وأن النفس هي التي تحشر إلى الله جل وعز، والتعليق على قول أبقراط عن صناعة الطب، وعن عيوب الإنسان وعيوب الآخرين لديمستانس،
25
وعلى رأي ديوجانس أن الذهب لا يزن الإنسان. وقول ديوجانس، مقابلة المحبة بالطاعة وشرح القمر بأنه من الكواكب تعليقا على سيافندس، وشرح رأيه في المرأة على أنها مصدر التناسل. وقد يتحول العقل الخالص إلى إدخال القول في رؤية المعلق، مثل التعليق على العدل عن أرسطو (الخروج) إلى الله جل وعز الذي هو المعاد والجنة.
26
وقد يكون التعليق مقارنة بين فيلسوف وآخر، وربطا للأقوال في بنية أقل، مثل مقارنة قول طيلاماخس عن أن الإنسان هو الذي يضل عن الحكمة وليست الحكمة هي التي تضل عن الإنسان مع قول أرسطو.
27
وقد لا يكون القول نفسه في حاجة إلى تعليق لأنه من داخله مفتوح على الموروث، مثل قول سقراط إن الحكمة سلم العروج إلى الله، ومن فعل في هذا العالم فعلا حسنا كافأه الله عليه في عالم النور، وتعريف أفلاطون الفلسفة بأنها التشبه بالله، وقول الإسكندر عن ضرورة الاستحياء من الله، وبسط الله ملكه. وقول ديوجانس تعليقا على ذكر أحد له بسوء «ما علم الله منا أكثر مما يقول.» والجزع من أمر الله، والإيمان بالله وبر الوالدين والأدب، وقول قراطيس عن التقرب إلى الله تلبية لحاجات الإنسان وليس لله، وإجابة سيافندس عن الله بأنه معقول مجهول واحد لا نظير له مطلوب غير مدرك، ابتداء كل عفة مراقبة الله تبارك وتعالى، الشكر موهبة من الله تبارك وتعالى للعبد، مساعدة الأشرار على أفعالهم كفر بالله تعالى، المغلوب من قاتل الله تعالى والبخت: إذا أراد الله تبارك وتعالى خلاص امرئ عبر البحر على بارية.
28
وقد يكون التعليق بشاعر عربي غير محدد مثل الاستشهاد ببيت شعر لشاعر لتأييد قول أفلاطون على الصبر في الأمور الذي يؤدي إما إلى إحراز الحظ أو العذر، أو أن المصغي إلى الذم شريك لقائله، وإيراد بيتين من الشعر على أن الحزن لا يكون إلا عند من يمتلك، وعن الجهل المركب أن الجاهل لا يعلم أنه جاهل، وعلى تروح المريض بنسيم أرضه لجالينوس، وعن نسيان المعروف للغير وتذكر المعروف للذات لديمستانس الخطيب، وعن تحذير ديوجانس لطفل يرمي بالحجارة لعله يرمي أباه، والاستشهاد بالشعر على أن الإنسان هو الذي يضل عن الحكمة وليست الحكمة هي التي تضل عن الإنسان، وعلى قول بياس لبيت شعر عن الحسد، وعلى حفظ المدن بآراء الرجال وتدبير الحكماء وليس بالبروج.
29
وقد يكون التعليق اعتمادا على مجرد مثل عربي مثل «مبكياتك لا أمر مضحكاتك.» تعليقا على قول سقراط عن حمد المعنف لا المتملق أو اكتشاف تشابه بين القول الوافد مثل طلب العلم وآدابه وإرجاع ذلك إلى الخليل بن أحمد، فربما أخذ الثاني من الأول، وإلقاء مثل «من نيك الغير ينك نياكا.» على التعلق بعوسج يجرح المتعلق به، أو مثل أهل بغداد «لست أرى في وجهك ورد المعرفة.» على من لا يبدو على وجهه السرور حين المعرفة.
30
وتكون مادة التعليق من الشعر العربي مثل قول أفلاطون عن العفو الذي يفسد اللئيم، ويصلح الكريم، وتأييد ذلك ببيت للمتنبي، وكذلك تشبيه الفقير بالغني مثل الورم والناس تأخذه على أنه سمنة، وشرح أرسطو بيتا لأبي العتاهية في أن الخلق خير دليل على وجود الخالق، ولابن الرومي استشهادا على قول الإسكندر ألا يشين الإنسان أحدا خشية أن ينقلب الصديق إلى عدو، وتدعيم قول طيلاماخس عن ضلال الإنسان عن الحكمة وليس ضلال الحكمة عن الإنسان بقول المتنبي. وقد يكون الاستشهاد بمثل عربي من أشعب الطماع للاستشهاد على قول أفلاطون في ضرر الكذب، هو اعتقاد الكاذب بما يكذب فيه.
31
وتظهر بعض ألفاظ الشريعة من الموروث مثل الشريعة في أقوال أفلاطون ونصيحة أرسطو بعدم التكالب على الدنيا، وأن الدنيا دول، ولن يهلك قوم هلاكهم من أنفسهم، والاقتداء بالبهائم بدلا من الاقتداء بالله لسقراط، وليكن دعاؤك أن يحرسك الله من الأصدقاء. وقد يكون التعليق إحالة إلى الرسول مباشرة بإيجاد حديث نبوي مطابق مثل قول سقراط «الجاهل من عثر بحجر مرتين.» وحديث «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.» وذكر حديث: «نعم الختن القبر.» تعليقا على قول ديوجانس نعم الصهر حيا في حالة دفن أحد الموتى.
32
وقد يكون التعليق إحالة اليونان إلى غيرهم من الحضارات في التواريخ المتقابلة، مثل إحالة قول أفلاطون عن أن أشقى الناس من اهتم بما يجمع لغيره، وإحالة ذلك إلى مثل مشابه عن كيومرت آدم الفرس. وقد يتجاوز التعليق إلى أن يكون ملحقا بالقول ويصبح قولا مستقلا منسوبا إلى مركز آخر مثل أخذ الشاعر معنى أفلاطون أن لو وجد مستمعا لتكلم وقوله في خالد بن يزيد.
33 (3)
والتدوين الشائع للأقوال هو «مختار الحكم ومحاسن الكلم» للمبشر بن فاتك (480ه).
34
ويضم أقوال عشرين حكيما، أربعة عشر من اليونان وستة من الشرقيين مما يدل على أولوية الجناح الغربي على الجناح الشرقي في الحضارة الإسلامية. ويأتي في مقدمة اليونان أفلاطون ثم سقراط وأرسطو ثم الإسكندر ثم فيثاغورس مع لقمان في المرتبة الرابعة من خمس عشرة مرتبة. ثم يأتي باقي فلاسفة الشرق في المراتب الأربعة الأخيرة. ويظل اليونان من البداية إلى النهاية.
35
وواضح أولوية الحكمة العملية على النظرية، والأخلاق على المنطق والطبيعة، وأفلاطون وسقراط على أرسطو. والصعوبة في الأقوال هي تناثرها، وبالتالي ضرورة تصنيفها في موضوعات أخلاقية تكون رؤية أخلاقية شاملة.
ويتكون رسم الشخصية من العنصرين الرئيسين، الحياة والسيرة الشخصية والأعمال والأقوال. ففي الحياة يذكر الاسم واشتقاقه. فأرييس عطارد، وسقراطيس المعتصم بالعدل، وأفلاطون العميم الواسع، وأرسطو الكامل الفاضل، ونيقوماخوس أيده العادل القاهر. ويذكر النسب، فصولون جد لأفلاطون، وأبقراط من نسل أسقليبيوس الأول.
36
ويذكر تاريخ مولده ووفاته أو سنة حاسمة في عمره أو حدث كبير وقع له أو في حياته أو تحديد عمره دون بداية أو نهاية أو تحديد زمن النضج والرجولة وهو في الغالب سن الأربعين. عاش سولون سبعة وسبعين عاما، وبقراط خمسا وتسعين، وسقراط أكثر من مائة، وأرسطو ثمانية وستين عاما، والإسكندر ستا وثلاثين، ومهادرجيس ثمانين، وجالينوس سبعا وثمانين. ويذكر تلامذته وأساتذته وأصحابه خاصة لو كان رئيس مدرسة كما يذكر عصره، وعلاقته بالملوك والأمراء مثل ديوجينس والإسكندر، أرسطو والإسكندر. كما تذكر بعض نوادره وحكايته وأخباره وربما محنته مثل السجن والنفي والتعذيب والقتل.
والعنصر الثاني مؤلفاته، أعمالا وأقوالا، وهي التي يسهل قراءتها بعد ذلك في صورة آداب ومواعظ؛ أقواله وكلامه وحكمه ومشوراته. فمؤلفات فيثاغورس تصل إلى مائتين وثمانية كتب وأرسطو مائة يصنف طبقا لما هو شائع.
37
كما يبين أسلوبه ورموزه كما هو الحال عند فيثاغورس وهرمس وسقراط وأفلاطون. ثم يتلو ذلك آدابه، مواعظه، ومشاوراته، وحكمه وآدابه. تظل للأخبار الأولوية على الآداب.
38
وتختلف النسب بين الأخبار من ناحية والآداب والحكم من ناحية أخرى من حكيم لآخر. تغلب الأخبار على زينون وبقراط والإسكندر وجالينوس بينما تغلب الآداب والحكم على سولون وفيثاغورس وديوجانس وسقراطيس وأفلاطون وأرسطو وبطليموس.
39
ومعظم حكماء الشرق مع بعض حكماء اليونان أقوال فقط: شيث، أرميس، صاب، أسقليبوس، هوميروس، مها درجيس.
40
ويظهر الشعر كأحد وسائل التدوين، فالشعر ثقافة العرب.
41
ومختار الحكم جزء من مشروع أكبر لتدوين التاريخ.
42 (4)
ولما غاب التاريخ عن هذا النوع من التأليف سهل التأليف فيه فرديا وجماعيا، وضعا وانتحالا. فالقراءة خطوة متوسطة بين التاريخ والانتحال، بين النقل والإبداع. وهذا هو حال «فقر الحكماء ونوادر القدماء» لمؤلف مجهول من القرن السابع الهجري،
43
وهو طريقة الاقتصار على معرفة المعنى الخالد دون ذكر للتفاصيل والجزئيات في السيرة الذاتية وحياة الأشخاص، واستبعاد الموضوعي لحساب الذاتي، والتاريخ والسرد لحساب القراءة والتأويل، جمعا بين الأنا والآخر، وتمثلا لثقافة الآخر في إطار ثقافة الأنا، بطريقة الأنا وأسلوبه، النوادر والحكايات على لسان البشر والحيوانات، والأمثال والحكم التي يسهل حفظها واستيعابها وتكرارها ونقلها وتربية أجيال عليها. وقد استمر هذا النوع الأدبي ليس فقط في علوم الحكمة بل في علوم الأخلاق والسياسة؛ أي في الحكمة العملية.
44
ويبدأ بالحكم والأقوال ثم بالنوادر والحكايات، فالنظر يسبق العمل، والفكر يأتي قبل السيرة، والمبادئ العامة توضح قبل تطبيقها سلوكا في حياة الناس. وهي نفس العلاقة بين القرآن والحديث، بين القاعدة والتفصيل. والمؤلف ليس حكيما ولا من أهل التأليف ولا يعنى بالتصنيف مما يسمح له بالإبداع والاختراع. وربما كان تأليف جماعي تعبيرا عن وعي حضاري جماعي. ويبدو أنه من شعراء الدولة، أديب لم يشتغل بعلوم الفلسفة إلا على سبيل الثقافة العامة. تغلب عليه الصنعة اللفظية.
وقد تم الاقتصار على المشهورين من الفلاسفة، وهم عشرون، كلهم من اليونان باستثناء الأخير بزرجمهر من فارس؛ مما يدل على طغيان الغرب على الشرق. ويتكرر اثنان خطأ، زينون وذيبو الشاعر، وربما خلط بين زينون الأيلي وزينون الرواقي، بين زينون الصغير وزينون الأكبر، وأرطبوس وأرطبيق حيرة في رفع حرف السين باعتباره علامة الرفع في اليونانية مثل أرستب وأرستبوس. ولا يخضعون لترتيب زماني أو تصنيف، فهي مدارس، ولكن طبقا للأهمية من حيث الكم يأتي بزرجمهر أولا. فالجناح الشرقي قليل العدد عظيم القدر. ثم يأتي فيثاغورس في مقدمة اليونان باعتباره مؤسس الفلسفة والتي منها سقراط وأفلاطون، وربما أرسطو صاحب المنطق وواضع الأخلاق.
45
ويأتي معه في الأهمية بطليموس صاحب المجسطي. الأول للعقل والثاني للكون. ثم يأتي ثالثا سقراط وأرسطو. فسقراط هو أحكم البشر، وأرسطو هو المعلم الأول. ثم يتلو الإسكندر معلم أرسطو، ثم أبقراط وهوميروس الشاعر، ثم أفلاطون، ثم ديوجانس وسولون وديمقراطيس وهرمس وطاليس وأرسطيبوس وأرشميدس، وأخيرا في المرتبة السابعة يأتي جالينوس وريموس.
46
والبعض منهم أقل شهرة من الآخرين مثل ذيبو الشاعر أو ريموس. ولا تهم الشهرة التاريخية بقدر ما يهم الاسم كحامل لحكمة. ولا فرق في الحكمة بين الحكماء والأطباء والمشرعين والشعراء.
الفصل الثاني
القراءة
أولا: قراءة التاريخ
وتعني القراءة تأويل التاريخ وإعادة صياغته، وصب حضارة الوافد داخل حضارة الموروث، إدخال ثقافة الآخر في ثقافة الأنا؛ من أجل تجاوز ثنائية الثقافة، وتحقيقا لوحدة الحضارة البشرية في بدايتها ومسارها. ليست القراءة مجرد وجهة نظر في المقروء من منظور الأنا. والتاريخ نفسه به قدر من القراءة تقل في بداية التدوين وفي عصوره المتقدمة وفي أنواعه الأدبية الأولى، وتزيد في نهايات التدوين وفي عصوره المتأخرة، وفي الأقوال والحكم والأمثال كنوع أدبي. وتتفاوت القراءة من تدوين لآخر، فالبعض أقرب إلى التاريخ منه إلى القراءة، مثل ابن أبي أصيبعة، والبعض الآخر أقرب إلى القراءة منه إلى التاريخ مثل الشهرزوري. وهذا هو الفرق بين المؤرخ والفيلسوف، بين الراصد والرائي، بين المحصي والمدرك. وتتفاوت القراءة بين الموضوعات. أكثرهم قراءة هرمس وأفلاطون وأرسطو وجالينوس وبقراط، وأقلهم قراءة إقليدس. كلما كان الموضوع أقرب إلى الدين زادت القراءة، وكلما ابتعد عن الدين قلت القراءة. ربما لصعوبة تأويل بعض الموضوعات الوافدة داخل الموروث مثل تحويل النار إلى نظرية في الخلق.
1
ولكن الغريب هو عصيان أرسطو على التأويل والأسلمة عنه الشهرزوري، كبير المؤولين، الفيلسوف الذي يؤرخ للفلسفة.
والصلة بين التاريخ والقراءة مثل الصلة بين التاريخ والتأريخ، بين الموضوعي والذاتي في تدوين التاريخ، بين التاريخ كنصوص منقولة والتاريخ كقراءة للنصوص؛ ولذلك يصعب الفصل بين التاريخ والقراءة والتمييز بينهما في الدرجة لا في النوع. فلا يوجد تاريخ بلا حد أدنى من القراءة ولو رؤية المؤرخ وهدفه، ولا توجد قراءة بلا حد أدنى للتاريخ، للنواة الأولى التي تنسج حولها القراءة.
القراءة هي وضع الوافد في إطار الموروث، وحمله عليه، وتفسيره من خلاله، وإعادة بنائه فيه. الوافد هو المادة والموروث هو الصورة. وهي منطقة التفاعل التي تحدث فيها ظاهرة التشكل الكاذب. فاللوجوس عند اليونان هو النطق أو القول عند العرب.
2
تعني القراءة اتخاذ الموروث كإطار مرجعي للوافد. فهو تاريخ إسلامي مقنع، إعادة عرض الموروث بلغة الوافد، وإعادة ترجمة الوافد بلغة الموروث من أجل إلغاء المسافة بين الاثنين تجاوزا لثنائية مصادر المعرفة إلى المعرفة الموحدة.
3
فقد صنف أفليمون كتاب الفراسة، وهو علم عربي قديم قبل الإسلام وبعده. وقص هيوميروس على لسان الحيوانات أصبح جزءا من الأدب العربي،
4
تعني القراءة إلغاء مراحل التاريخ والمسافة الزمنية بين الحضارات، ضم اليونان إلى المسلمين، والفلسفة إلى الدين، والأسطورة إلى التاريخ. تعني القراءة بيان اتفاق الحكمة الوافدة مع النبوة الموروثة، واتفاق الحكماء مع الأنبياء، فالحكمة من النبوة، والنبوة من الحكمة:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا . ويبدأ ابن فاتك كتابه بأقوال الأنبياء قبل أقوال الحكماء، وبالتالي وحدة الحضارات البشرية بالرغم من تنوعها، لا فرق بين شرق وغرب، شمال وجنوب. وإذا كان التاريخ قد تم عرضه عن طريق وصف كتب التاريخ وتصنيفها في أنواع أدبية مستقلة عن التاريخ، وتطور النوع الأدبي تاريخيا جمعا بين البنية والتاريخ، فإن القراءة تكون طبقا للموضوعات عبر كتب التاريخ. وقد يكون سبب تأليف كتب التاريخ هو أن صناعة الطب من أشرف الصنائع المذكورة في الكتب الإلهية والأوامر الشرعية، يفرضها العقل والنقل، الطبيعة والوحي، وتوحيدا بين علم الأبدان وعلم الأديان. وإذا كان الخبر واللذة مطلبين للحكماء فإنهما لا يتمان إلا بالصحة، لذة الدنيا، وخير الآخرة.
5
والقراءة تعني أيضا رد الوافد إلى أسس الموروث؛ أي العقل والطبيعة. ولو تعارض مع هذين الأساسين لرفض. فالوحي نوعان: وحي صاعد عقلي طبيعي عند اليونان، وروحي عقلي طبيعي نازل عند الأنبياء. وهذا هو معنى حلم المأمون والحسن والقبح العقليين اللذين يجمعان أرسطو والإسلام.
6
وهناك حكمة خالدة تجمع كل حكم الشعوب، المعاني على مذهب أرسطوطاليس، والألفاظ اقتداء بالجاحظ، والنظم بطريقة البحتري.
7
كل الفلسفة تيار واحد، وافد أو موروث، أفلاطون أو أرسطو، يهودي نصراني أو مسلم. وهي الفلسفة الإشراقية في مراحل تجلياتها،
8
وهناك إحساس بتقدم الزمان عند المؤرخين والحديث عن القدماء والمحدثين.
9
ومع هذا الإحساس بالتاريخ وبالتقدم هناك فلسفة واحدة هي الفلسفة الخالدة، عبر عنها جميع القدماء والمحدثين، كل منهم كشف عن جانب منها هي فلسفة الأخلاق أو فلسفة الروح أو فلسفة الإشراق. وهي فلسفة مضادة لفلسفة اللذة والجسد، لا فرق فيها بين يوناني وفارسي وهندي وبابلي وسرياني وعربي ويهودي أو نصراني أو إسلامي، مترجم أو مؤلف، قديم أو حديث.
والسؤال الآن: هل أسلمة التاريخ تتم من مؤرخين إشراقيين فحسب، أم أنها منهج تدوين الحضارة لتاريخها بصرف النظر عن المؤرخين، وأن الخلاف بين المؤرخين في الدرجة لا في النوع، بين الأقل مثل تواريخ أسماء الأعلام والأكثر مثل الشهرزوري، بين المؤرخين والفلاسفة؟ قد يكون للمؤرخ صاحب المذهب قدرة على تجاوز التاريخ إلى القراءة لأنه صاحب موقف مثل الشهرزوري. ولما كان بعض المؤرخين من الشيعة فإن تواريخهم أتت أقرب إلى القراءة والتأويل منها إلى التاريخ السردي. لذلك قسم الشهرزوري «نزهة الأرواح» إلى قسمين أو روايتين؛ أولا التاريخ الموضوعي، وثانيا القراءة والتأويل.
وللمؤرخين قراءتهم الإشراقية للفلسفة اليونانية، لا فرق في ذلك بين أفلاطون وأرسطو، كما يفعل طاش كبري زاده. فأرسطو بالرغم من عقلانيته إلا أن التصوف غالب عليه في حياته الخاصة. وقد فضل أرسطو التدوين بعد أن كان مضنونا به على غير أهله. والفلسفة للخاصة والصفوة في الحكم ولأبناء السلاطين. واستعمل الرمز للتخفي. ووضع المنطق آلة العلوم. الفلسفة متوارثة وكأنها نحلة صوفية.
10
وتبدلت أحوال الفلسفة عبر العصور من حلم المأمون بترجمة كتب أرسطو إلى فتاوى ابن الصلاح في تكفير الفلاسفة، من شراء كتب القدماء بالذهب وزنا إلى رفضها هبة وعطاء، لا فرق بين كتب اليونان وفارس والهند. ويشارك البيروني في هذه الرؤية الفقهية المتراجعة في الهجوم على ابن المقفع واتهامه بالزندقة والتشكك في الواحد الأول من جهة التعديل والتجوير والميل إلى الوثنية والتعاطف مع ماني والالتفات حوله ومقالاته أقرب إلى التمويه والجهالات في هيئة العام.
11
وقد تكون البواعث على القراءة، التعبير عن الموروث بصيغة الوافد، وتقديم الوافد بلغة الموروث إذا كانت تصورات الوافد تبدو معارضة لتصورات الموروث أو معطيات الموروث التقليدية معارضة لقوالب الوافد الحديثة. وقد تكون إحدى آليات التخفي، الخوف من عرض الأفكار الوثنية الخالصة في بيئة دينية. ومن ثم تتم أسلمتها أولا حتى يمكن قبولها والتعامل معها. وقد يكون الهدف من أنصار اليونان الترويج للوافد باستعمال آليات الموروث، والتعبير عن سقراط وأفلاطون وأرسطو بلغة القرآن والحديث حتى يتم قبوله وابتلاعه. فالموروث إحدى قنوات ابتلاع الوافد، الطعم الذي تقبل به الثقافة التقليدية الثقافات الوافدة. وقد يكون الدافع هو نقد الاتجاهات المحافظة في الداخل واستعمال الوافد أداة لتطوير الداخل. وهو وافد قريب من الموروث وليس بعيدا عنه. لذلك تتم أسلمته أولا حتى يصبح سهل الازدراد. وقد يكون الدافع على القراءة التحول من الفلسفة النظرية إلى الفلسفة العملية، وهو ما يتفق مع مسار الحضارة الإسلامية حيث يقل التاريخ وتكثر القراءة في تطور علوم الحكمة.
12
والقراءة شيء والتوفيق شيء آخر؛ القراءة فعل أصيل يتم فيه التعبير عن الوافد من خلال مقولات الموروث والتعبير عن الموروث من خلال مقولات الوافد، كعمل طبيعي تلقائي في حالة ازدواج الثقافة وثنائية مصادر المعرفة. بل إن الصمت عن المصادر يكون عن قصد من أجل إعطاء القول استقلاله. وبالرغم من أن التاريخ من عمل المؤرخ، إلا أنه يعبر عن وعي تاريخي جمعي، عن الوعي التاريخي الحضاري من خلال وعي المؤرخ. لذلك لا يهم صدق أو كذب الروايات أو الحقائق التاريخية المروية خارج وعي المؤرخ؛ أي الوعي الجمعي. فذلك عمل الموثق وليس عمل الفيلسوف أو مؤرخ الأفكار. ليست القضية في البحث عن مصادر «أسلمة» حكماء اليونان. فالأسلمة إعادة بناء فلسفي إبداعي من المؤرخ وثقافته الموروثة وتوظيفها من أجل احتواء الوافد. لا يوجد مصدر مدون استمد منه المؤرخ روايته من أجل إضافتها على نصوص الوافد، بل قرأ الوافد من خلال روح الموروث التي تكون الثقافة العامة للمؤرخ. وكما تبلغ القراءة ذروتها عند الفيلسوف المؤرخ مثل حكيم الإشراق الشهرزوري كذلك تبلغ ذروتها في كتب الأقوال والحكم والأمثال لأنه يسهل تأويلها دون تحويل للتاريخ إلى أسطورة، والسيرة إلى خيال كما هو الحال في «مختار الحكم ومحاسن الكلم». وتأتي القراءة بطريقة طبيعية للوافد والتعبير عنه وكأنه مثل عربي دون إحساس بالأسلوب المترجم عند المترجم الأول أو عند الفيلسوف الثاني مثل المبشر بن فاتك دون أن يتطلب ذلك من الفيلسوف معرفة اللغة اليونانية.
ليس الهدف من قراءة التاريخ المطابقة بين التاريخ والواقع، بين الرواية والمروي. فالرواية تدوين من خلال رؤية المؤرخ. كلما قلت المسافة بين الراوي والمروي كانت الرواية أقرب إلى التاريخ دون مطابقة. وكلما بعدت المسافة بين الراوي والمروي كانت الرواية أقرب إلى القراءة. وما زال الاستشراق الغربي والعربي في إطار المطابقة الأولى بحثا عن التاريخ، إما لسيادة النزعة التاريخية للقرن الماضي عند الاستشراق الغربي، أو لغياب الرؤية عند الاستشراق العربي.
ثانيا: التاريخ المتبادل
وتبدو القراءة في التاريخ الموازي والإحالات المتبادلة، ورد تاريخ اليونان إلى تاريخ الأنبياء، ومسار الآخر إلى مسار الأنا. فإبراهيم وموسى في الفترة ما بين أفلاطون الطبيب وأسقليبوس الثاني. والمسيح في الفترة ما بين أبقراط وجالينوس. لا يهم أي مسار في إطار الآخر، إنما الأهم هو تداخل المسارين في تاريخ متواز ومتداخل ومتعدد الرؤى.
1
عاش أنبادقليس زمن داود. أخذ الحكمة منه وهو في الشام. وعاش جالينوس بعد المسيح بمائتي عام. ولا تهم الصحة التاريخية بقدر ما تهم إحالة اليونان إلى الأنبياء. لا يهم حساب التاريخ، فالتاريخ نمط مثالي وليس تتابعا زمنيا.
2
وعاش أبولن بعد زمن موسى.
3
وظهر جالينوس في زمان عيسى، وبقراط قبله، والفلسفة في اليونان قبل المسيح، وهوميروس بعد زمان موسى بنحو خمسمائة وستين عاما، وأفلاطون الزنديق لجعله الله علة العلل؛ عاش في عصر موسى، عصر التكفير.
4
وظهر أبلن زمن موسى، وربما براق الحكيم وزمنه.
5
وكتب أفلاطون جوامع سياسة المدن زمن عيسى. ونشأ علم النجوم من بابل من جهة الكلدانيين زمان إبراهيم. وأحيانا يؤرخ للمسيحية باليونانية. فقد ظهرت النصرانية أيام جالينوس. ويؤرخ لأول فيلسوف يوناني من وفاة موسى، وديمقريطس وأنكساجوراس في زمان مالاخا النبي.
ويحدد تاريخ الروم بتاريخ الأنبياء، من إبراهيم إلى موسى، ومن موسى إلى المسيح، ومن المسيح إلى جالينوس، ومن أسقليبوس إلى إبراهيم، بصرف النظر عن دقة السنوات أسوة ببداية التاريخ في الأناجيل وأنساب المسيح حتى آدم وإجابة على سؤال كيف بدأ التاريخ كما يتضح في بعض العناوين «البدء والتاريخ».
6
كما تتم إحالة تاريخ اليونان إلى تاريخ الفرس وتاريخ الفرس إلى تاريخ اليونان، والإسكندر إلى دارا وأردشير ويزدجرد. وقد تم قتل يزدجرد أيام عثمان عام 32ه بعد ملك ساد لهم 3146 عاما، حتى أخذ ملكهم ملك الملوك.
7
وعاش أبقراط زمن أردشير بهمن الفارسي جد دارا بن دارا الذي عالجه أبقراط ورفض أن يأخذ أجرا منه أو يقيم عنده. وكانت ولادة أفلاطون وموته والإسكندر زمن أردشير. ولم يكن بطليموس بعيدا عن عصره. وعاش أبقراط وديمقريطس في زمن بهمن بن أسفنديار بن كشتاسب. وبزغ نجم فيثاغورس زمان دارا الثاني. وعاش أفلاطون زمان أرطخشاست من بلاد فارس وهو كشتاسب الملك الذي خرج إلى زرادشت. وكان أبقراط أيام بهمن بن أردشير.
كما يرد تاريخ اليونان إلى تاريخ البابليين، من طاليس إلى ملك نبختنصر.
8
كما ظهر طاليس أثناء ملك نبختنصر وبزغ نجم سقراط أيام نبختنصر. ونشأت الكتابة والحروف اليونانية زمن أردشير أربعة عشر حرفا. والأقل إحالة هو إحالة اليونان إلى بابل مثل ظهور بطليوس أيام نبختنصر.
وقد يحال إلى العرب، فهوميروس الشاعر عند اليونان بمنزلة امرؤ القيس عند العرب.
9
ويؤرخ للكلدانيين بأنبياء بني إسرائيل. فقد ظهر علم النجوم في بابل زمن إبراهيم.
10
ونادرا ما يحال إلى التاريخ الهندي. إلا أن الشهرستاني الذي أفرد للهند مساحة كبيرة في «الملل والنحل» يحيل زمان ظهور موسى إلى زمان طهمورث، آخر ملوك الهند.
11
وقد يحيل التاريخ إلى نفسه، وتحدد معاصرة حكيمين من حكماء الإسلام بالنسبة لبعضهم البعض. فثابت بن قرة وقسطا بن لوقا معاصران للكندي. ولا تهم المعاصرة التاريخية الزمانية بقدر ما تهم المعاصرة الفكرية. فالحكماء أنماط مثالية خارج التاريخ. وأحيانا يؤرخ لظهور الإسلام بدولة هرقل.
12
كما يؤرخ اليونان باليونان. فعاش طاليس بعد هوميروس، وأفلاطون علم أرسطو، وظهر الشعر قبل الفلسفة عند اليونان. ويؤرخ لأنكساجوراس بطاليس، والإسكندر باليونان، وإقليدس نقطة إحالة من غيره، الأقل شهرة مثل أخريميدس إلى الأكثر شهرة.
13
ويؤرخ لإسرائيل بإسرائيل، داود وسليمان.
14
وهناك روايات متعددة عن لقمان. ويؤرخ للفرس بالفرس، دارا ملك الفرس. ويؤرخ لبابل ببابل، الملك نبختنصر.
15
فإذا ما قوي الوعي بالذات يصبح التاريخ الهجري هو أساس كتابة تاريخ الحضارات الأخرى القديمة أو الحديثة كما فعل البيروني في تاريخ حضارة الهند بالهجري. ويكون التاريخ بالهجرة عند الشهرزوري كنقطة انتقال من الوافد إلى الموروث. وإبراهيم بن زهرون يؤرخ له بالهجري بعد أن كان التاريخ باليوناني، إقليدس أو الإسكندر.
16
وهذا هو الذي يسمى بمقارنة الحضارات، وقراءة بعضها بالبعض الآخر كما يفعل البيروني عندما يقارن الهند باليونان والرومان، وباليهود والنصارى والسريان، وبالعرب والمسلمين ثم بأوروبا، من القمة إلى القاعدة، أو من المركز إلى الأطراف. فالغاية حوار الحضارات، ليس فقط من البيروني، بل من كل من يريد أن يأتي بعده فيجد الطريق ممهدا أمامه بعرض عقائد الهند وفلسفاتها.
17
وقد يكون الهرم مقلوبا إذا كان القصد هو بيان مدى اتساع رقعة المقارنة. فالهند هو الموضوع الرئيسي الأكثر اتساعا تتم مقارنته بدوائر أقل.
ولا تعني المقارنات الاغتراب الحضاري، بل التمايز الحضاري، التنوع والوحدة، بلغة الأنا والآخر، مثل ما بيننا وبينهم من اتفاق في عدد البروج وأربابها.
18
وبالرغم من أن الحضارات في التاريخ وعبر الزمان واختلاف العصور مقارنة بين الأوائل والأواخر إلا أنها تتم خارج الزمان كأنماط مثالية ووحدات مستقلة. تدرس الهندوكية والمسيحية في علاقة النفس بالبدن وأساطير الشر وصلة المانوية بالمسيحية. والإسلام هو الموجه للمقارنة والموحد لأطرافها والقاضي بأحكامها النائية. ولكل دين خاصيته ومحوره وماهيته. الإخلاص للإسلام، والتثليث للمسيحية، والسبت لليهودية، والتناسخ للهندوكية.
19
ويقارن بين العقوبات والسوط. وإذا ارتبطت السياسة بالدين فسد العالم، وإذا انفصلا صلح حال العالم. والتاريخ المقارن ليس تاريخا رصديا سرديا، بل هو أقرب إلى قراءة التاريخ لأنه لا تتم المقارنة إلا بناء على قراءة أحد طرفي المقارنة من منظور الآخر أو قراءة الطرفين من منظور ثالث يكشف في العادة عن أوجه التشابه أكثر مما يبين أوجه الاختلاف لأنه طرف ثالث وحدوي، يوحد أكثر مما يفرق.
ويبين البيروني السماوات السبع من أقوال يحيى النحوي وهوميروس الشاعر وأفلاطون لأرسطوطاليس.
20
الشعراء والأطباء والحكماء والأنبياء والقواد ساهموا جميعا في وضع حكمة واحدة. والحكمة والنبوة عند الشهرزوري من مشكاة واحدة. ويمكن عقد حوار بين محمد وعمر وأرسطو بعد فتح مصر. فالثلاثة متعاصرون فكريا وليس زمانيا. والمعاصرة ليست بالضرورة من الدرجة الأولى، المعاصرة الحسية المباشرة، ولكن من الدرجة الثانية؛ أي الفكرية المعنوية. وقد تكون أكثر عمقا ودلالة من المعاصرة الزمانية التاريخية.
21
ويضع الشهرزوري في بداية الحضارة البشرية الشعراء والأطباء والحكماء والأدباء والقواد أي مجموع البشر. ويضع المسيحية والمسلمين، العرب واليونان، الشرق والغرب في بداية تاريخية واحدة. غريغوريوس وباسيليوس رمزان للشرق والغرب، للدين والحكمة، للنبوة والفلسفة، للنص والطبيعة، لا فرق بين آدم وشيث من ناحية وبين أفلاطون وأرسطو من ناحية أخرى. الكل مسلم. وتعبر مجموعة الأمثال والحكم والمواعظ الصوفية الأخلاقية عن هذه الفلسفة الخالدة.
وكما يتكيف الوافد طبقا للموروث يتكيف الموروث طبقا للوافد، ويتحول الإسلام إلى كهنة وملوك ورعية وسياسة حتى يمكن المقارنة بينه وبين الحضارات الوافدة. وتبرز أهمية الحكمة والعقل كما تبرز أهمية السياسة والدولة. فالفلاحون كيمياء الأرض بالزرع والنبات لها حتى يمكن مقابلة اليونان، ومقابلة الوافد من فارس، كل ذلك في أسلوب شرقي معروف عن الأنبياء «والحق أقول لكم.» مع إعلان عن الجهاد، والحدود الإسلامية مثل حد الرجم. كل الحكماء إلهيون. وكل حكيم إلهي أخلاقي بالضرورة. ولا يوجد حكيم منطقي أو طبيعي.
22
وقد تحدث الرسول عن أرسطو كما تحدث أرسطو عن الرسول في حلم المأمون وفي الأحاديث المروية من الرسول عن أرسطو: «والله لو كان أرسطو حيا لكان أول أتباعي.»
وحكماء اليونان تلاميذ الأنبياء. فقد أخذ أنبادقليس الحكمة من لقمان. فهو من تلاميذه. وحكماء بحر إيجه تلاميذ أنبياء الشام. إلا أن أنبادقليس تكلم في خلق العالم ولم يعرف المعاد. فلا عقل بلا قلب، ولا فلسفة بلا تصوف، ولا نبوة بلا حكمة. لذلك انتسب أنبادقليس إلى الباطنية. وبطبيعة الحال ليس المقصود التاريخ بل الرؤية للعالم. فالتاريخ نمط مثالي يتحكم فيه الفكر وليس الزمان. الفلسفة اليونانية مصدرها عبراني ومؤسسها لقمان. ولما كان الإسلام وريث الأنبياء فإن الإسلام في تاريخه الطويل مصدر اليونان منذ آدم.
وأعظم فلاسفة اليونان خمسة: أنبادقليس، وكان زمن داود، آمن بخلق العالم، ولكنه قدح في المعاد، وأنصاره من الباطنية. وفيثاغورس تلميذ سليمان في مصر، تعلم الهندسة والطبيعة والدين والألحان من المصريين. وسقراط تلميذ فيثاغورس؛ أي تلميذ الأنبياء والمصريين، انشغل بالعلوم الإلهية وزهد في حياته. خالف اليونانيين في عقائدهم. أما أفلاطون وأرسطو فما زالا على عبادة الأصنام، وآراؤهما في المعاد ضعيفة. وفيثاغورس هو مؤسس الفلسفة اليونانية. أخذ منه سقراط ثم أخذ أفلاطون من سقراط ثم أخذ أرسطو من أفلاطون. حتى أرسطو فيثاغورسي. وهو تلميذ أفلاطون الأثير. وضع المنطق تعبيرا عن رياضيات فيثاغورس. وخلود النفس الذي عبر عنه أفلاطون في «فيدون» معبرا عن رأي سقراط أصله من فيثاغورس. وتكشف محاورة طيماوس عن عالم روحاني، عالم المثل العقلية، عالم الربوبية. وإن تصنيف أرسطو للفلسفة فيثاغورسي النشأة. فالفلسفة إما علومها؛ أي الفلسفة النظرية، التعليمية والطبيعية والإلهية؛ وإما أعمالها أي الفلسفة العملية، النفس والأخلاق والسياسة؛ وإما آلتها وهو المنطق.
23
واليونان موحدون بالله، لكنهم يتوسطون بالأصنام بينهم وبين العلة الأولى كالصابئة والعرب.
24
وفيثاغورس أخذ الحكمة من مصر؛ فمصر هي الأصل. أخذ منها الهندسة كما أخذها من سليمان في مصر، داخلا إليها من الشام، برا وليس بحرا، حيث تعلم من الكلدانيين أيضا. وعرف أن فوق العالم الأرضي عالما علويا نورانيا لا يدرك إلا بالعقل. فاليونان تلاميذ المصريين والأنبياء إما كطريقين مستقلين أو كطريق واحد، الأنبياء في مصر، ومصر في تراث الأنبياء، فالفلسفة اليونانية مصدرها مصري. فقد أخذ معظم فلاسفة اليونان حكمتهم من مصر، فيثاغورس، طاليس، أفلاطون، هيرودوت، أفلوطين، هرمس. ولا يهم من هي مصر تاريخيا. هل هي بلد العمالقة؟ هل العمالقة هم الفراعنة؟ لا يذكر اسم الفراعنة، بل القبط سكان مصر. وأحيانا يبدو المصريون أهل ذمة حتى وقت صاعد. وهل الإسكندرانيون يونان مقيمون في مصر، أم مصريون يتحدثون اليونانية؟ فمصر هي نشأة الحضارات، والمصريون أساتذة اليونان، والجنوب معلم الشمال، وليس كما هو الحال الآن الشمال معلم الجنوب بعد نهبه.
وأحيانا أقل أخذ الأنبياء حكمتهم من اليونان. فقد نقل الطب اليوناني إلى إبراهيم وعيسى والمسيح.
25
تعلم العلوم الطبيعية والإلهية من المصريين، وأخذ الهندسة منهم ورجع بها إلى اليونان. رابط الكهنة بمصر، وتعلم منهم الحكمة، وصنف لغة المصريين بثلاثة خطوط، العامة والخاصة، وهو خط الكهنة وخط الملوك. واشتاق إلى الاجتماع بكهنة مصر، فذهب إلى عين شمس وامتحنوه فقصر. وقبلوه كرها. ولما فشا ورعه أعطاه أماسيس سلطانا على الضحايا للرب لم يعط لغريب قط. ثم رجع إلى بلاده. هناك إذن مصر وفلسطين قبل اليونان.
26
كانت مصر منبع العلوم وأصل الحضارات، ومهبط الوحي والرسالات. ربما ولد فيها إدريس، هرمس الهرامسة. وأتاها أفلاطون وأرشميدس وفيثاغورس وطاليس متعلمين. كانت مصر مركز الحضارات القديمة، وجمعت الإسكندرية بين حضارات الشرق وحضارات الغرب، وحافظت مصر على التراث اليوناني من الضياع فيما عرف باسم مدرسة الإسكندرية، وفيها تم اللقاء بين الحضارات ونشأة العلوم. وإليها هبط الكلدانيون والكنعانيون على رغم من هجاء بعض الشعراء لها.
27
واليونان أكثر توحيدا وتنزيها وتقدما في الوعي الإنساني من عهد الهنود. وكانوا يستمدون علومهم من الله ومن القريحة؛ أي من الوحي والطبيعة التي تشمل العقل والفطرة.
28
فالحكماء أنبياء، والأنبياء حكماء. كان اليونان أيام الجاهلية قبل ظهور النصرانية على ما عليه الهنود من العقيدة. ثم فازوا بالفلاسفة الذين نقحوا لهم الأصول الخاصة دون العامة ؛ لأن قصارى الخواص اتباع البحث والنظر، وقصارى العوام التهور واللجاج إذا خلوا عن الخوف والرهبة.
29
كان اليونان في القديم يوسطون الأصنام بينهم وبين العلة الأولى، ويعبدونها بأسماء الكواكب والجواهر العالية؛ إذ لم يصفوا العلة الأولى بشيء من الإيجاب، بل بسلب الأضداد تعظيما لها وتنزيها. فكيف يقصدونها للعبادة؟ ولما نقلت العرب من الشام أصناما إلى أرضهم عبدوها كذلك ليقربوهم إلى الله زلفى استشهادا بأفلاطون في المقالة الرابعة من النواميس.
30
وجالينوس في كتاب «أخلاق النفس» يذكر صنمهم هرمس. والصابئة عبدة الكواكب والأصنام، علماؤهم فلاسفة، وفلاسفتهم علماء، وهم محبو الحكمة التي تجمع بين الفلسفة والعلم. ولكن لما تنصر الروم منعوا الفلسفة وحرموا الكلام فيها؛ إذ كانت في الظاهر ضد شرائع النبوة. تحملت الفلسفة الدين في البداية ولم يتحمل الدين الفلسفة في النهاية.
31
وتتم أسلمة الوافد ككل، فالحكماء يبحثون في أوصاف الخالق الواجبة له، إما دهريون ويجحدون الصانع (طاليس)، وإما طبيعيون يبحثون في أفعال الطبائع مثل أصحاب الطبائع من قدماء المعتزلة. فمجدوا الله وعظموه وتحققوا بمخلوقاته. هنا ترد الفلسفة إلى الدين، ويصبح الحكماء من كبار المؤمنين بالله واليوم الآخر وبالبعث والنشور وما جاءت به الكتب على لسان الأنبياء.
32
فالحكماء ثلاثة: دهريون مجدوا الخالق مثل طاليس، وطبيعيون انتقلوا من الخالق إلى المخلوق، وإلهيون وهم الحكماء المتأخرون سقراط وأفلاطون وأرسطو.
وقد استمد اليونان علومهم من الشرق القريب لهم من الكلدانيين والبابليين أو من الشرق الأبعد عنهم، فارس والهند. فالشرق أصل الحضارة والغرب تابعه. «ريح الشرق» بدأت أولا قبل «ريح الغرب»، وربما إليه يعود. لا تاريخ بلا جغرافيا، ولا زمان بلا مكان.
33
قد يكون زرادشت، نبي فارس، مصدر حكمة اليونان عند الشهرزوري. حكمة فارس مصدر حكمة أرسطو طبقا لإحدى احتمالات الشهرزوري وطبقا لأستاذه السهروردي الذي نهل من أساطير فارس القديمة لتأصيل حكمة الإشراق.
34
وفي ملك بهمن الفاضل ظهر ديموقريطس. فالاحترام ليس فقط لملوك اليونان بل أيضا لملوك الفرس.
35
وظهر ديمقريطس وأبقراط في زمن بهمن الفاضل بن أسفنديار بن كستاشب. وعرف اليونان كتابتهم في ملك دارا بن أردشير . وولد أفلاطون في نفس الفترة. ومات قبل سنتين من وفاة أرسخو. وملك على بلاد مقدونيا فيلبس زمن أردشير الثاني. وولد الإسكندر سنة 13 من ملك أردشير. وعاش فيثاغورس زمان دارا الثاني. وقد نقل العرب القدماء الدواوين الفارسية قبل الحكمة اليونانية. فضرورة العمل سابقة على ضرورة النظر، وعند بعض المعاصرين أصل الحكمة العروبة، والعروبة أصل الأشياء.
36
وأول الحكماء آدم أبو البشر تأكيدا على تماهي النبوة والحكمة. فأول الأنبياء هو أول الحكماء، وأول الحكماء هو أول الأنبياء. فالحكمة مرتبطة بوجود الإنسان الأول. وبصرف النظر عن مكان إقامته على الأرض أو زمانه هو أول من استخرج العلوم والصنائع ودونها. كل ذلك بناء على توجه لا شعوري من آية:
وعلم آدم الأسماء كلها . تدوين الحكمة وإنشاء الصنائع، فالعلم وراثة جيلا وراء جيل.
وشيث ابن آدم عليه السلام كالأنبياء، هو أوريا الأول. وأغاثاذيمون أستاذ هرمس الهرامسة المسمى إدريس عند العرب، وتنتسب إليه الصابئة. فشيث هو ممثل الحضارات كلها، كما أن آدم ممثل البشر جميعا، مصري يوناني، عبري كلداني دون أن يتعدى الحدود إلى فارس. علم الصابئة جزء منه وجزء من يحيى. لا يقولون بحشر الأجساد، بل الأرواح وحدها. الفلسفة إذن أصيلة وقديمة، حروفهم نبطية، وكتابهم زبور مكون من مائة وعشرين سورة، وقبلتهم المقدس. ظهر بالشام أو صعيد مصر. وهذه تركيبة حضارية أولى تمثل وحدة حضارية واحدة في الشرق الأوسط القديم. وتقوم مبادئ شيث ومذهبه على المعرفة بالله والملائكة وحملة العرش، معرفة الخير والشر، الطاعة للملك الذي استخلفه الله في الأرض، بر الوالدين، المعروف بقدر الطاعة، مواساة الفقراء، التعصب للغرباء، الشجاعة في طاعة الله، العصمة عن الفجور، الصبر بالإنابة واليقين، صدق اللهجة، العدل، القنوع في الدنيا، الضحايا والقرابين شكرا لله على نعمه، الحلم وحمد الله على مصائبه، الحياء وقلة المماراة. وواضح من هذه المبادئ أنها تجمع بين أصلي التوحيد والعدل، والأخلاق الصوفية، والطاعة للحكام، والعلاقات الأسرية. إنما التعصب للغرباء هو الأمر الغريب الذي لا يتفق مع التوحيد والعدل وأخلاق الصوفية. واضح أن هذه تركيبة ذهنية، إبداع حضاري في صورة شيث. وربما هي آليات للتخفي لمذهب شيعي عن صلة الراعي بالرعية بالرغم من علاقة الطاعة، مجرد رؤية حضارية شاملة تعبر عن وحدة الحضارة البشرية في البداية قبل تنوعها.
37
شيث أول الحكماء، مصدر الحكمة والشريعة، وحدة الحضارات الأولى قبل أن تنقسم إلى حكمة يونانية وحكمة إسلامية. وإذا كانت فضائل المؤمن ست عشرة فضيلة، فأولها المعرفة بالله عز وجل وطاعته وقدسية الملائكة وحملة العرش.
38
ولا تهم الدقة في تاريخ الأنبياء وتسلسلهم، بل المهم هو النبوة كنمط، الأنبياء كنموذج. فلمن كان شيث ابن آدم نبيا ولم يتكاثر البشر بعد؟ وكيف يرسل إلى أورويا الأول ولم تكن هناك ممالك؟ وهل هو اسم مصري أو كلداني؟ ألم تكف تربية آدم لذريته؟ وهل نسيت ذريته تعاليم الأب كي يذكرهم الله بنبي جديد ولم تمض أجيال وأجيال بعد؟ وكيف تبدأ البشرية بزواج الولد بأخته أو الابن بأمه؟ والاعتماد على النصوص القدسية كلها خاصة التوراة والزبور التي تقص تاريخ البشرية، ومن البداية حتى النهاية مثل الاعتماد على القرآن.
39
ثالثا: بداية التاريخ
وهناك صعوبات في البحث عن البداية الأولى للطب. ومع ذلك هناك ثلاثة احتمالات: الأول: بعد العهد القديم وصعوبة معرفة ماذا حدث في أول الزمان. الثاني: تعدد الآراء في البداية. والثالث: صعوبة الحكم فيها والتحقق أيهما أصدق. وهنا تتداخل الإلهيات مع مناهج البحث، التاريخ والقراءة، العلم والدين. وتظل هذه الاحتمالات قائمة دون محاولة للتوفيق بينها. وهذا أقرب إلى فلسفة التاريخ منه إلى التاريخ. هي آراء ومذاهب فلسفية وليست تاريخا مدعما بالوثائق والبراهين. تتدخل الأسطورة مع الواقع، ويتم التركيز على دور النساء التي تبرأ بالأدوية، فالبراءة للضعيف.
وتبدو القراءة في الموضوع النموذجي وهو كيفية بداية الطب. ويدخل البعد الديني الجديد في التصنيف. فإذا كان الطب حادثا وليس قديما نشأ بعد الإنسان وليس قبله، إلهاما وليس كسبا، فإن الإلهام من الله «جل وعلا». فقال البعض إن الله «جل وعز» ألهم الناس الطب بالرؤيا. وقال آخرون إن الله «عز اسمه» ألهم الناس الطب بالتجربة. والترجيح للموروث لأن البدن محدث . وهي نفس القضية التي عرضها الأصوليون في نشأة اللغة: توقيف أم اصطلاح. وخلق الله «تبارك» صناعة الطب لأن عقل الإنسان قاصر عن ذلك. فالله وحده خالق الأشياء (صاعد). وقد يكون تضعيف العقل دفاعا عنه.
1
وتتضح القراءة في أسماء الله وصفاته وطرق مدحه وتعظيمه «جل وعلا»، «جل وعز»، «عز اسمه»، «تبارك اسمه»، «عز وجل »، «الله تعالى». قال طاليس وأنكسماندوس وأنقسمانس هو «الله تعالى»، «الله سبحانه وتعالى»، «البارئ جل جلاله».
2
وتتدخل الجغرافيا مع التاريخ لتفسير نشأة الطب في جزيرة فو؛ فهناك ثلاث جزر في الإقليم الرابع: رودس، قيندس، فو التي نشأ فيها آل أسقليبوس دون تحديد لسبب نشأته في هذه الجزيرة الثالثة دون الجزيرتين الأوليين. وهناك قسمة ثالثة للشعوب تتداخل مع قسمة الأقاليم الجغرافية لتفسير نشأة الطب وهي سبعة: الكلدانيون، اليمن، بابل، فارس، الهند، أقريطش، سينا. والخلاف بين الدين والعلم في تصور نشأة العلم مشكلة محلية، وضم الوافد إلى حضن الموروث.
وهناك عدة روايات متجاورة يذكرها الشهرزوري لتفسير نشأة التاريخ الحضاري للعالم كلها محتملة. منها تاريخ ومنها قراءة. هناك مدخل يجمع بين الوافد والموروث لنشأة الطب وأقسامه يعتمد على الموروث وحده. ويضع خمسة احتمالات: الأول التأييد الإلهي اعتمادا على حديث الرسول، يرجعه إلى سليمان بن داود. وكثير يرون هذا الرأي مثل الصابئة والمجوس ونبط العراق والسودانيون والكلدانيون والكسدانيون. ويعتبره المصريون واليونان هرمس، ويعتبره اليهود يوفال بن لاقح بن متوشالح. ويعتبره أبو سليمان المنطقي من فارس والهند. والثاني الرؤية الصادقة اعتمادا أيضا على حديث الرسول.
3
فقد قاله الرسول لأحدهم في المنام، وذلك تفسير آية الشجرة المباركة في القرآن. والثالث الاتفاق والمصادفة مثل ما حدث لأندروماخوس الثاني من إلقاء لحوم الأفاعي في الترياق، وجرب ذلك مرة ثانية وثالثة حتى ثبت كدواء. والرابع المشاهدة على الحيوانات والاقتداء بأفعالها كما ذكر الرازي، فالطبيعة خير طبيب. والخامس الإلهام كما يحدث للحيوان، فكل جسم له مقومات بقائه. فالطب النبوي جزء من تاريخ الطب بالإضافة إلى الطب الوافد مع طب إبداعي ثالث يعتمد على القياس والتجربة والحيل. والسؤال الآن عن مدى صحة هذه الأحاديث عن الطب النبوي وإلى أي حد يعتبر القرآن والحديث موجهين للتاريخ لتفسير نشأة الطب.
4
ويبدأ الشهرزوري الفلسفة بقسمتها إلى نظرية وعملية ويبين الوصول إلى هذه القسمة بالعقل الخالص.
5
وفي هذه الوحدة الأولى للحضارات يظهر هرمس في عصر سقراط، وأخنوخ وهرمس في عصر إدريس، وحكيم بابلي تلميذ فيثاغورس، وفيثاغورس من سكان مصر، وأصطفن البابلي أيام شعيب، وبطليموس نقل الفلك البابلي. وبين البابليين واليونان كانت هناك صلات متبادلة مثل اليونان وكنعان، اليونان ومصر، ضد ما روجه الغرب الحديث حول المعجزة اليونانية، وأساتذة العالم ورواده الأوائل، وكأنه لم تكن هناك حضارات أخرى أقدم من اليونان في جنوبها مصر، وشرقها كنعان وبابل وفارس والهند. ويظهر النموذج الإسلامي، تعدد البشر للتعارف، واختلاف الحضارات للإثراء المتبادل، والجوار للتفاعل. أقواله كأنها وحي من عند الله مثل: «فإنه حق على الله أن يعطي المظلومين روحا وأن يجعل الظالمين بلا روح.» هرمس فيلسوف مصر وباني أهرامها وآثارها. عاش هرمس الأول في الصعيد المتصل بالسودان والإسكندرية، كي يكون بين اليونان ومصر. فالفكر هو الذي يتحكم في التاريخ والجغرافيا. وهو أخنوخ عند اليهود وإدريس عند المسلمين. أول من تكلم في الجواهر العلوية وحركات النجوم، فأنذر بالطوفان. وجد يوحنا البطريق كتاب أرسطو إلى الإسكندر «سر الأسرار»، وهو منحول، في هيكل عين الشمس الذي بناه هرمس الأكبر بنفسه ليمجد الله «تعالى» فيه بعد أن دله عليه راهب متنسك عالم فاهم في مصاحف الهيكل بعد أن دخلت الحيلة عليه. وهو الذي أشار إلى القرآن في وصف إدريس،
ورفعناه مكانا عليا ، فالرفع صورة قبل السيد المسيح. ولماذا لا يعيش في فارس أيضا ويسمونه أبنمهين؛ أي ذو العقل، كما يفعل أبو سليمان.
6
ويفترض صاعد أن هناك وحدة أولى للبشر، وحدة لغة، ووحدة دين، ووحدة حضارة. كان البشر وحدة واحدة قبل افتراقهم إلى لغات. فالشام والحجاز مع الكلدانيين، والعرب، واليمن. والسريانية لسان آدم وإدريس ونوح وإبراهيم ولوط. ثم تفرعت العبرانية والعربية من السريانية. ثم تغلب بنو إسرائيل على الشام وبلاد العرب والحجاز . وانزوي السريان إلى العراق. فتاريخ الشعوب السامية، بلغة العصر تاريخ واحد. كان البشر جميعا في دين واحد، الصابئة، وكانت الأصنام مجرد دليل على الكواكب؛ أي دين الطبيعة بلغة العصر، ثم تفرقوا لغة ودينا.
ونشأت الكتابة أيضا بحروف يونانية زمن أردشير أربعة وعشرين حرفا، ستة عشر حرفا كانت قبل ذلك في مصر. حملها من مصر قوم موسى وهي الحروف الفينيقية. وأزاد فالاميدس أربعة حروف، وأضاف سيمونيدس أربعة أخرى. فأول من وضع الكتابة أهل مصر ثم أهل فينيقيا. كما نشأ علم المساحة من مصر بسبب مقياس النيل. ساهمت كل حضارة بعلم طبقا لطبيعتها. اللحون والتأليف من اليونان، والحساب من فينيقيا، والطبائع من الشام، والطب وهو فرع للعلم الطبيعي من يونان والهند.
7
والموسيقى فارسية الأصل مثل آلة العود، في حين أن فيثاغورس هو الذي وضع الألحان. وعلم الاشتقاق «الأيطومولوجيا» مستمد من مصر. ويقارن ابن النديم بين الحروف اليونانية والحروف العربية صوتيا. واللغة الأرمينية هي اجتماع الرومية والعربية.
8
كان هرمس قبل الطوفان. وهو لقب مثل قيصر وكسرى، وتسميه الفرس أنيمهيد، جده جيومرث وهو آدم. تقول الحرانية بحكمته، ويذكر العبرانيون أنه أخنوخ، وهو بالعربية إدريس. فهرمس يمثل وحدة البشر الأولى بين الفرس والحرانيين والعبرانيين والعرب. وهو أول من تكلم في الأشياء العلوية من الحركات النجومية، علمه جده جيومرث ليل نهار. وأول من بنى الهياكل ومجد الله. وهو أول من تكلم في الطب. وألف لأهل زمانه قصائد وأشعارا في الأشياء الأرضية والعلوية؛ أي إنه أيضا أول الشعراء. وهو أول من أنذر بالطوفان، ورأى أن آفة في السماء من الماء والنار تلحق بالأرض. سكن في صعيد مصر وبنى الأهرام ومدائن التراب أي الجبانات ومدافن الموتى. وهو أول من خاط الثياب، ورفعه الله مكانا عليا. وخشي من ذهاب العلم بعد الطوفان فبنى البرابي وهو الجبل المعروف بالبربا بأخميم، تحته صور فيه جميع الطاعات وصور جميع الآلات. وخط صفات العلوم برسوم حرصا على تدوين العلوم خشية من الضياع. فهو مرتبط بالتدوين. لذلك ثبت في الأثر المروي عن السلف أن إدريس أول من درس الكتب، ونظر في العلوم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، من نسل آدم وشيث، هرمس الهرامسة.
9
وقد حكى عنه أبو معشر حكايات شنيعة لم يأت ابن جلجل إلا بأخفها مما يدل على أنه تحول إلى مجموعة من الأساطير الشعبية.
وهرمس الثاني بابلي من أهل كلدان. عاش بعد الطوفان، برع في الطب والفلسفة، وعرف طبائع الأعداد، وتتلمذ على فيثاغورس. هنا يبدو الكلدانيون تلاميذ اليونان، هرمس تلميذ فيثاغورس، واليونان هم الأصل.
10
وبابل مدينة فلاسفة الشرق الذين وضعوا الحدود والقوانين. وهم حذاق الفرس. وهنا تختلط بابل بفارس للقرب الجغرافي على شاطئ العرب.
وهرمس الثالث سكن مصر بعد الطوفان، وهو مؤلف كتاب الحيوان ذات السموم. كان فيلسوفا طبيبا عالما بطبائع الأدوية القتالة والحيوانات المعدية. يعرف طبائع أهل البلاد، وعالم بالكيمياء. خاط الثياب، وبنى الهيكل، ونظر في الغيب، وألقى القصائد، وبنى الأهرام، ووضع فيها كل العلوم والصناعات حفظا لها من الطوفان.
11
كما حل هرمس بمصر بعد أن أرسل الله الأنبياء إلى بابل واختلطت أحوالهم. سكن هرمس الهرامسة بصعيد مصر، وبنى الأهرام، وعاش في مدينة منف التي تبعد اثني عشر ميلا عن الفسطاط، والتي بها دار الحكمة قبل الإسكندرية. وهرمس تلميذ أغاثاذيمون العربي أو أنبياء مصر واليونان، أورويا الثاني، وإدريس أورويا الثالث. خرج هرمس من مصر وعاد إليها، ورفعه الله إليه. فالرفع إلى السماء كان عادة شرقية قبل عيسى. وكان أسقليبوس تلميذ هرمس المصري. وولد شيث بصعيد مصر أو الشام، وهما مركز الحضارة في ذلك الوقت وحتى اليوم، بر مصر وبر الشام. وتعني أغاثاذيمون السعيد. الجد هو شيث عليه السلام. عرف إدريس صفات النبي للناس. وهو كامل مستجاب الدعوة بمذهب صلاح العالم. قبلته على جهة الجنوب. وأحضر إلى الإسكندرية علوم الهند والصين وبابل إلى مصر.
12
وأخذ سقراط من علومها حتى وإن لم يأت إلى مصر. وفيها نشأت الهندسة لاحتياج المصريين إليها لقياس النيل وللزراعة. وأفلاطون بلغه أن قوما من أصحاب فيثاغورس بمصر، فسار إليهم ليتعلم الحكمة منهم قبل أن يصحب سقراط ويزهد في أقراطيلوس. ثم عاد إلى أثينا. ونشأ بطليموس بالإسكندرية، فيها ولد وفيها مات. حدث طوفانان: الأول أغرق العالم والثاني أغرق مصر فقط. فالمصريون مع اليونان من الحكماء الأقدمين والفلاسفة المتأهلين. فليس القدماء وحدهم اليونان، بل إن أمنون ابن هرمس الرابع هو أبو سيلوخس. وهذه إضافة الشهرزوري، وهو غير المصري، على قراءة التاريخ باستثناء القفطي الذي أشار إلى أن أمية بن أبي الصلت كان في مصر.
13
لا يهم التاريخ أو النسق، بل المهم التعبير عن العظمة ووحدة حضارات الشرق القديم، وحدة حضارة الشرق والغرب. فالحقيقة واحدة في البداية قبل أن تتعدد. هي النموذج أو المثال، ثم تتجلى بعد ذلك في مصر جنوبا، وبابل وكلدان شمالا، والهند وفارس شرقا، واليونان والرومان غربا. الحقيقة واحدة والحضارات مختلفة. هرمس يعبر عن روح الشرق والغرب والشمال والجنوب، روح العالم. يمثل مدرسة فكرية واحدة، الفلسفة الإشراقية بصرف النظر عن ممثليها.
وقد تكثر الهرامسة لأن هرمس الهرامسة أصبح نمطا مثاليا يخلق وقائع متعددة أكبرهم ثلاثة: الأول حفيد كيومرث عند الفرس؛ إذ تعني كيو الحياة، مرث البشرية الفانية. وقد تحولت الفرقة الكيومرثية إلى فرقة ثنوية. والثاني أخنوخ عند العبرانيين، وهو أخنوخ بن تارخ للتأكيد على التاريخية، ونسبة أخنوخ بن تارخ بن هلليل بن قطان بن أنوش بن شيث بن آدم سلسلة متصلة كالأنبياء. والثالث إدريس عند العرب. وهذا يعني أن هرمس يجمع ثلاث حضارات شرقية: فارس، والعبرانية، والعربية. وهرمس أيضا ثلاثة: الأول مصري صاحب الكتاب والعلوم، إمام بصعيد مصر، وبنى الأهرام؛ فالعظمة في الشخص والفعل والمكان. والثاني بابلي كلداني تلميذ فيثاغورس، جمع بين الطب والفلسفة والطبيعة والرياضة. والثالث يوناني تلميذ فيثاغورس، عرف علوم الحيوان والطب والكيمياء وأستاذ أسقليبوس. واللفظ مشتق من أرمس، وانقلبت الألف اليونانية هاء مما يؤكد الأصل اليوناني. وله أسماء عديدة أخرى مثل عطارد وطرسمين عند اليونان.
14
وقد دعا إلى دين الله، التوحيد الخالص، تخليص النفوس، الحض على الزهد، العمل بالعدل، الخلود في الآخرة، الصلاة والصيام والزكاة والجهاد، معونة الضعفاء، الطهارة من الجنابة والحيض ومس الموتى، تحريم لحم الخنزير والجمل والحمار والكلب، والبصل والباقلاء وكل ما يضر بالدماغ. والقرابين ثلاثة: النحور، والذبائح، والخمر. والناس ثلاث طبقات: كهنة وملوك ورعية. ويحافظ على فروض الشريعة، والصلاة على الميت. وانتهت الشريعة إلى الملة الحنيفية، دين القيمة. وله أقوال في طاعة الله والتقوى، وتأدية فرائض الله، وعدم الحلف كذبا بالله، والاتكال على الله، واليقين بتقوى الله، والفقر من الله، والتأدب بآداب الله، ومحبة الدين، ومحبة الحكمة، وشكر الله، والرجوع إلى الله، وحمد الله، والاعتصام بالله، وخشية الله، والنفوس المطهرة العالمة مع الله، والهمة مع الله، ورب الأرض والسماء، وفضل الله وعدم الافتخار به على الآخرين، وتقوى الله والإيمان به وطاعته، وجلد الزاني، ورجم المرأة مائة حجر. وكلها تدل على أن الشريعة الإسلامية قديمة قدم التاريخ، متفقة مع الطبيعة والفطرة، وأنها تقوم على مقياس المنفعة والضرر.
15
وترسم الأقوال صورة لنسق إدريس، وهي القراءة الإسلامية لهرمس. فقد دعا إدريس إلى دين الله. وقال بالتوحيد وعبادة الخالق وتخليص النفوس والزهد في الدنيا والعمل بالعدل وطلب الخلاص في الآخرة. والاهتداء إلى الله واجب لأن الله عرف البشر بنفسه، والأفواه مملوءة بحمد الله. الحكمة في الإيمان بالله عز وجل وحفظ الدين؛ فالحكمة والإيمان بالله لا يفترقان. وثواب الله يبقى. وتقوى الله بداية الطريق، فقد أمر الله بها. وإذا أحب الله عبدا وهب له العقل وتأدب بآداب الله. ولا يكون الإنسان عادلا وهو غير خائف من الله عز وجل. العادل عادل إذا خشى الله. جمع هرمس بين النبوة والحكمة والملك، فهو النبي الحكيم الملك طبقا لنمط الرئاسة في الحضارات القديمة. وطاعة الرؤساء من طاعة الله كما هو وارد في تفسير السلاطين لآية:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . وشرع الله الصلاة والصيام والزكاة والطهارة وحرم الخنزير. وانتهت هذه التشريعات إلى الملة الحقة والدين القيم وهو الإسلام. والمثابرة على الصوم والصلاة وتأدية الفرائض طاعة لله عز وجل. والله لا يرضى عن الصوم بمعنى الامتناع عن الطعام فقط، بل السيطرة على النفس وتعمير بيوت الله بالدعاء. ولا رغبة إلا في المال الحلال وما يرضى عنه الله جل اسمه. واتباع سنة الله وشريعته طريق من يرغب إلى الدخول في طاعته. ولا يجب استغلال شيء من زيادة الله لئلا يستنفر الباقي. والناس أفضل ما خلق الله في هذا العالم. والعلم لله والجهاد لله.
16
ويبدو هرمس في الأقوال المتأخرة أكثر ضمورا نظرا لأن الحكمة لم تعد مطلبه، وتحول إلى مؤمن تقليدي على الطريقة العثمانية يأمر بالتوجه بالقصد إلى الله تعالى وعدم دعوة الله على أحد، فالله للجميع، والروح تشمل الكل. ويؤمن بالقضاء والقدر، ويدعو الناس إلى أنه إذا طرقته نائبة ألا يقولوا لو كنا فعلنا كذا أو كذا؛ لأن لو تفتح باب الشيطان، ولكن يقولوا قضاء الله تعالى وقدره لا مفر منه. وهو حديث نبوي، فإن الله تعالى يفعل بخلقه ما يشاء. كما أن الله جعل للآدمي أذنين ولسانا واحدا، ليكون استماعه أكثر من كلامه. وهو قول مكرر على كل لسان حكيم. فلا يهم القائل بل القول. وينسب إلى هرمس مجموعة من الأقوال في مقالة من مقالات الفرق تدور كلها حول تعظيم الله وشكره ومعرفته وعدم الافتراء عليه، ونسبة الشر إليه وعدم الأذى باسمه. ثم تستنبط من هذه القواعد الإيمانية الأولى مبادئ الأخلاق.
17
وكنموذج لحكمة واحدة، هرمس الأول من اليونان، والثاني من بابل، والثالث من مصر. فالطب مثال لإبداع روح الحضارات البشرية الأولى. يبدو هرمس وكأنه نبي الكلدانيين أو بوذاسف. فهو نموذج الأسطورة التي توجد في كل مكان. ويخصص الشهرزوري القسم الأول من «نزهة الأرواح» إلى الهرمسية، إدريس وهو هرمس الهرامسة، هرمس البابلي، هرمس الثالث. ويختارها لما تتسم به من أسلوب الرمز والغموض والطابع التعليمي، مما يساعد على قراءتها وتأويلها. ويستعمل القرآن كمصدر لتأويل التاريخ. فقد علم الله آدم الأسماء كلها. كما تظهر الوصايا والمصطلحات القرآنية مثل: «واعتصموا بحبل الله سبحانه.» دون الإكثار من الشواهد النقلية. وهرمس الهرامسة أو هرمس المثلث العظمة أو العظيم بالثلاثة أو ثالث العظماء هو أهمهم وأطولهم عند الشهرزوري بصرف النظر عن هويته: كلدني، يوناني، مصري. وإدريس عربي، كان معروفا عند العرب قبل الإسلام، فهو أول من بنى الهياكل ومجد الله فيها قبل إبراهيم وبناء الكعبة. وقد لا يذكر هرمس لذاته، بل بمناسبة الربيع بن سليمان الجيزي صاحب الشافعي، فالوافد أصبح موروثا من خلال الموروث.
18
أما صاب فهو صاحب إدريس الذي ينسب إليه الصابئة الذين يعبدون الكواكب أو الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى. ولكنهم أيضا هم أنصار الدين الطبيعي، الحنفاء، والذين كان منهم إبراهيم الحنيف.
19
وكما يتم رسم صورة مرئية لأجساد الفلاسفة كذلك يتم تمثيل صورة لجسد هرمس الهرامسة مستنبط من فكره وشخصيته، فن استنباط الجسم من الروح كما يتخيل الفنانون المحدثون صورا للحكماء القدماء.
20
وأسقليبوس تلميذ هرمس الثالث المصري، سكن الشام؛ أي اجتماع مصر والشام. أوحى الله إليه كما ذكر جالينوس في كتابه الحث على الطب، وأنه أقرب إلى الملك منه إلى الإنسان. وهو اسم مشتق من البهاء والنور كما يروي أبقراط. والطب صناعة لا يعمل بها إلا من كان طاهرا عفيفا نقيا، من الإشراقيين المثاليين وليس من الإشراقيين الخبثاء؛ أي من كان عارفا بالله «سبحانه وتعالى»، وأن يكون الطبيب رحيما عفيفا محبا لمنفعة الناس. وقد ارتفع إلى الهواء في عمود من نور كما روى أبقراط. كان مشتغلا في هيكل بالتقديس كما يروي أفلاطون في كتاب النواميس. عرف أن المرأة زانية بعد أن تخاصم الزوجان. كما عرف أين خبأ الرجل المال بعد أن اشتكى إليه ضياعه حتى أضاعه الله منه كما روى أفلاطون. كما تنبأ بموت الملك كما روى أفلاطون. كانت على عصاه صورة حية لأنها أطول عمرا، رمزا على عدم اندثار العلم كما حكى أبقراط، مصنوعة من شجر الخطمي النافع في جلب الاعتدال كما يحكي جالينوس. وعنه روايات أخرى شنيعة في تواريخ النصارى مما يدل على كثرة الروايات والأساطير عنه. إنما النواة عند ابن جلجل أنه تعلم الطب والفلسفة بوحي من الله وإلهام منه. ويستعمل الشهرزوري رواية جالينوس عليه. وهو أحد الملوك الأربعة بعد هرمس. أسس عبادة الأصنام والهياكل. وعاش في مصر والشام مما يدل على وحدة الدين منذ أقدم العصور. وهو نموذج الجمع بين النبوة والحكمة في بداية التاريخ، لا فرق بين حكماء الإسلام أصحاب النبوة، وأنبياء اليونان أصحاب الحكمة. الاسم يوناني وهو نبي. فحكماء اليونان أنبياؤهم. أقواله جزء من الأدبيات الشرقية كما توحي بذلك عبارته: المستعان بالله عليكم، أخذتم الدنيا على الآخرة، رب أعطوني ما ليس لي، الحمد للمنعم والاستغفار من الذنب.
21
ويبدو أسقليبوس إلها وإنسانا مثل ديونوسيوس. فقد قال جالينوس في تفسيره لعهود أبقراط إن الذبائح كانت باسم أسقليبوس، وقال أفلاطون في كتاب السياسة إن أسقليبوس كان رجلا مؤيدا ملهما.
22
ولا فرق في بدايات البشرية بين الآلهة والأبطال والأنبياء والملائكة والقواد العظام. ويتحدث الله إلى لوجوس. وانكشفت لأسقليبوس أمور عجيبة من العلاج بإلهام من الله «عز وجل»، فكان طبه طبا إلهيا كما ذكر جالينوس؛ ومن ثم لا يجوز قياسه على الطب البشري وإلا أمكن قياس الطب العلمي على طب الطرقات. لقد أوحى الله «تعالى» إلى أسقليبوس أنه أقرب إلى الملك منه إلى الإنسان. رفعه الله «تعالى» إليه في الهواء في عمود من نور كما يروي أبقراط. وكان اليونانيون يتشفعون به عند قبره، وكان يسرج عليه كل يوم ألف قنديل. كان شبيها بالله «تعالى» فارتفع إلى السماء، وكانت تقدم الذبائح باسمه تقربا إلى الله «تبارك وتعالى». لذلك كان يسمى الرجل الإلهي، وكل إنسان يتشبه بالله «تعالى» على منواله.
23
يجمع بين الطب والحكمة والتصوف، ويختلط أسقليبوس الأول والثاني والثالث، ويتدرج من الإله إلى البشر، فالأول إله أكثر منه إنسان، والثالث إنسان أكثر منه إله. فمسار التاريخ هو التحول من الألوهية إلى البشرية. وينتقل منهج التعليم من الإلهام إلى القياس والتجربة إلى الحيل، من التقدم إلى التأخر، ومن الطبيعة إلى الصنعة. فالمناهج أيضا متطورة بتطور التاريخ من الدين إلى العلم. وقد وجد أسقليبوس الأول علم الطب في هيكل برومية. ولقد تم تأليه يونانيين آخرين مثل هرمس، أنبادقليس، فيثاغورس، سقراط، أفلاطون.
ومن نسل أسقليبوس الأول تخرج ذرية صالحة كما هو الحال في خروج ذرية الأنبياء يعقوب وإسحاق وإسماعيل ويوسف من ذرية إبراهيم، وخروج إبراهيم من نسل آدم ونوح. وهم خمسة: أسقليبوس الثاني مع غورس، ميفس، برمانيدس، أفلاطون الطبيب.
24
ولا يهم التاريخ الدقيق، فهم أنماط مثالية خارج التاريخ. ومن أسقليبوس الثاني يستمر الطب التجريبي. ثم يضم مينس وبارميندس القياس إلى التجربة بحثا عن التكامل في المنهج. ثم يأتي أفلاطون الطبيب ويحرق كتب التجربة وحدها تعبيرا عن رفض أحادية الطرف. فالأشخاص هنا رموز لعناصر المنهج، ووحدتها رمز لتكامل المنهج الذي يعتمد على ثلاثة عناصر: القياس، والتجربة، والحيل.
25
ونظرا لأهميته دخل في قسم أبقراط. فالطب قديم بقدم العالم. وينتسب إليه مجوس روما ويعبدون صورته. فهو إله عند الغربيين والشرقيين على حد سواء، وخرج منه ثمانية أطباء حتى جالينوس.
26
وفي بناء فكره من خلال أقواله هو تلميذ هرمس. يعتمد على الله ويستعين به. اصطفاه الله جل اسمه رسولا للناس. كان في حضرة النبي الأعظم، وشارك الله في صالح الدعاء. يستعين بالله، واختار الآخرة على الدنيا. وتغير الناس بعده كما تغيروا من موسى إلى هارون.
27
ويذكر أنبياء حكماء أنصاف آلهة، يختلط فيهم الواقع بالخيال، التاريخ بالأسطورة، مثل طاطو من الحنفاء وهو دين جيد، والصابئة عبدة الكواكب وهو دين رديء. ولا تذكر أخبار له، بل مجرد أقوال تنسب إلى أي قائل، متن بلا سند.
28
رابعا: حكماء اليونان (الغرب)
(1) الأطباء والشعراء والفلاسفة والملوك
وأبقراط من نسل أسقليبوس، وهو السابع من الأطباء؛ أي خاتم الأنبياء والأئمة طبقا لرمز العدد في الحضارات الشرقية. أذاع صناعة الطب كما يفعل الحواريون بعد الأنبياء. وأهم شيء في أبقراط قسمه الذي يقسم فيه بالله، رب الحياة والموت، وواهب الصحة، وخالق الشفاء وكل علاج، وبأولياء الله من الرجال والنساء جميعا. ولما كان الطب أشرف الصنائع كانت أخلاق الطبيب ضرورية لممارسة الطب. التعليم بلا أجر ولا شرط، وإقامة الصناعة على الزكاة والطهارة ضد الإجهاض. تروى عنه حكايات نمطية تروي أيضا عن حياة كل عظيم مثل سقراط خاصة بأفضلية الحكمة على الملك. كان يعالج المساكين والفقراء. فالطب رسالة وليس حرفة، خدمة وليس صناعة، يعالج حسبة لله مثل تعليم سقراط للناس. وإذا كان أسقليبوس قد أسس الطب على التجربة فإن أبقراط أسسه على القياس قبل أن يأتي ثاساليس بالحيل. يجمع بين طب الأجساد وطب النفوس. وله كلام في العشق. كان متألها ناسكا. وكانت له القدرة على الفراسة لتعرفه على ذلك من فحص جسم رجل.
1
ثم يتحول الشخص إلى مجموعة من الأقوال والحكم المأثورة مثل: الشرف في الدنيا والنجاة في الآخرة. فما يهم هو أبقراط الأخلاقي أكثر من أبقراط الطبيب، وتحويله إلى مثال في أبقراط الطبيب الفاضل الكامل. بل تنسج له سيرة العظماء. فقد كان قبل الطب ملكا. ثم زهد في الملك مثل بوذا في الشرق. وتروى عنه الحكايات النمطية التي تروى عن ابن سينا أيضا من أنه عرف أن ابن الملك أحب من رؤيته لفتاة وجس نبضه.
2
ولما توفي أبقراط خلف من ورائه ذرية ضعافا من آل أسقليبوس مثل روفس، دسوقريدس، ولم يستطع خيال المؤرخ في كل حالة أن ينسج حولها الروايات أو أن يؤسسها، بل اكتفى بمجرد إعطاء ثبت بأسماء مؤلفات روفس أو وصف تفصيلي لأعمال دسقوريدس. وتشير الأقوال المتأخرة إلى الطب الروحاني أكثر مما تشير إلى الطب البدني. ويصبح أبقراط حكيما متكلما صوفيا يتحدث عن صفات الرب تعالى، وكثرة نعمه، ويكشف عن تجليات ذلك في الطب. فقد خلق الله تعالى في الآدمي ستة عروق. وإذا عرض للإنسان الجنون ابتلاه الله بالزكام. وإذا عرض للإنسان الطاعون ابتلاه الله بزلاجة المعدة. وإذا قضى الله تعالى بالعمى ابتلاه الله بشدة الرمد. وإذا عرض للإنسان البواسير ابتلاه الله تعالى بتشقيق الشفتين. وإذا عرض للإنسان الجزام ابتلاه الله تعالى بكثرة العطاس. فما اعتبره أبقراط علامة على المرض اعتبرته الأقوال المتأخرة ابتلاء من الله. وأقواله في المرأة تجعلها مجرد موضوع للإشباع الجنسي. فالذين يستميلون قلوب نسائهم بالحلي والمال والكسوة إنما يعلمونهم محبة الأغنياء لا محبة الأزواج، بل تكون الاستمالة بكثرة الجماع. أما إذا أحب الرجال التزين فإن ذلك يكون بالأفعال الجميلة.
3
وقد يصبح الحكيم اليوناني مؤسس مدرسة بأكملها ينتسب المسلمون إليها. فأنبادقليس الذي كان في زمن داود وسليمان عليهما السلام أخذ الحكمة من لقمان بالشام، ثم ذهب إلى بلاد اليونان، وتكلم في المعاني والصفات والوحدانية وخلق العالم، ولكنه قدح في ظاهر المعاد، وهو من السمعيات طبقا لنسق العقائد التي لا تعتمد إلا على الدليل النقلي. وهو دليل ظني في حين أن وجود الله وخلق العالم من العقليات التي تعتمد على الدليل العقلي وهو دليل قطعي. هجره البعض وانتسب إليه البعض الآخر. وكان من شيعته أبو الهذيل من المتكلمين وطائفة من الباطنية تنتمي إلى حكمة محمد بن عبد الله بن مسرة الجبلي القرطبي.
4
فاليونان تلاميذ الأنبياء. والإسلام يشمل اليهودية في قراءته للتاريخ. وهو أول من جمع معاني صفات الله، وأنها تؤدي إلى شيء واحد، الوحدة والكثرة في الله مثل أبي الهذيل العلاف. بل تخضع تسمية أنبادقليس للطريقة العربية، فهو أنبادقليس بن هادين.
5
وهو أيضا بن باور؛ أي إنه يشمل الفرس أيضا. فأنبادقليس من الباطنية مثل الشهرزوري، إسقاطا من الحاضر على الماضي، لا فرق بين علي بن أبي طالب والحسن البصري وجماعة من المعتزلة وجمهور الحكماء بالرؤية الباطنة.
6
والأخلاق إشراقية عند الكل، يونان ومسلمين. هنا يقوم الموروث بتأويل الوافد حتى يصب الوافد فيه، ويتم التنسيق بين الاثنين. لقد كان الإشراق عند اليهود في البداية كما بدأ في تأويل المسيحية لها، ولكن في النهاية حول الإسلام الإشراق إلى واقع عقلي طبيعي، حوله الصوفية إلى إشراق من جديد. وهو الحكيم العظيم الرباني، وكلها ألقاب إسلامية. تفوق في العلم الإلهي. الباري تعالى هو هويته، ينير العقل بالنور الإلهي ويفيض عليه، ويثبت المعاد، وخلق الله أسطقسات أربعة.
7
والشعراء اليونان أيضا بداية الحكمة المحملة بالمعاني والقيم الإسلامية مثل قول هوميروس: إني لأعجب من الناس إذا كان يمكنهم الاقتداء بالله عز وجل فيدعون ذلك إلى الاقتداء بالبهائم، إن الله عز وجل منتقم من الأشرار، إن الشكر موهبة من الله للعبد، الشعر مصدر الفلسفة، الأسطورة تسبق الحكمة. وهو يعادل امرئ القيس عند العرب. وهو من الشعراء الذين استثناهم القرآن من الشعراء الغاوين الهائمين. ولا ضرر من ذكر بعض الأساطير مثل مواقعة بهرام الزهرة فتولد العالم ما دامت مواعظه متفقة مع الشرع. فجميع الناس تدينهم معرفتهم بأنفسهم كما يدينهم الله. ومساعدة الأشرار على فعلهم كفر بالله عز وجل. فالدين أخلاق، والأخلاق دين. الشعر حكمة، والشاعر حكيم. وفي الأقوال المتأخرة، يتحول الشاعر إلى صوفي يدعو إلى خوف الله تعالى وتقواه، ويدعو للناس بالخير دون إلغاء الأسباب. فإذا أراد الله تعالى أمرا هيأ أسبابه. ويظل الله هو العلة الأولى. أما يسخيلوس فله كلام ملغوز مثل الصوفية ولكنه كان يعرف الله ويدعو له ويبتهل إليه «اجلس لأخلصك الله.» وعند سوفكليس الفلاسفة عند العقلاء كالآلهة وعند الجهلاء كالناس.
8
ويبدو سوفكليس صوفيا صاحب مقامات وأحوال مثل المحبة والذكر والطاعة والصبر والتقوى والمعرفة والعبودية والذكر والخوف والزهد. فالمجتهدون في محبة الله عز وجل يجدون في بكائهم وقت تضرعهم إلى الله عز وجل لذة. ومن صحت له محبة الله عز وجل اشتغل عن علائق جمع الدنيا. إلا أنه يشتهي التعليم فيجمع محبة الله عز وجل حب عمل التخليص، ويحسن الافتخار بمحبة الله تعالى والخوف منه لا النار كما هو الحال في حب الله لذاته عند الصوفية. ولا يكره الموت من يحب الله حق محبته. ولا يخافه حق خوفه فاعل شيء من الذنوب. ومعرفة الله توجب محبته. فمن أحب حقا اشتغل بخدمته عن خدمة غيره. ومع الحب يأتي الخوف. فمن أجل تجاوز الفناء على الإنسان ألا يخاف إلا الله واجتناب الأشياء المهينة. ومن صدق خوفه من الله عز وجل كان موته أحب إليه من فعل شيء من الأنام، ولم يخف غيره إلا أن يشتهي التعليم. والعبادة لله بالزهادة لله. خوفا من الله ومحبته لله لا لشيء خلقه الله. غاية الموهوبات في الدنيا للإنسان. وهناك أيضا مجموعة من الأقوال حول الرياضات والمجاهدات كما هو الحال عند الصوفي. فالمجتهدون في محبة الله عز وجل يجدون في بكائهم وقت تضرعهم إلى الله عز وجل لذة، لذة التفكر في ملكوت الله عز وجل. وأفضل أعمال البدن ما قوى به على طاعة الله عز وجل، وشرها ما قوى به على معصية الله عز وجل واجتناب الأشياء المهينة، ومن يقتدي بالله عز وجل في أفعاله لا يفعل إلا الحسنات. وليس في الدنيا غير عابد الله سبحانه أو اللذة «فكن من العابدين لله تعالى ولا تكن من العابدين للذات أشباه البهائم.» والملائكة لا يفترون ولا يملون من ذكر الله عز وجل. وقد قيل للحكيم ما يرضي في الدين؟ قال: الدين مثل. فما يزيد اليقين؟ قال: العقل، حفظ اللسان، الصبر، التقوى، قلة القنية، الرضا بالقلب، ذكر الموت، والمعرفة، والعبودية. وعادة ما تنتهي الأقوال بطاعة السلطان من الموروث السياسي القديم والحديث. فطاعة الولاة في مرضاة الله عز وجل أبقى للعز، سوء تأويل لآية:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .
9
وهل صحيح أن سولون جد أفلاطون الفعلي، أم أنها قرابة روحية، خاصة وأن كليهما صاحب نواميس؟ كلاهما صوفي. الله تبارك وتعالى ليس له نهاية. ومن وصاياه ضرورة الاتفاق على التفاني لله سبحانه وتعالى. ولما كان سولون مشرعا فإن أقواله في العصور المتأخرة تشير إلى الجور وفساد قلوب العباد.
10
وعند باسيليوس وهو أحد الملوك الأربعة الذين أخذوا الحكمة من هرمس الأول أننا نقصد بأكلنا وشربنا شكر الله. ولا نقصد بصومنا وصلاتنا شكر الله إذا كان قصدنا بفعل ذلك شيئا آخر. وهو ما يفيد معنى أن الأعمال بالنيات. وآمون الملك الحكيم الذي ملك على كثيرين لم يترجم من حكمه شيء. دعا إلى تقوى الله، ولكنه كان مدافعا عن الملك وعن الفلاحين في نفس الوقت. وهم كيمياء الأرض. وهو تعبير شرقي مثل ملح الأرض في الأناجيل. فمن قدح في الملك يضرب عنقه. وكان في شريعته قطع يد السارق، وقتل قاطع الطريق أو حرقه بالنار. تعهد أمر المجوس، ومنع سجن المظلومين. وكان يعتمد على المشورة ضد الانفراد بالرأي. ومنع المعاقبة على صغار الذنوب، واكتفى بالاعتذار. والبدء بالنفس قبل البدء بالغير، وهي كلها وصايا إسلامية أصبحت شاملة لكل إبداعات الحضارة القديمة.
11
ويعطي ذوقاليون عشر خصال تكرر أنماطا مثالية للأخلاق الصوفية عن الشكر والصبر والصداقة. ولا يهم من قائلها أو إذا كان له وجود تاريخي بالفعل، بل القول ومدى تعبيره عن الفلسفة الخالدة.
12
وتكشف الأقوال المتأخرة لزيمون الشاعر عن شاعر صوفي يدعو إلى شكر الله تعالى، وطاعة الله تعالى، وتقوى الله تعالى، ويدعو إلى تزيين السرائر حتى يحسن الله العلانية طبقا لحديث الرسول؛ ويحذر من عصيان الله، ويدعو إلى الخوف منه، ويكثر بالقسم بالله والحلف بالله العظيم.
13
وأخذ فيثاغورس الحكمة من سليمان بمصر حين دخل عليها من الشام. وأخذ الهندسة عن المصريين. وعاد إلى اليونان حاملا معه الهندسة والطبيعة والدين. وأضاف الألحان وادعى النبوة. امتحنه أماسيس ملك مصر حتى ثبت ورعه وعلمه. وأعطاه سلطانا على الضحايا للرب «تعالى». ولم يعط ذلك لغريب قط. ووضع كهنوتا يقربه إلى الله «تعالى». وإذا كان الله «سبحانه» هو سبب وجودنا وخالقنا، فإن النفوس ينبغي أن تكون منصرفة إلى الله «تعالى». الفكرة لله، ومحبتها متصلة بالله. ومن أحب الله عمل بمحابة ليقرب منه وليفوز بالنجاة. الضحايا والقرابين كرامات لله «تعالى ذكره». والأقوال الكثيرة في الله «سبحانه» علامة تقصير في الإنسان عن معرفته. هنا تتحول قراءة التاريخ إلى «أسلمة التاريخ». وكان يرمز بالحكمة. ومات مقتولا كما يروي الشهرزوري أسوة بأستاذه السهروردي. فالعظمة في الشهادة، والإجلال في التضحية، والخلود في الموت. وكتب عنه الشهرزوري أكثر مما كتب عن هرمس، نسبه وأسرته، بطريقة المؤرخين العرب. ويذكر أكثر من رواية عن حياته، وكأنها حكايات صوفي أو إشراقي. وتذكر له مجموعة من الأقوال المتفرقة التي لا رابط بينها في السياسة والجنس. وهو نقطة الاتصال بين الشرق والغرب، بين النبوة والحكمة.
14
أول ما خلق الله الأعداد. والله مبدأ أول. بدء الخلق والوجود من الله سبحانه وتعالى، ونفوسنا ينبغي أن تكون منصرفة إلى الله. فهو يؤمن بالخلق والبعث، ويدعو إلى التمسك بالشرائع.
وبالرغم من أنه لا توجد حضارة قديمة عظمت اليونان قدر الحضارة الإسلامية، يحكم البيروني على أقوال فيثاغورس بالخرافات. هو الفيلسوف المتأله، نفس ألقاب حكيم الإشراق. وعظ النفوس وحثها على الجهاد والإكثار من الصيام وبشر ببقاء النفوس ومعادها. والباري تعالى واحد كالآحاد. وحدة الباري قبل الدهر، ووحدة العقل مع الدهر، ووحدة النفس ووحدة الزمان بعد الدهر. والوحدة إما بالذات كالله أو بالعرض كالمخلوقات. الوجود والخلق من الله سبحانه، وهدف النفس انصرافها إلى الله. ومعرفة الله مشروطة بالانصراف عن الناس، ومعرفة الله باليسير من الكلام. والحكمة خالصة لله ومحبتها متصلة بمحبة الله. ومن أحب الله عمل بمحبته وقربه منه الله فحيا وفاز. والإنسان والحكيم المراقب لله سبحانه هو عند الله معروف. والمتقدم عند الله من الحكيم ليس بالكلام بل بالأفعال. والأفعال الجليلة بالفعل لا بالقول. والكلام في الله جل وعلا يجب أن تتقدمه الأعمال التي يرضاها الله عز وجل. والأفعال الكثيرة في الله سبحانه علامة تقصير الإنسان عن معرفته. ليست الضحايا والهدايا والقرابين بكرامات لله تعالى ولكن الاعتقاد الذي يليق به. وانشغال النفس بالله تجعل الأفعال منه. لسان الرجل المتخرص غير المرتاض، وصلواته وضحاياه نجاسة عند الله. لذلك يدعو فيثاغورس إلى التمسك بالأفعال بداية بالله الرب عز وجل، وجعل كل الزمان مصروفا في طاعة الله. والقول يشفعه العمل. فليس لسان الحكيم متقدما عند الله تعالى ذكره بالتكرمة بل أفعاله التي يريدها الله تعالى منا، ولذلك خلقنا. والحصول على النفس الجليل بالفعل لا بالقول. والكلام في الله يجب أن تتقدمه الأعمال التي يرضاها الله عز وجل. والحكمة لله خالصة، ومحبتها متصلة بمحبة الله تعالى، ومن أحب الله تعالى عمل. وفيثاغورس صاحب أقوال ومقامات مثل الصوفية؛ المراقبة والطهارة والتوكل والرضا والمحبة. ويركز على بعض المقامات والأحوال الصوفية مثل التوكل على الله دون التشكك فيه. أساس مخافة الله الرحمة. والرضا يؤدي إلى الفضيلة الإلهية. والإنسان الحكيم المراقب لله تعالى معروف عند الله. وليس لله تعالى في الأرض موضع أولى من النفس الطاهر. ومن الأحسن للإنسان أن يحيا على سرير من خشب وهو حسن التوكل على الله عز وجل أفضل من سرير من ذهب وهو متشكك في الله عز وجل. والرضا يقرب إلى الفضيلة، والرجل المحبوب عند الله تعالى هو الذي لا يذعن لأفكاره القبيحة. والرحمة أساس مخافة الله. وجميع الحياة في طاعة الله سبحانه وتعالى، رجاؤه دائما لله ومع الله عز وجل. وكلام الاستواء هو أطيب بخور يقرب إلى الله عز وجل. ومع ذلك ليست الضحايا والقرابين كرامات لله تعالى جل ذكره.
15
وفي العصور المتأخرة أيضا أقواله كلها حكم إسلامية صوفية تركز على الزهد وتدل على حال الأمة في هروبها إلى التصوف، التمسك بالله، والإيمان بالآخرة، والابتهال إلى الله، وبتوفيق الله والالتزام بأوامره ونواهيه حتى دون إشارات إسلامية مباشرة واضحة. فالروح غير الحرف. وهي ثنائية موجودة في كل تصوف، تتم الإحالة إليها في العادات والملل السابقة والأمم المتقدمة. ويبدو البعد السياسي بالنصائح الأخلاقية الموجهة إلى الملوك، والدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قد يكون التصوف ذاته دعوة سياسية بالابتعاد عن العالم للسلطان يفعل كما يشاء خاصة لو تمت صياغات أقوال لمدح السلطان. وقد يكون نقدا سياسيا واجتماعيا مقنعا في ثوب ديني لا سياسي. وقد أخذ فيثاغورس الحكمة من معدن النبوة، وهو الحكيم الفاضل ذو الرأي المتين والعقل الرصين. الباري واحد كالآحاد، لا يدخل في العدد، ولا يدرك بالعقل أو النفس.
16
وطاليس تعلم الحكمة في مصر، وأقواله كلها إسلامية إيمانية أخلاقية إنسانية. يعقد حوارات مع حوارييه مثل المسيح ومحمد. وكل قول له سبب نزول مثل آيات القرآن. وكل حكاية بها رواية وقول مبشر كما هو الحال في علم الحديث، السند والمتن. وهو صاحب مدرسة فكرية منها مانقسانس، أنكساجوراس، أرملاوس، في مقابل مدرسة فيثاغورس، سقراط وأفلاطون وأرسطو، مدرسة الطبائعيين في مقابل مدرسة الرياضيين.
17
ويدخل الوافد في الموروث. فإذا قال طاليس إن أصل الأشياء هو الماء، فإن الموروث يحمله داخل:
وكان عرشه على الماء ،
وجعلنا من الماء كل شيء حي .
18
ويقول طاليس بخلق الله للماء وليس أن الماء أصل العالم، وهو ما يتفق مع التوراة أن مبدأ الخلق جوهر خلقه الله تعالى، وموافق أيضا للديانات السماوية والقرآن في آية:
وكان عرشه على الماء . نظرة طاليس إلى العالم نظرة إلهية وليست مادية. طاليس يقول بالتوحيد والإبداع. ويستعمل الشهرزوري مصطلحات الكندي في الأيس والليس. وقد تلقى طاليس علمه من مشكاة النبوة. فالعنصر الأول وهو الماء شبيه باللوح المحفوظ. وتسمية الطبيعيين الأوائل وعلى رأسهم طاليس بالدهريين هو صب للوافد في مقولات الموروث حتى تسهل إدانته.
19
فالوجود لا موجد له «تعالى الله العظيم»، وهو قول جمهور أهل الهند. فالمادية من الشرق القديم، من الهند كما لاحظ الأفغاني في «الرد على الدهريين». وفي الأقوال المتأخرة يتحول طاليس من فيلسوف طبيعي إلى فيلسوف إلهي صوفي يعرف لذة العبادة، وأن العمر بركة، وأن من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، وهو حديث عن الرسول.
20
العنصر مثل القلم الأول، والعقل مثل اللوح القابل للنقش. ومن مشكاة النبوة اقتبس وبعبارات القوم التبس.
بل إن الطبائعيين أيضا فلاسفة مؤمنون بالله وبالخلق. فعند أنكمندريس أول ما خلق الله هو ما لا نهاية له. وعند أنكسمانس أول ما خلق الله الهواء. والباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر، مبدأ الأشياء. وعبر عن التوحيد بلغة النور. وأعد الله ذخائر الإثم للفجار. وعند أنكساجوراس وفلارمانيوس أول ما خلق الله المتشابه الأجزاء. الباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر. مبدأ الأشياء لا بدء له، لا تشبهه هوية، مبدع، صورته في علمه الأول، بلا نهاية، أزلية، لا تتكثر ولا تتغير، أبدع بوحدانيته صورة العنصر. وفي العصور المتأخرة أقواله موجهة إلى شكر الله تعالى والاستعاذة به. وهو أيضا من القائلين بالوحدانية، إلا أن المبدأ لديه هو المتشابه الأجزاء. وافق سائر الحكماء أن المبدأ الأول هو العقل الفعال، وخالفهم في قولهم أنه ساكن غير متحرك. وعند أرسلاوس بن أبولوذس؛ أول ما خلق الله ما لا نهاية له مثل أنكسماندريس، ولا يهم صاحب الرأي بقدر ما يهم الرأي بداية باستقلال الرأي عن الشهرزوري. وعند أبيقورس بن تاونيس، خلق الله مبادئ الموجودات أجساما مدركة عقلا لا خلاء فيها ولا لون لها، سرمدية غير فاسدة، تتحرك في الخلاء والملاء إلى أن يشاء الله. وبعد موت زينون وجد له كتاب بلغة أفريقيا مملوء بفاحش القول في الأمور الإلهية. تلك صورة زينون الأيلي السوفسطائي وتحويل إنكاره الحركة في الطبيعيات إلى فاحش القول في الإلهيات. ومع ذلك تكشف آدابه عن مثالية أخلاقية عكس ماديته الطبيعية. وهذا يدل على قوة أسلمة التاريخ على خلق تاريخ جديد يعبر عن الشهرزوري بعد تكبيرها وتضخيمها.
21
وعند زينون الأكبر أن فناء الصور وبقاءها في علم الباري تعالى، والعلم يقتضي بقاءها، والباري قادر على أن يفني العوالم كلها. الأصول هو الله والعنصر فقط، فالله هو العلة الفاعلة، والعنصر هي العلة المنفعلة، والباري متحرك.
22 (2) سقراط وأفلاطون وأرسطو
وسقراط من تلاميذ فيثاغورس. اقتصر من الفلسفة على العلوم الإلهية. أعرض عن ملاذ الدنيا جامعا بين النظر والعمل. حاجج رؤساء الملة بالأدلة والبراهين على التوحيد. آراؤه في المعاد ضعيفة مثل سائر حكماء اليونان. كلامه رمزي، وعاش ما يناهز مائة وسبعة أعوام. قال إن العقول مواهب والعلوم مكاسب مثل تعريف الأحوال والمقامات عند الصوفية. وقال إن خير الأمور أوسطها، أسلمة للأخلاق أو توافقا للحضارات. وهو شاعر يدعو إلى الزهد والبعد عن زخرف الدنيا:
إنما الدنيا وإن وقعت
خطرة من لحظ ملتفت
وتحدث عنه البيروني؛ لأنه صوفي زاهد كما تحدث عن أفلاطون أكثر مما تحدث عن أرسطو. وهو موحد بالله كما لاحظ مسكويه والشهرزوري. لا ينقل علومه من ميت عن ميت، بل من الحي الذي لا يموت. غلب عليه الزهد والتنسك، شامي ناسك زاهد يعبد الله. وقف في أوجه الملوك والحكام. وله نوادره. وتكلم عن النفس التي تصير إلى القدس وحرم قتلها. شهد عليه سبعون شيخا أنه نقد آلهتهم وحكموا عليه بالموت دون أن ينزعج كما هو الحال عند الشهرزوري. حاور تلاميذه. ولما سئل عن ماهية الرب أجاب بأن القول فيما لا يحاط به جهل؛ توجها من النظر إلى العمل مثل السؤال عن الروح والإجابة بأنها من أمر الرب. ولما سئل عن علة خلق العالم أجاب بأنها جود الله. ناهض ذوي الشرك بالحجج والأدلة فأثاروا العامة عليه.
23
ولتعظيم سقراط يضاف ألف ولام التعريف فيصبح السقراط. وهو مثل الرسول، خالف اليونان في الدين، وقابل ذوي الشرك بالحجاج والأدلة، فثوروا العامة عليه وألجئوا ملكهم إلى قتله. ويستشهد بسقراط على أهمية الحكمة، فهي من الله. لذلك قال: «أف، كل من قال من يحضرنا يزعم أنه حكيم، وإنما الحكيم أيها الرجال هو الله سبحانه وتعالى.» وهو في رواية الآمدي مسلم موحد بالله. اقتصر على المعارف الإلهية، وأعرض عن ملاذ الدنيا، وواجه الشرك بالأدلة والحجج، وثور العامة مما أدى إلى قتله، فهو شهيد لحرية الفكر.
سقراط هو المتأله الزاهد الحكيم، موحد بالله. خالف اليونانيين في عبادة الأصنام بالحجج والأدلة. فالباري تعالى واضع وخالق كل شيء؛ أي مقدر كل شيء، وعزيز أي ممتنع أن يضام، حكيم أي محكم الأفعال ومتكلم، وكذا سائر الصفات. أقصى أوصافه أنه الحي القيوم. شرط الحياة الإلهية إماتة النفس، خوف الله ومحبته ومراقبته، عجب السياسة الإلهية تقريب الأضداد. معرفة حق الله عز وجل في العبادة والتقوى. كتب لعزاء أحد الملوك أن الدنيا دار بلوى والآخرة دار عقبى، وبلوى الدنيا سبب ثواب الآخرة. وإذا كانت عبادة الأصنام ضارة لسقراط فإنها نافعة للملك، فالوعي الفردي اليقظ شيء والوعي الجماعي الخامل شيء آخر. ثم ينتقل سقراط من العقيدة إلى الشريعة. فإرضاء الله في لزوم الجماعة والعمل بالشريعة. الحكمة سلم العلو إلى الباري عز وجل والإخلاص في الشرائع. من عرف الله حق معرفته وما يرضيه لم يحتج ما يربطه بالسيئات. ثم استحم وصلى قبل الشهادة وقال: «إني أسلمت نفسي إلى قابض أنفس الحكماء.» فسقراط حكيم صوفي إشراقي كالسهروردي، يقرأ المؤرخ نفسه فيه. فالعقول مواهب والعلوم مكاسب كما يقول الصوفية: الأحوال مواهب والمقامات مكاسب. تعامل مع أفلاطون تعامل الشهرزوري مع المريد، الجواب والسؤال في المحاورات.
24
ومن أقوال سقراط يمكن معرفة فلسفته الإلهية الأخلاقية. فمن يريد أن يحيا حياة إلهية يميت نفسه من جميع الأفعال الجسيمة. ومن زهد في الدنيا أحبه أهلها، ومن رغب في الآخرة نال خيرها وحمد عاقبتها . فعل السياسة الإلهية إنما يتم عن طريق قرن الأضداد بعضها ببعض حتى يتم خلاص أحديها من الآخر. فبالله والأطباء يتم خلاص المرض. وتكون الهمة في المحافظة على حق الله تعالى في العبادة والتقوى. والحكمة سلم العلو، وبدونه لا يكون قرب من الله عز وجل. ومن عرف الله حق معرفته وما يرضيه لم يحتج إلى ما يربطه ويردعه عن السيئات. وتظهر نفس الروح في الأقوال المؤلفة، الدعوة إلى الآخرة، الثقة بالله والتوكل عليه، الاستسلام لإرادة الله ولقدرته ورعايته والإقبال على عبادته والحكماء:
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
مثل المؤمنين، وبعبارة قرآنية صريحة. وهناك أقوال تكشف عن صراعه السياسي والديني ضد الملوك. فالملكية عبودية وتبعية تشغل رجال الدين ضد حرية الفكر كمقدمة للحرية السياسية. ولا تعني القراءة إغفال نواة التاريخ وإلا كانت انتحالا. كما لا تعني إسقاط بعض الجوانب التاريخية أنها بلا أساس تاريخي. فمن المعروف أن سقراط كان ضد النساء ممثلا في امرأته. ولا تظهر هذه الواقعة في القراءة. في حين تظهر مقابل سقراط، فارس، تعبيرا عن التقابل بين أنصار حكمة فارس وحكمة يونان. اقتصر على الإلهيات والأخلاقيات. الباري لم يزل هوية فقط. فقد اقتضت الحكمة الإلهية تناهي الصور. أقصى ما يوصف به أنه حي قيوم. فباقي الصفات تندرج تحت الحياة.
25
وأفلاطون الحكيم الإلهي يقول بخلق العالم، ويثبت النبوة، لا فرق بينه وبين الكندي في كتاب التوحيد أو الفلسفة الأولى، لا فرق بين الحكيم اليوناني والحكيم الإسلامي، بين الفلسفة والدين، بين العقل والوحي. وهو شارح أسرار النبوة، معروف بالتوحيد والحكمة. للعالم مبدع أزلي. وليس في العالم رسم ولا طلل ولا مثال إلا الباري تعالى. فلا مثال إلا مثال المثل وهو الله؛ ومن ثم فهو يخالف أرسطو في المعاني العقلية الكلية. الباري لا علة ولا نهاية له، ولا شخص ولا صورة له، منزه عن كل نقص. أنشأ الله الهيولى وتممها بالصورة. والحكمة ليست بالقول بل بالأعمال الصالحة. وليس في عطايا الله خير من الحكمة، والمكافأة بالخير والصفح عن الشر. ويوجه أفلاطون عدة مواعظ بضمير المخاطب الجمع وكأنه نبي يدعو قومه. لقد انقطع أفلاطون للعبادة. اختلف مع سقراط في الصلة بين العقل والتقوى، والنظر والعمل، وفي الصلة بين الأخلاق والشعر. وهي إعادة بناء للفلسفة اليونانية بناء على توجهات الفلسفة الإسلامية. تحدث عن أسرار الحكمة الإلهية، وهو تعبير إسلامي. وأفلاطون مثل الحنفاء كما بدا ذلك في محاورة «طيماوس» بالرغم من أنه يقول في الظاهر بتعدد الآلهة. ويسميها السكينات. تخلى عن التعليم وعكف على عبادة الله. ولما تاجر قومه بالحكمة ابتلاهم الله بالوباء، فخلصهم أفلاطون بالهندسة. تعلم الشعر ثم انتقل إلى الفلسفة بعد مقابلته مع سقراط منتقلا من الأسطورة إلى العقل.
26
وعبر عن الحكمة بالرمز كما فعل فيثاغورس وسقراط لأسباب ثلاثة: كراهة اطلاع من ليس من أهل الحكمة عليها، عناية العاشق لها والصبر عليها، وتشحيذ الطباع كما هو الحال عند الصوفية. واستعمل أسلوب المحاورات وليس الكتب. أقواله معظمها مواعظ أخلاقية أقرب إلى الأخلاق العقلية عند المعتزلة، لذلك يسميه أرسطو الروحاني. الدين للدولة وليس للأخلاق المستقلة بذاتها مدركا الصلة بين الدين والسياسة. كان له 12000 تلميذ؛ أي إنه مدرسة بأكملها.
27
وعند أفلاطون المبادئ ثلاثة: الله «تعالى» الذي خلق العنصر والمادة. اشتغل بالعلوم الإلهية دون الطبيعية والرياضية، وتخلى عن الناس لعبادة ربه «تعالى». وقد أتت إسرائيل طلبا للمساعدة من اليونان زمن الوباء، فأمرها أفلاطون بتضعيف مساحة المذبح، فزاد الوباء، فأوحى الله إلى أفلاطون بأنهم لم يضعفوا المكعب. وكان سبب الوباء نفور بني إسرائيل من الهندسة، فأفلاطون يوحى إليه أفضل مما يوحى لبني إسرائيل.
ومن الأقوال يبدو أفلاطون صوفيا صاحب مقامات وأحوال كذلك مثل الشكر والخوف والمعرفة. فالشكر لله على نعمه على الناس ليل نهار على مساواة الله بين خلقه في مواهب النعم على الناس أجمعين والالتزام بها ضد تخصيصها بشعب معين. والخوف من الله جليس الإنسان. وشرطه ألا يقتني الإنسان شيئا سوى النفس. ومعرفة الله ووصفه من واجبات الإنسان. والحكمة أن يكون الباطن صحيحا خالصا لله عز وجل، وأن يكون الخوف من الله وليس من الإنسان. فرأس الحكمة مخافة الله. والصمت أيضا مقام. فقد جعل الله للإنسان أذنين ولسانا واحدا، من أجل أن يسمع ضعف ما يتكلم. ولا يجب الاستهزاء بالشريعة. والفضيلة الإنسانية التشبه بالملائكة، التشبه بالصورة المحركة بالقوة التي أنشأ فيها الخالق سبحانه دون الهيولى التي أنشأها الله ودعمها بالصورة. وكل صياغات الأقوال تشبه صياغة أدب الكتب المقدسة مثل «الحق أقول لكم.» كما هو الحال في الأناجيل. وكل الأقوال بها روح أفلاطون إن لم تكن صحيحة تاريخيا مما يجعل القراءة قريبة من الانتحال. وتكشف أقوال أفلاطون عن نفس النزعة الصوفية، بداية إسلامية ونهاية إسلامية، مثل طاعة الله سبحانه وتعالى وعدم سوء الظن به مما يدل على سيادة التصوف على الفلسفة في هذه العصور المتأخرة. كما تظهر أقوال على لسان صاحب «الجمهورية» و«النواميس» تتعلق بالسياسة ضد الظلم والغدر وتغير معاني الوفاء والعدل والصدق. كما تبرز علاقة التلميذ أفلاطون بأستاذه أرسطو مثل علاقة المريد بالشيخ عند الصوفية. ويعني أفلاطون بالأول وجود الباري، وهو الذي نظم الإسقاطات، الأشياء كلها متفقة فيما بينها لأنها من الله تعالى.
28
وهناك أفلاطون الطبيب، خوف الله جليسه، وذكر الله أنيسه.
29
أما أرسطو بن نيقوماخوس الحكيم وتعني محب الحكمة أو الفاضل الكامل فهو أقرب إلى النبوة منه إلى الحكمة. ليس بالضرورة أن يكون الوحي من سلسلة أنبياء بني إسرائيل التي يعرفها العرب والتي ذكرها القرآن. فالوحي متعدد السلاسل،
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، في الصين والهند وفارس وبابل واليونان. كان إسلام أرسطوطاليس بوحي من الله تعالى في هيكل بوثيون. ومقالته أن لبارتنا التقديس والإعظام والإجلال والإكرام، أيها الأشهاد. العلم موهبة الباري والحكمة عطية، والتسبيح والتقديس لمعلم الصواب ومسبب الأسباب. والعدل ميزان الله «عز وجل» في أرضه. فمن أزال ميزان الله عما وضعه بين عباده فقد جهل أعظم جهالة، ومن أقامه اعتز بالله «سبحانه» أشد اعتزاز. وكل ما كان بسيطا ففعله بسيط مثل فعل الله لأنه بسيط. عاش واحدا وستين عاما مثل الأنبياء. وبالرغم من الحديث عنه كتاريخ، حياته وكتبه ووصيته ومقالاته وآدابه ، إلا أنه تحول إلى خيال من كثرة التعظيم. وقد اختلفوا في موته بين موت طبيعي وقبر معروف، ورفعه إلى السماء في عمود من النور. وورد في أخبار اليونانيين أن الله أوحى إليه أنه أقرب إلى الملك منه إلى الإنسان. وهي نفس العبارة التي قيلت عن أسقليبوس مما يدل على وجود أنماط مثالية تلقى على أي شخص عظيم. ويتم الحديث عن أرسطو وكأنه نبي يهدي الإسكندر ويرشده ويعلمه. وهي علاقة تشبه علاقة لقمان بابنه وهو يعظه، يقرؤها الشهرزوري ناقلا لها من الفلسفة إلى الدين، ومن الدنيا إلى الآخرة. وأرسطو فيلسوف مؤرخ للفلسفة اليونانية. فهو خاتم الحكماء، كما أن الإسلام مؤرخ لمراحل الوحي السابقة ومحمد خاتم الرسل. ولم يستعن أرسطو بوحي كما استعان الرسول، وغير مستند إلى كتاب منزل ولا إلى قول نبي مرسل. أحيانا ضل الطريق وفاتته أمور لم يصل عقله إليها.
30
سقراط وأفلاطون وأرسطو ثلاثي واحد. سقراط أعرض عن الدنيا، وأفلاطون عبد ربه، وأرسطو سماه أفلاطون العقل. وقد روى زينون عن أرسطو عن أفلاطون عن سقراط.
31
أرسطو هو المعلم الأول الحكيم المقدم المشهور المطلق عند اليونانيين، المعلم الأول لوضعه المنطق. ونسبته إلى المعاني كنسبة النحو إلى الكلام، والعروض إلى الشعر. تعلم اللسان والنحو في الصغر. لذلك وضع المنطق، وهي قراءة عربية تشبه قراءة السيرافي في المناظرة الشهيرة بينه وبين متى بن يونس. ومع ذلك وكاستثناء في هذا السياق من الإعجاب باليونان وتعظيمهم وأسلمتهم ينقد الشهرزوري أتباع أرسطو. ويلاحظ قلة أسلوب المواعظ وقلة الإلهيات عند أفلاطون. ولكنه استكمل العلوم الأخلاقية والسياسية والتعليمية والطبيعية والإلهية. عذل أفلاطون على ما أظهر من الحكمة كما يفعل الصوفية في شطحاتهم. وأحيانا يقدم الشهرزوري قراءة نظرية. فالنظرية جزء من تاريخ الإسلام منذ أثبت قوم من النصارى هذه الظلمة أو العماية التي يتحدث عنها أرسطو. وتظل ميزته أنه نقد اللغة والشعر السابقين على الفلسفة، وحول الحكمة اليونانية من الأسطورة إلى العقل. فالشعر قبل الفلسفة عند اليونان كما أن الدين قبل الفلسفة عند المسلمين. ويقارن طاش كبري زاده بين المنطق والنحو. فالمنطق من فروض العين لكونه موقوفا عليه معرفة الواجب لله تعالى، وما يتوقف على الواجب فهو واجب. بل أن رياضة المتصوفة تقوم على المنطق. وهو مستقى من الهندسة. فالمنطق هندسة الفكر، والهندسة منطق المساحة.
32
ويبدو أرسطو أيضا صوفيا صاحب مقامات وأحوال مثل الشكر كما يبدو خطيب مسجد يوم الجمعة على المنبر. يتوجه بالحمد لله الذي سوى الخليقة والذي قسم البرية والذي سبق الكيف والماهية والذي اختبر عباده بأقل من مقدار الطاقة والذي أفاض بنعمه على الإنسان مما استوجب شكره وعبادته والاستعانة به والتوكل عليه راجيا السلامة والتوفيق. فالشكر واجب لله تعالى، والمن له سبحانه على البرية، والطول من عنده، له الحمد، وهو الملجأ والمعين على المهم في الكبير والصغير من الأمور، وهو الشكر الواجب ممن يعرف مننه ولا يحصي نعمه ممن يقول إنه واحد لا أول له ولا زوال لملكه. أنشأ الخليقة لا من موجودات، وأحدثها من متقدمات، خلق الرءوس الأوائل كيف شاء، وبرأ الطبائع الكلية من تلك الرءوس على ما شاء. وهو إعلان توحيد خالص من النبي أرسطو بعد أن تمت أسلمته كلية. ولكل قول سبب نزول كما هو الحال في «أسباب النزول».
وبالرغم من أن معظم الأقوال على العلم وهو ما يتفق مع فلسفة أرسطو، إلا أنه علم صوفي ذوقي. العقل فيه يتوجه نحو الله وليس نحو الطبيعة أو نحو ذاته. ومن خدم العقل وعبد الله عز وجل وفعل الفضيلة محب لله عز وجل. ومن أحب الله محبة إلهية وأحب العقل والفضائل أكرمه الله وأحسن إليه. وإذا أعطى الله الإنسان ما يحب من الظفر فعلى الإنسان أن يفعل ما يحب الله من العفو. ولكن للعقل حدودا، وأن يعقل الإنسان الله أمر عسير، وأن ينطق به الإنسان غير ممكن. والخير الموجب لا يصدق على الله ويصدق على ما دونه، ولا يجوز الله لفلان ولا لشيء من المضافات. إنما السالب فقط يصدق على الله. فهو لا صفة ولا حد ولا نظير له كما هو الحال في آيات أسلوب وفي اللاهوت السلبي. ويتحول أرسطو من لغة العقل إلى لغة الذوق وبأسلوب الرمز. كان يشرب ولا يروى فلما عرف الله روي من غير شرب. فهذا هو قدر الله الجاري في خلقه. والعدل ميزان الله عز وجل في أرضه. فمن أزال ميزان الله عما وضعه بين عباده فقد جهل أعظم الجهالة، واغتر بالله سبحانه أشد الاغترار. ومن أجل إيجاد نواة تاريخية لهذه القراءة تتم الإحالة إلى «السماء والعالم».
33
وتضمحل قيمة أرسطو في العصور المتأخرة، وتقل أقواله وتفيد نفس المعاني الروحية والحياة الباطنية. فمن تمسك بالدين علا قدره، ومن أطاع الله تعالى ملك، والثقة بالله تعالى أقوى أمل وأولى ما يعتمد عليه المرء في كل حال، لا فرق في ذلك بين ملك ورعية. وتظهر بعض الصياغات القرآنية في الأقوال مثل: لو كان له قلب يفقه به وأذنان يسمع بهما عاد معي إليك. كما يشار إلى علاقته الخالدة مع الإسكندر، الأستاذ مع التلميذ، النظر والعمل، النبي والقائد، المفكر والعامل. ويتم الكشف عن بنية القيادة في الحضارات المقارنة. فالبطريق هو القائد من قواد الروم ورئيس رؤساء الأساقفة والعالم عند اليهود. والصور عند أرسطو أزلية في علم الله تعالى، والباري لم يزل بالأزلية. ومن الشنيع أن يقال إن الباري لا يعلم شيئا البتة. ومع ذلك، وفي هذا الجو الصوفي المغرق يظهر دور أرسطو التاريخي في الفلسفة اليونانية. فهو الذي نقد الشعر ناقلا إياه إلى الفلسفة، من الأسطورة إلى العقل. وهو الذي نقد اللغة ضد سوء استعمال السوفسطائيين لها كما نقل الحكماء المسلمون حياة العرب من الدين إلى الفلسفة. وأكمل أرسطو العلوم الناقصة عند من سبقوه، العلوم الأخلاقية والسياسية بعد أن برع من سبقوه في العلوم الطبيعية والتعليمية.
34
وقد تحول الإسكندر ذو القرنين إلى مثل أعلى للملك الفيلسوف، معلم أرسطو، الصديق للقواد، الفاتح للبلدان، المبلغ رسالة التوحيد، سواء كان هو ذو القرنين الذي ذكر في القرآن أم غيره. انقشع الشرك في بلاد اليونان في أيامه. لقد بلغ الإسكندر الذكر في الآفاق. غايته توحيد الممالك. وغلب اليونان الفرس كما غلب الروم اليونان. لقد حرر الإسكندر اليونان من جزية كانوا يؤدونها إلى دارا، ودعا له أرسطو أن ينصره على دارا. ومن نبل الإسكندر تعظيم دارا عند موته وإقامة جنازة مهيبة له وعقاب الخونة. أرسطو هو النظر والإسكندر هو العمل.
وقد علم أرسطو الإسكندر، الأمر بتقوى الله عز وجل وطاعته، «الله تعالى ربي وربكم، خالقي وخالقكم.» ونقد عبادة الأوثان والغلبة لمن يشاء. خرج الإسكندر داعيا إلى الله ومطالبا الناس بتأدية الخراج ومعاقبة دارا. وأحسن الإسكندر معاملة البراهمة، ووجد أنه هو الذي يحتاج إلى تلقي الهداية منهم. لذلك صالح أهل الهند على الخراج. فالإسكندر رسول الله إلى الهند وفارس. ربما اعتمد الشهرزوري على القصص القرآني في أسلمة الإسكندر:
آتوني زبر الحديد ، ووضع النار في أخيلة النحاس. ودفن في الإسكندرية في موكب العظماء. كل شيء زائل إلا الله. وقال وهو يحتضر في بابل: «رب أنلني رضاك، فكل ملك باطل سواك.» وعلاقة أرسطو بالإسكندر، هي نفس العلاقة بين أبي سليمان وملك سجستان، علاقة الفيلسوف بالملك.
35
وهناك ما ينسب إلى الإسكندر وما لا يتفق مع استنارته وعقله وهو أنه حرق كتب المجوسية من فارس وأبقى على كتب النجوم والطب والفلسفة، ونقلها إلى اليونانية، وأحرق أصولها.
والتوحيد من أرسطو أو من الإسكندر أو من أفلاطون أستاذ أرسطو. فهي وحدة حضارية واحدة. علم أرسطو الإسكندر، وأظهر الخير، وفاض العدل، وقمع الشرك في بلاد اليونان. ويستشهد طاش كبري زاده باعتماد الإسكندر على علم العرافة في محاربته للفرس. وكان علم العرافة في هذا العصر المتأخر قد أصبح هو نموذج العلم. والإسكندر هو ذو القرنين. وهي صورة إسلامية بصرف النظر عن مدى التطابق بينهما في التاريخ. وعلاقته بأرسطو علاقة المريد بالشيخ. وهي قراءة إسلامية. ورسالة الإسكندر في نشر التوحيد وتسمية حروبه فتوحات قراءة إسلامية. وتسليم أفلاطون لأرسطو كان بوحي من الله مثل عهد الشهرزوري للمريد وقراءة المريد على الشهرزوري في مناهج التعليم في أصول الفقه والتصوف. أما صورة أرسطو المهتم بالدنيا فإنها رسم لسلوك من فلسفة الطبيعة في العصور المتأخرة بعد أن حاول الفارابي الجمع بينه وبين أفلاطون في رؤية متكاملة تجمع بين السماء والأرض، بين الآخرة والدنيا.
لقد وحد الإسكندر اليونانيين كما وحد مينا مصر. وحرر بلاد اليونان من الجزية التي كانت تؤديها إلى دارا ملك الفرس. هذه هي نواة التاريخ. ثم تبدأ القراءة بأن الإسكندر هو الذي سمى نفسه ذا القرنين، وكتب رسائله من ذي القرنين. وهو الذي مدحه القرآن لأنه حكيم أو نبي. فالحكيم هو النبي الطبيعي والنبي هو الحكيم الإلهي. الله يعطي الحكمة، والحكمة تفتح آفاق النبوة. والله يؤتي الملك من يشاء. وقد بشر الإسكندر بالتوحيد ودعا إلى الإيمان بالله الخالق رب الجميع. لذلك انهزم دارا لأنه إنسان ضعيف طاغية، تسمى باسم الإله الذي لا يموت وهو ميت. وانتصر الإسكندر بتأييد من الله الخالق والذي عليه التوكل والذي به الاستعانة. وهو المعبود الحق الذي ينصر من ينصره. وقد قتل الإسكندر دارا لتشتت وعيه حين التفت لمصدر الصوت. تمثل معركة الإسكندر ودارا حرب الشرق مع الغرب، كما تمثل الحرب بين روما وقرطاجة حروب الشمال والجنوب. وتستعمل لغة الفتوحات الأولى لوصف حروب الإسكندر وقسمه بالنصر وثقته بالفتح، فتح مكة. هو صاحب دعوة وفتح وتأييد. ويعرض شروطه: الإسلام أو الجزية أو القتال. وهنا لا فرق بين القراءة والانتحال. فالقراءة بداية الانتحال، والانتحال نهاية القراءة. ويصرح الإسكندر بالدعوة. ويبلغ به الوجد لدرجة التصوف. فإنه مجاهد في سبيل الله «إلى أن يكرمني الله باللحوق بدارا الحبيب.» الإسكندر إله ونبي وبشر، ولا يوجد فرق بين هذه المستويات في الخيال الجمعي والثقافات القديمة. والغريب أن هذا التوجه الإلهي موجود في السيرة أكثر من وجوده في الأقوال. فالسيرة بطبيعتها من صنع الخيال.
36
وتقل أقوال الإسكندر في العصور المتأخرة بعد أن ينتهي عصر الفتوح ويعز الخيال السياسي. ولا تزيد عن الدعوة إلى تقوى الله وإلى تجنب النساء. فالاستكثار من النساء والخلوة بهن يفسد العقول السليمة والطباع المستقيمة. ولا يجب السجود لغير بارئ الكل. وأفعال الله مجردة عن الشهوات.
37
وعند أوديموس أن الله تعالى تفرد بالكمال ولم يعر أحد من خلقه من النقصان. ويذكر طاش كبري زاده الإسكندر الأفروديسي وتقدير شرحه عند اليونان والمسلمين.
38
وديوجانس الكلبي الناسك الذي عاصر الإسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد يخاطب ويحاور الشيخ اليوناني في القرن الثالث الميلادي، وبينهما سبعة قرون. هو حوار فكري روحي وليس حوارا جسديا تاريخيا. وربما كان هناك خلط بين ديوجانس الكلبي وديوجانس اللايرتي الذي كان معاصرا لأفلوطين. فالحوار الفكري لا حدود له في الزمان أو المكان. ليس لديه إلهيات كغيره من الحكماء. ومع ذلك لديه نصائح عملية مثل عدم الجزع من المرض، فإن الرحمة من أمر الله تعالى. ورأى رجلا يدعو ويسأل الله أن يرزقه الحكمة مع أنه لو أجهد في التعليم لرزقها.
39
وفي العصور المتأخرة تغرق صورة ديوجانس في التصوف. فأفضل الكلام ذكر الله تعالى. وقد عزم على المضي إلى مكة للدعوة إلى الله تعالى من هناك ثم العودة إلى وطنه، فمكة مكان الدعوة ومنطلقها لليونان والمسلمين على حد سواء! ويأخذ على الناس العهد والقسم.
40
وعند ألينوس لا يحتاج الفلاسفة إلا إلى الله «تعالى». وهو شيخ من شيوخ يونان. وأريباسيوس القابلي كثيرا ما كان يشاور في أمور النساء. وعند فرفوريوس رتب الله الكون وأن الكثرة جاءت من عند الباري تعالى.
41
أما جالينوس فقد نسجت حوله أيضا حكايات خيالية لشد انتباه العامة نحو المناطق الخصبة في الشعور، نجدة الضعيف، ونصرة المظلوم. وبالرغم من وجود نواة تاريخية في حياته ومسكنه وأخلاقه ومصنفاته، إلا أن صفة تجميد الماء أقرب إلى المعجزة منها إلى العلم. يتضخم عرض المصنفات على حساب عناصر رسم الشخصية الأخرى. ويعتمد على أبقراط وشروح أعماله. تكثر التشبيهات. ومع ذلك التاريخ فيه أكثر والقراءة أقل. حكايته طويلة، نموذج بشخصه قبل أقواله. ولا يهم التاريخ. فكان يسكن في مقدونية وهي أرض مصر. هو نموذج الطبيب المؤمن الذي يرى أن الله هو الشافي إذ يقول: لما خلصني الله «تعالى» من مرض فتاك. وسمع لطفانس يدعو ربه أن يحرسه من أصدقائه. ولكن لا تعطى أقواله ولا تروى حتى يمكن بناء فكره. وارتباط جالينوس بالسلاطين رؤية متأخرة. ولا بد أن يتعاصر جالينوس مع المسيح. بل إن جالينوس ذكر المسيح في تفسيره كتاب أفلاطون في السياسة المدنية ناقدا الرهبنة، واعتراض القفطي مؤرخا مع ذلك بأن الرهبنة تالية على المسيح بمائة سنة على الأقل، والأصح أربعمائة عام بعد أن أسسها أنطونيوس في صحراء مصر الغربية.
42
وتحول الأقوال المتأخرة صورة جالينوس الطبيب إلى جالينوس الأخلاقي الصوفي الذي يدعو إلى مراقبة الله تعالى. ثم تتضخم الصورة فيصبح العالم بأخلاق الشعوب وطبائع الأمم مما يوحي باستمرار الشعوبية. وتنقسم الأحكام عليها إلى ثلاثة أنواع. الأول المدح وبيان المحامد مثل الحكمة في الهند والروم، والكبر في الفرس، والقرى للأخيار عند العرب، والصدق في الحبشة، والعلم في أهل العراق، والحساب في قبط مصر، والفصاحة في أهل الحجاز. والثاني أحكام تجمع بين المحامد والمثالب مثل قسوة القلب وعدم الغيرة والأمانة في الزنج والترك، والطمع والشجاعة في الأكراد والفرنج. والنوع الثالث أحكام المثالب وحدها مثل القذارة والقتامة والخيانة في الأرمن، والجهل في أهل الشام، والخلاف في الروم واليهود، والبخل في أهل المغرب والبطائح. وتتخلل صفات الجماعة سمات الأفراد والجبلة بين الجسد وصفات الروح. فالحمق في الطوال والكذب في القصار.
43
وحرص بطليموس على علم كيفية بنيان بابل وخبر النمرود. فوجد الإجابة عند بني إسرائيل في بيت المقدس. فبعث إليهم برونم الترجمان فترجم له التوراة من العبرانية إلى اليونانية، فوجد فيها خبر النمرود. فاليونان هنا تلاميذ العبرانيين، وبطليموس هو الذي أمر بالترجمة السبعينية. والأخلاق أهم من العلم. وليس شيء أحسن عند الله تعالى من الإحسان إلى المسيء. والعمل سفير الآخرة. وتتم المقارنة بين بطليموس واضع علم الفلك مع سيبويه واضع علم النحو. وفي الأقوال يتحول بطليموس إلى متكلم سياسي وصوفي. فالعاقل من عقل لسانه إلا من ذكر الله. ورضا الله عن نفسه مقرون بسخط الله سبحانه عليه. ولله في السراء نعمة المفضل وفي الضراء نعمة التطهير والثواب. وينصح بأنه كلما قارب الإنسان أجلا فليزده عملا. وفي الأقوال المتأخرة يتحول بطليموس من جغرافي إلى صوفي أخلاقي يدعو إلى الاستعانة بالله في حال البلاء. ويقسم بالله العظيم، ويدعو للسلطان، ويتمنى له طول العمر والبقاء. وينتقل من الدين والسياسة إلى الجنس طبقا للمحرمات الثلاث في العصور المتأخرة وحتى الآن. فلا يقدر أحد من الخلق على حفظ المرأة إلا نفسها.
44
وإقليدس المذكور في كتب التاريخ هو الأخلاقي الروحي أكثر منه الهندسي الرياضي. وطبقا للشيخ اليوناني أفلوطين ليس للباري صورة ولا حلية مثل صور الأشياء تنزيها لله. والغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر. ويتحدث مهادرجيس باسم الله ولي الحكمة ومنتهى الإنعام والرحمة وغاية الطول والإحسان، الواحد في كل مكان، الذي جاد بالخير تفضله، وجعل الشكر سببا للزيادة من عطاياه ومواهبه، والكفر تمحيقا لرزقه ومننه. وأرطيبوس يؤمن بقدرة الله تعالى، ويدعو إلى طاعة الله تعالى، ولا يخاف غير الله تعالى، ولا يتقي إلا الله تعالى، ولا يعبد إلا الله تعالى عبادة ذي الجلال، ولا يسره إلا الله تعالى.
45
وفي النهاية يقول الحكماء نفس الشيء كلهم موحدون مؤمنون بالله وبالخلق ومقرون بالنبوة والمعاد، لا فرق بين وافد وموروث بين شرقي وغربي، مصري أو يوناني، شمالي أو جنوبي.
أما الإسكندرانيون فهم نقطة انتقال الطب من اليونان إلى العرب عبر النصرانية في الإسكندرية. يكتبون في الطب وفي التوحيد تبشيرا بالإسلام الطبيعي الفطري نظرا لاتفاق الوحي والعقل والطبيعة. ولغة التأليف السريانية. ويبتعدون عن التعصب، وهي صورة مقلوبة للإسلام المتسامح. وأبرزهم يحيى النحوي الذي رد على أبروقلس في تسمية اليونانيين الأجسام المحسوسة آلهة. وهو نصراني ناقل فيلسوف يعتبر مثل خالد بن يزيد أول الأطباء عند الأمويين. نقم عليه النصارى لشرح كتب أرسطو ورفضه التشبيه والتجسيم. وعند الشهرزوري ينتهي تاريخ اليونان برواية أخرى من يحيى النحوي الإسكندراني. وأبرقلس ألف في قدم العالم كتابا ووافقه أرسطو. ولا عيب في قول أرسطو به ما دام النقد متاحا. وقد ظهرت شبه قدم العالم بعد أرسطو.
46 (3) الألقاب والصور الجسمية والذهنية
وتكشف الألقاب عن صورة الحكماء في الوعي الجمعي، وصورة الآخر في وعي الأنا. وألقاب الوافد أكثر من ألقاب الموروث في علوم الحكمة مما يدل على درجة تعظيم الوافد. فبقراط سيد الطبيعيين واضع الطب؛ أي إنه العالم الأول في الطبيعيات. وهو صحيح بالنسبة للطب الخالص على عكس جالينوس الذي يجمع بين الطب والمنطق والأخلاق. وهو الحكيم أبقراط، الطبيب، الفاضل الكامل، وحيد دهره، كامل الفضائل، عالم يبسط الأشياء التي بها يضرب المثل، الطبيب الفيلسوف. وسقراط الحكيم، أحكم البشر. وهو الزاهد المتأله الحكيم، وهرقل الحكيم. وأرسطو المعلم الأول، واضع المنطق لضبط البلغاء والشعراء والخطباء. وهرمس الحكيم، أوميثوس الحكيم. وجالينوس أعلم اليونانيين بعد أرسطو. وظلت مؤلفاته بين أيدي الإسكندرانيين يشرحونها ويمارسون الطب بناء عليها، فاضل المتقدمين والمتأخرين. وأفلوطين الشيخ اليوناني وأحيانا الناسك الشيخ اليوناني نظرا لما في تاسوعاته «أثولوجيا» من إشراقيات. وأفلاطون الإلهي. وأحيانا يوضع اللقب قبل الاسم، الشيخ اليوناني أفلوطين، وإقليدس الصوري واضع الهندسة، مما يدل على الحكم على الهندسة بأنها صورية، وأسقليبوس النبي. ويمكن استنباط صورة الحكيم من المعنى الاشتقاقي لاسمه وحتى يكون الاسم على مسمى. فتعني صوفي منع اليبس أو البهاء والنور. وديسقوريدس الله ملهم للشجر والحشائش وأشجار الله، وأرسطوطاليس تام الفضيلة، وفيثاغورس قاهر الخصم. فالنحويون معلمو الصبيان، والشعراء أصحاب أباطيل، والبلغاء أصحاب محاباة. وقد يشتق اللقب من صفة في الجسد أو اللباس أو الهيئة مثل الإسكندر الملقب ذو القرنين.
47
ويعطى الآخر ألقاب الأنا. فأرسطو بالنسبة إلى المنطق هو سيبويه بالنسبة للنحو والخليل بن أحمد بالنسبة للعروض. ويمكن أن يشتق اللقب من الأستاذ مثل قابس السقراطي. وهناك ألقاب مهنية مثل يحيى النحوي، وهوميروس الشاعر، وبيراطوس الملك، وآرون الملك، وسولون واضع شرائع أثينه، وحنين بن إسحاق المترجم، ومتى بن يونس المترجم. وهناك لقب مشتق من فلسفة صاحب اللقب مثل ديوجانس الكلبي. ويمكن أن يشتق اللقب من أجل التعظيم المطلق مثل: هرمس الهرامسة، أو زينون الأكبر، تمييزا لزينون الأيلي عن زينون الرواقي. ويمكن أن يكون اللقب نسبة إلى المكان مثل: أنكساجوراس الملطي، الإسكندر الأفروديسي. أو القوم مثل: الإسكندر الرومي.
48
أخذ حكماء اليونان ألقابا إسلامية مثل: رباني، إلهي، حكيم ، نبي، عظيم، مع الصلاة والسلام عليه مثل آدم أول الحكماء صلوات الله تعالى عليه وسلامة، أسقليبوس. وهناك ألقاب للأبوة والبنوة مثل آدم أبو البشر، شيث بن آدم، أرسطاطاليس بن نيقوماخوس الحكيم، زينون الأكبر بن طالوطاغورس، حنين بن إسحاق وابنه إسحاق، أنبادقليس بن بادن النبي الحكيم عليه السلام، أنبادقليس الحكيم العظيم الرباني، فيثاغورس الفيلسوف المتأله، أفلاطون الحكيم الإلهي، غريغوريوس المتكلم على اللاهوت، لقمان الحكيم المذكور في القرآن العظيم. ويمكن الجمع بين أكثر من لقب، فأنبادقليس العظيم الرباني بن بادر، أرسطاطاليس بن نيقوماخوس الحكيم، ديوجانس الكلبي الناسك بالرغم من تعارض الصفتين.
49
واللقب هو الذي يحول الحكيم إلى نمط مثالي. وهناك حكماء آخرون بأشخاصهم دون ألقابهم.
50
وتوصف أجساد الحكماء كجزء من رسم الشخصية. لم ير المؤرخ الجسد، ولم يقرأ أو يسمع عنه، لكنه تخيله ورسمه بناء على شخصيته وفكره ومنهجه كما هو الحال في فن رسم الشخصية المتخيلة كما يعيشها الفنان. ومعظم وصف الجسد للوافد وليس للموروث باستثناء لقمان وهو مصدر الوافد. ولم ينقل هذا الوصف من صورة أو رسم، فلم تكن العادة كذلك عند القدماء، وربما ليس من وصف سابق بل بناء على تخيل المؤرخ واستنباط الجسد من مضمون الروح.
51
فهرمس مثلا آدم اللون؛ أي لون الأرض، لأنه أول البشر علما وحضارة، حسن الوجه كث اللحية، عريض المنكبين، ضخم العظام، قليل اللحم مما يدل على العظمة والأصالة والبداية مثل صور هرقل وزيوس والأبطال في الخيال الشعبي، براق العينين، أكحل مما يدل على العلم والفراسة. ينظر إلى الأرض، يحرك السبابة عند الكلام كالمعلم، ورفع السبابة علاقة في الديانات الشرقية مثل بوذا، سبابة إلى أعلى تشير إلى السماء وسبابة إلى أسفل تشير إلى الأرض. ومن صفاته النفسية كثرة الصمت وقلة الكلام مما يشير إلى التأمل والحكمة وجوامع الكلم. في أصبعه فص عليه: الصبر مع الإيمان يورث الظفر.
52
وسقراط أبيض أشقر أزرق، دليلا على الاستنارة، جيد العظام، قبيح الوجه، دلالة على أن الحسن في الروح وليس في البدن، ضيق ما بين المنكبين، بطيء الحركة كالمتأمل ، سريع الجواب كالذكي، شعث اللحية للمهابة. إذا سئل أطرق وتمتم تمعنا في الإجابة، كثير التوحيد لأنه من الموحدين، قليل الأكل والشرب لأنه من الزاهدين، كثير التعبد لأنه من النساك، شديد التعب لأن قوته في الروح وليس في البدن، يكثر ذكر الموت للعظمة، قليل الأسفار، فالعالم فيه وليس هو في العالم. جحيد الرياضة، بدنه خسيس، ملبسه مهين لأنه لا يهتم بالبدن، حسن النطق لأنه محاور. مات بالسم وقد ناهز المائة عام. له آراء ضد النكاح بالرغم من زواجه لأنه هتك الأستار، وولوج الأقذار، ونهك القوى، وإنجاب خلقة سيئة.
53
وأفلاطون أسمر اللون، معتدل القامة، حسن الصورة، مهاب اللحية، قليل شعر العارضين مما يوحي بصاحب الجمهورية وضرورة كمال الأجسام في تربية المدينة، ساكن، خافض، براق العينين، لطيف الكلم.
وأرسطو أبيض اللون دليلا على العلم والنور، حسن القامة للمهابة، عظيم العظام كالمنطق، صغير العينين لحدتهما، كث اللحية للمهابة، أقنى الأنف للدقة، صغير الفم للزهد، عريض الصدر لاتساع المعارف، مسرع بمفرده إحساسا بالزمن، مبطئ مع أصحابه شفقة بهم، ناظر في الكتب لا يمل، يقف عند كل حكم، قليل الجواب، كثير السؤال، يتجول في الطبيعة وهو فيلسوف الطبيعة، ويستمع للألحان وأصحاب الجدل. منصف مع نفسه، معتدل الملابس والمأكل والمشرب، فالفضيلة وسط بين طرفين.
54
وأبقراط ربع أبيض لون العلم، حسن الصورة فهو الطبيب، غليظ العظام، فهو القوي، معتدل اللحية أبيضها للمهابة، منحني الظهر للاحترام، عظيم الهامة للتفوق، بطيء الحركة للجلال، كثير الإطراق، مصيب القول، متأن في الكلام للعلم الرصين، كثير الصوم، قليل الأكل. فهو الطبيب الذي يعرف نظام الغذاء. توفي عن خمس وتسعين عاما، وترك ستة عشر تلميذا غير الأساتذة، ترك الملك من أجل الطب.
وكان هوميروس رقيقا ثم أعتق، فالشعر للأحرار، معتدل القامة، حسن الصورة، لهيبة الشعر، أسمر اللون، عظيم الهامة للمهابة، ضيق ما بين المنكبين، سريع المشي للخفة والخيال، له صوت جهوري لإلقاء الشعر، مهذار مولع بالسب لمن تقدمه، مزاحا مضحاكا، فالشعراء يتبعهم الغاوون، والضحك يميت القلب. مات عن مائة وثمانين عاما.
وسولون أبيض الشعر للهيبة، أزرق العينين، أقنى الأنف للدقة والحدة، مستطيل اللحية ضعيف المنكبين منحني الأكتاف جمعا بين النقيضتين، حلو المنطق قوي اللسان في صياغته للقوانين، توفي عن سبعة وثمانين عاما.
وزينون معتدل القامة، أخفس الأنف، حسن الصورة، أدعج العينين، عظيم الهامة، معتدل اللحية كالشيخ المهيب، سريع الالتفات، رافع الرأس علامة على الذكاء، كثير الكلام، حلو المنطق، رزين العقل للجدل والمحاجة، بطيء الحركة، سريع المشي لانتباهه على حجج نفي الحركة اعتمادا على بطء السلحفاة وسرعة أخيلاوس. توفي عن ثمانية وسبعين عاما أيضا.
55
والإسكندر لا يشبه أباه أو أمه لتفرده. عيناه مختلفتان، واحدة زرقاء والأخرى سوداء، واحدة تنظر إلى أعلى وأخرى إلى أسفل جمعا بين الشرق والغرب، الحكمة والنبوة، السماء والأرض. أسنانه دقيقة حادة، وجهه كالأسد للشجاعة.
وبطليموس معتدل القامة، أبيض اللون، تام الباع، لطيف القدم، كث اللحية أسودها، فهو الجغرافي. جسده مثل الكون، صغير الفم على نقيض اتساع العالم، حسن اللفظ، حلو النطق لتعبيره عن نظام الأفلاك، شديد الغضب، بطيء الرضا، ضيقا بجهل الناس، كثير التنزه لتجواله في العالم، قليل الأكل، كثير الصيام، طيب الرائحة، نظيف الثياب. فالعلم يقتضي الزهد، والنظافة من الإيمان، والمسك سنة.
وجالينوس أسمر اللون، حسن التخاطيف، عريض الأكتاف، واسع الراحتين، طويل الأصابع، حسن الشعر. وهي صورة الطبيب الجراح الماهر، محب للأغاني والألحان وقراءة الكتب، فالطب موسيقى الروح وتآلف البدن، وباب العلم؛ معتدل القامة، ضاحك السن، كثير الهذر، قليل الصمت لشخصية الطبيب في تآلفه مع المرضى، كثير الأسفار للمعرفة، طيب الرائحة لعلمه بالكيمياء. يحب الركوب دليلا على الإحساس بالوقت. توفي عن سبعة وثمانين عاما. ويلاحظ جمع هذه الصفات بين البدنية والنفسية، البعض منها متكرر كمقياس نمطي لحسن الشخصية. كلها إيجابية لا يوجد الأعور أو الأعمى أو الأعرج.
56
ويمكن استنباط عناصر الشخصية من المعنى الاشتقاقي للاسم اليوناني مثل سقراط الذي يعني الصوفي أو المعتصم بالعدل، وغاثاذيمون السيد الجد، وأرسطاطاليس المشتق عن أرسطا أي حسن، وطات أي الذي، ليس يقول؛ أي حسن الذي يقوله. وبالرومي إرشاد الأليس. كما تعني الكامل الفاضل. وتعني فيثاغورس في أصله الرومي تيواغورس؛ الله الشاب أو شاب الله مع تقديم المضاف إليه على المضاف. ويعني إيلاوس الرحيم، ونيقوماخوس المجاهد القاهر، وثامسطيوس المؤمن، وديوجانس يا مجنون، وجالينوس الساكن. كما تدل الكتب أيضا على معانيها مثل المجسطي لبطليموس أي العظيم الشامخ.
57
وقد لا تكون القراءة دائما إعادة بناء الآخر داخل ثقافة الأنا، بل قد تكون اعتبار ثقافة الأنا امتدادا لثقافة الآخر. فحكماء الإسلام امتداد لحكماء اليونان، والشراح العرب استئناف لحكماء اليونان المتأخرين، نصارى ويهود ومسلمين. فيضع صاعد الكندي مع المعلم اليوناني. وقد تحولت الفلسفة اليونانية على أيدي الشراح المسلمين إلى فلسفة أخلاقية وسياسية ناقلين لها من مستوى الطبيعة إلى مستوى المدينة. ويهاجم صاعد الرازي ويفضل أرسطو عليه، ويتهمه بالإلحاد ويعزو إلى أرسطو الإيمان. الرازي كافر بالتوحيد والنبوة، وأرسطو هو المؤمن بهما. وبالتالي يبدأ منطق الاستبعاد. ولكن هل العلم الإلهي والطب الروحاني انحراف عن أرسطو؟ فأرسطو هو نموذج الفلسفة. الصحيح ما أتفق معه، والخاطئ ما أختلف معه. فالرازي على مذهب فيثاغورس. انتصر للفلسفة الطبيعية القديمة وانحرف عن أرسطو. واستحسن الثنوية والأتراك والبراهمة في إبطال النبوة والقول بالتناسخ مع عموم الصابئة. ولو وفقه الله لكان أرسطيا، وكأن الله مسئول عن فلسفات البشر. ولم رفض انحرافات الرازي لو كان الله مسئولا عن فكر البشر؟ لقد اضطرب الرازي في العلم الإلهي، وله آراء سخيفة، وانتحل مذاهب متناقضة، ولم يفهم أقوال اليونان، وعمي في آخر عمره.
58
ويهاجم ابن حزم دفاعا عن أرسطو لأنه خالفه في «التقريب إلى حد المنطق» بجوامع شرعية لأنه لم يفهم غرضه في حين أن أرسطو هو واضع أصول العلم. ولم يرتض في كتابه. لذلك جاء كتاب ابن حزم كثير الغلط وبين السقط بعد أن استكثر من علم الشريعة. وهو على مذهب داود وأهل الظاهر ونفاة القياس والتعليل في أصول الفقه.
59
والنصارى العرب امتداد للرومان وهو غير صحيح. هم خدام الملوك مثل غيرهم من يهود ومسلمين وحرانيين ومجوس. فقد كان الملوك والأمراء والوزراء رعاة العلم.
60
ويمدح طاش كبري زاده الفارابي وابن سينا لأنهما هما الوحيدان اللذان فهما أرسطو ومقاصده، ولكنهما كفرا بكفره، ولم يردا عليه كما فعل أبو البركات في «المعتبر». ويعتمد على الغزالي في «التهافت» في تقسيم أقوال الحكماء إلى ثلاثة أقسام: قسم يجيب تكفيرهم، وقسم يجيب تبديعهم، وقسم لا يجب إنكاره أصلا. فالحكمة الرياضية والمنطقية لا تتعلق بالدين أصلا. ولكنهما يخدعان ويجعلان الناس تصدق بالإلهيات التي تستعصي على المنطق وتؤدي إلى الكفر. كما تؤدي الطبيعيات إلى جحد الصانع. الإلهيات كلها أغاليط مثل إنكار حشر الأجساد وإنكار علم الله بالجزيئات والقول بقدم العالم بالإضافة إلى سبع عشرة بدعة. أما السياسات المدنية فمأخوذة من كتب الله المنزلة، والسياسة الخلقية مأخوذة من أهل التصوف. ولقد تم إحراق الكتب قبل ابن رشد خوفا من الإلحاد في الشريعة والخروج على الملة.
61
وقد يبلغ الإعجاب بالوافد لدرجة خلق أبي الفرج بن الطيب الجاثليق لنفسه أسطورة نسبه إلى اليونان، وأنه من أولاد خولوس ابن أخت جالينوس، شيخا عاجزا وقت ظهور المسيح.
62
مع أن جالينوس ولد بعد المسيح بتسعة وخمسين عاما. ولكن الأسطورة تريد التقريب بين المسيح وجالينوس وأبي الفرج. وادعت النصارى أن خولوس صار بعد شمعون الصفا نبيا. وله كتاب فيه دلائل البعث والحشر. وربما هو القديس بولس. تتجاوز الأسطورة الزمان وتضع الحكماء في حوار متبادل، جالينوس والمسيح مثل أرسطو ومحمد، ابن رشد وابن عربي، تحقيقا لنمط اتفاق الفلسفة والدين. كما سمي أبو موسى عيسى بن حيتا بن وردان قالون، وتعني بلغة الروم جيد أنه كان يسمع القرآن ويقول قالون قالون
kalon
لأن أصله رومي مما يدل على أن اللغة اليونانية كانت شائعة في الحياة اليومية.
ويجمع الشهرزوري مقالات الفلاسفة وتصنيفهم للحكمة أولا قبل أن يعرض لفيلسوف فيلسوف.
63
ويقرأ الحكمة النظرية ويجعلها مساوية للحكمة العقدية. وبالتالي تكون قسمة الفلسفة إلى نظرية وعلمية مثل قسمة الإسلام عقيدة وشريعة. ويرى تطورا بين الأوائل والأواخر، المتقدمين والمتأخرين في أكثر المسائل. كانت مسائل الأولين محصورة في الطبيعيات والإلهيات، الكلام في الباري، ثم زادوا الرياضيات. وجعلوا العلم الإلهي هو الذي يدرس ماهيات الأشياء . ثم أضاف أرسطو المنطق آلة للعلم. موضوع العلم الإلهي الوجود المطلق. أما النبوة فغايتها تأييد القسم العملي والفلاسفة ومدها بمدد روحاني في حين أن الفلاسفة قد مدوا بمدد عقلي لتأسيس القسم العملي. غاية الحكيم أن يتجلى لعقله كل الكون ويتشبه بالإله الحق. وغاية النبي أن يتجلى له نظام الكون حتى تنتظم مصالح العباد . وذلك لا يتأتى إلا بترغيب وترهيب وتشكيل وتخييل. فكل ما قال به أصحاب الشرائع مقرر عند الفلاسفة. ومن أخذ علمه من مشكاة النبوة يعظم الفلاسفة وكمال درجتهم. ويدور كلام الفلاسفة على موضوع واحد؛ وحدانية الله وعلمه المحيط بالكائنات والإبداع وتكوين العالم والمبادئ الأولى والمعاد. وربما تكلموا في الباري بنوع من حركة وسكون. وقد أغفل المتأخرون من فلاسفة الإسلام ذكرهم رأسا إلا من بعض النوادر تزييفا لهم. والأفضل نقلها عنهم ونقد رواياتهم ثم المقارنة بين الأواخر والأوائل.
خامسا: حضارات الشرق
ويعيد البيروني قراءة الهند من منظور العقل، وهو منظور إسلامي صرح به القرآن، ووضعه المعتزلة وأسسه الفلاسفة. ويتضح ذلك من مجرد العنوان «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة». لذلك يدافع عن المعتزلة كعلماء ضد مؤرخي السلطة الذين يتهمون المعتزلة بإنكار صفة العلم وبالتالي إثبات الجهل لله.
1
ويستعمل بعض مصطلحات الاعتزال مثل الصلاح والأصلح. وكل أدوات البيروني ومفاهيمه التي يستعملها لفهم الهند إسلامية، مثل التفرقة بين الخاصة والعامة. وكل خطأ يبرئ منه الخاصة ينسبه إلى العامة.
2
وراء الموروث والوافد هناك الطبيعة البشرية، المبادئ العامة، البداهة العقلية؛ أي الفطرة في وحدة الوحي والعقل والطبيعة. وهي الرؤية الإسلامية للعالم، أساس حوار الحضارات.
3
لذلك يبدأ البيروني أولا بوضع قانون عام مثل النكاح في الأمم، وبيان أن الفطرة هي الزوجة الواحدة قبل الدخول في التشريعات المقارنة لقوانين الزواج.
4
ويعرض البيروني كل موضوع على العقل والبداهة فيكتشف الخرافة التي يقع فيها الهنود والمسلمون على حد سواء مثل خرافة الأفلاك التي يسقط عليها البشر حاجاتهم من أجل تلبيتها إحساسا بالعجز، والالتفاف عليه من أعلى. وبدلا من تجاوز الكواكب إلى الله فإنهم يجسمونه في الكواكب. والقادر على فعل شيء لا يسأل عنه ولا يستجدي طلبه. يسقط الإنسان آماله وإحباطاته على الأفلاك. وكل ما يحدث للإنسان من حروب وسلام فهي أسبابها. ينقد خرافات الهنود، والتشبه والتجسيم التي تجعل العلم العين كالحشوية، ويدافع عن التنزيه. ويذكر انتقاداتهم في الموجودات الحسية والعقلية.
5
يدرس البيروني الهند ليس كتاريخ أو عادات أو تقاليد أو ديانات أو فلسفات أو علوم، بل لتقييم ثقافة الهند وإعادة بنائها من منظور الثقافة الإسلامية، قراءة للآخر من منظور الأنا. وهو يجمع في ذلك بين الوصف والتقييم، بين العرض والنقد، مثل نقد السحر الهندي وارتباطه بالسيمياء.
6
ويستعمل القرآن في حالة الإدانة. ويقرأ ثقافة الهند بمصطلحات إسلامية وبمفاهيمها مثل النسخ والتناسخ والشهادة والإخلاص والجزاء والجنة والنار والرسل والملة.
7
كما تأتي المفاهيم من علم أصول الفقه مثل الجمهور والإجماع وبعض القواعد الفقهية مثل البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. ويقرأ من موضوعات الهند ما يقابل الموضوعات الإسلامية مثل اللغة والنحو والأدب والشعر.
8
ويلاحظ معاناة الهند من ازدواجية الفصحى والعامية.
وتدرس موضوعات مقارنة على أساس إسلامي مثل علاقة النفس بالبدن،
9
وكيفية الخلاص مع مقارنة إشارات الصوفية مع التناسخ الهندي، والوصول إلى مقام المعرفة والعشق وأقوال أبي بكر الشبلي وأبي يزيد البسطامي، والمعنى الاشتقاقي للفظ التصوف. ويؤخذ من «كشف المحجوب» أربع مراتب للتناسخ: الفسخ والرسخ والمسخ والنسخ (التوالد بين الناس).
وقد تبنى المسلمون مذاهب الهند في النجوم، السندهند، ولم يصل إليهم الأزجير ولا الأركند.
10
ومن علمائهم كنكه، ذكره أبو معشر البلخي في كتاب الألوف وأنه مقدم في علم النجوم.
ومع ذلك ينتقد البيروني الحسابات الفلكية للهنود، ويبين اختلاف الفلك الهندي مع الفلك الإسلامي.
11
أما الموسيقى فكتاب نافر. والأخلاق وتهذيب النفس من كليلة ودمنة نقله برزويه الحكيم الفارسي من الهندية إلى الفارسية، من الهند إلى كسرى أنوشروان، ونقله عبد الله بن المقفع إلى العربية. ودخلت العلوم الهندية داخل العلوم الإسلامية قبولا ونقدا. ووضع الآخر في إطار الأنا يكون إيجابا أو سلبا إذ لم يدون الهنود علومهم على عكس تدوين العرب والعربيين.
واعتقد فريق منهم، الثنوية، ببني إبراهيم.
12
ومنهم من أثبت متوسطات روحانية تنقل الرسالة من الله في صورة بشر.
كما قرأ صاعد الهند، ورأى إجماعهم على التوحيد والتنزيه، قراءة للآخر من منظور الأنا، بالرغم مما يوحي به ذلك أحيانا من تناقض؛ أزلية وحلول في آن واحد. وتتناقض الهندوكية بالحديث عن الواحد المنزه والأسماء المجسمة في آن واحد. والعلم الإلهي في الهند يحمله إما البراهمة وإما الصابئة. والبراهمة وهم قلة، يخضعون لشريعة النسب.
13
البعض يقول بحدوث العالم والبعض يقول بقدمه. يبطلون النبوات ويحرمون ذبح الحيوان ويمنعون إيلامه. والصابئة ظهروا في عهد طورس. وبوذا نبي. أتى بدين الحنفاء وهو بوذاسف. لذلك اعتبرهم الفقهاء مثل أهل الكتاب لأنهم مقرون بالتوحيد.
14
وما المانع أن يكون بوذا نبيا إذ لم يقص القرآن إلا أنبياء بني إسرائيل المعروفين في الثقافة العربية؟ وفرض عليهم دين زرادشت بالقوة. والخلاف بين الإسلام والهندوكية لا ينفي المساواة بين الناس على أساس التقوى والعمل الصالح. بل إن عبادة الأصنام تركها المسلمون استخفافا بها.
15
كانت الأصنام تجارة رابحة وتسلية أكثر منها دينا، تجارة الذهب الذي كانت تصنع منه التماثيل.
وتختلف العقائد في كل أمة طبقا لنزوعها نحو العقول، والأصول عند الخاصة، أو المحسوس والفروع عند العامة. ويبدأ البيروني بالعقائد؛ عقيدة التوحيد. ويستعمل التعبيرات الإسلامية مثل «الله سبحانه»، ومقارنتها بأسماء الهند؛ بوذا وإبراهيم. ويفتتحون الكتاب بآدم الذي هو كلمة التكوين كما يفتتح الكتاب باسم الله. وربما عرف الهنود حروفهم بإلهام من الله كما عرف آدم الأسماء بتعليم منه. ويعنون بالخلق المعنى العامي. فالخلق ليس إبداعا من لا شيء بل هو الصنعة في الطينة. ويذكر ابن النديم مذاهب الهند، المهاكانية، والدينكيثية، والإنشنية.
16
وفي مقابل التفسير الخرافي الهندي يعطي البيروني التفسير العلمي. ويؤول الخرافة على أنها تصوير فني. فينقد التفسير الفلكي للظواهر الإنسانية.
17
ويغلب على الفكر الهندي الحكايات والأساطير والروايات وليست الأحكام العلمية الدقيقة.
18
وتختلف هذه الحكايات من راو إلى آخر كما هو الحال في الآداب الشعبية. وينقد البيروني أخطاء العلماء العرب في وصف جغرافية الهند، مثل الجاحظ في تفسير الآيات القرآنية الكونية ومقارنتها بالأساطير الهندية، العالم كبيضة مؤولا:
وكان عرشه على الماء . كما ينقد خطأ الخوارزمي وصواب الهند.
19
ويقارن البيروني بين الشريعة الإسلامية والشرائع الهندية، ما يتفق منها مع العقل والطبيعة والفطرة وما يرجع فيها إلى العادات والتقاليد. الحج الهندي ليس فرضا بل هو تطوع وفضيلة. والصيام في أيام معلومة، والصدقة تطهير للغني. وفي الطعام والشراب مباح ومحظور. ولا يوجد في الهند طلاق. والزواج مبكر، وأربعة بحد أقصى. ولهم دعاوى وعقوبات وملكية أجساد الموتى. ولهم أعياد وأفراح، وأيام معظمة وأوقات مسعودة ومنحوسة لاكتساب الثواب وتجنب العقاب. فهناك شرائع مشتركة بين الإسلام والهندوكية تقوم على الطبيعة والفطرة. شهود الزنا أربعة في الشريعتين، وإتيان المرأة وقت الحيض محظور ستة عشر يوما في الهند وأربعة أيام في الإسلام. ولا طلاق في الهند والطلاق مباح في الإسلام وهو أبغض الحلال. وتسقط النساء من المواريث في الهند خلا الابنة فإن لها ربع ما للابن.
20
وينقد البيروني التشديد والتضييق في الشريعة الهندية بناء على ما في وعيه من تمييز بين العزيمة والرخصة. وقد توضع مؤلفات الهند في مقارنة مع مؤلفات الفرس والروم والعرب. فحضارة الهند ليست جزيرة منعزلة في الشرق من باقي الحضارات في الشرق والغرب. ولها كتب في الخرافات والأسماء والأحاديث، والعرب ولوعون بالأدب. ولهم كتب في المياه، والعرب أهل صحراء. ولهم كتب في الفأل والزجر، والعرب أهل فأل وطيرة. ولهم كتب في الجوارح، والعرب أهل صقور. ولهم كتب في المواعظ والأدب والحكم، والعرب أهل أمثال.
21
وتحدد مدة شعب الفرس ابتداء من آدم وأولاد نوح وملوكهم. عرف الفرس آدم ونوح، وبالتالي عرفوا التوحيد من مصادره الأولى. كانوا على دين نوح. وانتشر فيهم دين زرادشت، واعتقدوا أنه نبي من عند الله حتى قضى عليه عمر بن الخطاب. ثم استأصل عثمان أتباعه. أسلم البعض والباقي مثل أهل الذمة اليهود والنصارى. برعوا في الطب وأحكام النجوم. وألف فيها أبو المعشر جعفر بن محمد البلخي. ولهم كتاب حساب مدة العالم. وأحكم ملوك الشرق كشتاسب.
22
وقد كان دور العجم نقل التراث إلى العربية من الفارسية كما نقل السريان التراث اليوناني إلى العربية. ويأتي في المقدمة عبد الله بن المقفع.
23
ولم تتم فقط أسلمة اليونان، بل أسلمة الفرس، فسابور بن أردشير نبي عليه السلام.
24
ويقارن ابن النديم بين أنواع الخطوط الفارسية والعربية وأسماء كتب الفرس المجوسية والمنانية وأسماء مذاهبها الخرمية والمزدكية والبابكية.
25
كما يقارن بين المجوسية والنصرانية، والنصرانية جزء من التراث العربي. تبدو أحيانا فارس الأصل والسريان الفرع نظرا لتداخل الحضارات القديمة. وحكمة اليونان من فارس. فقد حرق الإسكندر كتب المجوس وأخذ فقط كتب النجوم والطب والفلسفة ونقلها إلى اليونان مما جعل حكماء اليونان تلاميذ لحكماء الفرس!
وفي الأقوال المتأخرة يظهر بزرجمهر الوحيد الفارسي، واحد من عشرين يونانيا. يدعو في الشرق إلى مثل ما دعا له حكماء اليونان في الغرب، الثقة بالله تعالى والخوف منه وذكره وحمده، ويطلب رحمته، منتقلا أيضا من الطب البدني إلى الطب الروحاني مثل أطباء اليونان في حين أن بزرجمهر لم يكن طبيبا، لكن من أجل أن تتوحد المقاييس والمسارات وتنكشف طبائع البشر. كما تظهر صورة المرأة السلبية كما هي العادة في هذه العصور المتأخرة.
26
بل امتدت النبوة إلى الصين. وأهل الصين من نسل يافت بن نوح. فالأنبياء آباء البشر. ويقابل ابن النديم بين اللغة الصينية واللغة العربية. ويتحدث ابن النديم عن اللغة الصغدية إحدى لهجات اللغة التركية. ولا يدري ما هي الروسية.
27
ويتحدث الخوارزمي المتأخر عن الترك والروم والهند كنماذج لشعوب لم تبلغها الدعوة. وهو غير صحيح تاريخيا لا في عصر الفتوحات أولا ولا في عصر الخلافة ثانيا.
28
ويقارن طاش كبري زاده بين اللغات وبين اختلاف الحروف باختلاف اللغات وتعدد مخارجها. فحروف السريانيين والروم والفرس والصقلب والترك مكونة من 24-26 حرفا. وحروف العبرانيين واليونانيين والقبط الأول والهنود وغيرهم مكونة من 32-36 حرفا. ففي كل لغة حروف لا توجد في اللغة الأخرى.
29
وقد تكون القراءة سلبية لخصائص الشعوب باسم الله. فقد خص الله الجلالقة والبرابرة بالطغيان والجهل وعمها بالعدوان والظلم. حكموا البشر ثم أطلقوا حكمهم وتشريعهم في الإرادة الإلهية.
30
سادسا: حضارة العرب
ويقارن البيروني كتب ماني مع النصرانية واليهودية بالرغم من ضياعها. ويبين فضل الإسلام؛ فالقرآن ناطق في الأشياء الضرورية، وأحكامه غير متشابهة على عكس اليهودية والزنادقة وأصحاب ماني. والسريان نصارى وليسوا كلدانيين. يسجدون لله شكرا بعد العلاج، لا فرق بين العلم والإيمان. والبدن الصحيح العافي من العلل بحمد الله، والله لا يضيع من يبذل نفسه في طاعته. ويورد ابن فاتك أقوال غريغوريوس المتكلم على اللاهوت. ويوصي بجعل الله بدء الأمر والكمال.
1
ويقارن البيروني بين الحلول والاتحاد عند الصوفية المسلمين والنصرانية وإطلاق اسم الأبوة والبنوة على الله عند اليهود والنصارى. فالمسافة بين الحلول الهندي والنصراني ليست بعيدة. كما يقارن بين الصور في الهندوكية والنصرانية. واليهودية أيضا دين من ديانات العرب. وإليها ينتسب لقمان الحكيم المذكور في القرآن العظيم. حكمه كثيرة مثل: لا خير في الكلام إلا بذكر الله، أخذ الحال بأمانة الله، الصبر عن محارم الله، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، الصبر على المصائب، الإكثار من ذكر الله عز وجل فإن الله يذكر من يذكره، الفرار بالذنوب إلى الله، تسبيح الله، أعلم الناس بالله أشدهم له خشية، ما يقرب إلى الله، الحب في الله والبغض في الله، والتقرب إلى الله. الله يحيى القلوب بتقوى الله. وكلها مستقاة من وصايا لقمان لابنه في القرآن وفي الحديث.
2
وتعطي صورة للقمان من خلال أقواله بعد وصف مكان دعوته. فقد نزل بين الرملة وبيت المقدس كي لا يختلط بالناس حتى لحق بالله عز وجل. وتعتمد على نمط الأسلوب القرآني ووصايا لقمان لابنه. تقوم على ذكر الله. فإذا أكثر الإنسان من ذكر الله يذكره الله، فالله ذاكر من يذكره. والله يحيي القلوب بذكر الحكمة كما تحيا الأرض بوابل السماء. ويجلس الذاكر مع الذاكرين لله عز وجل واطلاع الله عز وجل عليهم برحمته تنالهم، ولا يجلس مع من لا يذكر اسم الله. وفضل ذكر الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، والذكر لا يخلو من الفم. وهمة الإنسان فيما يقربه إلى الله، الحب في الله والبغض في الله، والتقرب إلى الله عن طريق محبة أوليائه. ويستحي بقدر قربه من الله. فالله أحق أن يستحى منه، وذلك عن طريق تطهير النفس من أحاديث السوء ورضا الخالق بسخط المخلوق، وألا تأخذ الإنسان لومة لائم. الديك يصرخ بتسبيح الله، والإنسان يستعيذ بالله من شر النساء، ويتقي الله عز وجل. ولا يخشى الناس كخشية الله عز وجل حتى يكرمه الناس. وتقوى الله حظ للإنسان وحق عليه. والاتكال على الله أروح، والقرب من الناس يجعل الإنسان سهلا لأن الله يحب كل سهل طلق. وطاعة الله واجبة، فإن من أطاع الله كفاه ما أهمه وعصمه من خلقه. وما خلق الله خلقا أهون عليه من الدنيا. نعمتها ثواب للمطيعين، وبلاؤها عقوبة للعاصين. يفر الإنسان من الذنوب إلى الله، ويتخذ مع الله تجارة تأتيه بالأرباح. ويؤدي الصلاة المفروضة. والطريق إلى ذلك كله العلم والحكمة. فأعلم الناس بالله أشدهم له خشية. وهذا هو الانتفاع بما علم الله للناس. وأحق الناس بالتواضع أعلمهم بالله وأحسنهم له عملا. إكرام حكمة الله واجب، ولا تقدم إلى من تهون عليه، ولا يبخل بها عن من يريد حفظها. كل ذلك في لازمة قرآنية:
يا بني لا تشرك بالله .
3
ويرى صاعد أن الصابئة هنود مع أنهم عراقيون آشوريون، وكأن الهوية تنبع من الفكر وليس من التاريخ. هم موحدون بالله، ولكن الخلاف في النبوة والبعث. العالم أزلي ومعلول بذات الله. وكانوا يقولون بالقدماء الخمسة: الباري، إبليس، الهيولى، الزمان، المكان.
4
وتتم قراءة الفرق بقواعد العقائد الإسلامية، التوحيد والعدل، الخلق والبعث. فاليهود تنكر النسخ. والربانيون كالمعتزلة في خلق الأفعال، والقراءون كالمجبرة. والفرق اليهودية والمسيحية هي الفرق العربية وليست الغربية كما نفعل نحن هذه الأيام. العنانية أسسها عنان بن داود، والعيسوية نسبة إلى أبي عيسى بن إسحاق، والبوذعانية نسبة إلى رجل من همدان اسمه يهودا، والموشكانية أصحاب موشكا. وقد تكون النسبة من المنطقة مثل السامرة نسبة إلى فلسطين. كذلك تراجع الفرق المسيحية من خلال تاريخ المسيحية العربية، وينقل إلى العقائد المسيحية من خلال العقائد الإسلامية، التثليث في مقابل التوحيد اعتمادا على القرآن، وأهمية الطهارة والشهادة كمقياس للعبادات الصحيحة. والصابئة في مقابل الحنيفية أي الخروج على أحدهما، كلاهما عين الفطرة، دين الوحي ودين الطبيعة ودين العقل بالرغم من الجدل بينهما. الصابئة من عذيمون وهرمس، والحنفاء من وحي الأنبياء. وكانت الصابئة تسمي الكواكب أرباب آلهة، والله تعالى هو رب الأرباب وإله الآلهة. وكانوا يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى. وقد ناظرها الخليل بالعقل والتجربة عندما كسر الأصنام وتحداها بالرد. ومنهم من يقول بالتناسخ، وأن الله أجل من أن يخلق الشرور.
5
والكلدان ليسوا جزيرة منعزلة بل في صلة مع فارس وبابل، إبراهيم ونمرود، ونبختنصر وإسرائيل حتى ظهر عليهم الفرس. وأحيانا يختلط الكلدان مع الحرانيين والصابئة ومذهب الثنوية والمنانية، وتوصف عقائدهم وشعائرهم مثل الصلاة والإمامة. أحيانا يظهر رؤساء فرقهم الإسلام ويبطنون غيره. والسريان كانوا يكتبون بالعبرية. كما يقارن البيروني بين العبرية والسريانية.
6
وكل عبدة الأوثان من العرب موحدة. عبادة الأصنام ما هي إلا وسائل لتقربهم إلى الله:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . ولكن الخلاف في النبوة والبعث. صحيح أن عبادة الأوثان والكواكب لا تتفق مع العقل، ولكن العرب قبل الإسلام أقروا بالتوحيد والربوبية، والتزموا بالشريعة، وآمنوا بنهاية العالم والبعث والنشور، وأقاموا العبادات من صلاة وصيام وحج.
7
وقد أتت عبادة الأصنام من الشام، من اليونان والرومان والنصارى، وليست من الجزيرة العربية بطبيعتها.
8
ويقارن البيروني علوم الهند وشرائعهم بعلوم العرب وشرائعهم قبل الإسلام، فالأنا الحضاري متصل قبل الإسلام وبعده. ويقارن علوم اللغة والشعر في الحضارتين. وكذلك تتم مقارنة الفلك والعلوم الرياضية والطبيعية في الحضارتين. وتتم مقارنة أنواع النكاح في الهند وأنواعها في الجاهلية، الاجتماع على امرأة واحدة إذا كانوا إخوة، الاستبضاع، التبادل، زواج الابن الكبير. وتبدأ العرب بالكتابة من اليمين إلى اليسار، وهو أقرب إلى الطبيعة من البداية من اليسار إلى اليمين كما تفعل الهند. والعرب أميون لا يكتبون ولا يحسبون، وإنما يعولون على العدد والعيان.
9
بل تتعدى القراءة إلى النظم السياسية. إذ يسمي صاعد الدولة العباسية بالهاشمية. ربما تعاطف معها وهو الأندلسي الذي تدين الأندلس بفتحها للأمويين. والعرب أصناف: معطلة ومحصلة. ومن المعطلة من تنكر الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني اعتمادا على الطبائع المحسوسة. وقد أشار إليهم القرآن في آية:
نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر . وآخرون أقروا بالخالق، والبعض يعتقد بالتناسخ، وفريق ينكر بعثة الرسول.
10
ولقد استمرت الوثنية بعد الإسلام في الممارسات الشعبية. ولو وجدت العامة أو النساء صورة النبي أو الكعبة لقبلوها وعفروا خدودهم بها، وكما يفعلون في مناسك الحج والعمرة. وهو نفس دافع إيجاد الأصنام وتسميتها بأسماء الأشخاص المعظمة من الأنبياء والعلماء والحكماء لتذكير الناس بأمرهم عند الغيبة أو بعد الموت. وبتقادم الأزمان نسي الناس بدايتها وحولوها إلى أصنام. فكأن الناس في البداية وفي النهاية كانت على عبادة الأوثان. فهي العنصر الثابت في الدين على مر الزمان.
11
سابعا: حكماء الإسلام
ثم يتغير العالم بظهور الإسلام وانتشاره حتى عم كل دعوة ظاهرة، وعلت حكمة التقوى. وصار للعرب دولة عظمى ورئاسة كبرى، ونالوا حكمة بالغة العلى. وخمدت كل دولة قاهرة، وتوارت كل ملة ظاهرة، واختار الله للدين الجديد يثرب دارا، والحجاز قرارا، والأنصار أصحابا. ظهور الإسلام علامة تحول في التاريخ، وبداية فترة الانتصار الأولى قبل فترة الهزائم الأخيرة.
1
ويتضح ذلك في تاريخ أطباء العرب أول ظهور الإسلام. فقد دعا الرسول الحارث بن كلدة الثقفي لمعالجة مريض «فإنه رجل يتطبب.» أي يمارس الطب صنعة وظنا وليس طبيعة ويقينا. فالعقل من قسمة الله تعالى قسمه بين عباده لقسمة الرزق فيهم من كلامه. لم يمنع الرسول من التطبيب، ولكنه نبه على الخير فيه: «أنزل الدواء من الداء.» والحارث بن كلدة هو الذي تنبأ بموت عمر عندما رأى اللبن يخرج من الأمعاء. وقد قتل النبي النضر بن الحارث مع أسرى بدر وحزن عليه بعد سماع رثاء أخته: «لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته.» القتل خطأ، والحياة أهم، والشعر يؤثر في النبي. كما قال النبي لأبي رمنة التميمي الطبيب: «أنت رفيق والطبيب الله.» مكررا «الطبيب الله.» كما هو الحال عند الأشاعرة في نظرية الكسب. ويشرح عبد الله بن أبحر الكناني قول النبي: «سر بدائك ما حملك.» وقد بعث الرسول إلى أبي بن كعب طبيبا يعالجه. ويستمر هذا التقليد عند الكندي الذي يوصي الطبيب بتقوى الله حتى يساعده على شفاء الأمراض. وقد استخار عمر بن عبد العزيز الله في إخراج كتب الطب أربعين صباحا ومنها كتاب أهرن بن أيمن القسي وترجمة ماسرجويه إلى العربية.
2
وعادة ما تكون «الأسلمة» للوافد، فالموروث ثقافة إسلامية منذ البداية، ولكن لتقريب المسافة بين الوافد والموروث، يشرح الموروث الوافد على نحو إسلامي، أو يعرض نفسه على نحو عقلي طبيعي، مثل طلب الكندي أن يتقي المتطبب الله تعالى ولا يخاطر.
3
ونقد أحمد بن الطيب السرخي الشذوذ الجنسي اعتمادا على حديث الرسول. ويتحول الطب النبوي إلى طب علمي يقوم على العقل والطبيعة حتى يبدو الاتفاق بين الوحي والعقل والطبيعة.
4
وعادة ما تروى الحكايات التي لا شأن لها بالعلم في نوع من الطب الأدبي ما دام الطب جزءا من الحكمة. وتذكر بعض الأحاديث النبوية في عرض الأطباء مثل: «الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.» في مهذب الدين بن هبل من أطباء العراق لتبرير أخذ بعض المنافع والأدوية من الحيوانات.
5
وتذكر أحاديث أخرى في الدعاء لنزول الغيث وتحقيق النفع وحجب الضرر عن النبات والحيوان والإنسان.
والانتقال من الطب النبوي إلى الطب العلمي هو خطوة من الموروث من أجل الالتقاء بالوافد من الطب العلمي إلى الطب الروحاني، في طب إنساني واحد يجمع بين التنزيل والتأويل، بين الوحي والطبيعة.
6
أما النقلة المترجمون فإن عرضهم أقرب إلى التاريخ منه إلى القراءة، غير الشراح المبدعين. ليس بهم من الكبار أحد إلا حنين بن إسحاق الذي أضيفت عليه هالة التعظيم. فلم يعرف فقط اليونانية والسريانية والعربية، ولم يكن فقط تلميذا لسيبويه، بل إنه كان يعلم الفارسية ولم ينقل عنها. وقد تكون هناك صلة بين الانشغال بالطب والمذهب الحراني نظرا لأن كثيرا من النقلة والأطباء كانوا على هذا المذهب. فالطب من العلوم الطبيعية. والمذهب الحراني طبيعي. ويقسم ابن أبي أصيبعة النقلة كما إلى كثير ومتوسط وقليل؛ وكيفا إلى جيد صحيح النقل، ومتوسط وضعيف دون فصاحة وكثرة اللحن. والأفضل الكثير كما الجيد كيفا. والنقلة أيضا مجموعات تنتسب إلى أسر مثل أسرة بختيشوع وثابت بن قرة أو إلى مدارس مثل مدرسة حنين بن إسحاق.
7
وكان معظم النقلة من اليهود أو النصارى أو الصابئة مما يدل على تعدد الأمة، وخدمة الطوائف بعضها لبعض. يتعاملون مع خلفاء المسلمين ويجدون عندهم كل تقدير وعون.
ويحيى بن عدي نقل عن اليونانية مثل نقل خالد البرمكي عن الفارسية كليلة ودمنة. وهو فيلسوف أيضا. فالإنسان قريب من الله، يسطع نور الله فيه، والله يخلق كل شيء.
8
وحنين بن إسحاق وابنه يأتيان في مقدمة المترجمين. ولا يوجد أعلم من حنين بعد الإسكندر باللغة العربية واليونانية.
9
أما حكماء الإسلام فهم أطباء مسلمون. يؤلفون في الطب وفي التوحيد. لأحدهم في التوحيد كتاب على طريق أصحاب المنطق في سلوك مراتب البرهان لم يسبق إلى مثله أحد، وكتاب آخر في إثبات النبوة أيضا بطريق البرهان.
10
هم حكماء موحدون يذكرون من المقالات ما هو غير لائق. وللرازي كتاب في الطب الروحاني. وكان أبو حفص عمر بن بريق طبيبا نبيلا قارئا للقرآن مطرب الصوت. وإذا كان الحكماء القدماء زهادا، فإن ابن سينا لم يكن كذلك. كان مشغوفا بالخمر والجماع. برع في المنطق الطبيعي والرياضي، ولم يبالغ في الرياضي لأن من تذوق المعقولات ضن بذهنه في الرياضيات. ثم أقبل على العلم الإلهي فعرفه بفضل الفارابي في أغراض كتاب ما بين الطبيعة الذي اشتراه من سوق الوراقين.
11
ويستبدل الخوارزمي بأمثلة المنطق اليونانية أمثلة عربية كما يفعل الشراح العرب، فالموضوع والمحمول هما المبتدأ والخبر، وتحويل قضايا المنطق إلى تركيب الجملة الخبرية، الفعل والفاعل. فالمنطق لغة اليونان، واللغة منطق العرب. ويستعمل الشعر العربي لشرح المنطق. ويحال إلى المعتزلة طرق استعمال العقل. وجابر بن حيان مؤسس الكيمياء صوفي عند طاش كبري زاده .
12
وهناك أيضا عند المؤرخين إحساس بإبداع حكماء الإسلام وتجاوزهم حكماء اليونان بالإضافة إلى شرحهم وتقديمهم. فالرازي نسخت تصانيفه في الطب تصانيف المتقدمين. والفارابي لم يكن قبله أفضل منه في حكماء الإسلام. وقال عنه ابن سينا: يئست من معرفة غرض ما بعد الطبيعة حتى ظفرت بكتاب أبي نصر في هذا المعنى، فشكرت الله تعالى على ذلك وصمت وتصدقت بما كان عندي. وكان أبو علي تلميذا لتصانيفه. وشرط تعلم الحكمة عنده صحة الزواج والقرآن واللغة والشرع والعفة والأخلاق. وإخوان الصفا ينظر إليهم طاش كبري زاده على أنهم من متكلمي المعتزلة، ويذكر نقد ابن سليمان وأبي حيان لهم. يجمعون بين العقل والمعجزات والسحر. وهو موقف فقهي ضد الإخوان لإيمانهم بالتنجيم وبإدخالهم شرائع الأمم السابقة ودياناتهم فأفسدت أمة الإسلام.
13
بل تتدخل التفسيرات الدينية المجازية في سلوك الناس. فعند أبي زكار النيسابوري تدفع الشياطين النصارى لأكل الخنزير، وتدفع المسلمين إلى شرب الخمر.
14
وهناك ألقاب تدل على المهنة والصناعة وهي غير ألقاب التعظيم والتفخيم والتقدير مثل: الأديب، القاضي، الشيخ. ويغلب على الألقاب النسبة إلى المكان، ثم الحكيم، ثم الطبيب، ثم الفيلسوف، ثم باقي المهن كالمترجم والمنجم والتطبيب، ثم الخيام والخازن والطحان.
15
وقد يكون اللقب دينيا كالإمام، المفتي، البطريق، الجاثليق. وقد يجمع بين لقبي مهنتين مثل الإمام المفتي، أو مكان ومهنة كالأصفهاني النحوي، الطبيب النيسابوري؛ أو مكانين مثل الهرمزوي الماسوراباذي، أو مدحين للتعظيم والتفخيم مثل الإمام الأجل، الإمام الفريد، الفيلسوف أوحد الزمان، الإمام الأوحد، الإمام الصاحب، الوزير شرف الدولة، السيد الإمام. وقد يكون اللقب نسبة القرابة ودرجتها مثل: الأب والابن وابن الأخ، ابن أخي البديع. وقد يجمع اللقب بين سمة للجسد والمكان مثل البغدادي الضرير. وقد تجتمع ثلاثة ألقاب مثل: الأستاذ الحكيم المحقق، الدستور الفيلسوف صحبة الحق، القاضي الإمام الفيلسوف. وأحيانا أربعة مثل: السيد الإمام والفيلسوف شرف الزمان. وبطبيعة الحال تتكاثر الألقاب على الملوك، مثل: الملك العادل العالم عضد الدنيا والدين علاء الدولة. أما لقب حنين بن إسحاق فهو الترجمان، وهو يدل على السمة الغالبة. ويغفل الفيلسوف والطبيب. هو أحد أئمة التراجم في الإسلام.
16
وهو أيضا أبقراط الثاني، أقرب إلى اللقب منه إلى المهنة. وأخذ بعض الحكماء لقب الشيخ مثل الشيخ أبو سليمان المنطقي.
17
وأبو الخير الحسن بن بابا بن سوار بن بهنام، سماه الرسول في المنام أبقراط الثاني. فالتسمية هنا من الرسول من أجل أن يتحول اللقب إلى مقدس تعظيما لصاحبه. والكندي فيلسوف العرب، وهو لقب قديم قبل أن يعطيه له أحد المعاصرين.
18
ولم تشع بعض الألقاب مثل: الأستاذ الرئيس لأبي الفضل المجتبى، في حين شاع البعض الآخر. ولم تذكر ألقاب الشيخ الرئيس لابن سينا أو حجة الإسلام للغزالي لأنهما فيما يبدو من عصور متأخرة. يذكر القفطي أن الفارابي هو المعلم الثاني. فالحكماء أربعة: اثنان قبل الإسلام؛ أرسطو وأبقراط. واثنان بعده؛ أبو نصر وأبو علي.
19
وابن الهيثم هو بطليموس الثاني؛ لأنه كان تلو بطليموس في العلوم الرياضية والمعقولات. وقد تتكامل الألقاب في تشبيهات عامة وليست في ألقاب دقيقة. المهندس بطليموس، والباني البتاني، والجصاص هو أبو محمد العدلي العايني تواضعا منه واعترافا بفضل القدماء.
20
أما ألقاب الشهرزوري فإنها تتعدد بين المكان والقرابة، وهي الطريقة العربية المعروفة بالنسبة إلى الأب والابن والقبيلة والمهنة، مثل: الطبيب، الفقيه، الخيام، عين القضاة، القاضي، الأمير، المفتي، الخازن، الفيلسوف، الحكيم، ثم اللقب التعظيمي الذي يدل على المكانة مثل: شرف الملك، الشيخ الفاضل، أفضل الدين، تاج الدين، الإمام العلامة رضي الله عنه للرازي، الأستاذ المختص عضد الدنيا والدين، الأستاذ المسجى المجتبى. والمكان هو الأكثر.
21
وقد يدل اللقب على الدين والطائفة والملة مثل: الصابي، المسيحي؛ أو التيار الفكري مثل: إخوان الصفا، أو القبيلة مثل: الكندي. ويمكن الجمع بين لقبين: المكان والنسب، المكان ولقب التعظيم والتشريف. وقد يدل على الأستاذية مثل: ابن التلميذ، وقد يدل على اللقب الديني مثل: الجاثليق، الشيخ، الإمام، الفقيه، الخطيب، مولانا.
وقد يوضع اللقب في البداية تعظيما وإجلالا أو في النهاية إقرارا ووصفا. بل إن الأسماء في اللغة العربية نفسها ألقاب، مثل: تاج الدين، شرف الدين، وظهر الدين، بحيث يصعب أحيانا التمييز بين الاسم واللقب، بين الموصوف والصفة، كما كانت الأسماء في العربية صفات. ولا يأخذ حكيم من حكماء المسلمين لقبا وافدا إلا ابن الهيثم الملقب ببطليموس الثاني؛ والبغدادي بن مانا بن سوار بن بهرنام الملقب بأبقراط الثاني.
22
وأخذ الفارابي لقب المعلم الثاني. فقبل الإسلام هناك أرسطو والإسكندر، وبعد الإسلام هاك أبو نصر وأبو علي . والمقارنة أشبه باللقب غير المباشر لأنها قراءة للموروث من خلال الوافد، وقراءة للوافد من خلال الموروث. فيقارن ابن الشبل (474ه) مثلا مع طاليس بالرغم من التعبير عن فلسفته بالشعر، ولكن أقوال الطبائعيين الأوائل أيضا كانت أقرب إلى النظم وهو الشعر المنثور. فهل الألقاب من روح التشيع وتعظيمه للأئمة على حين أن الرسول كان ينادى باسمه دون ألقاب التعظيم، ناهيا عن الإطراء كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم حتى تحول اللقب إلى إله. المكان والشرف مثل: شرف الملك أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري، الشيخ الفاضل محمد بن محمد الفارابي. ولا ترسم شخصية حكماء الإسلام بالجسد كما يرسم حكماء اليونان لأنهم معروفون. رآهم الناس ولا حاجة إلى تمثيلهم وتحويل أفكارهم إلى سمات جسدية ونفسية باستثناء لقمان. فهو أسود حبشي مثل شمشون، تعلم في الشام ومات بالرملة، عبد أسود غليظ الشفتين مصفح القدمين مصطك الركبتين، له رجولته وفحولته. وباستثناء أبي سهل الكوهي الذي وصف بأنه جميل الهيئة. وكان البيروني أسمر اللون قصير القامة كث اللحية أبيضها، شيخا متوغلا في السن.
23
ويستعمل القرآن والحديث كمصدر للغة، وكشواهد نقلية على الحقائق العقلية مثل تفضيل الله الإنسان بالنطق والعلم. كما يستعمل القرآن على نحو حر من أجل إثراء الأسلوب العربي مثل:
فتبارك الله أحسن الخالقين ، وهي الآية التي كانت منذ نزولها صيحة إعجاب من كاتب الوحي لوصف القرآن كيفية خلق الجنين في رحم الأم.
24
ولا يخلو الكتاب من جو دين إسلامي منذ البسملة الأولى، سواء كان ذلك من المؤلف أو الناسخ، والترحم على المؤلف من الناسخ. ويترحم على الراحلين ويعتمد على المشيئة الإلهية والعون الإلهي. فكل شيء بإذن الله وبعون الله. ويختص برحمته من يشاء، ويعدل بنعمته على من يشاء. كل شيء بيده وتأييده وكرمه ومنه. هو الذي اختص أمما بالاشتغال بالعلوم. وهم الذين فهموا غاية الله. والله وحده مريد الإحاطة وفضيلة التمام لا رب غيره. وهو الذي يمد في عمر الحكام ويحرس المدن. منه السداد وإليه المنتهى. وهو الهادي والرازق. بيده الشفاء . والله المستعان، والله المستعان وبه التوفيق، بعون الله، بعون الله سبحانه وتعالى، والله الموفق. والحمد لله على كل شيء. والصلاة والسلام على رسوله. ولله الحمد والمنة. والله عالم بكل شيء. هو أعلم بالصواب، والله تعالى أعلم، والله أعلم، والله سبحانه وتعالى أعلم، والله أعلم وأحكم، والله أعلم بالقيامة.
25
كما يتم الاستشهاد بقول للسيد المسيح في الإنجيل الطاهر في بيئة أندلسية تجمع بين الأديان، ولا تفرق بين الكتب المقدسة. ويتم الترحم على الأموات. ومع ذلك يقترب الله والسلطان في الدعاء ويتداخلان. فالدعاء والحمد لكليهما بنية شعورية واحدة.
26
ودلالة العبارات الإيمانية في الموروث أقل من دلالتها في الوافد لأن الموروث بطبيعته يعبر عن الرؤية الدينية للعالم في حين أن الوافد يوضع فيها ويختم بها عليه. ويتم عرض الوافد بلغة الموروث، وتفسير السيرة الذاتية بعبارات الموروث مثل عودة جالينوس إلى وطنه «إن شاء الله.» كما يتم عرض الموروث بطبيعة الحال بلغته. فعند أبي القاسم الأنطاكي المجتبي: يفتح الله بصر العقل. وعند أبي زكريا الصيمري: رضا الإنسان عن نفسه مقرون بسخط الله تعالى. وعند مسكويه: من كان ميله إلى غير رضا الله عز وجل فإنه يظل محجوبا عن العلم. فإذا كان الوافد قد ساعد على تعقيل الموروث فإن الموروث قد حاول رد الوافد إليه ثم الارتداد إلى مصدره الأول في التصور الديني للعالم بلغته وعباراته وشواهده. وتتدخل العناية الإلهية عند أبي سهل البوهي من أجل تحويله من اللعب بالقوارير إلى وضع علم الميكانيكا علم الحيل والانتقال والأكر المتحركة.
27
وتظهر الآيات القرآنية وبعض الأحاديث لإعادة الموروث إلى مصدره الأول بعد إدخال الوافد في الموروث. وما أكثر آيات الحكمة والنفس والعلم والنعيم . ويتقنن الفكر بالقرآن، وتهتدي الفلسفة بالشريعة، وكأنه لا توجد فلسفة خالصة.
28
وبعد الحمدلات والبسملات تظهر البراعة في التأليف اعتمادا على القرآن والحديث. البداية بشرعية الأنا، وتقديم ما هو نافع له باعتباره علوم وسائل لا علوم غايات مع انفتاح على الحضارات الأخرى كواجب شرعي. بل إن النوع الأدبي ذاته، الأقوال والحكمة والأمثال قد تمت صياغته بقراءة البنية للحكمة والفصل بينها وبين الشخص.
29
ويغلب الطابع الإيماني على أسماء الأعلام في هذا العصر المتأخر، وتسود العلوم النقلية على العلوم العقلية، ويتغلب الإيمان على العلم. فالحكماء مؤمنون أولا وأطباء ثانيا. ويطلب من الله عاقبة الأمور والجمع بين خير الدنيا والآخرة للناس بمنه وكرمه ولطفه ورحمته.
30
الفصل الثالث
الانتحال
أولا: الانتحال إبداع حضاري
(1) التاريخ والإبداع
إذا كان فصل التاريخ قد قام على تحليل المصادر الرئيسية التي دونت علوم الحكمة، وكان فصل «القراءة» قد قام على محاولة أسلمة هذا التاريخ صبا للوافد في الموروث، فإن هذا الفصل «الانتحال» يقوم أيضا على تحليل النصوص المنتحلة لأرسطو وأفلوطين؛ اليونانية المترجمة أو العربية المؤلفة لمعرفة آليات الانتحال ومنطقه.
وقضية الانتحال ليست جديدة. عرفها المؤرخون القدماء في الفلسفة والشعر. فليس المطلوب عمل ثبت بالنصوص المترجمة كما يفعل المؤرخون القدماء والاستشراق الحديث، بل تحليل النصوص المترجمة لمعرفة كيفية النقل الحضاري وإخضاعه لمنطق دقيق. وإذا كان الانتحال في الشعر الجاهلي وفي القرآن وفي الحديث، فلماذا لا يكون في كتب القدماء؟ فالانتحال إبداع حضاري. وكان الرسول إذا كمل واحد سماه أرسطوطاليس هذه الأمة.
1
والانتحال موجود عند اليونان فيما نسب إلى فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، بل عند الشراح مثل الإسكندر وثامسطيوس. وقد يكون الانتحال جزئيا مثل الألف الصغرى والكاف في كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو.
2
وليس الانتحال قاصرا على حضارة دون حضارة أو على كتاب مقدس دون كتاب مقدس أو على فيلسوف دون آخر، بل هي قاسم مشترك بين الجميع لأنه يعبر عن إحدى مراحل الإبداع في تاريخ الحضارات. فهناك الانتحال في الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية. وهناك الانتحال في العهدين القديم والجديد وفي الحديث النبوي نظرا لأنه مر بفترة شفوية تقارب القرنين قبل التدوين، في حين أن القرآن دون منذ وقت الإعلان. وهي نفس مشكلة شعر هوميروس المنحول، والانتحال في الشعر العربي.
3
وليس الانتحال مقصورا على علوم الحكمة، بل هناك الانتحال في علم الكلام والتصوف نظرا لما يسمح به هذان العلمان من إمكانيات للإبداع في الجدل بين الخصوم كما هو الحال في علم الكلام أو في ذروة الإبداع الفني في التصوف، سواء في النصوص الأصلية أو المنتحلة. بل قد يكون الانتحال في فرقة كلامية أكثر من الأخرى، فالانتحال في الشيعة أكثر منه عند أهل السنة نظرا للحالة الإبداعية الشديدة عند فرق المعارضة في مقابل تزييف التاريخ عند فرقة السلطة.
4
بل هناك انتحال في الوثائق التاريخية. ففي لحظة الفتح ونشوة النصر تم انتحال عديد من رسائل النبي إلى الملوك والقياصرة الروم وفارس ومصر أو رسائله إلى بعض ملوك الجاهلية إما من المبدع أو من المتلقي ما دام هناك أصل للإبداع وهو رسالة النبي إلى المقوقس عظيم مصر ببلاغتها المعروفة: «أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين.»
5
ولا يختص الانتحال فقط بالوافد، بل يكون أيضا للموروث، مثل وصايا لقمان المنسوجة على وصايا يعقوب لذريته، ووصايا لقمان لابنه المذكورين في القرآن كوصايا عامة دون تفصيل.
6
وكما أن الفرق بين التاريخ والقراءة هو الفرق بين الموضوعي والذاتي، فإن الفرق بين القراءة والانتحال هو الفرق بين الموضوعي والذاتي الخالص. فالقراءة حلقة متوسطة بين التاريخ والانتحال. التاريخ بذرة بلا زرع. والقراءة بذرة تحولت إلى زرع، والانتحال هو الثمار. الفرق بينهما فرق في الدرجة لا في النوع. ولا يوجد فاصل بين المستويات الثلاثة. فالتاريخ أولى مراحل الوصف السردي. ثم يختفي هذا الوصف تدريجيا بفضل القراءة والتأويل. التاريخ نقل للوافد، والقراءة وضع للوافد في إطار الموروث، قراءة الآخر من خلال مقولات الأنا تحقيقا لوحدة الثقافة ومنعا لازدواجية الوافد والموروث. أما الانتحال فهو استقلال القراءة عن المقروء وإبداع نص جديد يعبر عن روح النص القديم. إذا كان التاريخ هو الموضوع، والقراءة فهم الموضوع من خلال الذات فإن الانتحال هو خلق الذات نفسها موضوعها من داخلها. إذا كانت الذات قد فهمت موضوعها، فإن الفهم يتحول إلى ماهية تخلق نصوصا جديدة متكررة تحمل الماهية الأولى. ولا يعني الانتحال تجاوز التاريخ تدريجيا من التاريخ إلى القراءة إلى الانتحال أو التحول من النسبة الخاطئة للمؤلفات لغير أصحابها إلى المنتحلات الجزئية إلى المنتحلات الكاملة. لا يعني ذلك أي إغفال للدقة التاريخية كنواة أولى يبنى عليها صرح التأويل كله. فالمؤرخ يقوم بتصحيح أخطاء التاريخ، بداية بالتمييز بين أسماء الأعلام المتشابهة. فبطليموس بيرلس ليس بطليموس صاحب المجسطي.
7
فالنقل الصحيح لا يعارض الإبداع الصريح. كلاهما واقعان، النقل والإبداع، التاريخ والشعر، الواقع والخيال. لذلك تتطابق أحيانا بعض حكايات أبقراط في الطب بين التاريخ والانتحال.
8
والنسبة الخاطئة لعمل إلى غير صاحبه خطوة على الانتحال؛ إذ تعني النسبة الخاطئة انفصال النص عن مؤلفه وتحوله إلى نص مستقل يعزى إلى أي مؤلف، وتنسج على منواله نصوص أخرى كثيرة بعد أن تحول إلى معيار أو نمط مثالي. والمثال الشهير على ذلك نسبة أثولوجيا أرسطوطاليس إليه، وهي ليس له، بل أجزاء من التاسوعات لأفلوطين. وكذلك نسبة بعض أجزاء من كتاب أثولوجيا لأبرقلس التي بها شبهة قدم العالم لأرسطو.
9
وكذلك مثل نسبة محاورة طيماوس لأرسطو.
10
هذه النسبة الخاطئة أولى الخطوات لفك الرابطة بين النص والمؤلف حتى يصبح النص طليق السراح لنسبته إلى مؤلف آخر أو لإبداع نص جديد قياسا عليه.
والهدف من ذلك هو إكمال الناقص. فلما كان لأرسطو المنطق والطبيعيات والإلهيات بمعنى ما بعد الطبيعة إلا أنه لم تكن لديه إلهيات واضحة تفسر طبيعة الوافد وعلاقته بالعالم، فسهل نسبة «أثولوجيا» لأرسطاطاليس وإخراجها من أفلوطين إلى أرسطو حتى يكتمل النسق الأرسطي في ذهن المؤرخين المسلمين قبل أن يكتمل في ذهن الحكماء؛ الفارابي وأرسطو.
وكما تكون بداية الانتحال فك الارتباط بين النص والمؤلف، كذلك تكون إحدى الخطوات نحوه الخلط بين مؤلفين مثل الخلط بين ديوجانس المتجرد وديوجنس الكلبي.
11
وتكون خطوة أخرى نحو الانتحال عندما لا يكتب مؤلف شيئا مثل سقراط أو عندما يكتب كثيرا مثل أفلاطون وأرسطو. فعندما لا يكتب سقراط شيئا يكثر الانتحال، فكيف لا يكتب الفيلسوف؟ وكيف لا يكتب المسيح؟ وعندما يكتب أفلاطون كثيرا لماذا لا تستمر الكتابة على نفس المنوال؟ وعندما يكتب التلاميذ محاضرات أرسطو ويدونونها وراءه، فلماذا إذن لا يكتب تلميذ آخر ما سمع، ويكمل ثان ما لم يسمع، ويكتب ثالث ما يحب أن يسمعه ولم يسمعه؟ وتتعدد الأمالي. وكلها تعبر عن المعلم الأول، خاصة لو كان معلما شاملا وترك شيئا لم يتحدث فيه مثل كتاب النبات.
12
ولا يوجد رباط ضروري بين أي قول وأي قائل، أي نص أو أي مؤلف، بل توضع أحسن الأقوال على لسان أفضل القائلين، وأبلغ الحكم والمواعظ والأمثال على لسان أفضل الناس وأبقاهم. فقد وضعت كثير من الأقوال الأخلاقية على لسان الأنبياء والحكماء والعظماء حتى يكون للقول أثر أقوى وانتشار أوسع. ولما كانت بدايات الانتحال فك الارتباط بين النص والمؤلف فقد يكون الانتحال على لسان الآلهة، على لسان زيموس، إله الهرب في الحرب أو إله الثبات، والقسم بالله. ولا يهم أن يكون هناك تطابق بين الشخصية التاريخية للنص الأصلي والصورة الفنية المرسومة لها في الإبداع الثاني. الأولى واقع تاريخي والثاني خلق فني. الأولى فردية والثانية عامة. لذلك تتكرر الشخصية الصوفية الأخلاقية، الإلهية الروحية بصرف النظر عن اسمها. كما يتكرر نفس المعنى عند كل الشخصيات بصرف النظر عن الصياغات. هناك مؤلف واحد هو الناسك الصوفي الروحي الإلهي الأخلاقي الديني، الإشراقي الباطني. وهناك نص واحد إبداعي هو الفلسفة الإشراقية. لكن في العادة ترسم الشخصية الإبداعية الجديدة على منوال الفلسفة المنسوبة إليها حتى يحدث تطابق بين صورة الشخصية وفلسفتها وليس بين صورها ونموذجها التاريخي الأول. وعندما يكون النص مجهول المؤلف مثل «فقر الحكماء» يكثر فيه الانتحال لأنه نص مستقل، حر طليق، لا صاحب له، عمل فردي أو جماعي، يعبر عن روح العصر والتاريخ. فهو أرض خصبة يحسن فيها الزرع والحصاد. بعض الأسماء غير معروفة مثل زيمون الشاعر، أرسطوبوس، زيموس. وقد تكون خيالية، مجرد وسيلة للتعبير عن بعض الحكم.
13 (2) منطق الإبداع الحضاري
لا يعني الانتحال أي معنى سلبي كما هو الحال في النزعة التاريخية التي سادت الدراسات الاجتماعية في الغرب في القرن الماضي، بل يدل على أعلى درجة من درجات الإبداع الحضاري من الوعي الجمعي المتراكم في أعماق الوعي الفردي.
14
الانتحال دليل على الخصوبة، والنص الأول ينزل في أرض خصبة، في وعي فردي وجماعي قادر على الإنتاج. النص قادر على الإخصاب، والأنا قابل للعطاء. لا ينزل النص على أرض جدباء أو قاحلة أو على صخر يجرفه الماء أو تذروه الرياح، بل ينزل في ثقافة قادرة على التفاعل وقبول كل شيء واحتوائه وتمثله وإعادة إنتاجه. مثال ذلك كتاب «التفاحة» وصية سقراط الشهيرة، و«سر الأسرار» للمعلم الأول، والرسائل المتبادلة بين أرسطو والإسكندر، الأستاذ والتلميذ؛ والإسكندر وأمه روفيا، الابن والأم؛ ووصايا لقمان لابنه وهو يعظه. ليس الدافع على الإبداع إذن أن العقل الشرقي لم يستطع أن يهضم الفلاسفة اليونانيين إلا بعد أن وضعت لهم، انتحالا في أغلب الأمر، أمثال وجمل وحكم قصيرة مثل الكلم الروحانية لابن هندو؛ لأن فهم الفلسفة اليونانية كان قد تم قبل ذلك بقرنين من الزمان، ترجمة وتعليقا وشرحا وتلخيصا وعرضا وتأليفا. ويختلف الإبداع من مؤلف إلى آخر. وعادة القادر على القراءة قادر على الإبداع مثل الشهرزوري. والمؤرخ الذي يرصد ويصف ويسرد أقل إبداعا مثل ابن أبي أصيبعة. فالخصوبة إما من الموضوع مثل الإسكندر أو من الذات؛ أي المؤرخ. لذلك يحضر الإسكندر عند الشهرزوري أكثر مما يحضر عند ابن أبي أصيبعة.
وقد تساهم أكثر من حضارة في إبداع واحد كما هو الحال في هرمس المصري اليوناني البابلي العبري الفارسي، نموذج الحضارات القديمة كلها لأنه يعبر عنها جميعا كما عبر «ينبوع الحياة» لابن جبرول قبل نسبته الصحيحة إليه عن اليهودية والمسيحية والإسلامية، ونسبتها جميعا النص إليها. وقد يستمد الإبداع جزءا من مادته من مصادر داخلية ثم يبني عليها بالخيال مثل بعض روايات الحسن وإبراهيم بن أدهم وراء وصايا لقمان.
15
فالإبداع لا يكون بالضرورة من مبدع واحد، بل يكون من عدة مبدعين يشاركون في صنعة نموذج واحد أو بناء جديد على نموذج قديم، مجموعة من الفلاحين لإنبات زرع مشترك. قد يكون الإبداع جماعيا وليس فرديا، وقد يكون لا شخصيا مجهول المصدر كما يكون شخصيا معلوم المصدر.
يعني الانتحال فهم روح النص ثم إبداع نص جديد مشابه في المعنى وإن لم يكن مشابها في اللفظ، أحيانا بنفس ألفاظ النص الأصلي، وأحيانا بألفاظ مختلفة نسبيا أو كليا. وهو أشبه بالقياس الفقهي على مستوى الحضارة وليس على مستوى الفعل الفردي. فالمعنى هو العلة المشتركة بين النص الأصلي والفرع الإبداعي. وبمجرد استنباط العلة من الأصل واقتناصها في الفرع يصدر الحكم وهو النص الإبداعي الجديد كصياغة. ويسهل الإبداع عندما يكون الأصل حكمة أو مثلا مثل وصايا الفرس التي دونها مسكويه في «الحكمة الخالدة»، ومثل «جمهرة أمثال العرب»، والشعر الجاهلي، وأحاديث الرسول. وهي جوامع الكلم التي أوتيها الرسول والتي تم تدوينها في نوع أدبي هو الأقوال والحكم والأمثال والمواعظ. فهي المقياس النموذجي، الأصل المثالي الذي يتم عليه نسج أقوال أخرى مشابهة تضيف إلى مجموع الأمثال الأولى أمثالا جديدة، خاصة وأنها بلا مؤلف. هو عمل جماعي ينتسب إلى الجماعة وليس إلى فرد بعينه. لذلك سهل نسبتها إلى أكثر من شخص.
16
وكلما تجرد القول عن القائل، وانفصل النص عن المؤلف، كان الأصل مؤهلا لأن يكون أساس الإبداع ومقياسه. ولهذا لم يكن مصادفة أن يكون القسم الأخير من الفصل الأول عن الأقوال التي هي البذرة للقراءة ثم الإبداع. لذلك غلب على الانتحال الأقوال أولا سواء في صيغة حكم أو أمثال أو وصايا أو رسائل أو مؤلفات قبل أن يكون نوادر وسيرا شخصية، وقبل أن يكون وقائع وأشخاصا؛ أي إبداع البذرة ذاتها أو الأصل الذي يتم عليه نسج الفرع.
وهناك آليات الانتحال يمكن معرفتها بعد تحليل النصوص المنتحلة منها: (1)
الحاجة العصرية لإبداع نصوص جديدة تنسج على منوال القدماء الذين ما زالوا في الوعي الجمعي موضع احترام وتقدير، مثل المحرمات الثلاثة: الدين والسلطة والجنس. فقد تم انتحال مؤلف لأبقراط بعنوان «أوجاع العذارى».
17 (2)
القدرة على الإبداع المتمثلة في الخيال الشعبي الضروري وملكة اللغة والكتابة والصياغة والتأليف الذي قد يحول القول إلى نادرة، والنادرة إلى قول. (3)
فهم روح النص التاريخي الأول عن طريق تخليصه من الشوائب وتركيزه على قصده الكلي، وتمثله وإكماله بالإضافة في جانب، هو الجانب الإلهي الأخلاقي، وبالنقص في جانب، هو الجانب المجرد المنطقي الطبيعي الذي يصعب نقله من الماضي إلى الحاضر لأنه وسيلة غير جيدة في التوصيل. (4)
الموقف الدرامي في النص الأول، مثل شهادة سقراط، فتوحات الإسكندر، وصايا أرسطو لتلميذه، وصايا أم الإسكندر إلى الإسكندر. وتكون أشكال الانتحال الأدبية أقرب إلى الموروث منها إلى الوافد، مضمون الوافد في قالب الموروث، روح الوافد في بدن الموروث، معاني الوافد في ألفاظ الموروث. فأرطيبوس يتحدث بالشعر العربي، ويتحدث عن حق إله العرش.
18
فتستعمل ألفاظ الوصية والشريعة والفجار والعقيدة والنبوة والمعاد، وفي مقدمتها «الله تعالى»، وكل عبارات المدح والتعظيم مثل سبحانه وتعالى، جل ذكره ... إلخ. وكلها ألفاظ من الموروث.
وكثيرا ما يصاغ الانتحال على لسان الحيوانات وهو نوع أدبي في التأليف معروف في الأدب العربي وفي الآداب المترجمة عن فارس والهند، كليلة ودمنة نموذجا، أو من اليونان والرومان، حكايات إيسوب نموذجا. ألف فيه من قبل إخوان الصفا «رسالة الحيوان»، ووضعوها في الطبيعيات مع أنها في السياسيات، شكوى الحيوان من بني الإنسان. وعرفه الجاحظ في كتاب «الحيوان» في إعطاء مادة علمية تجمع بين الأدب والعلم لمن يشاء الإبداع القصصي على لسان الحيوانات.
19
وتكون المناسبة من الانتقال من عالم الحيوان رمزا إلى عالم الإلهيات حقيقة، ومن الديك والباز والسنور والفأر والثور والحمار والكبش والظبية والثعلب، إلى الله والبسملة والحمدلة وألفاظ الرب والمولى جل جلاله على لسان الحيوانات. وكثيرا أيضا ما يصاغ الانتحال في نوادر على لسان النساك والزهاد والعباد والحكماء مثل سقراط وديوجانس الكلبي. وقد تكون قصص الحيوانات منقولة كعامل درامي لمضمون ديني، وقد تكون مؤلفة.
وغالبا ما تبدأ الحكاية أو النادرة بلفظ «يروى» للمبني للمجهول، وقد لا يكون المقصود رواية تاريخية كما هو الحال في علم الحديث، بل مجرد البداية الخيالية لفن القصص.
20
وأحيانا تتغلب قواعد البلاغة العربية في الانتحال على النواة اليونانية إما لنقص في الأصل اليوناني أو لرداءة الترجمة العربية. وربما يبدأ الانتحال من بلاغة المترجم رغبة في إيصال نص عربي بليغ فيسهل بذر البذور.
ولا فرق من حيث القيمة والأثر بين النص الأصلي والنص المنتحل، فكلاهما يعبر عن روح واحدة، وكلاهما أثر في الفكر وأسس تيارات وكون تلاميذ. فالنصوص لها عالمها المستقل عن واقعها التاريخي، تعمل في الوعي الفردي، وتتراكم في الوعي الجمعي كوحدات مستقلة وكعلل مباشرة. يتعامل البيروني بلا حرج أو تردد مع بليناس المنحول وأرسطو المنحول.
21
ثانيا: المنتحلات الصغرى
وقد لاحظ المؤرخون الانتحال في النصوص الفلسفية وفي الشك في نسبتها إلى أصحابها. فقد لاحظ القفطي أن وصايا فيثاغورس الذهبية، وكتاب الفوائد لإقليدس وكلام ثامسطيوس على كتاب الشعر؛ أن كل ذلك منحولا.
1
ويلاحظ صاعد أن كتب هرمس في أحكام النجوم: كتاب الطول، كتاب العرض، كتاب قضيب الذهب، منحولة كذلك. وكذلك أيضا بعض الكتب المنسوبة إلى زرادشت.
2
ولاحظ البيروني أن كثيرا مما ينسب إلى الهند منحول، وبعضها عن بعض منقول ومغلوط ومخلوط. ويلاحظ ابن أبي أصيبعة كثيرا من المنحول على سقراط.
3
ويتحدث ابن أبي أصيبعة عن أعمال أبقراط الصحيحة والمنحولة.
4
ولاحظ المترجمون أيضا الانتحال، وهم أقدر الناس على الحكم على مضمون النص وأسلوبه، على روحه وألفاظه. فقد اكتشف يحيى بن عدي أن نصا لا بد وأن يكون منحولا على أمليخس.
5
وقد لاحظ ابن رشد نفسه أن أثولوجيا أرسطاطاليس ليس له وهو في خضم نقده للفلسفة الإشراقية عند الفارابي وابن سينا، خاصة ابن سينا.
والمنتحلات ليست فقط في المترجمات، بل في المؤلفات، مثل الشك في نسبة رسالة الكندي «رسالة في الحيلة لدفع الأحزان» له. فهي رسالة إشراقية غريبة على أرسطي. أرسطو في الظاهر وأفلوطين في الباطن، نوع أدبي مثل وصايا لقمان لابنه وليس بالضرورة وصايا أرسطو إلى الإسكندر، ومثل نداء فيثاغورس إلى الله متحدثا باسم الكندي إلى معاصريه. والسبب في الشك في نسبتها إليه الطابع الاستشراقي لها والأسلوب العربي السلس على غير أسلوب الكندي الذي لم يستقر بعد، وغياب المصطلحات الفلسفية وعدم وجود إحالات للحكماء، بل فقط بعض المنتحلات مثل «سر الأسرار» و«الروابيع» و«معاذلة النفس» و«التفاحة»، واللغة التقويمية التي تدعو إلى تجاوز الأحزان وليست التقريرية المعروفة عند الكندي، وغياب المقدمات والتقسيمات والإحالات إلى باقي الرسائل، والإحالة إلى حكايات الإسكندر وسقراط وسينكا، مثل وصايا أرسطو إلى الإسكندر ووصية الإسكندر، وعدم الإحالة إلى أقواله الطبيعية وهي نقطة البداية عنده، مدح منهج الكندي الذي يبدأ بالمصادرات والمؤلف لا يمدح نفسه.
6 «الرسالة الذهبية» للإسكندر من المنتحلات تحث على طاعة الله عز وجل، وألا يسجد إلا لباري الكل، وتصف قورش وفازن بالإلهي، وتحمد الله الذي جعل أرسطو أهلا لما آتاه الله من العلم، ويسأل الله تعالى النصر والتوفيق.
7
تعبر عن الروح الإسلامية الأخلاقية الإنسانية، والاتجاه الصوفي العام؛ الزهد في الدنيا وهو نفس اتجاه فيثاغورس. قد يكون لها أصل يوناني. وأحيانا تبدو العبارات الإسلامية وكأنها زيادة من النساخ لوجودها في بعض المخطوطات دون الأخرى في إبداع جماعي يشارك فيه المؤلف الأول والمبدع الثاني والقارئ والناسخ. تدفعهم جميعا روح الحضارة وتوجههم نحو مثال واحد مشترك. فأول ما يوحي به فيثاغورس بعد تقوى الله، تبجيل الذين لا يحل بهم الموت من الله تعالى وأوليائه، وإكرامهم بما توجبه الشريعة، ووثوق اليمين، والعمل بما توجبه الشريعة، ومعرفة تدبير الله تعالى وأوليائه من أجل الوصول إلى جوار الله وكرامته.
وكما تنتحل النصوص تنتحل الوقائع في الوافد والموروث على حد سواء، مثل حرق الإسكندر كتب المجوسية، وهدم بيوت النيران، وقتل الموابذة والهرابذة، ونقل كتب النجوم والطب والفلسفة إلى اليونان. فهذا ليس من عمل تلاميذ أرسطو ولا الموحدين ولا الفلاسفة.
8
فالمنتحل الجاهل أراد أن يعظم الإسكندر فحقره، خاصة أن الانتحال قد يكون عملا جماعيا يساهم فيه الحكماء والجهلاء معا، الخاصة والعامة على حد سواء. ومن الموروث حريق مكتبة الإسكندرية عندما دخل عمرو بن العاص مصر. فالمنتحل أراد أن يضر بالدين الجديد عن جهل أو حمية.
وقد يكون النص منتحلا عند اليونان، ويزداد الانتحال في الترجمة العربية. مثال ذلك «الوصية الذهبية» لفيثاغورس.
9
انتحالا على انتحال. الانتحال الأول في الثقافة اليونانية ذو طابع أخلاقي، لذلك كان يقرؤها جالينوس كل يوم غدوة وعشية. والانتحال الثاني في الثقافة الإسلامية. ولكل ثقافة أهدافها. ولما كان فيثاغورس في الثقافة الإسلامية مؤسس الفلسفة الإشراقية كان المنحول أيضا إشراقيا. يوصي فيثاغورس بتقوى الله عز وجل، وبتبجيل الذين لا يحل بهم الموت من الله وأوليائه وإكرامهم بما توجبه الشريعة وتوق اليمين. والابتداء بالابتهال إلى الرب من أجل الوقوف على كنه ما يجري عليه الأمر في تدبير الله عز وجل وأوليائه. الله هو الأب الواهب للحياة، إذا كان في الناس جنس إلهي، فالطبيعة الإلهية تقوده إلى الوقوف على كل واحد من الأشياء. وفي النهاية تختم الوصية بحمد الله حق حمده. يظهر البعد الديني الجديد في الثقافة الإسلامية منذ البداية، ويستمر في الوسط والنهاية، فيتغلب الموروث على الوافد، وتدخل المثاليات العقلية في الإيمانيات القلبية بسهولة ويسر. المثاليات العقلية مثل ضبط النفس، وكتم الغضب، والسيطرة على الانفعالات، والإحجام عن القبائح، والإعراض عن الجاهلية. الكسب لا يكون إلا حلالا، والقصد في الطعام والشراب صحة للأبدان. محاسبة النفس ضرورية للترقي نحو الكمال، ويقظة العين تطهير للنفس. كل ذلك في أسلوب عربي رصين يوحي بأن الوصية تأليف وليست ترجمة، إبداع وليست نقلا، تعبيرا عن الثقافة الإسلامية، وتصويرا لأوضاع المجتمعات الإسلامية بعد إعادة توظيفها وإنتاجها من الوافد إلى الموروث.
ثالثا: المنتحلات الأفلاطونية
(1) «معاذلة النفس» و«الروابيع»
وكتاب «معاذلة النفس» منحول لأفلاطون في إحدى النسخ، ولهرمس وأرسطو في نسخ أخرى.
1
فما يهم في الانتحال هو نسبة نص إبداعي يوناني أو إسلامي لأحد الحكماء العظماء السابقين الذي يتفق معه في الروح بصرف النظر عن الاسم، أفلاطون أو هرمس. ربما تم الانتحال في مصر قبل منتصف القرن السابع الهجري. فالانتحال ليس مواكبا فقط للترجمة والشرح والتأليف، بل مستمر باستمرار التأليف الفلسفي خاصة الإشراقي. ولا يهم شخص المؤلف، عربي شرقي، مسلم يهودي مسيحي، غنوصي أفلاطوني محدث، مانوي غنوصي؛ لأن روح الحضارة تضم كل هذه العناصر. وقد يكون الانتحال جماعيا وليس فرديا. ولا يعني نقد المسيحية أن المؤلف ليس مسيحيا، فكثيرا ما ينقد الحكماء دياناتهم. وقد لا يكون مسلما بالضرورة لأن الحديث عن الطلاق ووجود آثار لعلم الكلام ثقافة عامة عند الجميع. والمخطوط نفسه يشمل عديدا من المنتحلات للعهد القديم ولسقراط والإسكندر.
2
وكلها تدخل في نوع أدبي واحد هو الوصايا. وملكيته لأحد النصارى كما هي العادة عند المسلمين في توثيق الملكيات والحجج الشرعية. وتتنوع المنتحلات على لسان الأنبياء والحكماء. وقد تكون البداية تاريخية ولكن النهاية منتحلة. فالانتحال يبدأ من التاريخ ولا ينتهي فيه. يبدأ بجسد الحضارة وينتهي في روحها. ويتداخل التاريخ والحضارة، والصحيح والمنتحل، والفرد والجماعة، والنقل والإبداع.
3
وتعرض مقدمة الرسالة الموضوع والقصد مع الثناء على أفلاطون لاتفاقه مع روح الحضارة الإسلامية؛ رفع النفس من الأمور السفلية إلى الأمور العلوية وحثها على الاستقامة والصلاح بأسلوب واضح وسهل للجميع اعترافا بنعم الله وشكر المنعم. وهي مقدمة تدل على أن المنتحل يريد أن يقدم عمله الإبداعي قبل تأليفه، يتمايز معه. المؤلف يتوحد مع عمله، والمنتحل يتغاير معه.
4
وتبتدأ المنتحلات وتختم بالبسملات والحمدلات والدعاء كما هو الحال في الترجمات للنصوص الصحيحة والشروح والمؤلفات، لا فرق في ذلك بين مؤلف إسلامي أو مؤلف نصراني. ويتم الترحم على المؤلفين مثل أفلاطون قدس الله روحه العزيز.
5
ويبدو الدافع الإسلامي على الانتحال، التعبير عن روح الحضارة على لسان الوافد والموروث في آن واحد، والتعبير عن التصور الإسلامي بمصطلحاته وألفاظه على لسان هرمس وأفلاطون وأرسطو. بل يصبح أفلاطون أكثر صوفية وإلهية وروحانية أكثر مما يتطلب التصور الإسلامي للعالم. فالنص روحي خاو من أي مضمون اجتماعي، يصدر عن بيئة صوفية خالصة، مسيحي بوذي هندوكي أكثر منه إسلامي، يشبه مضمونه القصيدة العينية لابن سينا ويبدأ بنداء «يا نفس» والابتهال إلى مبدع الأشياء ومبدئها ومنشئها بتعبيرات إسلامية «جل جلاله وتقدست أسماؤه». ويدعو النفس للتأمل في حكمة مبدع هذه الأشياء. فالتأمل في هذه المعاني دليل على لطف حكمة مبدع العالم. المبدع «جل اسمه» كالناطق الفائض بالمعاني والجواهر. هو أبسط الأشياء وقابضها ومبدئها ومعيدها وواضعها ورافعها ومنشئها ومبدعها. فمن عف عن الشهوات عفت مصائب الدنيا عنه، ومن أسرع إلى شهوات الدنيا أسرعت مصائبها إليه وخرج من الدنيا سقيما خاسرا بعيدا عن الله.
6
ومن المنتحلات «كتاب الروابيع» شرح أحمد بن الحسين لثابت بن قرة بالرغم من وضوح النص. فالمنتحلات أيضا ليست فقط موضوعا للترجمة، بل أيضا موضوع للشرح مع تمييز بين النص المترجم وشرحه كما هو الحال في التفسير الكبير لما بعد الطبيعة لابن رشد.
7
وهو نوع أدبي يعرفه الصوفية والفقهاء، سؤال من المريد إلى الشيخ بكل عناصر التشويق في السؤال وفي الجواب. وتدخل شخصيات خيالية مثل أوماتيطس تلميذ أفلاطون وكتاب «ديالفون»، وربما يقصد المحاورات التي ليست كتابا بل نوع أدبي. والاسم غريب «الروابيع»، ربما نوع أدبي مثل «الرباعيات» مع أن رمز الشرق هو العدد سبعة كما هو الحال في الفيثاغورية والإسماعيلية.
والمقدمة ضرورية للإخراج تمايزا بين المؤلف وعمله كما يفعل الفنان. فالانتحال عمل فني وإبداع حضاري. ويتغير مكان الحوار من اليونان إلى بابل على مصب الفرات حيث التقى الشيخ بالمريد الذي لم تردعه وصية الشيخ عن الاشتغال بهذه الصنعة. فغادر المريد الشيخ إلى اليونان بعد أن أدرك أن الشيخ ينفي عن نفسه تهمة الاشتغال بالباطل. ينبه الشيخ المريد على عواقب الأمور فيما يصير إليه من أمر الدهور، ولكن المريد يشهد بالواحد الحي أنه حريص على الصنعة، الكيمياء، دون نفع شخصي بل طلبا للحق والرشاد. فأفلاطون الصوفي يتطلب ظهور الشرق الروحي، جمعا لحكمة الخالدين. لذلك غلب على الانتحال طابع التجميع من هنا ومن هناك، والإحالة إلى اليونانيين، إلى أهل لوذيا في ادعاءاتهم وإلى أبقراط الطبيب وكتابه اليسابيع الذي فقد أصله اليوناني وليس له إلا ترجمة عربية مخطوطة وإلى باقي كتب أفلاطون، والإحالة إلى الهند جمعا بين الشرق والغرب.
8
وينتهي الكتاب أيضا بالاعتراف بالانتحال طبقا لروح أفلاطون.
9
وموضوعه علم الصنعة أو الكيمياء القديمة لتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة، فاستنبات الذهب مثل استنبات الفكر في الشعور. وتظهر العلوم كلها مجتمعة، طبيعيات وبيولوجية، بعيدا عن الإلهيات والأخلاقيات. ويتم التعرض للفلك وخرافات التنجيم وأثر الفلك على الأرض وعلى الطب. فالموضوع طبيعيات إشراقية. ومن الطبيعي أن يكون لأفلاطون طبيعيات تكمل الإلهيات، كما أنه من الطبيعي أن يكون لأرسطو إلهيات تكمل الطبيعيات لإبداع تصور متكامل للعالم عبر عنه الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم.» والزهرة كوكب رطب يضاد العلم والنظر وله استيلاء على الدولة والملة.
10
وأولى الأشياء في الأمور التوسط تعبيرا عن روح الموروث، خير الأمور أوسطها.
وتعبر عن الرؤية الدينية للعالم. فالعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان. وتتكرر العبارة حتى يثبت الحدس الرئيسي ويتضح القصد. فأفلاطون هو الشيخ أفلاطون وهو أحيانا أفلاطون، والشيخ، والحكيم والفيلسوف. وفيثاغورس هو الشيخ فيثاغورس. ويتكرر لفظ الإله. فالإله الأول «جل ثناؤه» حر، وجعل الله بحكمته أدعية، وللإله تدبير دقيق. وهو الإله «عز وجل». وهو الإله الحق. كما تتكرر صفة الإلهي. فالدماغ محل الجزء الإلهي إلا أنه سيال، والنفس مسكن الجزء الإلهي، والدماغ عضو إلهي. كما يظهر لفظ الروحاني. ويتم الإحالة إلى إقليدس وأسقليبوس، الرياضة والتصوف، أفلاطون وهرمس. وتذكر منازل القمر كما هو الحال في القرآن:
والقمر قدرناه منازل . وفي البداية وفي النهاية تظهر العبارات الدينية، والبسملات والحمدلات وكأن المنتحل تأليف إسلامي أصيل.
11 (2) «العهود اليونانية» و«الرسائل»
وكتاب «العهود اليونانية» منتحل على أفلاطون من تأليف أحمد بن يوسف بن إبراهيم الذي عاش في مصر (254-270ه). فالانتحال بدأ في القرن الثالث موازيا للتأليف مما يدل على أنه تأليف مقصود كنوع أدبي جديد لإكمال الناقص في الوافد أو تسهيل تمثله بإعادة عرضه داخل الموروث وبلغته وتصوراته وربما على صلة بالواقع الاجتماعي والسياسي للعصر، الحكم المطلق العباسي أو البيزنطي، الأموي أو الخلافة الراشدة الأبوية أو الإيراني الثوري الذي انتسب إليه أبو جعفر المنصور. والسؤال الآن: أين أثر الديمقراطية الأثينية على هذا الفكر الأبوي التسلطي البيزنطي في الأعمال المنتحلة؟ لا يعني الانتحال «الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام»، بل يعني وضع فلسفة على لسان القدماء وبنفس الروح تسهيلا لتمثل الوافد وقبول الموروث له، وإكمالا للوافد على العقل إضافة الشرع إلى العقل، وإلا كان اليونان هم الأصول والمسلمون هم الفرع كما هو الحال في الاستشراق الغربي وامتداده العربي، وليس الفكر السياسي الإسلامي كله الكلامي والفقهي والصوفي بل في علوم الحكمة وحدها.
12
كان للفكر السياسي مصدران، فارسي ويوناني.
13
وانضم صاحب «العهود اليونانية» إلى الفكر السياسي اليوناني. الانتحال هو تأليف مقصود على لسان القدماء؛ يونان وفرس، أفلاطون وأرسطو والإسكندر، أو زرادشت وكسرى وهوشنج. أراد أن يضيف تأليفا جديدا على لسان أفلاطون كما أضاف يحيى البطريق «سر الأسرار» على لسان أرسطو. والدليل على الانتحال حديث أفلاطون عن نفسه مثل حديث موسى عن وفاته في التوراة. اعتمد فيه على السياسة؛ أي الجمهورية، ترجمة حنين بن إسحاق والنواميس ترجمة حنين ويحيى بن عدي. ووضع لها الفارابي جوامع «تلخيص نواميس أفلاطون».
ويدل عنوان «كتاب العهود اليونانية المستخرجة من رموز كتاب السياسة لأفلاطون وما انضاف إليه»، على أن السياسة أخلاق، عهد ووصية كما هو الحال في عهود الأنبياء ووصايا لقمان. وهو مستخلص من كتاب السياسة؛ أي يهدف إلى المعنى وليس إلى اللفظ، يعبر عن الروح وليس نقلا للعبارة. وهو من رموز كتاب السياسة وبالتالي الحاجة إلى التأويل حتى يكون الإبداع الحضاري حرا بلا قيد. وأضيفت إليه أشياء مما يسمح بالإبداع الحضاري، فهو أقرب إلى التأليف منه إلى الترجمة؛ فليس فيه اقتباس حرفي وافد من أفلاطون، بل هو تعبير عن أفلاطون الشرقي، روح الحضارة القديمة الجامعة للشرق والغرب. ويتضمن ثلاثة عهود: الأول من أدريانوس إلى ولي العهد، والثاني من وزير إلى ابنه، والثالث من رجل من رجال الطبقة الثالثة إلى ابنه. وواضح أن الخلافة عهد مثل عهد أبي بكر لعمر وليست شورى بين المسلمين. ولا تهم الأخطاء التاريخية. فالانتحال عمل حضاري في التاريخ وخارجه. لا يهم إذا كان أدريانوس قبل موسى أو بعده أو أن يكون لأفلاطون ابن وزير. المهم أن أدريانوس قبل موسى أي قبل التشريع وسابق على الوحي، وأن أفلاطون فيلسوف وملك. أدريانوس التاريخي مجرد بداية حضارية، شخصيته تحظى بالإجلال مثل يوحنا ويصبح نظيرا للإسكندر.
14
ونظرا لأن «العهود اليونانية» منتحلة لصالح اليونان فقد تحول اليونان في العهد الأول. عهد الملك إلى ولده، إلى مسلمين موحدين بالله، مصدقين بالصحف المنزلة قبل موسى. الخلافة عندهم عهد وليست شورى .
15
أما الفرس فتقتضي الأخلاق عدم ذلهم في مقابل مدح اليونان. فمن مزايا الفرس حسن السيرة ورجاحة الرأي وملك الأهواء وإنكار ذلك يتم عن تعصب وتسلط. وفي نفس الوقت ذم اليونان لتقصيرهم في السياسة غير صحيح. والدليل على ذلك «العهود اليونانية».
16
وفي العهد الثاني، عهد الوزير إلى ابنه بيان تعظيم اليونانيين للوزارة وانتخاب من صلح لها من سائر الناس بتتبع المواليد، واجتماع الناس في الهيكل للانتخاب مثل تولية أبي بكر القائم على الدستور. وكله نصائح للعمل بالدين موجهة للملوك وليس للناس لاسترداد حقوقهم. وتصنف أخلاق الملوك في أربع صفات كل منها لها أربعة احتمالات مما يدل على أهمية التقسيم العقلي.
17
وفي العهد الثالث، عهد العامي إلى ولده كان اليونانيون يصنفون الناس ثلاث طبقات، الملوك والوزراء والعامة. وهو عهد إيمان وتقوى وأن الله مطلع على كل شيء، على خائنة الأعين وما تخفي الصدور. تجب لله الطاعة حتى يحصل الإنسان على الثواب في الدنيا والآخرة.
18
والموضوع الإسلامي مثل الدعوة إلى المساواة بين الأغنياء والفقراء. والمصطلحات شرعية مثل الله والشريعة. والموقف فقهي مثل عدم الدخول في النزاع والشجار بين الصحابة وأهل السلف وطبقة العلماء. والرؤية إسلامية، تأسيس السياسة على الأخلاق، والأخلاق إسلامية ضد الزهد والرياء والنفاق، والعلاقة بين الإنسان والله، بين الراعي والرعية، وفضل العابد وتطبيق الشريعة، والاستنصار في الملة، وشكر الله على نعمه والثقة به والخوف من غضبه، وتجنب البخل، ومراعاة أحكام الدين.
19
وتظهر العبادات الإسلامية في العهد الثاني، عهد الوزير إلى ولده ابتداء من البسملة حتى التضرع إلى الله تبارك وتعالى، ونيل الحال المرضية عن الرب عز وجل وتهوين التعب للاقتداء بالرب عز وجل وسؤال الله والانتهاء بحمد الله، وتطبيق الشريعة حتى يصبح الإنسان مصورا في ملكوت السماوات.
20
والتوجه الإسلامي واضح من العنوان «العهود» والبدايات والنهايات الإيمانية في البسملات والحمدلات والصلوات على الرسول والدعوة إلى الانتفاع بالقرآن وكأنه تأليف إسلامي صرف.
21
ويمتلئ العهد بعبارات السلف الصالح وحمد الله عز وجل والخوف من الله والحمد له.
22
يشير السلف الصالح إلى سلف أفلاطون إسقاطا من السلف الصالح للرسول. وتنتهي العود بحمد الله وتوفيقه والصلاة والسلام على خير خلقه.
23
ومعظم المنتحلات تبدأ بأفعال القول «قال أفلاطون» مرة واحدة في البداية دون حرج؛ أي لم يقل بلسانه ولكن بروحه، ليس بشخصه ولكن بفلسفته، ليس أفلاطون الزماني بل أفلاطون الخالد.
24
وهي أقوال قصار تدل على عقلية الإبداع والأمثال والأقوال المأثورة، كالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، حتى يمكن تذكرها واستيعابها وضرب الأمثال بها. بل لقد اختلط البعض منها بأحاديث الرسول الموضوعة مثل: «لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.» يأخذ الانتحال شكل الآداب التي يتم فيها. النصائح والمواعظ والوصايا، مثل وصايا لقمان لابنه أو وصايا لقمان الحكيم. يغلب عليها الطابع العملي وليس التأملات النظرية. وهي أقرب إلى الأخلاق والسياسة منها إلى الكلام والفلسفة. وقد تتكرر أفعال القول أمام كل قول مأثور أو فقط في أوائل المقالات. معظمها في المبني للمعلوم «قال»، وأقلها مبني للمجهول «قيل». وقد تتعدد أفعال القول حتى لو كانت الكلمات قصيرة لا تتجاوز كل منها جملة واحدة.
25
وتتوزع هذه الأقوال بين أقسام الحكمة الرئيسية، المنطق والطبيعيات والإلهيات. وفي الإلهيات يغلب موضوع النفس وقواها والعقل وأنواعه. وقد تغيب الإيمانيات المباشرة والعقائد والشرائع الإسلامية، ولكن الفلسفة المثالية مثلها قريبة منها، الإعداد العقلي للإيمان والبرهان عليه. ويغيب في الأقوال فن التشويق، الحكايات والألغاز، لأن القول قصير لا يتحمل الأسلوب القصصي أو الرواية الطويلة بما فيها من حوارات وشخصيات متعددة. وتذكر فيها أسماء أعلام اليونان عرضا وأسماء بعض مؤلفاتهم.
26
ولا يفوت الانتحال ذكر اللسان اليوناني الأصلي الذي كتب به النص المنتحل لإعطائها نوعا من الأصالة الشرعية والإيحاء بالصحة التاريخية.
وقد جعل المسلمون أفلاطون يتحدث في كل الأنواع الأدبية الممكنة، الكتاب، والرسالة، والوصية، والكلمات والملتقطات، والفقر، والثمرة اللطيفة، بل والاعتراف بالمنحول كنوع أدبي.
27
ولكل نوع أدبي ميزته. الكلمات هي الأقوال، زبدة الفكر، والرسالة إجابة على سؤال مثل المستفتي والمفتي في علم الأصول. والوصايا ميراث النبوة مثل وصايا لقمان لابنه وهو يعظه.
28
وهي إبداعات قصيرة، في صورة أقوال وحكم وأمثال. وهو شكل أدبي معروف في البيئة العربية التي يتم فيها الانتحال دون بنية متكاملة. فالانتحالات الجزئية قبل الانتحالات الكلية. ولا تحتاج باستمرار إلى أسئلة للإجابة عليها.
29
وكما حاور سقراط تلاميذه في الليلة الأخيرة، والمسيح حوارييه في العشاء الرباني، كذلك حاور أفلاطون تلاميذه وقد حضرته الوفاة في موضوع خلود النفس. وقد يكون الحوار افتراضيا في صيغة «إن قيل ... قال» وهو الأسلوب الفقهي في الرد مسبقا على الاعتراضات.
30
ويغلب على الانتحال أسلوب التأليف والفيض الروحي. فهو من روائع الأسلوب الأدبي على عكس الترجمات التي يغلب عليها أسلوب النقل والقيد اللفظي. لذلك سهل الانتحال في الأدب خاصة الشعر، إبداع العرب الأول. ولا فرق بين خطبة أفلاطون في اجتماع الفلاسفة في بيت الحكمة وبين الإبداع الصوفي مثل أسلوب التوحيدي في «الإشارات الإلهية».
31
وتظهر عادات أسلوب التأليف الإسلامي مثل مخاطبة القارئ والدعوة له بالسعادة والتوفيق.
32
وقد يصل حد الانتحال إلى الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فلا فرق بين الأنا والآخر؛ إذ يعبر الأنا عن ذاته على لسان الآخر، ويعبر الآخر بلسانه عن ذات الأنا.
وفي الانتحال كل فن التشويق وعالم الرموز والأسرار مثل الصحيفة الصفراء التي تقرأ في قرابين الهياكل: «لا يرتفع الحسد عن أحد إلا رحمه الناس.» ومثل ألواح التوراة لموسى والألواح الذهبية ليوسف منو مؤسس المينونيين، واللوح المحفوظ، وصحف إبراهيم وموسى، والكتاب المسطور، والكتاب باليمين أو اللوح المعلق في العنق أو حتى الكتابة للدين أو للحقوق والشهادات. كما وجد في نفس الصحيفة الصفراء: «يا أيها الإنسان اكتم في هذا العالم حسن صنعك عن أعين البشر، فإن له عيونا أشرف منها من عمر ملكوت السموات ببصره ويجازي عليه .» وفيها حكايات مثل أراميس الحكيم الذي ضرب بالسيف مرتين، الأولى في يده اليسرى والثانية في خاصرته وهو يوصي لذوي الأمانة بالصدق والعدل قبل أن تفارق روحه جسده. وهو يدعو أيضا دعاء الصحف، ومثل حكاية الملك أراد تكفير قوام الشريعة فأيدهم الله بالآيات، فأصبح من خدامها. وتروى حكاية رجل من اليونانيين أنكر الدين الذي عليه وحلف بزيوس فعمي بصره. كما يضرب المثل على صدق القول برجل زوق الكلام أمام الملك لإطلاق سراحه، فلم يفعل، ثم عرض شكواه دون حسن القول فلم يؤجل. فلما عبر عن نفسه بصدق أطلق الملك سراحه. وحكاية مارينون ملك اليونانيين الذي يذكره هوميروس الشاعر لمعرفة الدلائل على صدق النبوة، وأن الحكيم هو النبي، والحكمة هي النبوة، وهو رأي أفلاطون. وحكاية المرأة التي أتت لشكاية زوجها إلى أسقليبوس وهو قائم في الهيكل، فأخبره بأنها هي التي خانته مع سكران في ليلة عيد الشمس وزوجها قائم في الهيكل. وحكاية ديوجانس الذي لم يقم للملك أساخس لأنه عبد الله ولا يقوم عبد لعبد.
33
وحكاية رفض الحكيم هدايا الملوك؛ لأنها تبين فقرهم.
ويتم اختيار المكان، الحجاز وما يرمز إليه من قوة الغر. واليونان هم الذين يتحدثون باسم الإسلام، عقيدة وشريعة. وملوك اليونان مصادر لروايات عنهم للتصوير والتشويق. كما اجتمعت الفلاسفة في بيوت الحكمة.
ويظهر الانتحال في الإخراج المسرحي وعناصر التشويق لجذب القراء مثل «نقوش نصوص خواتيم الفلاسفة». فقد نقش على خاتم أفلاطون: «تحريك الساكن أسهل من تسكين المتحرك.» فالنقش على الخاتم من عادات الأنبياء مثل خاتم الرسول. ومن سمات الملوك في الأساطير الشعبية مثل خاتم سليمان. كما خاطب أفلاطون في اجتماع الفلاسفة في بيوت الحكمة نظرا لرئاسته تقريظا للحكمة. فالانتحال في حاجة إلى معبر. وعندما يجلس ويطلب منه الكلام ينتظر حتى يأتي الناس. فإذا أتى أرسطو قال تكلم، فقد جاء الناس. فأرسطو وحده كل الناس! وهو تصوير جيد لحب أفلاطون لأرسطو وتقديره له. ويتوجه ببعض نصائحه إليه مثل: «لا تجالس إلا من يحفظ عليك وتستحي منه.»
ويتم الانتحال أيضا في أفلاطون بمناسبة الإسكندر ووصاياه حتى لا ينفرد أرسطو وحده بالمناسبة التاريخية؛ إذ يتوجه أفلاطون بخطاب إلى الإسكندر وهو في فارس يدعوه إلى شكر الله على نعمه ويقر بمساواة الله عز وجل في مذاهب الذمم بين خلقه؛ إذ إن نعمه عامة على العالمين لا تخص شعبا دون شعب، ضد المركزية اليونانية أو الفارسية وإعلانا للعالمية الإسلامية. ولا تهم الصحة التاريخية مثل رسالة الحكيم المطلق أرسطاطاليس إلى الإسكندر، من اليونان إلى فارس. فقد مات أفلاطون (348ق.م.) قبل ولادة الإسكندر (356ق.م.).
34
والانتحال خطوة بعد القراءة، فقراءة التاريخ لا يكفي فيها تأويل أفلاطون الصحيح، بل إبداع أفلاطون المنحول وتحويله إلى تاريخ. وتلك هي صورة أفلاطون في كتب الحكمة. مثال ذلك صورة أفلاطون في نوادر ألفاظ الفلاسفة والحكماء وآداب المعلمين القدماء لحنين بن إسحاق و«رسالة في آراء الحكماء اليونانيين».
35
بل قد يعادل أفلاطون المنحول أفلاطون الصحيح كما.
36
ومع ذلك فالانتحال قراءة كما يبدو في الملتقطات المتفرقة لأفلاطون الإلهي. وهي أقرب إلى أفلاطون الأرسطي أو أرسطو الأفلاطوني نظرا لأهمية الطبيعة والعقل والمنطق والغائية. وكلها عناصر أرسطية. الانتحال أفلاطوني والمنحول أرسطي نظرا لعشق أفلاطون قلبا، وإغراء أرسطو عقلا.
37
وفي «رسالة في آراء الحكماء اليونانيين» وبطبيعة الحال يتصدر أفلاطون النص المنتحل ثم فيثاغورس ثم سقراط وأرسطو ثم نكسقراطيس. وحتى يكون الانتحال موثقا تتم الإحالة إلى طيماوس التي يتحدث فيها أفلاطون عن خلق العالم أو قدم الزمان؛ أي الطبيعيات، في أقواله عن النفس والصور الروحانية.
38
ويحتاج الانتحال إلى نموذج سابق يتم الانتحال طبقا له حتى يرتبط الإبداع بالتاريخ. وهذا هو الفرق بين الانتحال والإبداع. الانتحال له نقطة بداية في التاريخ، سقراط أو أفلاطون أو أرسطو أو أفلوطين، في حين أن الإبداع لا يحتاج إلى ركيزة في التاريخ. يحتاج الانتحال إلى أفعال القول في حين أن الإبداع يعتمد على العقل الخالص المتحد مع الأشياء في رؤية واحدة. وفي كتاب «النواميس» يتصدر أفلاطون ثم مارينون ثم أسقليبوس ثم أوميردس وفيثاغورس وأنبادقليس وأراميس الحكيم. فأفلاطون يوضع في سياقه التاريخي الإشراقي دون أرسطو والطبائعيين. لذلك كثر ذكر اليونانيين، بل لا ينسى الشرق، وتذكر الهند موطن الإشراق.
39
وفي «رسالة أفلاطون إلى فرفوريوس» ما يدل على الانتحال. فما بين المرسل والمرسل إليه ما يزيد على ستمائة عام. إلا أن الجامع بينهما أن أفلاطون تلميذ أرسطو وفرفوريوس تلميذ أفلوطين، وكلاهما إشراقي. أفلاطون هو الذي دون سيرة أستاذه سقراط، وفرفوريوس هو الذي هذب تاسوعات أستاذه أفلوطين. ولا يذكر إلا الإشراقيون في الغالب الأعم. ولا تذكر أفعال القول ولا اسم المرسل مرة واحدة.
40
ديوجانس وأثاخوس وهرمس الحكيم وسقراط ونيرن.
وقد لا يحتاج الانتحال إلى تاريخ مثل «وصية أفلاطون الحكيم»، فلا يذكر اسم أفلاطون أو أفعال القول. فالانتحال الخالص لا يحتاج إلى تعشيق.
41
ولا يهم عنصر التاريخ في الانتحال. فأفلاطون يرد على فرفوريوس في سؤاله عن حقيقة نفي الهم وإثبات الرؤيا وهما لا يعيشان في نفس العصر. أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد، وفرفوريوس تلميذ أفلوطين ومعد «التاسوعات» في القرن الثالث الميلادي. إنه حوار آلهة الأولمب حول الحكمة الخالدة. يذكر أفلاطون جالينوس وأبرقلس وهما بعده. ويحال إلى «النواميس» حتى يطغى التاريخ على اللاتاريخ. وقد يذكر أرسطو وحده تأكيدا على العلاقة الحميمية بين المعلم والتلميذ. وقد تذكر الأقوال دون أسئلة إلا مرة واحدة.
ويكشف تحليل النصوص المنتحلة اختيار أعلام اليونان كمحاورين افتراضيين لأفلاطون بصرف النظر عن التعاصر الزماني. وبطبيعة الحال يتصدر أفلاطون ثم أرسطو والمدرسة الأفلاطونية كلها خاصة فيثاغورس. ويدخل كل أعلام اليونان في هذه المدرسة ثم أنبادقليس وسقراط. بل يدخل الحكماء كلهم مثل أراميس الحكيم وديوجانس. بل يدخل أيضا الآلهة وأنصاف الآلهة مثل هرمس الحكيم وأسقليبوس. ولا يغيب الشرق أيضا مثل الهند وفارس. فقد انتشرت الفلسفة اليونانية في ربوع الشرق بعد فتوحات الإسكندر. وإذا كان أفلاطون فيلسوف الإشراق فإنه يكون شرقيا بقدر ما هو غربي.
42
وحتى يكون الانتحال تاريخيا تذكر أسماء بعض مؤلفات أفلاطون مثل «طسماوس»، «النواميس». فإذا تعذر التاريخ تم الاكتفاء بالإشارة إلى «بعض الحكماء».
أما «وصية أفلاطون في تأديب الأحداث» ترجمة إسحاق بن حنين. فقد يكون انتحالا يونانيا قبل أن يعاد انتحاله إسلاميا.
43
في الانتحال اليوناني تحليل طبقي للتربية للطبقة الوسطى، لا العليا ولا الدنيا. فالقيم من صنعها، قيم القانون والنظام. أما الغنى والفقر، الطبقة العليا والطبقة الدنيا، فإنهما يتجاوزان القيم إلى الثروة أو البقاء. وفي مقدمتها العلم من أجل المهنة، والعدل من أجل الحكم، وإتقان العمل من أجل الإنتاج. وفي الانتحال الإسلامي الحلف على ذلك بالله والقسم عليه ثم زيادة فضيلة الحكمة، وهي التشبه بالله عز وجل، فهو المعلم للحكمة والمرشد إلى الأفعال الجميلة الفاضلة الموفق لها. ويزاد عليها تطهير النفس من انفعالاتها مثل الحسد الذي يفرق بين الناس ويباعد القلوب، والاستسلام لله وللعقلاء الكاملين الذين يستحقون الرئاسة بأفعالهم. والطاعة للحق تستوجب الأنفة مثل أنفة الآلهة. ودراسة الموت الاختياري تؤدي إلى التفكر في الروحانيات، فالفلسفة هي تعلم الموت. ويساعد على ذلك الإكثار من ذكر الله عز وجل وإحسانه إلى الناس فرادى ومجتمعين. فإذا تحققت هذه الفضائل أشرقت الحكمة على الخلائق. وتم شكر الله المدبر للكل، الأزلي القديم، القائم بالحق والقسط. فهي وصية يونانية إسلامية، تعتمد على العقل والخير، فلا فرق بين الوحي والعقل والطبيعة، الكل نظام واحد تؤكده التجربة البشرية. ولا فرق بين إعلان الحقيقة عند اليونان أو في الإسلام، فالعقل والشريعة يتم الانتحال ويستمر، طالما أن التخصيب بين الثقافتين قد تم، بين موسيقى اليونان وموسيقى القرآن. (3) «الفقر» و«الملتقطات»
ولما كانت الملتقطات متفرقة كان من الضروري إيجاد نسق موضوعي لها مثل النسق الثلاثي الذي استقر في علوم الحكمة وقسمتها إلى منطق وطبيعيات وإلهيات كما هو الحال في «الشفاء» عند ابن سينا، أو النسق الرباعي الذي فضله إخوان الصفا بإضافة النفسانيات والتركيز على السياسيات في العلوم الإلهية الناموسية والشرعية. وتبدو غلبة النفسانيات على المنتحلات. فأفلاطون فيلسوف النفس وأرسطو فيلسوف الطبيعة.
44
فالحكمة مضادة للجهل، تطلب عن طريقها. والجاهل من جهل صورة الجهل. ومن عرف صورته كان عاقلا. واثنان يهون عليهما كل شيء، الحكيم الزاهد، والجاهل الذي لا يدري ما هو فيه. والحكيم الفاضل بالطبيعة، والمتحكم فاضل بالصناعة. والجاهل يتوهم أن البهائم تفعل مع أي انطباع للمحسوسات في الحس المشترك ليس علما، وحذرها لا يعني تعقلها.
والعجيب أن يكون هناك انتحال في المنطق، وهو العلم المجرد. إلا أن الانتحال فيه هو القدرة على الإتيان بمثله أولا ثم نقله من مستوى العقل الصوري الخالص إلى مستوى الإلهيات، ثم من الإلهيات إلى الإنسانيات كما هو الحال عند إخوان الصفا.
فمثلا يربط الانتحال بين المنطق والهندسة. فالخط المستقيم ذو وسط والخط المستدير ذو وسطين. كما أن القضية لها وسط. فالقضية في المنطق هي الخط في الهندسة. وتستطيع أفاعيل المنطق في الفكر الكشف عن أفاعيل الصور الروحانية. فالمنطق فعل روحاني.
ويتم الانتحال في مجث الحد. فالحد إجراء العلة في المعلول بنوع منطقي، جمعا بين الاستنباط والاستقراء. وحد الأشياء في الصناعات يؤخذ من مبادئها وغاياتها. وكل ما حد بحد طبيعي فإيضاحه في حده. وكل ما حد بحد صناعي فإيضاحه خارج حده. والحد الذي يستدل منه على الشيء يستدل به على ضده. وعلى طالب الحد استقصاؤه حتى لا يخرج منه شيء. والجوهر لا يزاحمه في ذاته ضد. وهو قائم بذاته، المحيط بالحد، تماميته خارجه كأعراض. وهو مستغرق لحد ذاته. ليس بسيطا ولا جسمانيا. والجوهر يجزئه المنطق دون أن يتجزأ في ذاته. والشيء يوصف من ذاته أو من خارجه. وتتداخل الأسماء الخمسة بأسماء متعددة كالصور. فالصور ثلاث: اثنتان مبسوطتان، يتجزأ عندها المنطق، وواحدة مركبة لا يتجزأ عندها المنطق. الصور بين المنطق والطبيعة. ويختلف الشيء عن الآخر في الصورة. فيكون فعلا أو جنسا، والفصل بالخاصة. وهو لا يفصل الجوهر إلى غير وغير وإلا لما كان جوهرا. والواحد واحد، لا من جهة الكثرة في الجنس. والاثنان اثنان من جهة الفصل. وإذا لزم التحيز لزم الفصل. والصعود في الجنس من الكم إلى الكيف إلى الجوهر لرؤية الحق في كماله. هنا يمحى الفرق بين المنطق والطبيعيات والإلهيات.
45
وينتقل الانتحال إلى التصديق، من التصورات إلى القضايا. فالكل يفعل في الأجزاء، ولا تفعل الأجزاء في الكل. لا تبعث الأجزاء الكليات بل الكليات تبعث الأجزاء. إن تجزأ الجزء فليس بجزء، وإن تجزأ الكل فجزؤه متجزئ كما قال أفلاطون في «فادن». وجزء الفعل مطلوب في الحد. والجزء والاتفاق على الموضوع يسهل بعده الاتفاق على المحمول. الكل غاية الكثرة. والوحدة غايتها كما بين أرسطو في الرد على زينون السوفسطائي. هنا يتداخل التصديق بين منطق القضايا ومنطق الوجود بالاعتماد على أرسطو. والقياس توصيل الفرع بالأصل. والذكاء سرعة تخيل الشخص ومبادرته إلى الحد الأوسط من حدي النتيجة. وهو الذي توجد به مقدماتها. القياس فعل من أفعال النفس. مبدؤه ظاهر، يؤدي إلى غاية لم تكن ظاهرة. القياس هنا أقرب إلى أفعال الشعور منه إلى القياس الصوري وأشكال القضايا وأنواع المقدمات والنتائج.
ويستمر الانتحال في منطق الظن كما كان في منطق اليقين. فالصناعات ثلاث: أن يكون الكلام أكثر من الفعل، وهي الخطابة، أو أن يكون الفعل أكثر من الكلام وهو الطب، أو أن يكونا متساويين فهي الموسيقى، وهي أشرف الصناعات. فالمنطق نظر وعمل، عقل وتجربة، طب وموسيقى.
46
وفي الطبيعيات تبرز قضية التناهي. فلا يكون اثنان بلا نهاية على عكس الواحد الذي لا نهاية له. للأشياء نهاية، وإن كانت بلا نهاية فهي الدهر. والعالم لا يزول لأنه ليس له أضداد. والضد يدخل على ما هو بالقوة فيفسده وهو فاضل بذاته لأنه مصور ومتمم، غاية كل شيء. ولا شيء في العالم إلا يفسد كما قال أفلاطون. الهوية علة الكون، والغيرية علة الفساد. وترجع الأواخر إلى الأوائل، والكبير إلى الصغير. تلك دورة الكون والفساد. تعرف الصفات بالأضداد. ولا تطلب في عالم الكون والفساد صورة الفكر وتركيب العالم على خلاف مجاري الطبيعة ليطلبها ويشتبه بها. هنا يبدو الانتحال أقرب إلى أفلاطون الأرسطي.
والأركان أربعة: عدد ومنطق ومكان وزمان، ضما للحساب والمنطق إلى الطبيعة، وخاصة الحكم، وهو ما يحفظ تحت الزمان والمكان، وهي القضايا الجزئية أو الأحكام العملية. ثم تبدو ثنائيات الطبيعة اليونانية المكان والزمان، الهيولى والصورة، الخلاء والملاء، العلة والمعلول، الحركة والسكون، القوة والفعل، الكم والكيف ... إلخ والتي تمهد الطريق من الطبيعيات إلى الإلهيات.
47
المكان بعد لا شكل له ولا كيفية كما قال أفلاطون. وذكر في «فادن» أنه بين الروحاني والجسماني. وروى عن فيثاغورس قوله إن المكان للنار فقط. أما سائر الخليقة ففي المكان بالنوع الثاني. وقد أجاز المعلم الفاضل ذلك. والمكان مع الأشياء في نوع ثالث. والأفق بسيط عند أفلاطون لأن الشكل شبيه بالسطح. وهو المكان بالنوع الأول. والسماء مكان عن طريق الأجزاء وليس في مكان عن طريق الكلية. والجزء الذي لا يتجزأ إلى ما لا نهاية كلاهما خاطئ. الانتحال هنا فلسفي خالص ضد المتكلمين. أما الزمان فبسيط. وكل بسيط مع الزمان. كل كون في زمان. وكل ما مع الزمان بسيط، وكل ما هو في الزمان مركب. والدهر مركز الزمان. وصار الدهر دهرا لدوامه وامتداده. وظن البعض أنه لا نهاية له لدوام حركته ودورانه حول المركز. والإنسان في هيولى للصور كما أن سائر الأجرام هيولى للإنسان. والهيولى ثلاث: الأولى لا صورة لها، والثانية لا إنية لها، والثالثة للأسطقات. وإن تخلخل الجسم كثر، وإن تكاثف قل. والعالم ملاء لا خلاء فيه. والمكان مثل العالم ليس فيه خلاء. والكم في الهيولى، والكيف في الصورة. والفرق بينهما أن اجتماع الكمية يكون زائدا على المكونات، واجتماع الكيفية يكون ناقصا عن المكونات. ولا يتفق شيئان في جميع الخصوصيات الكمية والكيفية. لذلك وقع التغاير. والحركة المستديرة لجرم مستدير. وتوجد في أربعة أشياء: الجوهر والكم والكيف والأين. وتعرف سرعة الحركة أو بطؤها بالزمان. ولو قبل الماء السكون كان أرضا. ولو قبلت الأرض الحركة كانت هواء. ولو كان الهواء حاد الزاوية كان نارا. ولو كانت الأرض منفرجة الزاوية كانت هواء. والهواء جسم كالإسفنجة. والنار تنمو من النار الصغير، تخرج من القوة إلى الفعل. والفعل هو الشيء الجسماني الذي للطبيعة في حركتها. والقوة هو الشيء الروحاني. وتستحيل الأشخاص من أجل الأسطقات التي فيها بالقوة. وكل مركب من طبائع أربع، اثنان بالقوة واثنان بالفعل. الأولان لا في جسد، والآخران في جسد. والشيء الذي بالفعل ليس بالقوة، والعكس أيضا صحيح كما صرح بذلك أفلاطون في «فادن»، الفعل ابتداء خروج الحركة بالقوة. والحد الطبيعي هو الجامع للقوة والفعل. النار تحرق بالقوة قبل أن تحرق بالفعل. وأول مركب من القوة والفعل. إذا ارتفع القابل ارتفع الفعل لأن الفعل في القابل لا في الفاعل.
48
ثم تتحول الطبيعيات إلى ميتافيزيقا صورية أو نفسانيات عملية، مرة إلى أعلى، ومرة إلى أسفل. فالعلة واحدة لما وقع اثنان تحت اشتراك الأسماء. والوحدة علة الكثرة. وبقدر الارتفاع نحو الصورة تظهر الوحدة كما صرح أفلاطون بذلك في «طسماوس». والهو والغير والسكون في العقل شيء واحد. والحس هو الشيء وغيره لأنه يتجزأ، فصارت الغيرية فيه غير الهوية. والعقل هو ذاته وغيره لأن له موضوعا. وكل واحد له خاصية تفصله عن غيره كما قال فيثاغورس، إن الواحد هو هو لا الغير. وتدخل الهندسة في الطبيعيات. فالخط نقطتان، والسطح خطان، والجسم سطحان. والحسن ما أعطى قدر وزنه من نفسه ومن الطبيعة.
49
ثم تتحول الطبيعيات الصورية إلى الطبيعيات الحية ابتداء من الجسم حتى الغائية. فاعتدال الحرارة الغريزية سبب الحلاوة والعذوبة واللين والملامسة وطيب الرائحة واعتدال الحركة واستواء النمو. فالاعتدال ليس فقط في النفس، بل أيضا في الطبيعة. والالتذاذ لا يكون في الحاشيتين، وإن كان فإنه ينتفي، بل في نقطة الاعتدال. ولا يزال الشيء يزيد وينقص حتى يعتدل. والسعال والعطاس نقص الطبيعة في آلة التنفس. ما تفعله الطبيعة بالعادة تفعله النفس بالأنس. الطبيعة تعمل الجارحة والنفس تستعملها. وكما أن عناصر جسم الإنسان الدم والمرتان والبلغم، فكذلك عناصر القوى التي فيه الكواكب السيارة وغلبة بعضها على بعض. والفواق دفع الطبيعة شيئا لحرق بجرم المعدة.
50
وكل شيء له غاية. ومن ليس له غاية لا يتخارج، ويظل في جوهريته. كل شيء لأجل أو لا من أجل. وغاية الطبيعة أن يفعل الحيوان أفاعيل النفس. قد تفصل نحو مبادئها، ولكن الغاية المنفعة، فيكون المبدأ الكلي حسنا والفعل الجزئي قبيحا. والجنين لا يخرج في الشهر الرابع بالرغم من اكتمال الصورة لأنه لم يكتمل بعد ويصبح قادرا على الحركة والاستقلال بعد الولادة. والطبيعة لا بخت فيها. لا يقع البخت إلا إذا انقطع النظام وكل شيء في العالم موزون. والتنضيد ذو قدر. البخت بذاته دفعة بلا سبب متقدم ولا رؤية. والطبيعة لا تفعل باطلا:
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك .
والإلهيات قليلة لأن المنطق والطبيعيات مثاليا الطابع. فهي إلهيات مقلوبة، إما إلى الداخل في المنطق أو إلى أعلى في الطبيعيات. فالحق لا يكون إلا واحدا. وإذا كانت العلوم سبعة فأولها العلم الإلهي. وهو علم عقلي ضروري مجمع عليه بلا طلب أو فحص. ثم الفلسفة والجدلي والحسي، والخامس الشرعي، علم الأعيان والشرائع وما يلزم الإنسان من طاعات باريه فيما أمر به ونهى عنه في دينه واختيار الأفضل، ثم الطبيعي والصناعي. والاستدلال على معرفة الخالق بالخلق كما هو الحال في أدلة وجود الله عند المتكلمين.
وقد تتم الإفاضة في وصف الله، الله الملك الحق، ألا له الصدق، المسمى بصفات الإشراق، المقصود بالاتفاق، القديم، علة العلل، مفشي مبادئ الحركات، الأول، خالق الأضداد ليظهر قوته، متجاوزا حدود العقول والأفهام، منعوت الذات، مدرك الصفات، سبحانه مفيض العناصر، تقدست أسماؤه، وعلا قدره، نور الأنوار، زمان الأزمان، الدهر الداهر، سبحانه وتقدس، قدوسا قدوسا، ولي الخير، وعلى كل شيء قدير. هو الرب جل اسمه، له الحمد والشكر.
ولا يشار إلى جوهر الباري جل وتعالى بشيء سوى أنه هو لخلو اللفظ من التجزئة في الزمان. ولا يمكن معرفة جوهر الباري جل وعز بما هو به، بل بما هو ليس به كما هو الحال في آيات السلوب واللاهوت السلبي عند المتكلمين. لا يوصف الباري إلا أنه هو وهو، لا تدرك له غاية، ولا يعرف له مبدأ ونهاية. لا يوصف بغير الهوية، جل جلاله لا إله غيره. ومع ذلك فله نعوت فلسفية مثل المطلق غير المحصور، القائم بذاته علة لذاته، لا بنوع ولا بحال ولا بصفة بل بجوهره فقط. صفاته من ذاته. والإنسان متناه والله غير متناه. والجود أول صورة أبدعها الله عز وجل هو خير محض. لا يشوبه شر ولا عدم. اختص به العقل الفعال. وقيل إنه الجوهر الأول، فاعل بجوهريته، وجوهره لم يزل فعله، قديم الصفات بقدم الذات. وقيل العكس، الجوهر وجوب باضطرار العقل وليس بالمفعول. وهو تحول لقضية قدم الصفات وحدوثها بين الأشاعرة والمعتزلة من الكلام إلى الفلسفة. وليس الباري قوة واحدة أو قوى كثيرة، بل إنيته كل قوة من جهة المبدعات لا من جهة ذاته. هو عقل وعاقل ومعقول دون تركيب أو تعدد، الواحد المتكثر بلا نهاية وبلا نهاية لوحدته. الفعل له نهاية والجوهر بلا نهاية.
51
وبطبيعة الحال تظهر نظرية الفيض التي يجتمع فيها أفلاطون وأرسطو، أفلاطون الإشراقي وأرسطو الطبيعي كما هو الحال عند أفلوطين وفي الأفلاطونية المحدثة. فمن عالم الربوبية أخذت النفس العفاف والفضل، ومن عالم العقل أخذت الفكر والتمييز والصور الروحانية. ومن عالمها أخذت الحياة والحركة. ومن عالم الطبيعة أخذت الجسم الهيولاني. وهو العالم الأصغر بتعبير إخوان الصفا مما يدل على أن الانتحال متأخر عنهم. وحدوث الصور الروحانية المختلفة الأشكال يكون بإذن الله عند مطابقة العقل النفس. والأشياء كلها مملوءة من الدلالة على قدرة الباري. وقد قدر الباري للدنيا مدة، وطبع أهلها على الحرص والحاجة. ولولا هذا لما كثر النسل ولا عمر الحرث. وحياة الطبيعة ملازمة لصلاح الجسد، وحياة الفلسفة ملازمة لفرح العقل. فالهرب من الأول تشبها بالباري في فعل الخير بحسب طاقة الإمكان.
52
والنفس إحدى منفعلات الباري، سببها، ولم يحبط قواها، ولم يرد فعلها، مما يجعل الشخص يستحق الانتصاب في الشرائع وأوامرها. وسبب كمال الشخص أن يكون خالص النية. وتقدمة المعرفة هو علم النفس الناطقة بما سيحدث وخروج ما هو بالقوة إلى الفعل عند أفلاطون. والربوبية موجودة في كل جزء من أجزاء العالم كما صرح بذلك في «طيماوس»، في الحيوان الناطق العاقل المشابه للباري بما فيه من العفاف والشرف والفضل. فالأخلاق هي الرباط بين الإنسان والله. وعطية العلم هبة من الله عز وجل لا تنفد وكاملة. والدعاء لله وحده دون الإشراك به. ولا يعبد علة العلل إلا نبي أو فيلسوف مبرز. وهي تحرك الأشياء بسكونها، وتمسك نظام العالم. ولا يلحق به برهان لأن البرهان لا يكون إلا للأجزاء. وهي نظرة صوفية تنكر الأدلة العقلية، ولا تعتمد إلا على شهادة القلب.
53
وتظهر بعض التعبيرات الإسلامية مثل: الله والباري عز وجل، جل وعلا، تعالى وتقدس، عز وجل، تبارك وتعالى، جل جلاله، جل وتعالى، عز ذكره، أجل ذكره، جل ثناؤه، سبحانه، تعالى ذكره، تبارك اسمه.
54
ويكون الانتحال في موضوعات يسهل التعشيق فيها مثل خلود النفس، وكأن أفلاطون أصبح ابن سينا آخر في القصيدة العينية. ويركز الانتحال في النفس على عدة مستويات: صلة النفس بالبدن، وصلتها بنفسها كجوهر مستقل، وقواها ثم إدراكاتها الحسية والعقلية. فالنفس متصلة بالجسم ولكنها ليست جسما. ولو كانت جسما لم تلاق جسما دفعا ولزاد ثقله. تموت الأجسام وتحيا النفوس. وموت النفس جهلها، وحياتها علمها، وموت الأنفس الجزئية في عالم الكيان. وإن كانت النفس ظاهرة في هيكل الإنسان فهي بالفروع أشغل منها بالأصول. وإن كانت غائرة فهي إلى الأصول أقرب. والنفس في الشخص تغالب طبيعته ولا تعرف إلا بالفعل. والنفس صورة وبالتالي فهي أول. وهي لا تموت لأنها حية بحياة إلى الأبد.
والنفس كالملك والطبيعة كخادم. تجلب الطبيعة الهواء الطيب للنفس لتروحها. فإذا فسدت ردته النفس إليها فتطرب لها الطبيعة. فإذا دخل الهواء الطيب ردته الطبيعة في أجزائها بمقادير متناسبة، فتصدر ألحانا تطرب لها الطبيعة، نظرة موسيقية لعلاقة النفس بالبدن، تعبر عن روح أفلاطون. تطرب النفس عند حركة الأوتار لأن الطبيعة تحرك الهموم. فالموسيقى صلة النفس بالطبيعة، والنغمة الحادة أسرع إلى الأذن من الثقيلة. والطبيعة للنفس كالزوجة للرجل، البدن للداخل والنفس للخارج. ولا يصح للزوجة أن تجور على الزوج أو للزوج أن يجور على الزوجة. ويطلب من الإنسان الحلو الجوهر أولا ثم العادي ثم النفس الصناعي. والنوم غوص القوى في عميق المغوص. وجميع مسام البدن تتفتح بتفتح الجنين.
ليس للنفس جوهر سوى الحياة، وجوهر الحياة الحركة. صارت النفس في أفق الحيوان لاحتياجه للحركة. والحركة طلب وهرب كالماضي والآتي، وهما متصلان. النفس قائمة بذاتها. وعلة هبوطها إلى هذا العالم الاستطاعة. وحد النفس بدء حركة ما خارج، والطبيعة بدء حركة ما داخل. القائم بذاته حده داخل فيه، والذي ليس قائما بذاته حده خارج عنه.
55
والعوالم ثلاثة: عالم العقل علمي، وعالم النفس قوائي، وعالم الطبيعة نسلي. والمنزل منزلان: العقل والنفس. ولو نزلت النفس لاختارت العقل. والنزول إلى النفس أصوب لعلاج الناس كما بين أفلاطون في كتاب «أقراطيس ». والنفس من خمسة أوائل: الجوهر، والهوية وهي المعقولات، والغيرية وهي المحسوسات، والحركة، والسكون. النفس في حركة وسكون، لها صحة وسقم، حياة وموت. صحتها الحكمة، وسقمها الجهل، وحياتها أن تعرف خالقها، وتتقرب إليه بالبر، وموتها بأن تجهل خالقها، وتتباعد عنه بالفجور. والأوائل أربعة: الزمان نحو الطبيعة، والمكان نحو النفس، والدهر نحو العقل، والأزلية نحو العلة الأولى.
56
وإدراك الشيء من حيث علته وحقيقته أن ينطبع في النفس بكامله. وللنفس أشكال لا يمكن التعبير عنها بالكلام. واللجاج عسر انطباع المعقولات في النفس. وينشغل الأحداث بالحفظ أولا قبل انشغالهم بالفكر. والعقل الذي فينا جوهر كلي، وشخص جزئي. ومعرفة طبع الرجل باستشارته لمعرفة جوره وعدله. والعقل والمعقول شيء واحد. وقوة حفظ الإنسان تنقص من تمييزه بقدرها. فهما قوتان متضادتان. التمييز فعل، والحفظ انفعال.
ويرى البصر صورة الشيء في ذاته لا في المحسوس. وإذا خرج نور البصر على غير زاوية قائمة أبصر الصغير كبيرا والكبير صغيرا. والبصر والمبصر اثنان بتوسط الهواء. والبصر والسمع يدركان الأشياء في وحدة وكثرة في آن واحد. والوحدة علة الكثرة. وإذا كان الحاس والمحسوس شيئا واحدا فإن العقل والمعقول ليسا كذلك. العقل الكلي هو المعقولات. والعقل متصل بصورة المعنى لا بصورة الجوهر. والعقل لا يألم في طلب معرفة الأشياء. وبعض الأشياء تعقل بألم، والبعض بدونه. والعقل بلا ألم صورة العقل. والكل لا يألم لأنه لا يدرك إلا ذاته. العلم وقوع البصر على الأشياء الكلية، والحفظ جمود الوهم. وأحيانا يكون الوهم إبداعا؛ إذ يحتاج المرء أن يصفي الفكر والوهم، الفكر نحو المعلوم، والوهم نحو المحسوس. العلم يدرك الصور المعقولة، والوهم يدرك الصور المحسوسة. والسمع مجانس للبصر والذوق للحس، والشح متوسط بينهما. طلب العقل صورة الشيء من ذاته، وهيولته من الحس. العقل يعقل ذاته. فهو عقل ومعقول كما صرح بذلك في «طيماوس». والمعقول الأول فعل محض. عالم العقل علمي، وعالم النفس قوائي، وإدراك آنية الشيء من جهة العقل إدراك لميته، وإدراكها من جهة الصورة ليس إدراكا للمية لأن الآنية واللمية في العقل شيء واحد . ولا تدرك المائية بنسبة اللمية. الحس يأخذ الأشياء عن قرب، والفكر عن بعد. الحس لا ينتج والفكر ينتج. المعرفة تذكر والعلم ثباته. الحس يجد الثقيل ثقيلا، والعقل يجد الثقيل في نفسه. الجزء في الحس والكل في العقل.
57
ويمكن الإحاطة بالأشياء بلا تعلم واكتساب باستقصاء كنه الشيء، وهو أقرب إلى المعرفة الحدسية.
وبالإضافة إلى جوهر النفس هناك قوى النفس. فالنفس ثلاث قوى: إلهية وبها الفكر والروية ومسكنه الدماغ، والثانية غضبية ومسكنها القلب، والثالثة بها شوق المرء إلى اللذات ومسكنه الكبد. الاعتدال فضيلتها، لذلك كانت فضائل النفس أربع، وفضائل الجسد أربع: الحلم، والعدل، والشجاعة، والعفة للنفس، والتمام، والكمال، والقوة، والجمال للجسد. ومن ساد نفسه بالاعتدال توحد الغضب والشهوة. لكل منهما مقدار. لو زاد عن الحد انقلب إلى شر. حركة القوة الشهوانية تلقاء الرغبة. وحركة القوة الطبيعية تلقاء الرهبة، وحركة الفكر تلقاء العلة. وهي الطبقات الثلاث للناموس، الطبقة العليا بالمحبة، والوسطى بالرغبة، والدنيا بالرهبة. والعشق طمع يتولد في القلب وتعلق الرفيع بالوضيع يسمى شوقا. وتعلق الوضيع بالرفيع يسمى محبة. فالشوق والمحبة مبادئ اتصال العالم. والفرق بين المحبوب والمعشوق أن المحبوب يؤثره الإنسان لنفسه، والمعشوق يؤثر نفسه لها. وفي المعشوق قوة أكثر من العاشق كي تطلب نفس العاشق منه قوة. ومحبة العاشق للمعشوق لحسن التمام. وقد يختلف العاشقان في العشق، واحد عاشق والثاني غير عاشق. وهناك فرق بين الهم والغم. الهم تقسم الأفكار، وحيرة النفس وخمولها، وهو سريع الزوال. أما الغم فخطر كبير، يذهب القوة، ويفقد الحرارة، ويهدم الجسم، ويكدر الأوقات. هو ألم نفساني لفقد محبوب أو فوت مطلوب.
58
وليس الموت مكروها لمن عمل وتدبر. الهم والغم غير واجبين على الحقيقة. لهما أسبابهما فيما يألفه الطبع حتى يصير طريقا للهم وسببا للغم.
59
والنفس إذا فرحت قلقت الطبيعة، واشتدت حركتها، وفار الدم، واحمر الوجه. ويكثر الضحك لاسترخاء العضلات. والحزن يؤدي إلى العكس، يصفر الوجه. فانفعالات النفس لها أسباب عضوية، واللذة غاية الفعل على مجرى الطبيعة والقوة أبدا. تحرك الشيء من غير موضعه. والفعل أولى من اللافعل، والوقوع أفضل من التوقع، والتضاد إزالة الأجزاء التي بالفعل إلى الأجزاء التي بالقوة لتخرجها إلى الفعل. ولا يضاد العقل والنفس غير لأنها بالفعل.
60
ثم يتحول الانتحال إلى الأخلاق الفردية كما هو الحال عند الفلاسفة والصوفية حول فعل الخير بالطبيعة ومن تلقاء النفس. فالمرء الفاضل هو من يفعل أفعاله تلقاء العلة لا تلقاء المعلول كما صرح بذلك أفلاطون في كتاب «السير». وربما يكون هو كتاب «السياسة». وكل فعل عن شهوة النفس لا تشارك فيه النجوم لأنه فعل خير لا محالة دفاعا عن خلق الأفعال. وكل فعل تشارك فيه الكواكب هو فعل مركب وبالتالي ينشأ التضاد بين الخير والشر. والفعل الأوحد لا شر فيه. والفعل فعلان، عام وخاص. والعام كله خير والخاص يرى خيرا أو شرا لأنه نابع من القوة الاختيارية. والفعل الخير هو ما وافق العقول. والشر عدم الخير البتة. وليس المرض وأمثاله شرا بل بعض الخير. الخير والشر ذاتيان وليسا موضوعيين، على مستوى المعرفة وليسا على مستوى الوجود:
عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون . والله ليس مسئولا عن الشر في العالم لأن كل ما يصدر عنه فهو خير. لا يفعل الله إلا ما جمع بين القدرة والحكمة. القدرة دون الحكمة تسلط، والحكمة دون القدرة ضعف. ولا يفعل الباري شيئا ضد الفطرة، فهي البرهان على حكمته. أعطى كل مادة مقدار احتمالها من وجوده، ولم يمنعها ما أطاقته من حوله. والصدق أمانة في القول. ويضرب المثل على ذلك من حروب اليونانيين عندما ضرب أراميس الحكيم ضربتين بالسيف، الأولى في يديه والثانية في خاصرته، وأوصى بالأمانة والصدق والعدل قبل أن يقضي نحبه وتفارق الروح الجسد. فالإخراج هنا يوناني حتى يكون الانتحال من البيئة ذاتها، خارجا منها وليس آتيا لها. والكلام الصادق يؤثر في النفس كما لاحظ أفلاطون. القلب يبصر القلب والنية تحس بالنية.
ثم ينتقل الانتحال من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية أو السياسية. فالسياسية لا تعني الحكم، بل تعني سياسة المرء لبدنه ونفسه، وسياسة الأصحاب بمعنى إخوان الصفا بما في ذلك علاقة الإنسان بربه. فالدين بهذا المعنى سياسة، والسياسة دين. وأقوى الأسباب في محبة الرجل امرأته أن يكون صوتها دون صوته، وتمييزها له دون غيره، وقلبها أضعف من قلبه. وسلوك الناس يقوم على ثلاثة دوافع: الأول اقتضاء الحاجة مثل الطعام ضد الجوع، والثاني الموافقة مثل طعام أفضل الأطعمة، والثالث للكمال والاستحسان. الأول مثل الجماع لطلب الولد، والثاني لطلب المنفعة والتخلص من المني الزائد، والثالث للحسن والجمال. لذلك كان الناس على ثلاث مراتب: الشهوة والغضب والعقل طبقا لقوى النفس الثلاث، النقص، والكمال النسبي، والكمال المطلق. وهي تعادل قسمة الأصوليين مقاصد الشريعة إلى تحسينات وحاجيات وضروريات. وتكون الاستشارة من نفس الطبقة خشية الانحراف عن العدل. ولا ضير أن يكون المجادلون والمتحكمون في المدينة. فمنهم تحدث الآراء الرديئة حتى تقابلها الآراء الحسنة.
ثم يتحول الانتحال من الأخلاق الفردية والاجتماعية إلى الأخلاق الدينية والشرعية. فليس من المعقول ألا يكون لأفلاطون الإلهي كتاب في التوحيد وكتب أخرى في العقل والنفس وهو فيلسوف النفس، بل في الجوهر والعرض حتى لا يقل عن أرسطو في الطبيعيات. يؤمن بالقضاء والقدر والوحي والنبوة، والمعاد والثواب والعقاب والجنة والنار. والطاعة للملك مثل طاعة الإمام، لا فرق بينه وبين أولياء الله الصالحين. والوحي غير الرؤية والكهانة. الوحي أعلى من العقل، والعقل أعلى من النفس موطن الرؤية والكهانة. بينها وبين الوحي درجة متوسطة. الوحي ثابت لا زيادة ولا نقصان فيه على عكس الرؤية والكهانة. وهو التصور المعروف بين الوحي والإلهام. ويقول الإله على لسان القدماء أنه ينتقم من الذين لا يطيعون الله على سنته. كما تظهر بعض القيم السلبية كما هو الحال في الثقافة الشعبية الوافدة من الأخلاق الصوفية مثل الاستسلام والصبر، وإيثار السلامة والطاعة.
61
ويتجلى الانتحال في الأخلاق الدينية في «وصية أفلاطون الحكيم» في أن يكون الإنسان مع الله راضيا بقضائه، محاسبا لنفسه، محافظا على ناموسه، معزا لأمره، مستفيدا من عمره وتقسيمه بين الوظائف العلمية والعملية، والتودد دون النفاق ، والتمتع بالدنيا طبقا للشريعة كما ينصح بمعاشرة الخاصة بالتواضع، والعامة بالصمت، والأصحاب بالحلم، والعدو باليقظة، والكل بالعدل والإحسان والكتمان والشكر والعفو، وتفويض العمل إلى الأكفاء، وتجنب الكذب والنميمة، وأولوية الباطن على الظاهر مع الجد والحزم والصبر والتوكل على الله الذي بيده الخير، ويجب له الدعاء، وهو قريب مجيب. والعشق جنون إلهي. وأشد الناس موافقة لسنة الله تعالى أعلمهم بالحسنات، وأشدهم رأيا، وأعلمهم برضوان الله، وأكملهم أبعدهم عن الشك في الله، وأحقهم بتعليمهم أعلمهم بالدنيا والآخرة، وأحسنهم عملا أكثرهم صدقا، وأوجبهم رجاء أوثقهم بالله. وأحق الأشياء أن يستكمله أهل الدين التواضع والورع والتقويم.
62
ولما كان أفلاطون صاحب «الجمهورية»، فكان من الطبيعي أن تظهر له منتحلات في السياسة مثل «فقر التقطت وجمعت عن أفلاطون في تقويم السياسة»، أو «كتاب النواميس لأفلاطون الفيلسوف اليوناني» زيادة في تخصيصه كآخر حتى يجد الانتحال له الشرعية البيئية الأصلية. وتظهر في هذه المنتحلات المصطلحات الفقهية مثل الفرق بين الشريعة والسياسة من جهة أن نهاية السياسة هي طاعة الشريعة. السياسة وسيلة والشريعة غاية. وتظهر موضوعات الزجر والفأل والفرق بينها وبين الوحي. وقد نطقت صحف الباري تعالى وتقدست بالأسماء. وبعض أصحاب الشرائع يثبتها الله عز وجل. وإن سقطت لزم الباري أضدادها مثل السميع والبصير اللذين لا يسقطان إلا عن الأعمى والأصم. وهي صفات لما دون الله عز وجل. فهي من أسماء الله جل وعلا. ويتصور بعض الجهال أن من صفاته الملك المتسلط القوي السلطان، يرضى ويسخط، ويعذب ويعاقب. وهي أوصاف جور للمتسلطين، تنزه الله تبارك وتعالى عنها. كما نسب بعض الجهال له صفات منفعلة، وأسقطوها من أنفسهم عليه فأصبح ذا جسم، والباري عز وجل منزه عن ذلك. وهو علة لما اخترع. وتوحيد الباري عز وجل أكثر من التوحيد العددي لأنه لا يليق إلا بالأشياء الطبيعية. إنما الباري جل جلاله أزلي واحد. وهو العلة القريبة لجميع ما يحدث وهو مما أوقع في الجبرية. وهو ما أنكرته العقول وذمته الشرائع. وطائفة أخرى أخذت الموقف المضاد بأن جعلت النفس أو الطبيعة على كل شيء. وهو اعتقاد خاطئ لأنه يعطي للنفس أكثر مما يعطي للباري جل وعلا، وكأن الباري مضطر إلى الاستعانة بالأطباء في العلل، وذلك لا يليق بالباري عز اسمه. العلل الطبيعية للأمور الصناعية. والكل راجع إلى الله. والعادة تجري مجرى الطبع. لا يحتاج الباري إلى زمان أو حركة منفصلة عن معلوماته. وهو غير مضطر إلى الاستعانة بالأطباء في العلل. له كرسي هو العرش.
63
وتبلغ ذروة الانتحال في نقل الناموس على الشريعة وتحويل أفلاطون من كونه صاحب النواميس إلى واضع الشرائع، من الفيلسوف إلى النبي، ومن الحكمة إلى النبوة. فالنواميس هي الشريعة، والملك هو الإمام. وطاعة الشريعة بالعقول، والحرام في الشرائع ما لم يوافق جملة العالم وطبيعته. فالشريعة ليست فقط فردية أو اجتماعية، بل كونية. ومن كان محسنا بقبيح ثم تاب استجيب له. فليست الغاية من الشريعة العقاب، بل حسن الأخلاق. وكل إحسان وإنعام يستحق الإعظام والتبجيل من أجل عدم بخس الناس حقوقهم. وإتيان الشريعة لا يكون فقط وقت الحاجة وإلا كان تجارة ومنفعة ويفسد الدين، بل على أسس عقلية صرفة.
ولما كانت الشريعة الإسلامية عبادات ومعاملات، فقد تم الانتحال في هذين القسمين. ولما كانت العبادات داخلية، تقوى القلب أن تكون خارجية، الأركان الخمس، فلا يجوز التوسع أو الاستسهال في الإيمان ثم الكفارات. وقد توفي أكثر الحكماء من الحلف. والحلف بالله ثم الحنث به يوجب الصدقة. والصوم والصلاة رياضات روحية للبدن للتحقق بفضيلة العدل. وهذا ما أوجبته الحكمة الإلهية من أحكام الشريعة. فوضع الشرائع لطف من الله للسيطرة على الشهوة والغضب. لذلك قال فيثاغورس إن محاربة الرجل للملك أسهل من محاربته الشريعة. الصوم يكسر الشهوة ، والركوع رياضة بدنية وخضوع، والصوم لجام النفس الشهوانية.
وتأخذ بعض الأفعال الشرعية أسسا أخلاقية. فالشراب يفعل من الإيناس في ساعة ما لا تفعله المنافسة في سنة بشرط عدم الإفراط والعجز عن السيطرة على حسن تصريف الأعضاء. وأحق الناس بتناول الشراب من ضعف قلبه وقوي فكره. وهنا يبدو التوفيق بين شراب اليونان وحذر الإسلام. لذلك يضيف الانتحال حرمة النبيذ إلا لمن اضطر غير عاد، مثل ضعف القلب، أو على صاحب التمييز القوي؛ لأن السكر علة التحريم. وحرام الإضرار بالبدن عن طريق الطعام.
وتظهر بعض موضوعات الشريعة مثل الذبائح لدرء الشر عن العالم الناتج عن حركات الكواكب. وفي الهند يحرمون الذبائح، ويكثر قتل البشر. والأعقل أن تكون الذبائح لصالح الإنسان. فالانتحال هنا تشريعات مقارنة. ونقد الشرائع القائمة ليس في الغرب اليوناني وحده، بل أيضا في الشرق الهندي، ما دام الانتحال غير محدد ببيئة، وما دام الإبداع عملية ذاتية لا يهم موضوعها الخاص. والأعياد لراحة البدن عن طريق النفس.
64
وتبدأ المعاملات بالأحوال الشخصية، النكاح والأزواج والغسل والزنا واللواط والميراث وبر الوالدين. فالغسل واجب على الناكح من الجنابة. والزاني سارق للفرج، مفسد للنسل، جزاؤه العقوبة الأليمة على عكس المعاشرة الزوجية وما بها من جميل الصحبة وعظيم الوفاء. واللواط والسحق عدو على ما خلق الذكر والفرج له. ونكاح البنت والأخت والعمة والخالة حرام لضرورة. فالأرض التي تزرع نوعا واحدا لا تنجب، على عكس إباحة قوم من فارس له. فالشريعة الإسلامية أتت لتشق طريقها بين فارس والهند شرقا بتأييد اليونان غربا. مع أن اللواط كان في يونان. والانتحال تحويل لليونان إلى مثال لا نقص فيه. وتزويج الرجل من دونه يجلب إليه الآفات والمكاره. فالزواج بين الأكفاء طبقا للعادات القبلية التي تداخلت مع الشريعة في ديوان الأشراف. ونصيب الابن من أبيه أكثر من نصيبه ابنته لنسب الابن للأب، والبنت يصل إليها نسب غيره. وهو تشريع لقانون الميراث:
للذكر مثل حظ الأنثيين
عن طريق النسب.
65
وبر الوالد أفضل من حنو الوالدين؛ لأن الأول من العقل والثاني من الطبيعة . والوحي يتأسس على العقل والطبيعة. وتزداد محبة الوالد لولده على محبة الولد لوالده لرغبة الأب في البقاء من خلال النوع، فوجد الأب ذلك في الابن، ولم يجد ذلك في الأب، كما أن الأب يمتد من خلال مواهبه، من خلال مشاركة الولد فيها. وعلى الأب في ولده ثلاثة فروض: النفقة والتعليم والقناعة.
والصدقة إخراج المال لمن يستحق، لمن هو أولى به، مثل خروج الدم الزائد من الجسم بالفصد. ولا تجوز على السائل لأن المسكنة ذل ضد التعفف. وترد الوديعة حال استلامها. وعقاب السارق من المسروق مباح. والتعويض واجب في الجراح وليس في القول؛ أي على الضرر الفعلي الجسمي وليس النفسي الذي يقابل بالعفو والإعراض عن الجاهلين:
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . ومن غش مستشيرا يتحمل مسئولية عدول المستشير عن الصواب. ومن أفتى بغير علم فقد جهل، ويستحق العقاب. والشريعة ضد الاحتكار لأنه إجحاف وملعون على لسان أسقليبوس. كما أنه ملعون على لسان الرسول. والملك في خدمة الشريعة، والملوك في طاعة قوامها المؤيدين بالعجائب الروحانية تبريرا للمعجزات.
وحتى يبدو الانتحال نابعا من الداخل بالإضافة إلى الخارج، من الموروث ومن الوافد في نفس، فإن كل ذلك مسطور في الصحف. لذلك يتخلل الانتحال كثير من الأساليب القرآنية مثل:
من كان فقيرا فليأكل بالمعروف ، حثا على التعفف والزهد والمحافظة على أموال اليتامى والقصر.
66
ولا عجب أن تنتهي بعض المنتحلات ببعض التعبيرات الإيمانية مثل البسملات والحمدلات والتسهيلات والصلوات، سواء كان ذلك من المؤلف أو الناسخ أو القارئ. فالإبداع عمل جماعي. ولا بد أن يأخذ علامة الثقافة التي يتم الإبداع فيها. كلمة السر، الماركة المسجلة على الصناعة الوطنية. كما تظهر تعبيرات المشيئة مثل: «إن شاء الله.» وتنتهي بعض الأعمال بالحمد لواهب العقل والكياسة أو الله أعلم وأحكم. وتعطى لأفلاطون ألقاب التعظيم والإجلال مثل الفيلسوف الرباني، الحكيم اليوناني، تفلاطون، وتاريخ التأليف أو النسخ بالهجري مع اسم الناسخ المحتاج إلى ربه، مع بعض التعبيرات الفارسية إيغالا في إضفاء الطابع الشرقي عليه. ولا ضرر من إشراك القارئ في الخطاب، فهو جزء منه، والدعوة له بالتوفيق، والجواب على ما سأله طالبا له الهداية.
67
رابعا: الانتحال الأرسطي
(1) أرسطو والإسكندر
ولا يهم التحقق من صحة نسبة النص المنقول إلى صاحبه. فهذه رؤية حديثة نتجت بعد اكتشاف أن كتب العهد القديم والجديد لا تنسب إلى أصحابها. ثم عمم الاستشراق ضرورة إثبات صحة النسبة خارج حضارته. مع أن النص المعقول في الحضارة الإسلامية مستقل عن مؤلفه ومترجمه، بل وقارئه. لذلك لا يهم نسبة هذا النص أو ذاك لأرسطو أو لغيره. ولا يهم إن كان صحيحا أم منحولا. بل إن المنحول أدل على روح الحضارة من الصحيح. الصحيح نقل والمنحول إبداع. الصحيح تاريخ والمنحول حضارة، الصحيح واحد والمنحول متعدد، الصحيح قديم والمنحول جديد، الصحيح موت والمنحول حياة.
هل ضاع نص أرسطو؟ هل وجد ولكن لم يعرفه العرب؟ هل ترجم ولكن لم يهتم به العرب؟ وبما أنهم قد اهتموا به بدليل ازدهار علم النباتات والأعشاب (ابن البيطار)، فقد حضر النص حضاريا بصرف النظر عن الوجه التاريخي لهذا الحضور. وتقوم دعوى النسبة الخاطئة على لا دعي سلبي وهو من قدرة المسلمين على تصور الوثيقة التاريخية من حيث مؤلفها واكتمالها مع أن علم الوثائق من أهم العلوم عند المسلمين نظرا لأهمية الوثائق الشرعية، والمكاتبات، السجلات، وحجج الوقف. والحقيقة أنه لا يوجد خطأ تاريخي، فالتاريخ ليس به خطأ وصواب، ولكن هناك إعادة إنتاج للنصوص ابتداء من المنبع الأول وهو النص الأصلي.
1
ولا تهم صحة نسبة كتب أرسطو إليه، أيها صحيح وأيها مشكوك فيه.
2
ومع ذلك كان المسلمون على وعي بقضية الانتحال وبضرورة النسبة الصحيحة للنصوص لمؤلفيها. فإن كان هناك شك فيتم التعبير عن ذلك بعبارة «المنسوب إلى» تنبيها للقارئ على الشك في صحة النسبة.
3
أما قضية الانتحال فلا تهم من حيث هي تاريخ محضر، إثبات أن أفلاطون أو أرسطو ليس هو صاحب هذا العمل أو ذاك. إنما أهميتها في دلالتها على النقل، بل الإبداع. فالحكماء ليسوا مؤرخين ولا باحثين نصيين مثل الأصوليين والمحدثين، بل هم مفكرون يفهمون النص ويتمثلونه ويعيدون بناءه. ما يهم هو فكر النص وليس مادة النص، روح النص وليس بدن النص. وسواء كان «أثولوجيا أرسطوطاليس» من أرسطو أو من أفلوطين، من «ما بعد الطبيعة» أو من التاسوعات، فهذا لا يغير من الأمر في شيء ما دام كل حكيم عنده إلهيات. وهذه هي إلهيات أرسطو بعد أن فقدت إلهياته من مؤلفاته. ليس الحكماء مؤرخو فلسفة أو ناقدو نصوص، بل هم فلاسفة. الغاية من الحكمة تمثل الثقافات الأجنبية من أين أتت، من أفلوطين أو من أرسطو. والمستشرقون وأتباعهم من العرب بإثارتهم هذه المسألة يريدون جعل الحكيم مؤرخا، والمفكر ناقدا نصيا، والأمر ليس كذلك. وإن كثرة الانتحال في الفلسفة اليونانية لا يمثل عيبا، بل هو ميزة؛ أي إبداع نصوص تعبر عن روح الفيلسوف أو ما ينقصه، ثم نسبتها إليه كعلم من الأعلام حتى يسهل تمثلها وإعادة بنائها مثل إبداع الإنجيل الرابع في البيئة الشرقية الغنوصية حيث تم نسبته إلى يوحنا، أقرب تلاميذ المسيح إليه، والذي كان يسند رأسه على كتف المسيح أثناء العشاء الرباني كما عبر عن ذلك رافائيل في لوحته المشهورة. بل إن النسبة الخاطئة لأكثر دلالة على الفكر من النسبة الصحيحة، وذلك مثل وصايا أرسطو إلى الإسكندر، كتاب التفاحة، ووصايا أم الإسكندر إلى ابنها. لم تكن صدفة نسبة المقتطفات من التاسوعات لأفلوطين لأرسطو. إنما هي روح الحضارة العربية الإسلامية العامة التي وضعت النص في مكانه الصحيح لإكمال بنية الفلسفة كما وضعها الفيلسوف. ولو كانت حالة شك عند المسلمين لصحة النسبة لنسبوها إلى أرسطو لأن الأمم لا يهمها معرفة أرسطو التاريخي، بل روحها وحضارتها، وعلى أرسطو الاتفاق معها. وكتاب التفاحة لسقراط وأرسطو حوار أرسطو مع تلاميذه قبل وفاته مثل محاورة فيدون لأفلاطون، والإحالة إلى مؤلفات أرسطو من أجل صحة النسبة وإلحاق المنتحل بالصحيح خاصة كتاب ما بعد الطبيعة.
4
وتلك عادة الشعوب في عمل وصية أو عهد للميت. إن القصد من الانتحال هو إكمال الناقص ذهنيا وفكريا وحضاريا أولا ثم إيداع ذلك تاريخيا ونصيا وتدوينيا ونقلا. فليس من المعقول أن يكتب أرسطو في الحيوان دون أن يكتب في النبات. فهو موضوع واحد الطبيعة، على مستويين مختلفين، النبات أولا ثم الحيوان على ما هو واضح في تركيب النفس النباتية التي تضم وظائف ثلاثا: التغذية والنمو والتوليد، والحيوانية التي تضم بالإضافة إلى هذه الوظائف وظيفتين أخريين: الحس والحركة.
5
ولماذا لا يكتب أرسطو كتابا في النبات وقد ألف كتابا في الحيوان وعدة كتب أخرى استمرارا لمشروعه في دراسة الكون والفساد؟ فالانتحال إذن يتضمن ثلاثة عناصر: الأول إكمال الناقص عقليا، والثاني إكمال الناقص دينيا، والثالث الإكمال بنفس روح المذهب واتباعا لبنيته الداخلية. الفيلسوف هو الذي يكتب سواء كان حيا أم ميتا. والحضارة الجديدة تكتب نيابة عنه. إن كان قد مات فروحه مستمرة في روح الحضارة والتي تعيد إنتاج نصوصه كاملة غير منقوحة بصرف النظر عن مؤلفها الأول الذي مات أو الثاني الذي ما زال حيا.
وكلما استقل الفكر وأصبح له صدقه من داخله يتفق مع العقل والطبيعة أصبح حقيقة خارج التاريخ وينسب لكل الحكماء من أجل التعظيم والإجلال. ولا ضير من نسبة القول الواحد إلى أكثر من حكيم ما دام النص المنسوب على نفس قدر الحكيم المنسوب إليه. مثال ذلك نص كسرى أنوشروان الشهير في فلسفة السياسة الذي دخل في كل نصوص الفكر السياسي الإسلامي اليوناني والفارسي والمنسوب إلى أرسطو.
6
فليس اليونان بأقل قيمة من الفرس. والنص يقوم على بنية عقلية محكمة، ثمانية مقاطع، آخر كلمة في المقطع هي أول كلمة في المقطع التالي على النحو الآتي: (1)
العالم بستان
سياجه الدولة (2)
الدولة سلطان
تحجبه السنة (3)
السنة سياسة
يسوسها الملك (4)
الملك راع
يعضده الجيش (5)
الجيش أعوان
يكفله المال (6)
المال رزق
يجمعه الرعية (7)
الرعية عبيد
يستملكهم العدل (8)
العدل ألفة
به صلاح العالم
ومعظم المقاطع رباعية، الكلمات في شطرين يسهل حفظه واستيعابه وتكراره ونقله ونسبته إلى كل عظيم. ولا يوجد هنا مجال للنقد بل للتمثيل والاستيعاب والتبني باعتبار أن النص يحتوي على تنظير ممكن وعقلانية ظاهرة. في حين أن الفقيه هو الناقد الذي يراجع الوافد على أساس الموروث كما فعل ابن تميمة في المنطق. فإذا كان العدل ميزان الله عز وجل فإن باقي المقاطع قد لا يتفق مع العقلانية المعاصرة، فالملك الذي يعضده الجيش انتهى إلى الحكم العسكري، والجيش أعوان يكفله المال انتهى إلى الارتزاق، والمال رزق يجمعه الرعية قد يؤدي إلى الرق، والرعية عبيد يستملكهم العدل واجبات دون حقوق.
7
والكتب المنتحلة لأرسطو في السياسة كثيرة. فمن الطبيعي أن يكتب المعلم لتلميذه كتبا لتربية القائد أو يوجه إليه رسائل أو يعطيه بعض النصائح والمواعظ والوصايا الشفاهية مثل كتاب أرسطو إلى الإسكندر في السياسة أو علم آداب الملوك الذي كتبه أرسطو لذي القرنين.
8
مثال ذلك «مقالة لأرسطاطاليس في التدبير» نقل عيسى بن أبي زرعة.
9
وليس لها أصل يوناني معروف، فهي إما مما فقد من أعمال أرسطو أو أنها إبداع خالص في الثقافة الإسلامية قام بها مسلمون أو نصارى. قد يكون الدافع على الانتحال هو إكمال أرسطو المنطقي الطبيعي الإلهي بأرسطو الأخلاقي. صحيح أن له الأخلاق إلى نيقوماخوس والأخلاق إلى أوديموس، ولكن تظل الحكمة العملية في مجموع أعماله أقل من الحكمة النظرية. كما أن الحكمة الإلهية أقل بكثير من الحكمة المنطقية والحكمة الطبيعية. لذلك تمت نسبة «أثولوجيا أرسطاطاليس» إليه. وهو تلميذ أفلاطون. ولأفلاطون وصية في تأديب الأحداث. فلماذا لا يستأنف التلميذ بمقالة في التدبير عمل أستاذه؟ ونظرا لأن أفلاطون إلهي، فقد تم الانتحال الثاني للوصية على نحو ديني واضح وبمنظور إسلامي ظاهر. أما أرسطو الحكيم فظلت مقالته في التدبير أقرب إلى الأخلاق العقلية اليونانية المثالية التي تتفق مع معيارية الأخلاق الإسلامية دون إعادة إنتاجها من منظور إسلامي صريح. إذ يقوم التدبير في الانتحال الأول على جلب المنافع ودفع المضار. وهي رؤية فقهية. وآلة ذلك العلم والعمل، والبداية بتأديب النفس قبل تأديب الغير. ويكون هذا بإعطاء الدين حقه وإشعار النفس حظها، ثم تعهد الإخوان بإحياء الملاطفة ثم تأدية الفروض لأهل المعاشرة والأعداء والصبر عليهم واتقاء شرهم، ثم إعطاء إخوان الإخوان شعبة من الحفظ والتذكير. ويكون ذلك بإسقاط المن على الناس ، وتعهد الملوك والنصحاء والصلحاء والأكفاء والضعفاء، ورعاية المعيشة بالإصلاح وحمايتها من الأعداء والحساد والمنافسين وذوي الشبهات، كل ذلك بمعونة الله وحسن تأييده، فله الشكر دائما إلى أبد الآبدين، وهي اللازمة الدينية الوحيدة في المقالة.
وهناك عدة رسائل من أرسطو إلى الإسكندر. وإذا كان أرسطو هو المعلم الأول، فليس من المعقول ألا ينشأ في بيت علم، وألا يكون أبوه نيقوماخوس رجل علم وتأليف. له كتاب أيضا من الصعب تسميته ووضعه في علم معين. يكفي فقط أن يكون كتاب نيقوماخوس والد أرسطو.
10
ومن ثبت مؤلفات أرسطو يتضح أن الكثير منها منحول مثل كتابه في رسم نيل مصر، ويسمى «فاري طونيل». ومكون من ثلاث مقالات. وليس من المعقول ألا يكتب أرسطو كتابا في وصف النيل كما فعل هيرودوتس من قبل في وصف مصر وجعلها هبة النيل.
11
وكتب أرسطو إلى الإسكندر: «إذا أعطاك الله ما تحب من الظفر فافعل ما أحب من العفو.» وفي حوار منتحل بين أرسطو ورسول الإسكندر بطريقة الحوار الأفلاطوني يظهر أرسطو الصوفي الذوقي وهو يحاور في العدل والحكمة والشجاعة والعفة، فلسفة أفلاطون في الفضائل الأربعة مركبة على حامل تاريخي وهمي.
12
وفي حوار بين أرسطو وأفلاطون قال له معلمه أفلاطون: ما الدليل على إثبات الله تعالى؟ وكأن أرسطو إبراهيم الخليل أو أحد المتكلمين أو الفلاسفة المسلمين. وأجاب أرسطو رمزا وكأنه أحد كبار الصوفية يستعمل لغة الذوق: «كنت أشرب فازداد ظمأ حتى عرفت الباري فرويت من غير شرب. وقد انفرد الله بطبع الخلق، وهو الموفق ولا قوة إلا بالله.»
13
وفي كتب التاريخ المتأخرة يكثر الاستشهاد بالمنتحلات مثل وصايا أرسطو الأستاذ للإسكندر التلميذ طبقا لعلاقة الشيخ بالمريد. وبطبيعة الحال أن يكون للانتحال سياقه النفسي والتاريخي. فلما اشتدت العلة على الملك فيليبوس وأوصى بالملك إلى الإسكندر، تدخل الأستاذ وكتب وصيته له تعينه على ملكه الجديد.
14
والوصية «وصية أرسطاطاليس إلى الإسكندر» أقرب إلى الانتحال اليوناني الأول منها إلى الانتحال الإسلامي الثاني، لأنها ما زالت تقوم على الأخلاق العقلية المثالية دون تدخل الدين المباشر إلا نادرا . وهي تقوم على النصح بالرغم من حدود النصائح. وتبدأ بنصيحة الملك قبل نصيحة الرعية، تغيير الحاكم قبل تغيير المحكومين. والأخلاق طريق السياسة وأسلوب الحكم مثل زهد الحاكم والسيطرة على انفعالاته مثل الغضب والغيظ والرغبة في الانتقام والشهوات. وتطالب بمجالسة الحاكم للعلماء واطلاعه على كتب الحكمة. وتحذره من الكذب، وتدعو إلى سرعة ائتلاف القلوب وإصلاح الوزراء والأعوان قبل إصلاح الأحوال. وتجنب العقوبات الرادعة حتى لا ينفر القلوب. فأهم صفة للحاكم هي الرحمة مع العدل، جمعا بين الأشاعرة والمعتزلة. وبالرغم من ذكر هوميروس في النص مما يدل على الجذر اليوناني في الانتحال، إلا أن الدين يظهر مشيرا إلى البيئة الثقافية الإسلامية للانتحال الثاني. فوصية أرسطو إلى الإسكندر مثل وصايا الله للبشر. فإن الله تعالى ذكره لم يرض لنفسه من الناس إلا بمثل ما رضي لهم به منه، مثل الترحم والتصدق والجود. فالأخلاق العقلية هي نفسها الأخلاق الدينية. وما يأمر به العقل يأمر به الوحي. وكلاهما الطريق لاحترام الذات ورضوان الخالق. تقوم الوصية على الجمع بين الدنيا والدين. فقد تأتي الدنيا بلا دين وهو الخسران المبين. تأتي ثم تدبر. ولا يقوم كلاهما إلا بالعمل الجاد والمثابرة وتأدية الأمانة. فالفعل الإنساني هو الذي يقيم الدنيا والدين، الكدح في الأرض والسعي فيها. لذلك وجب الاجتهاد ومشورة العلماء. والعدل ميزان الله عز وجل في أرضه. وبه يؤخذ حق الضعيف من القوي. فمن مال هذا الميزان في يده عم الجهل والظلم، واغتر بالله أشد الغرور. وتنتهي الوصية بسؤال الله عز وجل الذي اختار العدل لنفسه وأمر بالقيام عليه واستعماله في خلقه أن يهتم الإسكندر ويجعله من أهله والقوام به في عباده وبلاده. ومثال ذلك أيضا «رسالة أرسطاطاليس للإسكندر في السياسة» في الانتحال اليوناني الأول، المثالية العقلية الأخلاقية، وفي الانتحال الإسلامي الثاني ضمها إلى الدين فتتحد الحكمة بالشريعة. وهي رسالة في الأخلاق كأساس للسياسة. تحلل انفعالات النفس مثل التعجب والسرور كمدخل لتطبيق السنة أي القانون، صبا لمعاني الوافد في لغة الموروث. وتعتمد على أمثلة من فارس وملوكها مثل دارا. وتذكر بابل ويضرب المثل بلوفرغس وتطبيقه السنن في مملكته. فإقامة السنن صلاح للعالم. وهي أولى من استتباب الدول بالحروب. وتحتاج السنن إلى من يدبرها، إذ لا يكتفي الناس بتطبيقها طواعية، وتلك وظيفة الإمام بتعبير الفقهاء. وشرط الرئيس أن يكون باختيار الناس إجماعا وليس اغتصابا للملك. وإلا تنقلت الرياسات من ملك إلى ملك، ومن مدينة إلى مدينة ، كما هو الحال في بلاد آسيا وبلاد أور. فقد حكم ملك آشور حينا أهل الشام وسوريا، ثم خلفه حاكم من فارس. فالشرق موعظة للغرب، واليونان درس في الديمقراطية للفرس. ولا تصلح المدن إلا بصلاح الرؤساء، فالناس على دين ملوكهم. ومن سمات الملك الكمال، ليس في الشجاعة والعدل وأصناف الفضائل فحسب، بل في القوة والعدة أيضا، جمعا بين العدل والقوة كما هو الحال في شروط الإمام عند الفقهاء وإلا انهار الملك.
15
كما أنها في مدن لقذيمونة وأثيناس ببلاد اليونان. وللملك أعوان من أهل الصلاح، يملكهم بالعدل لا بالمال. يعمل لصالح الناس بالعدل وحسن السيرة. «إن العدول لا يخافون إلا الله.» وهنا يتم تعشيق الوافد في الموروث، وتبدأ آليات الإبداع في نقطة مشتركة هي العدل أساس الملك في الوافد، والعدل مخافة الله في الموروث. ويدعو أرسطو للإسكندر بأن يسعده الله ويمكن له في الأرض. والعدل محمود عند الحكماء والأنبياء. وينال الملك طيب الذكر بحسن السيرة والبلاء في الحروب وعمران المدائن، تلك فضائل اليونانيين. وأفضل ذكر حمية القلوب، وتلك فضيلة المسلمين. وينهي أرسطو الرسالة مودعا: «والسلام إليك وعليك.» ويستنكف الخوارزمي المتأخر أن يذكر اسم أرسطو ويسميه «أستاذ الإسكندر». ويذكر هذه النصائح السياسية في باب «في الأسباب المزيلات للدول في كتاب أسرار الوزارة». فالسلطان على أجساد الرعية وليس على قلوبها. وتطاول الملك على الرعية والجند يجعله معرضا للهلاك، ويذكره بالموت وأخلاق السباع، والفخر بما لا يزول، ويحذره من الإفراط في الشراب، فالسكر على الملك حرام. ويبين له أنه عند الغضب يعرف الرجال، وأن الشهوة في خدمة العقل في حالة إقبال الدولة، والعقل في خدمة الشهوة في حالة إدبارها، وكأن الأخلاق تتغير بتغير لحظات قيام الدول وسقوطها؛ أي في وقت ازدهار المجتمعات وانهيارها، الأحرار يخدمون الدولة في حالة نهضتها، والسفلة في حالة انهيارها، ويبقى الملك طالما حفظت العمارة أي العمران وقامت الشريعة أي النظام. ويتقرب الأخيار إلى الملك بالنصيحة. وكل مفاسد العمال والأمراء منسوب إلى الملك الذي يتحمل مسئولية كل شيء. تنتقل الوصايا من الأخلاق الاجتماعية إلى الأخلاق الفردية. فإصلاح النفس يأتي قبل إصلاح الغير. وتنتهي الوصايا بحكمة أن الأيام تهتك الأسرار.
16
إذا كانت كلها نصائح حسنة فلماذا تكفير الفلاسفة إذن؟ ولماذا يتم تكفير أفلاطون وهو أشد تدينا من أرسطو؟ يبدو أن روح العصر أحد عوامل الانتحال. فالعصر مهتم بالملك دون الفكر، وبالدولة دون الحكمة، وبالعمل دون النظر.
ومن الطبيعي أن يحاور الإسكندر قواده ويراسل أصدقاءه، فقد قال له قواده إن الله قد بسط ملكه وأظهر قدرته. فالإسكندر صورة في أذهان أصحابه، كما أن المسيح صورة في أذهان الحواريين.
17
ومن آداب الإسكندر قوله لأصحابه: «والله ما أعد هذا اليوم من أيام عمري في مملكتي.» وكأنه يعبر عن قسم إسلامي. ويكثر من استعمال اللهم، مثل: «اللهم إلا أن يكون العمل قد شمله.» ويدعو معهم إلى أن التمسك بطاعة الله أحسن من الوقوف على المعصية.
18
وقد تم انتحال وصايا أم الإسكندر إلى ابنها وخوفها وجزعها عليه من أهوال الحرب على نمط جزع أم موسى على طفلها موسى بعد أن ألقته في اليم:
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ، وجزع يعقوب على فقدان ابنه يوسف. وهناك رسالة الإسكندر إلى أمه ورسالة أرسطو أيضا إليها، تعبيرا عن البر بالوالدين وحسن معاملتهما.
وتبرز الألقاب في عملية الإبداع باعتبار أن الألقاب أوصاف مثالية للمبدع، مثل وصف أم الإسكندر ابنها بالضعيف المتأله بناء على أنواع الحكماء عن السهروردي أستاذ الشهرزوري المتوغل أو المتوسط أو الضعيف في التأله والبحث معا أو في أحدهما دون الآخر على درجات متفاوتة.
19
وأعطي الإسكندر لقب ذي القرنين حتى يتم توحيده مع ذي القرنين المذكور في القرآن. وعندما يراسل الإسكندر أمه يكتب : «من عبد الله الإسكندر.» فليس من المعقول أن نبي الله ذا القرنين لا يكون اسمه عبد الله. ويدعو في رسالته الله: «رب أنلني رضاك، فكل ملك باطل سواك.» ويزينها ببيت الشعر الصوفي، ويدعو في النهاية للجميع بالتوفيق.
20
وتشبه قصة ولادة الإسكندر ولادة إسماعيل بعد عقم أبيه، وولادة مريم بعد عقم زكريا، وظهور حية لأبيه في المنام تخبره بأنه سيكون له ولد: «لقد وهب الله لك غلاما يحيي ذكرك ويقوم به نسلك.» وقد من الله تعالى على هذا العصر به. وقد رد أرسطو على فيليبوس والد الإسكندر حامدا الله الذي جعله أهلا لما آتاه من العلم. وقد عرف الإسكندر ببعض الإنذارات أنه سيموت في رومية المدائن، ومات فيها كما يتنبأ الأنبياء. ولماذا لا يتنبأ وهو ذو القرنين. تدور الشائعات حول موته كما يحدث في مولد ووفاة كل زعيم حول قتل خدمه له بالسم.
21
وفتوحات الإسكندر وأقواله وتحدياته ومواعظه لأعدائه وفي مقدمتهم دارا ملك الفرس الذي فرض الجزية على اليونانيين بعد هزيمتهم، أعطت الفرصة للإبداع الحضاري وتخيل رسائله المدونة والشفاهية إلى الملوك. فكتب إلى دارا: «من الإسكندر بن الفيلسوف إلى دارا بن دارا.» فهو ابن الفيلسوف أرسطو، بنوة مجازية وليست حرفية. ويقرؤه السلام: «سلام الله»، ويحثه على طاعة الله والتوحيد، وترك عبادة الأوثان والشمس والنار.
22
ولا يكون الانتحال فقط عند اليونان والمسلمين جمعا للحكمة والشريعة، بل إنه انتحال يمثل حكمة الشعوب، لا فرق بين يونان وفرس، مسلمين ونصارى ويهود. فالعقل هو الجامع بين الكل. مثال ذلك «مواعظ الإسكندر».
23
وهي مواعظ في صيغة نوادر وحوارات طبقا للأنواع الأدبية في الشرق القديم. تبدأ بحوار أرسطو والإسكندر، ثم يضم إليهما أفلاطون وسقراط من اليونان، وبزرجمهر وكسرى من فارس، وداود من الأنبياء. ويأتي رسول أرسطو إلى الإسكندر ويصف حاله بعد سؤال الملك عنه. فهو جد في الاجتهاد، لا تغمض عينه ولا يهدد بلسانه. أنار قلوب الرعية بعد مغادرة الإسكندر فاتحا إلى بلاد فارس، وأزاد فيها الحكمة وأمات الجهالة. لباسه الظاهر يدل على الزهد في الدنيا، ولباسه الباطن الفكر الطويل والتعجب الدائم من غرور أهل الدنيا بها، ووثوق أهل التجربة بها. وأشد عجبا صراعها والعائدون إليها والفرحون بغناها على عكس الحكيم الذي لا يفقد شيئا لأنه لا يملك إلا ما لا يمكن فقده وهو الحكمة. الرحمة لكل إنسان والإحسان إليه. بعد أن غادر الإسكندر البلاد انقلب الناس من علم إلى جهل، ومن عزة إلى ذل. ضعفت العقول، وضمرت النفوس.
وتلك الأيام نداولها بين الناس . وقاوم العلماء هذه الحالة من الانهيار، ولكن الناس لا يرغبون فيما يريد العلماء، والعلماء لا يقبلون ما يريده الناس. فحزن الإسكندر على حال الناس. وتنتهي الموعظة بنادرة ثانية. فبعد أن فتح الإسكندر مدينة، سكن أحد أولاد الملوك المقابر، وحاول أن يميز بين عظام الملوك وعظام العبيد فوجدها سواء. فأراد الإسكندر أن يكافئه على حكمته، فطلب الحكيم حياة لا موت بعدها، وشبابا لا هرم معه، وغنى لا فقر فيه، وسرورا لا مكروه فيه. فاعتذر الإسكندر وأطلق الحكيم ليبحث عن مراده عند أحد سواه اعترافا بعجزه. وتنتهي المواعظ بأقوال متفرقة لأفلاطون عن الحكمة، ولسقراط عن السيطرة على الشهوات، ولبزرجمهر عن الرذائل. ويظهر البعد الديني على استحياء في قول أفلاطون بأن الظالم والضعيف لا يجد نصيرا له إلا الله، وتعويل بزرجمهر على القضاء والقدر، ودعوة داود إلى الآخرة. (2) سر الأسرار
أما «سر الأسرار»، تأليف يوحنا بن البطريق (205-210ه)، المنسوب إلى أرسطو، فإنه نموذج آخر من نماذج الانتحال الموغل في التصور الديني للعالم الإسلامي، حتى ولو تمت التحتمية بأرسطو اليوناني، أرسطو التاريخ. وللكتاب روايتان؛ مغربية ومشرقية. الأولى شائعة عند يهود إسبانيا، والثانية بها إضافات سحرية وعلمية وطبيعية. شرحه روجر بيكون بتوسع الغرب في التصرف في ترجمته حذفا وإضافة.
24
وتختلف مخطوطات الكتاب طبقا لقوانين الرواية من حيث تطورها ابتداء من نواة النص الأولى، وكلها تكشف عن الانتحال كإبداع حضاري ينسب إلى أرسطو ويوجه إلى أحد ملوك اليمن وبعض إلى كسرى أنوشروان ووزيره بزرجمهر في السياسة. بل إن صاحبه المزعوم وهو أرسطو قد اختلف في موته بين ميتة طبيعية وبين رفعه إلى السماء في عمود من نور. ولقد اهتم أرسطو بالحلال كنسبة والسياسات المرضية والعلوم الإلهية. ولهذا عده العديد في عداد الأنبياء. وفي كثير من تاريخ اليونانيين. ولقد أوحى الله إليه: «أن أسميك ملكا أقرب منك إلى أن أسميك إنسانا.» فقد يكون أرسطو نبيا بعثه الله إلى يونان:
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ،
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . وله غرائب وعجائب يطول ذكرها.
25
أما المؤلف الحقيقي يحيى بن البطريق فقد أرسله الخليفة المأمون في بعثة إلى السريان لتعلم السريانية كما فعل محمد علي في مصر في القرن الماضي، ويوصف البطريق بأنه المتطبب. وله كتب معتبرة في فن المفردات وعلم الطب وغيرها، وكان مسيحيا.
ولمزيد من التشويق والإخراج المسرحي تبين المقدمة كيف تم العثور على الكتاب بعد التنقيب وإعمال الحيلة في هيكل الشمس، وكيف تمت ترجمته من اليوناني إلى اللاتيني ثم إلى العربي لبيان مدى الجهد في الحصول عليه. لم يدع هيكلا من الهياكل التي أودع فيها الفلاسفة أسرارها إلا وذهب إليه، ولا عظيما من عظماء الرهبان الذين عرفوها وظن أن مطلبه عندهم إلا قصده، حتى وصل إلى هيكل أسقليبيوس الذي بناه لنفسه، فظفر به بناسك متعبد مترهب ذي علم بارع وفهم ثاقب. فتلطف معه وأعمل الحيلة حتى أباح له الاطلاع على مصاحف الهيكل المودعة فيه، فوجد المطلوب، وكأن الغاية تبرر الوسيلة. وهو السر الذي عرفه الحكماء الثمانية الذين عرفوا العلوم الخفية التي عرفها أخنوخ بالوحي، وهو هرمس الأكبر الذي يسميه الروح أبهجمير وهو إدريس عليه السلام. وإليه تنسب كل حكمة علوية. وهرمس المثلث العظمة وهو صاحب الحكمة اللدنية. ولمزيد من إضفاء الجو السحري توضع حروف أبجدية مرتبة ترتيبا عموديا توحي بسر الأسرار. وأحيانا تعطى بعض العبارات السحرية مثل ثمانية وتسعة، والتسعة تغلب الثمانية، الثمانية والثمانية، والمطلوب يغلب الطالب، باب تسعة، تسعة وتسعة الطالب يغلب المطلوب. وأحيانا تضاف حروف سريانية مسيحية لإضفاء جو مسيحي عام على المخطوط. وقد ترجمه من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي يحيى بن البطريق الترجمان رحمه الله تعالى. وأحيانا يذكر من اللسان اليوناني إلى اللسان الرومي ثم من اللسان الرومي إلى اللسان العربي، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويبدأ الانتحال باليونان كتاريخ، والقصد الإسلام كحضارة. اليونان وسيلة والحضارة الإسلامية غاية.
26
وأحيانا يختصر الكتاب كمقدمة لإضافة كتب أخرى من نفس النوع. فالمهم تيار العجائب الذي تمثله النصوص وليس نصا بعينه، مثل إضافة عجائب المخلوقات للقزويني، ونصوص أخرى مشابهة من الطبيعيات والتصوف والأدب والفلك. وأحيانا يضاف الشعر في البداية وفي النهاية في حضارة ثقافتها الشعر قبل الوحي وبعده. ويضم مخطوط آخر رسائل لاهوتية ومسيحية. وليس الحذف والإضافة قاصرين على الترجمة العربية، بل في الترجمة اللاتينية أيضا.
وتظهر ثقافات الشعوب السياسية. فعند الروم، لا عيب على الملك إذا كان لئيما على نفسه سخيا على رعيته. وفي الهند، اللؤم على النفس وعلى الرعية صواب. وعند الفرس، الملك السخي على نفسه وعلى رعيته مصيب. ويجمع الكل على أن السخاء مع النفس مع اللؤم على الرعية فساد. وتظهر صلة الدين بالسياسة. فالملك الذي يجعل الدين خادما للملك فإنه لا يستحق الملك، والملك الذي يجعل الملك خادما للدين فهو يستحق الملك. «ومن استخف بالناموس قتله الناموس.» وأول واجب على الملك رعاية حدود الله، واتفاق قوله وعمله، والزهد في الدنيا. ومثله يكون القضاة والصالحون والعاملون والفقهاء والمتدينون والأئمة. ولا تكون طاعة السلطان إلا بأربعة: الديانة والمحبة والرغبة والرهبة. والسلطان مثل الغيث يسقي به الله الأرض، فيجب له الشكر على النبات وعلى الشتاء والصيف.
وتضاف الزيادات الدينية كلما استمر الانتحال وزاد مؤلف أو ناسخ أو قارئ أو مالك. فمن الذي لا يود أن يكون له شرف الزيادة في العمل الجماعي؟ ويساهم في ذلك الحكماء الصوفية والأولياء ما دام الكتاب يتعلق بسر من الأسرار. وتضاف الصلوات وأدعية الشفاء وعلاج الأمراض وأيام السعود والنحوس وأشعار ينسب بعضها إلى الشافعي وأسماء عقاقير وفائدة تحسين الصوت لقراءة القرآن علاجا للنفوس والأبدان. وأحيانا يسبق الكتاب فوائد طبية تنفع المكسح مما يدل على أنه تحول إلى بركة كالبخاري. وتضاف نقرات من كتاب «الإرشاد»، وفيه دواء نافع إن شاء الله تعالى لعلاج النسيان وقلة الحفظ ووكة الأشياء والحمق والرعونة ومداراة العشق. ويظهر القصاص منسوبا إلى هرمس. فإذا قتل المخلوق مخلوقا مثله بغير حق ضجت الملائكة إلى بارئها. فإذا قتل المظلوم لا تزال الملائكة تدعو على الظالم حتى يؤخذ بدمه إلا أن يتوب. يعتمد على ما يشبه قصص الأنبياء، ممالك أيناخ وسعور وهنانخ الذين هلكوا بنكثهم أيمانهم مثل عاد وثمود.
27
وتبين بداية المخطوطات ونهاياتها القصد من الانتحال وكيفية إخراجه وتكوينه. فالانتحال مستمر زيادة ونقصانا. وكلها تدل على أن الانتحال إبداع حضاري. فمن سبعة عشر مخطوطا يمكن تلمس العناصر الآتية ودون حاجة إلى عرض مخطوط مخطوط. اسم الكتاب «كتاب السياسة في تدبير الرياسة المعروف بسر الأسرار»، فله اسمان؛ اسم ظاهري واسم باطني. ومؤلفه أرسطاطاليس تلميذ الفاضل أفلاطون دون تفضيل لأحدهما على الآخر لتلميذه الملك المعظم الإسكندر بن فيلبس المعروف بذي القرنين. فأرسطو هو معلم الإسكندر؛ ومن ثم فالكتاب وصية من الشيخ إلى المريد. ويظهر التوجه الإسلامي في استعمال اللقب القرآني «ذي القرنين». وقد صنعه الأستاذ للتلميذ حين كبرت سنه وضعفت قوته عن الغزو معه والتصرف له. وكان الإسكندر قد استوزره وارتضاه واستخلصه واصطفاه. وتذكر عبارات مباشرة لأرسطو مثل: «يا إسكندر، كتابي هذا كاف فيما سألته، وهو يقوم لك مقامي إذا تصفحته وفهمته، فاجعله تجاه فكرك ... وتعلو على جميع ملوك الدنيا والله صنيعتي عليك وهو حسبنا ونعم الوكيل.» وفي آخره: «أكملت لك يا إسكندر ما رغبت حسبما شرحت ووفيت لك بكل ما حق لك الوفاء فكن به سعيدا، موفقا إن شاء الله تعالى.» وبلغ الإسكندر حسن رأيه واتباع أمره بعد أن ظهر على مدن الأرض حتى دانت له الأمم عربا وعجما وكتب له أرسطو عدة رسائل. هذا بالإضافة إلى بعض التطهر مثل: «يا إسكندر لا تمل إلى النكاح فإنه من خواص الخنازير!» يا إسكندر احفظ هذه النفس الشريفة العلوية. وينافس المسيحيون، وهم أهل السر ومبدعو الأسرار، المؤلف المزعوم ، ويجعلون مؤلف الكتاب الأب المعظم مار إيليا مطران نصيبين، نشره قسطنطين باشا في القاهرة!
وتجتمع العلوم كلها؛ الطب والجغرافيا والسياسة والأخلاق، في النفس في فلسفة إشراقية واحدة تظهر فيها قدرة الله على الشفاء من الأمراض عن طريق الأعشاب الطبيعية والفصد والحجامة. وهناك ارتباط بين الطب والفلك؛ بين الطب الجسمي والطب الروحاني، الدواء للبدن والموسيقى للنفس. ويتجلى ذلك في علم الفراسة، التقابل بين الصفات الجسمية والصفات النفسية. ويصب ذلك كله في علم الأخلاق والتربية والسياسة للملوك والعوام على التقشف وعدم الإفراط في الجماع أو نكاح المسنات، وأهمية العسل للشفاء. وهي نصائح أقرب إلى الملوك منها إلى العوام. الفلسفة هي ملك الشهوات والسيطرة عليها.
ويتجلى الانتحال في الحالة الثالثة في صورة العدل. فالعدل صفة كريمة من صفات الباري جل اسمه تعالى ذكره. العدل صفة إلهية، قامت عليه السماوات والأرض، وبه بعث الأنبياء المطهرون. وهو صورة العقل الذي وصفه الله في أعز الخلق إليه. وهو قسمان؛ باطن وظاهر. الباطن اعتقاد الحكيم في الصانع وإتقان مصنوعاته. لذلك يتشبه الملك بحكمة الباري وانتقاله فيما يليه من الخاصة والعامة مثل عدل الله وحكمته في النفس. والعدل الظاهر هو ترجمة للعدل الباطن في الدولة بهذا الشكل الثماني.
28
ويمكن أيضا أن يرسم على النحو الآتي:
ويمكن أيضا أن يترجم بالمستطيل الآتي:
وهي عبارات ثمانية وليست سبعة من الصعب معرفة البداية. كل نهاية مقطع بداية المقطع التالي على النحو التالي: (1)
العالم بستان سياجه الدولة. (2)
الدولة سلطان تحجبه السنة. (3)
السنة سياسة يسوسها الملك. (4)
الملك راع يعضده الجيش. (5)
الجيش أعوان يكفلهم المال. (6)
المال رزق تجمعه الرعية. (7)
الرعية عبيد يتعبدهم العدل. (8)
العدل مألوف وهو صلاح العالم.
وقد أصبح كالأحجبة للتبرك وليس نصائح للاعتبار. نقل عن الإمام علي مثلها: لا ملك إلا الرجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا من رعية، ولا رعية إلا بالعدل، لا عدل إلا بالسياسة الشرعية، وبهذا يدوم الملك.
29
ويصبح النص المنتقل حاملا حضاريا لكل الهموم الممكنة للمنتحلين طبقا لمللهم. فإذا كان مسيحيا تذكر أيام الراعي، ومقارنة الأشهر العربية بالأشهر الرومية والشهور القبطية بالإضافة إلى فصل فيه حكايات حكمية في السياسة الملوكية ما دام الكتاب في السياسة، بالإضافة إلى بعض العلوم الفلكية، مثل علامات القوس المشهور بقوس قزح. فالفلك ميدان خصب لخيال المبدع والذي يجمع بين العلم والفلسفة والدين. به بعض الدهاء وحسن التقدير والحكم الدنيوية ومعرفة بالطبيعة الإنسانية.
30
يعرض لاحترام الناموس، من استخف بالناموس قتله الناموس. والعدل صفة كريمة من صفات الباري جل اسمه. به قامت السموات والأرض. وهو صورة العقل الذي وضعه الله عز وجل في أحب خلقه إليه. السياسة أخلاق يضمنها الله.
والدعوة إلى السلطان هم غالب على الجميع، فلا علم إلا بتشجيع سلطان وتأييد منه، نثرا وشعرا. ويتوجه نفس المدح شعرا لناسخ الكتاب. فبنية المدح واحدة، لله والسلطان والناسخ، من إحساس بالخطورة على الدولة والدعوة لها بطول العمر والبقاء.
31
وتختلف الملل في تصور العدل. ويصور النص ذلك في حكاية المجوسي واليهودي؛ الأول راكب والثاني راجل، يعتقد اليهودي أن في السماء إلها مستحق العبادة ويطلب منه الخير له ولمثله. ومن يخالفه في دينه وملته حلال دمه وماله وعرضه وأهله وولده، وحرام نصرته ومذهبه ونصيحته ومعاونته والرحمة له والشفقة عليه.
32
ويريد المجوسي الخير لنفسه ولأبناء جنسه ولا يريد شرا لأحد من خلق الله سواء كان على دينه أو على دين آخر، ويرفق بالحيوان، وينأى عن الجور على الإنسان والحيوان بالآلام، ويود الخير للجميع. ثم يخون اليهودي المجوسي عمليا بطلب ركوب راحلة المجوسي تطبيقا لحبه للناس. ولما طالبه المجوسي بإعادتها رفض اليهودي تطبيقا لدينه حتى هلك المجوسي ونجا اليهودي! مما يدل على تفضيل المجوسية على اليهودية. وانتقم الله من اليهودي وكافأ المجوسي بالملك محققا لقانون العدل الشامل. ففي السماء إله عادل لا تخفى عليه خافية من أمر خلقه، وقد بدأت البشرية بقتل قابيل أخيه هابيل مما يدل على الغدر بالأصحاب، وكأن الشر مغروز في طبائع البشر. فهل كان أرسطو على اطلاع بالحضارة الفارسية؟
وتبدو خصائص الشعوب، فارس والهند والروم واليونان. ففي كتاب الهند: «ليس بين أن يملك الملك رعيته أو تملكه إلا حزم أو توان.» أي الأولوية للملك على الرعية. وأيضا: «لتكن الدية في النفوس أمضى من السلاح في النهج.» مما يدل على أهمية القوة المعنوية على القوة العضلية، وأن عدل السلطان أنفع للرعية من خصيب الزمان. وسلطان عادل خير من وطيء وابل. وقد حاولت أم هندية تسميم الإسكندر لمعاداته المرأة، والأفاعي الهندية تقتل بالنظر . وقد نسبت السيوف القاطعة إلى الهند. أما الروم والسريان فعندهم أن الملك والعدل لا غنى لأحدهما عن الآخر. ولأسقليبيوس اليوناني فصل في السلطان. فخير السلاطين من أشبه النسر؛ حوله الجيفة لا من أشبه الجيفة حولها النسور. وكانت الفرس تدبر أمرها بالنغم والأشعار.
وفي مقارنة عامة لخصائص الشعوب، تختلف فيما بينها في الدولة لنفس المرض. فمذكور في الكتب القديمة أن ملكا جمع أطباء الهنود والروم والفرس. فاختار الرومي جرعة ماء حار عند كل غذاء، واختار الفارسي حب الرشاد، واختار الهندي الإهليلج. الهنود أصحاب خدائع وتهاويل ولا بأس لهم، والروم أصحاب أذهاب ورهج ولا ثبات لهم، والصقالبة أصحاب عزائم ولا قوة لهم، والديلم أصحاب صدمات وفيهم ضجر ولا بأس لهم، والترك أصحاب بأس عظيم وجهل كثير ولكن لهم في الحروب هيبة وموقع، فالكثرة منهم في الجند أفضل.
ويجمع النص بين نظرية في الخلق أو الفيض ونظرية في السياسة. تتضمن أسرارا إلهية لمعرفة حقيقة العقل وكيف وضعه الله في العباد. وهو أول شيء اخترعه الباري جل جلاله، جوهر بسيط، روحاني في غاية التمام والكمال والفضل. فيه صور جميع الأشياء. ومن هذا الجوهر خرجت النفس الكلية. وتظل في الرحم مدة قدرها الله بتسعة أشهر، وهي النفس الجسمانية أو الحيوانية. فخلق الإنسان بإذن الله تعالى. ولم يخلق الله أشرف من بني آدم، ولا جمع في حيوان ما جمع فيه صفات الإنسان. والقمر أعظم دليل في الأسفار. وهناك تقابل بين البدن والدولة، فالحواس الخمس في الدولة. ولكل حواس خصال مثل خصال الوزير. ولا يستوزر الملك غير الإلهيين المعتقدين بالربوبية. ولا يثق إلا بالإلهيين الذين يدينون بالناموس وينفذون الشريعة . أما الملك فإنه يقتدي بالله في جميع الأمور، ويستخير الله فيما يقرر. ولا ملك إلا لمن لا يغنى، ولا سلطان إلا لمن انفرد بالحكمة العظمى.
ويبدو الغطاء الديني في عبارات البسملات والحمدلات والصلوات في البداية والنهاية والترحم على ذي القرنين ومن الله ذي الجلال على كل الأحوال، والصلاة والاستغفار والتوبة والإنابة والصوم والصلاة والقرابين. ولا تزال الملائكة تدعو عليه عند كل تسبيح واستغفار. وتذكر كثير من العبارات الدينية والدعوات مثل: إن شاء الله، وفقكم الله. فالله هو العالم الذي ينقل الأسرار ويعصم الناس برحمته ويرتضي من يشاء. يلجأ الناس إليه ويستغيثون به فيكفيهم الله. بل ويتحدث عن الصحف الإلهية. وكل شيء يتم في هذا العلم في الفلك وفي جسم الإنسان بإذن الله، والرياح بين السماء والأرض بمشيئة الله. لم يخلق الله شيئا في الأرض عبثا. وإذا علم الناس بالحوادث قبل وقوعها فذلك من الله بالدعاء والتفرغ له والاستغفار والتوبة والإنابة والصوم وسؤال الله عز وجل. الله هو الذي وضع المزاج في العناصر الأربعة، وأعلمها للأنبياء المصطفين ثم استنبطها الناس بالتجربة في حكمة الهنود والفرس والروم ويونان، وأعلم الناس بها اليونانيون. والله هو الذي يرقق الأخلاق. ولأرسطو منتحل آخر في الأغذية والأدوية للخواص والعوام.
33
وينتهي الكتاب كما ابتدأ بعون الملك الوهاب والحمد له وحده والصلاة على من لا شيء بعده وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. ويظهر القرآن السحر مثل: «هذا وفق سلام قولا من رب رحيم» لإبطال السحر من قراءة سورة الصمد والمعوذتين كل منها سبع مرات دون سؤال عن كيفية اتفاق ذلك مع أرسطو المنطقي الطبيعي، العقلي التجريبي، وتضاف قوائم بأسماء الأفلاك والسحرة والبخور.
34
بل إن الناسخ أيضا يضيف البسملات والحملات والصلوات من عنده، ذاكرا مذهبه الفقهي ونسبه طالبا المغفرة له من الله ولمشايخه ولجميع المسلمين والمسلمات مع ذكر تاريخ النسخ ثم التوكل على الله. وبقدر ما يتم تعظيم السلطان، يتم تحقير الناسخ «أفقر عباد الله وأحوجهم إلى لطف ربه الخفي. هو العبد الفقير الذليل المعروف بالعجز والتقصير راجي عفو ربه القدير مع ما ليس المغفرة له ولوالديه وللمسلمين آمين.» وقد يضاف الموطن والمذهب الفقهي والطريقة الصوفية. كما يضيف المالك من عنده أحواله واسمه ولقبه وإيمانه طالب رضا الله ومغفرته. ويحقر نفسه كالناسخ «الحقير شنودة»، ومكانه في مصر المحروسة، طالب العفو عن سيئاته مستشفعا بالست مريم العذراء البتول وكافة الشهداء والقديسين، آمين آمين.
35
وكتاب «الطلسمات» لأرسطاطاليس الفيلسوف وهو الموسوم بكتاب الأسرار، ترجمة إسحاق بن حنين، كتاب منحول، صغير الحجم (لا يتجاوز صفحتين)، والدليل عليه الموضوع نفسه الذي يكشف عن بيئة الانتحال وليس بيئة أرسطو، بالإضافة إلى الحديث عن الله عز وجل ونهايته الإيمانية، «والله جل وعز واهب منحته وولي حكمته، لا إله إلا هو الكبير المتعال.»
36
خامسا: الانتحال الأفلوطيني (اليوناني)
وكتاب «إيضاح الخير المحض» لأبرقلس نموذج آخر للنصوص الأفلاطونية المحدثة بين النقل والإبداع، بين الترجمة والتلخيص والشرح والانتحال والتأليف. له أسماء عديدة مثل «كتاب الخير الحصي»، «كتاب العلل». وهي أسماء كلها من نص المضمون تضعها الحضارة إبداعا لا نقلا لأنه يبحث في فيض الخير الأول وفي خروج الموجودات عن العلة الأولى.
1
ولا يهم من مؤلفه التاريخي. فلا يوجد لعمل جماعي ينتجه روح العصر وتبدعه روح الحضارة مؤلف تاريخي واحد. المؤلف هي الفلسفة الإشراقية التي عبر عنها أفلوطين وأبرقلس والفارابي وابن سينا والشرق القديم والفلسفة اليهودية (فيلون) والفلسفة المسيحية. وهو نفس مؤلف «العلل الأولى والثواني والفيض الصادر عنها». وهو نفس مؤلف «رسالة النفس»، فالروح تبدع أكثر من نص وتنسبه لأكثر من مؤلف نظرا للإبداعات المتكررة وضرورة نسبتها إلى أشخاص. المهم الفكرة والموقف وليس الشخص والمؤلف.
2
وتتسم بالأسلوب العربي التلقائي السليم، بل وأجمل لغويا من النصوص التي يؤلفها أشخاص بأعينهم مثل الفارابي وابن سينا. فالتأليف الجماعي من روح الحضارة أكثر إبداعا من التأليف الفردي. ويبدو ذلك على مستوى جماليات التعبير. وقد جرى اصطلاح «الخير المحض» على أقلام الفلاسفة المسلمين قبل القرن السادس الهجري.
3
ولا يهم اللفظ «الخير» أو «العلل» أو العبارة «الخير المحض»، «الخير الأول» أو «إيضاح الخير المحض». فالمهم هو الموضوع الفلسفي الواحد كماهية شعورية مستقلة بصرف النظر عن مؤلفيه. المهم هو الموقف الحضاري والتشكل الكاذب كعملية حضارية لا تاريخية. فهل ترجمت عناصر الأثولوجيا أو الطبيعيات لأبرقلس إلى العربية؟ هل أضيف إليها تفسير فادن للنفس؟ أما الفارابي فلم يتعود ذكر مصادره باستثناء أرسطو وأحيانا أفلاطون، سواء كان لدفع الأخطاء عنه بتهمة نقل الوافد أم لعملية التمثل الحضاري للفكر بصرف النظر عن الأشخاص. وربما ذكره الفارابي ثم ضاعت بعض كتبه التاريخية التي يذكر فيها أخبار المدارس الفلسفية باعتباره مؤرخا نهاية لمرحلة النقل والشرح والتلخيص وبداية لمرحلة التأليف والإبداع. وفي «إلهيات الشفاء» العبارة مألوفة مثل الواحد الأول كنتيجة لعملية التشكل الكاذب وليس كحادثة تاريخية حول كتاب الخير المحض، خاصة أن ابن سينا يمثل مرحلة الإبداع في الذروة من حيث الصمت عن المصادر، والمؤلفات وأسماء الأعلام ونهاية تشخيص الفكر وبداية الفكر اللاشخصي. يكتفي ابن سينا بذكر الأوصاف مثل فاضل المتقدمين (الإسكندر)، أحداث المتفلسفة الإسلامية (أبو الحسن المعامري، وأبو الخير)، والكل مشائي. فالأولى ألا يذكر أفلاطونيا صريحا مثل أبرقلس ولم يذكره ابن رشد، ولم يشر إليه لأنه أدرك بفكره أنه منحول. وأبرقلس فيلسوف وثني أفلاطوني محدث لاقى إعجاب العرب، فالفيلسوف ليس بدينه بل بفكره. بعض النصوص له والبعض منحول عليه. منها ما نسب إلى أفلاطون، ومنها ما نسب إلى هرمس، ومنها ما نسب إلى أرسطو.
4
ولم تنسب نصوص الأفلاطونية المحدثة إلى أصحابها الحقيقيين لأن الحضارة ليست مؤرخا ناقلا بل متمثلا مبدعا. ولا يعني ذلك أن أثرها قد خف، بل إن المنحول قد يعظم أثره أكثر من الصحيح، بدليل أثر ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية. ولم تحدث المؤلفات الصحيحة لأفلاطون أثرا مشابها إلى المؤلفات المنحولة، المنسوبة إليه خطأ.
وفي كل نص منحول تظهر العناصر المكنونة للروح الأفلوطينية: الله والعقل والنفس والمادة. كما تحدث عمليات التشكل الكاذب، التعبير عن التصور الإسلامي للعلم من خلال هذه العناصر، والتعبير عن الإيمان الديني في تصور فلسفي حرصا على التنزيه والمفارقة الطبيعية. فالله هو الإنية المحضة، الواحد الحق ، الخير المحض، العلة الأولى، الهوية الأولى المبتدعة، الجوهر القائم بذاته غير المكون، لا يفيد ولا يتجزأ ودائم، العلة الأولى ثابتة قائمة بقوانينها المحضة، مستغنية بنفسها وموجودة، توجد في جميع الأشياء. القوة الإلهية فوق كل قوة عقلية ونفسانية وطبيعية. والفعل الإلهي شامل وممتد.
5
وهذه كلها اجتهادات تقريبية، فالعلة الأولى تند عن الوصف، ليس كمثله شيء، لا تستمد نورها من نور آخر، فوق كل اسم يسمى، ولغتها هي لغة النور والاستنارة. لذلك كان الإشراق هو الطريق إليها، إشراق الحقائق في النفس فيما وراء التصور واللغة والرسم. الخير يملأ العوالم كلها، ويفيض من الخير المحض. وهو المدبر الإلهي، الله تبارك وتعالى. العقل أكثر تشبها بالله. كل عقل إلهي يعلم الأشياء بعقله ذاته، ويدبرها بعقله أنه إلهي. فخاصة العقل العلم. وتمامه وكماله بأن يكون عالما. والمدبر هو الله تعالى. وكما يفيض الله الخير على الأشياء يفيض العقل العلم عليها، ولكن التدبير الأول لله والتدبير الثاني للعقل. المدبر الإلهي هو الله تبارك وتعالى، والعقل يتشبه به في التدبير.
يستعمل النص الوافد لتركيب تصور الموروث. فالنصوص الأفلوطينية وسيلة لإثبات الوحدانية على مستوى التصور الخالص دون ما حاجة إلى دليل نقلي. وهذا هو طريق التشكل الكاذب في جدل اللفظ والمعنى والشيء من أجل الوصول إلى المركز أو القلب أو القمة، ثم تركيب الوافد في الموروث وإقامة الموروث على التصورات الجديدة للوافد بحيث يتم ابتلاع الوافد في الموروث من حيث المادة وابتلاع الوافد للموروث من حيث الصورة.
6
كتاب «الإيضاح لأرسطوطاليس في الخير المحض» إذن كتاب منحول على أرسطو، وهو ما عرف أيضا باسم «كتاب العلل» نظرا لتركيزه على موضوع العلة الأولى، وهو نوع من التنزيه العقلي أو الإيمان الفلسفي والمفارقة الطبيعية. وهي قريبة من الإنية المحضة، الواحد الحق. والعلة الأولى هي الحيز المحض. وكل وحدانية مستمدة من وحدانيته. وكل نفس لها فعل إنساني وفعل عقلي وفعل إلهي. والفعل الإلهي يدير الطبيعة بالقوة، وهي قوة ذاتية وعقلية وإلهية. والقوة الإلهية فوق كل قوة عقلية ونفسانية وطبيعية. والعقل نوعان: عقل فقط لا يقبل الفضائل إلا بتوسط، وعقل إلهي يقبل الفضائل عن العلة الأولى مباشرة. ويعلم العقل الإلهي الأشياء ويدبرها. والمدبر هو الله تبارك وتعالى، والعقل هو المبتدع الأول الأكثر تشبها بالله. ويفيض بالله تبارك وتعالى على الأشياء. ويتقدم الله تبارك وتعالى العقل بالتدبير. وكما يبدأ الكتاب بالبسملة والتوفيق بالله ينتهي بالحمد له والصلاة على محمد وآله والسلام إلى يوم الدين. يتم إذن تعشيق أرسطو في الإسلام، والعقل الأول أو العلة الأولى مع الله في منطق التشكل الكاذب حتى يمحى الفرق بين أرسطو والإسلام. لا يكفي التنزيه العقلي لحساب اليونان، بل يضاف إليه الإيمان الفلسفي لحساب الإسلام.
سادسا: الانتحال الأفلوطيني (الإسلامي)
وأفلوطين ليس بشخصيته، بل بالتيار الذي يمثله، حكمة الإشراق، وهو التيار الموجود داخل الحضارة الإسلامية في الفلسفة الإشراقية عند الفارابي وابن سينا، وحكمة الإشراق عند السهروردي. لذلك كان من السهل نسبة «رسالة في العلم الإلهي» إلى الفارابي لأنه أقرب الفلاسفة المسلمين لروح أفلوطين، الشيخ الإسلامي والشيخ اليوناني سيان.
1
وهي نصوص منتزعة من تاسوعات أفلوطين من الخامس كما تدل على ذلك مصطلحاته. مترجمها هو نفس مترجم التاسوعات عبد المسيح بن ناعمة الحمصي المعاصر للكندي. فالفارابي هو الشيخ الفاضل الفيلسوف العالم الزاهد الذي فاقت ألقابه الصوفية ألقابه الفلسفية. فلا فرق بين نصوص أفلوطين ونصوص الفارابي نظرا للاتفاق بين الشيخين، الإسلامي واليوناني. وهو الذي نسب إليه أيضا كتاب «إيضاح في الخير المحض» لأبرقلس نظرا لوجود موضوعات الخير المحض في «عيون السائل»، مع أن الأول نقل والثاني إبداع.
2
وكلاهما بنية حضارية قديمة لاحتواء الفيض. مع أنه لا يذكر ضمن مؤلفات الفارابي ولا يتضمن أي نص له، وبعيد عن «تلخيص مبادئ الكل لأرسطو». نسب إليه لأنه إشراقي كما نسب الإنجيل الرابع الإشراقي إلى يوحنا اللاهوتي أحب تلاميذ السيد المسيح إليه والذي أسند رأسه على صدره في العشاء الرباني كما يبدو في اللوحة الشهيرة.
ولا يهم مؤلف النص، الشيخ اليوناني أم الشيخ الإسلامي، بل المهم هو اتفاق مجموعة من النصوص في نفس الروح.
3
وبالتالي يمكن تجميع عدة موضوعات متشابهة في اتجاهها ووضعها تحت أي عنوان ونسبتها إلى أي مؤلف يوناني أو إسلامي، فالحكمة خالدة
لا يمتلكها أحد، لا الآخر ولا الأنا. حكمة الكل عبر العصور: أثولوجيا أرسطاطاليس، مع رسالة في العلم الإلهي للفارابي، مع كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي من تلخيص ابن رشد، ورسالة لواحد من فضلاء اليهود يهوده بن سليمان بين فيها نقصان براهين أرسطو في قدم العالم على ما ورد في شروحه في كتاب البرهان اعتمادا على شرح ابن رشد وتفضيل براهين أخرى اعتمادا على كتب أرسطو الأخرى «السماع الطبيعي» و«السماء والعالم» و«ما بعد الطبيعة». فالحكمة الخالدة جعلت ابن رشد أيضا إشراقيا لأنه في نفس الوضع الذي كان فيه أرسطو من قبل، عقلي طبيعي، وكأن ابن رشد في حاجة إلى أثولوجيا قدر حاجة أرسطو. وشارك في هذه المجموعة يهودي فاضل. فالحكمة الخالدة لا تجمع فقط اليونان والقرآن، بل تجمع أيضا الأديان، حكمة موسى وحكمة محمد. ولا توجد حقائق نظرية بقدر ما توجد قدرات برهانية. فالمهم في قدم العالم ليس خطأ العقيدة أو صوابها، بل دقة البراهين المستعملة وأحكامها من مجموع كتب أرسطو نفسه.
وقد لا يكون الفرق بين الانتحال والتلخيص كبيرا. فالانتحال هو وضع روح النص الأول في عبارات جديدة. وهو ما يفعله التلخيص الذي يفهم النص الأصلي ثم يعبر عنه بألفاظ مباشرة. وهذا هو حال الفصول الأخيرة من كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي في أثولوجيا. فالواضع في الانتحال هو الدافع على التلخيص، إيجاد الحجم المعقول.
4
وقد يقوم المؤلف بهذا الاختصار بعد الشرح الأول المسهب. فالمؤلف الواحد يقوم بالعمليتين معا، الشرح أولا ثم التلخيص ثانيا، وكما فعل ابن رشد في الشرح الأكبر ثم الشرح الأصغر مارا بالشرح الأوسط حرصا على عنصر التشويق في القراءة والتركيز على المعنى في التلخيص بعيدا عن الملل والإطالة في الشرح الكبير.
وبالرغم من أن الفارابي إشراقي النزعة، إلا أن الجانب المنطقي فيه أوضح، وبالتالي أمكن الانتحال الفلسفي فيه كما هو الحال عند أرسطو حتى يكون الجانب الصوفي فيه معادلا للجانب المنطقي. فالفلسفة تؤدي إلى التصوف، والمنطق ينتهي إلى الإشراق.
ولا يهم نقل التاسوعات كلها. يكفي باب منها أو فقرات كنقطة بداية ثم إكمالها بنفس الروح كما يفعل الموسيقي عندما يقوم بتنويعات جديدة على لحن قديم. وهو حال كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي. فليس المطلوب نقل الكتاب كله وإلا كان الأمر نقلا دون إبداع، بل تكفي بعض الفصول منه نقلا حتى يتم إبداع الفصول الأخرى.
5
كما أن بعض الفقرات العربية لا توجد في النص الأصلي لأثولوجيا. ويناظرها ما ورد في الترجمة اللاتينية في الفصل العاشر منها. فلا يهم نص أفلوطين التاريخي. يمكن أن يزاد عليه في الانتحال مرورا من النقل إلى الإبداع، على حين أن الترجمة اللاتينية فضلت الإبقاء على النقل لأن العمليات الحضارية من اليونان إلى الرومان في العصر الوثني أو المسيحي كانت عمليات في نفس الحضارة الأوروبية وليست بين حضارتين متمايزتين كاليونانية والإسلامية. الخلاف بين اليونان والرومان في الدرجة لا في النوع في حين أن الخلاف بين اليونان والقرآن خلاف في النوع.
ولماذا كل فكر إشراقي من هذا النوع يكون بالضرورة أفلاطونيا أو أفلوطينيا؟ هل لأنه أقدم في الزمان، وكل لاحق عليه يحال إليه؟ وإذا كان الشرق أقدم من اليونان، فلماذا لا تكون الأفلاطونية أو الأفلوطينية شرقية، ويكون كل فكر إشراقي من هذا النوع صوفيا شرقيا؟ أم لأن اليونان ليس فقط الأصل التاريخي بل المركز الحضاري وما حولها من ثقافات هي الأطراف؟ ولماذا لا تتعدد الإحالات فيكون أفلوطين شرقيا بقدر ما يكون الشرق أفلوطينيا. في الوقت الذي تذاع فيه ثقافات الأطراف من خلال سيطرة الإعلام والنشر وتصبح نقاط إحالة بدلا من أن تكون موضوع إحالة.
ومن الطبيعي أن تمتلئ الرسالة المنسوبة إلى الفارابي في العلم الإلهي من تاسوعات أفلوطين بألفاظ الله الذي جعل في العقل قوة جميع الصور والذي يعلم كل شيء بما في ذلك ذاته كما يعلم العقل ويشتاق إليه، يعطي عطايا فاضلة، مبدع الأشياء. هو العلة الأولى، حياة الأحياء، وعقل العقول، وخير الخيرات.
6
وتظهر عملية التشكل الكاذب في الانتحال الفلسفي بوضوح تام. فالله تبارك وتعالى، الباري عز وجل، الباري تعالى، الربوبية الحق، الوحدانية الدائمة إلى آخر التعبيرات الموروثة هو أيضا المبدأ هو الأول، العلة الأولى، الفاعل الأول، العقل المحض إلى آخر التعبيرات الوافدة. لا توجد إذن ترجمة حرفية لتاسوعات أفلوطين في رسالة العلم الإلهي للفارابي، بل هناك نقل حضاري والتعبير عن حكمة الإشراق الموروثة بألفاظ الوافدة.
7
والتشكل الكاذب عمل حضاري جماعي وليس بالضرورة عملا فرديا؛ بدليل الانتحال الفلسفي الذي هو الخلق الجماعي. نسبة العلم الإلهي للفارابي مثل نسبة الإنجيل الرابع إلى يوحنا.
8
ويظهر التشكل الكاذب في كل نص يعاد إنتاجه، سواء كان ترجمة أو شرحا أو تلخيصا أو تأليفا أو انتحالا. فالله جل وعز وجل وعلا بتعبيرات الموروث هو الفاعل الأول ساكن غير متحرك، العقل الأول، المبتدع، الخير المحض، الذي يفيض بالخير على الأشياء، ليس له صورة ولا لمية، لا يحتاج في إبداعه إلى رؤية ولا فكر. وتداخل تعبيرات الموروث والوافد على التبادل وليس بالضرورة على التعاقب. فقد أصبح كلا المخزونين النفسيين أدوات للتعبير بصرف النظر عن مصدريهما، تعبيرات الأنا أم في تعبيرات الآخر. ويتحد القولان لأن كليهما تعبير عن مطلب واقتضاء واحد، مطلب نفسي أخلاقي، وليس شيئا موضوعيا في الخارج قد تختلف الرؤية على وصفه وتصويره، فالفاعل الأول «ينبغي أن يكون ساكنا».
9
والموضوع الغالب في الانتحال الفلسفي، في كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي، هو الواحد والكثير، مثل الكندي في رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى. وهو تشكل كاذب عن طريق التعبير عن الصلة بين الله والعالم بلغة الواحد والكثير. مع أن لفظ الواحد أيضا لفظ موروث وليس بالضرورة لفظا وافدا. هنا يحدث فقط عملية اقتران أو تشابه لفظي.
10
والوافد هو العلة الأولى الفاعلة لجميع الأشياء، وهو العلة القصوى، الفاعلة الأدلة هوية فحسب. هو الواحد الأول الحق المبين، والمبدأ الأول علة هويات العالم بأسرها، الفاعل الأول في جميع الصور، المبدع الأول، وهو الفرد الأول المحض يصح عليه أي توهم. والعلة الأولى بريئة عن جميع أصناف الحركة. وهي الأشرف والأكمل. خلق جميع الصور الروحانية التي لا هيولى لها. خلق الله العقل وبذر فيه جميع الأشياء كامنة فيه ثم تتخارج منه. والعقل من الينبوع الأول، والكلمة شيء واحد وهي في سائر العالم، يهتدي بها كل واحد إلى ما هو أصلح له، ويبتعد عما يضر به ، بها تسكن النفوس إلى معارضها، وتثق بصحة كل شيء.
11
ويعيد الانتحال الفلسفي بناء النسق الفلسفي لأفلوطين طبقا لأرسطو المنطق، والطبيعيات، والإلهيات، وطبقا للمسلمين كما ظهر في بنية الشفاء. فقد عرف الشيخ اليوناني المقولات معرفة منطقية. والمعرفة الطبيعية أعلى من المنطقية، والإلهية أعلى من الطبيعة في صعود تراتبي من الأدنى إلى الأعلى عن طريق الصوفية.
12
والواحد، العلة الأولى، المبدأ، الفاعل الأول هو الباري، المبدع، الله سبحانه، الباري تعالى، ألفاظ الموروث التي يتم استعمالها مع ألفاظ الوافد خاصة أن هناك ألفاظا مشتركة مثل المبدع، الكلمة، العناية الإلهية، الشريعة الإلهية، نور الله سبحانه، الباري تعالى، الباري سبحانه. الكلمة إسلامية فهي قرآنية، كلمة الله، ومسيحية في آن واحد، بل ويهودية أيضا. وقد يتم النقل الحضاري من حضارة إلى أخرى في موضوع الكلمة. تتشابه الألفاظ وتختلف المعاني. فالعناية الإلهية ضد القدم، والشريعة الإلهية استنباط القانون من النظم، والنور الإلهي ما يقوله الصوفية المسلمون.
13
ولا يكتفي النص بالفلسفة الإلهية ونظرية الفيض من الله إلى العقل إلى النفس إلى المادة، بل أيضا يضيف وصف الطريق، الصعود إلى الله عن طريق التضرع إلى الله وسؤاله العون والتوفيق كصوفي مسلم يقرض الشعر. ولا يكفي في التضرع مجرد رفع الأكف إلى السماء وحركة اليد، بل التضرع بالعقل والخشوع بالقلب حتى يشرق نوره في العقل وعلمه في الجهل، وإرادته في الاستطاعة.
14
وفي الفصل الرابع والعشرين يذكر بقية الأثولوجيا. فالعلة لا تتحرك، ومبدأ العالم واحد، فضله الذي لم يزل. وعالم الربوبية مطابق لعالم الطبيعة، لذلك تنفذ إرادة الله فيه. صفاته عين ذاته، وذاته عين صفاته، مما يدل على وشائج القربى بين علوم الحكمة والاعتزال .
15
وهو عالم الغيب والشهادة مما يكشف مباشرة عن عملية التشكل الكاذب.
16
ثم يتم الانتقال من اللاهوت السلبي، واجتماع الفلسفة والاعتزال إلى الفلسفة والتصوف، ولغة الحب والحديث عن الله بلغة الحسن والبهاء فاعله هو «أعز الدنيا».
17
وليس كل ما لدى الشيخ اليوناني مقبول، فإنه يمكن أيضا نقده. «أحب أفلاطون ولكن حبي للحق أعظم.» فالنقد أيضا ممكن وليس فقط المدح والتقريظ. فالشيخ يخرج عن الموضوع ويتحدث عن المنطق والاستقصاءات دون حاجة إليه. كما أنه كثير الخلط ويقع في التناقض، ويجمع بين آراء القدماء وآراء المحدثين في عوارض النفس، وأقرب إلى القدماء في بيان جوهرها. وليس لحججه أي نظام أو ترتيب عند الحاجة إليها. لذلك لا بد من إعادة ترتيب النص بين الأول والوسط والنهاية حتى يظهر منطق الكلام. فالناقد هنا أكثر عقلانية من الشيخ اليوناني الواسع العلم، الطيب القلب، الطاهر النفس من أجل إكماله وإعطائه جانبا عقلانيا ينفعه كما أعطى هو أرسطو جانبا إشراقيا ينقصه. ولا يهم من الناقد، شخصا أو جماعة، بل روح الحضارة الباحثة عن الحكمة الخالدة.
18
وفي الانتحال الفلسفي تعاد قراءة تاريخ الفلسفة كله من منظور إشراقي وفي إشكال إشراقي واحد مثل الواحد والكثير أو نظرية الاتصال. فيثاغورس إشراقي لأنه يسمي المبدع لغز أبولون، وهو واحد ليس بكثير.
19
وديوجينس الكلبي إشراقي بسلوكه، زاهد في حياته، شيخ طريقة، والشيخ اليوناني مريد له. ترتبط الأنوار بالأفكار، وسير حياة الحكماء بآرائهم كدليل على وحدة النظر والعمل، الحقيقة والشريعة.
20
ولا يهم إن كانت هذه العلاقة صحيحة تاريخيا أم لا. فديوجنس الكلبي عاش قبل أفلوطين بسبعة قرون. ومع ذلك هو المريد وأفلوطين هو الشيخ.
21
وأفلاطون في طيماوس يبين مطابقة عالم الربوبية لعالم الطبيعة، ويعتبر الأجرام السماوية إلها، ويرى أن الباري أبدع العالم لعلة، وأنها فضل الله ووجوده.
22
وسقراط واضع النواميس لأهل أثينا أقر أيضا بأن الباري هو أول الأشياء وآخرها. كما أقر بذلك الأطباء.
23
والكل أرسطي شرقي.
وقد يكون السبب في الانتحال والتلخيص الأقرب إلى الانتحال هي غايات محلية صرفة لنقد الموروث الديني أو الفلسفي استعمالا لثقافة الغير. فثقافة الآخر هي علوم الوسائل، وثقافة الأنا هي علوم الغايات. ينقد عبد اللطيف البغدادي مثلا ابن سينا لمخالفته طريقة المشائين وتصحيح فهم ما بعد الطبيعة اعتمادا على حسن فهم الفارابي.
24
فالمؤلف هنا يصحح فهم الموروث دفاعا عن الوافد وليس الدفاع بالضرورة عن الموروث ضد الوافد. وإذا ما تم التأليف في الوافد، مثل كتاب ما بعد الطبيعة، فإنه يتم التأليف فيه بطريقة الموروث، بيان حد العلم وغايته ومنفعته وأقسامه وكأنه علم قديم. ونظرا لتراكم العلم، فإن التأليف يعتمد على اجتهادات السابقين مثل الفارابي في شرح أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. يلخص البغدادي النص الأصلي تلخيصا شاملا. ويتابع الأصل بحروفه في مواضع أو يجهل معانيه في مواضع أخرى، ثم يضيف من عنده؛ أي من غير النص الذي يلخصه، ينقله عن غيره من المؤلفين مثل «الخير المحض». يتبع النص أولا ثم يخرج عنه لإيضاح الفكرة بعرضها عرضا موسعا؛ ومن ثم يمكن تتبع المراحل من النقل إلى الإبداع على النحو الآتي: (1)
البداية بالنقل الحرفي من النص الأصلي. (2)
التلخيص للمعنى بألفاظ مستقلة وإيضاح الأفكار. (3)
إكمال المعنى وإبداع نص جديد في نفس روح النص الأول من أجل إكمال الرؤية اعتمادا على نصوص متفرقة أخرى لنفس المؤلف أو لمؤلف آخر غيره من الحضارة المنقول منها أو الحضارة المنقول إليها أو بالاستقلال التام عن أية نصوص والاعتماد على الإبداع الذاتي الخالص. (4)
إكمال النص بآية قرآنية أو حديث نبوي كخاتم عام وإعلام ختامي
Finale
تبين أن الوسائل قد تم استعمالها، أن الغاية قد تحققت.
وتطبيقا للمراحل الأربع السابقة يتضمن كتاب ما بعد الطبيعة لعبد اللطيف البغدادي عدة فصول. الفصل العشرون مقتبس من «إيضاح الخير» لأبرقلس. أما الفصول من الواحد والعشرين حتى الرابع والعشرين، فكلها في أثولوجيا وهو علم الربوبية.
25
الفصل الواحد والعشرون ليس تلخيصا، بل عرضا عاما ممزوجا بآراء أرسطية وأفلوطينية مثل «المدينة الفاضلة» للفارابي و«الإشارات والتنبيهات» و«الشفاء» لابن سينا. فالمهم الموضوع وليس الشخص، الكل وليس الجزء. والفصل الثاني والعشرون استطرادات على معاني النص الأصلي تأليفا وليس نقلا أو تلخيصا أو تجميعا. والفصل الرابع والعشرون لا ينقل النص الأفلاطوني، طيماوس حرفيا بل بالتلخيص الحر الواسع من أجل إثبات الفيض، فيض عالم الطبيعة عن عالم الربوبية. فالأجرام السماوية آلهة تعبيرا عن وحدة العالمين، العالم الإلهي والعالم الطبيعي، بالرغم مما قد يصطدم هذا التعبير بالتصور الإسلامي، إلا أنه له ما يشابهه في التصوف الإسماعيلي ومطابقة عالم الروح مع عالم الطبيعة في علم الميزان، ولكن آلهة هنا تعني مجازا أي الروحانية والعظمة والجلال.
26
ويعرض رأي أفلاطون في العلة التي من أجلها أبدع الباري العالم. فلا فرق بين أفلاطون وأرسطو وأفلوطين ما دامت النظرة إلهية واحدة. وأن هذا الإبداع قد تم بفضل الله ووجوده مع استطراد في صفات الله وتداخل مع علم الكلام. فلا فرق بين الوافد والموروث من حيث المادة العلمية ثم الانتهاء بحديث نبوي في حق النبي وظهور الحجج النقلية بعد أن كادت تختفي من علوم الحكمة التي تتميز على علم الكلام باعتمادها على التحليل العقلي الخالص، والوعد بكتاب في آراء أهل المدينة الفاضلة كختام للعلم الإلهي، وإعلان عن مرحلة التأليف الإبداعي للمستقبل، وتحويل للإلهيات إلى سياسيات، فالمصب النهائي للإلهيات في المجتمع والسياسة.
ولم تكن الميتافيزيقا بمعزل عن الأخلاق والاجتماع والسياسة. فالغاية من المعرفة السعادة، ونتيجة السعادة الحياة في مدينة فاضلة. وهو ما اتضح في آراء أهل المدينة الفاضلة «للفارابي» فيما بعد دون أن يتطور وأن يكتمل، وظلت إلهيات أكثر منها سياسيات. وبقي اغتراب الإنسان في الله أكثر من العودة إلى نفسه إلى مجتمعه. الله قدوة القدوات وإليه الأمر، وبيده الخير. وهنا يتم الانتقال من الإنسان الكامل إلى المجتمع الفاضل، من الكمال الإلهي إلى المدينة الفاضلة. ويكون التحدي: أيهما اغتراب وأيهما حقيقة؟
27
ويتكشف الشكل الكاذب كلية في إنهاء الترجمات والانتحال الفلسفي بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية حتى على لسان فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين، لا فرق بين مؤلف ومترجم وناسخ وقارئ. فالهدف هو إدخال الوافد في الموروث، وتمثل الموروث في الوافد، ونقل علوم الوسائل من أجل إبداع علوم الغايات. وتكثر الأحاديث عن القرآن؛ لأن الوضع فيها أسهل والتأويل فيها أيسر، والتاريخ فيها أظهر، والثقافة فيها أوضح. تذكر هذه الآيات والأحاديث على أنها مفتاح السر في النهاية، كلمات موجزة ومركزة توضح القصد والهدف الكامن في الموروث دون إسهاب وبرهان وإطالة، الطابع المميز للوافد، وكأن الأدلة النقلية سر الأدلة العقلية، عودا من الفلسفة إلى الكلام، ومن العقل إلى النقل. فالنقل هو بطن الموروث، والعقل أساس الوافد. والآيات والأحاديث المختارة من نوع الوافد، التصوف والإشراق، لغة الحب والنور، لغة الطبيعة والأشياء، اللاهوت السلبي، حركة علو وسفل، امتحان دنيوي، وخلاصي بشري. فلا فرق بين النبوة والفلسفة، بين الموروث والوافد.
28
ويظهر في الانتحال الفلسفي أسلوب التدوين الإسلامي، تخيل الاعتراض والرد عليه مسبقا، فإن قال قائل ... قلنا ...
29
كما يتم استعمال أسلوب الوعظ وطريق إعطاء النصائح والتوجيهات الخلقية. ويتم الاستشهاد بالشعر على عادة المفسرين المسلمين طبقا لنصيحة عمر: «عليكم بشعر جاهليتهم فإن فيه تفسير كتابكم.» كما يظهر أسلوب الحوار في مخاطبة الله لمظاهر الطبيعة.
30
سابعا: المنتحلات الطبيعية
(1) سر الخليقة وصنعة الطبيعة، كتاب العلل
ويعتبر «سر الخليقة وصنعة الطبيعة، كتاب العلل» لبلينوس الحكيم الذي نسب إليه الخوارق وعاش في القرن الأول الميلادي نموذج المنتحل المتعدد. وهو نص في علم الكيمياء والمعادن خاصة، والطبيعيات عامة. هو كتاب في علم الكيمياء العملي كجزء من الطبيعيات، صورته كما تبدو من الكتاب أنه إلهي، مصاحب للجن والسحر والمعجزات، أخلاقي الاتجاه. ضاعت معظم كتبه. نشأ المؤلف يتيما مثل الرسول حتى يوحي بالتعاطف معه والإيمان به ويحث على قراءة الكتاب.
1
يحتوي العنوان على ثلاثة أقسام: الأول «سر الخليقة»، وهو يعبر عن الموروث، نظرية الخلق والدافع على الانتحال. والثاني «صنعة الطبيعة» التي تعبر عن الوافد الذي يتمثل داخل الموروث. والثالث «كتاب العلل» وهو الرابطة بين الاثنين، مكان التعشيق حيث يتم نقض التعليل والصلة الضرورية بين العلة والمعلول كي يصبح الله هو العلة الأولى، بل والعلة المباشرة الموجهة لظواهر الطبيعة كما هو الحال في الأشعرية.
وهو كتاب مركب يحتوي على أقسام: الأول مختصر للنص، والثاني رواية أولى تطابق الترجمة العربية، والثالث رواية ثانية منقحة وموسعة ومنسقة أدخل فيها المنقح الذي عاش في أواخر القرن الثاني أقساما كبيرة من الكتاب في طبيعة الإنسان لنمسيوس ترجم إلى العربية، ثم ترجم إسحاق بن حنين (215-298ه) «سر الخليقة» ويحيل إلى عشرة كتب أخرى في النص. يتقابل كتاب الخلق المخلوقة مع العلل المعلولة. وتسمى الكتب غير المنزلة مصاحف مثل مصحف هرمس ومصحف فيدون.
2
وكعادة التشويق في النصوص المنتحلة تروى قصص خيالية؛ كيف وصل الكتاب في سرداب من هرمس المثلث بالحكمة مع نص آخر على صحيفة زمردية موحى به.
3 «أسرار الخليقة» لبلينوس يمثل حضارة الوحي وكأن عقل اليونان هو وحي الإسلام. واللوح الزمردي لهرمس «صناعة الطبيعة» يمثل الدين الطبيعة، لا فرق بين الخلق والطبيعة. لوح الزمرد نموذج نصي في الكيمياء يرى أن الطبيعة تفعل بنفسها، ولكنه قاصر لأن جوهر المادة لا يعرف إلا بالخلق. وهذا سر المزاوجة بين الكتابين، والتحول من التصور الأحادي للعالم إلى التصور الثنائي.
ويعرض الكتاب على مستوى شعبي للدفاع عن العقيدة الشعبية بمادة كتبها العلماء متعددة المصادر. ويظهر سحر الأعداد، وتتكرر أربعة في أربعة مما يفسر كل شيء كما هو الحال عند إخوان الصفا، وتضرب الأمثلة للشرح، ويظهر الطابع القصصي. بل إن الخلق تقسم قصة، بالإضافة إلى أسلوب الحوار المتخيل ونسبة الأقاويل للغير أو الأغيار؛ قال أو قالوا. وتتمثل عبقرية المؤلف في صياغة موحدة للكتاب من موارد متفرقة يدل عليها مخطوطات الكتاب التي تصل إلى حوالي ثلاثين مخطوطا. لم يهتم به الخاصة لأن الحكماء كان لديهم الأصول اليونانية. ومع ذلك يذكره جابر بن حيان. وربما استفاد منه بعض المشتغلين بالعلوم الطبيعية كمقدمة للفلسفة الطبيعية في القرون الأولى للإسلام في أوائل عصر الترجمة، لأن الترجمة لم تكن قد توفرت بعد.
ومن الطبيعي أن يبدأ الانتحال بهرمس المثلث بالحكمة والذي يمثل الحكمة الخالدة للأنبياء والحكماء. وهو جماع الدين الطبيعي ودين الوحي. فالله خالق عادل رحيم، وسعت رحمته كل شيء فله الحمد. وهي حكمة سرية مضنون بها على غير أهلها. لذلك أودعت في سرداب مظلم عليه طلسمات لا يفكها أحد. ولكن بلينوس عرضها وفسرها وأوصى بها بنيه كما أوصى يعقوب وموسى ولقمان. وأخذه المترجم ساجيوس القس ونقله إلى العربية ناقلا الحكمة إلى العرب. واللوح والزمرد مادة الكتابة من نفس نوع قيمة الحكمة في الخيال الشعبي.
4
ويعتبره المؤلف كتابا سريا محفوظا للأهل والقوم والحرص على عدم وقوعه في يد الغرباء والقسم على ذلك.
5
وتكشف مقدمة الكتاب عن عناصر الانتحال ومنطق الإبداع. ويدل تعبير «الجامع للأشياء» على التركيب والتأليف والانتحال.
6
ويعترف المؤلف بأن الكتاب ترجمة ولكنه يكشف المستور بالحذف والإضافة وبالتأويل؛ إذ يضم الكتاب تحليلا كميا وقراءة للطبيعة. كما يظهر هذا أيضا في الملحق الأول من كتاب الخلقة التي تتضمن الكلمة الختامية للمترجم، وهو لا جديد فيه، مجرد تجميع مواد متشابهة عن الخلق ضد قدم العالم، وحديث بلينوس عن نفسه وأنه صاحب الكتاب مما يوحي بالشك، والإصرار على أنه يخبر كما أخبر مثل إنجيل يوحنا وإصراره على أنه شاهد وعاين.
7
الزيادة ليست جديدة إلا من المفاهيم الرئيسية الأربعة طبائع مع مفتاحها. كما أن التأكيد على مصادر الكتاب الإلهية يوحي بالانتحال. والصحيح لا يحتاج إلى تأكيد.
8
وكثرة الكلام على كيفية تأليف الكتاب وأقسامه وأجزائه تدل على الانتحال.
وتدل الإحالات المستمرة إلى أجزاء الكتاب على محاولة الربط بينها، إحالة اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق، العود إلى البدء، والرجوع إلى الموضوع، والإيجاز بعد الإطناب، والإطناب بعد الإيجاز، وبيان «التفصيلات». ونقاط العبور من موضوع إلى آخر، وتفصيل المجمل، وإجمال المفصل.
9
ثم يستدل على التجميع بالقياس والتجربة دون ما حاجة إلى شواهد شعرية أو نصوص دينية إسلامية أو مسيحية نظرا لاحتمال الانتحال في بيئة مسيحية قبطية.
10
وبتحليل أسماء الأعلام الواردة في النص يتضح أولوية الوافد على الموروث؛ إذ يأتي أرسطو الذي أخذ لقب الحكيم الأول في المقدمة، ثم هرمس المثلث بالحكمة وبلينوس ثم أفلاطون ثم جالينوس ثم أبقراط وديمقريطس ثم أبرخس، أبيقويس، أكسانو قارطيس، أمونيوس، بلطينوس، طاليس، فيثاغورس، كرسيبوس ... إلخ. وبعض الأسماء مجهولة. وقد يكون البعض منها وهميا.
11
ويبدو هرمس هو نموذج الفلاسفة والأنبياء، يجمع بين العقل والنقل، صاحب علم سري متواصل. الخالق عدل لا يظلم، رحيم بخلقه، يتولى الكل. ويتفق قول هرمس مع النقل والقياس.
12
والموضوع الثاني هو النفس. فهي عند البعض مادية، عند أبقورس وديموقريطس جسد، وعند أصحاب الأسطوانة ريح مثل النار، وعند قرطياس دم، وعند أبين ماء، وعند ديمقريطس نار ، وعند فيثاغورس عدد، وعند طاليس تتحرك نحو طبيعتها، وعند دينزكوس توفيق امتزاج الطبائع الأربع. وعند أمونيوس معلم بطلينوس النفس جسد، وعند أهل الأسطوان لها حركتان، وعند قلينتس من أصحاب الأسطوان وكرسيبوس جسد. ويرى الأطباء مثل جالينوس وأبقراط أن النفس تخريج أي ائتلاف. وهو رأي أرجانس وموطوس. وعند قطرنوس الأنفس كثيرة. وعند تاموس أن قوى النفس مختلفة. وعند البعض الآخر وسط بين المادية والروحية مثل أرسطوطاليس. فهي ابتداء حركة جسد ذي طبيعة تسكن فيه قوة الحياة. النفس في الجسد كالبصر في الحس. ولا تتحرك، بل حركتها من الجسد. والفلك السماوي مع الطبائع جسد خامس. والأجساد التي نرى ينقش عنها الهواء، والذي لا يتعكر جزء من المتعكر. والشهوة صنع قوة من الطبيعة لا حبس له. ثم غير أرسطو موقفه وجعل الشهوة انقضاء صنع طبيعة الحي لا حبس له.
ويمثل أفلاطون الرأي الثالث، أن النفس تعلو على الجسد. والحس المشترك بين النفس والجسد. والذكر إمساك ما تحس به النفس. أما العقل والعقول فمكان الفهم والمفهوم. والبصر نور. وأيده جالينوس في ذلك. وعند أكسانوقراطيس النفس مكان العلم ولا تأكل. وعند كرسيبوس أن الموت فراق بين النفس والجسد، وعند دينزكوس النفس توفيق للألحان، ونقد أفلاطون في أن العلم تذكر. وعند أنوميدس النفس ليست جسدا بل سبب عمله، وعند أمونيوس مكان للأفكار.
13
وللوافد اليوناني الأولوية على الوافد الشرقي. فمن الشرق يأتي آدم في المقدمة وأفلاطون القبطي وديصان ثم زرادشث، وعبدة النيران، ثم إبراهيم النبي وفرعون وساجيوس القس وطلوقوس الكاهن، وبرهمن وبوذا. ويرد الإبداع إلى مصر بلد الأديان لا سيما أهل حلوان والفيوم والإسكندرية لما نزع إليهم من أصحاب طلوقوس الكاهن بالفيوم وأفلاطون القبطي بحلوان الذي وصف الله بأنه لا فعل ولا حركة ولا تغير ولا فناء ولا زوال. وعند مينوس وأصحابه أن الخالق واحد، فلا يجوز أن يخلق اثنين. والبعض كره الكلام وتبرم من المتعلمين وآثر التصوف. ويخطئ الصابئة أو أصحاب الشجرة وأصحاب النجوم وأصحاب الطبائع وعبدة الحيوان والنيران وأصحاب التوبة وأهل العزم بالفكرة على الأمر المحجوب عند العامة وأهل الرمال والمياه والحجارة وبين من ادعى أن له خالقا غير الله أو من زعم أن الخالق أمر أن يعبد غيره.
14
وطالب كالوس أن يري الخالق نفسه حتى يعرفه الخلق ويروه كما طالب موسى من قبل. سعى في الأرض فسادا. بينما رأى آخرون أن الربوبية مشتركة بين جميع الناس.
15
وواضح أيضا حضور أفريقيا، وأرمينيا والصين ونابلس وطلوانه بلد بليناس. والموضوع الغالب على الوافد الشرقي هو النفس. ويرفض الكتاب قول البرهمن أن الله نور وتفضيل البد عليهم مع أن النور من مصطلحات الإشراق، ويؤيد نقدهم لدين الروح المجرد. كما ينقد التصوف الهندي، ويرفض الثنائية الفارسية عند زارادشث وديصان ومرقيون وكأنه كتاب في علم الكلام. وروح ابن آدم لا تزيد عن الحرارة ولم يوكلوا شيئا من أعمالهم فيهلك ولد آدم.
16
ويوحي توزيع المقالات الست بنظرية الفيض معكوسا أكثر مما توحي بنظرية الخلق على النحو الآتي:
17 (1)
في الخالق والمخلوق. (2)
في الأفلاك والآثار العلوية. (3)
في المعادن. (4)
في النبات. (5)
في الحيوان. (6)
في الإنسان.
وتتداخل النظريتان الخلق والفيض بحيث يصعب الفصل بينهما. ويبدو ذلك في كتاب التعليل الذي يتضمن نظرية العناصر الأربعة وما ينتج عنها من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة التي تفسر الطبيعة عند الماديين ثم هدمها بالأشعرية؛ أي بالتدخل الإلهي من أجل إفساح المجال لنظرية الخلق.
18
وفي نفس الوقت تظهر العناصر الأربعة في الأرض مرتبطة بعالم السماء، المعادن من الأفلاك السبعة، والنفس في النبات من نفوس الكواكب، وحركة الحيوان من حركة الأفلاك. في المقالين الثاني والثالث خلق غير عضوي، خلق زماني. وفي المقالين الرابع والخامس أجناس خمسة لكل من النبات والحيوان. والمقال السادس أسلوب المسائل الطبيعية. لذلك تبدو أحيانا أن للعلل الهيولانية الأولوية على باقي العلل بالرغم مما في العرض من تناقضات. فنظرية الخلق ونظرية الفيض تبدوان أحيانا على التداخل وأحيانا على التماثل وأحيانا على الانسجام، ولكن ليس على التقابل أو التعارض وكما يبدو ذلك من بعض العبارات في جو إشراقي عامي يعتمد على الرؤية بالعين والتأمل في عجائب المخلوقات كما هو الحال عند الصوفية. وللجمع بين النظريتين الخلق والفيض، وبين التصورين الديني والطبيعي تصبح العلل معلولة. فالعلل لا تفعل بذاتها، ولكنها معلولة بعلة أخرى كما هو الحال عند الغزالي. ويميز الكتاب بين أربعة مفاهيم: العلة لأي شيء والسبب من أي شيء، والفعل كيف يكون الشيء، والفاعل بأي شيء يكون الشيء.
المقالة الأولى «في الخلق والمخلوق» تعرض نسب بلينوس الحكيم من صنع الخيال بناء على نموذج نسب الأنبياء مثل المسيح في أول الأناجيل، مع عنصر التشويق في القصة، وصية المؤلف بإخفاء كتابه عن العوام. ثم يدخل في الموضوع الرئيسي، علة الأشياء كلها، الأصل الأول والجامع لكل شيء والتفرقة بين العلة والسبب من أجل الإعداد لنقد المادية وإثبات الخلق. ثم يكشف عن القصد من الانتحال وباعثه الأساسي، القول في التوحيد والرد على من قال فيه خلافا لساجيوس القس إثباتا لنظرية الخلق ووصفا لنعوت الله وأسماء الرب. وأخيرا يعرض قول بلينوس في الخالق، اليوناني الذي تأسلم أو تهود وكأنه في سفر التكوين، خلق العالم في الزمان، وثنائية الخالق والمخلوق، والخلق الإرادي الفعلي وليس الخلق الذهني، ثم الرد على منكري الخلق؛ أي الدهريين بلغة العصر، عبدة النيران والنجوم والطبائع، والبراهمة وزارادشث وديصان وكالوس، وكأنه نص في علم الكلام يحاجج الفرق المخالفة المنكرة لخلق العالم. يستعمل المؤلف لغة الأنبياء وكأنه يبلغ رسالة من السماء مبشرا ونذيرا في أسلوب الحوار والإقناع ومستمرا في رسالة السابقين، وممهدا لرسالة اللاحقين، بضمير المتكلم المفرد. نكشف عن بيئة مسيحية وكأن المؤلف قس كاهن أو عن بيئة شرقية، ثنائية النور والظلمة.
19
والمقالة الثانية «في الآثار العلوية» نعرض لعالم الخلق وعلله، علل الأفلاك السبعة ودوران الأفلاك والغيوم والأمطار والبرد والثلج والجليد والرعد والبرق وقوس الغمام والدائرة مع تشخيص للعالم العلوي وكأنه عالم إرادي عاطفي انفعالي، وإبراز خلق الملائكة وعملها على الأرض كما هو الحال في الدين الشعبي.
20
والمقالة الثالثة «في علل المعادن»، الزئبق والكبريت والذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والأملاح والزجاج، وهي ما يسترعي انتباه العامة، مجرد رصد دون تجميعها في محاور رئيسية كالمقالة الأولى مع بعض التكرار، تكرار الرياح في المقالة الأولى، والأجساد المذابة في المقالة الثانية، ووضع النبات والحيوان في مقولة واحدة مختلفة عن الإنسان، مع أن الحيوان ليس معدنا. كما تلوح من الإحالة إلى أسماء الأعلام أو الأماكن. ويغلب عليها الوصف العلمي البارد دون دلالات إلهية كبيرة. تكفي العامة الغربة والدهشة أمام الطبيعة كي تستدل على الخالق. مع ترك بعض التساؤلات بلا جواب، فالسؤال يبعث على التفكير أكثر من الإجابة.
21
المقالة الرابعة «في النبات» تبحث أيضا عن العلل دون استعمال اللفظ وتفضيل السؤال بأداة الاستفهام «لم»، وهو ما سماه الكندي «اللمية» في بداية نشأة المصطلحات الفلسفية مع ظهور بعض المصطلحات القرآنية مثل «ذوات الأكمام». وتستعمل المقالة رسمين توضيحيين، الأول يجمع بين الأفلاك والعناصر، والثاني يؤوله تأويلا دينيا. فالطبيعة لا قوام لها بدون الله على النحو الآتي:
والمقالة الخامسة «في الحيوان»، ويغلب عليها الطير بما له من دلالة صوفية كما هو الحال في «منطق الطير» وحكمة سليمان بداية بخلق الحيوان والإنسان واتصال الخلق بعضه ببعض مع الحكمة في خلق تفصيلات أجسام الطيور. وهي التساؤلات التي بنى عليها إخوان الصفا طرقهم للدعوة إلى تشيعهم مع بعض التكرار مثل: لم صارت البيضة رطبة؟ ولم صار للطير بيضة؟ وتأتي الأسماك بعد الطير لنفس الدلالة الصوفية، السباحة في الهواء وفي الماء كمؤشر على سياحة الروح في عوالمها العلوية. والمعادن متصلة بالنبات، والنبات بالبهائم، والبهائم بالإنس، والإنس بالملائكة على ما يبدو في الرسم التوضيحي الآتي:
والمقالة السادسة «في خلق الإنسان» تجمع بين وصف الجسد والنفس. وهي أكثر المقالات تفصيلا، تصف الإنسان من أعلى إلى أدنى. ويلاحظ اقتران القرون بالحوافر. ويتعرض لعجب الذنب كما هو الحال في علم الكلام، ومنه تبدأ النشأة الثانية، الحشر والبعث والمعاد. وتظهر النزعة الإنسانية، الإنسان في قمة الكون، نقطة التقاء بين الطبيعيات والالهيات. والإنسان جسم وروح. وهو خالد لأنه من روح الحياة. وتتكرر بعض الموضوعات كما هي العادة في المقالات السابقة مثل القول في الطعوم، ولم وقعت الأسنان ولم تنبت. فالإبداع الشعبي تتكرر فيه الأقاويل.
وإذا تعرض الملحق الأول لكيفية العثور على الكتاب كعنصر للتشويق فإن الملحق الثاني «من كتاب طبيعة الإنسان لنمسيوس أسقف حمص» يضيف ما نقص في كتاب العلل وهو عالم النفس وانفعالاتها، مملوءة بأعلام اليونان، مع تلخيص للسابق بالحذف والاختصار.
وتظهر التوجيهات الإسلامية لتكشف عن الباعث الجدلي الكلامي على الانتحال بألفاظ علم الكلام، التوحيد، الصفات، الأسماء، الأفعال، ومنهج علم الكلام في المحاجة والجدل والرد على الفرق غير الإسلامية أو أقوال الأمم خاصة تلك التي تنكر الخلق أو النبوة والمعاد. وتبرز صفات قبل أخرى مثل الخالق، والربوبية والألوهية تجعل الكتاب أقرب إلى اللاهوت الطبيعي منه إلى لاهوت الوحي. كما تظهر صفات جديدة مستمدة من القرآن حتى ولو لم تظهر في علم الكلام الاصطلاحي مثل الممسك. كما يتم الدفاع عن التنزيه والتعالي، ونقد التجسيم والتشبيه. وتتراوح الصفات والأسماء بين الإيجاب والسلب كما هو الحال في علم الكلام، إثبات صفات الكمال ونفي صفات النقص. الإثبات مثل: أحد، صمد، دائم، فرد، عالم، قادر، واجب، ديان، حكيم، لطيف، رحيم، غفار. والنفي مثل: لا إله غيره، لا قبل له، لا يختلط، لا يتصل. ويعتمد الفكر كله على القسمة الجدلية القائمة على التشابه والاختلاف كما هو الحال في دليل الممانعة. والصفات أربع وعشرون قبل أن تصبح سبعة مضاعفة عدة مرات كما هو الحال في العقائد الأشعرية. وتكثر العبارات الإسلامية للإجلال والتعظيم لله مثل: تبارك وتعالى، تبارك اسمه، تبارك الله العلي الكبير، تبارك الله وتعالى علوا كبيرا، تبارك اسمه وتعالى ذكره، تبارك الله الواهب، تبارك وتعالى عما يقولون، تبارك ذكره، وهي الألقاب حول «تبارك»، أو عبارات أخرى مثل : تعالى الخالق وجل، الخالق جل وعلا، فتعالى الله العلي الكبير، عز وجل أو جل، الله عز وجل تعالى علوا كبيرا، الخالق جل ثناؤه، كل شيء بمشيئته. كما تظهر التعبيرات الإسلامية مثل بني آدم مع الدعوة للقارئ بالهداية. تظهر باقي المصطلحات الإسلامية مثل الظاهر والباطن، الأول والآخر، الشاهد والغائب الخاص والعام، الدنيا والآخرة لتدل على أن الكتب أقرب إلى التأليف المنحول منه إلى الترجمة.
22
وتبدأ معظم المقالات بالبسملة وتنتهي بالحمدلة، ولا ينسى من التذكير بضرورة قلة القول وكثرة العمل.
23 (2) الفلاحة النبطية
ومن الطبيعيات أيضا «الفلاحة النبطية» المنسوب إلى ابن وحشية، وهو نص بين الترجمة والانتحال والتأليف.
24
والنبط والقلدان والسريان حول العراق منطقة البصرة، نقطة التقاء الثقافات الشرقية والغربية، وتعني المنحولة هنا المنسوبة إلى ابن وحشية وليس الموضوعة المختلقة مثل رسائل أرسطو والإسكندر ورسائل الإسكندر وأمه وكتاب التفاحة لسقراط. ويسميها ابن البيطار الفلاحة الرومية. فالروم هم النصارى مثل السريان.
وقد يرجع النص إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ أي أقدم من هوميروس بأربعمائة عام أو يزيد. ويتكون من عدة نصوص لثلاثة مؤلفين: ضغريث، ونيتوشاد الحكيم الصادق، وقوتامي. وهي طريقة تأليف الكتب القديمة من أجيال عدة مثل كتب الشرق المقدسة في الهند والصين، ومثل التوراة والإنجيل. وتذكر أسماء المؤلفين الثلاثة في أول الفقرات ربما من المؤلف وربما من المترجم. والأسماء في النص وليس في التعليق. أما المدة الزمانية المفترضة بين المؤلفين الثلاثة، واحد وعشرون ألف سنة، بين كل مؤلف وآخر سبعة آلاف، فخرافة.
25
ويعترف ابن وحشية أنه من أصول كسدانية. وربما كان المؤلف كلدانيا أو نصرانيا وأسلم.
لم تكن الترجمة فقط من التراث اليوناني والرومي غربا، ومن فارس والهند شرقا، بل كانت أيضا من بابل شمالا. فقد ترجم العرب التراث البابلي. فهناك أيضا الفلاحة الرومية. وقد كان للتراث البابلي خاصة الفلك أثر كبير على تكوين التوراة مثل كتاب تنكلوشا. ويعتبر التراث البابلي أيضا كجزء من حضارة ما بين النهرين بالرغم من خروج بلاد النبط خارج النهرين. تفاعل الشرق والغرب عند النبط. وحضرت فارس والهند شرقا واليونان غربا عند الكلدانيين في ثقافة متوسطة جغرافيا. كان النبط منفتحين على الشرق حتى خراسان. ويبدو أن الحضارة الزنجية حضارة الجنوب، لم تتفاعل إلا مؤخرا بعد انتشار الإسلام في أفريقيا وبداية ظهور اللغة السواحيلية كلغة التدوين.
26
ولا توجد ثقافة استوعبت ثقافات الشعوب المجاورة قدر الثقافة الإسلامية. بل انتسب إليها أصحاب الثقافات المجاورة لإغناء الثقافة الجديدة. كان الهدف من التوصية حفظ تراث الأمم السابقة وليس القضاء عليها بعد الفتح، حفاظا على ثقافات الأمم وعلومهم بدلا من اندثارها. فالغاية إظهار العلوم وليس إخفاءها، وتنقيتها من الخرافات. فالترجمة إثراء الشعب القديم بنشر تراثه، وإثراء للشعب الجديد بتحديث تراثه. والمترجم ذو ثقافة مزدوجة بين الاثنين، يظهر التواصل والتمايز بين الثقافات. ففي نفس الوقت الذي يتحدث فيه النص عن «إقليمنا»، «وزعم قوم من أسلافنا.» فإنه يواصل النقل من السرياني إلى العربي جمعا بين الثقافات الشرقية والغربية. فالمنطقة تمثل وحدة ثقافية.
27
كان النص نفسه مترجما قبل ابن وحشية باعترافه. فكانت مهمته الاختصار. ثم عدل عن ذلك إلى عرض الترجمة لنقل علوم الأمم الأخرى. فهل عرف لغة النص الأول؟ وهل راجع الترجمة عليه أم أنه اكتفى بالترجمة التي وجدها؟ من هو المترجم الأول؟ وإذا كانت العلوم سرية عند النبط فكيف عرفها وترجمها أو أعاد كتابتها؟ ويعترف بأنه أنفق على الترجمة من ماله الخاص دون الاعتماد على أي مؤسسات.
28
وما الفائدة من إبقاء العلوم سرا وإلا أصبح الإنسان كالحمار يحمل أسفارا؟ إن مهمة الترجمة هي نقل العلم من ثقافة إلى أخرى، ومن لغة إلى لغة، إثراء للثقافة الإنسانية العامة. وفي كل شعب خاصة وعامة، خاصة تقبل الثقافات، وعامة تود الاحتفاظ بها سرا.
29
وقصة الترجمة تبين أن الترجمة هم حضاري، ووعي بالإثراء المتبادل بين ثقافات الشعوب، وأن هناك قصدا حضاريا عاما وراءها ووعيا تاريخيا بتقدم الحضارات.
لم يعرف النص الأصلي إلا تقسيم الأبواب. وأضاف النص العربي تقسيم الأبواب إلى فصول لبلورة الموضوعات وإبرازها. فلا فرق بين النص الأصلي والنص المترجم، إعادة التعبير عن المضمون السرياني في لغة عربية جديدة مع استبعاد الجانب الخرافي من أجل الإبقاء على النص العلمي.
30
كما يتم تقطيع النص فقرة فقرة، قصيرة أو طويلة، لإمكانية هضمه وتمثله بالتعليق. فالتعليق هي الأسنان. يتضمن النص مقدمات وخاتمة وتعليقات في المنتصف حتى يكتمل بناء النص. التعليق هو إعادة كتابة النص، تأليف غير مباشر، ترجمة حرة، أقرب إلى العرض للنص قبل الشرح والتلخيص والجامع. وكثير من تعليقات النص تبدو وكأنها للمترجم، هو أسلوب واحد يقلده المترجم. المترجم إعادة صياغة وكأنها تكليف غير مباشر.
31
ويحيل النص إلى بعض الكتب القديمة الصحيحة أو المنتحلة ونسبة البعض منها إلى الأنبياء لإعطائها مزيدا من السلطة في الإقناع والانتشار بين الناس.
32
وتكثر عبارات الربط والوصل والتقديم والتذكير والعودة إلى الموضوع الأصلي بعد الاستطراد عودا على بدء مما يدل على التأليف الجماعي وتداخل النص والتعليق، الترجمة والتألف، النقل والإبداع، سواء كانت هذه العبارات من وضع المؤلف أو المترجم أو القارئ أو الناسخ. فالنص عمل جماعي. وهي عبارات وصل ضرورية خاصة في أسلوب الإملاء. وتضاف بعض الرسوم التوضيحية للشرح مثل رسوم زراعة البنفسج. أخذ المؤلف العربي النص الأصلي المترجم أو السرياني القديم وأعاد كتابته باللغة العربية متوجها إلى القارئ العربي خاصة في التعليقات الستين. فالنص تأليف في صورة ترجمة أو ترجمة في صورة تأليف. وكانت الثقافة النبطية مفتوحة على الثقافة العربية قبل الإسلام. كما يظهر الأسلوب الروائي الأدبي في حديث الطبيعة، حديث الشجر والزراعة، أنسنة للطبيعة كما هو الحال في الأسلوب القرآني: «أيها الإنسان، هل في بستانك هذا أحسن مني.»
33
فالكتاب صياغة أدبية لعلم الفلاحة. ويظهر الأسلوب الشفاهي، فالرواية مصدر العلم: «حدثني إنسان.»
34
وموضوعه الطب والزراعة والفلك والدين والأساطير، ارتباط كل شيء بكل شيء في تراث ما بين النهرين. كان التقويم الفلكي القديم بزحل والقمر. كما ارتبطت الفلاحة بالفلك، العالم السفلي بالعالم العلوي كما هو الحال في الثقافات القديمة وألواح حمورابي. كانت الزراعة في حضارات ما بين النهرين وعند النبط مزدهرة مثل ازدهار الطب في اليونان. والفلاحة صنعة الأنبياء عند النبط كالتجارة ورعي الإبل عند المسيح ومحمد. وكان ارتباط الفلاحة بالأساطير خطوة نحو العلم، من النبط إلى المسلمين. كما ارتبطت الإلهيات بالطبيعيات، والسماء بالأرض، والقوانين الإلهية بقوانين الزراعة عند الكلدانيين ثم بعد ذلك عند المسلمين. وهناك تفاعل بين عالم النفس وعالم الكواكب في التأثير المتبادل مما يدل على تداخل العلم والسحر أو العلم والدين. العلم الخالص لا ضير من ترجمته. إن كان الدين سرا خاصا فالعلم نفع عام. وتسود نظرية الأخلاط الأربعة كتاب الفلاحة سواء كان أصلها نبطيا أم يونانيا.
35
فتصور البابليين رباعي أكثر منه ثنائي كما هو الحال عند اليونان.
والمنهج المستعمل هو التجريب والقياس سواء كان في النص الأصلي أو في النص المترجم. والعرض مصدر معرفة مثل الإلهام والتجربة. فلا يكتفي المؤلف بالرواية عن القدماء؛ أي النقل، بل يجرب نفسه. لا فرق إذن بين الوحي والعقل والطبيعة؛ أي بين النقل والقياس والتجربة.
36
ويضاف إلى النص أربعون تعليقا في الجزء الأول، التعليقات من الخامس حتى العاشر في ظروف ترجمة الكتاب. ويبدأ كل تعليق بلفظ القول: «قال أبو بكر بن وحشية.» إلا التعليق الأخير في الجزء الأول. والتعقيبات أشبه بالتعليقات على النص المترجم التي ستصبح نوعا أدبيا مستقلا فيما بعد. التعليق أصغر من النص. بل إنه يقل شيئا حتى يتم تعشيق الوافد في الموروث، وإعادة توظيف الخارج في الداخل. ولما كان الجزء الآخر أقرب إلى النيات الخالصة دون دخول في الأساطير تقل التعليقات بل تغيب تماما. وتتضمن التعليقات الأخيرة تلخيصا للكتاب كله بلا خرافة أو سحر أو دين، سواء كان هذا التلخيص من المؤلف أو المترجم أو المملى عليه أو الناسخ أو القارئ.
37
ويمكن تصنيف التعليقات الستين على مستويات ثلاثة: اللفظ والمعنى والشيء؛ أي اللغة والإيضاح والتحقيق، النص والترجمة والموضوع. فعلى مستوى اللغة يصف التعليق النسخة وما فيها من انقطاع مع إعطاء تلخيص للموضوع، وبداية الكتاب ونهايته.
38
ومشكلة الناسخ والمملى عليه والمترجم والمؤلف مشكلة النص نفسه وتعدد مؤلفيه، النص الأصلي وترجمة ابن وحشية وكتابه الزيات الحاكي الكتاب عن ابن وحشية الحاكي عن الأصل، ووجود بياض في كتاب ابن وحشية إما بسبب النص الأصلي وإما أن ابن وحشية يميل إلى مذاهب الصوفية ويسلك طريقهم لاستبعاد كتابه المحرم بالرغم من معاداته للتصوف والزهد والخلوة. وتأليف قوثا في سياسة البقر ولكن لم يستطع المترجم العثور عليه. وترك الناسخ فصلا طويلا من كلام ابن وحشية ليس شيء من الفلاحة على ما لاحظ الشيشي واندهاش الناسخ من التعليق خارج الموضوع وحذفه لأنه دين والمطلوب العلم وحده!
كما يشمل التعليق تحديد لغة النبط وتعدد لهجاتها طبقا للأماكن مما يحتاج إلى جهد كبير في ترجمتها إلى اللغة العربية. وهي مادة لقاموس تاريخي للغات. لذلك تعددت التعليقات حول الاسم والمسمى، وأن الترجمة هي إيجاد أسماء عديدة على مسمى واحد.
39
فاللغة متغيرة من عصر إلى عصر، ومن زمان إلى زمان. وتقارن التعليقات بين الأسماء العربية في مناطق مختلفة من اليمين والجرامثة وبابل والفرات وأيضا اللغات المقارنة مع الهند والصين وفارس والروم واليونان والأرمن والمصريين والسريان مع اختلاف استعمال الأسماء في كل لغة عند العامة والخاصة. ويتم التعريف بالشيء المشار إليه في البيئة المحلية ووصفه حتى ينطبق الاسم على المسمى، والبحث عن الخطأ في عدم إدراك ذلك وإرجاعه إلى الناسخ الذي هو أقل من المؤلف والمترجم علما. فالرجوع إلى الشيء نفسه أي إلى المسميات خير وسيلة لعدم خلط الأسماء.
40
وقد يتبع شرح المعاني العودة إلى اشتقاق الألفاظ.
41
ومن وسائل إيضاح المعنى فك الرموز وقراءة الشفرة. فقد استعمل النبط أسلوب الرمز مما يحتاج إلى فهم المعنى الخفي، وكأن النص نشأ في نحلة خفية كالإخوان والشيعة، ومما يمنع الاحتجاج بتعذر الفهم نظرا لوجود سقط في الكلام. فمن عادة النبط عدم الإفصاح عن الكلام، بل يرمزون رمزا في حاجة إلى تفكير كما هو الحال عند الفرس والهند والعرب. فالرمز لغة الشرق.
42
وبعد إيضاح المعنى يتم إكماله في تصور علمي جديد مثل الحديث عن أثر الشمس، وإكمال النص بعلم جديد من أجل تقدم العلم والحضارة. ويتم ذلك عن طريق التحقق من الموضوع وصدقه والاستدراك عليه ومراجعته وتحديد المكان الجغرافي والمراجعة على عالم النبات وهو ما يسميه الأصوليون تحقيق المناط، في تواضع علمي واعتراف بعدم المعرفة.
43
ويفسر كيف نشأت تسمية الشهور العربية عند النبط وتشخيصها أولا في رجال ونساء ونكاح ونسل كما هو الحال في الثقافة الشعبية، مشيرا إلى نشأتها أيضا عند النبط وليس عند الكسدانيين والكنعانيين والعبرانيين والجرامقة. وتقارن مع قصة مشابهة عند النصارى والصابئة حتى أوقعوا بالمسيح، والحكم على القصتين بالخيال والكذب والاستحالة.
44
كما أن قصص تفسير الزلزال عقب السيل قصة خرافية لا تاريخية. ويفسر قصة صعود البخار من الأرض تفسيرا علميا. فللكسدانيين خرافات كثيرة تخبئ قوانين وفوائد لكل خرافة رمز، والرمز وراءه علم، المهم القضاء على الخرافة من أجل إبراز العلم.
وتبدو في التعليقات بعض المواقف منها من مدح النبط وإبداعهم في الفلاحة، بل وفي كل العلوم.
45
وهم مصدر علوم باقي الشعوب، والتمييز بين الطب والفلاحة وتبرير عدم دخول النص في الطب واقتصاره على الفلاحة. وينقد المؤلف الهند والرهبنة في زمانه والتصدق الهندي والسير عراة في الهند، ورهبان النصارى والمسلمين مثلهم. وهم الصوفية الذين يدعون الزهد في الدنيا والتخلي عنها وأنهم أولياء الله دون سائر الناس، وأنهم أعلى درجة من المسلمين وأطيب عيشا وهم فانون. ويستعمل الأمثال العامية لتبرير هذا الموقف.
46
وأيها أحسن في العقل، التعب والكد أم الشحاذة؟ وينقد تحريم الكسب لأن الله قدر أرزاق العباد واستعمال آية:
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد . وينقد انتظار الطعام من السماء والتوكل وسكون الجبال والكهوف ولبس الصوف. فلاحة الأرض ضرورة، وأن يأكل الإنسان مما تنبت يديه.
ويظهر في التعليقات موضوع سبق الحضارات كنوع من الشعوبية الحضارية مع عقد مقارنات بين النبط وفارس والنصرانية دين الروم، كما أبان الجاحظ فضل العرب على العجم. والعصبية في التاريخ، أحد أشكال الصراع بين الشرق والغرب. فقد سبق النبط الفرس ليس لعيب في الفرس، فهم من أعقل الأمم وأعدلها، ولكن اعترافا بالحق لأهله. وينسب الجهلاء الطب إلى الفرس وتدعيما للروم حقدا على النبط، مع أنه مشتق من لفظ نبط، ومعظم النصارى أصولهم نبطية ولكنهم يتملقون الروم لاتفاقهم في الدين معهم. ثم جاء الإسلام ورد إلى النبط حقوقهم. فكانوا من العلماء المقربين للخلفاء. ويدل هذا التحليل على عيوب العصبية في التاريخ وجهل أطباء النصارى، ودوران الدائرة في التاريخ. فما عمله الفرس مع النبط عمله العرب مع الفرس. هناك إحساس بالتمايز الحضاري يظهر في عبارة «فأما أهل بلادنا».
47
وتركيب بعض التعليقات الوافد على الموروث المشاهد في البلدان.
48
ويمدح النص إيمان النبط. فقد كان قوتامي على مذهب نيوشاد دون أن يفصح عن ذلك، وهو التوحيد خوفا من أهل الزمان. وكان أنوحا قد دعا له وهو ما جاء به الرسول وأظهره على الأمم فاستخلفهم الله على غيرهم.
49
وقد تم تعشيق الوافد في الموروث عن طريق قصص الأنبياء خاصة آدم. فالحضارة النبطية من آدم وإبراهيم. أخت آدم اسمها نخلة. وآدم أبو البشر نبي القمر مثل آدمي الكنعاني، ودوناي ربما مثل محمد خاتم الأنبياء، آدمي وأنوما أنبياء مثل آدم ونوح. ولما ضرب أنوحا وحبس أرسل الله عليهم السيل العظيم الذي أغرق البلاد مثل طوفان نوح.
50
لقد سمي آدم أبو البشر لما قدم لهم من منافع. أخذ النبوة من القمر فيجب تصديقه كما أخذ محمد الوحي من الله عن طريق جبريل. كان جيد الاستنباط صحيح الحدس وافر العقل جيد الفكر. فاستنبط العلوم والصنائع التي أخبر بها ووضعها لأهل زمانه فنفع بها الناس. لذلك عظمه الناس ومدحوه وسموه «أبونا»، وجعلوه إلى الناس كلهم. وأرسل الله الطاعون فهلك الكفار كما هلك قوم موسى. كما لجأ أنوحا إلى أرض مصر هربا، وألقى التابوت في النيل كما ألقي موسى طفلا.
51
والربط الجوهري بين الدين الطبيعي ودين الوحي في استعمال لفظ الله مرة جمعا ومرة مفردا، ففي الجمع تعدد الآلهة، كبير الآلهة، إله الآلهة، مثل حكيم الحكماء وعاقل العقلاء. وهناك آلهة ثلاثة: المشتري وعطارد والقمر، آلهة ذوات الأنوار تبتهج لها القلوب، وتفيض الرحمة الإلهية على أبناء البشر. فلا حرج من ترجمة نص به تعدد الآلهة كما كان الأمر عند حنين بن إسحاق في ترجمته «تعبير الرؤيا» لأرتميدروس حين ترجم آلهة «ملائكة»، وهي الحجج التي تقال عادة لعدم ترجمة أشعار هوميروس وهزيود أو محاورات أفلاطون. والدين الطبيعي دين توحيد، يقوم على العقل والفضيلة «واستنباطا وجدناه بعقولنا التي وضعتها فينا الآلهة.» وكلاهما به عقيدة وشريعة، عبادات ومعاملات.
ويعاد كتابة النص كله من المترجم أو المؤلف الثاني من منظور الموروث، التوحيد، والحديث عن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فالتوحيد ثقافة الشرق القديم كله، وما الإسلام إلا التعبير عن أنقى صورة له. تعاد قراءة الوافد من منظور الموروث وبمصطلحاته وتعبيراته مثل: الله عز وجل، تبارك وتعالى، طاعة الله جل وعز، رضي الله عز وجل، التشبه بالله عز وجل وبملائكته. كما يتحدث النص عن أولياء الله، وأهل رضا الله المتمسكين بالحبل المتصل بالله، النعمة التي يهبها الله. كما يتحدث عن غضب الله على أهل المعاصي، الخارجين على طاعته، المنقلبين في سخطه، الكذابين عليه.
52
الله يصلح جميع الفاسدين برحمته. تبارك الحي القديم.
ويتم الحديث عن الآلهة في الدين الطبيعي وكأنها الله في دين الوحي بصفاته وأسمائه وأفعاله. فالآلهة تعلم طبقا لصفة العلم في الله، وكريمة وحكيمة، وفاعلة تحدث الشفاء السريع. الله هو الأول الكريم الإله الحي. والاستعانة بالله وبالملائكة في الدين الطبيعي مثل الاستعانة بالله في دين الوحي، وتعاقب الآلهة كل مخرب. وقد فضل الله رب العالمين إقليم بابل مما يدل على أن فكرة اختيار شعب من الشعوب وتفضيله على غيره ليست فقط في نصوص العهد القديم.
53
ويظهر أسلوب التأليف الإسلامي مثل مخاطبة القارئ، والتحية له بلفظ السلام في نهاية الفقرات، وظهور بعض التعبيرات القرآنية مثل الشجرة المباركة، ووصف المؤلفين بأوصاف الأب والرحيم والصادق في جميع الأقاويل. وتظهر الأساليب القرآنية في توجيه الخطاب للمؤمنين مفردا أو جمعا وأساليب الشرط مثل فاجتنبوه، فإذا سأل سائل. فالقرآن كأسلوب تعبير عن الأنواع الأدبية السائدة في الآداب الشرقية القديمة. وتذكر الشهور العربية، آذار ونيسان، فالنبط عرب، ويقارن النص أحيانا بين أصنام العرب وأصنام النبط، فإن الصنم المسمى نسرا هو الذي أفاد العرب الكهانة حتى أخبروا بالغيب وفسروا المنامات قبل شرح أصحابها لها.
54
ويتم تعشيق دين الطبيعة ودين الوحي في النبوة. يبدو أن المؤلفين الثلاثة للنص أنبياء أو من سلالتهم؛ إذ يقول قوثامي: «انظروا إلى شفقة أبينا النبي على أبناء جنسه.» وما الفرق بين الوحي عن طريق الطبيعة والإلهام والمناجاة والرؤيا في النوم وبين الوحي عن طريق الأنبياء؟ وآدم أبو الجميع والكل أبناؤه. ويمثل آدم جماع الدينين، دين الطبيعة ودين الوحي. وهو ما يمثله أيضا إبراهيم الذي كان إماما لأهل زمانه والذي غادر قومه أيام ملك طياما المشئوم إلى بابل ثم إلى مصر. لا فرق بين الفلاسفة والأنبياء. فكلاهما مدافع عن الحق كالمتكلمين. ويقول بعضهم: «أنا مثل الأنبياء» إما لأنهم أنبياء أو لتأثرهم بالثقافات المحيطة التي يكون الأنبياء في قلبها.
ويظهر تعليق مخالفات المترجم لإكمال الموضوع. فقد ألف كتابا ضخما حكى فيه آراء من فضل الفلسفة على النبوة، ومن فضل النبوة على الفلسفة، ومن سوى بينهما، ومن سوى الكاهن بالنبي، ومن فضل البحث على الكاهن ومن سوى بينهما، وحد النبوة وحد الفلسفة وحد الكهانة بحيث يسهل التميز بينهما، ومن الحكيم ومن العالم منها. وقد اقتفى أثر النبط وناقش الصوفية والمتكلمين فيتحيرون وكأن المسلمين لم يناقشوا الموضوع من قبل.
55
ومع ذلك يخلو النص من الشواهد النقلية من الكتاب والسنة أو العلوم الإسلامية النقلية أو العقلية، مع أنه كتب في أوائل القرن الرابع الهجري، حيث كانت هذه العلوم قد نشأت وتكونت وشاعت مصطلحاتها ومزاجها باستثناء حالات قليلة مثل لفظ، تقدمه المعرفة.
56
والسؤال الآن: هل قصص الأنبياء كان موجودا في الآداب السامية القديمة كحكايات شعبية ثم دخلت في الكتب السماوية، سواء في الدين الطبيعي أو في دين الوحي؟ هل تعبر عن وقائع تاريخية أم روايات أدبية أم تجمع بين الاثنين، التاريخ كنواة والأدب كثمرة، التاريخ بداية والأدب نهاية؟
ويظهر كثير من العبارات الإيمانية من وضع المترجم مثل «بإذن الله تعالى»، «إن شاء الله تعالى»، «وبالله التوفيق»، «والله أعلم»، سواء في النص أو في التعليق، مما يدل على أن النص هو إعادة صياغة وليس مجرد ترجمة بالإضافة إلى البسملات والحمدلات والصلوات في النهاية وتوقيع العبد المصري الفقير إلى الله.
57
Shafi da ba'a sani ba