إهداء
الفصل الأول: التفسير
أولا: الشرح: التفسير والتلخيص والجوامع
ثانيا: تفسير وشرح يحيى بن عدي والفارابي
ثالثا: تفسير كتاب إيساغوجي لفرفوريوس (أبو الفرج بن الطيب)
رابعا: شروح ابن باجه
خامسا: شرح البرهان (ابن رشد)
سادسا: تفسير ما بعد الطبيعة (ابن رشد)
سابعا: شرح النفس، والأرجوزة في الطب لابن سينا (ابن رشد)
ثامنا: تفسير ابن البيطار وشرح ابن النفيس
الفصل الثاني: التلخيص
أولا: الشرح والتلخيص1
ثانيا: تلخيص المنطق (ابن رشد)
ثالثا: تلخيص الطبيعيات (ابن رشد)
رابعا: تلخيص العلم المدني (ابن رشد)
خامسا: مختصر المستصفى (الضروري في أصول الفقه) (ابن رشد)
الفصل الثالث: الجوامع
أولا: جوامع شعر للفارابي
ثانيا: جوامع المنطق (ابن رشد)
ثالثا: جوامع الطبيعيات (ابن رشد)
رابعا: جوامع ما بعد الطبيعة (ابن رشد)
إهداء
الفصل الأول: التفسير
أولا: الشرح: التفسير والتلخيص والجوامع
ثانيا: تفسير وشرح يحيى بن عدي والفارابي
ثالثا: تفسير كتاب إيساغوجي لفرفوريوس (أبو الفرج بن الطيب)
رابعا: شروح ابن باجه
خامسا: شرح البرهان (ابن رشد)
سادسا: تفسير ما بعد الطبيعة (ابن رشد)
سابعا: شرح النفس، والأرجوزة في الطب لابن سينا (ابن رشد)
ثامنا: تفسير ابن البيطار وشرح ابن النفيس
الفصل الثاني: التلخيص
أولا: الشرح والتلخيص1
ثانيا: تلخيص المنطق (ابن رشد)
ثالثا: تلخيص الطبيعيات (ابن رشد)
رابعا: تلخيص العلم المدني (ابن رشد)
خامسا: مختصر المستصفى (الضروري في أصول الفقه) (ابن رشد)
الفصل الثالث: الجوامع
أولا: جوامع شعر للفارابي
ثانيا: جوامع المنطق (ابن رشد)
ثالثا: جوامع الطبيعيات (ابن رشد)
رابعا: جوامع ما بعد الطبيعة (ابن رشد)
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (3) الشرح
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (3) الشرح
التفسير - التلخيص - الجوامع
تأليف
حسن حنفي
إهداء
لى حكماء الأمة من جيلنا.
قضاء على التغريب في عصرنا.
حسن حنفي
الفصل الأول
التفسير
أولا: الشرح: التفسير والتلخيص والجوامع
(1) الأنواع الأدبية الثلاثة
بالرغم أنه يمكن استعمال لفظي «الشرح» والتفسير على التبادل فقد استعمل الحكماء نفس المعنى تقريبا. فضل الفارابي لفظ «شرح» في «شرح العبارة»، وابن سينا في الجزء المتبقي من «شرح البرهان » بالرغم من صمت ابن سينا عن مصادره والانتقال مباشرة إلى العرض والتأليف وربما الإبداع، وكذلك فضل ابن باجه نفس اللفظ في «شرح السماع الطبيعي».
وفضل ابن رشد نفس اللفظ في «شرح البرهان» بالرغم من تغييره إلى لفظ تفسير في «تفسير بعد الطبيعة». وللفارابي تفسير كتاب المدخالحال في الأسلوبيةل. ويمكن المقارنة بين البداية عند الفارابي والنهاية عند ابن رشد لمعرفة الفرق بينهما بعد حوالي مائتي عام. هل هناك عملية حضارية واحدة بالرغم من اختلاف العصر من بداية الوافد للتعرف والإعلان إلى نهايته للتصحيح والختام؟
وتبدو أحيانا الأمثلة واحدة عند الحكيمين. فهل اطلع ابن رشد على شرح العبارة للفارابي أم هي عمليات حضارية واحدة لها استقلالها الموضوعي وليست مجرد توارد خواطر؟ هل بدأت علوم الحكمة بالتلخيص والتأليف في الوافد قبل العودة إلى الشرح والتلخيص من جديد عند ابن رشد بالمعنى العام الذي يضم الشرح بالمعنى الخاص أو التفسير والتلخيص والجامع؟ يعني الشرح هنا التأويل والتفسير وليس مجرد قول شارح.
1
وقد تم اختيار لفظ «الشرح» عنوانا للباب كله، ولفظ التفسير عنوانا للفصل الأول نظرا لأهمية «تفسير ما بعد الطبيعة» لابن رشد مع أنه كان من الممكن العكس واستعمال لفظ «التفسير» للباب كله الذي يشمل أيضا التلخيص والجوامع، واستعمال لفظ «الشرح» للفصل الأول. ويبدو أن هذه المصطلحات ليست كلها من وضع الحكماء بل من وضع النساخ والوراقين، ولا تدل على نوع أدبي جامع مانع. تتداخل فيما بينها وتتشابك. وتهدف جميعها إلى نفس الغرض، تمثل الوافد واحتواءه قبل إعادة عرضه والإبداع فيه وتجاوزه، ولكن لفظ «الشرح» هو الأكثر شيوعا. والتفسير لفظ مستمد من العلوم النقلية، علم التفسير، مما يدل على اعتماد صياغات الأنواع الأدبية في علوم الحكمة على الموروث قدر اعتمادها على الوافد. وقد استمر لفظ «الشرح» في التراث القديم شرحا للموروث بعد أن توقف الوافد حتى لقد أصبح الشرح عنوانا لعصر بأكمله، عصر الشروح والمصطلحات، العصر المملوكي حتى قبيل الإصلاح الديني الحديث أو بلغة العصر فجر النهضة العربية. وأصبحت هذه الأنواع الأدبية الثلاثة هي معيار تقسيم الشروح حتى قبل ابن رشد.
بدأ التطور التاريخي لعلوم الحكمة بعد النقل بالتأليف مواكبا الكندي. ثم ظهر العرض الصريح الجزئي والكلي أو العرض الشعبي عند إخوان الصفا والأدبي عند التوحيدي أو العرض النسقي عند ابن سينا. ثم يظهر الشرح والتلخيص والجوامع مؤخرا عند ابن رشد ويجب التأليف. فشروح ابن رشد وتلخيصاته وجوامعه أكبر بكثير من مؤلفاته التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. فالتاريخ يسير في خط معاكس للبنية؛ إذ تتكون البنية من النقل ثم الشرح ثم التلخيص ثم التأليف والعرض بأنواعه. فالغريب أن يبدأ الشرح في مرحلة متقدمة عند ابن رشد وكأنه في نهاية الفترة الأولى من تاريخ الحضارة الإسلامية وليس في بدايتها. بدأ بعد التأليف من أجل حسن الاستيعاب وقضاء على الازدواجية الثقافية. كانت الشروح المتقدمة للتعريف بالوافد (الكندي والفارابي)، والشروح المتأخرة للنقد إما للشراح السابقين يونان ومسلمين أو لنقد الموروث المتكلس والمتحد مع السلطة السياسية. في ظاهرها شرح للوافد وفي باطنها نقد للموروث الديني والسياسي.
وابن رشد هو الوحيد من بين الحكماء الذين لهم في الأنواع الأولية الثلاثة الشرح والتلخيص والجوامع أي الشرح الأكبر والأوسط والأصغر في أقسام الحكمة النظرية المنطق والطبيعيات والإلهيات. ويلاحظ على أعمال ابن رشد الآتي:
2 (1)
المنطق موزع على الأنواع الأدبية الثلاثة، وأن التلخيص أكملها وأن تلخيص إيساغوجي ما زال بالعبرية واللاتينية والإنجليزية، وأن الجوامع تشمل منطق الظن باستثناء السفسطة، وأن شرح البرهان جزء وليس كله، وأن الغالب على المقالات منطق اليقين. (2)
الطبيعيات موزعة على الأنواع الثلاثة أيضا، أكبرها الجوامع ثم الشروح ثم التلاخيص، وأن تلخيص الآثار العلوية ما زال بالعبرية. والسماع الطبيعي والسماء والعالم والنفس غير موجودة فلا توجد نماذج من شروح الطبيعيات، والمقالات الطبيعية تضم مقالين من السماع الطبيعي بالإضافة إلى اتصال العقل والإنسان بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، والطبيعيات تنقصها الشروح المفقودة. (3)
الإلهيات بها جوامع وشروح وليس لها تلخيص أو مقالات. هناك على الأقل نوع كامل من كل حكمة، تلخيص المنطق، جوامع الإلهيات، وشروح ما بعد الطبيعة. ولا يوجد كتاب له الأنواع الأدبية الثلاثة باستثناء السماء والعالم إلا أن الشرح مفقود.
3
ومجموع الأعمال كلها خمس وأربعون عملا.
وابن رشد هو الشارح الأعظم ليس كلقب لاتيني بل كلقب إسلامي لأن الكندي والفارابي وحكماء الإسلام لم يشرحوا كل شيء. وإخوان الصفا جمعوا الوافد والموروث دون المزج بينهما في صياغة واحدة، وتمثل ابن سينا بسرعة بعد أن جمع ونظر وصاغ وتحول من النقل إلى الإبداع. وألقاب ابن رشد كثيرة: الفقيه، الأجل، العالم، المحصل، الكافي، فلقب الشارح أحد الألقاب؛ لأنه قام بالشرح كما قام بالقضاء فهو القاضي، وبالدفاع عن الفلسفة فهو الحكيم، وبنقد علم الكلام الأشعري فهو المتكلم، وكتابه في الطب فهو الطبيب. لا تعني الشارح الأعظم أنه تابع لأرسطو وأن كل رسالته في التاريخ هو أنه شارح لأرسطو خاصة في تصور شائع أن الشرح هو الفرع والمشروح هو الأصل.
ويمكن عمل جدول آخر للشروح والتلاخيص والجوامع ابتداء من الكتب على النحو الآتي:
4
ويلاحظ على هذا الجدول الآتي: (1)
أن المنطق أكمل العلوم؛ لأنه يتوزع على الأنواع الثلاثة. (2)
أن الطبيعيات تنقصها الشروح كما أن الإلهيات تنقصها التلاخيص. (3)
هناك نوع كامل من كل حكمة، تلخيص المنطق، جوامع الطبيعيات، شروح ما بعد الطبيعة. (4)
لكل كتاب نوع واحد على الأقل، وتلخيص وجامع. (5)
بعض الكتب لها نوعان؛ شرح وتلخيص مثل البرهان، وتلخيص وجامع مثل الجدل، والخطابة، والشعر، والسماء والعالم، وشرح وجوامع مثل ما بعد الطبيعة. (6)
لا يوجد كتاب واحد لهذه الأنواع الأدبية الثلاثة باستثناء السماء والعالم بعدما تم العثور على النص العربي للتلخيص. التلخيص للمقولات والعبارة والقياس والسفسطة. والجامع للسماع الطبيعي والكون والفساد والآثار العلوية والنفس والحس والمحسوس.
والانتقال طبيعي من الترجمة والتعليق إلى الشرح والتلخيص قبل التحول إلى العرض والتأليف. فالحضارة تتحول طبيعيا من النقل إلى الإبداع. والتمثل والاحتواء بديلان منهجيان عن التأثر والاحتذاء. العملية الأولى هضم للوافد بينما الثانية تقليد له. ولا يمكن إدراك ذلك إلا بالتجربة الحية والعيش مع الوافد الغربي الجديد كما عاش القدماء، مترجمين وشراحا، مع الوافد اليوناني القديم كخطوة نحو العرض والتأليف والإبداع .
وإذا كان لفظ الشرح له جمع ومفرد وكان لفظ الجوامع له جمع دون مفرد إلا تكلفا «جامع» فإن التلخيص لفظ مفرد وليس له جمع إلا تكلفا «تلاخيص» وليس «ملخصات». التلخيص لفظ واحد لا بديل عنه.
هل كان ابن رشد على وعي بهذه الأنواع الثلاثة للشرح، وعي علمي مقصود عن منطق حضاري دقيق. أم أنها أتت وفق الشرح وتبعا لمقتضياته؟ ونظرا لوجود أنماط سابقة للشرح في علوم التفسير وفي علم أصول الفقه وفي الشروح السابقة والتعليقات على الترجمة، ربما كان عند ابن رشد وعي دقيق مسبق بهذه الأنواع الثلاثة.
5
الشروح والتلاخيص والجوامع نموذج للحوار بين الحضارات مع اعتزاز بحضارة الذات واحترام كامل لحضارة الآخر. تدل على فكر إنساني متفتح بحثا عن الحقيقة المشتركة التي يجاهد الجميع في معرفتها. تحيي التراث القديم، وتكمل جهود السابقين، وتواصل التراكم الحضاري. الشرح ليس مجرد تفسير ألفاظ بألفاظ، وتوضيح عبارات بعبارات أو ضم فقرات إلى فقرات بل هو موقف حضاري متكامل يستأنف عمل الترجمة. فالترجمة شرح صغير بدايات الشرح الكبير ومقدمة له.
كما تكشف عن قدرة على إيجاد المصطلحات الجديدة وتجاوز الترجمات الحرفية بل والمعنوية، وعن قدرة ثانية على الفهم والاستيعاب للوافد، وعن قدرة ثالثة لنقل النص اليوناني على البيئة الجديدة وإيجاد مناطق التعشيق بين الوافد والموروث، وقدرة رابعة على تطوير الموضوع كله استعدادا لمرحلة التأليف والإبداع. وإذا كانت هذه الأنواع الثلاثة ليست مجرد تصنيف كمي من حيث تفاوتها في الحجم بل هي تصنيف كيفي من حيث دلالتها على عمليات الإبداع الحضاري، فالسؤال: هل لها أي مصادر عند علماء المسلمين أم أنها أشكال نمطية فرضتها عمليات الإبداع الحضاري؟ ربما الشرح أقرب إلى تخريج المناط عند الأصوليين مجرد إبراز العلة من الأصل. والتلخيص أقرب إلى تنقيح المناط أي بلورة العلة وتوضيحها من الأصل. والجوامع أقرب إلى تحقيق المناط أي إيجاد العلة في الفرع من أجل تعدية الحكم. فهناك بنية أصولية وراء هذه الأنواع الأدبية الثلاثة صريحة أو ضمنية خاصة وأن ابن رشد هو الحكيم القاضي ، الفيلسوف الأصولي .
والشرح أكبر من حيث الكم لأنه تقطيع للنص، ومحاولة مضغه قطعة قطعة حتى يسهل ابتلاعه قبل أن يتمثله التلخيص وتخرج الجوامع فضالاته ويستبقي للتأليف عصارته، والشرح الأوسط أقل كما؛ لأنه خلص النص المترجم من شوائبه وأصبح أكثر تركيزا. والجوامع أقل كما؛ لأنها تتعامل مع القلب وليس الأطراف. الشرح أقرب إلى الطول؛ لأنه يتعامل مع الترجمة كلها من ألفها إلى يائها على الاتساع. والتلخيص أقرب إلى العرض؛ لأنه يتعامل مع الشرح الذي يتضمن قلب الترجمة والجوامع أقرب إلى الارتفاع نحو العمق؛ لأنها تتجه نحو الموضوع والقصد، وتستخرج اللب من القشور، وهو أكثر دلالة على الوافد من الجوامع والتلاخيص لأنه ما زال يتعامل مع الخارج لإحضاره إلى الداخل. يبدأ بالترجمة قبل أن يدخلها في عمليات التمثل الإخراج من أجل التأليف والإبداع. التلخيص أكثر دلالة على تعشيق الوافد في الموروث لأنه يدخل الخارج في الداخل، ويفسح أوسع مجال في الداخل لاستقبال الخارج. والجوامع أكثر دلالة على الإبداع الذاتي المستقل عن الوافد والموروث، الوليد الجديد بعد أن تم اللقاح. الشرح أقرب إلى المعارك الخارجية مع النص المترجم وشراحه، والتلخيص أقرب إلى المعارك الداخلية، كيفية التعشيق والاستيعاب وصب مضمون الوافد في قالب الموروث، والجوامع هو الكوب المملوء والمقدم للشاربين.
الشرح مملوء بأسماء الوافد أكثر من الموروث؛ لأنه ما زال يتعامل مع الخارج أكثر مما يتعامل مع الداخل. وفي التلخيص أسماء الموروث أكثر من أسماء الوافد لأنه يبحث عن أماكن التعشيق. والجوامع لا هذا ولا ذاك، لا بذور ولا تربة، بل زرع جديد في التأليف، وحصاد جديد في الإبداع.
ويصعب التمييز في الواقع بين هذه الأنواع الثلاثة خاصة وأنه لا توجد أمثلة واضحة من كل نوع. وقد يكون السبب في ذلك أنها متداخلة المهام، في كل منها تعميم وتخصيص، تحليل وتركيب، فك وإدغام، حذف وإضافة. ما يفعله الشرح مع الترجمة يفعله التلخيص مع الشرح وتفعله الجوامع مع التلخيص. (1) التاريخ والبنية
والخلاف ما زال قائما حول الترتيب الزماني للأنواع الثلاثة أيهما كان الأول وأيهما كان الأخير، والأوسط في كلتا الحالتين واحد. ربما كان الشرح الأكبر مثل «تفسير ما بعد الطبيعة» في الأول والتلخيص كان في الآخر إذ يتضمن الشرح الأكبر التفصيل والتفصيص والدراسة وعمل «الفيشات» بلغة العصر حتى يمكن فهم النص كما وكيفا. في حين يتطلب التلخيص وعيا بالكم دون الكيف، ومعرفة بالمضمون دون العبارة مما يتطلب تركيزا وجهدا وعمقا ونضجا، وهو ما لا يتأتى للإنسان إلا في أواخر العمر عندما يتخلى عن المادة العلمية ويصبح هو بديلا عنها. ولا يتحدث عنها إلا في البداية كفكرة عامة وذكريات ماضية. فهل كان لابن رشد مشاريع أخرى للشرح بعد هذه الأنواع الأدبية الثلاثة؟
6
لا يكفي أن تكون له الجوامع في البداية والشروح في النهاية لأن اقتناص الأشياء لا يكون إلا في النهاية بعد تحليل الألفاظ وإدراك المعاني.
7
الشرح قول من المتعين إلى اللامتعين، من الخاص إلى العام، من الحالة اليونانية إلى الحالة الإسلامية، في حين أن التلخيص تحول من اللامتعين إلى المتعين، من العام إلى الخاص، من اللغة والمصطلح والألفاظ إلى المعاني والتصورات. أما الجوامع فهي تحول من الخاص في الذهن إلى الأخص في الواقع، إلى الموضوع ذاته قبل أن يتحول إلى تصور وحكم، حدود وقضايا. وهناك نص غريب وفريد في تفسير ما بعد الطبيعة يوحي بالترتيب المضاد، الجوامع في الشباب، والتلاخيص في منتصف العمر، والشروح في النهاية. فالتفسير كتب في الشيخوخة، مع الاهتمام بعلم الفلك ولكنها رسالة أجيال متعاقبة. وهي نفس روح ابن سينا في آخر كتاب «الشعر» من الشفاء. ويكفي إدراك ذلك بالعقل أيضا إذا كان هذا الترتيب له ما يؤيده بالنصوص. ففي مرحلة الشباب التركيز على الشيء ذاته باختصار وكأن الجوامع أشبه بالمقالات العامة. ثم تأتي التلاخيص في مرحلة الشباب. ثم عندما يريد الحكيم أن يترك عملا تكوينيا كبيرا فإن ذلك لا يتم إلا في الشيخوخة.
8
ومن بعض فقرات ابن رشد في نهاية تلخيصاته تبدو الجوامع في البداية والتلخيصات في الوسط والشرح في النهاية أي البداية كانت رؤية الموضوعات، والوسط تلخيص المعاني، والنهاية شرح الألفاظ كما يصرح بذلك في تلخيص القياس، ويصرح بنفس الشيء في نهاية السفسطة، أنه قام بالتلخيص حسب ما تأدى إليه فهمه ووقته وأنه سيعيد الكرة إن أفسح الله في العمر ويكرر نفس الشيء في آخر «تلخيص الخطابة».
9
والسؤال: لماذا الشرح والتلخيص بالمفرد والجوامع بالجمع؟ ربما لأن الجوامع تعبر عن موضوع واحد، رؤية واحدة، مذهب واحد من أجل التأكيد على الوحدة العضوية للنص المشروح. مع أن الشرح أحيانا يكون جمعا مثل شروح ابن باجه على السماع الطبيعي، وربما وجد النساخ تسمية الجوامع بالمفرد لا تعني شيئا مثل جامع الجدل أو جدل الجامع في حين أن المفرد في حالة الشرح والتلخيص أدل مثل شرح البرهان، تلخيص المقولات.
والسؤال الآن: هل عرف ابن رشد ترجمات عربية أخرى في المشرق أو في المغرب استعملها اليهود والنصارى؟ هل كان لفلاسفة الأندلس في المغرب مصادرهم الخاصة المستقلة عن الترجمات التي تمت في المشرق؟ هل كتب ابن رشد كل نوع وأمامه النوع السابق؟ هل كتب التلخيص وأمامه الشرح للمقارنة وعدم التكرار، وكتب الجوامع وأمامه الشرح والتلخيص أم أنه كان في كل مرة يكتب يبدأ بداية جديدة، والبداية الجديدة من سمات التفلسف.
10
ربما حضرت الأنواع الأخرى في الذاكرة في حضارة بدأت بتراث شفاهي قبل التدوين. والحقيقة أن هذه الأنواع الثلاثة ليست تاريخا فقط بل بنية؛ إذ تعبر عن علاقتها بالترجمة كمراحل متتالية للتمثل والاحتواء للنص المترجم بعد توظيفه حتى يسهل ابتلاعه. ويمكن عمل عدة صور مستمدة من الحياة العضوية والعمرانية والمعمارية والجسدية والزراعية والصناعية والتجارية المباشرة للتمثيل وضرب الأمثال، طريقة الشرقيين.
11
والعرض التاريخي لا يكون نوعا أدبيا أو بنية. إنما هو المناسبة أو الحامل في الزمان والمكان.
12
فإذا كان ابن رشد قد كتب شروحه الثلاثة بناء على طلب الأمير فإن ذلك يدل على اهتمامه بالفلسفة وابن رشد هو الفيلسوف. والعلاقة بين الفلسفة والدولة علاقة حميمة طالما أن الأمير يريد المعرفة، والفيلسوف قادر على أداء المهمة. الملك الفيلسوف والفيلسوف الملك نموذج القدماء ليس صعب المنال. فبعد ثلاثمائة عام من الترجمة والشروح والتلخيصات والعروض والمؤلفات ما زال الأصل في حاجة إلى توضيح وكأن الطلب ينم عن حركة فلسفية أصولية، تود العود إلى الأصول سواء من الأمير أو من الفيلسوف. والعودة إلى الأصول كانت مطلب الفقهاء في الأندلس وأساس تحريم الفلسفة وتكفير الفلاسفة فيما بعد. كانت نية الأمير والفيلسوف الدفاع عن الفلسفة ضد المتربصين بها، والمعادين لها من الفقهاء والحساد. فالشرح توضيح لها ودفاع عنها. ولما كانت الفلسفة هي أرسطو وبالتالي فإن الدفاع عن الفلسفة هو شرح أرسطو وتوضيحه. طلب الأمير شرعي لشعوره بغربة ثقافية مع الوافد. وقد استطاع ابن رشد بشروحه الثلاثة القضاء عليها بإعادة الوافد إلى حضن الموروث، وبيان اتفاق النص والعقل والطبيعة.
والغاية من الشرح والتلخيص والجامع هي نفس الغاية من الترجمة والتعليق، استمرار ضم الوافد والموروث في وحدة ثقافية متجانسة على النحو الآتي: (1)
تجاوز الازدواجية الثقافية بين الوافد والموروث، ومزاحمة الوافد للموروث، ومقاومة الموروث للوافد حتى لا يقع الأنا الحضاري في ازدواجية الثقافة وبالتالي ازدواجية الشخصية وشق الصف الوطني، وصراع القوى السياسية كما هو الحال في هذه الأيام. (2)
تجاوز عزلة الوافد؛ وبالتالي عزلة النخبة الناقلة لها حتى لا تصبح عنصر جذب وتغريب لثقافة الموروث؛ وبالتالي يتم الاستفادة بالوافد في المصطلحات والمناهج وتطوير الموروث. (3)
تجاوز الأنا الحضاري البدوي الإحساس بالدونية أمام ثقافة الآخر العقلانية الطبيعية المفتوحة التي تقوم على تعدد الرأي والافتراض والرد والحجة والبرهان. ولا يكفي أن يقوم الوحي بتعويض الأنا هذا الإحساس بالدونية وإلا تحول إلى إحساس مضاد بالعظمة بل تطوير الأنا الحضاري الحامل للوحي وللحضارة؛ وحي الأنا وحضارة الآخر خاصة وأن كليهما يقوم على أسس مشتركة، العقل والطبيعة. (4)
عدم الوقوع في عزلة الموروث وثباته دون تطويره بالتفاعل مع الثقافات المجاورة وعقلنته طبقا لروح الثقافة الوافدة، وبيان اتفاق الوحي والعقل والطبيعة. فالوافد وسيلة والموروث غاية، وهو التقابل المعروف عند المؤرخين بين علوم العجم وعلوم العرب، بين علوم الأوائل وعلوم الأواخر أو عند الفقهاء بين علوم الوسائل وعلوم الغايات. (5)
إظهار إبداعات الأمة وحيويتها وقدرتها على الإبداع الحضاري دون التصاق بالموروث المعطى من الداخل أو تخوف من الوافد المنقول من الخارج، وثقتها بالنفس على دورها الحضاري في التاريخ منذ حضارات الشرق القديم حتى وراثتها دين الوحي ودين الطبيعة في مرحلة جديدة من تاريخ الحضارات الإنسانية. ويتم ذلك على النحو الآتي: (أ)
تحليل نص أرسطو وعرضه على العقل فما اتفق معه أخذ وما خالفه حذف تلقائيا وإكمال البنية العقلية حتى يظهر الجزء داخل الكل، وإعادة التوازن لها ضد أحادية الطرف، وفهم الموروث على جانبه العقلي والطبيعي في نظرة متكاملة وتعشيق الوافد عليه لاتفاقهما في العقل والطبيعة. (ب)
عرض الموضوع على الواقع والتجربة فما اتفق معه أخذ وما خالفه سقط تلقائيا، فالواقع مثل العقل محك النظر ومعيار العلم، وإكمال الموضوع إحصائيا حتى يظهر الجزء في الكل، وتتكامل النظرة. (ج)
إدماج الوافد في الموروث حتى تظهر الوحدة بينهما من خلال العقل والطبيعة، وأهمية الوحي في الموروث كعنصر زائد على العقل والطبيعة، القاسمين المشتركين في الموروث والوافد. دور الوحي هو إعطاء الحقيقة الكلية سلفا من أجل عدم الوقوع في النظرة الجزئية، وإعطاء يقين قبلي مسبق وحقيقة موضوعية محايدة لا تخضع لأهواء البشر أو رغبات الناس، وسرعة المعرفة وإعطاؤها مرة واحدة ولو في صورة حدس في حاجة إلى برهان، فرض في حاجة إلى التحقق من صدقه بدلا من طول البحث عن الحقيقة من أجل اختصار الزمن نظرا لقصر العمر، وتوفير الجهد والوقت من أجل سرعة الانتقال من البحث النظري إلى التحقق العملي.
ليس الشرح إذن هو تفصيل النص، عبارة عبارة، وبيان مفرداتها وإعرابها وتكرار معانيها كما يفعل طلاب المدارس لامتحانهم في الفهم الموضوعي للنص بل هو بداية عملية النقل الحضاري أو نقل النص من بيئة ثقافية إلى بيئة أخرى مما يتطلب عدة عمليات لم يستطع المستشرقون الغربيون أو العرب إدراكها وحكموا عليها بأنها تشويش وخلط وسوء فهم. فلا يوجد معنى موضوعي للنص ولا حتى في ذهن مؤلفه بل توجد قراءة لنص مصمت مع أن المستشرقين يعيشون وسط التراث الغربي وعلوم الهرمنيطقيا ولكن المستشرق يتعامل مع التراث الإسلامي، تراث الغير بأقل أدوات التحليل وأضعف الإيمان. ولو أنه تعامل مع تراثه الغربي لكان أكثر عمقا وأبعد نظرا. لم يضاعف الشراح المسلمون اللبس والوهم والتشويه للنص الأرسطي بل قاموا باحتوائه وتمثله من أجل الاستعداد لمراحل تالية: العرض والتأليف والإبداع.
13
والدراسات الدقيقة والحديثة في الشروح والتلخيصات والجوامع هي الدراسات المتقابلة عندما يوضع النص الأول في مقابل النص الثاني وإخضاع الزيادة والنقصان والتأويل التي بين النصين إلى منطق دقيق كما هو الحال في طبعات الأناجيل الثلاثة المتقابلة في عواميد ثلاثة والإنجيل الرابع تحتها لاستقلاله الخاص كنص رابع. يختلف مع الأناجيل المتقابلة أكثر مما يتفق، في حين أن الأناجيل الثلاثة المتقابلة تتفق فيما بينها أكثر مما تختلف. وقد تكون هذه مهمة جيل آخر أكثر دراية بمناهج التأويل الحديثة وعلى علم أدق باليونانية والعربية والسريانية وبمناهج اللسانيات المعاصرة. وتكون مهمة جيل آخر عدم التوقف على هذه اللحظة الأولى في التاريخ في الفلسفة الإسلامية، لقاء العرب واليونان منذ ما يزيد على اثني عشر قرنا، واستئناف مسار التاريخ في لحظات التقاء أخرى مثل اللحظة الراهنة التي بدأت منذ قرنين من الزمان من التقاء العرب المحدثين مع الغرب الحديث، وكما كانت علاقة الحكماء القدماء مع سقراط وأفلاطون وأرسطو وفيثاغورس وجالينوس وأبقراط وأرشميدس وإقليدس تكون علاقة الحكماء المحدثين مع ديكارت وكانط وهيجل وهوسرل كفواصل كبار ومؤسسي مدارس ورواد مذاهب بالإضافة إلى تلاميذ كل منهم يمينا ويسارا.
14 (2) اللفظ والمعنى والشيء
وإذا كان للفكر مستويات ثلاثة؛ اللفظ والمعنى والشيء، فإن الشرح والتلخيص والجامع يتعلق كل منها بأحد مستويات الفكر. ومن المستحيل أن يكون الأصغر هو اللفظ لأن المعنى أوسع من العبارة، والأوسط بالضرورة هو المعنى فيبقى اللفظ للكبير. ولابن رشد شرحان؛ واحد في المنطق، واحد في ما بعد الطبيعة. ويكون ذلك على النحو الآتي:
15 (أ)
الانتقال من الترجمة إلى الشرح على مستوى اللفظ والعبارة والقول؛ وذلك لتحقيق عدة أهداف: (1)
التحول من الأسلوب العربي المترجم حرفيا أو معنويا إلى الأسلوب العربي المؤلف، وتطوير الترجمة بالمعنى درجة أخرى حتى يتم تذويب اللفظ المترجم الأول كخطوة نحو التأليف. ويعبر الشرح عن المعاني المترجمة بسهولة ويسر حتى تستطيع الحضارة التعامل مع المعاني مباشرة في المراحل التالية، وتوضيح ما غمض من الترجمة، وتبسيط الأفكار وتقريبها إلى الأذهان. الشرح هو تأدية المعنى بعبارة عربية سليمة من المعنى إلى اللفظ إذا كانت الترجمة من اللفظ إلى المعنى. فهما حلقتان متكاملتان، تحويل الوافد من مستوى العبارة اليونانية إلى مستوى العبارة العربية، أي ترتيب قول أرسطو وإعادة تنظيمه بتفكيكه من أجل تنظيم العبارة. (2)
التخلي كلية عن المصطلحات المعربة إلى المترجمة واستقرار المصطلح العربي وكأنه نابع من اللغة العربية العادية أو الاصطلاحية للموروث، وليس مترجما من اليونانية مثل العلة والمعلول، الصورة والمادة، الجوهر والغرض، الزمان والمكان، الكيف والكم، وهي التي أصبحت المكون الرئيسي للمبادئ العامة في علم الكلام المتأخر بعد أن اعتمد على الفلسفة. (3)
البرهنة على صحة الأفكار المشروحة والتمثيل لها شرحا وتوضيحا، وتبني قضايا النص المترجم وإعمال مزيد من العقل، وجعله مقبولا مستساغا وكأنه نابع من الموروث وليس آتيا من الوافد، التعامل مع النص من أعلى وليس من أسفل، من القلب وليس من الأطراف، من الجوهر وليس من العرض، من المركز وليس من المحيط، من المعنى وليس من اللفظ. كما يهدف إلى التصريح بالضمني واستخلاص النتائج المضمونة. (4)
وضع الجزء في إطار الكل وإعادته داخل البنية الكلية مثل اعتبار الشعر جزءا من المنطق. (5)
الإشارة إلى الوافد أكثر من الإشارة إلى الموروث والإحالة إلى العرب أكثر من الإحالة إلى اليونان، وتغيير البيئة الثقافية من النص المترجم إلى النص المشروح. فغاية الشرح إرجاع القول الوافد إلى الشيء المدروس من الموروث، تحويل الوافد من الخارج إلى الموروث الداخل، وتركيب التصورات اليونانية على التصورات الإسلامية. (6)
ضبط المعنى غير المتوازن وجعله أكثر توازنا أو إكمال المعنى الناقص وجعله أكثر تكاملا. فالعقل قد يكون حاد المزاج، أحادي الطرف، والعقل مع النص أكثر اعتدالا وتكاملا، وتحديد المطالب التي قد تحدث لبسا وحلها من أجل التوضيح للمعنى، وتحديد قصد أرسطو على مستوى الموضوع أو الشيء. (7)
تقوية يسار الأرسطية ضد يمينها، وتخليص النص الأرسطي من التأويلات المسيحية اليونانية والإسلامية مع توظيفه إلى الداخل لنقد الأشعرية والتصوف والفلسفة الإشراقية.
16
وتباين القصد بين أرسطو والمسلمين، فهم أرسطو له وقصد المسلمين منه تعبير عن طبيعة العمل الحضاري ونقل النص وتوظيفه وإعادة بنائه من حضارة إلى أخرى. فهو بالإيجاب لا بالسلب.
17
كما أن أسئلة الباحثين عن علاقة النص بالشرح تدخل ضمن العمليات الحضارية التي تتم انتقالا من الترجمة إلى الشرح، ومن المؤلف أو المترجم إلى الشارح مثل: كيف فهم المسلمون كتاب الشعر؟ فالفهم بداية والعمليات الحضارية من الشرح إلى التأليف إلى الإبداع. فقد فهم الشراح المسلمون معنى الملحمة والدراما، ورفضوا تقليد معاني شعرهم، مما يدل على تجاوز الفهم الموضوعي إلى النقل الحضاري. والإبداع فهم. والحكم بأنهم حرفوا هذه الكتب كي تتلاءم مع أفكارهم حكم خاطئ لأنه يقوم على أن الشرح تكرار ونقل مطابق من الترجمة إلى الشرح وإسقاط العمليات الحضارية التي تتم منذ نقل النص من بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى. وقد تمت في مرحلة الترجمة عند المترجم قبل أن تتم عند الشارح. وإن فهم الأفكار العامة يعني أخذ لب الموضوع وأساسه من أجل إعادة بنائه وتركيبه انتقالا من الخاص إلى العام، ومن التاريخ إلى البنية. أما أنهم لم يفهموه على الإطلاق فهذا حكم يقوم على مفهوم المطابقة بين الترجمة والشرح. وهو مفهوم يقوم في ذهن المستشرق على افتراض التبعية، تبعية الشارح للمشروح والقارئ للمقروء. كما يعتمد لا شعوريا على الوضعية التي ترى وجودها في موضوعية النصوص. فالمعاني أشياء. ولا يوجد فهم صائب وفهم خاطئ بل يوجد تأويل وقراءة للآخر طبقا للأنا، قراءة الموضوع طبقا للحاجة، نقل النص من مستوى الموضوع إلى مستوى الذات، من ثقافة الأنا إلى ثقافة الآخر.
ليست وظيفة الشرح ضبط الترجمة، ويكون ذلك إحدى وظائف الشرح وميزاته على الترجمة. فغاية الشرح احتواء الترجمة وقراءتها وليس ضبطها نظرا لتباين المستويين. يضبط الشرح المعنى وليس اللفظ، ومن الطبيعي أن يكون الشرح أكثر وضوحا من الترجمة وأسلس عبارة. الترجمة خطوة أولى والشرح خطوة ثانية لاحقة بعد التعليق. ولا يستعمل اللاحق لضبط السابق بل يستعمل السابق لمعرفة كيفية خروج اللاحق منه، ليست الغاية ضبط النص المترجم فهو ليس نصا منفصلا يوضع في متحف ويتم الحفاظ عليه وتقديسه أو تحنيطه بل هو بداية عملية جنينية. هو الخلية الأولى التي منها يبدأ الشرح والتلخيص مع التأليف في كل مراحله. وليست مهمة المترجم وعالم اللغة مقارنة الترجمة بالشرح لضبط الأولى، ولكنها مهمة الفيلسوف لمعرفة وجوه عدم التطابق بين الترجمة والشرح وكيفية تطور النص المترجم إلى نص مشروح وانتقال الجنين من مرحلة الحمل إلى مرحلة الولادة، وقد يقرب الشرح أو يبعد عن النص لأن الشرح خطوة نحو التأليف؛ لذلك تظهر بوادر التأليف في الشرح. فإذا خالف الشرح النص يفضل الشرح لأنه تأليف مبكر، وهي نفس العلاقة بين النص اليوناني والنص العربي. إذا خالف النص العربي النص اليوناني فهو شرح مبكر، الشرح نظرية في الإيضاح، إيضاح ما غمض من الترجمة، تحويل النص المترجم من مستوى اللغة إلى مستوى المعنى، من مستوى النص إلى مستوى العقل، الترجمة لفظ، والشرح معنى، مهمة المترجم تحسين اللفظ، ومهمة الشارح توضيح المعنى، وظيفة الشرح بعد الترجمة عرض الفكرة دون جسدها اللفظي ثم الانتقال إلى التعبير عنها بلفظ طبيعي غير منقول. وإذا ظهرت بعض الركاكة في الترجمة فإن جمال العبارة يظهر في الشرح قبل التأليف في الموضوع انتقالا من الترجمة والنقل إلى التمثل والاحتواء.
18
فإذا ما ساير شرحان لابن سينا وابن رشد الترجمة في حالة الموضوع والاتفاق في المصطلحات فإن ذلك يعني وجود بداية موضوعية وفهم لنواة النص. أما إذا خالف الشرح الترجمة تكون للشرح الأولوية على النص لأن الشرح قام بدور الفهم والبناء والتركيب كخطوة نحو التأليف. وأصبحت الترجمة عملا تاريخيا ماضيا بغير ذي دلالة مثل النفايات النووية بعد أخذ الطاقة منها. وإن استعمال بعض ألفاظ الفهم والتمثل والاحتواء والهضم والمضغ والازدراد والإخراج من العمليات العضوية لوصف العمليات الحضارية له ما يبرره في الوعي الحضاري. وهو وعي حي له عملياته في التمثل والإخراج، في النقل والإبداع. (ب)
الانتقال من الشرح إلى التلخيص على مستوى المعنى: ويتم الانتقال من الترجمة والشرح إلى التلخيص على مستوى المعنى، من أجل التركيز والتعامل مع المعاني كماهيات ووحدات مستقلة يمكن إعادة تركيبها وبنائها في مرحلة التأليف. ولابن رشد تسعة تلخيصات؛ ثمانية في المنطق وواحد في الطبيعيات. والهدف من ذلك: (1)
الانتقال من الغموض إلى الوضوح، وما تبقى من المنقول إلى المعقول من أجل إبراز المعنى الخالص بصرف النظر عن مصدره، وافد أو موروث، عقلي أو نقلي، ورفع قلق عبارات المترجمين. (2)
العرض العقلي النظري الخالص بلا أمثلة على مستوى العموم أو الخصوص. فالفكرة واضحة بذاتها، تحتوي على مقياس صدقها في ذاتها. (3)
الترابط المنطقي في البنية العقلية على مستوى الاتساق الداخلي للموضوع حتى يظهر الموضوع العقلي قبل أن يتحول في التأليف إلى الموضوع الواقعي. (4)
حذف الزائد وإكمال الناقص، وبلورة المعنى وتحديد الموضوع حتى يصبح مركزا مدببا يمكن التعامل معه في بناء موضوع أشمل وأعم، تخليص الشرح مما زال عالقا به من أخلاط من أجل الإيجاز والاختصار. (5)
الإقلال من المادة والأمثلة على مستوى التعميم والتطبيق سواء في البيئة الثقافية للترجمة الأولى أو في البيئة الثقافية الثانية للتلخيص. (6)
تخليص النص المشروح من الأقاويل الجدلية والخطابية وتحويلها إلى أقاويل برهانية أكثر دقة من أجل إحكام طرق استدلالاتها لتصبح نظرية عامة خارج إطار بيئتها المحلية. (7)
وضع الوافد في الموروث منعا للتغريب والازدواجية ليس فقط على طريقة الوعاء كما هو الحال في الشرح بل عن طريق الموضوعات نفسها أي بداية للتحول من الشكل إلى المضمون، ومن الألفاظ إلى المعاني.
وكما أن الشرح مرحلة تالية للتعليق والتعليق مرحلة تالية للترجمة، فإن التلخيص مرحلة تالية للشرح، يبدأ بالمعنى وليس باللفظ، بالقصد وليس بالعبارة. ومع ذلك قد تكون الترجمة تلخيصا منذ البداية، مجرد التعرف على المعنى حتى يتضح في الذهن، والتعبير عن ذلك باللغة العربية المباشرة حتى يتم التأليف في الموضوع. فالترجمة تتم بناء على باعث فكري واهتمام فلسفي بالموضوع. وذلك مثل ترجمة الآثار العلوية. فهي مجرد تلخيص بطريقة القول الشارح. وقد يكون الشرح تلخيصا أي إدماجا وحذفا كيفيا دون حذف كمي. إذا كان النص المنقول غير متوازن المقالات من حيث الكم فإن وظيفة الشرح إعادة إنتاج النص بحيث يحقق توازنا أكبر بين المقالات. وإذا ما تفاوتت مؤلفات أرسطو فيما بينها من حيث الكم فإن الشرح لا يلتزم بنفس النسبة الكمية. قد يسهب في كتاب قصير، ويختصر كتابا طويلا.
19
قد يكون الهدف من الشرح جمع الموضوعات المشتتة المفرقة دون قسمة جامعة بينها أو بنية. مهمة الشرح لم الموضوع وجمع عناصره المتناثرة في بنية واحدة كما هو الحال في كتاب الآثار العلوية الذي تشتت موضوعاته وتتفرق دون قسمة جامعة بينها.
20
وبالتالي يصبح الشرح هو الأصل والترجمة هي الفرع، عملية وعي حضاري بقلب الأصل فرعا، والفرع أصلا.
وقد يقوم النقلة أنفسهم بمختصرات قبل الشراح والفلاسفة. يساهم في ذلك الأدباء والأطباء وكل أهل الثقافة المشتغلين بالفكر سواء كانوا معروفين أو غير معروفين، يأتي التلخيص قبل الترجمة كما هو الحال في كتاب الشعر قبل ترجمته من أجل مجرد التعريف بالكتاب. فإن دعت الحاجة بعد ذلك إلى ترجمته كلية جاءت الترجمة في جو ممهد ثقافيا لقبول الكتاب والرغبة في التعرف على المعاني قبل الألفاظ على عكس كتب المنطق الأخرى التي بدأت ترجماتها قبل شرحها وتلخيصها. وقد يتم التلخيص والشرح مع الترجمة وربما قبلها في صياغتها وحولها من أجل تفتيت النص من الداخل ثم حصاره من الخارج. ولا يتحقق الغرض عن طريق محاصرة النص بوضع الشرح مع النص مساويا له في الأهمية وبالتالي يتم ابتلاع النص في الشرح.
التلخيص إحدى مراحل الانتقال من الترجمة والتعليق والشرح إلى الجامع والتأليف والإبداع، بداية التأليف المستقل من النص وإن كان في معانيه دون الالتزام بحروفه. ليست مهمته الإضافة والزيادة بل العرض الواضح للموضوع مع إعادة الترتيب وتقطيع النص إلى وحدات جزئية وإبراز المعاني والأشياء وراء الألفاظ والعبارات. التلخيص قراءة، والقراءة إعادة بناء القديم طبقا للجديد، أسسه واحتياجاته. فالحكم بعدم الجدة في التلخيص يصدر عن عقلية الانقطاع، وإضافة شيء جديد بديلا عن شيء قديم من الخارج وليس على عقلية التواصل، استخراج الجديد من القديم من الداخل عن طريق التولد. يضع التلخيص الجزء في الكل، وأحد كتب المنطق داخل كتب المنطق كلها، وبيان جوانب الموضوع في بنية واحدة ورؤية القصد الكلي للعمل. (ج)
الانتقال من التلخيص إلى الجامع على مستوى الشيء: فإذا كان الشرح يقترب من النص كلفظ وعبارة، وينتقل التلخيص إلى المعنى والمفهوم فإن الجامع يذهب إلى الموضوع مباشرة فيما وراء الألفاظ والمعاني لإبرازه حتى يراه القارئ، ولابن رشد جوامع إحدى عشر، ثلاثة في المنطق، وسبعة في الطبيعيات وواحد في السياسة.
21
وتهدف الجوامع إلى: (1)
التوجه مباشرة نحو الموضوع من أجل إعادة صياغته واستئناف عملية التحول من النقل إلى الإبداع. (2)
تغيير كتب أرسطو المختلفة في «الأرجانون» وإعطائها عناوين أخرى، وإعادة عرضها بطريقة أكثر عقلانية بحيث تعبر عن بيئتها الداخلية. (3)
تقديم صناعة المنطق بحيث تبدو متلائمة مع طريقة أرسطو أي إعادة التركيب مع الحفاظ على البيئة.
22 (4)
عرض المذهب من حيث هو قول برهاني ونقله من مجاله الحيوي، مجال الحوار والجدل والنقد التعليمي إلى ميدان البرهان الخالص. (5)
تخليصه من الشوائب الأفلوطينية والأفلاطونية.
23 (د)
تحليل المضمون؛ يضم تحليل مضمون كل نص من الشرح أو التلخيص أو الجامع الخطوات الآتية: (1)
تحليل أفعال القول لمعرفة إلى أي حد الشرح أو التلخيص أو الجامع يتعامل مع الألفاظ أو المعاني أو الأشياء كما هو الحال في تحليل ألفاظ الرواية في الحديث وفي الأصول. (2)
تحليل ألفاظ البيان والإيضاح وأنماط الاعتقاد، الظن والشك واليقين والاستفهام، لمعرفة كيفية توضيح الشرح للنص المترجم، وأن الغاية هو تجاوز اللفظ إلى المعنى. (3)
تحليل الوافد وكيف أمكن تقطيعه من أجل مضغه وبلعه وتمثله ثم إخراجه، سواء كان أسماء أعلام أو فرق ومذاهب أو أعمال أو أمثلة وافدة. (4)
تحليل الموروث لمعرفة كيفية تركيب الوافد عليه، أسماء أعلام أو أعمال أو بيئة جغرافية أو لسان عربي أو مصطلحات منقولة أو معربة، علوم إسلامية أو آيات قرآنية وأحاديث نبوية. (5)
تحليل البدايات والخواتيم في كل نص، البسملات والحمدلات والصلوات والدعوات بالتوفيق لأنها تضع «الكادر» العام الذي يتم فيه الشرح مع المكان والزمان والناسخ والملكية الشرعية للمخطوط، يدل على أن الشرح عمل حضاري وليس مجرد شرح على نص، ويدل على حال الأمة والدعوة لمصر أو لإشبيلية المحروسة من الغزوات الصليبية والاستعمارية الحديثة. فالنص كما أنه يعبر عن فكر فلسفي يعكس أوضاعا سياسية واجتماعية.
ومنهج تحليل المضمون لا يتم إلا في النص الأصلي، الشرح أو التلخيص أو الجامع لأنه يقوم على تحليل الألفاظ، ولا ينطبق على الترجمات العبرية أو اللاتينية أو الأوروبية الحديثة. فهذه خضعت لعمليات حضارية أخرى، وذلك مثل نصوص الوحي التي لا يمكن تحليلها لغويا إلا في لغتها الأصلية العربية أو الآرامية أو العبرية. فقد تعرف المترجم اللاتيني بناء على نفس العمليات الحضارية المضادة، إسقاط المصطلحات والألفاظ والأمثلة المحلية ووضع لاتينية مكانها مع ترك البسملات والحمدلات وكل ما يظن المترجم اللاتيني أنه يتعلق بالبيئة الثقافية العربية الإسلامية ولا يدخل مباشرة في الموضوع على عكس المترجم العربي الأول الذي تغلب على ثقافة اليونان المغايرة بإيجاد مصطلحات عربية ملائمة مثل ترجمة لفظ آلهة جمعا بلفظ الملائكة. تفيد الترجمات اللاتينية لمعرفة كيفية نقل العلوم العربية الإسلامية إلى اللاتينية. يقوم بتحليلها إما باحثون عرب أو أوربيون. فقد يدل المحذوف على أحد أسباب أزمة العلوم الأوروبية بناء على الفصل بين الواقع والقيمة إذا كان المحذوف هو كل ما يتعلق بعالم القيم.
وبالرغم من طابع التكرار لهذا التحليل في كل عمل متكرر كما هو الحال في تلاخيص الكتب الثمانية للمنطق عند ابن رشد، وأنه من الأفضل تجميع هذه العناصر مرة واحدة وليس عملا عملا إلا أن الرغبة في الحفاظ على وحدة العمل، وفردية كل تلخيص هي التي غلبت حتى ولو ساد بعض التكرار النمطي العناصر التحليل في كل تلخيص.
ونظرا لإمكانية إدماج هذه العناصر الخمسة السابقة للتحليل في ثلاثة فقط الوافد والموروث والآليات التي تشمل تحليل ألفاظ القول والبيان، وضم البدايات والخواتيم الدينية للموروث، يمكن عرض الشروح والتلخيصات والجوامع بثلاثة طرق رئيسية. كل منها ينقسم إلى طريقتين فرعيتين مع استبعاد المنطق والطبيعيات إلى أجزاء وإلا تشعبت القسمة بحيث لا يمكن السيطرة عليها على النحو الآتي:
الوافد والموروث والآليات هي القسمة الرئيسية باعتبارها المكونات الرئيسية لكل علوم الحكمة في كل مراحلها، الترجمة والتعليق والشرح، والتلخيص والتأليف والإبداع. ثم يتم داخل كل عنصر عرض الشرح والتلخيص والجامع بداية بكل علم، المنطق والطبيعيات والإلهيات، ثم كتابا كتابا داخل كل علم أو يتم داخل كل عنصر عرض الأنواع الأدبية الثلاثة؛ الشرح والتلخيص والجامع على النحو الآتي:
وميزة هذه الطريقة أنها تركز على المكونات الرئيسية للإبداع، الوافد والموروث والآليات لتبين كيفية التفاعل بينها بصرف النظر عن النوع الأدبي أو العلوم، ولكن عيبها التفصيلات الكثيرة والتكرار وضياع وحدة العمل الفلسفي، والبداية بالوافد والموروث والآليات وهي في النهاية مجردات وافتراض علمي لا وجود له كوحدة فعلية إلا في الوعي الحضاري العام خاصة وأنه عدد المؤلفات يتجاوز الخمسين.
وميزة هذه القسمة البداية بالعلوم سواء ببيان الأنواع الأدبية فيها ثم العناصر التكوينية داخل كل نوع أو بالعناصر التكوينية ثم بالأنواع الأدبية، ولكن عيبها أنها تجعل العلم هو الوحدة الأولى للتحليل مع أن العلوم الثلاثة قد تخضع لمنطق حضاري واحد سواء ظهر هذا المنطق من خلال الأنواع الأدبية أولا قبل العناصر التكوينية أو من خلال العناصر التكوينية أولا قبل الأنواع الأدبية.
وميزة هذه الطريقة أن وحدة التحليل الأولى هو النوع الأدبي ثم بعد ذلك إما ينقسم إلى علوم ثم عناصر تكوينية أو إلى عناصر تكوينية ثم علوم. وإذا كان الإبداع أساسا في الشكل الأدبي فإنها قد تكون الأفضل. وإذا كان كل عمل فلسفي له وحدته العضوية الخاصة كعمل إبداعي فريد فإن البداية بالعلوم بعد الأنواع الأدبية وعرض العناصر التكوينية داخل كل علم ابتداء من كل كتاب فيه خاصة المنطق والطبيعيات قد يكون هو الأفضل من أجل وصف عمليات الشرح ومراحله المختلفة قبل التأليف والإبداع.
وقد تحدث المؤرخون القدماء عن الشرح مع قائمة بالنصوص المشروحة. وليس هذا هو المقصود، بل المقصود وهو وضع منطق محكم للشرح سواء كان تفسيرا أو اختصارا.
ويمكن عرض الشرح بطريقتين؛ الأولى عرض مكونات الشرح وعناصره الأولوية والمقارنة بين النص المشروح والنص الشارح لمعرفة منطق الشرح، الإضافة والحذف والتأويل، كما هو الحال في منطق الترجمة بصرف النظر عن وحدة العمل المشروح. فالشرح موضوع واحد، يخضع لمنطق واحد وآليات واحدة. وهذه هي الطريقة العرضية التي تتخلل الشروح كلها. وتقتضي هذه الطريقة إيجاد نسق وترتيب مثل الترتيب الزماني للشروح بداية بالفارابي حتى ابن رشد وترتيبا داخليا في ابن رشد بداية بالمنطق، شرح البرهان، ثم ما بعد الطبيعة، تفسير ما بعد الطبيعة.
والثانية عرض الشروح عملا عملا حتى لا تفقد وحدتها العضوية كعمل فلسفي ثم الكشف عن منطق الشرح وآلياته داخل كل عمل. وهي الطريقة الطولية التي تسير طبقا للترتيب الزماني للشروح ابتداء من الفارابي وابن باجه وابن رشد. فلربما هناك تطور في آليات الشرح. وعيب هذه الطريقة التكرار، تكرار النتائج مع تكرار كل عمل، ولكنها الطريقة الأفضل. فلربما تغيرت آليات الشرح من عمل إلى عمل، ومن فيلسوف إلى فيلسوف، ومن عصر إلى عصر.
ولا فرق بين الشروح في تحليلها سواء كانت من الفارابي أو ابن باجه أو ابن رشد. فالعمليات الحضارية واحدة. هنا يتداخل التاريخ مع البنية. ويساعد تحليل الشروح زمانيا على اكتشاف البنية اللازمانية. كما تساعد البنية اللازمانية على تحليل أي شرح جديد في ترتيبه التاريخي. فالموضوع واحد بالرغم من تعدد الشراح. ومجرد التتبع التاريخي للنصوص المترجمة أو الشارحة لا يعطي البنية إنما يساعد فقط على كشفها ووصف العمليات الحضارية التي وراءها لا فرق في ذلك بين النصوص من حيث موضوعاتها فلسفية أو علمية أو أخلاقية. وإن بقاء الموضوع على نفس المنوال بالرغم من اختلاف الفلاسفة يثبت وحدة الموضوع وتعدد الفلاسفة. وهو ما يؤكد أهمية دراسة علوم الحكمة كموضوعات وليس كأشخاص، كبنية وليس كتاريخ.
ثانيا: تفسير وشرح يحيى بن عدي والفارابي
(1) تفسير وشرح ابن عدي (أ) وقد ساهم المترجمون في التفسير مثل تفسير يحيى بن عدي للمقالة الأولى من كتاب أرسطوطاليس الموسوم بمطاطافوسيقا أي ما بعد الطبيعة وهي «الموسومة بالألف الصغرى» ليحيى بن عدي (364ه) وبنفس الطريقة:
1
اقتباس نص من أرسطو بين معقوفتين تسبقها قال أرسطوطاليس أو «قول» استدراكا أو «قول الفيلسوف» أو «قال الفيلسوف» أو «قال»، ثم التفسير بداية بعبارة «قال يحيى بن عدي».
2
ولا تبدأ كل الفقرات بفعل القول بل هناك فقرات أخرى تصف أفعال الشعور التأملي مثل: وصف، قصد، بين، أخذ، أتى، حكم، فرغ؛ فالتفسير وضع لأفعال الفكر بداية ونهاية، مقدمات ونتائج بأفعال الشرط مثل «إن كان ...» أو بحروف الاستنتاج مثل «وعلى هذا.» وتبدأ بعض الفقرات بأسماء أي بأشياء وصفا للموضوعات ذاتها خارج أفعال القول، ورؤية من المفسر للشيء مباشرة موضوع القول مثل «اسم الطبيعيات»، والتفسير معياري، ما ينبغي أن يكون عليه فهم القول؛ لذلك تتكرر أفعال «ينبغي». فهو تفسير بناء على قوانين العقل، تفسير مبدئي وليس مجرد تفسير لغوي. وفي نفس الوقت يبحث عن العلة، وتعليل الأحكام والآراء، على ما هو معروف في علم أصول الفقه في التعليل، وهو نوع من البرهان المادي بالإضافة إلى الاستدلال الصوري. ويبحث عن غرض الفيلسوف، فالتفسير بالقصد الكلي وليس بالعبارة الجزئية. وهو البحث في الأمور الصورية العرية عن الهيولى، ويتم شرح موضوع موضوع عن طريق تحديد الألفاظ مثل النظر أو الطبيعة من أجل تحديد المعاني بدقة وإزالة ما قد يكون فيها من غموض واشتباه. وتظهر الثقافة المحلية كمادة للتفسير مثل أن شكر المحسن واجب المستمد من شكر المنعم عند المعتزلة. وتندر العبارات الإنشائية مثل «لعمري»، «لعل» نظرا لأن التفسير نوع علمي أكثر منه نوعا أدبي. ويندر أن يكون الحديث بضمير المتكلم، فالغالب هو ضمير الغائب، فالعالم له معاييره الموضوعية باستثناء مرة واحدة «ووجدت ذلك بالسريانية على هذه الحكاية.» نظرا لارتباط النص بالترجمة من السريانية نقل إسحق. ومن الناحية الكمية النص أقصر من التفسير، والتفسير أطول من النص. النص تركيز والشرح إسهاب كما هو الحال في علم التفسير، ويخلو من الإيمانيات باستثناء البسملة في البداية. (ب) ولم يقتصر دور المترجمين على النقل وحده بل تعداه إلى الشرح مثل «شرح معاني مقالة الإسكندر الأفروديسي في الفرق بين الجنس والمادة على ما فهمته منها أنا يحيى بن عدي بن حميد بن زكريا.» (364ه).
3
ولا يبدو فرق كبير بين الشرح والتفسير. يبدأ الشرح مثل التفسير باقتباس نص من الإسكندر بين معقوفتين ثم شرح ابن عدي له. «قال الإسكندر» أقل من «قال يحيى بن عدي» أي أن الشرح أكثر تكرار من النص الأصلي. النص أصل والشرح فرع.
4
يغلب على أفعال الفكر، ينبغي ثم أخذ ثم يشير، وصف، يدل، وحرف الشرط إن كان، ثم الأسماء مثل عموم الجنس، المعنى، ويتم استدراك النصوص من جديد داخل الشرح حتى يمكن الاستشهاد به، تقطيعة أجزاء صغيرة حتى يسهل تمثله. وتظهر بعض الإنشائيات مثل الحديث عن لطف الفيلسوف في تصريحه. فالعلم شعوري، والبسملة في البداية، وعون الله في النهاية. (2) تفسير وشروح الفارابي (أ)
وللفارابي كلام في تفسير كتاب المدخل.
5
وهو أقرب إلى الجوامع؛ إذ يغيب عنه الوافد والموروث. ويتوجه مباشرة نحو الموضوع. فالتفسير هنا ليس للنص بل رؤية لموضوعه. يبدأ بتعريف صناعة المنطق بأنه العقل الذي يتوجه نحو الصواب احترازا من الخطأ ومنزلته من العقل منزلة النحو من اللسان.
والصنائع قياسية وغير قياسية. وتستكمل القياسية بأجزائها الخمسة؛ الفلسفة، والجدل، والسفسطائية، والخطابة، والشعر. الفلسفة هنا مقدمة للمنطق. وقد تعني منطق اليقين، المقولات، والعبارة، والقياس والبرهان. وغير القياسية هي المهن العملية مثل الطب والفلاحة والنجارة والبناء التي ربما تعتمد على التجربة ولو أن بعض أجزائها في حاجة إلى قياس.
ويستعمل القياس في مخاطبة الآخرين أو مخاطبة الإنسان لنفسه، وكذلك تستعمل الفلسفة في الأمرين معا. وغاية السفسطائية غلبة المخاطب فيما يظن أنه مشهور دون أن يكون كذلك ومن أجل التمويه. فالسفسطة حكمة مموهة. وغاية المخاطبة إقناع السامع وسكون النفس إلى المخاطب. والشعر يلتمس محاكاة الشيء وتخيله كالفنان الذي يصنع التماثيل.
تعطي صناعة المنطق كل جزء من القياس قوانينه تختبر في الاستعمال؛ ومن ثم تصبح أجزاء المنطق ثمانية. الأول: المقولات وتشتمل على كل المعقولات والألفاظ الدالة عليها. والثاني: العبارة وتشمل أيضا المعقولات والألفاظ الدالة عليها أيضا في التركيب الأول كمقدمات. الثالث: القياس وهو القول المركب من عدة مقدمات، والرابع: البرهان الذي يضم القوانين التي تلتئم منها الحدود. هذا بالإضافة إلى الكتب الأربعة الأخرى في منطق الظن؛ الجدل، والسفسطة، والخطابة، والشعر.
وتؤدي صناعة المنطق إلى اليقين. واسمه مشتق من النطق. والمناطقة يسمون الصفات محمولات، والموصوفات موضوعات. والصفات إما بسيطة أو مركبة. البسيط ما دل عليه اللفظ المفرد، والمركب ما دل عليه اللفظ المركب. فاللغة بعد في المنطق. وعلاقة الموضوع بالمحمول أي الصفة بالموصوف علاقة تشابه أو اختلاف، والتشابه أو الاختلاف إما أن يكون في الجوهر أو في الحالات. والتشابه بين محمولين في الجوهر هو المحمول الكلي، وهو الجنس وأخصه النوع. وإذا كان التشابه في الحال يكون غرضا أو فصلا أو خاصة، وهي الأسماء الخمسة التي عدها فرفوريوس.
ولما كانت الفلسفة جزءا من المنطق كما أن المنطق هو الآلة للفلسفة انقسمت الفلسفة إلى أربعة أقسام؛ التعاليم، والعلم الطبيعي، والعلم الإلهي، والعلم المدني؛ فالرياضة تأتي أولا، وتقوم مقام المنطق. والطبيعيات تسبق الإلهيات. ويظهر العلم المدني، الاجتماع والسياسة والتاريخ كقسم رابع للفلسفة وقسمتها التقليدية الثلاثية إلى منطق وطبيعيات وإلهيات؛ فالمجتمع هو المصب النهائي للحكمة الثلاثية. ثم تنقسم التعاليم أربعة أجزاء؛ العدد، والهندسة، والنجوم، والموسيقى، وهو الرباعي الشهير في الفلسفة المدرسية. والعلم الطبيعي ينظر في الأجسام وطباعها. والعلم الإلهي ينظر فيما ليس بجسم سلبا للعلم الطبيعي. والعلم المدني يبحث عن السعادة الحقيقة ووسيلة الحصول عليها من المدن إيجابا أم سلبا. فالأخلاق أساس العلم المدني، وينتهي التفسير بدعوة الناسخ الفقير إلى ربه بالجامع الأعظم.
6
ولا يعني التفسير هنا النوع الأدبي المستقر في «تفسير ما بعد الطبيعة» لابن رشد ولكنه يتداخل مع معاني «المدخل» و«التوطئة» و«الشرح» و«الإملاء»، أقرب إلى الجوامع منه إلى الشرح أو التفسير لأنه يتجه نحو الموضوع مباشرة. وهي صناعة المنطق. وتقسيمها إلى قياسية وهي خمسة؛ الفلسفة، والجدل، والسفسطائية، والخطابة، والشعر، وغير القياسية للأعمال مثل الطب والفلاحة والنجارة والبناء وسائر الصنائع العملية. وأجزاء المنطق كلها ثمانية: المعقولات (المقولات)، العبارة، القياس، البرهان. ثم يتناول الفارابي بالتفصيل الألفاظ البسيطة والمركبة والمحمول.
أما الفلسفة فأربعة أجزاء؛ التعاليم، والطبيعي، والإلهي، والمدني، والتعاليم أربعة؛ العدد، والهندسة، والنجوم، والموسيقى. ويبدو أن الشرح هنا يعني العرض أو التقسيم أو الإحصاء دون أن يكون نوعا أدبيا محددا.
وتغيب أسماء الأعلام من الوافد أو الموروث. ومع ذلك يبدو الموروث على نحو مباشر في جعل منزلة المنطق من العقل مثل منزلة النحو من اللسان وكما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين المنطق والنحو بين متى بن يونس تلميذ الفارابي وأبي سعيد السيرافي.
7 (ب)
ويعتبر «شرح العبارة» للفارابي نموذجا سابقا على أرسطو.
8
الشرح، تفصيل النص فقرة فقرة وبيان القصد والغرض والمراد من الكتاب وكثرة ذكر أسماء الأعلام والمفسرين والفلاسفة والمصطلحات ثم صب هذا كله في الموروث العام من اليونان إلى التراث العربي والفارسي والهندي بالرغم من أن كل أعماله في التلخيص والتأليف.
9
وهو شرح مسهب وطويل، أكبر من نص أرسطو نفسه مما يدل على أنه أقرب إلى التأليف وعلى غير عادة الفارابي صاحب التآليف الصغيرة. وهناك بعض التكرار على عادة الشرح، وليس الضم والتركيز على عادة التلخيص. إذا كان الشرح أكبر من النص فهو شرح، وإن كان أصغر أو مساويا فهو تلخيص. وهو مملوء بأسماء الأعلام أي أنه ما زال مرتبطا بالبيئة الثقافية الأولى التي خرج منها النص. وبتحليل أسماء الأعلام يبرز أرسطو بطبيعة الحال أكثر الفلاسفة ذكرا. ونشره علماء نصارى معاصرون كما ترجمه علماء النصارى الأقدمون. فهو جزء من التراث العربي المسيحي قديما وحديثا. يشعر المعاصرون أنه يعبر عن هويتهم الثقافية، وهي طبعة علمية جيدة يسهل منها الحكم على المسار التاريخي للنص من الترجمة إلى الشرح.
وبتحليل ألفاظ القول؛ شرح، قال، ذكر، صرح، أخبر ... إلخ، كما هو الحال في تحليل ألفاظ الحديث قبل الرواية، يكفي القول إن الفارابي قليلا ما يذكر «قال أرسطو»؛ أي أنه لا يتعامل مع القول والعبارة مع أن الكتاب هو شرح العبارة ولكنه يتجاوز العبارة إلى المعنى والشيء، القصد والمراد. استعمل الفارابي «قال أرسطو» ربما مرة واحدة في أول الشرح ومرة أخرى في زمن المضارع «يقول» أي أنه الآن يدرس الموضوع باعتباره فيلسوفا، ولا يدرس النص باعتباره مؤرخا، ولحسم الخلاف في قضية وليس تبعية له أو مجرد شرح لفظ بلفظ وعبارة بعبارة في المضارع.
10
الفارابي يحلل ويدرس الموضوع إيجابا أم سلبا، ويصف فكر أرسطو داخلا في أعماقه، منتقلا من القول إلى الفكر، ومن اللفظ إلى المعنى، ومن الخارج إلى الداخل. أما «ذكر» فإن الفارابي يستشهد بأرسطو ولا يشرحه. الفارابي هو الدارس والفيلسوف وأرسطو هو الشارح والمؤيد. أرسطو يخبر عن شيء يعرفه الفارابي، ولا يعطي الفارابي علما جديدا أو يعرف بأشياء يعرفها الفارابي من قبل ويتفق معها فيؤيد أرسطو، ويختلف معها فينقد أرسطو، في هذه الحالة لا يشرح الإبداع النقل بل يشرح النقل الإبداع. الفلسفة اليونانية هي الشارحة للفلسفة الإسلامية وليست الفلسفة الإسلامية هي الشارحة للفلسفة اليونانية.
11
وتدل ألفاظ القول على أولوية القول على القائل، فالفارابي يتعامل مع الموضوعات وليس مع الأشخاص. كما تدل استعمالات لفظ معنى على توجه الشرح نحو المعنى وليس نحو اللفظ. كما يتجه الشرح نحو الأشياء ذاتها بوصفها موضوع الشرح لدراستها من جديد.
ويذكر لفظ القول للفارابي أيضا «قال الفارابي رحمه الله» أو «قال أبو نصر» فهي عادة النساخ والمؤلفين ولا تدل على أي تبعية لأرسطو. هي عادة مستعارة من علوم القرآن والحديث والتفسير، حللها علماء الأصول في أول جزء للرواية قبل السند والمتن، وأفعال القول ليست فقط في الماضي أي تدل على حقيقة تاريخية وتراث مضى بل أيضا في المضارع تشير إلى حقائق فلسفية عامة. ولا تأتي في أول الكلام فقط بل أيضا في وسطه استدراكا واستشهادا بعد عرض الموضوع. وتظهر أفعال القول وتشبيهاتها على نحو سلبي مثل «لم يقل»، «لم يذكر». فالشارح يظهر المسكوت عنه، ويبين ما قال النص وما لم يقله. الشرح إيجاب وسلب، والمشروح إظهار وإضمار.
بل إن الفارابي لا يعبر فقط عما صرح به وذكر بل عما لم يصرح به ولم يذكر. لم يشرح الفارابي المنطق بل شرح أيضا غير المنطق والمسكوت عنه. يقول الفارابي مثلا: «لم يصرح أرسطو.» ويصرح به الفارابي نيابة عنه. أرسطو يصرح بنصف المقدمة وليس كلها ثم يأتي الفارابي ويصرح بالنصف الآخر؛ فالفارابي يعلم الحقيقة كلها من مصدر آخر غير العبارة اليونانية، بعلمه الخاص ومنهجه الخاص ومن مصادره الخاصة. عند أرسطو الجزء وعند الفارابي الكل. بل إن الفارابي يستنبط فقرات من أرسطو ليست فيه لإكمال النسق؛ فهو مؤلف مع أرسطو وليس مجرد قارئ له، كما يفعل كتاب الأناجيل مع المسيح، التوحد بالموضوع والتعبير عنه.
12
وهو شرح على جهة التعليق من أجل احتواء النص بالعقل أولا قبل ضمه إلى الموروث ثانيا. ولا يشرح الفارابي أرسطو لفظا بلفظ أو عبارة بعبارة بل إنه يتجه نحو القصد والغاية والغرض في نية أرسطو وعقله وشعوره. فالنص قصد، والعبارة غاية، والفكر اتجاه، تبدأ العبارة بصيغة «غرض أرسطو» وليس «قال أرسطو» أو «قصد أرسطو» أو «مراد أرسطو». يحيل الفارابي عبارة أرسطو إلى داخل أرسطو ثم يدخل معها ويخرج قصدا من وعي مشترك بينه وبينه، قصد متبادل بين الفارابي وأرسطو. فهو شرح بالقصد والغاية وليس باللفظ أو المعنى. والقصد هو الشيء نفسه في حالة تخلق، واكتمال في حالة نشأة وتكوين؛ لذلك جعل الفلاسفة العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقيقية.
13
ويقوم الفارابي بتقطيع النص المقروء وتفصيصه حتى يتحول النص المترجم إلى نص مشروح بناء على الإحساس بالموضوع والقدرة على مضغه وابتلاعه عبارة عبارة. وقد يقسم المشروح على مرتين للاستشهاد به في الشرح فيتداخل المقروء مع القراءة، والمشروح مع الشرح. وتوضع الأجزاء ويعاد ترتيبها من أجل إثبات معنى أو نفيه مع تحديد البداية لمعرفة المسار، وتحديد النهاية لمعرفة الاستنتاج. المسار داخلي بمنطق الاتساق، وخارجي بمنطق تقسيم الأبواب والفصول. وأحيانا يتحول الشرح إلى اقتضاء مطلب وما ينبغي أن يكون عليه المعنى. فالضرورة العقلية تجب الاحتمال النصي.
14
استطاع الفارابي أن يحيل المنطق الصوري الآلي الذي تبدو قضاياه أحيانا كبيت جحا أو ألاعيب صندوق الدنيا أو الكلمات المتقاطعة إلى منطق بديهي، وهو ينتمي إلى حضارة عملية متجهة نحو الواقع استطاع العرض النظري الخالص والذي يرتفع إلى مستوى العقل الوافد حتى يمكنه استخدامه في الواقع الموروث.
15
شرح السابق باللاحق واللاحق بالسابق، وأدخل أشكال القياس في العبارة، واستبعد ما لم يقصده أرسطو حرصا على نصه. شرح أرسطو بنفسه كما هو الحال في شرح الكتاب بالكتاب. يفصل بين النصوص ثم يعيد الربط بينها بحيث يبدو فيه مسار الفكر من البداية إلى النهاية. مهمة التفصيص ضياع رهبة الأنا أمام الآخر، والسيطرة عليه شيئا فشيئا حتى يتم ابتلاعه كلية؛ ومن ثم يتحول أرسطو تدريجيا إلى الفارابي طبقا لنظرية الأواني المستطرقة حتى لم يعد يبقى من أرسطو شيء. ويتم نقل التراث اليوناني كله مرورا بالعقل إلى البيئة الجديدة ولاستخدامه في فهم الموروث.
ويقوم الشرح على نظرية في الإيضاح، تفصص النص وتبينه وتوضحه، وتحيل الكل إلى أجزائه وتحلله حتى تراه في مرحلة المتناهي في الصغر قبل إعادة تركيبه وقراءته ثم نقله إلى البيئة الثقافية الجديدة.
16
فالشرح أحيانا يكون مجرد إعلان عن أن النص بين بنفسه وإن لم يكن كذلك يقوم الفارابي ببيانه.
17
الشرح إذن نظرية في البيان، والبيان لفظ أصولي من الشافعي، ولفظ أدبي من الجاحظ. ثم تتحول نظرية الإيضاح إلى نظرية في الفهم، وكلاهما مقتضى ما يجب أن يكون طريقا للغة والقصد والبنية الكلية. الإيضاح في مقابل الغموض، والفهم في مقابل سوء التأويل.
18
وهي مقولات أصولية مثل أحكام المتشابه وتبيين المجمل، بل إن الفارابي يسقط نظرية الإيضاح على أرسطو نفسه فأرسطو يوضح ويبين.
19
يبدأ بالتعريف ثم يفصل العام ويبين المجمل على طريقة الأصوليين، ويميز بين الأشياء، ويعد ويحصى ويرقم حتى يتم تتبع مسار الفكر وخطواته بسهولة، ويعين مراحل الانتقال من مقالة إلى مقالة. ومن فصل إلى فصله.
20
ثم يبين الفارابي الوحدة الموضوعية الداخلية للعمل الفلسفي بناء على ضرورية الداخلية واتساقه البرهاني بل أن ينقله قبل أن ينقله من بيئته الأصلية اليونانية إلى البيئة الجديدة الإسلامية . يبين السبب، ويبحث عن العلة على طريقة الأصوليين.
21
ويبحث الفارابي عن المعاني والأشياء والتجارب الشعورية التي وراء العبارات على ما هو معروف بالتأويل في الموروث أي العودة إلى المصدر الأول والأصل. وهو في نفس الوقت على علم بمشكلة الصحة التاريخية للنصوص، ويثبت صحة النص بضرورته لبنية الموضوع واكتمال الكتاب.
22
الشرح نظرية في الإكمال للناقص. كما أنه نظرية في التحقق والبرهنة على صحة قول أرسطو كمعنى وكوثيقة تاريخية وخلق نوع أدبي جديد يذهب إلى الأشياء مباشرة، وتكون قمة الشرح في تحويل النص المقروء إلى عقل خالص ثم نقله إلى البيئة الجديدة، وإيجاد عناصر النقل والجسور المشتركة التي يتم عليها هذا النقل مثل العقل واللغة حتى تنقل حضارة العقل إلى حضارة العقل والوحي في نظرة متكاملة لتواصل الحضارات واشتراكها في حضارة إنسانية واحدة. يصبح النص الأرسطي معقولا أي أنه ينقل داخل حضارته بفعل الشرح من المنقول من أرسطو إلى الفارابي إلى المعقول من أرسطو والفارابي. وبتحليل الألفاظ في الشرح يتم الانتقال من لغة اليونان إلى لغة العرب بمنطق الألفاظ وهو منطق أصولي. تقاس اللغة على الشرح، ويقاس الشرح على المجتمع.
23
مهمة الشرح ابتلاع الموروث كلية داخل الوافد حتى يتجدد دم الموروث، ويتحول إلى حضارة جديدة وارثة للحضارات السابقة حتى يقضي على إرهاب الوافد وإحساس الموروث بالنقص أمامه ويقضي على ازدواجية الثقافة بين الوافد والموروث.
24
بل إن الفارابي يدخل في فكر أرسطو ويعلله، ويربط أجزاءه بعضها بالبعض الآخر، ويوضح ما غمض على أرسطو نفسه فيعلل سبق المقولات للعبارة منطقيا لأن الأولى خالية من السلب والإيجاب في حين أن الثانية بها سلب وإيجاب. الأولى لفظ والثانية قضية. ويعلل بداية فكر أرسطو ونهايته ويحدد مساره الفكري. فليس القصد هو اللفظ أو العبارة أو حتى المعنى أو القصد بل الاتجاه والنسق والرؤية. ويعلل الفارابي أسماء تسميات كتب أرسطو بالرجوع إلى الأشياء ذاتها؛ فالعلة هي التي تعطي الشرعية لوجود الشيء وتجعله واضحا مفهوما. لماذا المقولات هي الطبيعية، الجوهر والأعراض؟ ألا توجد مقولات أخرى، وبهذا التساؤل عن العلة يحدد الفارابي طبيعة فكر أرسطو الطبيعي المتجه نحو الواقع. يربط الأجزاء بعضها ببعض والكتب بعضها ببعض حتى يبدو النسق متكاملا واضحا حتى يمكن التعامل معه بعد ذلك للتأقلم والتكيف مع بيئات ثقافية أخرى.
25
بل إن الفارابي يساعد أرسطو على اكتشاف النص المتكامل، ويجد له الأدلة والبراهين على صحة مواقفه، ويعطيه مزيدا من القرائن من أجل إثبات صحة أفكاره. يدخل في منطق الاستدلال والبرهان وهو المنطق الذي جعل البرهان قمة المنطق وغايته القصوى. المقولات والعبارة والقياس مقدمات له، والجدل والسفسطة والخطابة تخل عنه. ويستطيع الاستدلال أيضا اكتشاف مسار فكر أرسطو وربط أجزاء مذهبه بعضها بالبعض الآخر، ويكون الاستدلال إما بشرح أرسطو ببعضه البعض والعودة إليه، فالكتاب يشرح الكتاب أو باللجوء إلى الموضوع نفسه والتحقق من صدق القول فيه وإلقاء مزيد من الضوء، وبهذه الطريقة تتضح الوحدة الداخلية العضوية لكتاب العبارة.
26
ويصف الفارابي المسار الفكري لأرسطو كيف يبدأ وما هو مساره وإلى أي شيء ينتهي، يربط بين الفصول، المتقدم بالمتأخر واللاحق بالسابق. يحيل إلى نفس الموضوع في الفصول السابقة أو اللاحقة. يسير معه خطوة بخطوة. يتابع نشأة فكر وتكوينه، ويعلن بداية القضية ونهايتها. يحول النص الميت إلى فكر حي ويبعث أرسطو من بين الرفات.
ويعمق الفارابي قول أرسطو ويزيده إحكاما ويدفعه إلى أقصى حد له، ويستنتج أكبر قدر ممكن من النتائج فيه.
27
يفهمه ويعذره، ويبين مقدماته ونتائجه وأهدافه ومقاصده. يدخل في عقله أكثر مما يدخل أرسطو نفسه، ويفهم أرسطو أكثر من فهم أرسطو لنفسه كما يعرف الغزالي في «تهافت الفلاسفة» الفلسفة أكثر من الفلاسفة. ويحذر من سوء التأويل الخاطئ لأرسطو مراجعا هذه التأويلات ومصححا إياها. وهي غالبا من عمل الشراح الإشراقيين الذين أخرجوا أرسطو من مسار فلسفته الطبيعية وأرجعوه إلى أفلاطون وهو البيئة الثقافية الغنوصية المانوية التي خرجت منها المسيحية بعد ذلك. وهي الثقافة الشعبية التي يسودها الإشراق ويغيب عنها العقل. يضع الفارابي أرسطو مع أصحاب العلم الطبيعي لأنه فيلسوف طبيعي، وهنا يبدو الفارابي المؤرخ الحصيف للفلسفة القادر على الحكم على المذاهب بالإضافة إلى الفيلسوف العقلاني . تأويل المفسرين لأرسطو تحريف له وإخراجه عن مساره الفكري وميل بمذهبه نحو أحد البعدين الأفلاطوني الإشراقي على حساب الآخر، الأرسطي الطبيعي. يخلص الفارابي قول أرسطو من سوء تأويلات المفسرين قائما بدور القاضي العدل في الحكم بينه وبينهم كما فعل ابن رشد بعد ذلك أيضا في الحكم بين أرسطو والشراح الإشراقيين المسلمين، الفارابي وخاصة ابن سينا. وينتهي الفارابي بالحكم لصالح أرسطو ضد المفسرين. أرسطو بريء من الإشراق، والمفسرون متهمون به. ويصدر الحكم من قاضى هواه مع الإشراق ولكن هواه لا يتدخل في حكمه. تصحيح الوافد وفهمه فهما صحيحا إذن عملية ضرورية قبل تركيبه في الموروث وإعادة إنتاجه من خلاله، ويكون شرح الفارابي هو الأكثر اتفاقا مع أرسطو من تأويلات المفسرين. ويرجع تأويلاتهم إلى أرسطو في النهاية إلى مصدرهم الأول، وسبب أخطائهم هو أنهم يتقولون على أرسطو ما لم يقله، ويقول أرسطو شيئا لم يلتفتوا إليه. كما أنهم يشرحون ظاهر الألفاظ دون معانيها، ويقتصرون على العبارة دون الأشياء التي تشير إليها. وأبرقليس هو نموذج الشراح الإشراقيين الأفلاطونيين الذي يتم تحرير أرسطو منه وكما فعل ابن رشد في تخليص أرسطو من أيدي الإشراقيين المسلمين خاصة ابن سينا، عودا إلى أرسطو وتفسير أرسطو بأرسطو. وأحيانا يكون تحرير أرسطو من جالينوس الطبيب الذي يتهم أرسطو بأنه كثر من القياس حتى يصبح أرسطو ميزان عدل بين الإشراقيين الأفلاطونيين والطبائعيين الأطباء.
28
وللفارابي نظرة كلية للأمور وهو يشرح كتاب العبارة، مدخلا الجزء في الكل. يجمع مؤلفات أرسطو كلها، ويحدد مكان كتاب العبارة فيها. ثم يشرح الكتب بعضها بالبعض حتى يجد في النهاية نسق أرسطو. فنظرا لعدم إحالة أرسطو في كتاب العبارة إلى كتاب المقولات ظن البعض أن كتاب العبارة كتب قبل كتاب المقولات. الفارابي إذن على وعي بترتيب كتب أرسطو وبعلاقة بعضها بالبعض الآخر حتى تنتظم الأجزاء كلها في نسق واحد هو مذهب أرسطو. يشرح أرسطو بأرسطو، ويفسر كتابه بكتبه. ويضع جزأه في كله حتى ينتهي التعجب من هذا الموضوع أو التساؤل والاستفسار عن هذه القضية. فلا معنى للجزء إلا في الكل الذي ينتسب إليه. وفي نفس الوقت يضع الحدود بين كتب أرسطو المنطقية، ويقسم العمل بينها، ويخصص لكل منها موضوعها، ويحيل بعضها إلى بعض ليكمل النسق، ويفسر الجزء بالكل، ويشرح النص بالمذهب كله، ويحدد الصلة بين عناصر المذهب، بين المنطق والطبيعة، وبين المنطق وما بعد الطبيعة بعد أن يحدد العلاقة بين كتب المنطق بعضها بالبعض. بل إنه يربط بين المنطق والهندسة، بين اللفظ والنقطة، الخط والعبارة، القياس والتوازي.
29
ثم يضع الفارابي أرسطو في إطار تاريخ الفلسفة اليونانية خاصة مع نظيره ومقابله أفلاطون. يميز بينهما، وهو الذي جمع بينهما في «الجمع بين رأيي الحكمين». لم يناقض أفلاطون أرسطو أو أرسطو أفلاطون وهو الذي قال: «أحب أفلاطون ولكن حبي للحق أعظم.» ويتتبع القياس وتطوره قبل أرسطو وبعده، واعتبار أرسطو مجرد مرحلة في تاريخ العلم من أجل منظور أعم للعلم اليوناني قبل أن ينتقل إلى العالم الإسلامي. ليس المهم شخص أرسطو بل مساهمته كجزء في تاريخ المنطق اليوناني.
30
بل إن أرسطو أو أرسطوطاليس يكاد ينتهي بشخصه وباسمه فهو صاحب المنطق مما يدل على أن الفارابي لا يشرح أرسطو بشخصه ولكن بمساهمته في تاريخ المنطق.
31
ويحيل الفارابي إلى عديد من كتب أرسطو ويصعب إحصاؤها لأنها تتراوح بين اسم الكتاب صراحة مثل كتاب القياس وكتاب المقولات وكتاب العبارة وبين اسم الموضوع مثل القياس، المقولات، العبارة دون تحديد القصد من الإحالة هل هو الموضوع أو الكتاب. وكذلك الإحالة إلى ما بعد الطبيعة هل هي إحالة إلى العلم أو الكتاب، ومع ذلك، أحال الفارابي بحسب ترداد ذكرها إلى المقولات، والقياس أو أنالوطيقا الأولى، والعبارة، وما بعد الطبيعة، والبرهان، وطوبيقا، والسماع الطبيعي، والخطابة، والشعر، وسوفسطيقا، والحيوان، والسياسة.
32
ومن الطبيعي ذكر المقولات والقياس أكثر من العبارة لأنها تالية للمقولات وممهدة للقياس.
ويعرض كتاب المقولات اسمه ونسبه إلى باقي الكتب، وغرضه، ومرتبته وأقسامه كما يحدث في كل علم يوناني أو إسلامي، وتعليل التقديم والتأخير بين الأجزاء، وإيجاد البراهين والدلائل عليها، وخضوع الترتيب النصي إلى الترتيب العقلي، وإدخال الجزء في الكل بإحالة الكتاب إلى كل أجزاء المنطق. ويتساءل الفارابي حول ما جاء في كتاب العبارة على لسان أرسطو: هل صحيح أن العبارة أسهل من المقولات ويمكن تعلمه دون معرفة شيء من المقولات؟ هل يمكن معرفة الخط دون النقطة.
33
ثم يحيل إلى القياس أو أنالوطيقا الأولى مع بيان التمايز بين كتب المنطق من حيث تخصص الموضوعات وتقسيمها. ويحيل إلى العبارة وإلى ما بعد الطبيعة وإلى طوبيقا وإلى البرهان لجالينوس والسماع الطبيعي والحيوان وإلى كتب الخطابة والشعر وسوفسطيقا، والسياسة لأفلاطون.
ويضع الفارابي أرسطو داخل الفلسفة اليونانية وأعلامها. سقراط يضرب به المثل باستمرار كموضوع في قضية مثل زيد وعمرو في العربية. ويتناوب أوميروس مع سقراط في هذه الوظيفة، ويستشهد ببعض أقواله لتحليل الأقاويل التي تصير قولا واحدا برباط يربطها مثل التقارب في الزمان وحروف العطف والغرض الواحد.
أما أفلاطون فإنه يرد مع أرسطو في تسميتهما لشيء واحد باسمين مختلفين، والفارابي يعرف المسمى، ويعدد الأسماء عليه. كما يستشهد أرسطو بقوله في الأزلي القديم كمثال للأقاويل الصادقة التي لا يوجد فيها أحد الممكنين على عكس أبيدوس الذي يقول إن الله تعالى ممكن له أن يظلم. كما يضرب به المثل على طريقة القسمة استغناء عن القياس. ثم تذكر رواية عن تناقضه مع أرسطو عن تضاد المواد المتقابلة. وحل الفارابي في حالة صدق الرواية لهذا التناقض باحتمالات ثلاثة؛ الأولى وجود فرق بين القولين، والثاني لو كان هناك تعارض لأظهره الفارابي، والثالث لو كان هناك تعارض لأظهره أرسطو، وهو لا يتحرج من الحق بقوله «أحب أفلاطون ولكن حبي للحق أعظم».
أما أبرقلس الأفلاطوني فهو نموذج الأفلاطوني الإشراقي الإسكندراني عكس أرسطو العقلاني، في التأويل الخاطئ لأرسطو مما يجعل الفارابي قريبا من أرسطو في تعدد النزعة الإشراقية في شرح أرسطو. ولو أن الخلاف بين أبرقلس وأرسطو في منطق القضايا وإعطاء أبرقلس قانونا في التلازمات المعدولات والبسائط ولزوم الأعم وإعطاء منها الأخص.
أما ثاوفرسطس والإسكندر فإنهما من الشراح اليونان الذين يؤيدون موقف الفارابي وتعليل شروحهم وأسماء كتبهم وفهمهم لأرسطو . ولقد أكمل ثاوفرسطس القياسات الشرطية بعد أرسطو مثل الرواقيين وأوديموس، وأكمل المنطق. كما أنه يروي عن أرسطو في المقاييس الشرطية وكذلك فعل أصحاب الرواق بإكمال القياسات الشرطية مع ثاوفرسطس وأوديموس. ويدافع الفارابي عن أرسطو ضد اتهام جالينوس بأن ما قاله أرسطو في الممكنات والوجودية في القياس لا ينتفع به، وكذلك فعل أفروسيبس الروائي في إضافة بعض القياسات الشرطية، فالفارابي يدرس الموضوع كله وليس أرسطو وحده. ويذكر فيثاغورس في معرض إعطاء نموذج القول في القضايا في جعل العدم أحس المتضادين أي أن الزوج أخس من الفرد. أما أطرنطياس فقد شك في شيء ما، ويذهب شكه عن طريق تحليل أرسطو.
34
المفسرون هم المشاءون أو قوم من محدثي التفسير، وهم أيضا والإسكندرانيون حدث صغار، غلطوا أرسطو وهم المغالطون. يوضح الفارابي غلطهم ويخلص أرسطو من سوء تأويلهم.
35
وبالإضافة إلى الأسماء يذكر الفارابي مجموعات أصحاب الرواق والمشائين ومفسري الإسكندرانيين والقدماء.
36
وقد اعتمد المفسرون على قول أبرقلس الأفلاطوني وأخذوا المفسرون سلطة مضادة لسلطة أرسطو، جماعة ضاغطة على النص الأصلي.
37
ومن ثم يعرض الفارابي لهم بلفظ «ويزعم المفسرون.» وقد أجمع المفسرون على وضع كتاب العبارة بعد المقولات وقبل القياس. فليس المفسرون دائما على خطأ. الخلاف معهم في اعتبارهم العبارة من المقدمات. ويمكن تأييد التفسير الظاهري للمفسرين ما دام اللفظ يتحمله خلاف تفسيرات مجانية أخرى لا تتحملها ألفاظ أرسطو وليس لها ما يؤيدها في أقواله. قد يزيد المفسرون بعض التفسيرات وقد يضعون مصطلحات جديدة، طريقتهم في التفسير هو تقطيع نص أرسطو أو وصله بحيث يفيد ما يريدون من آراء.
ويعرض الفارابي آراء المفسرين عرضا موضوعيا أولا بلا تأييد أو نقد. ثم يقوم بدور القاضي بينهم، وأخذ أقوالهم وتحليلها لإثبات خطئهم حتى مع تبني أمثلة الخصم وأقواله والانتهاء إلى خطأ المفسرين واتفاق الفارابي مع المتهم الأول وهو أرسطو ضد المفسرين وزعيمهم أبرقلس. ويختلف المفسرون فيما بينهم، ويختلف الفارابي معهم، يفترون على أرسطو أنه نسي بعض القضايا ولم يذكرها وقد ذكرها الفارابي نيابة عنه. فبين أرسطو والمفسرين والفارابي هناك موضوع مستقل عن الجميع يعرضه الفارابي. حاول أرسطو الاقتراب منه، وأساء فهمه المفسرون، ويخرجون عليه في قولهم إن المقولات في النفس دالة على الموجودات خارج النفس على ما يقول الأفلاطونيون. يطولون حيث يجب الإيجاز ومن ثم فإن مهمة الفارابي تصحيح أقوالهم وإنقاذ أرسطو من بين أيديهم.
ويضع معهم الفارابي المتفلسفين وليس الفلاسفة مما يدل على السخرية والاستهزاء، والقدماء مما يدل على بداية الوعي التاريخي بداية بقدماء اليونان. وأصحاب العلم الطبيعي هم الذين يفسرون أرسطو التفسير الصحيح لأنه فيلسوف طبيعي وليس إشراقيا. كما يتحدث الفارابي عن الجمهور في مقابل النحويين وأصحاب العلم الطبيعي أي اللغويين والعلماء، والجمهور أي الاستعمال الشائع العرفي وليس الاستعمال التخصصي.
ويقوم الفارابي بهذا الشرح الذي هو إعادة بناء للنص كله بتواضع العلماء دون الوقوع في الجزم والقطعية من طرفه ودون تحامل أو تجريح لأرسطو، الطرف الآخر. فالحق الذي عرفه الفارابي عرفه أرسطو. والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له. يكمل الفارابي الناقص، ويقدر أرسطو في النسيان والغفلة. بل إن الفارابي يراجع أرسطو وينقده ويكمله ويزيد عليه في أنواع القضايا خاصة الممكنات. أرسطو مجرد مثل يذكره الفارابي لأنه كان هو الفيلسوف في ذلك العصر، المعلم الأول. ولو كان غيره لقام الفارابي بمثل ما قام به معه. أرسطو عرض تاريخي والفارابي جوهر تاريخي. أرسطو هو الاحتمال والفارابي هو الضرورة. ويميز الفارابي بين الاسم والمسمى. يعرف المسمى ويراجع عليه أسماء أرسطو وآراءه. أرسطو يذكر أشياء والفارابي يذكرها وكل منهما يكون له آراء عنها، التعددية في الرأي والالتقاء في الشيء استطاع الفارابي الاعتماد على صحة التفسير من أجل صحة نسبة الكتاب لأرسطو وصحة أحد فصوله.
38
كما يلجأ الفارابي إلى النحويين، اليونان والعرب، فالمنطق لغة واللغة منطق. كلاهما علم واحد. الفارابي على وعي بأنه يتعامل مع فكر باللغة اليونانية، وتدل عباراته على التمايز بين الأنا والآخر، بين العرب واليونان في صياغات مثل «أما أنا»، وإضافة ضمير المتكلم الجميع، أقاويلنا أحكامنا. الفارابي على وعي بأنه يدرس ثقافة مغايرة، ثقافة اليونان باللغة اليونانية، لغة وحروفا وأوزانا، بالرغم من أنه ليس عربيا. وتظهر الأمثلة اليونانية أحيانا من أجل توضيح الفكرة من خلال الثقافة التي نشأت فيها وأحيانا تختفي. قالوس أبس اسم مركب في اليونانية قد يستعمل لإنسان مثل المنجم أو لفرس فاره، والجزء لا يدل في حالة الإنسان وإنما يدل في حالة الفرس. وهو مقال من نص أرسطو. وفيلوسوفس اسم مركب وهو نفس المثال الذي يبقيه ابن رشد في «تفسير ما بعد الطبيعة». وكذلك يقارن الفارابي بين حروف العطف والأسماء المماثلة والأسماء المعرفة بألف ولام التعريف في اليونانية والعربية. فحل المنطق في اللغة؛ لذلك يلجأ الفارابي إلى النحويين بإطلاق.
39
ويحلل الفارابي في اللغة العربية الأسماء المشتقة والمعاني المختلفة للفظ النطق كقوة نفسية ذهنية أو عضلية في اللسان. ويحلل الأفعال في أزمنتها، الماضي والحاضر والمستقبل، وإضافة كان للفعل المضارع للدلالة على الزمان الماضي، كما يبين غياب بعض الأسماء في العربية. والفرق بين الاسم والكلمة والأداة، وأداة التعريف في العربية واليونانية والفارسية، والمعاني الأربعة للام التعريف في العربية ومقارنتها بألسنة الأمم. والفارابي، وهو التركي، يعرف العربية كما يعرفها أهلها. ويسهل عليه وضع أرسطو في العربية خاصة وأن المنطق الصوري صعب الفهم؛ ومن ثم لزم تعريب القضايا وتوضيحها. ويورد الفارابي أمثلة عربية لتوضيح منطق أرسطو، وتقديم الآخر للذات حتى لا تبقى «تابو» فيشعر البعض بالنقص أمامها، ويتملقها البعض، ويرفضها البعض الثالث مثل حالنا مع الغرب الآن. ويستعمل زيد وعمرو ويحيى وعبد الملك لضرب الأمثلة في القضايا.
40
والمثال الشهير على ذلك فعل الكينونة في اللغة العربية الذي يدل على الوجود، لا يظهر في حين أنه يظهر في اللغة اليونانية كرابطة، فلا يظهر لفظ الوجود كاسم يصف الموضوع. الوجود متضمن في الموضوع ويفهم ضمنيا. لا يحتاج الوجود إلى تأكيد، ولا يوجد شيء غير موجود. الوجود ليس في حاجة إلى إثبات صريح بفعل الكينونة. والسلب يوجد في المحمول وليس في الموضوع. الوجود موجود بالقوة في الموضوع ولا يظهر بالفعل. ويكرر الفارابي نفس الحدس باعتباره حدسا رئيسيا في اللسانيات المقارنة. وقد جعله أحد رواد الفكر العربي المعاصر حدسه الأول، واستنبط منه النزعة المثالية في اللغة العربية وفي الفكر الإسلامي. ويلاحظ الفارابي ترتيب فعل الكينونة الثالث والرابع في لغات الأمم الأخرى وليس الثاني بعد الموضوع. الأفصح في العربية أن تكون الرابطة بين الموضوع والمحمول وذلك بتكرار الضمير أو يوجد في البداية وهو الأقل فصاحة وفي النهاية وهو أقلها على الإطلاق. ويمكن استعمال الكلمة الوجودية في الماضي والمستقبل، كان موجودا، سيكون موجودا. أما في المضارع يوجد فلم تجر عادة العرب على ذلك. الوجود عند العرب بالقوة وليس بالفعل متضمنا وليس صريحا، بديهيا لا يحتاج إلى إثبات. الوجود متضمن في الشيء وليس صفة خارجة عنه. وجودية العرب طبيعية من خلال تحليل اللغة وعلاقة اللغة بالفكر. وجود فعل الكينونة بالفعل عند سائر الأمم وفي سائر الألسنة على الترتيب الثاني والثالث. أما في العربية فإنه موجود بالقوة، استحالة الرابطة الوجودية في اللغة العربية ومع ذلك تسمى القضايا الوجودية.
41
وليست اللغة العربية وحدها وأحيانا اللغة السعدية. هي المقابلة للغة اليونانية بل أيضا الفارسية أي مجموع اللغات الإسلامية، والهندية والتركية مثل وجود الأسماء المركبة في اللغتين اليونانية والفارسية.
42
وفعل الكينونة في اللغتين يكون اسما وفي نفس الوقت يدل على زمان المضارع. ويقارن بين أدوات التعريف والأسماء المعرفة في اليونانية والعربية والفارسية، ولكن يظل العرب أكثر ذكرا من اليونان مما يبين نقل الوافد على الموروث وابتلاع الموروث للوافد، ثم الفرس والهند مما يبين قرب الفرس، وانتشار الثقافة الفارسية لدى العرب أكثر من الثقافة الهندية. ينقل الفارابي حضارة العقل اليونانية وحضارة السياسة الفارسية وحضارة الدين الهندية إلى حضارة الوحي الإسلامية. وقد أدت مقارنة اللغات عند الفارابي؛ العربية واليونانية والفارسية والهندية إلى وضع قواعد علم اللغة العام في كتاب «الحروف». وتتجاوز المقارنة مع الهند اللغة والرابطة وفعل الكينونة وأداة التعريف إلى المقولات الواحدة في كل الثقافات والمحسوسات الواحدة؟
43
ويهدف الفارابي من علم اللسانيات المقارن إلى وضع قواعد لعلم اللسانيات العام ودون أن يشار إلى لغة بعينها اليونانية أو الفارسية أو الهندية، لغات الثقافات الوافدة مثل حروف العطف والروابط وما يقوم مقامها في سائر الألسنة. ويكرر الفارابي هذا القصد باستمرار لدرجة شعوره هو نفسه بذلك. هناك بنية لزمان الأفعال في كل الألسنة. وكل كلمة لفظ دال في جميع الألسنة في لسان جميع الأمم. وفي كل لغة حروف العطف في سائر الألسنة. وأداة التعريف عام في كل لسان. واستعمالاتها أو ما قام مقامها في الألسنة في العربية وما قام مقامه في جميع الألسنة عند كل الأمم، والمعقولات واحدة عند جميع الأمم في حين أن الألفاظ الدالة عليها والخطوط المكتوبة بها مختلفة. ولو كانت الألفاظ طبيعة للإنسان لكانت واحدة بأعيانها عند جميع الأمم مثل المعقولات أما نسبة المعقولات للألفاظ فهي اصطلاحية شرعية؛ فالألفاظ والخطوط إذن بلغة الأصوليين اصطلاحية وليست توقيفية، من وضع البشر وليس بتعليم من الله. ويترادف الاصطلاح والوضع والشريعة عند الفارابي، وتعني الشريعة هنا وضع المجتمع وليست الشريعة الإلهية. فالمجتمع أو الرئيس الإمام يشرع للسلوك والأفعال كما يشرع اللغات.
44
وقد يظهر من شرح العبارة للفارابي منهاج إسلامي وباطني مستقى من علوم التفسير، العودة إلى الأصول، وتخليص النص القرآني من تأويلات المفسرين. فالنص الأرسطي هو مصدر فلسفة أرسطو وليس تأويلات المفسرين. وتفسير أرسطو بأرسطو مثل تفسير الكتاب بالكتاب. فأرسطو يفسر بعضه بعضا كما يفسر الكتاب بعضه ببعض. وقد يكون عرض اسم الكتاب ومرتبته وغايته وتحقيقه تقليدا إسلاميا أكثر منه شرحا لأرسطو وكما هو معروف في الصفحات الأولى في العلوم الإسلامية الشارح الإسلامي هنا يصحح أخطاء الشراح اليونان، ولا يعتمد عليهم، ولا يقتبس منهم، فهو غير المنتسب للحضارة اليونانية أكثر قدرة على الحكم العدل على النص اليوناني من الشارح اليوناني الذي ينتسب إلى الحضارة اليونانية. الشعور المحايد أقرب إلى الرؤية من الشعور المنتسب. والجمع بين أفلاطون وأرسطو رؤية إسلامية متكاملة تضع نصفي الحقيقة في الحقيقة الكلية، المثال والواقع، العقل والحس، الله والعالم، النفس والبدن، الآخرة والدنيا. كما يظهر الأسلوب الإسلامي الكلامي في تخيل المعترض والرد عليه، فإن «قال قائل» ... «فإن سأل سائل» حتى تكتمل الفكرة من جميع وجوهها ورد أوجه الاعتراض فيها مسبقا.
45
وهناك بعض الموضوعات الإسلامية غير المباشرة التي تظهر عند الفارابي مثل الفطرة والشريعة والوضع. يحيل المنطق إلى الفطرة أو إلى وضع الشريعة والقول. فنص أرسطو لا فطرة فيه إنما هو اصطناع وتركيب وحرفة.
46
وقد عرف الفارابي ذلك من علم أصول الفقه الذي حدد معاني اللفظ في ثلاثة؛ الاشتقاقي والاصطلاحي والعرفي. يلجأ الفارابي كما سيلجأ ابن تيمية من بعد في نقد المنطق الأرسطي إلى الفطرة. فهي بديهية. بينة بذاتها، لا تحتاج إلى القياسات والتركيبات المنطقية. فهي تجب اللغة. هي عمل الشعور مباشرة فيما وراء الألفاظ. هي البداهة العقلية، الشعور العام، المشهور عند الجميع. فلا تعارض بين الفطري والمشهور. الفطرة هي الطبيعة الفردية، والمشهور هي الطبيعة العامة، فالمنطق كله الذي يعلم بالاكتساب من أرسطو يمكن أن نعلمه نحن بالفطرة. والفطرة اختيار وإرادة وروية. والفطرة في مقابل الوضع والشريعة والقول. الأولى طبيعة، والثانية اكتساب. الفطرة عند الفارابي مقابل التوقيف عند الأصوليين. والشريعة والوضع والقول هو الاصطلاح. مهمة المنطق والفلسفة البحث عن أشياء معلومة بالفطرة وليس إعطاء علم جديد عن طريق المقدمات والنتائج ولزوم الشيء عن الشيء. القضية البينة عند أرسطو يمكن معرفتها أيضا بالفطرة بصرف النظر عن كونها مشهورة أم غير مشهورة. وهنا يتم التحام أرسطو بالفارابي، والمنطق اليوناني بالمنطق الإسلامي عن طريق لحام الفطرة؛ فالفطرة هي القاسم المشترك بين الثقافتين وبين الفيلسوف. لقد عرف أرسطو الفطرة كما أثبتها الإسلام بعده بألف عام ثم أكدها الفارابي بعده بثلاثمائة عام، ولكن آباء الكنيسة لم يلحموا المسيحية بأرسطو. فلم تصبح الفطرة قاسما مشتركا بين الفلسفة اليونانية والفلسفة المسيحية.
47
وينقل الشرح مادة المنطق اللغوية من الوافد إلى الموروث فتصبح مادة كلامية تشمل موضوعي التوحيد والعدل بلغة الاعتزال أو الإلهيات والنبوات بلغة الأشاعرة. ويبدو ذلك في قسمة العلم وإدخال المنطق مع الطبيعيات والإلهيات والإنسانيات في علم واحد. فالمقولات متقدمة على كل كتب المنطق بل وعلى الطبيعيات والإلهيات والإنسانيات التي يسميها الفارابي العلم المدني لأن الإلهيات ليست إلا النظر في المعقولات. وهنا ينقل الفارابي الشرح من مستوى المنطق إلى مستوى الإلهيات والمنطق بؤرة الحضارة اليونانية والمادة الدينية بؤرة الحضارة الإسلامية. تم نقل البؤرة الأولى إلى الثانية. ودخلت قضايا إلهية كمادة محددة لقوانين المنطق، وكما فعل السهروردي في «حكمة الإشراق» بنقل المنطق الصوري إلى المنطق الإشراقي، وابن تيمية بنقل المنطق الصوري أيضا إلى المنطق الحسي.
48
والمشكلة التي تبدو في الإلهيات هي العلم الإلهي والله هو عز وجل، وجل ثناؤه، الله تعالى، وليس الإله اليوناني
Theos . فالعلم الإلهي ضروري لا تدخل فيه القضايا الممكنة لأنه علم محيط لا احتمال فيه. لا يصدق فيه المتقابلان أو يكذبان لأنه لا احتمالات فيه. يعلم الله الأمور المستقبلة؛ ومن ثم لا إمكان فيه يتحقق في المستقبل. كما أنه يخلو من الإيجاب والسلب، والمعلوم والمجهول. يعلم الله الأشياء قبل كونها في كل الملل. فإذا كان المنطق عند أرسطو يتناول المستقبلات والممكنات والمحتملات فإن العلم الإلهي لا يتناول إلا القضايا الضرورية.
49
ويظهر مقياس المنفعة والضرر في اعتقادات الناس، فلا تهتز عقائدهم بعلم الله المحيط بالمستقبل وبالممكنات فيه. والله يعلم بصدق إحدى القضيتين المتقابلتين بعلم مسبق وليس بعلم لاحق كعلمنا نظرا لنقص طبيعتنا. ويلاحظ أن نقد المنطق اليوناني قائم على الإلهيات الإسلامية، وأن حكم الفارابي على الفلسفة اليونانية حكم واضح وظاهر دون تعمق أو تسرع. ولا يخص ذلك الإسلام وحده بل سائر الملل، الدين العام الشامل. كما لا يخص المنطق اليوناني وحده بل المنطق الإنساني العام، أو اللغة العربية وحدها بل اللغات عند الأمم أو كما يقول ابن سينا فيما بعد، ليس علم الشعر الخاص بل علم الشعر المطلق. والاختلافات في المنطق قد يكون حلها في الإلهيات. فالإلهيات أوسع نطاقا من المنطق كما يبدو من تركيب الوافد المنطقي على الموروث الإلهي. بل إن المنطق الصوري ذاته ضد أخلاق أرسطو التي تقوم على الإرادة والروية. حل شكوك المنطق في يقين الإلهيات وكما فعل السهروردي في حكمة الإشراق بنقده القضايا الشرطية المنفصلة بالنسبة لليقين الأخروي.
50
فالإلهيات مادة لمنطق القضايا. وينقل الخارج على الداخل وإن كان لا يجوز نظرا للتمييز بين المنطق والإلهيات، العلم الصوري والعلم المادي إلا أنه مقنع.
ويرتبط التوحيد بالعدل عن طريق معرفة الله الضرورية بالمستقبليات بما في ذلك الأفعال الإنسانية؛ ومن ثم يكون السؤال: إلى أي حد يكون للإنسان اختيار وروية والله يعلم مسبقا اختياراته في المستقبل؟ وإذا نفى الاختيار لا يصبح الإنسان عرضة للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة. وهو مستحيل ليس فقط في الإسلام بل أيضا في كل الملل. وهنا يبدو الحكماء أقرب إلى المعتزلة منهم إلى الأشاعرة. ويقدم الفارابي حلا غير معروف ولا شائع عند الملل وهو أن الله يعلم كل موجود بحسب وجوده الضروري ضروريا، والممكن ممكنا، وهو قول غير كاف لأنه لا يثبت أن الله يعلم أحد المتقابلين على التحصيل. واضطرار العلم الإلهي واضطرار الفعل الإنساني ليس بينا في نفسه، يوضحه الفارابي وكأنه عاد متكلما، ويجد الحل في الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة. كل ذلك ليس من أرسطو بل تركيب أرسطو، وإعادة إنتاجه بناء على الداخل.
51
ويتراوح عرض الفارابي بين وجود الله وعلمه. ويتحدث عن علم الله باعتباره وجودا واقعا، فمن الطبيعي أن علم الله موجود في الماضي والحاضر والمستقبل، وأنه لم يزل ولا يزال ولن يزال موجودا يعلم يقينا ما يقع من أفعال البشر في المستقبل، ولكن علم الله المسبق الضروري لا يعني فرض الضرورة على الله أو أن يمنع الضروري إلى الممكن. كما أن العلم الإلهي المسبق بكل ما يقع من حوادث لا يمنع الإنسان من أن يكون حرا مختارا مسئولا عن أفعاله وإلا انتفى الثواب والعقاب. ولا يكفي القول بأن العلم الاضطراري اضطراري بنفسه بالإضافة إلى موضوعه لأنه غير واضح بذاته. إنما الأمر هو هل يجوز للشيء أن يوجد على التحصيل، أن يوجد وألا يوجد؟ وقد اختلف القدماء في ذلك. فقد رأى البعض أن ما لم يزل ولا يزال موجودا ليس ممكنا ألا يوجد، وأن ما لم يزل ولا يزال غير موجود لا يمكن أن يوجد. وآخرون جوزوا ذلك؛ وبالتالي جوزوا أن يعلم الله على التحصيل أحد المتقابلين. وهو أنفع في الملل فلا تناقض بين علم الله المسبق والفعل الإنساني القائم على الاختيار والروية. يضع الفارابي الفكر اليوناني في إطار تاريخه، ويفصل اتجاهات القدماء في موضوعه.
52
ويرفض الفارابي مقالة هزيود عن ظلم الله، والله لم يظلم ولا يظلم ولن يظلم، في الماضي والحاضر والمستقبل. ظلم الله لم يزل غير موجود ولا يزال غير موجود، وحتى تنفي الضرورة عن الله فإنه يظل ممكنا. فهو ضروري من جهة، ممكنة من جهة أخرى.
53
والعدل والجور مصطلحات إسلامية في مباحث العدل عند المتكلمين ثم نقل مصطلحات المنطق إليها، والعدل والجور والفضيلة والرذيلة ملكات، لكل منها عدم. إذا فقدت خلقها ضدها؛ لذلك لا يوصف الله بالسلب بل بالأسماء غير المحصلة التي تدل على الطبيعة. فإن من الشنيع أن يوصف الله بالعدم السالب في حالة نفي الملكة فيقال الله ليس عدما، وهنا يرفض الفارابي نفي العدم عن الله إثباتا للوجود. ويرفض كل ما يسمى باللاهوت السالب. فالصفات التي تطلق غير محصلة أي غير قابلة للتضاد والتقابل. لا يوصف الله بالسلب بل بالأسماء غير المحصلة. فالله ليس له عدم ولا يحتاج إلى إثبات وجود.
ونقل المنطق إلى الإلهيات يظهر حدود قضايا المنطق، وأن الله في الذهن الإنساني فكرة محددة لكسر حدة الضرورة المنطقية. لا يمكن تصور الله جوهرا ينتقل من الفعل إلى القوة على نحو طبيعي. فالله موجود بالفعل، جوهر أول، كان في عصر أرسطو يعتقد الناس أن الجواهر الأولى آلهة. ويرى «أهل زماننا» أنها ملائكة أو أنها مائتة في حين يرى زمان أرسطو أنها أزلية. وهي موضوعات تعليمية صرفة لا يمكن الاستشهاد بها للحكم على الموضوعات الأزلية. واضح أن الفارابي هنا يضع الفكر في التاريخ. فالعقائد تتغير بتغير العصور، تعدد الآلهة عند اليونان، والله الواحد عندنا. وأزلية الجواهر الأول عند اليونان، وخلق الملائكة عندنا.
54
ويظهر الأسلوب الإسلامي في بعض التعبيرات اللاشعورية مثل «اللهم» كما تظهر البيئة الدينية الإسلامية في أول المخطوط ونهايته من أجل وضع الشرح في بيئته الحضارية الجديدة، والانتقال من البيئة اليونانية إلى البيئة الإسلامية. يبدأ المخطوط بالبسملة، ويلقب الفارابي بالشيخ، ويدعى له بأن يرضى الله عنه ويترحم عليه. وينتهي بالحمدلة والصلوات على الرسول وآله، ثم ببيان تاريخ النسخ ومكانه. ويبتدأ النص بقال الفارابي؛ إعلانا عن بداية المخطوط ويعلن عن نهايته بانتهى، ويعلن عن عدد الفصول. يتم إذن التوحيد مع الموضوع، ويخرج الموضوع من الداخل وليس من الخارج، ويصبح جزءا من الثقافة الموروثة. وإن كان في البداية من الوافد. ولا فرق بين الناسخ والمترجم والشارح والفارابي فهم كلهم مؤلفون يتدخل الناسخ كأن الفارابي بالنسبة له آخر وأرسطو آخر الآخر. ولا أحد مقلد.
55 (ج)
وبالرغم من أن ابن رشد هو «الشارح الأعظم» إلا أن الشرح كان نوعا مبكرا عند الفارابي في «شرح رسالة زينون الكبير اليوناني». وهو زينون الرواقي وليس زينون السوفسطائي، جعله الفارابي تلميذ أرسطوطاليس والشيخ اليوناني في آن واحد مع أن الشيخ اليوناني وهو أفلوطين بعد أرسطو بسبعة قرون. فعلاقة الشيخ بالمريد خارج الزمان والتاريخ علاقة أبدية في الحكمة الخالدة. والسؤال هو: هل هذه الرسالة موجودة حقا أم إنها منتحلة؟ وبتحليل المضمون الإيماني لها فهي رسالة أشعرية في علم العقائد، أقرب إلى الانتحال. وإذا كانت موجودة فما هي صيغتها الأولى أي ذواتها التي قرأها الفارابي لتمثل الوافد في تصور الموروث؟ وإذا كانت موجودة بهذا المضمون الأشعري وهو ما يستحيل تاريخيا فقد اختارها الفارابي دون غيرها لأنها توافق تصوره الديني للعالم، وإذا كانت موجودة تاريخيا فلماذا لم يشرحها الآخرون؟ ويبين الفارابي سبب شرحها وهو أن النصارى قد شرحوها من قبل فحذفوا منها وأضافوا عليها. فأراد الفارابي أن يشرحها حقا كما هي عليه. فالفارابي على علم بأن الشرح ليس مطابقة الشارح بالمشروح بل قراءة وتأويل وحذف وإضافة ونقصان وزيادة، مما يسمح له بتجاوز المشروح كلية باستثناء الاسم، «زينون» ولقب «الكبير» وثقافته «اليوناني». لا تظهر أفعال القول إلا مرة واحدة في البداية، مجرد إعلان دون اقتباس نص كما هو الحال في «الجوامع» لأن ما يأتي بعد القول ليست أقوالا لزينون بل عرضا للعقائد الإسلامية على النسق الأشعري؛ الذات، والصفات، والأفعال، والنبوة، والمعاد، والإيمان والعمل دون الإمامة.
ويضع الفارابي شرحه في إطار مقارن بالعودة إلى أرسطو ثم أفلاطون ثم زينون ثم سقراط.
56
فزينون الكبير تلميذ أرسطاطاليس والشيخ اليوناني. وعمل الفارابي هو شرح نص طبقا لنوع أدبي خلقه الفارابي وسار عليه ابن عربي وهو «فصوص الحكم». فالحكمة فصوص متراصة ينتظمها كل واحد. ويذكر أرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط باعتبارهم رواة في سلسلة متصلة كما هو الحال في السند في علم الحديث «عن معلمي أرسطاطاليس عن معلمه أفلاطون عن معلمه سقراط.» للدلالة على صحة المتن ودرءا للإبداع وتسترا عليه كما يفعل يوحنا في الإنجيل الرابع عندما يبدأ بالتاريخ المضبوط، الزمان والمكان والأسماء، لينتهي إلى ما بعد التاريخ أي إلى الإبداع الخالص أي الانتحال، كل تلميذ يروي عن أستاذه ويستفيد منه.
وتتضمن الرسالة ستة أقسام؛ الأول في الدلالة على وجود المبدأ الأول، والثاني في الكلام في صفاته، والثالث في نسبة الأشياء إليه، والرابع الكلام في النبوة، والخامس في الشرع، والسادس في المعاد. فإذا كانت عقائد الأشاعرة ثمانية؛ أربعة في العقليات أو الإلهيات، الذات والصفات، والأفعال (الكسب، والعقل، والنقل)، وأربعة في السمعيات: النبوة، والمعاد، والإيمان والعمل، والإمامة يكون الفارابي وهو حديث عهد بالكلام قبل أن يتحول إلى فلسفة خالصة، وقد كان الكندي متكلما فيلسوفا، معتزليا حكيما، قد حول النسق الأشعري، والفارابي معاصر له، إلى علوم الحكمة مع تغيير في الترتيب، جاعلا المعاد في النهاية طبقا لترتيب الحكمة والنهاية بخلود النفس، ومسقطا الإمامة التي تحولت عنده إلى فلسفته السياسية في المدينة الفاضلة.
ويستدل الفارابي على وجود المبدأ الأول عن طريق الثنائيات العقلية اليونانية التي تسهل تنظيم الإيمان وتعقيله، الواجب والممكن، والكون والفساد، والعلة والمعلول، والماهية والوجود. ويستدل على صفاته مثل أنه واحد، ولا يجوز أن يكون جسما وسطحا وخطا ونقطة، لا يقتضي التكثر، عقل وعاقل ومعقول، حي، عالم، حكيم، مريد، ليس فيه ضدية للأشياء. وهنا يبدو اللاهوت السلبي مع الإيجابي، كما تتخلق صفات الذات عند الحكماء من صفاتها عند المتكلمين. ويظهر دليل التمانع المشهور عند الأشاعرة في إثبات أنه واحد.
والثالث «نسبة الأشياء إليه» يتعلق بالمخلوقات أو بالأحرى نظرية الفيض؛ إذ لا يصدر عنه إلا ما يلائمه. كمال لا نقص فيه. تصدر منه العقول ومنها تصدر النفوس مع الانتهاء إلى العقل الفعال. وتبدأ النبوة بالنفس القدسية التي تفيض عليها العلوم والمعارف مرة واحدة دون قياس شرعي. ثم يعرض النبي الشرائع وأركان الدين والعبادات لحفظ العالم. وأخيرا تعود النفس لتلقى الجزاء؛ الثواب أو العقاب. ولا يظهر لفظ الله إلا في النهاية. فالعلم كنز مدفون لا يفوز به إلا من سهل الله طريقه إليه.
ثالثا: تفسير كتاب إيساغوجي لفرفوريوس (أبو الفرج بن الطيب)
وقد نسب هذا التفسير مدة طويلة إلى الفارابي، صاحبه أبو الفرج بن الطيب الطبيب المشهور (435ه) وربما من إملائه وليس من تأليفه. مدحه ابن سينا في الطب وذمه في الحكمة وهو معاصر له. وهو المفسر الشارح مثل ابن رشد.
1
وألقابه هي «الشيخ الفاضل»، «الفيلسوف الكامل» وهي ألقاب إسلامية، بالإضافة إلى «قدس الله روحه» وهي دعوى نصرانية. فقد كان نصرانيا وأسلم. واحتفظ باللغتين داخل الولاء للثقافة العربية، وهناك اثنان باسم فرفوريوس؛ الأول من صور والثاني من سفيلة الشام، وواضع إيساغوجي هو الصوري نسبة إلى المكان صور وليس إلى المنطق الصوري. وقد تم التفسير بناء على عادة مفسري الصناعة المنطقية بعدما رأوا طولها ونقلها وأنها مجرد آلة لغاية أخرى هي الفلسفة. فكان من الضروري تسهيل الآلة لبلوغ الغاية.
2
والفلسفة على أربعة ضروب طبقا للعلل الأربعة وهو ما أهمله مفسرو كتب أرسطو.
ويبدأ التفسير دفاعا عن الفلسفة ضد منكريها وهم في الأغلبية السوفسطائيون دون الإشارة إليهم.
3
ثم يقدم تعريفات ستة للفلسفة ثم منهجها وهو الحد، والقسمة إلى تعليمي وطبيعي وإلهي.
وكان الدافع على التفسير هو شكوى المفسرين من صعوبات منطق أرسطو ومقولات آخرين مثل أفلاطون وفيثاغورس وثاوفرسطس وجالينوس وكتب خروساوريا شاكيا من صعوبة المقولات. فقام فرفوريوس بشرحها. فالتفسير شرح على شرح، تفسير على تفسير ، توضيح على توضيح. وواضح أن مستوى التوضيح الثاني إنما يتم على مستوى اللغة والألفاظ وتحليل الحروف. فالمقولات في النهاية ألفاظ قبل أن تكون تصورات. وهو مستوى الحضارة الجديدة وكأننا في مدرسة تحليل اللغة المعاصرة في الغرب الحديث. مهمة النصين الشارح والمشروح تجنب الألفاظ الغريبة. فاللغة توجد من الجمهور، والمعاني من الخواص، وتجنب التطويل، والقول بإيجاز، وتجنب الأسماء المشتركة ورداءة التأليف لأن الغرض الإيضاح والتقسيم.
4
وهو نموذج التفسير الذي يتقطع فيه النص، وتنفصل فقرات المؤلف عن فقرات المفسر.
5
الأولى تبدأ بعبارة: قال فرفوريوس، والثانية تبدأ بعبارة، قال المفسر، والتفسير ضعف النص تقريبا. وقد تتجاوز فقرة التفسير فقرة النص مما يدل على أن النص مجرد مناسبة للتفسير، وأن التفسير يتجاوز النص لدرجة أنه قد يصبح تأليفا غير مباشر مستقلا عن النص.
6
وقد يكون هذا التجاوز إلى الحد الأقصى والذي قد يبلغ العشرين ضعفا ثم العشرة أضعاف ثم الخمسة أضعاف. وهنا يكون التفسير زيادة على النص. وقد يتساوى التفسير مع النص. وقد يقل التفسير عن النص لدرجة النصف أو الربع. وفي هذه الحال يكون النقصان والتركيز.
وهو مقسم إلى ثمانية عشر تعليما. ولا يبدأ تقطيع النص إلا من التعليم السادس. أما التعاليم الخمسة الأولى فهي تأليف مباشر من المفسر الأول دفاع عن أرسطو ضد المعاندين الجاهلين، والثاني دفاع عن المطالب الأربعة (العلل)، والثالث ضد الفلسفة، والرابع منهج الفلسفة والحد والقسمة، والخامس النظر في الكتاب نفسه، الغرض والمنفعة والسمة ومرتبة الكتاب وقسمته وواضعه والنحو الذي يستعمل فيه والنظر في أي علم من العلوم هو.
7
وبالإضافة إلى قال فرفوريوس هناك أيضا «نقول» تقابلا بين الأنا والآخر، بين المفسر والمفسر، بل ويستعمل ضمير المتكلم الجمع مثل «خيرنا» و«أما نحن». هناك تمايز بين المفسر والمفسر تمايزا حضاريا بين نصين وموقفين وثقافتين.
8
ويتتبع المفسر مسار فكره ومسار فكر المفسر، إحالة إلى ما تقدم، واستبصارا لما هو قادم.
9
ويحاول المفسر أن يربط كلام فرفوريوس بعضه ببعض، ويجد تسلسله المنطقي واتصاله بالرغم من تقطيع النص، بالجمل الشرطية، ابتداء من فعل الشرط حتى جواب الشرط للدلالة على الانتقال من المقدمات إلى النتائج. والتفسير بيان موجز للنص المفسر وتركيز له. التفسير في حجمه شرح وفي مضمونه تلخيص لأنه إبراز المعاني والقضايا والموضوعات. كما أنه بيان للغرض، فالغرض هو الذي يعطي النص وحدته. وهو أيضا اقتضاء، ما ينبغي أن يكون، فكر معياري له بنيته الداخلية، محكوم من أعلى ومن الداخل.
10
وفي كل فقرة شارحة تظهر أفعال الشعور المعرفي، شك ونظر وبيان وتوضيح وتحليل ووصف وبحث وإقرار. فالتفسير ليس مجرد إيجاد مترادفات بل الدخول إلى الفكر نفسه كعملية ذهنية. ويتخيل المفسر الاعتراض، ويسبق إلى الرد عليه سلفا من أجل إحكام الاستدلال وتوضيح مسار الفكر.
11
ولا يعني التفسير التأييد بل قد يعني أيضا النقد والرفض والمراجعة. فقد زعم أن العرض هو ما يكون ويفسد من غير فساد موضوعه والمشاهد على خلاف ذلك.
12
ويوسع المفسر منظور المنطق فيشمل التعاليم والطبيعي والإلهي والأخلاق، وربما لم يمتد إلى الاجتماع والسياسة. التفسير هو إعطاء نظرة عامة للمنطق ثم إدخال إيساغوجي فرفوريوس فيها. البداية بالكل ثم الجزء. ويجعل المفسر مثل الفارابي البرهان قمة المنطق، ما قبله، مثل المقولات والعبارة والقياس مقدمة له تؤدي إليه، وما بعده انتقاص منه وتخل عن شروطه مثل الجدل والسفسطة والخطابة والشعر. وتتم مخاطبة القارئ، فالفكر رسالة مشتركة، وهو تعبير حسب الطاقة، مفتوح للأجيال القادمة. لا يدعي أنه يعطي القول الفصل والرأي النهائي، ويخاطب المفسر المفسر ويناديه يا فرفوريوس من أجل تحويل النص المدون إلى حوار شفاهي حي كما فعل فرفوريوس مع تلميذه خروساوريا.
13
وبطبيعة الحال يتصدى الوافد الموروث في التفسير، وتكثر أسماء الأعلام. ويأتي فرفوريوس في المقدمة ثم أرسطو ثم أفلاطون ثم سقراط ثم فيثاغورس ثم أوميروس ثم ثاوفرسطس وجالينوس، ثم أوديموس وأنكساجوراس، وانسطانس الكلبي، ويوحنا المفيادروس وكسانوقراطيس ويحيى النحوي، ويدل ذلك على صدارة المدرسة الفيثاغورية التي خرج منها كبار الفلاسفة الثلاث.
14
وتكثر أسماء أعلام الأساطير اليونانية وآلهتها زيوس وأجاممنون. ترك المفسر أسماء آلهة اليونان وأبطالهم مثل أوميرطس الذي صعد إلى جبل شاهق وخاطب الشمس أنه تخلص من الآلام الجسدية لينال الحياة الأبدية.
15
ولا يسقط حتى اسم محاور فرفوريوس وهو خروساوريا ولا أمثلته من أوميروس. ويفسر المعنى الاشتقاقي لخروساوريا الذهبي. امتلأ التفسير بالأسماء اليونانية كأمثلة دون تغييرها إلى أمثلة عربية سواء كانت أسماء فعلية أم أسطورية.
16
التفسير هنا هو إعادة إنتاج النص ووضعه داخل التراث الفلسفي المنطقي الطبيعي الإلهي، وإدخاله داخل بنيته اليونانية بأقل قدر من التمثل في الموروث. يحول التفسير النص إلى تاريخ الفلسفة ويضعه في ميدانه. فلا تفسير إلا بالتاريخ.
لقد أتى هذا التفسير ليسد الفراغ الذي تركه مفسرو كتب أرسطو وقبولهم الفلسفة لأنها في غاية الظهور، فالعالم موجود والنظر موجود. وزعم المعاندون لأرسطو أن الفلسفة اسم فارغ لا معنى له لأن الوجود سيلان لا يمكن للغة معرفته. ويرد عليهم أشياع أرسطو لإثبات ضرورة الفلسفة. ويحدها أرسطو بأنها صناعة الصنائع وعلم العلوم، وأرسطو هو واضع الصناعة بشهادة تلميذيه ثاوفرسطس وأوديموس، ويستعمل أرسطو كله في المنطق أولا، والطبيعيات ثانيا، والإلهيات ثالثا أي إدخال مقدمة المقولات داخل النص الأرسطي كله، وإعادة توظيفه لصالح المنطق خاصة المقولات، فالأسباب الأربعة مقولات تتداخل طبقا للأجناس والأنواع. ويراها أرسطو صورا موجودة في الكثرة. فهي أنواع وأجناس طبيعية ليست في الوجود لأنه لا يوجد في الوجود إلا أشخاص محسوسة جزئية.
17
وإيساغوجي ليس نظر أرسطو بل نظر فرفوريوس؛ إذ إن فرفوريوس ينظر في الأمور العامية في حين أن أرسطو ينظر فيها من حيث هي ذوات تنقبض إلى عشرة. لم يحددها أرسطو لاشتهارها. وينقد المفسر أرسطو، ويضرب المثل بما قاله في سوفسطيقا بأن رجلا من سبعين وهو أخلوس قتل مائة كنموذج لرداءة التأليف في تركيب الألفاظ التي يجب أن يقاس طولها واختصارها طبقا للمعاني وليس طبقا للألفاظ.
18
ويعرف أفلاطون الفلسفة بأنها التشبه بالله تعالى بحسب الطاقة الإنسانية في علم الحق وفعل الخير، ويشارك في تعريف أوبرنطيس بأنها أيضا تعلم الموت الإرادي أي إماتة الشهوات. وينقد المفسر هذا التعريف الذي يزعم أفلاطون في «فادن». فقد يفهم منه أن الفلسفة إيثار الموت. ويرد عليه بأن الموت والحياة طبيعيان إراديان. فأفلاطون يعني الموت الإرادي لا الموت الطبيعي، ويستشهد بأفلاطون على أنه لا يجب أن يكون للكتاب أغراض كثيرة. ويخرج المفسر إيساغوجي من دائرة المنطق الضيقة إلى رحاب الفلسفة ومسائلها وتاريخها ضاما أرسطو إلى المدرسة التي خرج منها فيثاغورس وأفلاطون بل وأوميروس الشاعر دون خوف من الأساطير آلهة وأبطالا. فيتم الحديث عن النفس وتأليفها من الأعداد، وعند أفلاطون مؤلفة من دائرة هو هو والآخر، الأولى دائرة الكواكب الثابتة والثانية دائرة المتحيزة وأن الباري أخذ خطا مستقيما فشقه بالطول قسمة للأمور إلى فاسدة وغير فاسدة. وكأن أفلاطون يحاور أنطستانس الكلبي حول الأجناس والأنواع.
19
ويستعمل سقراط وأفلاطون كأسماء علم بدلا من زيد وعمرو.
20
ويقارن المفسرون أفلاطون وأرسطو. فلم يزعم فرفوريوس أن الموجود اسم مشترك لأنه أفلاطوني بل هو رأي أرسطو، والقسمة عند أفلاطون تتم بالفصول الجوهرية والحد منها مؤلف، والبرهان المحقق بتوسطها يكون وكذلك التحليل. وعند أفلاطون الجن في الهواء نموذج غير المائت وغير الناطق في مقابل نماذج الناطق المائت، وغير الناطق الكائن، والناطق غير المائت. وفرفوريوس أفلاطوني المذهب بالرغم من أنه يكتب مدخلا لمقولات أرسطو. فالتقابل في الفصول في الجنس بالفعل، ويفسر أرسطو بأفلاطون. فإذا كان أرسطو قد جعل الفلسفة ثلاثة أجزاء تعليمية وطبيعية وإلهية فإن أفلاطون أخرج التعليم من الفلسفة.
21
ويفسر إيساغوجي بنصوص أرسطو وأفلاطون. فمن مؤلفات أرسطو يتعدد قاطيغورياس، فالمقولات أقرب الموضوعات إلى الكليات الخمس، وتذكر في الغالب معربة وفي الأقل مترجمة. ثم تأتي باقي كتب المنطق، فإيساغوجي كان مقدمة للمنطق، مثل طوبيقا، السوفسطية ثم البرهان. كما تذكر باقي الكتب الطبيعية وما بعد الطبيعة.
22
ويرجع المفسر إيساغوجي إلى مجموع كتب منطق أرسطو وأولها المقولات. فالأسماء الخمسة مقدمة لها.
23
كما تتم الإحالة إلى مؤلفات أفلاطون وتأتي «فادن» في المقدمة ثم طيماوس والثاطيطس.
24
ويظهر تاريخ الفلسفة اليونانية بكل مدارسها الأفلاطونية والأرسطية، ويذكر فيثاغورس في حد الفلسفة بأنها العلم بالأشياء الموجودة بما هي موجودة، وأنها العلم بالأمور الإلهية والإنسانية وأنها إيثار الحكمة، ويحدها أمبريطوس بأنها تعلم الموت الإرادي أي إماتة النفس عن الشهوات. واختلفت الآراء في معنى الجسم. فهو مركب من الأجزاء المتشابهة عند أنكساجوراس أو من الأجزاء التي لا تتجزأ عند أبيقورس أو من الأسطقسات الأربعة كما يظن بقراط وأفلاطون وآخرون أو من الأعداد المتآلفة كما يعتقد فيثاغورس أو هي صورة عند الباري كما يرى أفلاطون أو هي عدد محرك لذاته كما يرى كسانقراطس. والطبيعة مطبوعة على شيء واحد عند جالينوس، وأحيانا يذكر من التاريخ ما يصعب التحقق منه مثل يوحنا المفيادروس واللينوس والعصابة الإسكندرانية بأسرها.
25
ويحال إلى القدماء على الإطلاق في مقابل المحدثين على مستوى اللاوعي، الآخر في مقابل الأنا، والماضي في مقابل الحاضر، بحثوا الأجناس والأنواع، ولا يجب التقيد بالقدماء فعادات الكلام تتغير، وكانوا يستخرجون الحد من القسمة. وقد يكون هذا الإحساس بالقدماء هو السبب في وضع النص في إطاره التاريخي من صاحب النص الأول وتبعه في ذلك صاحب النص الثاني.
26
ويرتبط النص المفسر بلغة اليونانيين وبشعر اليونانيين وبثقافة اليونانيين. فلا يوجد منطق دون لغة، ولا توجد لغة إلا لشعب.
27
زيوس عند اليونانيين مثل آدم عند الشرعيين، أصل النسب بالرغم من ارتقاء طائفة أخرى من اليونانيين إلى بوسيدون. ويضرب المثل بالسواد المشترك بين الغراب والزنجي مما يدل على رؤية عرقية في النص اليوناني.
28
ومن أسماء الفرق اليونانية يذكر المفسرون على العموم أو مفسرو كتب أرسطو على الخصوص.
29
فالتفسير جرى وراء عادة المفسرين في أمور كثيرة منها النظر في أمر الحد، وإجماعهم على ستة حدود للفلسفة. كما اختلف مفسرو كتب أرسطو فيما بينهم في غرض إيساغوجي. وزعم المفسرون أن قول فرفوريوس أرى تعني «يشبه». وإنما فعل ذلك التماسا للتواضع.
والكتاب مقسم إلى ثمانية أبواب على عادة مفسري كتب أرسطو؛ الغرض، والمقدمة، والسمة، والمرتبة، والقسمة، والوضع، واستعماله، وعلمه. وينظر النحويون للأجناس الخمسة على أنها ألفاظ ويزعم أصحاب الرواق أن المنطق جزء من الفلسفة، وبحثوا الأجناس والأنواع واعتقدوا أنها أجسام.
30
ولا يكاد يظهر الموروث على عكس تفاسير ابن رشد وشروحه وتلخيصاته وجوامعه، وكأن الهدف هو مجرد التفسير ، ربما لأن المفسر كان نصرانيا قبل أن يسلم؛ وبالتالي كان ولاؤه الأول للوافد على الموروث. ولا يذكر إلا يحيى بن عدي ومتى بن يونس كمترجمين للوافد مع أنه أتى بعد الكندي والفارابي والرازي والعامري وابن سينا. عاش في النصف الأول من القرن الخامس بعد أن ورث الفلاسفة المترجمون والشراح الأوائل. فيحيى ومتى والينس يزعمون أن اسم الموجود ليس باسم متفق ولا بمتواطئ بل متوسط بينهما. ربما لأنه أراد إعطاء نوع جديد من التفسير، وضع النص في سياقه التاريخي.
31
ويعتمد على بعض الشراح من النصارى العرب مثل يحيى النحوي في أن أحد وسائل إيضاح الأمور ليس هي ذاتها بل في الألفاظ بأن تكون مختصرة فتطول، وغير منظمة فتنتظم، ومطولة فتختصر.
وتظهر بعض الأمثال العربية مثل عنز أيل وعنقاء مغرب. كما يظهر الأسلوب العربي في ضرب المثل بزيد وعمرو.
32
كما يتم الحديث عن الشرعيين واعتبارهم آدم أصل النسب. كما أنه زيوس أو بوزيدون أصل شعب اليونان. وتظهر البيئة العربية الإسلامية على استحياء في مقابل البيئة اليونانية مثل الإسكندرية وروما، والقسطنطينية والشام. ويضرب المثل بالمسافة من مدينة الإسكندرية ورومة كمثل للحد الكمي.
33
والتشبه بالله على تسعة أضرب في الجوهر أو الصورة أو الفعل أو اللون أو الشكل أو القوة أو الطعم أو الرائحة، وتشبه الفيلسوف بالباري جل اسمه في أفعاله وصفاته وهي ثلاثة؛ الجود والقدرة والحكمة. وهي صفات مكتسبة للفيلسوف، والسعادة هي التشبه بالله تعالى بحسب الطاقة. والتشبه بالله إنما يتم بعلم الحق وفعل الخير، وهذان يتمان بالوقوف على طبيعة البرهان وجميع طرق البيان؛ القسمة والتحديد والبرهان والتحليل. وهذا يتم بالوقوف على الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض.
34
ويعتمد حد الفلسفة على أنها صنعة الصنائع وعلم العلة وعلم العلوم على حجة أن الأشياء الشريفة بمنزلة الله. والملك يحمل أسماء مضاعفة مثل ملك الملوك، إله الآلهة. والحد الثالث أن الفلسفة إيثار الحكمة، وقد سميت كذلك لأنها تتولى الأشياء الإلهية. وهي تنظر في الموجودات بأسرها. وأقصى سعادة هي الاتصال بالله تعالى. فمن ضمن التعريفات الستة للفلسفة أربعة منها تتعرض للأمور الإلهية مما يدل على رؤية حضارة المفسر في مقابل حضارة المفسر.
35
ويظهر لفظ الإلهي ترجمة لما بعد الطبيعة في تقسيم أرسطو للفلسفة إلى تعاليمية وطبيعية وإلهية. والتعاليم تعود إلى الإلهيات؛ وبالتالي فهي جزء من الفلسفة. أما الطبيعية فإنها تتعامل مع المادة والتغير، والإلهية عرية عنهما. وأحد الحدود الستة للفلسفة الحد الثاني وهو أن الفلسفة علم الأمور الإلهية والإنسانية. والحد الخامس وهي أن الفلسفة هي التشبه بالله تعالى بحسب الطاقة الإنسانية في علم الحق وفعل الخير وهما لأفلاطون. وإذا كانت الفلسفة هي العلمية الموجودات بأسرها، والعملية نفوس الناس، فإن الإلهية هو الاتصال بالله والتشبه به بقدرة الطاقة الإنسانية. حدود الفلسفة إذن ستة؛ ثلاثة لفيثاغورس واثنان لأفلاطون وواحد من أرسطو. وقد يطرأ شك على حد الفلسفة بأنها معرفة الأمور الإلهية والإنسانية دون معرفة مصادر العلم بالأسطقسات وباقي الحيوان والنبات. ويكفي في حل هذا قول أوميروس أن زاوس رب الآلهة والناس الكائنات الطبيعية الفاسدة، والأمور الإنسانية والأمور الإلهية.
واعتقد أفلاطون أن للأجناس والأنواع وجودات ثلاثة، وجودا قبل الكثرة وهو اعتقاده بالصور الموجودة عند الباري سبحانه قبل أن يخلق خلقه إذ إنه كان يعتقد أن عند الباري تعالى صورة إنسان وحمار وذهب. واعترض الفلاسفة عليه ومعهم أرسطو.
36
وهي موضوعات الرجل الإلهي، وفائدة النظر في إيساغوجي في أي علم من العلوم حتى لا يخلط نظر الإنسان فيقرأ كتابا إلهيا في علم طبيعي، ويدخل الباري في تنظيم الأجناس والأنواع وكأن التنزيه العقلي والإيمان الديني صنوان.
ويظهر الله في تحليل اللغة إذ يستعمل لفظ الله في تحليل حرف النداء «يا» مثل يا للتعجب «يا لغور رحمة الله»، وللتضرع «يا رب ارحمني».
37
كما يضرب المثل على المفرد الواحد بالله والإنسان في مقابل المركب.
ويظهر الله في العلم الطبيعي كامتداد لصناعة المنطق. فالله جوهر وكيفية لا هيولى له ولا نفس مثل باقي الكيفيات. والإلهي ليس كله غير محسوس إذ كانت السماء وحركاتها والكواكب محسوسة بأسرها وبها يتم الوقوف على ما خفي من الأمور الإلهية بمنزلة العلة الأولى تقدس. وإذا كان النبات ينقسم ثلاثة أقسام السامي عن الأرض، والقريب منها، والمتوسط بينها، فإن الله تعالى ليس جسما بل هو جوهر غير جسم.
والله موضوع علم ما بعد الطبيعة وحده. فالنجار لا يسأل عن طبيعة الخشب هل هو من الأسطقسات الأربعة أو له صورة عند الباري تعالى. والباري هو الذي أخذ خطا مستقيما وشقه بالطول وقسم الأمور إلى فاسدة وغير فاسدة. ولا يرى المفسر حرجا في الحديث عن آلهة اليونان أن زيوس أب لجميع الآلهة والناس. يقول الشعراء إن للآلهة آباء. وقد يسبق الظن إلينا أن الآلهة يولدون، بل من باب تهذيب الكلام أي المجاز دعوة بعض الناس أنهم أبناء الآلهة لصفاء عقولهم وعنايتهم بالأشياء الإلهية وتشبههم بالآلهة قدر الطاقة. ويدخل الملائكة كعنصر لشرح الأجناس والأنواع مع الإنسان. فكلاهما يشاركان في المنطق كما يشارك الإنسان الحيوان في الحياة، ويفصل الإنسان والملائكة الموت. وقد تعني الملائكة الأجسام السمائية.
38
ويبدأ التفسير بالبسملة ولا ينتهي بالحمدلة.
39
رابعا: شروح ابن باجه
(1) السماع الطبيعي
واضح أن ابن باجه هو الذي تعامل مع الوافد بعد الفارابي وقبل ابن رشد. فهو حلقة الوصل بينهما من ناحية، وبين المشرق والمغرب من ناحية أخرى، ابن باجه هو روح الفارابي كمقدمة لمشروع ابن رشد.
ويكون ابن رشد مطورا لمشروع ابن باجه من شرح الجزء إلى شرح الجزء بالكل وبالقصد بحيث يمكن مقارنة المشروعين معا؛ ومن ثم تكون دعوة استقلال الفكر الفلسفي في المغرب عنه في المشرق غير صحيحة تقوم على حجج مبتسرة مثل أسطورة السياسة في المشرق والحريات الفكرية الأعظم في المغرب، وسيادة الأشعرية والتصوف والغزالي أقل في المغرب. فالسطوة في المشرق والمغرب على حد سواء من السلاطين والفقهاء، من قريش والجيش. والحريات الفكرية في المغرب قدرها في المشرق. ولا تقل الحياة الفكرية في بغداد والبصرة عنها في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة. وحضور الغزالي وسيادة التصوف لا تقل في المغرب عنها في المشرق إنما هي الرغبة في الاستقلال والظهور وأخذ الريادة والإحساس بالنقص مرتين، مرة أمام المشرق ، ومرة أمام الغرب، وتقربا إلى الغرب العلمي العقلاني وشق صف الوطني، وكيف يكون كل دين منحولا أو شرقيا، نظرة المغرب إلى المشرق، وكأن المغرب في الأندلس لم يعرف الدين الشرقي المنحول، وكأن المشرق لم يعرف عقلانية البصرة وبغداد.
1
ولماذا استبعاد بعض مخطوطات ابن باجه لأنها تنحو منحى أفلاطونيا وكأن ابن باجه ليس شارحا للفارابي، وكأن كليهما يخلوان من العناصر الإشراقية مما يجعل الباحث يقع في القطيعة الدجماطيقية باسم العقلانية المغربية، صحيح أنه في الوقت الذي قضى فيه الغزالي على العلوم العقلية في المشرق في أواخر القرن الخامس أحياها ابن باجه في المغرب في أوائل القرن السادس. وقد حضر إلى مصر مثل ابن خلدون. فابن باجه هو حلقة الوصل بين المشرق والمغرب وليس أحد أسباب القطيعة حتى ولو كانت خصوصية مغربية. فالفضل في ذلك يرجع إلى أبي نصر أستاذ أبي بكر أستاذ أبي الوليد، وكأن العالم العربي أصبح محاصرا بين خصوصية إيرانية في المشرق، وخصوصية مغربية في المغرب، وخصوصية أفريقية في الجنوب، وخصوصية آسيوية في الشمال، وما العيب أن يكون هاجس الأصالة هو الموجه الرئيسي لبحوث المشارقة؟ ففي المشرق تم التحول من النقل إلى الإبداع في الماضي، العراق وإيران، وفي الحاضر، مصر والشام، وقد لا يكون هاجس الأصالة دافعا للإبداع في المغرب نظرا لاعتزازهم بالنقل عن الغرب. فالمعرفة لدى المغاربة علوم وسائل وليست علوم غايات.
2
ولابن باجه شرح تعليق وتأليف. فمن شروحه شرحه على السماع الطبيعي، بالمفرد وبالجمع. ويلاحظ أن الشروح كلها تصب في الطبيعيات وليس في المنطق أو ما بعد الطبيعة، الأول والثالث والرابع وليس الثاني، السماء والعالم، وأنها ليست كثيرة بالنسبة لباقي الأعمال، وأنها تنتمي جميعا إلى المرحلة الثانية، وأنها لا تتعلق فقط بأرسطو بل بأبقراط أيضا، وأن أرسطو لا يذكر اسمه كما يذكر اسم أبقراط بعد أن تحول أرسطو من التاريخ إلى اللاتاريخ، من الشخص إلى الموضوع، ومن المؤلف إلى النص. وربما شرح أيضا المقالة الأولى من كتاب إقليدس. وليست كلمة شرح في العناوين كلها في المخطوطات. فهي ليست موجودة في الكون والفساد بل مجرد قول. وأحيانا تتكرر كلمة شرح في بعض المقالات في شرح كتاب السماع.
3
وأحيانا تتكرر الكلمة مع معاني في المقالة الواحدة مع قول أرسطو.
4
مما يدل على أن الشرح ينتقل أحيانا من اللفظ إلى المعنى.
5
وتظهر أفعال القول ومشتقاته مع ضمير المتكلم المفرد والجمع والغائب والمبني للمجهول مما يبين الأولوية المطلقة في تحليل أسلوب الشارح للأنا على الآخر واستعمال أفعال القول أسلوب قرآني يكثر استعماله في الآيات لدرجة شك البعض في كونها من الآية وليست مجرد إعلان للخطاب وأمر به. وهو أسلوب الفقهاء الشرطي في تمثيل الاعتراض مسبقا «فإن قيل» ... قيل للإحاطة بجميع جوانب الموضوع.
6
ولأول مرة يظهر تعبير «قال أرسطو» في بداية الثامنة مثل «تفسير ما بعد الطبيعة» لابن رشد في حين يدل تعبير «قول أرسطو» على الانتقال من القائل إلى القول، وتظهر صيغة «ثم قال» لبيان خطوات الفكر وصيغه «لقال» لبيان التأكيد، «ولم يقل» للنفي. لذلك «قال» للتعليل، «فقال» للعطف وبيان مسار الفكر «كأنه قال» للإكمال، والشرط والاستدلال «إذا قال» وأخيرا والشيء ذاته يشار إليه بالقول.
7
ويقتبس ابن باجه فقرة قصيرة في قوله على الثانية من السماع الطبيعي كمدخل للموضوع. كل عبارة تشير إلى موضوع رأس الموضوع. وليس عبارة شارحة مسهبة.
ومهمة الشرح الإيضاح وبيان ما وضحه أرسطو وما لم يوضحه بعد. ويوضحه ابن باجه على خطوات، في الماضي والحاضر والمستقبل؛ لذلك يستعمل فعل البيان في الأزمنة الثلاثة، وهو الفعل الغالب ومشتقاته مع أفعال القول والتنبيه والوقوف والإقرار والفحص والشروع والتلخيص والتأمل. وقد يجتمع أكثر من زمانين للدلالة على ما تم وما يتم وما سيتم فإذا كانت الجملة الشارحة اسمية فإنها تكون في المضارع وتدل على التحول من القول والمعنى إلى الشيء والموضوع.
8
والشرح لا يكون للجلي ففيه الكفاية. ويمكن شرحه بالقول الشارح، ولكن الشرح يكون للخفي، ويكون الشرح في هذه الحالة نظرية في الإيضاح. وبالرغم من أن الشرح عادة ما يكون أكبر من النص المشروح في حين أن التلخيص يكون أصغر منه إلا أن ابن باجه في شرحه على وعي بأهمية اختصار الشرح.
ويصف ابن باجه مسار فكر أرسطو، فيحد الطبيعة أولا ثم يترقى إلى تعديد الأجناس من الأسباب، كما تقصى في الخامسة من «السماع» الشكوك على كل أنواع الحركة. يصف ابن باجه أفعال الشعور عند أرسطو أو عند منتقديه كما تبدو في أفعال: يستعمل، يبين، يتشكك، يعتمد، يضع، ينبه. ويكشف عن منهجه الاستقرائي، وانتهائه إلى مثل ما انتهى إليه ابن باجه نفسه عقلا، فلا فرق بين التجربة والعقل. كلاهما ركيزة الوحي.
9
وتظهر أنماط الاعتقاد في أفعال الشك والظن واليقين والنظر والتأمل والفهم والاستقراء كما يتضح من تحليل الأسلوب المسار الفكري لابن باجه والانتقال من فكر أرسطو، من المقدمات إلى النتائج، وتظهر المقدمات في صيغة «لما كان» أو «إذا كان»، فعل الشرط مقدمة وجواب الشرط نتيجة.
ويبين ابن باجه مقدمات أرسطو ونتائجه واستدلالاته وبراهينه معللا خطوات فكره ومدركا الأسباب التي جعلته ينتهي إلى ما انتهى إليه؛ لذلك يتصدر اسم أرسطو باستمرار لام التعليل معطوفا على اسم الإشارة في صيغة «لذلك». ففكر أرسطو فكر علمي برهاني كما هو الحال في الفكر الأصولي. كما يبحث ابن باجه عن أسباب ما تركه أرسطو لإكماله. فالكامل يدرك الناقص.
10
وتظهر استدلالات ابن باجه إما على نحو طبيعي أو بتوجهات من الموروث مثل برهان الأخلاق وهو برهان الأولى عند الفقهاء وبرهان اللزوم، لزوم النتائج من المقدمات.
11
ويبين الشرح هدف قول أرسطو وغرضه، وتوجه فكره نحو قصده. فالموضوع قصد قبل أن يكون قولا. ويبدو الغرض على مراحل في سلسلة من الأغراض المتتالية. فالغرض من الطبيعة أولا حد الطبيعة ومعرفة مبادئها العامة مثل الحركة والسكون، ومعرفة السبب وأنواعه من جهة المادة أو الصورة أو الفاعل أو الغاية، وأنواع الحركة المتصل والمنفصل والمكان والخلاء والزمان. يشرح ابن باجه أرسطو خطوة خطوة لإيجاد نسقه الداخلي ومعرفة ما القصد إيجابا وما هو غير القصد سلبا.
12
وأحيانا تغيب أفعال القول كلية. ويبدأ ابن باجه بالتعامل مع الموضوع مباشرة مع بيان القصد والغرض في صيغة تساؤلية لبيان الأشكال.
ولا يعني الشرح عند ابن باجه، كما يبدو الحال في الظاهر، شرح الأقوال وتفسير العبارات بل يعني إعادة دراسة الموضوع على نحو تأملي وإعادة كتابة النص المشروح. فهناك موضوع مشترك بين الشارح والمشروح. هناك نقطة إحالة خارجية عن القوليين في الموضوع ذاته.
13
فالموضوع في الذهن ويعود إليه ابن باجه بين الحين والآخر استدعاء من الذاكرة. والأقوال خارجية. القول المشروح يعبر عما في الذهن على نحو ما، والنص الشارح يعبر عنه على نحو أوضح وأكمل. الشرح عملية فلسفية خارج العبارات بين الذهن وموضوعه. ويستمد ابن باجه أمثلة من الطب لم تكن في النص المشروح. وقد قامت الشروح على براهين منطقية وحجج عقلية تدل على أن ابن باجه يدرس الموضوع ولا يشرح القول؛ لذلك يكشف الشرح ارتباط النص بزمانه وعصره وتعليم الناس في وقته. فالنص تاريخ. وأرسطو لا يكرر نفسه في المقالات الثانية للسماع لأن المطالب متغيرة، والموضوعات وإن كانت واحدة إلا أن تناولها مختلف طبقا للعلوم، المنطق أو الطبيعة.
ويدرس ابن باجه الموضوع ثم يرجع قول أرسطو إلى نتيجة دراسته من أجل فهم قول أرسطو بإرجاعه إلى الشيء نفسه أو لإكماله لتصحيحه. فابن باجه هو الدارس، وأرسطو هو المدروس، ابن باجه هو المشروح وأرسطو هو الشارح، وبعد أن يفهم ابن باجه أرسطو يأتي بأمثلة جديدة من عنده ويسقط أمثلة أرسطو، يعرف ابن باجه الموضوع ويستعمل لغة أرسطو. أرسطو مجرد استعارة قول دون شيء أو منهج، مجرد لغة أي تشكل كاذب. فإذا اتضح ذلك بان بعد غور أرسطو وعمقه في مقابل سطحية الشراح اليونان وخطئهم مثل ثاوفرسطس وثامسطيوس، وكأن مهمة ابن باجه تلخيص أرسطو من براثن الشراح. ويبين ابن باجه عمق مذهب أرسطو «حكم واقع»، وأنه اللائق به «حكم قيمة». ويعيب على الإسكندر عدم دفاعه عن أرسطو حتى شك ثاوفرسطس على أرسطو في حين يدافع ابن باجه عن أرسطو ضد حيرة الشكاك في موضوع التغير وإمكانية الحكم عليه بإطلاق، وكذلك تشككه في الزمان ووجوده في الذهن.
14
يدرس ابن باجه موضوعات أرسطو من جديد وينتهي إما إلى الاتفاق أو الاختلاف معه. يتفق معه في تحديد الممكن الذي إن وجد لا يلزم منه محال. وحد الحركة بأنها كمال بالقوة من جهة ما هو بالقوة. لم يعدل أرسطو عن طريق التعليم ولم يكرر نفسه بل أبدع إبداعا مستمرا، ولم يتناقض بل أقواله كلها متسقة. ولم يخرج عن الموضوع الذي ناقضه فيه الآخرون مما يدل على جديته واحترامه الرأي الآخر، ويكمل ابن باجه ما لم يلتفت إليه أرسطو مثل أن الكون والفساد ليسا بحركتين، وكذلك الاستكمال.
15
أرسطو ما هو إلا مناسبة لاستكمال الموضوع الذي بدأه أرسطو. فأرسطو هو نقطة البداية وليس نقطة النهاية.
16
وقد يكون الخلاف بين ابن باجه وأرسطو في التسمية والاتفاق في المسمى في إطار التشكل الكاذب.
ويتضح كون ابن باجه هو الدارس وأرسطو هو المعبر والقائل والمبين من نصوص ابن باجه نفسه وأن له قولا مستقلا، يعبر عن دراسة مستقلة قد تتفق مع أرسطو وقد تختلف. ويعبر ابن باجه صراحة عن ذلك في أوائل المقالات وفي أواخرها، دفاعا عن أرسطو خصوصا عن ضرورة التعليم. ما قاله ابن باجه هو ما قاله أرسطو باستثناء هذه الضرورة. وإذا ما تضامن أرسطو مع ابن باجه أو ابن باجه مع أرسطو فإنهما يقفان معا ضد سوء فهم الشراح اليونان له. فلم يترك أرسطو التغير الذي تشكك عليه الأقدمون ولا جهله، فلا يمتن عليه أحد بنصرته حيا مثل ثامسطيوس، ولا هو موضع حيرة كما يصفه الإسكندر. فالنسق قائم داخليا ببنيته الذاتية. ولا يخطئ أرسطو بإطلاق الحكم الكلي على الجزء وهو واضع المنطق بل يحاول إيجاد قانون عام. فأرسطو على حق في قصده. وهو من أحسن القوم نظرا، ويشرك ابن باجه القارئ في الحكم، ويجعله شاهدا إذا ما تأمل بنفسه الأمر. يدرس ابن باجه الموضوع ويتحقق من قول أرسطو فيه ثم يدون قوله.
17
فقول أرسطو متوسط بين قول ابن باجه والموضوع ذاته مثل موضوع الحركة وأن الكل متحرك على النحو الآتي:
ويعني الشرح إحالة الجزء إلى الكل، ووضع النص المشروح في سياق العمل الكلي، مثل تفسير الكتاب بالكتاب عند المفسرين وتفسير الآية بالسياق. يحيل ابن باجه «السماع» إلى باقي أعمال أرسطو المنطقية والطبيعية وإرجاع الآن أي الزمان من الطبيعة إلى المنطق تأكيدا على وحدة النسق الأرسطي. ويتداخل اسم الكتاب مع اسم المنطق قضاء على التشخيص، ويحيل ابن باجه إلى سائر كتب أرسطو في موضوع الحركة لإيجاد نسق كلي للتحليلات الجزئية.
18
يدرك ابن باجه وحدة الفكر الأرسطي ووحدة المذهب فيضع الأجزاء في إطار الكل؛ لذلك ينفي ابن باجه التناقض والاستحالة والشناعة في كلام أرسطو.
19
كما يحيل إلى المقالات الجزئية للكتاب مفسرا الكتاب بعضه ببعض سواء كانت الإشارة إلى أرسطو أو شراحه مثل ثامسطيوس. وأحيانا يقتبس داخل شرحه نصا صغيرا كما هو الحال هذه الأيام عندما تطول الاقتباسات ولا يشار إليها عجزا عن إبداع نص جديد واعتمادا على النصوص المشروحة أكثر من النصوص الشارحة، فالموضوع الكلي حاضر في الذهن كوحدة واحدة كموضوع كلي يسهل بعدها الإحالة إلى الأجزاء والمقالات حتى تظهر وحدة الموضوع وقصده.
20
بل إنه يعتمد على عدة نسخ من السماع كما في تفسيره لما بعد الطبيعة.
ويحدد ابن باجه أنواع الأقاويل في مؤلفات أرسطو. فقد كان هدف أرسطو هو التمييز بين الأقاويل المشككة والسوفسطائية عند السابقين عليه مثل برمنيدس وماليسس والجدلية والطبيعية عند سائر الطبيعيين قبل تمييز ابن رشد الشهير بين الأقاويل الثلاثة. فأرسطو هو مؤرخ للقدماء وناقد لهم، قولا قولا. وابن باجه صاحب الوعي التاريخي الإسلامي بين المشرق والمغرب أدرك الوعي التاريخي عند أرسطو. كان أرسطو ابن عصره وقته، ينقل حضارته من الظن إلى اليقين، وكأنه أعلم أهل زمانه. فهو يمثل مرحلة في تاريخ الفلسفة اليونانية ينقلها من السابقين إلى اللاحقين. ويقارن ابن باجه بين زمان أرسطو وزمانه ناقلا الزمان اليوناني إلى الزمان الإسلامي. ويقوم أرسطو بتلخيص أفكاره وشرح أقوال السابقين وهو ما يفعله الحكماء المسلمون ويعيد عرضها بطريقة الرسم في نوع أدبي جديد أقرب إلى المنهج أو الطريقة منه إلى الشكل الأدبي، تحويل الطبيعة إلى منطق. كما يتحول اسم الحركة إلى اسم كتاب ثم الكتاب إلى قول، تحويلا التاريخ إلى مواضيع بنيوية مستقلة عن التاريخ. أرسطو مؤرخ ينقل الفلسفة اليونانية من الظن إلى اليقين، ومن الخطابة والجدل والسفسطة والشعر إلى البرهان. فهو حلقة وصل في تاريخ الفلسفة اليونانية بين ماضيها وحاضرها. يقسمها إلى مرحلتين، ما قبل أرسطو، وما بعد أرسطو، وهو نفس موقف ابن رشد من دور أرسطو في الفلسفة اليونانية مما يدل على أن الوعي التاريخي الإسلامي استطاع إدراك الوعي التاريخي اليوناني بعد أن ساهم في بلورته قصص الأنبياء ونهاية الوعي، وقسمة آخر مرحلة فيه إلى ما قبلها وما بعدها كما يفصل أرسطو مع اليونان ما قبله وما بعده. وإذا اكتملت البنية ظهر التاريخ.
21
لقد كتب جالينوس مقالة مشهورة في عصره في قلب أقاويل أرسطو. وهو منطقي وليس فقط طبيعيا، وتجرأ على المعلم الأول. ويقف ابن باجه موقف القاضي النزيه حكما بين جالينوس وأرسطو كما يفعل ابن رشد بين المتكلمين والحكماء، بين الأشاعرة والمعتزلة أو بين الحكماء والصوفية. وينتهي إلى حكم وهو أن موقف الشراح ينتهي إما إلى سهو أرسطو وصواب منتقديه وإما إلى تقصير الجميع وعمق أرسطو. والسهو خطأ من غير عمد مثل البراءة. أما تقصير الشراح فجريمة في حق أرسطو. ويدرك ابن باجه أن أرسطو يتمم ما تركه أفلاطون ناقصا. كما أن الحضارة الإسلامية تكمل الحضارة اليونانية كما يكمل الإسلام مراحل الوحي السابقة. يعرف ابن باجه نسق كل فيلسوف وحدوده. فأفلاطون هو الذي وضع برهان الحركة. كل متحرك له محرك ثم أكمل أرسطو البرهان لإثبات المحرك الأول بعد أن توقف أفلاطون على المتحرك بالذات مثل النفس. فكر أفلاطون دائري علمي في حين أن فكر أرسطو طولي ديني، ويبدو هنا أرسطو أكثر تدينا من أفلاطون.
22
وفي نفس الموقف يترك ابن باجه التاريخ ويبحث عن البنية. وبلغة المحدثين يترك التتابع الزماني إلى المعية الزمانية؛ لذلك يتشابه موقف ابن باجه مع موقف ابن رشد في الحضارة الإسلامية وموقف أرسطو في الحضارة اليونانية في الانتقال من التاريخ إلى البنية . ويشرح أرسطو كمبادئ عامة للنسق وليس طبقا للموضوعات التاريخية الجزئية.
وابن باجه على وعي باختلاف العصر، عصر أرسطو عن عصر الشراح. فالشك في بعض الموضوعات لم يكن في عهد أرسطو بل أتى متأخرا في عهد الشراح، وكأن مسار التاريخ من اليقين إلى الظن، ومن الصواب إلى الخطأ في فترة الانهيار كما كان من الظن إلى اليقين ومن الخطأ إلى الصواب في فترة الصعود حتى أرسطو. فأرسطو يمثل قمة التاريخ، ما قبله تطور وازدهار، وما بعده نكوص وسقوط، مثل محمد في تاريخ الأنبياء.
ويضع ابن باجه ثاوفرسطس وثامسطيوس معا كشارحين أساءا تأويل أرسطو مع أن أرسطو أعمق منهما. فعلاقة الأصل بالشرح باستمرار علاقة الصواب بالخطأ، والطبيعي بالمصطنع. ولم يعرض الإسكندر لتشكك ثاوفرسطس بالرغم من مشاركته له فيه. ويذكر ابن باجه ثامسطيوس مع ثاوفرسطس باستمرار وقد أساء كلاهما فهم أرسطو، وأرسطو أعمق منهما. وهذا العمق للمشروح على الشارح قانون عام للتاريخ من العمق إلى السطحية بمرور الزمان من الخلافة الراشدة إلى الملك العضود. ولا يحتاج أرسطو نصرة خارجية ما دام المذهب متسقا داخليا. ويقوم الشارح اليوناني بالحذف والتلخيص منعا للتكرار كما يفعل الشارح الإسلامي وهما من مقتضيات الشرح، ولكن في رأي الاستشراق الشارح اليوناني مبدع والشارح الإسلامي مزور.
23
ويفارق أرسطو الطبيعيين بنظرين؛ الأول جعل الحركة مطلبا بنفسه، والثاني الفحص فيها قبل الفحص في العالم. ولما كان الرأي فيها هو نفس الرأي في وجود العالم فإن هناك رأيين؛ الأول تكون العالم عند أنكساجوراس، والثاني وجوده مرة وارتفاعه مرة أخرى عند أبندقليس على خلاف من يرى أن العالم واحد أبدي، وكذلك رأي أفلاطون الذي لا يقول بالرأيين لأن الزمان عنده متكون. ولم يصرح لأي من الرأيين ينتسب. يبدأ ابن باجه بتصور عام لوضع أرسطو في حضارته بالنسبة للفلاسفة السابقين عليه وكيف أكملهم كما أكمل الإسلام المراحل السابقة وكما تكمل الحضارة الإسلامية الحضارة اليونانية.
24
أما ما قاله جالينوس فإنه سوء فهم لأقوال أرسطو لا يستحق عناء الرد عليه. فقد طعن جالينوس على أرسطو في أن الحركة داخلة في ماهية الزمان معتمدا على أنه دون توهم حركة فلا زمان. وخطأ جالينوس في فهم الوهم عند أرسطو وكأن الوجود تابع للوهم في حين أن الوهم عند أرسطو من عمل الذهن. الوهم ليس في الوجود كما تصور جالينوس بل في المعرفة كما بين أرسطو. ويجادل ابن باجه جالينوس دفاعا عن أرسطو مستشهدا بمثله إذا كان قد برأ من المرض فقد كان فيه شيئان، القابل للصحة وهو المتحرك والطب وهو المحرك.
25
ويعارض ابن باجه معارضة يحيى النحوي لأرسطو في أن القوة تقوم على الفعل وكأن القوة الطبيعية لا تتقدم حركتها. وأحيانا ينقض ابن باجه يحيى النحوي اعتمادا على الفارابي ومناقضته له في الموجودات المتغيرة. ويخلط ابن باجه أحيانا بين يحيى بن عدي ويحيى النحوي ويسميه يحيى بن عدي النحوي، وربما كان الخطأ من المؤلف أو من الناسخ، وربما له نفس النظرية إن لم يكن هو نفس الشخص في الوعي الجمعي ويصفها بأنها مغالطة أو غلط. كما يعارضه اعتمادا على معارضة الفارابي له. ويستعمل طريقة الرسم. وكان سبب خطأ يحيى النحوي استعمال الفلسفة من أجل الدين. يدافع ابن باجه عن أرسطو ضد نقد يحيى النحوي له واعتمادا على نقد الفارابي ليحيى النحوي، كانت غاية يحيى إثبات تقدم القوة على الفعل بالزمان لإثبات حدوث العالم لا قدمه وتشويها للفلسفة باسم الدين، واستعماله الفلسفة لتبرير الدين الشعبي.
26
ويضرب ابن باجه المثل بأقوال أفلاطون التي توحي بقدم العالم مع أن أفلاطون لم يصرح بقدم العالم ولا بحدوثه لأنه يقول بتكون الزمان دون تحديد دقيق لذلك تقريبا لأفلاطون إلى الإسلام. كذلك يعلل ابن باجه لماذا قال أفلاطون بالتناسخ لأنه رأى النفس مفارقة مفارقة معنى؛ وبالتالي ضرورة وجود أنفس بلا نهاية بالفعل.
27
وينقد ابن باجه حجج «زينون» في نفي الحركة؛ إذ يخلط زينون بين القسمة بالقوة والقسمة بالفعل. فإن أجزاء الطول تنقسم بالقوة لا بالفعل، وينتهي زينون إلى إنكار الحركة، الحركة السرمدية المتصلة، ويقرنه ببارميندس. والحس يشهد بكذبه. وينقد أرسطو زينون في الإنصاف بحسب الأمر أي بدراسة الموضوع نفسه وليس مجرد بيان تهافت القول. فأصل القول في الشيء كما أن أصل الوحي في أسباب النزول.
28
ويعرض ابن باجه لنظرية أنبادقليس وحركة العالم بمبدأين فاعلين المحبة والعداوة، وراء وجود العالم وارتفاعه أو بلغة الدين، الخلق والبعث. ويكون من أوجه قصور العلم الطبيعي عدم تحوله إلى منطق أو إلى ما بعد الطبيعة. ويبين ابن باجه كيف أن الحركة الدائرية وحدها هي المتصلة والسرمدية كما تصور بطليموس وأبرخس وكأن الفلك على مركز القمر أو على مركز الشمس.
29
ويبدو الوعي التاريخي في استعمال ابن باجه ألفاظ الأقدمين والمتقدمين والأقدمين من الطبيعيين، والقدماء أو من تقدم أو ذكر أسماء المتفلسفين والمشائين والسوفسطائيين. ويتحد الوعي التاريخي لابن باجه بالوعي التاريخي لأرسطو. فمهمة كل واحد منهم في حضارته وفي الحضارة الإنسانية العامة الانتقال من الظن إلى اليقين، والتحول من الخطابة والجدل والسفسطة والشعر إلى البرهان. كما حاول الفارابي من قبل تصور هذه الأقاويل كتقدم في التاريخ وليست فقط كأنواع للأقاويل خارج التاريخ في المنطق الخالص، وابن باجه في النهاية تلميذ للفارابي، فتاريخ الفلسفة اليونانية هو هذا المسار الذي أدركه أرسطو والذي قمته المنطق. عرف القدماء الطبيعة دون منطق أي بلا برهان بل بأقاويل خطابية أو جدلية أو سفسطائية. فقد اختلف الأقدمون ممن تفلسف في الطبيعة وقالوا بآراء مخالفة للمشاهدة لقلة خبرتهم بالمنطق، ولكنهم ردوا الطبيعيات إلى المادة. فلا يحدث موجود من غير موجود بالرغم من أن الموجود ليس صنفا واحدا.
وقد تشكك المتقدمون في قول أرسطو حتى إن الإسكندر أفصح عن حيرته فيه، ومع ذلك حاولوا تبرير أرسطو مستكرهين القول. فلم يجدوا بدا من الإفصاح عن شكهم كيف الحكم بإطلاق على المتغير وهو ما سلم به أرسطو نفسه، إلا أن أرسطو يعنى بالمتغير ما ينقسم وما لا ينقسم لا يتغير، وهو المعنى الزائد على المعنى الأول. وقد سلم أرسطو في موضع آخر بالخاص؛ ومن ثم لا تناقض في النسق الأرسطي، ويعين ابن باجه نص أرسطو الذي قال فيه بالخاص. فيدفع الشك عن أرسطو ليس فقط دفعا لتهدئة سوء التأويل أو التعسف بل بالنص من أرسطو نفسه مثل القرآن وخلوه من التناقض. وتصبح المسألة أقرب إلى التعارض والتراجيح كما هو الحال في علم الأصول. وإذا كانوا يعبرون عن هذا الشك في كتبهم إلا أنهم لم يعرفوا حقهم في التشكك بحسب قول أرسطو، يدفع ابن باجه شك الخصوم إلى أقصى حد حتى يمكن دفعه بعد ذلك وتبرئة أرسطو كما يفعل القاضي الحصيف.
30
كما يذكر الأقدمين من الطبيعيين ويعني بهم أيضا المتقدمين. كانوا يوجهون نظرهم نحو العالم دون تخصيص الحركة بل من جهة ما تدعوهم الضرورة إليها، ومع ذلك اختلف العلماء القدماء في المكان. أرسطو هو الذي فصل العلم الطبيعي، كما يذكر الطبيعيين وهم الأقدمون من الطبيعيين وكأن مسار التاريخ منهم إلى أرسطو التحول من الخطأ إلى الصواب، ومن الجدل والسفسطة والخطابة والشعر إلى البرهان. يذكر أرسطو آراءهم باعتباره مؤرخا. وقد جعل أرسطو التكون إحدى الحركات وهو ما لم يلتفت إليه الطبيعيون. ثم نقد أرسطو آراءهم بعد ذلك في المادة، وعبر عنها بطريقة البرهان.
31
ومن الطبيعي أن يكون أرسطو أكثر حكماء اليونان ذكرا ثم شراحه مثل ثامسطيوس ويحيى النحوي.
32
ومن الطبيعي أيضا أن يأتي من حكماء الإسلام الفارابي في المقدمة باعتباره المعلم الثاني، وارث أرسطو. فقد أصبحت أعمال الفارابي على أرسطو وافدا تحول إلى موروث أو موروثا أصله واحد.
33
فهو صاحب براهين مثل أرسطو. وهو ملخص لأعمال أرسطو عارضا لها كما فعل في كتاب البرهان. وهو راو لما ينقضه يحيى النحوي على أرسطو ناقد له على طريقة الرسم، وهو مؤلف مستقل وصاحب «الموجودات المتغيرة» وهو ناقد يحيى النحوي في القوة التي لا تتقدم الحركة بالزمان.
34
كما يستعمل ابن باجه التراث العلمي الموروث من ابن سيد إحساسا بالإبداع العلمي، وينقد المتكلمين سابقا ابن رشد من خلال التأليف في الوافد وشرحه. وقد تقادمت آراء المتكلمين في عصر ابن باجه مما يدل على وراثة الحكمة للكلام لأن المتكلمين لم يقصدوا النظر في الطباع بل إن منهم من يبطل وجودها. وقد تكلموا في اليسير منها في معرض نقد الخصوم مثل الجزء الذي لا يتجزأ دون أن يقصدوا تحليل الطبيعة؛ لذلك يترك ابن باجه هذا الجزء الجدلي ويتوجه إلى البرهان مباشرة. ويوحد ابن باجه هنا بين المتكلمين والأشاعرة الذين سادوا بعد محنة المعتزلة والذين ينكرون الطباع.
35
وتبدأ صيغ التأويلات لإثارة الإشكالات حتى يتم تعشيق الوافد في الموروث مثل: هل هناك محرك أول لإثبات وجود الله؟ هل هو وجود واحد لإثبات الوحدانية؟ هل هو جسم لإثبات التنزيه؟ مما يدل على أن علوم الحكمة هي مزيد من التنظير والتعقيل لعلم أصول الدين، والدافع على الشرح أهم من الشرح لأن الشرح مقاصد. ومن هنا أتت أهمية السابعة والثامنة في الطبيعيات لأنها تتضمن الحركة. الكل متحرك محرك لإثبات وجود الله على طريقة المتكلمين. يدرس ابن باجه الموضوع نفسه، وهو الدافع عليه والغرض منه وليس شرح الوافد.
36
والفرق بين الوافد والموروث أن كليهما يعتمد على العقل والواقع ثم يضيف الموروث مقياسا ثالثا هو الوحي الذي يضمن صحة العلاقة بين العقل والواقع.
وتظهر مباحث اللغة عند ابن باجه وفي مقدمتها اشتراك الاسم أو الاسم المشترك وهو الذي يفيد معنيين على نحوين مختلفين. وهو ما تعادل مباحث الألفاظ عند الأصوليين. وتظهر في السماع عامة أو في إحدى مقالاته على وجه الخصوص كالسادسة. ويسمى الاشتراك أيضا استعارة وتشابها، وهنا ينقل ابن باجه النص الوراد على منطق اللغة الموروث منعا للتشبيه والتجسيم ليس في الله بل في الطبيعة. والتفلسف هي هذه القدرة على التمييز بين معنيين لشيء واحد. الشرح إذن قراءة الآخر من خلال الأنا. ويتجلى الاشتراك وما ينتهي إليه من اشتباه في الاستعارة. والصورة الفنية أكثر قدرة من العقل على التعبير، فهي تكمل الاستدلال المنطقي. وأحيانا يكون الاشتراك بين ثلاثة معاني وليس بين اثنين فقط.
37
ويظهر البعد اللغوي الموروث عند ابن باجه في التكرار المستمر لتعبير «لسان العرب» تأكيدا على التغاير بين الأنا والآخر، بين العرب واليونان. فالمحرك يدل على وجود الحركة كالهيئة فيه طبقا لشكل اللفظ في لسان العرب. والحركة إذا قيلت على الحركة في المكان في لسان العرب قد ترادف النقلة، والنقلة قد تعني في لسان العرب العام والخاص طبقا لمنطق الأصول. وأشهر معانيها ما يبدل جملة مكانه لأنه من الأقاويل المستعملة عند العرب، واللفظ اليوناني للنقلة أخص من استعمال العرب إذ يفيد المتنقل قسرا وطبعا. والعرب لا تسمي الحيوان متنقلا. والنهاية في لسان العرب تدل على ما فيه التناهي، على الآخر وليس على المبدأ، آخر توجد عليه الحركة مثل استعمال الطرف في لسان العرب. والمضاف عند أرسطو في لسان العرب هو الوقت بعد الوقت أو المقارنة أو المناسبة. ويعتمد ابن باجه على تحليل المعاني الأرسطية في اللسان العربي، ونقل الوافد على الموروث قبل ابن رشد، وتحويل معنى الحركة عند أرسطو من الطبيعة إلى اللغة كما فعل الفارابي في تحويل المنطق إلى لغة.
38
ويستعمل ابن باجه أمثلة من التاريخ الإسلامي مستقلا عن أمثلة أرسطو طبقا لقياس العلة عند الأصوليين. فالمثل من أرسطو يعبر عن فكرة ثم يكمل ابن باجه الفكرة ويتمها ثم يعطي لها مثلا جديدا. مثال أرسطو يعادل الأصل. وفكرته الحكم، ومثال ابن باجه الفرع، وفكرته تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة كما هو الحال في القياس الأصولي أو طبقا لنظرية المثل والممثول في التأويل الشيعي على النحو الآتي:
وهي نفس الطريقة التي تمت بها زيادة في معجزات المسيح في الأناجيل ومعجزات الرسول في كتب السير أو مؤلفات الكلام، من المثل الأول إلى الممثول إلى المثل الثاني، المهدي يحرك الرشيد بالذات، والمنصور يحرك المهدي بالذات إذن الرشيد يحرك المنصور بالعرض. فالمثل الثاني للحركة بالذات والحركة بالعرض يدل على مدى الحضور للتاريخ الأموي من الشرق في وعي ابن باجه، وكان يمكن إعطاء مثل علمي من الاعتماد والأكوان عند المتكلمين ولكن زمان الكلام قد ولى في عصر الحكمة.
39
وتظهر الأمثلة العربية للموجودات الخرافية مثل عنز أيل أو الغول. كما يبدو الأسلوب العربي في ضرب المثل بزيد وعمرو ككائن طبيعي. جوهر حامل للأعراض. بل يظهر الأسلوب العربي، أسلوب الفقهاء في تخيل المعترض أو الشاك والرد عليه سلفا من أجل إكمال جوانب الموضوع، وبيان أنماط الاعتقاد، وافتراض قول آخر من أجل إفساح المجال للرأي الآخر. كما يظهر الأسلوب العربي في التعبيرات النمطية مثل «ليت شعري»، كما تظهر عند ابن رشد، وربما هي من عادات الأندلسيين. وتكشف عن أنماط الاعتقاد مثل الحيرة والتردد والتساؤل والظن واليقين عندما يتجلى الموضوع في الشعور ويتم الاقتراب منه.
40
وينتهي المؤلف أو الناسخ أو القارئ، فالشرح وثيقة جماعية مثل الترجمة بطلب الرضا من الله والحمد لله والصلاة والسلام على النبي وآله، وتوثيق الحكم الشرعي لملكية المخطوط واسم المالك وتوقيعه وشهرته ومكان التوقيع وزمانه واسم البائع وبعض أبيات الشعر في ثقافة لم تجهل التوثيق ونقد الروايات شفاهة وتدوينا.
41 (2) الكون والفساد
وكما يتداخل الشرح مع التعليق وهو شرح على الشرح كذلك يتداخل مع التلخيص إذا كان شرحا قصيرا مقتضبا، وربما مع الجوامع أيضا. وذلك مثل الكون والفساد لابن باجه، «من قوله» والقول يمكن تفسيره في أكثر من نوع أدبي.
42
ويشمل في الأصل عشرة أو أحد عشر بابا لخصه ابن باجه مثل ابن رشد في مقالة واحدة دون فقد شيء من المضمون والمحتوى. فهو أقرب إلى التلخيصات أو الجوامع منها إلى الشروح ما دام التركيز على المعنى أو الموضوع دون العبارة أو اللفظ، ومع ذلك فهو تلخيص أوسع من تلخيص ابن رشد. ويحيل ابن باجه إلى المترجمين ناقلا النص من الترجمة إلى التلخيص.
وبطبيعة الحال يأتي أرسطو في مقدمة الوافد ثم ديموقراطيس فيلسوف الكون والفساد ثم باقي الفلاسفة. ويشير إلى القدماء على وجه العموم.
43
ويدرك ابن باجه أيضا دور أرسطو المؤرخ في نقد القدماء في إبطالهم الكون والفساد لأنهما ليسا بالقوة كما هو الحال عند بارمنيدس ومالسيس، ولأنهما نوع من الاستحالة عند ديمقرطيس وطاليس وهرقليطس وأنكساجوراس. يرفض أرسطو الرأيين المتعارضين إنكارهما أو إثبات استحالتهما، ويأخذ موقفا طبيعيا واقعيا، موقف الإثبات. ويفسر ابن باجه التكون والاستحالة عند أنبادقليس بأن الكل عند استيلاء المحبة يرجع واحدا وعند الغلبة يصبح كثيرا. ويشير إلى ديموقريطس كنموذج ألا يتكون موجود إلا عن موجود مثل ما لا ينقسم سواء كان سطحا كما هو الحال في طيماوس أو نقطا وخطوطا كما هو الحال عند ديموقريطس. ويعرض ابن باجه لموقف القدماء من أنواع الكيف إذ يعتبرون الحمرة أثرا كما يعتقدها الجمهور حمرة الخجل. فالكيف حادثة يختصها القدماء بالدلالة عليها بالأثر. ويضرب ابن باجه أمثلة لقضايا المنطق من الطبيعة ويحيل قضايا الطبيعة عند القدماء حلا لغويا منطقيا كما يفعل الفارابي.
44
ومن الأعمال يحيل ابن باجه إلى السماع والكون والفساد والآثار العلوية والسماء والعالم وما بعد الطبيعة والنفس وطيماوس، بل ويضيف الناسخ كتاب الحيوان لتفسير الكون والفساد بباقي أجزاء الطبيعيات بالإضافة إلى طيماوس لأفلاطون وهي محاورة في الطبيعيات. يحيل إلى السماع أول أجزاء الطبيعيات مقرونا بالآثار العلوية والسماء والعالم والكون والفساد مبينا الوحدة العضوية بينها وحكمة ترتيبها. يعطي «السماع» المبادئ العامة، ويعطي «السماء والعالم» الحركة الكائنة، وتعطي «الآثار العلوية» نوعا آخر من الحركة. ويبين ابن باجه سبب تسمية الكون والفساد لأنهما أول الحركات، ويركز خاصة على السابعة فيما يتعلق بالتماس والسادسة والثامنة فيما يتعلق باتصال الكون. كما يحيل إلى «الكون والفساد» مفسرا الجزء بالكل وعارضا أرسطو مؤرخا ومحققا صدق وكذب آراء السابقين، ويدرك ذلك كل من قرأ الكتاب. ويحيل إلى «الآثار العلوية» رابع أجزاء الطبيعيات، ويذكره مقرونا بالرابعة من «الكون والفساد» لبيان الوحدة العضوية بين الكتابين. ويحيل إلى «السماء والعالم» ثاني أجزاء الطبيعيات في بيان أن الأجسام البسيطة أربعة، وأن كل متكون فاسد كما تبين في الثانية من السماع تناهي هاتين الحركتين وربطا للسماء والعالم بالسماع الطبيعي تأكيدا للوحدة العضوية بين أجزاء العلم الطبيعي، ويحيل إلى «ما بعد الطبيعة» مما يدل على اتصال العلمين. كما يحيل إلى «النفس» كموضوع على مشارف العلمين.
45
ويصف ابن باجه مسار فكر أرسطو أفعال شعوره المعرفي مثل الفحص والتقسيم والتصريح والنقص والشك والذكر. ويعلل فكره مبينا العلاقة بين النتائج والمقدمات والأصول والفروع كما هو الحال في القياس الأصولي.
46
يدرك ابن باجه الموضوع نفسه ويؤكد نتائجه بكلام أرسطو في نفس الموضوع تمهيدا للحياة العقلية في المغرب بعد تأصيلها في المشرق وإتقانه حكيمين من حضارتين مختلفتين على نتائج دراستين لنفس الموضوع مقياس للحقيقة. بل يعود ابن باجه إلى عصر الترجمة محدد ألفاظ المترجمين ومدى اتفاقها مع ما يقصده أرسطو. وهو على علم بمقالات الكتاب ووحدة الموضوع. وتدل تفرقته بين حسب القول وحسب الأمر بنفسه على أن القول مستوى العبارة في حين أن الأمر نفسه مستوى الشيء؛ ومن ثم يكون الشرح أيضا للمعاني، والوصف للأشياء لا للأقوال. يعني الشرح إذن دراسة الموضوع دراسة مستقلة ثم مقارنة ما قاله أرسطو مع نتائج الدراسة ثم بيان أسباب الاتفاق والاختلاف مع الشراح اليونان والمسلمين. والفلسفة ألفاظ وتسميات لمسميات واحدة، وهو أساس التشكل الكاذب. لا يسمى القدماء والأطوال آثارا لأنها ليست كيفيات. ولا يسمون الموضع ولا أصناف الأين أثرا، ويسمون التحرك أثرا بالرغم من عدم استعمال الجمهور له. ويسمون الآثار انفعالات المقابل لها منفعلا. وابن باجه هو الذي يقول كما يبدو ذلك من تحليل أفعال القول وأولوية ضمير المتكلم. يتكلم الأنا في غياب الآخر.
47
جعل الحكيم نفسه ذاتا والآخر موضوعا. فالحكماء هم أول من أسسوا علم الاستغراب في حقيقته القديمة. عندما كان اليونان قديما يمثلون الغرب حديثا.
ويظهر الموروث في «الكون والفساد» في موضوعات لغوية مثل لسان العرب. نحو يد العرب، متكلمو العرب، لسان العرب في مقابل اللسان اليوناني لإثبات التمايز بين الأنا والآخر. فالكون في لسان العرب مصدر كان التي تدل على الرباط لأنها حرف ناقص لا يحمل مفردا وإذا حمل مفردا دل على فعل وجد. والموجود أحد المقولات العشر، ولكن في الزمان وليس في الأمور الأزلية. ويستعمل في لسان العرب هو أو هي ومنها تأتي صيغ الزمان الحاضر والمستقبل وإلا ظهر التناقض كما حدث في فهم
وكان الله غفورا رحيما
تأويلا للآية. فاللغة منزل الوجود بتعبير أحد المعاصرين. وعلى أساس اللغة يتم فهم القرآن طبقا لجدل اللفظ والمعنى والشيء ، مثل تحليل الفارابي لفعل الكينونة كرابطة. فقد كانت الترجمة من قبل حلقة الوصل بين الوافد والموروث. ويظهر القرآن، بالرغم من قلته، في تحليل فعل الكينونة. وفعل «كان» من الكون أي الحديث، وهو دليل الأولى على عكس سوء تأويل المتكلمين والفقهاء من أجل التوفيق بينهما وبين العقائد. وتظهر بعض التحليلات اللغوية الأخرى مثل الاسم المشترك والاستعارة. كما يظهر أسلوب الفقهاء في تخيل الاعتراض والرد عليه مسبقا. وتظهر البيئة الجغرافية مثل خراسان ومصر والشام والعراق بالرغم من أنه من الغرب كأمثلة على الطبيعة لشرح المنطق. وهي أقرب إلى الجغرافيا الحيوية من أجل التعبير عن الشوق للمكان، والفرق بين الوجود والمثال. فالموجود ثابت والمثال متحرك، كالإنسان المتنقل بين مصر والشام إلى العراق إلى خراسان. والموجود يبحث عنه ليلتقي به، ولا يتشوق المكان ولكنه يحدث الشوق. وكل مكان مثل مصر والشام والعراق يحدث شوقا ويتشوق إلى غيره حتى خراسان المكان النهائي فإنه يكون نهاية الشوق ولا يحدث شوقا لغيره، كالعلة الأولى التي ليست لعلة أخرى أو المحرك الأول الذي ليس له محرك، ويكون إدراكه هو السعادة التامة. وهنا تنتهي الحكمة إلى تصوف، وكما يبدأ الشرح بالبسملة والحمدلة وطلب التوفيق فإنه ينتهي أيضا بطلب الرحمة للمؤلف.
48
والنص وثيقة جماعية بين المؤلف والقارئ والناسخ والمالك. ويتضح ذلك من نهاية كتاب «الكون والفساد»، يعبر عن مناهج النقل عند المسلمين من إجازة ومناولة، وقراءة المريد على الشيخ، وقراءة الشيخ على المريد كما هو الحال في علم أصول الفقه مع ذكر المدنية إشبيلية، والتاريخ الهجري قبل أن يزاحمه الميلادي كما هو الحال في وعينا التاريخي المعاصر. ويذكر عامل إشبيلية وتحصيل خراجها. المؤلف والقارئ من الأندلس، والكاتب من قوص من صعيد مصر تأكيدا على وحدة الأمة.
49 (3) كتاب النفس
وهو شرح يدل على ذلك اسمه مع قائمة شروحه.
50
وبطبيعة الحال يبدو أرسطو في مقدمة الوافد ثم أفلاطون ثم جالينوس ثم الإسكندر وديموقريطس ثم سقراط.
51
ويضع ابن باجه أرسطو في سياق تاريخ الفلسفة اليونانية ما قبله أو ما بعده. مبينا كيف أن أرسطو نقل التفكير في النفس نقلة نوعية. وتطرق إلى موضوعات لم يتطرق إليها أحد من قبله، هو ترتيب قوى النفس ابتداء من الحس وتوسط المخيلة، نهاية بالنفس الناطقة. ويقارن ابن باجه بين أرسطو وأفلاطون، ويبين أن كليهما مع كثير من المشائين قد تعرضا لنفس الموضوع. ويعرض لرأي أفلاطون في جعل المحسوس خيالا، ومن هنا أتت نظرية أن التعليم تذكر للصورة وكما بينها سقراط في فيدون فيكون للعقل حس أو مجانس له قبل أن يعقل فيكون التعلم تذكرا. وخطأ ديموقريطس أنه رأى أن الإبصار بالخلاء دون ما حاجة إلى الهواء، ويعرض ابن باجه إلى رأي جالينوس الطبيب في النفس، إنها واحدة ذات أجزاء بالموضوعات. وهو رأي أفلاطون أيضا في طيماوس ضد الآراء التي قيلت في النفس. وهو أشبه برأي الماديين الذين يرون كمية النفس ومنهم من رآها ذات أجزاء كثيرة على الانفصال الكمي وهي المادية الساذجة، ويعتمد عليه جالينوس لتفسير الإبصار بوضع النفس في البصر وضع المحرك في المتحرك في حين أن المحرك عند أرسطو هو المحسوس والمتحرك هو البصر، وهنا يكون جالينوس أقرب إلى أفلاطون في الشعاع الخارج من البصر نحو الشيء في مقابل أرسطو الشعاع الخارج من الشيء نحو البصر.
52
ويحيل ابن باجه إلى كتاب الإسكندر في النفس مما يدل على وعي ابن باجه بالموضوع كله ومن خلال مؤلفات الإسكندر كلها. ويبين لماذا انتهى أفلاطون إلى رأيه في النفس أنها جوهر، والجوهر يقال على الهيولى والجسم وعلى الصورة، ولما كان اعتبارها جنسا فإنه حاول تحديدها بما يخصها.
ويستعرض ابن باجه آراء المتقدمين أو الأقدمين المشائين أو المتفلسفين والأقدمين من المتفلسفين، وهي آراء متناقضة وغير متلازمة ومتعددة. ومع ذلك يتفق الأقدمون على أن النفس جوهر. كان قصد المتقدمين نفس الإنسان حسب نظرهم في العلم المدني الذي كان الفحص فيه في ذلك الزمان مقصورا عليه. أما العلم بباقي الأنفس فجزء من العلم الطبيعي. فالنفس موضوع العلوم الاجتماعية قدر ما هي موضوع العلم الطبيعي، ويحصر ابن باجه آراء المتفلسفين أي الفلاسفة والقدماء لأنها مشهورة دون تحديد بتاريخ الفكر اليوناني. ويستوفي الصحيح منه، ويفحص كل منها كنوع من الرياضة الجدلية. فما يهم ابن باجه هو البنية لا التاريخ إجابة على سؤال هل للنفس ماهية أم ليس لها ماهية.
53
ومن المؤلفات يشير ابن باجه إلى السماع ثم الحيوان ثم الحس ثم أنالوطيقا الثانية ثم النفس والنبات والسماء والعالم وطيماوس وفادن لأفلاطون والنفس للإسكندر وبارمنياس.
54
فالسماع يأتي في المقدمة باعتباره أول كتاب في الطبيعيات ثم الحيوان والحس نظرا لقربهما من موضوع النفس. كما يرتبط المنطق أيضا بالنفس في الإحالة إلى البرهان (أنالوطيقا الثانية) وإلى ما بعد الطبيعة. يحيل ابن باجه إلى السماع وبوجه أخص إلى الثانية ثم الأول ثم السابعة ثم الثانية في مواضيع الحركة ونسبة العدم إلى لا مكان. ولا يدخل ابن باجه في تاريخ أرسطو لأنه أقرب إلى التراث المحلي اليوناني تراث الآخر، والحقيقة قبل اكتمالها بالرغم من حضور أرسطو الغالب لديه. كما يحيل إلى «الحيوان» عامة، والمقال السادس عشر فيه خاصة وأيضا إلى الثاني عشر والسابع عشر في موضوع البسائط الأربعة، وتكون ذوات الأنفس وتكون الحيوان، وأن صور النار مرئية. ويحال إلى الحس بوجه عام وخاصة الثانية في موضوعات الحس ومعاني المحسوسات والقوة الخيالية والتخيل مما يدل على ارتباط الطبيعة والميتافيزيقا بالنفس.
55
كما يحال إلى باقي كتب الطبيعة، الكون والفساد عامة والمقالة الأولى خاصة في موضوعات الحركة والاستحالة والمزاج، وإلى السماء والعالم على وجه العموم دون تحديد الموضوع بعينه، وإلى الآثار العلوية عامة والرابعة خاصة في موضوع الجسم الآلي وأصناف التغير لأنواع الامتزاج.
56
ويحال إلى مقالات كتاب النفس ذاته خاصة المقالة الأولى التي ينقض فيها أرسطو آراء السابقين. ويحال أيضا إلى أنالوطيقا الثانية التي بها الأدلة التي تقيد إجراء الحد بالعرض لا بالذات، وبها الحد وطرق استخراجه، التقسيم والتركيب والبرهان وإلى بارمنياس وبها تركيب الأمر الجازم من محمول وموضوع.
57
كما يحال إلى ما بعد الطبيعة والذي يسمى كتاب الحروف.
58
وتدل هذه الإحالات كلها على وعي بالمذهب الأرسطي كله وإحالة الأجزاء إليه لا فرق بين المنطق والطبيعيات وما بعد الطبيعة بالرغم من أن الإحالة إلى الطبيعيات هي الأغلب على المنطق وما بعد الطبيعة. ولا يحال إلى مؤلفات أرسطو وحده بل أيضا إلى بعض مؤلفات أفلاطون مثل محاورة طيماوس وفيدون وبعض كتب الإسكندر مثل كتاب النفس في مواضيع تعريف النفس والعلم.
59
بل إن ابن باجه نفسه يحيل إلى باقي مؤلفاته تأكيدا على وحدة المذهب واتساق الموقف وتكامل التأليف وتقسيم الموضوع.
60
وتستمر أفعال الإيضاح في كتاب النفس المشتقة من البيان والمعرفة من أجل رفع الشك والانتهاء إلى معاني واضحة وبينة في النفس وواضحة بذاتها. والإيضاح متصل الحلقات بين الفقرات، بين السابق واللاحق. ووظيفة الإيضاح إزالة الشك والانتقال إلى اليقين واستقرار النظر بدلا من الاضطراب وتضارب الآراء. كما يقوم ابن باجه بتعليل فكر أرسطو وإيجاد البراهين على صدقه.
61
وتظهر أفعال القول في ضمير المتكلم. ولا توجد صيغة أخرى مما يدل على أن الأنا هو الذي يقول في غياب الآخر كلية.
62
ويقتبس ابن باجه من أرسطو قولا مشهورا له يستشهد به مثل «إن كل علم حسن وجميل.» ربطا للقدماء بالمحدثين. كما أن ابن باجه على وعي بمستويات كتابات أرسطو بين الخاصة والعامة.
63
ويظهر الموروث في كتاب النفس عند الفارابي ولسان العرب.
64
ويحيل ابن باجه إلى كتاب الفارابي في الخطابة البرهانية في أن المتصل به أقسام لا نهائية وكذلك في الزمان. كما تشكك الفارابي في مقالته العقل والمعقول على ما يقال عليه الجسم؛ إذ يقال على الصورة والمادة بتقديم وتأخير. فالمعقول والهيولى موجودان متقابلان، يوجد كل منهما لأجل الآخر. كما تظهر الأسماء المشككة، وهي الأسماء المشتركة أي المتشابهة كما هو الحال في منطق الألفاظ عند الأصوليين. كذلك إذا وضع حد من جنس الشيء أمكن الدلالة على أجزائه بالأسماء المشتقة. والنفس اسم مشترك متشكك فيه، ويمكن أن تكون ألفاظ أخرى باشتراك الاسم. كما تظهر نظرية المعاني الثلاثة للفظ؛ الاشتقاقي والاصطلاحي والعرفي في علم الأصول. فاللفظ له دلالات عند الجمهور. كما يظهر الموروث اللغوي في إحالة ابن باجه إلى لسان العرب. فالنطق في لسان العرب يدل أولا على التصويت بألفاظ دالة على معاني أو بألفاظ غير دالة كما قال الشاعر.
65
كما قد يدل على غير هذين المعنيين مما يعرفه أهل كل لغة في لسانهم. ويعتمد ابن باجه على اللغة العربية لتفسير معنى النطق في عرض القوة الناطقة، آخر فصل في كتاب النفس، ويستشهد بالشعر العربي وليس بأرسطو.
66
كما يستعمل ابن باجه العرب في الإشارة إلى الفاعل المجهول بزيد وعمرو.
67
وكما يبدأ الشرح بالبسملة والحمدلة ينتهي بالدعوة إلى الله بالتوفيق والعون وطلب الرضا على المؤلف من الناسخ والترحم عليه.
68
خامسا: شرح البرهان (ابن رشد)
ويبدو أن ابن رشد قد توجه مباشرة إلى لب المنطق وقلبه فشرح البرهان متجاوزا مباحث المنطق الأولى، المقولات والعبارة والقياس، وهو ليس كاملا إنما هو شرح المقالة الأولى فقط وهي أقل من نصف الكتاب إنما الجزء الباقي يكفي للدلالة على الكل وتعميم الحكم عليه.
ويدل تحليل أفعال القول في شرح البرهان على استعمالها في الماضي كشرح تاريخي لنص مضى وأحيانا في المضارع كحقيقة مستقلة عن التاريخ. فأرسطو تاريخ وبنية، يوناني وعقلي. كما تظهر أفعال الإرادة والبيان مما يدل على دخول ابن رشد في مقاصد أرسطو وأهدافه متجاوزا القول. ولا تزيد أفعال القول عن خمس مرات في حين أن أفعال الشعور والعقل والإرادة مثل: قصد، صرح، أعد، بين، اشترط، سم، تكلم، تشكك، جوز، عشرات المرات. والحديث عن القول كاسم أي الشيء ذاته يفوق الحديث عن الفعل. وليس القول وحده بل هناك الطريقة والمذهب والغرض والبيان والرسم والتعليم والتمثيل والخطأ أيضا.
ومن غير المحتمل أن يكون ابن رشد قد عرف اليونانية، ولكنه استعمل ترجمة متى أو غيره، كما استعمل ترجمة ما بعد الطبيعة وهي أقرب إلى القول الشارح منها إلى الترجمة، صحح ابن رشد أسلوبها فقط دون الرجوع إلى الأصل اليوناني، ونظرا لعودة ابن رشد إلى الأصول الأولى فإنه عاد إلى الترجمات ليتحقق من صحتها. ويراجع المترجمين وهم المعلقون والشراح الأوائل مثل متى بن يونس، فيذكره ابن رشد بلقب متى المترجم، وإن عدم دقة الترجمات أحد الأسباب المحتملة في خطأ التأويل. والتأويل الصحيح قادر على تصحيح خطأ المترجم مما يدل على أولوية المعنى على اللفظ، والموضوع على المعنى. فهل كان بين يدي ابن رشد عدة ترجمات أم ترجمة واحدة؟ هل راجع على اليونانية؟ هل هناك ترجمة عبرية قام بها يهود الأندلس عن العربية؟ هل كان ابن رشد يعرف العبرية للاطلاع عليها في حالة وجودها؟ وإلا فكيف عرف ابن رشد خطأ الترجمة؟ هل من عدم فهمه للمعنى أم من ترجمات أخرى بمناسبة موضوع ضرورة الوسط للحد. واضح أن ابن رشد أيضا ضحية الترجمة كمطابقة. في حين أن متى ليس مترجما بل هو مفسر وشارح للمعنى قبل التعليق والشرح.
1
ويقطع ابن رشد النص الأرسطي حتى يسهل مضغه ثم ابتلاعه وهضمه وهو الطبيب، ومجموع هذه الفقرات تكون مجموع النص الأرسطي. وقد تكون مختارة فقط في بدايتها أو نهايتها وهي النصوص المشروحة كما هو الحال في الاستشهادات المعاصرة. هو النص الذي يحتاج إلى شرح. فالفكرة الشارحة هي التي تحدد اختيار النص؛ لذلك من الصعب تحديد درجة الاقتباس من نص أرسطو، النص بأكمله أو جزء منه، عبارة دالة أو لفظ مختار. أحيانا يكون النص المشروح قصيرا، وأحيانا يكون متوسطا، وأحيانا يكون طويلا طبقا للمعنى المشروح. فالنص فكرة وليس امتدادا. الفكرة معيار كيفي تحدد النص الكمي؛ لذلك تختلف الشروح طولا وقصرا مثل النصوص المشروحة، أهميتها ومدى تركيزها، والحاجة إلى تفصيصها. ولا يوجد معيار واحد لشرح الكم بالكم. وقد تستغرق عبارة شروحا أطول مما قد تستغرق صفحات بأكملها لأنها عبارة دالة. وقد يتم شرح لفظ بلفظ بعد الشرح العام حتى يسهل الابتلاع بعد التقطيع والمضغ مثل طريقة الشراح على الداخل للنصوص الموروثة في عصر الشروح والملخصات. وشروح ابن رشد من نفس العصر على أية حال، عندما بدأت الحضارة تعيش على نفسها تستدعي بالذاكرة ما أبدعته بالعقل سابقا.
والشرح بطبيعته هو نظرية في البيان والإيضاح بطريقة التحليل إلى الأجزاء الأولى قبل التركيب في التلخيص، وإيجاز القصد في الجوامع. الشرح بيان للصواب والخطأ وإصدار للأحكام لأنه تفصيل وتدقيق وتحقيق. ولا فرق في المراجعة بين زمن أرسطو ونص الشراح اليونان أو المسلمين.
2
قد لا يحتاج النص إلى شرح لأنه بين بذاته ومفهوم بنفسه. وإذا احتاج فإن مقياس الوضوح هو الاتساق وعدم الوقوع في التناقض والخلف بين المقدمات والنتائج.
3
والشرح أيضا وصف لمسار الفكر الأرسطي من اليونان إلى المسلمين على نحو تاريخي، وقد يكون تقييما نهائيا لقول أرسطو باعتباره بنية عقلية مستقلة تعادل الموضوع ذاته. الأول تاريخي والثاني بنيوي. ويتضح المسار الفكري بالربط بين الأفكار وتحديد المقدمات واستنباط النتائج سواء في نص أرسطو أم في وصف شرح ابن رشد واصفا شرحه خطوة خطوة كجراح بمبعض يشرح العضو.
4
ويعترف ابن رشد بالعوص والحيرة والشك في نص أرسطو مما قد لا يقبل التوضيح والبيان بسهولة. ويراجع استدلال أرسطو. ويتتبع مسار فكره خطوة خطوة حتى يطمئن إلى الاتساق وعدم التناقض. ويشعر بالاستطراد في الشرح، ويذكر بالعودة إلى الموضوع الأصلي. فالتوضيح عملية ذهنية قد لا تنتهي. الاستدلال يؤدي إلى استدلال، ويصبح الفكر مجرد اتساق بصرف النظر عن الموضوع المشروح. يتحول الشرح إلى غاية في ذاته بدل أن يكون وسيلة لاقتناص الموضوع، ويقدم ابن رشد الكتاب كله، القصد الكلي قبل المقالة الأولى. فالكل سابق على الجزء. ويصف المعارك الأرسطية وأساليبه في الجدل.
5 (1) الوافد
وبالنسبة للوافد وهو في الغالب الوافد اليوناني وحده لأن اليونان كانوا يمثلون ثقافة العصر وكانت الأندلس بعيدة عن حضارة الشرق؛ فارس والهند وبابل. يحيل شرح البرهان إلى باقي كتب المنطق والطبيعيات لأرسطو. فالجزء لا يفهم إلا في إطار الكل مما يدل على القصد الكلي للشارح. كما يشير إلى محاورة مانن (مينون)، وكتاب إقليدس.
6
كما يشير إلى إيساغوجي والمقولات ولكنه لا يحيل إلى العبارة. ثم يظهر كتاب القياس كنقطة إحالة رئيسية. فالنص مشروحا أو شارحا له مراجعه ومكانه في كتب المنطق وباقي كتب أرسطو. يظهر بوضوح أو لا يظهر. فالموضوع الواحد يحال فيه إلى أكثر من موضع؛ ومن ثم كان شرح البرهان ليس فقط شرحا لكتاب البرهان لأرسطو بل دراسة موضوع البرهان في باقي كتبه وفي كتب غيره كما يفعل الدارس الحديث. لا يهم الشخص بل العمل مثل الإشارة إلى محاورة «مانن» دون أفلاطون. ويعلل ابن رشد البنية الداخلية لمنطق أرسطو. ويحدد رقم المقالة في كل كتاب متوخيا الدقة. ويحيل المنطق إلى الطبيعيات بعد إحالة المنطق إلى المنطق. أما الإحالة إلى الإلهيات فقليلة للغاية مما يدل على ارتباط المنطق بالطبيعيات كارتباط الطبيعيات بالإلهيات. ومن وسائل البيان إحالة الجزء إلى الكل، وشرح البرهان بالإحالة إلى باقي كتب المنطق، ثم بإحالة المنطق إلى الطبيعيات ثم إلى الإلهيات. فالمقولات واحدة في الذهن (المنطق) أو في العالم (الطبيعة) أو في الشعور (الميتافيزيقا). كما يحيل ابن رشد إلى باقي شروحه واضعا شرح البرهان في مجموع الشروح كجزء من كل.
7
كما يحيل إلى باقي مؤلفات الفارابي في شرح البرهان شارحا الجزء بالكل، متجها نحو الموضوع وليس نحو العقل. وقد ضاع بعضها، وبقي البعض الآخر مثل «شرائط اليقين» العقل. وقد ضاع بعضها، وبقي البعض الآخر مثل «شرائط اليقين» الذي لا يشير إليه ابن رشد. وهو مبدأ يعرفه المفسرون القدماء، شرح الكتاب بالكتاب أو المحدثون وضع النص في سياقه الأعم. لقد استطاع ابن رشد الاستفادة من منهج حضارة النص في تخليص النص من سوء تأويل المفسرين؛ لذلك قد تبدو خلفية الموروث في شرح الوافد عند ابن رشد، مثل إعطاء الأولوية لمنطق اليقين على منطق الظن، والاعتماد على نظرية البيان كما هو الحال عند الشافعي، والبحث عن التعليل، والعودة إلى الأصول إن ولى بعيدا عن الشراح، واحتمالات سوء التأويل، وظهور مقولات علم الأصول مثل الشرط والعلة والبيان. ويطبق ابن رشد مقياس ظاهر كلام أرسطو وهو من مهد الظاهرية نقدا لسوء التأويل. ويستعمل صيغة التساؤل والاستفهام مما يكشف عن تواضع ودقة في البحث عن المعرفة دون القطع والإلزام تعصبا أو تكفيرا.
8
ويدخل ابن رشد في معارك اليونان وكأنه منهم وينتصر للحق.
9
ليست مهمة ابن رشد تخطئة أرسطو بل فهمه واستيعابه وإكماله. الحكم بالصواب أو الخطأ مهمة الفقهاء والمتكلمين وليس الحكماء. هناك تقسيم عمل وتوزيع أدوار ومهام حضارية متعددة في الحضارة الواحدة، ويسقط ابن رشد الأمثال اليونانية الشارحة لأنها لا رصيد لها في الوعي العربي الإسلامي، فالمثل يساعد على الشرح إذا كان مفهوما أكثر من الممثول. ولا يمكن إحالة المجهول أو وصف المعلوم إلى مجهول لمزيد من التعريف والإيضاح. إنما إحالة المجهول أو نصف المعلوم إلى المعلوم.
10
فقد أسقط ابن رشد في الشرح كثيرا من أسماء الأعلام التي لا تفيد في الإيضاح لأنها مجهولة بالنسبة للجمهور، بالإضافة إلى طبيعة النص المنطقي المجرد الذي لا يحتاج إلى ضرب الأمثال على عكس ما هو الحال عليه في الخطابة، والشعر. وأحيانا يشرح ابن رشد أمثال أرسطو حتى يربط المعنى بالمثل.
11
وبطبيعة الحال أرسطو هو الأكثر ذكرا إما مسبوقا بأفعال القول أو أرسطو في قراءة ابن رشد أو أرسطو مفردا. ولا يمكن تحليل أفعال القول لأنها بداية النص المفصول عن الشرح، ولا ترى إلا من حيث عدد النصوص المشروحة. أما التفاعل بين ابن رشد وأرسطو فهو استعمال اللفظ وسط عبارة ابن رشد في الشرح. وقد وضع أرسطو داخل الشرح مجزئا حتى يسهل مضغ اللقمة الكبيرة ثم ازدرادها جزءا جزءا.
12
ويبدأ ابن رشد بالتحليل والدراسة. ثم يستشهد بأقوال ابن رشد على صحتها بإرجاعها إلى نتائج تحليله ودراسته؛ ومن ثم يتفق أرسطو مع ابن رشد. ويذكر ابن رشد أرسطو باعتباره مصدرا للمعرفة يتعلم منه بل باعتباره موضوعا للمعرفة يتحقق من صدق أقواله بمراجعتها على دراسة ابن رشد الخاصة وتحليلاته لنفس الموضوع ولاحتوائه داخل ثقافته في ثقافة إنسانية واحدة تجمع بين الوافد والموروث. ويذكر ابن رشد أرسطو للدخول في معركة تفسيره الصحيح وإنقاذه من بين أيدي المفسرين اليونان والمسلمين. فإذا استعمل ابن رشد «كما يقول» فإنه يستشهد بقوله الذي عرف ابن رشد صدقه من قبل بناء على تحليلاته الخاصة. فأرسطو مخبر وراو عن شيء وليس واضعا لحقيقة لا يعرفها ابن رشد من قبل. يحدد ابن رشد موضوعات أرسطو، ويستبعد الموضوعات التي ليست في كلامه. فابن رشد يعرف الأشياء لا الأقوال. يفهم الأقوال بالعودة إلى الأشياء، ولا يفهم الأشياء بالعودة إلى الأقوال.
13
أرسطو يسمي الشيء وابن رشد يصفه. أرسطو يصرح وابن رشد يذهب إلى ما وراء التصريح، متجاوزا النص الحرفي ليعلن عن الشيء ذاته الذي صرح به أرسطو. أرسطو يقول بعد أن يدرك وابن رشد يدرك ما يدركه أرسطو قبل أن يشرح.
14
بل إن أرسطو نفسه لم يعد له وجود بشخصه. أصبح هو الحكيم أي حكيم. تحول من الشخص إلى النموذج كما تحول المسيح من يسوع عيسى ابن مريم إلى المعلم وابن الإنسان، وابن الله، والله في نصوص الأناجيل. كل منها شارح السابق، في موازاة مع تطور العقيدة. لا يهم الشخص بل النموذج. قدم ابن رشد الموضوع على أرسطو ثم احتذى بالحكيم ثم بتعاليمه. ابن رشد دارس يحتذي بالحكيم وليس شارحا له. يرجع ابن رشد الأشياء التي يراها على ما وصف أرسطو حتى يشرحها من أسفل معطيا له الأساس.
15
ويبين ابن رشد معاني أرسطو، ويوضح مقاصده. فالشرح نظرية في البيان والإيضاح، ويبين ما يصرح به أرسطو، ويتجاوز الحرفية والنصية إلى ما يشترطه أرسطو وما يدل عليه قوله. يعني الشرح وصف الشيء ويكون هذا الوصف هو الشرح والعودة إلى الأشياء ذاتها وهي مقاصد الفيلسوف. فالنص قصد، والقصد شيء. البيان إيضاح للمقاصد والأغراض. ففي القصد يتحد المعنى والموضوع. وقد يكون القصد سلبا ببيان ابن رشد ما لم يقصده أرسطو ونفي معاني ليست موجودة عند أرسطو. ويشرح ابن رشد ما لم يفعله أرسطو لأنه يعرف ما فعله. يبين ما بينه وما لم يبينه من أجل معرفة الشيء كله.
16
ويتبع ابن رشد مسار فكر أرسطو ويجد علله وأسبابه وهو الأصولي الباحث عن العلل والمقتنص لها. فيعلل ترتيب أرسطو لكتب المنطق، القياس قبل البرهان. بل ويعلل ما سكت عنه أرسطو وليس فقط ما صرح به. وقد يكون الهدف من التعليل تخليصه من براثن الشراح. ولا يكون الشرح إلا معياريا أي بوجود مبدأ عقلي يحتكم إليه ابن رشد شارحا أرسطو؛ لذلك تتردد عبارة «ينبغي أن يفهم» كثيرا لأنه فهم موضوعي مبني على معيار. ويدخل ابن رشد في محاجات أرسطو، ويستشهد عليها بأقواله حتى يجد له نسقا وتقوى دعوته بالبرهان.
17
بل إنه يضع افتراضات مناقضة لنص أرسطو حتى تظهر المعارضة له من أجل إكمال الناقص.
لذلك يتوجه ابن رشد بالنقض للشراح والمفسرين لأرسطو؛ فقد توهم بعضهم أنه من الأفضل بعد القياس البدء بالجدل ثم بالبرهان، واليقين يأتي قبل الظن ومقدم عليه، يشرح ابن رشد ما يفعله أرسطو تجنبا لسوء فهم الشراح له، آخذا في الاعتبار ما يقصده أرسطو والمعرفة الدقيقة بمنطقه، والفرق بين القسمة والحد والرسم، يشرح عادة أرسطو. كيف يتكلم في شيء، ولا يتكلف في بيانه. ويشرح طريقته وأسلوبه في البيان ليرفض سوء الشرح والتأويل عند الشراح والمفسرين على أساس فهم منهج أرسطو في كتابه. والتأويلات الصحيحة هي التي تتفق مع ألفاظ أرسطو وظاهر عباراته. وبالرغم من تأييد أرسطو ضد الشراح، يونان ومسلمين، وبالرغم من أن الهجوم على الشراح اليونان أكثر من الهجوم على الشراح المسلمين فإن الإسكندر والفارابي أفضل الشراح. وأسوءهم ثامسطميوس وابن سينا. ليست غاية ابن رشد التعلم من أرسطو بل مساعدته على فهم الشراح له الفهم الصحيح ضد سوء تفسيرهم له. لقد أخطأ الشراح عندما ظنوا أنهم زادوا على ما نقص عند أرسطو. والحقيقة أن أرسطو لم ينقصه شيء، ومع ذلك ليس المفسرون دائما على خطأ فإنهم على صواب إذا اتفقوا في الرأي مع أرسطو.
18
ويستعمل ابن رشد الفارابي راويا عن الشراح اليونان: ثامسطيوس وأوديموس والإسكندر. فقد ذكر ثامسطيوس في شرح البرهان. ويعتمد عليه ابن رشد ليتأكد من يقين دراسته. وفي نفس الوقت يقوم بتعليل الشرح وتغيير الترتيب الأرسطي إلى الترتيب الصناعي والتعليمي لسهولة الحفظ. يقوم بالتلخيص. وأحيانا يتفق ابن رشد مع ثامسطيوس في ترتيبه وتجزئته لنص أرسطو من أجل إيجاد بنية له. وتأويل ثامسطيوس هو مجرد تطوير لأرسطو وإخراج شيء منه لم يكن موجودا وربما بإعطاء أمثلة جديدة. فالشارح يشرح مبدعا بنص جديد، وليس مكررا بقول شارح. ويخرج ثامسطيوس على قصد أرسطو بجعله القضية عامة في الصنائع والعلوم. فيعيب الشرح إطلاق القيد، وتعميم الخاص بلغة الأصوليين عند ابن رشد.
19
كما خرج ثامسطيوس على مذهب أرسطو بقوله عدم اشتراط أرسطو الحمل الأول في النتائج، ويستعجب ابن رشد خروج مذهب الشارح على مذهب أرسطو واختلاف المفسرين عليه مثل اختلاف ثامسطيوس والإسكندر. ويهاجم ابن رشد ثامسطيوس أكثر من نقده للإسكندر لأن السلف خير من الخلف.
20
ويذكر أفلاطون باستمرار مع مانن في موضوعين؛ نظرية المعرفة باعتبارها تذكرا ونظرية المثل وما تدل عليه من صور مفارقة. ومانن هو المحاور الذي يشك وليس اسم المحاورة؛ لأن اسم المحاورة مشتق من اسم المحاور. وقد حل أفلاطون شك مانن بجعله العلم تذكرا ومن أرسطو بإثبات المعرفة الحسية. فالمطلوب معلوم من قبل، ولا يمكن طلب معرفة المجهول. كل علم معلوم من قبل بالقوة قبل أن يصبح معلوما بالفعل. ومثل أفلاطون ليست ضرورية للبرهان. فأرسطو ناقد لأفلاطون، وابن رشد مع أرسطو. الطبيعة في الصورة خارج المحسوسات؛ وبالتالي يجمع ابن رشد مثل الفارابي من قبل بين رأيي الحكيمين، كلاهما مطلبان إنسانيان.
21
وقد ذكر أناخرسيس مرتين كمثال على الأسباب البعيدة على جهة التعمق والاستغراق في بيان الشيء مثل عدم وجود موسيقى في بلاد الصقالبة. كما ذكر بروسن مرتين، واحدة في نص أرسطو وأخرى في تلخيص ابن رشد لاستعمال بروسن بعض مقدمات المهندسين.
22
وقد ذكر مانن مرتين في شرح البرهان. فالمعرفة عند أرسطو هي القابلة للتصديق وعند أفلاطون تذكر. وطريق أفلاطون لا يحل شك مانن. ولما لم يذكر اسم مانن في النص الأرسطي حمل قول أرسطو على شك مانن أي تحقيق المناط الأصولي، وذكر إقليدس مرتين؛ الأول لضرب المثل بما في العاشرة من كتابه بما كان البرهان عليه بعيدا جدا، ولا توجد مقدمات تثبت بها أو تبطل كما هو الحال في خواص الخط الأصم. وهو ما سيثيره في تلخيص الجدل بعد ذلك، والثانية تعلم المهندس من كتاب إقليدس كيف يعمل مثلث متساوي الأضلاع ولا يعرف كيف يصنعه جزئيا من خشب أو نحاس . كما ذكر قلباس مرة واحدة في نص أرسطو وذكره ابن رشد وهو أشبه بزيد وعمرو في الأسلوب العربي، كما ذكر القدماء في الشرح في مقابل المتكلمين من أهل ملتنا في اكتفاء العقل بذاته دون حاجة إلى الحس في حين أن القدماء جعلوا الحس هو العقل نفسه. ولا فرق بينهما، فالمتكلمون عقليون. والقدماء يوحدون بين العقل والحس.
23
وأخيرا يظهر لفظ «المفسرون» في الشرح من أجل إزالة شكوكهم وتوضيح أخطائهم، فوظيفة الشرح التفصيل. كما يظهر لفظ «السوفسطائيون»، مجادلة معهم ورفض شكوكهم كما هو الحال في نظرية العلم في أصول الدين ورفض ابن حزم لهم في أوائل «الفصل»، ورفض شكهم وعلمهم وأقاويلهم. ويتحول السوفسطائيون أحيانا من فرقة يونانية إلى سوفسطائية كخط عام للفكر يقوم على الشك والمغالطة والكذب.
24 (2) الموروث
ويظهر الموروث في «شرح البرهان» إما كأفكار وتصورات أو كأسماء أعلام وفرق؛ فالحديث عن العلم مثل علم المنطق وموضوعه ومنهجه وغايته من أرسطو ومن علماء المسلمين في آن واحد. وهنا يتم التعشيق بين الوافد والموروث. بل إن مفهوم الشرح أو التفسير له ما يشابهه في الموروث في علم بأكمله هو علوم التفسير، تفسير القرآن من أوله إلى آخره، من الفاتحة حتى الناس جزءا جزءا، وسورة سورة، وآية آية، ما يحتاج إلى توضيح وما لا يحتاج. فمنهج التفسير هو منطق الحضارة. كما أن التأويل منهج إسلامي أي القرآن والاستنباط والتعمق وإخراج المسكوت عنه وهو موروث محلي.
25
وتنشأ المصطلحات الفلسفية داخل الشروح مثل سبار الذي يعني معيارا ومنه السبر عند الأصوليين. وقد يكون المصطلح إبداعيا خالصا مثل الاقتضاب الذي يدل على أخذ المقدمات متسلمة دون برهان.
26
كما يظهر التصور الهرمي للعالم في نسبة البرهان إلى سائر كتب المنطق، فالبرهان رئيس والجدل والخطابة والشعر بمثابة المرءوسين، علاقة الأعلى بالأدنى كما هو الحال عند الفارابي. فالبرهان أو القياس أعلى علم في المنطق.
وما قبله مقدمات له مثل المقولات والعبارة. وما بعده غياب له مثل الجدل والخطابة والشعر وتغيب السفسطة. كما يتوحد القياس والبرهان .
ويغيب نقد المنطق ونقضه كما فعل الفقهاء خاصة ابن تيمية. ولا يشار إلى ابن حزم والأخذ بالظاهر في فهم نص أرسطو، أحد وسائل ابن رشد لنقد الشراح اليونان في سوء تأويلهم لأرسطو. ولا يوجد نقد داخلي للأشعرية كما هو الحال في «تفسير ما بعد الطبيعة». وتغيب الأمثلة العربية كما يغيب الشعر العربي على عكس الخطابة والشعر.
ويبدو التقابل بين الأنا والآخر في «شرح البرهان» وذلك بتخصيص الآخر باليونانيين وتعميم الأنا. يقارن ابن رشد بين عادة اليونانيين بوضع ماء جار ينقضي بانقضاء الخصومات وبين ما يعادله من الأحكام عندنا. وتبدو اللغة العربية في استعمال «زيد» كمثال لموضوع في قضية. فالمثال العربي يلاحق المثال اليوناني ويكون بديلا عنه. ويتم القياس الحضاري على النحو الآتي في ثلاثة أشكال من البسيط إلى المركب.
فابن رشد يشرح البرهان باعتباره فقيها وليس باعتباره شارحا، وصورته في حضارته أنه الفقيه الأجل وليس الشارح الأعظم صورته عند اللاتين فهو ينتسب إلى الموروث وليس إلى الوافد.
27
ويتمثل هذا القياس الحضاري في خطوات ثلاث كما هو الحال في القياس التقليدي ولكنه انتقال من الجزء إلى الكل استقراء، ثم من الكل إلى الجزء استنباطا؛ فالكل هو الجامع بين الجزءين على النحو التالي: (1)
معنى المثل اليوناني «الجزء الآخر». (2)
تخليصه من حضارته من أجل تعميمه «الكل». (3)
تركيبه على الحضارة العربية الإسلامية «الجزء الأنا».
ويزداد التراكم الفلسفي في «شرح البرهان». ويأتي الفارابي المعلم الثاني في الصدارة ثم ابن سينا ثم ابن باجه ثم متى بن يونس والمتكلمون من كل ملتنا.
28
ويكشف عن أثر جيل المترجمين والشراح الأوائل على فهم أرسطو في عصر ابن رشد؛ لذلك يتكلم عن الالتباس الذي حدث في زمانه. فابن رشد يبدأ من الحالة الراهنة في عصره لفهم كتب أرسطو. ويعيد تصحيح هذا الفهم بالعودة إلى الأصول الأولى كما هو الحال في مناهج التفسير وعلم الأصول.
لقد ظن الناس أن ما أتى به أبو نصر ناقص في أرسطو وهو موجود. فأرسطو كامل لا ينقصه شيء، ويحيل ابن رشد إلى باقي أعماله المفردة العارضة ربما للموضوع وليست الشارحة له. لقد أخطأ الفارابي في اعتباره إيساغوجي جزءا من المنطق لأنه جزء عام مشترك بين الحدود مع أن إيساغوجي لا ينظر في الحدود من جهة أنها موجودات بل تصورات. فابن رشد أقرب إلى أرسطو لأنه لا يعتبر إيساغوجي جزءا من المنطق. إيساغوجي يتعامل مع التصورات، والأجناس والأنواع، وليس مع الموجودات مما يدل على واقعة ابن رشد، أما الفارابي فقد أراد أن يصوغ أجزاء المنطق في مذهب متكامل. فأدخل إيساغوجي كتب المنطق ليقدم منطق أرسطو كاملا متكاملا. كان الفارابي ضروريا في البداية وابن رشد ضروري في النهاية. قسم الفارابي الكتاب إلى أربعة أجزاء غير ما أجمل أرسطو من أجل شرحه وبيانه كما هو الحال في المنهج الأصولي، بيان المجمل وتخصيص العام.
29
ولا يعارض ابن رشد الفارابي على طول الخط كما يفعل في كثير من الأحيان مع ابن سينا ولكنه يستشهد به أحيانا على حسن فهمه لأرسطو؛ ومن ثم يكون ابن رشد هو الشارح للفارابي والمراجع على فهمه وليس التابع له أو المستمد علمه منه. يستشهد به في شرحه بعبارة لأرسطو تحتوي على عرض الكتاب كله. ويدرك ابن رشد الخلاف بين أرسطو والفارابي؛ فالفارابي يجعل القضية عامة للتصديق والتصور وأرسطو يجعلها من مواد التصديق فقط وليس التصور. في هذه الحالة الشرح هو تعميم الخاص وليس تخصيص العام، الضم والتجميع وليس التفصيل والتجزيء. ويقارن أحيانا ابن رشد شرحي الفارابي وابن سينا مع أرسطو لمعرفة أيهما أصدق كما يفعل القاضي عندما يحيل النزاع بين متخاصمين بالرجوع إلى الشيء ذاته. وينتهي ابن رشد بالمصالحة عن طريق الجمع بينهما، وجعلهما رأيين في موضوع واحد على جهتين مختلفتين؛ فالحد الأوسط للموجود الأعظم والأصغر ليس الأصغر فقط كما يريد ابن سينا أو الأكبر فقط كما يريد الفارابي. فالشروح كلها ظنون ولا تطابق يقين أرسطو. وينقد ابن رشد الفارابي في أنه ليس من شرط الجنس المأخوذ في حد المحمول ألا يكون متعديا جنس الصناعة لأن ذلك غلط. فتعميم الفارابي أحيانا يضر بالخاص الذي يتمسك به ابن رشد. العام للأفهام، والخاص للعلم. العام لتقديم نسق أرسطو تقديما فلسفيا، والخاص لفهمه فهما علميا، كما يخطئ الفارابي في ظاهر قوله إن المحولات في كل برهان أحد صنفي العمل. فابن رشد يحترس من الحكم على الفارابي ويحكم على الظاهر في قوله، فقد يكون له تأويل آخر. وقد يوقع ابن رشد الفارابي في تناقض إذا ما جعل الفارابي كل واحد من الأسباب الأربعة تؤخذ حدودا في البراهين المطلقة وجعل في نفس الوقت الحمل البرهاني صنفين، المحمولات في حدود الموضوعات، والموضوعات في حدود المحمولات. والحقيقة أنه لا تناقض هناك لأن منطق التناقض يقوم على وضع أجزاء الكلام في مقابل بعض البرهان دون إحالته إلى الواقع نفسه الذي قد يكون الكلام تصويرا لجهاته المختلفة. كما ينقد ابن رشد الفارابي في خروجه على أرسطو. فعند أرسطو ليس كل ذاتي ضروريا وعند الفارابي ليس كل ضروري ذاتيا، والحقيقة أن الفارابي يغلب أرسطو من أجل إتمام الجزء بالكل، ورؤية الموضوع من وجهة نظر أخرى، واستبدال الموضوع بالمحمول.
30
إن شرح الفارابي لأرسطو يجعله أكثر تخصيصا من عموميته؛ فالمحمول الأول في البرهان لا يحمل على جنس الموضوع عند الفارابي، وعند آخرين العكس. ويحيل ابن رشد إلى باقي مؤلفات الفارابي المنطقية مثل كتاب «المحمول الأول» المفقود مما يدل على أن ابن رشد يدرس الموضوعات ولا يشرح الأقوال، وأن ما يعتبره ابن رشد ظنونا عند الفارابي هي محاولة من الفارابي لقراءة أرسطو من أجل الخروج من مذهبه اللفظي الظاهر إلى نسقه المعنوي العام. يبين الفارابي المجمل كما هو الحال في علم الأصول. ويريد ابن رشد العود إلى الأصول وهو منهج أصولي آخر. عند الفارابي المحمولات البرهانية بها خاص وبها ما هو غير خاص، منها أول ومنها غير أول. في حين اشترط أرسطو الحمل الكلي في البراهين ثم يرد ابن رشد الاعتبار للفارابي جاعلا شرط أرسطو على جهة الأفضل لا شرطا ضروريا بمنهج القاضي وبطريقة المصالحة بين الخصمين.
31
وفي كثير من الأحيان يجمع ابن رشد طريقة أرسطو وطريقة الفارابي كوجهين مختلفين لموضوع واحد . فأرسطو يمثل الأفضل، والفارابي يمثل الضروري لتحويل حكم القيمة إلى حكم الواقع، والانتقال من الضرورة القيمية إلى الضرورة المنطقية. وقد اكتشف ابن باجه من قبل أن قصد أرسطو وقصد الفارابي مختلفان. فعند أرسطو الحدود بالقوة وعند الفارابي الحدود بإطلاق؛ لذلك اختلفت الشروط عند كل منهما، عند أرسطو على الأفضل وعند الفارابي على الضرورة. وكان ابن رشد قد اعتقد مثل ابن باجه بالجمع بين الموقفين، ولكنه عدل في النهاية، وفضل أرسطو على الفارابي. فقد أصاب أرسطو وأخطأ الفارابي حرصا على الأصول وصحة النقل والتزاما به قبل أن يتحول إلى إبداع عند الفارابي، كان سبب خطأ الفارابي هو تبعيته لثامسطيوس لإدخاله الجنس في العمل أي حمل الجنس على النوع وهو تناقض. وهذا هو الذي جعل الفارابي يرسم المحمول الأول بخلاف أرسطو. كما أخطأ الفارابي في إطلاق المقيد بتعبير الأصوليين؛ فقد حول الموضع البرهاني إلى إقناعي في كتابه في التحليل. ويحيل ابن رشد إلى باقي أعمال الفارابي المنطقية مما يدل مرة ثانية على أنه يدرس الموضوع ولا يشرح القول، والمناسبة عند أرسطو هي الذاتية، وعند أبي نصر تنقسم إلى جنس الصناعة. وهنا يقوم الفارابي بتقييد المطلق وليس بإطلاق المقيد. كما يورد الفارابي احتمالات عديدة، يسلم بوجود صناعتين نظريتين في مطلب واحد ولا يسلم بوجود حد أوسط، وهو ما يظنه ابن رشد تناقضا. والفارابي لا يهمه التناقض بقدر ما يهمه عرض شامل لمذهب أرسطو.
32
ويستعمل ابن رشد لغة الفارابي وعباراته لشرح أرسطو. فهو الموروث الفلسفي المتراكم قبله. لا يخطئه ابن رشد على طول الخط عنادا أو عصبية أو تعالما بل يقدره، ويعطيه مكانته وإن كان يختلف معه في الموقف؛ الفارابي المؤول القارئ المبدع، وابن رشد الفقيه السلفي وأحيانا الظاهري الباحث عن الأصول الأولى، ومع ذلك يرى ابن رشد أن الفارابي قد أخطأ في قوله إن الجزئية لم تذكر لأنها تدخل تحت الكلية لأن ذلك يصبح في المقدمات الجدلية كما قال أرسطو في الجدل. فالتبس الأمر على الفارابي وخلط بين البرهان والجدل. يرفض ابن رشد تحليل الفارابي، ويعطي العلة الصحيحة. ويميز بين البرهان والجدل طبقا للمنهج الأصولي الذي يقوم على التعليل وعلى السبر والتقسيم لاقتناص العلة. كما أخطأ الفارابي في فهمه لفظ «انتقل» بمعنى انتقال المقدمة الكبرى لأنه يسلم أن المطلوب واحد في الصناعتين، ولا يسلم بأن يكون الحد الأوسط واحدا فيهما. وقول أرسطو بين بنفسه، وشرح الفارابي يثير الشك ظانا أن من الذاتية ما هو أعم من الصناعة، ويبدأ الفارابي مع أرسطو بجعل براهين الوجود صنفين ثم غلط في وصف الثاني لخروجه عن معنى أرسطو. الفارابي يبدأ من أرسطو ولا ينتهي إليه في حين أن ابن رشد يبدأ من أرسطو وينتهي إليه. فهو سلفي المنهج، النص في البداية والنهاية، ظاهري المنحى في فهم ظاهر قول أرسطو وظاهر قول الشراح، حنبلي الاتجاه يريد تخليص النص الخام مما علق به من سوء تأويل الشراح، يونان ومسلمين. ويبدو أن ابن رشد راح ضحية نظرية المطابقة، إن الشرح مطابق للنص، وهو ما حاول ابن رشد القيام به في حين أن الشرح قراءة للنص، وليس تكرارا له. ومن ثم يكون ابن رشد في نفس الوقت الذي حاول فيه إحياء العقلانية أصبح ضحية الحرفية. وبها يكون ابن رشد الذي كان أحد أسباب النهضة الأوربية الحديثة بداية جديدة لنهاية الفترة الأولى للحضارة الإسلامية التي بدأت بالغزالي، واستمرت عند ابن رشد، وأرخ لها ابن خلدون.
33
وقد ذكر ابن رشد ابن سينا ناقدا له في تقديمه الجدل على صناعة البرهان. ولم يصب ابن سينا مرة واحدة بل أخطأ على طول الخط، وليس له أجر الاجتهاد حتى ولو أخطأ. في حين أن الفارابي يصيب مرة ويخطئ مرات. لقد أخطأ ابن سينا في تقديم الجدل على صناعة البرهان بينما أصاب الفارابي. والحقيقة أنه لا مجال للخطأ والصواب في القراءات المتعددة. وليس أرسطو هو معيار الصواب والخطأ بل إعادة بنائه طبقا لعصر مختلف وأغراض متباينة. يجعل الفارابي البرهان قمة المنطق، والمقولات والعبارة والقياس مقدمة له واقتراب منه، والجدل والسفسطة والخطابة والشعر ابتعاد عنه. في حين يرى ابن سينا أن الجدل هو غياب البرهان أو استعماله في غير البرهان؛ ومن ثم يكون سابقا عليه وهما قراءتان مختلفتان. فإذ تبنى ابن رشد قراءة الفارابي وهي مقبولة فإن ذلك لا يعني أن قراءة ابن سينا خاطئة. والحد ليس علة، وجود الأعظم في الأصغر كما يقول ابن سينا، ولا علة لوجود الأصغر كما يقول الفارابي الذي يجوزه في البراهين المطلقة التي تفيد السبب والوجود معا. خطأ ابن سينا في أنه جعل العلل بالأعراض عللا. فقد يتفق أن يكون الحد الأوسط معلولا عن الطرف الأكبر ولكن لا يمكن للحد الأوسط في البرهان أن يكون سببا لوجود الأكبر في الأصغر إلا بسبب يلزم أن يكون وجود أحدهما سببا في وجود الآخر.
34
كما أشكل الأمر على ابن سينا في ربطه بين العلمين الطبيعي والإلهي واعتماد الطبيعي على الإلهي في حين يرى ابن رشد اعتماد الإلهي على الطبيعي كما هو معروف في الأدلة على وجود المحرك الأول. وقد أثبت ابن رشد في دراسة منفصلة خطأ اعتماد العلم الإلهي على نفسه، وهوة الطريق الكلي لإثبات المبدأ الأول. هنا يبدو ابن سينا أكثر مبدئية من ابن رشد لأن العلم الإلهي قائم بذاته والطبيعي مستمد منه وقائم عليه في حين تبدو «طبيعية» ابن رشد عندما يجعل العلم الإلهي قائما على الطبيعي ومستمدا منه. والحقيقة أن كليهما صحيح. فالطبيعيات بلغة العصر إلهيات مقلوبة إلى أسفل كما يريد ابن رشد والإلهيات طبيعيات مدفوعة إلى أعلى كما يريد ابن سينا. فابن سينا في رأي ابن رشد شأنه دائما قلة تثبته في حكمه على الأشياء.
35
كما أخطأ ابن سينا في إنكاره برهان الوجود وزعمه أنه غير صحيح. فالبراهين ثلاثة أقسام. معروفة بنفسها مثل برهان الوجود الذي ينكره ابن سينا، وبرهان السبب، والبرهان المطلق. ينكر ابن سينا البرهان المعروف بنفسه ظنا أنه يقوم على العرض الذاتي للموضوع من قبل سببه ومن ثم لا يفيد يقينا، فلا فرق بينه وبين المقدمات الاستقرائية التي تستوفي جميع أنواع الموضوع دون أن يشعر الذهن بالنسبة الذاتية بينها، وهنا يبدو ابن سينا أكثر ميتافيزيقية من ابن رشد، وابن رشد أكثر واقعية من ابن سينا. فبرهان الوجود عند ابن سينا ليس برهانا لأنه لا يستند إلى الفكر في حين أنه عند ابن رشد برهان لأنه يستند إلى الواقع، فنقد ابن سينا لبرهان الوجود مثل نقد ابن تيمية للحد أنه لا يفيد البرهان. ويرجع خطأ ابن سينا إلى خلطه بين اليقين كفعل من أفعال الشعور والذاتيات العرضية أي علاقة الشعور بالوجود، مثل يقين التواتر الذي لا يعتمد على العدد المحدد بل على العدد الذي به يحصل اليقين. وإذا شك ابن سينا في سلب شيء من شيء دون وسط يقوم ابن رشد بحل هذا الشك بضرورة وجود وسط غير معروف، وهو إشكال التوسط في المنطق وفي الميتافيزيقا على حد سواء.
36
وقد ذكر ابن رشد ابن باجه وهو حلقة الوصل بينه وبين الفارابي، فقد كان ابن باجه هو القاضي قبل ابن رشد. قارن بين قصدي أرسطو والفارابي. وحاول الجمع بينهما من جهة أن قصد أرسطو الحدود بالقوة وقصد الفارابي البرهان بإطلاق. وهذا هو السبب في الخلاف بينهما في الشرط. ويعود ابن رشد إلى ما قاله ابن باجه مع مفهومي الضرورة والأفضل. فأرسطو عرف الأفضل وسكت عن الضرورة. والفارابي عرف الضرورة وسكت عن الأفضل. وكل منهما يكمل الآخر مثل الفارابي في جمعه بين رأيي الحكيمين. ومع ذلك تطور ابن رشد، وانتقل من الجمع بين رأيي الحكيمين إلى تبني رأي أرسطو ضد الفارابي، كان ابن رشد حكيما فأصبح عالما، كان مبدعا فأصبح ناقلا. كان مؤولا فأصبح ظاهريا. كان فيلسوفا فأصبح فقيها، كان معتزليا فأصبح أشعريا. وكان حنفيا فأصبح حنبليا.
37
وقد ذكر ابن رشد «المتكلمين من أهل ملتنا» بمناسبة نقد العقل الصوري وعدم حاجته إلى الحس وهما بأن المتقدمين الأوائل قد انتهوا إلى ذلك مع أنهم كانوا يعتقدون أن الحس هو العقل، وأنه لا فرق بين الإدراك الحسي والرؤية العقلية. ويعرض ابن رشد لعلاقة العلم الطبيعي بالعلم الإلهي، العلم الطبيعي جزئي والإلهي كلي. والأمور المفارقة يتسلمها العلم الإلهي من العلم الطبيعي وعددها من العلم التعاليمي. فالعلوم تندرج بعضها تحت بعض، من الخاص إلى العام. وقد أشكل الأمر على ابن سينا عندما ظن أن صاحب العلم الطبيعي يأخذ من الإلهي المادة الأولى والمبدأ الأول. فابن سينا يؤسس العلم الطبيعي على الإلهي كفيلسوف إشراقي يعطي الأولوية للتوحيد. وابن رشد يؤسس الإلهي على الطبيعي كما هو الحال عند المتكلمين في دليل الحدوث بالرغم من نقد ابن رشد له ولهم، والتعاليمي وسط بين العلمين، وقد كتب ابن رشد في ذلك مقالا منفردا يرد فيه على خطأ ابن سينا واستحالة إثبات وجود المبدأ الأول من صاحب العلم الإلهي، فابن رشد مع أرسطو في البداية بالطبيعة، وابن سينا إشراقي يبدأ من الله. يبدأ ابن رشد وأرسطو من العالم إلى الله صعودا وابن سينا من الله إلى العالم نزولا. هناك تعادل بين الطبيعيات والرياضيات والإلهيات؛ فالطبيعي يعطي الرياضي أن هناك موجودات مفارقة، والرياضي يعدها، والإلهي ينظر في جواهرها. الإلهيات إذن نهاية الطبيعيات ومرجعها. والسؤال الغائب هو هل هناك تعاون بين المنطق من ناحية وبين الطبيعيات والإلهيات من ناحية أخرى؟ هل هناك أصل وفرع بين المنطق من ناحية والطبيعيات والإلهيات من ناحية أخرى؟ هل العقل والطبيعة ذوا بناء واحد يسقط على الله ويرمز له به؟
38
ويأخذ ابن رشد المناظرات الفقهية كنموذج على الخصومات أي المخاطبة التي تكون بالمنطق إلى ما لانهاية؛ لذلك وضع الفقهاء ثوابت محددة للمعاندات لا يتجاوزونها بينما وضع اليونان ماء جاريا تنقضي الخصومات بانقضائها. وقد وضعت الآجال في الأحكام لهذا المعنى. فالعلوم الإسلامية أحد مواطن التعشيق بين الوافد والموروث، بين عندنا وعندهم.
39
وتظهر العبارات الدينية في أول الشرح وآخره، البسملات والحمدلات والصلوات على جميع الأنبياء سواء من المؤلف أو الناسخ أو القارئ أو المالك. وقد تظهر البسملة والحمدلة في بداية ونهاية كل مقال. ويطلب الناسخ للمؤلف الرضوان من الله مستعينا بالله عز وجل وسائلا التوفيق والتسديد. كما تظهر عبارات المشيئة الإلهية مثل «إن شاء الله». ولا تظهر نصوص قرآنية كما ظهرت في جوامع ما بعد الطبيعة باستثناء «اللهم» كأسلوب عربي. كما تدل الخواتيم على الحالة العامة للناسخ حالته النفسية وموقعه الجغرافي؛ إذ لا يكفي الناسخ بالتدخل لتقطيع الكلام وبدئه بقال الفقيه الأجل كأنه يتعامل مع نص مغاير، واضعا نص ابن رشد بين قوسين بل إنه يسمي نفسه ويدعو لنفسه بالفك من الأسر؛ فقد كان يشغل وقته بالعلم وهو أسير في أيدي العدو الخارجي أو الأمير الداخلي، وتنتهي الخاتمة بالملكية الشرعية للكتاب لأسرة يهودية إسبانية بدليل أن ابن رشد نفسه يقص طرفا من حياته، فلا فرق بين السيرة الذاتية وعلمها.
40
سادسا: تفسير ما بعد الطبيعة (ابن رشد)
(1) النص والترجمة
هو شرح أي من النوع الأول بالرغم من استعمال ابن رشد لفظ «تفسير» ربما تأثرا بمصطلح الموروث، علوم التفسير خاصة، وأنها تتبع نفس القاعدة، الفصل بين النص المفسر وهو القرآن والنص الشارح وهو التفسير، وهو إقرار لما ينبغي أن يكون عليه المعنى طبقا لبنية العقل وروح المذهب أكثر منه طبقا للنص المترجم.
1
وقد يكون الشرح توضيحا لسؤال على نحو موضوعي إخباري وليس بالضرورة تأويلا وقراءة وإعادة صياغة. ويذكر أرسطو بطريقتين؛ أرسطو وأرسطاطاليس على التبادل. وربما يكون الخلاف في الشكل من الناسخ مما يدل على عدم استقرار الترجمة بالنسبة إلى الأعلام. وربما يرجع الخلاف لتصور الزائد أداة رفع تحذف حين الترجمة، ولكن ما زال أرسطوطاليس هو الشكل الغالب.
والترجمة العربية القديمة مفقودة. ولا يوجد منها إلا ما نقله ابن رشد في تفسيره فصلا بين النص المشروح والنص الشارح. كل فقرة تبدأ ب «قال» أو «يقول». ويذكر ابن رشد ترجمة إسحق. وربما من الناسخ. وربما كان لدى ابن رشد أكثر من ترجمة، منها ترجمة إسحق؛ لذلك حرص على الإحالة إلى واحدة توخيا للدقة في تحديد النص المشروح. ويشير إلى نسخ أخرى لنفس الترجمة أو لترجمات عربية أخرى. فهل كانت لديه نسخ من نفس الترجمة أم من ترجمات أخرى؟ ربما هو مجرد افتراض عقلي يساعد على فهم سبب اختلاف الشراح في المنهج إذا استحال حل الإشكال عن طريق الفهم الخالص والتأويل. فقد يرجع اختلاف المعنى إلى اختلاف الترجمات. وقد يكون الوضوح معنويا في الفكرة وليس كذلك في القراءة أو في القراءة وليس كذلك في الفكرة. كما يشير ابن رشد إلى نظيف بن أعين. فهل هو مترجم أو ناسخ أم مصحح؟ ويبين أن سبب سوء الفهم إنما يرجع إلى نقص في الترجمة عندما يجد أرسطو يعدد المقالات ويذكرها إلا البعض منها أو أنه يعد بذكر شيء ولا يذكره نسيانا أو خطأ. وكيف ينسى الحكيم؟ الاحتمال الأقرب هو نقص الترجمة سواء من الناسخ أو انخرامها بسبب التآكل والبلى أو محو الخطوط بفعل الزمن. وبروح الأمانة العلمية إذا ما استعصى على ابن رشد اختيار إحدى الترجمتين يذكرهما معا بالرغم من صعوبة فهم الترجمتين. وأحيانا يصحح الترجمة أو النسخة بفهمه للنص ويقترح زيادة أو نقصانا عليها حتى يصحح المعنى، وهو ما يعادل النقل المعنوي عند الأصوليين والمحدثين. بل يشعر ابن رشد بكمال النص وتمامه إذا ما أفاد المعنى.
2
ويستعمل ابن رشد الترجمة والنسخة على التبادل دون تمييز دقيق بينهما. فالترجمة من بين ترجمات عديدة، والنسخ من ترجمة واحدة. ويذكر اسم المترجم إسحق وترجمة أخرى مخالفة فيها قول زائد يذكره من أوله إلى آخره حتى يشرح نص أرسطو بالكامل. وقد طبعت هذه الزيادة بخط صغير على هامش أعلى يمين الصفحة. قد تكون من ابن رشد أو من الناسخ أو من المصحح والمراجع.
3
ويوحي بالنقص عدم اتصال الكلام أو وجود بياض بالنسخة ومحاولة إكماله من نسخة أخرى. يشعر ابن رشد بنقص الوثيقة التاريخية فكريا وبضرورة إكمالها. يتعامل تاريخيا مع النص فإن استعصى أكمله بالفكر. اتصال الكلام إذن هو السبيل لاتصال النص، وهذه المشكلة، تعدد النسخ، موجودة في النص اليوناني نفسه، يشير إليها الإسكندر. وربما عذر ذلك المترجم العربي. ويعارض ابن رشد حكم الإسكندر في المقارنة بين النسخ إذ يعتبر الإسكندر أن النسخة الأولى الأجود طبقا للشكل بينما يعتبر ابن رشد أن النسخة الثانية أجود طبقا لمضمون النسخة وغرض المقال. فالفكر أحد مصادر التوثيق. كما يراجع النص المختلط بكلام الإسكندر مفرقا بين النص والشرح ومراجعة النص على ترجمة أخرى للإيقان وكأننا في موضوع التعارض والتراجيح في علم الأصول. ويذكر اختلافات النص اليوناني، فهل راجع على الأصل اليوناني؟ وهل كان يعرف اليونانية؟ وهي الرومية أم أن هذه المعلومات من الترجمة العربية ونسخها المختلفة.
4
النص إذن وثيقة تاريخية. ومهمة ابن رشد ليست فقط شرحها بل ضبط صحتها وكأننا في القرآن في النقل الكتابي أو مع الحديث في النقل الشفاهي في حضارة أهم ما يميزها إبداع وجوه النقل. كيف إذن تخلط هذه الحضارة بين أرسطو وأفلوطين خلطا تاريخيا بين النصوص وليس إكمالا ذهنيا للمذهب؟ إن مهمة ابن رشد هي التعرف على الخلط بين النصوص من أجل التمييز بينها. ويشعر في كثير من الأحيان أن بعض النصوص المنسوبة إلى أرسطو ليست له حرصا على النسبة الصحيحة للنصوص إلى مؤلفيها. وهذا هو الذي أدى به إلى اكتشاف أن أثولوجيا أرسطوطاليس ليست له لاختلاف روحها عن روح نصوص أرسطو الصحيحة بل للشيخ اليوناني أفلوطين قبل الاستشراق الغربي الذي استأثر بالنقد التاريخي للنصوص في عصوره الحديثة استيعابا لاجتهادات القدماء.
5
والطبعة الحالية للتفسير طبعة علمية موثقة بطريق الاستشراق لخدمته مع إحالات إلى اللاتينية والعبرية وكأنها الأصل والترجمة العربية هي الفرع مع رصد أكبر قدر ممكن من الاختلافات بين المخطوطات بلا دلالات تذكر ودون ضبط لأسماء الأعلام أو تصحيح نطقها أو التعريف بها مع اعتماد على الطبعة اليونانية الحديثة للنص اليوناني (بيكر) وطبع الكتاب من اليسار إلى اليمين أسوة باللغات الأجنبية مع خط نسخ عربي لتحديد بداية النص الشارح والمشروح بالرغم من أن «قال أرسطو» تبدو مرة يمينا ومرة يسارا أسوة بطبعات النصوص المقدسة، وأحيانا تطبع بعض العبارات بالرقعة؛ لأنها ربما بلون آخر في المخطوط، والعناوين الإضافية بين قوسين من الناشر فلم يعرف القدماء ذلك. ويوضع أحيانا الجهاز النقدي وسط الصفحة.
6
والتفسير مقسم إلى مقالات مثل نص أرسطو، وليس لكل مقال وحدته كما هو الحال في كتب المنطق والطبيعة؛ لذلك ضمت أفعال القول فيها مرة واحدة مع منطق الاستدلال والوافد والموروث وكأن كتاب ما بعد الطبيعة كتاب واحد غير منقسم إلى مقالات وإلا تحول إلى إحدى عشرة مقالة. ولما كان الكتاب مقسما طبقا للحروف اليونانية حاولت الترجمة إيجاد ما يقابلها في الحروف العربية مع تردد بين الحروف والأعداد لدرجة وقوع عدم تطابق بين نظام الحروف والنظام العددي، مع حذف مقالات الميم والنون والكاف طبقا للإسكندر. ويصعب تقابل الحروف بين اللغتين العربية واليونانية للتردد بين الترتيب والصوت.
ويصعب تطبيق تحليل النص على نحو دقيق خاصة فيما يتعلق بأسماء الأعلام الموجودة أو الغائبة بين النص والشرح في كل الكتاب بل في كل فقرة. فالنص الشارح قد يزيد أسماء أعلام ليست في النص المشروح، وقد يسقط أسماء أخرى في النص المشروح طبقا لجدل العموم والخصوص.
ويشير ابن رشد إلى مضمون المقالات المحذوفة، والثانية عشرة والثالثة عشرة وكأنهما موجودتان مع فحص مضمونهما مثل الأشياء التي قالها القدماء في طبائع الجواهر.
7
الحروف اليونانية
عناوين ابن رشد
المحذوف
1
α
الألف الصغرى
2
A
الألف الكبرى
3
B
الباء
4
Γ
الجيم
5
Δ
الدال
6
E
الهاء
7
Z
الزاي
8
H
الحاء
9
θ
الطاء
10
I
الياء
Λ
اللام
11
K
12
13
M
14
N
ومع ذلك ظل عنوان الكتاب هو «ما بعد الطبيعة» وليس «الإلهيات» حرصا على دقة الترجمة ودون إيحاء لفظ آخر بمضمون لا يوحي به اللفظ الأول.
ويحتوي الشرح على إحدى عشرة مقالة كل منها المرسومة من الرسم أو الموسومة من الاسم بالحرف اليوناني منقولا إلى العربية على النحو الآتي: (1)
الألف الصغرى: وهنا يعادل الشرح النص. (2)
الألف الكبرى: مع ذكر نظيف بن أعين، مترجما أو مصححا أو ناسخا. وهي مقالة تاريخية لأرسطو مؤرخا للفلسفة اليونانية، وابن رشد مؤرخا للفلسفة الإسلامية، وغابت الدلالة الداخلية بعد أن كانت قوية في البداية في الألف الصغرى. (3)
الباء: ليس لها أية دلالة داخلية كما كانت الألف الصغرى أو قوية ثم ضعفت كما كانت الألف الكبرى. ما زال الشرح مجرد عرض تاريخي دون نقل حضاري. (4)
الجيم: وهي أقرب إلى العرض التحليلي لا وافدة ولا منقولة من الموروث. مجرد تمرين وتداخل بين لغة المنطق والمعرفة، وهي لغة ما بعد الطبيعة. تظل الدلالة غائبة بالرغم من إمكانية دلالة أكثر في ما بعد الطبيعة عن المنطق والطبيعة. والدلالة الأكبر في النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة أي في الميدان الإنساني الذي اختار الوحي مخاطبته. دلالتها يمكن إيجادها عن طريق المنطق وتحليل القضايا التي يكون فيها الله موضوعا. وتسمى إلهيات نظرا لصلة العاشق بالمعشوق، الوافد بالموروث. وربما كان غياب الدلالة في نص أرسطو ذاته.
8
فالعقل والطبيعة ما زالا يترددان دون أن يضيف إليهما ابن رشد الوحي حتى تنبثق الدلالة. (5)
الدال: بالرغم من تقطيع النص في موضوعات فرعية إلا أن الدلالة ما زالت غائبة. ولا يوجد مسار فكري، وأقرب إلى الشرح بمعنى القول الشارح لفظا بلفظ، وعبارة بعبارة، مثل شروح القرون المتأخرة في عصر الشروح والملخصات؛ لذلك ظل عقليا صرفا، سطحيا طوليا. النقل الحضاري فيه قليل باستثناء بعض النقل اللغوي، ربما لأن الموضوع لا يتحمل إلا ذلك. (6)
الهاء: مقالة صغيرة، وافدها قليل وموروثها غائب. ليس بها أي شيء دال في أي اتجاه، موضوعها الرئيسي صلة العلمين الطبيعي وما بعد الطبيعي (التعاليمي)، وأن الطبيعي نظر وعمل (صناعة)، وموضوع الهوية المطلقة. (7)
الزاي: وهي تفسير المقالة السابعة دون ذكر اسم الزاي وكأن العلم يبدأ من هنا، والمقالات الست السابقة كانت مجرد مقدمات لغوية منطقية.
9
وما زال التركيب على الوافد وعلى الموروث قليلا. وتظل المقالة تحليلا عقليا مجردا خالصا بلا دلالة حضارية كبيرة باستثناء تأويل موضوع تقدمه المعرفة عند اليونان والذي ألف فيه الكندي رسالته. ويمكن تعشيق الموضوع في النبوة والكهانة والعرافة وقراءة المستقبل في الحضارة الإسلامية. (8)
الحاء: وهي مقالة النقل على الداخل فيها قليل بالرغم من إمكانيات ذلك. (9)
التاسعة: وليس لها اسم حرف «الطاء»، وهي مقالة غير دالة على الوافد ولا على الموروث. (10)
العاشرة: وليس لها اسم حرف «الياء» وهي مقالة تحيل أرسطو إلى نفسه في نصه، تفسر أرسطو بأرسطو دون دلالة كبيرة على الوافد أو الموروث. (11)
اللام وهي أطول المقالات وأغناها وأدلها. وتبدو المقالات العشر السابقة مجرد مقدمات لها مثل كل كتب المنطق السابقة على البرهان مقدمات له.
فاللام برهان الميتافيزيقا كما أن البرهان لام المنطق، وبالنسبة للطبيعيات البداية بالسماع الطبيعي والنهاية بالنفس كوسيط بين الطبيعيات والإلهيات. ويفسر ابن رشد الجزء بالكل، ويعود على بدء بالرجوع إلى المقالات العشر الأولى كلها. ومثل الفارابي يحدد غرض أرسطو فيما بعد الطبيعة. مقالة مقالة، في عرض سهل واضح، ورؤية شاملة واحدة. نصوصها قصيرة نظرا لأن النص كله دال. فقد غابت معظم الدلالات في المقالات العشر الأولى وتم اختزانها حتى صبت كلها في المقالة الأخيرة، يصبح النص دالا كلما اقترب من البؤرة (الله)، مركز الحضارة الجديدة ومقصدها الأول. وهي قصيرة حتى يسهل قضمها ومضغها وابتلاعها خاصة وأنها دسمة الدلالات. عيبها فقط الدخول في موضوع الأفلاك، نقطة الضعف في إلهيات الحكماء. تظهر الدلالة باستمرار نظرا لكثرة التداخل بين الوافد والموروث، بين العاشق والمعشوق في وحدات صغيرة حتى يسهل إعادة بنائها هضما وتمثلا وإخراجا، وأحيانا يصل تقطيع النص إلى عبارة واحدة. ومع ذلك تظل المقالة أقل نقلا على الداخل نظرا لحضور الوافد وتصدره على الموروث. ونظرا لدلالتها الواضحة سمي العلم كله «ما بعد الطبيعة» و«الإلهيات» من إخوان الصفا وابن سينا مع أن موضوعها ليس الله بل الطبيعيات المثالية المجردة، وبداية تدخل الإنسانيات في قياس الغائب على الشاهد أو بداية الإشراقيات في نظرية الاتصال، وبداية الاغتراب في الإلهيات عن الطبيعيات والمنطق.
ويستعمل ابن رشد تعبير هذا الرجل إشارة إلى ثامسطيوس. وهو نفس التعبير الذي يخصه ابن رشد لابن سينا تقليلا من شأنه. ويطلق أيضا على انقسمندروس. وإذا اختلف الإسكندر وثامسطيوس فإن الإسكندر على حق، السابق في الزمان أو الأكثر موضوعية في أرسطو والأقل أفلاطونية، والأكثر عقلانية ونزاهة وحيادا. وإذا اختلف الإسكندر وأرسطو فأرسطو على حق طبقا لمنهج الأصوليين في التعارض والتراجيح، والأولوية للنص المتقدم في الزمان على ما هو معروف في الناسخ والمنسوخ. وكلما كثر الشراح اليونان كثر تداخل ابن رشد وأصبح النص منفتحا على الخارج. ويمكن دراسة مقالة اللام عرضيا ابتداء من نص أرسطو وشرح الإسكندر وشرح ثامسطيوس ثم شرح ابن رشد في دائرة اليونان. ويمكن أيضا دراسته مع شرح يحيى النحوي وابن سينا وابن رشد في دائرة المسلمين على النحو الآتي:
فابن رشد هو القاسم المشترك بين الدائرتين اليونانية والإسلامية. هو الذي يجمع بين الشراح اليونان والشراح المسلمين.
10
والسؤال الآن؟ لم بدأ ابن رشد بشرح الإسكندر وليس بنص أرسطو، بأرسطو مشروحا من خلال الإسكندر؟ يشرح ابن رشد شرح الإسكندر لأرسطو مما يزيد الشرح صعوبة. فقد أصبح على مستويات ثلاثة وليس فقد على مستويين. فإذا كان الباحث الآن على مستوى رابع وكان الواقع في العالم الخارجي على مستوى خامس تعددت المستويات للرؤية، واختلفت بين التكبير والتصغير وكأننا في علم الهارموني بتداخل الأصوات في اللحن الواحد. فهل كان للإسكندر كل هذا الحضور الشارح؟ ولماذا الإسكندر بالذات وليس ثامسطيوس؟ هل لأنه أكثر موضوعية أو إلهية أو أقرب إلى أرسطو في التاريخ من ثامسطيوس؟ (القرن الثاني في مقابل القرن الرابع الميلادي). ولماذا هذا المقال بالذات بتوسط الشراح اليونان دون شرح مباشر لأرسطو؟ هل لأن اللام تتعلق بالإلهيات؟ ولم الاعتماد على اليوناني؟ هل لأهميته أو لعدم الثقة بالنفس أم للتخفي وراءه أم لحضوره التاريخي الذي يكاد يعطي نص أرسطو الأصلي كما يحدث في كثير من الحضارات النصية؟
11
وهل هو نص الإسكندر حرفيا أم قراءة ابن رشد له؟ ألم يكن باستطاعة ابن رشد الدخول مباشرة في شرح أرسطو دون توسط الإسكندر؟ هل قام بذلك تقية أم احتراما للشراح؟ وهل في نص أرسطو ما يخشى منه، ألغام يتجنب ابن رشد السير عليها؟ وأخيرا لماذا بدأ ابن رشد هذه المرة بالشراح دون النص الأرسطي مباشرة في حضارة نصية تعطي الأولوية للظاهر على المؤول؟ وإذا كانت مهمة ابن رشد تخليص أرسطو من براثن الشراح فكيف هذه المرة يضع نفسه في هذه البراثن؟ في النهاية ابن رشد هو القاضي الحصيف ويقوم الإسكندر بدور المحضر. يصحح الوقائع ثم في النهاية يصدر الحكم.
وبتحليل أفعال القول في المقالات الإحدى عشرة كلها يمكن الانتهاء إلى النتائج الآتية: (1)
فعل «يريد » هو الذي له الصدارة في المقالات كلها أي أن ابن رشد يتعامل مع نص أرسطو تعاملا إراديا، يريد أن يعرف ماذا يريد أرسطو أي قصده وغايته. فالمعرفة فعل من أفعال الإرادة. المعنى هو إرادة المعنى وليس القول. والإرادة قصد وغاية وغرض.
12
وأحيانا أراد في الماضي وهو الأقل. (2)
فعل «القول» كاسم قبل الفعل أي مع التصورات والصياغات والموضوعات وليس مع الأقوال والعبارات والألفاظ.
13 (3)
فعل «قال» أرسطو أو «قال» فقط دون أرسطو. وأحيانا يكون القول مستقلا عن الضمير «قوله» مما يدل على استقلال القولين عن القائل.
14
واعتبار تراث أرسطو تراثا فلسفيا ماضيا. (4) «يقول» في المضارع تدل على الحقيقة أكثر مما تدل على الماضي، على البنية وليس على التاريخ. وتشير إلى الحقائق المستقلة عن أرسطو التي يدركها العقل العام بصرف النظر عن الوعي التاريخي لحضارة بعينها.
15 (5) «يعني» تدل على التوجه نحو المعنى وليس اللغة، على الفكر وليس اللغة أو «أي» وتعني إعادة صياغة عبارة أرسطو بطريقة أوضح.
16 (6)
أدوات الشرط مثل إن، إذا، أسلوب إسلامي يضع احتمالات متعددة للمعنى، ويتخيل مسبقا الاعتراض والرد عليه.
17
أما الأفعال في الحادية عشرة فإنها أكثر تفصيلا؛ إذ لا يتجاوز فعل القول ومشتقاته ثلثي الفقرات بالرغم من كثرة مشتقات القول إلى أكثر من ثلاثين شكلا، مجموعها يقارب الألفين. في حين تتجاوز أفعال الشعور المعرفي مثل نظر، بين، فحص، سأل، تعلم، ظن أفعال القول. وتدل كثرة الجمل الاسمية على التوجه إلى الموضوعات مباشرة. كما تدل أفعال أخرى على الغرض والغاية والقصد وليس العبارة والقول، وتشير أفعال إلى مسار الفكر مثل ابتدأ، انتهى، فرغ، تم، انتقل، مما يدل على تتبع ابن رشد لمسار فكر أرسطو واستدلالاته. كما تدل على ذلك أفعال ابن رشد نفسه مثل فلنشرع، نجد، نفحص. وتظهر أدوات الشرط وحروف العطف والأفعال الناسخة وحروف الجر وواو القسم لتدل على ربط الفكر في وحدة عضوية ورؤية شاملة. وتشير أفعال الوجود مثل «ينبغي»، «يجب» على الشرح المعياري، سلبا أم إيجابا، وبيان الأخطاء، وإصدار الأحكام.
ويظهر التقابل بين الأنا والآخر في أفعال القول والتمايز بين المجتمعين مما يدل على وعي شديد بالفصل بين النص المشروح والنص الشارح. وتخلو بعض المقالات من أفعال القول مثل مقالة الهاء، وقد تظهر مرة في أول المقال مثل مقال الزاي.
وعلاقة النصين الكمية هي أن النص الشارح في المتوسط يعادل ثلاثة أضعاف النص المشروح. وذلك يدل على أن الشرح ليس مجرد شرح لفظي بل هو تناول الموضوع نفسه وإعادة دراسته بحيث يكون النص المشروح مجرد البداية التاريخية. تراث السابقين من أجل تطويره بعد مراجعته ثم الإضافة إليه. بين أعلى نسبة وهي السدس وأقلها وهي المساواة الكمية بين النصين لم يحدث في أية فقرة أو مقالة إن كان النص المشروح أكبر من النص الشارح لأنه في هذه الحالة يصبح تلخيصا لا شرحا. النص المشروح ما هو إلا بداية لتأليف غير مباشر. لا يوجد نص مشروح بلا نص شارح، ولا يوجد نص شارح بلا نص مشروح. وأعلى النسب بين المشروح والشارح 59 : 1 في مقالة اللام مما يدل على بزوغ التأليف المستقل، ويبدأ ابن رشد أحيانا بالشرح وليس بالنص، فالنص داخل الشرح كما أن الشرح داخل النص، وفي هذه الحالة يكون الشرح هو الأساس والنص هو الفرع. النص هو الذي يشرح الشرح وليس الشرح هو الذي يشرح النص. وهذا التقطيع لنص أرسطو أشبه بعملية المونتاج حيث يقول «المونتير» ما يشاء بصرف النظر عن القصة والسيناريو والمخرج والممثل بل والمشاهد أي الجمهور. فالمونتير هو الذي يجعل الفيلم يقول ما يشاء. فهو الموحي بالمعنى، والموجه للقصد.
18
ويهدف التفسير إلى البيان والإيضاح والقصد والعموم والمسار والاستدلال والتعليل. فالشرح هو وسيلة للإيضاح. وقد لا يكون الأمر في حاجة إلى إيضاح عندما يكون بينا بنفسه، مفهوما أو معروفا بذاته. وقد يكون المعلوم بنفسه باطلا ساقطا وليس بالضرورة صحيحا مقبولا.
19
ويزول الغموض بإزالة الشكوك كما هو واضح في المقالة الثالثة في توضيح الغموض والانتقال من الشك إلى اليقين.
20
فإن لم يكن الفكر واضحا وكان غامضا فإنه يكون في حاجة إلى بيان. وأفعال البيان هي أكثر الأفعال استعمالا في الشروح بل وفي التلاخيص والجوامع في الأزمنة الثلاثة مما يبين أن فعل البيان مستمر في مسار الفكر من السابق إلى اللاحق. وقد يكون البيان بالاستقراء أي بالإحصاء المعنوي حتى تصل القرائن إلى حد إعطاء اليقين وإن لم يكن إحصاء كاملا، وهو ما تم استعماله من قبل في السماع الطبيعي، فكما أن لأرسطو وحدة الموضوع فإن له أيضا وحدة المنهج الذي يكشفه ابن رشد في البيان. وهو استقراء أصولي عرضه ابن حزم قبله والشاطبي بعده.
21
وقد يكون البيان نظرية في الاستدلال في صيغة «لما تبين ... فإنه يتبين» وكأن البيان وضوح مثال من بيان إلى بيان، ومن وضوح إلى وضوح، من الفعل الماضي «كما بينا» إلى المضارع «يتبين» إلى المستقبل «سنبين».
22
والتوجه نحو المعنى هو توجه نحو القصد؛ فالمعنى قصد في شعور أرسطو. والقصد هو المعنى الكلي، هو حركة الشعور نحو الهدف النهائي. ليس المعنى تصورا منطقيا أو رمزا رياضيا بل هو «اتجاه الشعور نحو». لكل مقالة غاية وهدف وقصد، ويكون مجموع هذه المقاصد المقصد الكلي لكتاب ما بعد الطبيعة، ويحدد القصد الكلي العام للعلم المقاصد الجزئية لكل مقالة. فإذا كان القصد الكلي العلم النظري للحق المطلق فإنه في الألف الصغرى بداية تحقق هذا القصد بداية بالأمور العامة. بيان القصد هو جزء من البيان العام وفعل الإيضاح؛ لذلك يتم التعبير عن القصد بلفظ البيان. وقد يكون القصد هو إدخال الجزء في الكل، وتركيب الموضوع ولم أجزائه معا من السابق إلى اللاحق. ويتم الإعلان عن القصد في أول المقالة وفي آخرها، إعلانا لها في البداية وتحقيقا لها في النهاية. وترتبط المقاصد بعضها ببعض لتحقيق القصد الكلي للعلم. ثم يفصل الغرض بعد ذلك قصدا قصدا. والغرض في نص أرسطو، ويفتتح به المقال. ويدركه ابن رشد ويفتتح به شرحه من أجل تجميع العناصر كلها نحو القصد الأول. وقد يكون المقال متعدد المقاصد، القصد الأول والمقاصد الثواني، الهدف الرئيسي والأهداف الفرعية؛ وبالتالي يكون هدف الشرح إحضار الأجزاء إلى الكل الأول . وفي كل مقال ينبه ابن رشد على غرضه وغرض المقال السابق وغرض المقال اللاحق حتى تتسلسل الغايات والمقاصد نحو القصد الكلي. غرض مقالة بيان أن الفعل أفضل من القوة وهو موضوع المقالة. فلا فرق بين الغرض والموضوع. الموضوع في الخارج هو القصد في الشعور. وقد يكون غرض مقال آخر إبطال الأقاويل الجدلية في هذا العلم وإثبات تناقضها من أجل إفساح المجال للأقاويل البرهانية التي عليها وحدها يتأسس العلم. وكذلك التخلص من الأقاويل المتعارضة حتى يخلص العلم من وجهات النظر، عودا إلى الأشياء ذاتها المتفق عليها بين العلماء. وقد لا يظهر غرض بعض المقالات مثل مقالة الجيم لأنها ربط بين مقالين، تلحق بالغرض السابق أو اللاحق. في حين يظهر الغرض بوضوح في المقالة السابعة، مناقشة موضوع الصور المفارقة ومعركة أرسطو ضد أفلاطون ومع أرسطو ضد بدايات الاغتراب الديني، أزمة كل عصر، ومنفعتها من أجل تحرر الإنسان من أسر الطبيعة وضررها بعد تحقيق الغاية في التجرد والتكلس، ووظيفتها في إعادة التوازن إلى الشعور بين الواقع والمثال. وقد يكون الغرض تفصيل دلالة الأسماء على المعاني سواء كانت بالأفراد أو بالاشتراك على ما هو معروف في تحليل اللغة عند الأصوليين. وقد يكون التعبير عن القصد سلبا أي نفي القصد.
23
ويفسر ابن رشد الجزء بالكل. النص بالعلم، والعلم بالنسق كله. فالكل هو الذي يضبط معنى الجزء، فيتفادى التكرار، ويلم جوانب الموضوع، ويرى البناء أولا، يضع فيه مكوناته المختلفة التي تظهر عبر مقالات ما بعد الطبيعة المتتالية. وهذا هو الذي يفسر الإحالات إلى باقي العلمين الآخرين، المنطق والطبيعة أو إلى فروعهما كتابا كتابا في كل من العلمين. فمع التحليل يوجد التركيب، ومع العرض توجد البنية.
24
ويحيل ابن رشد العمل إلى نفسه، تفسير الكتاب بالكتاب كنوع من إحالة الجزء إلى الكل داخل علم ما بعد الطبيعة. فأرسطو يفسر نفسه بنفسه، وعلم ما بعد الطبيعة يفسر نفسه بنفسه، وكل مقالة تحيل إلى الأخرى وتقوم عليها. فالمقالات كلها مقالات تركيبية من العام إلى الخاص، ومن غير المفارق إلى المفارق ، ومن الكثرة إلى الوحدة، ومن القوة إلى الفعل، ومن الحركة إلى الثبات.
25
ويتحدد مسار الفكر بعدة أفعال مثل: شرع، أتى، أخذ، فرغ، انتهى، عاد. كما تظهر حروف العطف مثل «ثم» لتكشف عن استمرار الفكر في استدلالاته. وعندما يشعر ابن رشد بالاستطراد يعود إلى نقطته الأولى وإلى موضوعه الرئيسي بعد أن قام بتطهير مناطق أخرى من اللبس والغموض. ويسير ابن رشد مع مسار الفكر الأرسطي، بداية ووسطا ونهاية، ما تم وما يتم وما سيتم. أرسطو يعلن، وابن رشد يكشف مضمون الإعلان. ويحدد ابن رشد المسار الفكري للمقالات الأربعة عشر كلها. المقدمات العامة من الأولى حتى السادسة، والجواهر غير المفارقة في السابعة والثامنة، والقوة والفعل في الثامنة، والواحد والكثرة في العاشرة، والجواهر المفارقة في الحادية عشرة (اللام)، وأقوال القدماء في طبائع الجواهر المفارقة في الثانية عشرة والثالثة عشرة، رادا الاعتبار إلى مقالي الميم والنون، وقد تم حذفهما لأنهما يحتويان على أقوال القدماء في طبائع الجواهر المفارقة، من المترجم أو الشارح السابق وربما من الناسخ وليس من ابن رشد، وكأن التاريخ يأتي في البداية وليس في النهاية. كما تم رد الاعتبار إلى مقالة الكاف السابقة على اللام لابن رشد بعد المقالات الأربع عشرة كلها، بل ويقترح ترتيبا آخر للمقالات مثل أن تكون بداية المقالة السابقة بداية المقالة الأولى، يعيد بناء علم ما بعد الطبيعة من أسفل إلى أعلى، من الكثرة إلى الواحد، يتخللهما حركة القوة والفعل على النحو الآتي:
26
ويحدد ابن رشد الغرض من علم ما بعد الطبيعة ومنفعته وأقسامه ومرتبته ونسبته إلى باقي العلوم كما هو الحال في عرض العلوم الإسلامية وكما فعل الفارابي في تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة وهو ترتيب ضروري نافع في تناول هذا العلم. وذلك كله من أجل التركيز وحصر الأمور في عدد محدد من القضايا وتلك مهمة الجوامع.
27
ومن طرق الاستدلال العبارات التي تبدأ بتعبير «لما ... كان ...» أي وضع المقدمات ثم استخراج النتائج. بعد «لما» يأتي الفعل الأول يتلوه الفعل الثاني كما هو الحال في فعل الشرط وجواب الشرط . ومعظم أفعال الشرط مثل: أخذ، ذكر، أخبر، بين، قرر، وضع، كان، عرف، حكى، أتى، فحص، عدد، فرغ، استوفى، قال، خص، فصل، شرط، سأل، أبطل، قدم، رسم، حد. ومعظم جواب الشرط أخذ، قال، شبه، استنتج، بين، أراد، ذكر. وقد يتشابه الفعلان وقد يختلفان. وقد يتفق الزمان، وهو في الغالب الماضي، وقد يختلفان. وهو أسلوب حيثيات القاضي قبل إصدار الأحكام، ويصف ابن رشد أفعال الشعور المعرفي عند أرسطو، منطلقاته ونهاياته، مقدماته ونتائجه، ناظرا إليه من عل وليس من أسفل، من الداخل وليس من الخارج. لا يهم مضمون العبارة بل صورة الفكر الدالة على مساره.
28
وأحيانا يضع ابن رشد جملة اعتراضية من عنده داخل نص أرسطو حتى يبين مسار الفكر الأرسطي وتحولاته الرئيسية. ويقطع الشرح ويعود إلى عبارة أرسطو للاستشهاد بها. فبالرغم من أن الشرح مفصول عن النص إلا أن النص في صيغة عبارات تعاود الظهور في الشرح كما أن الشرح في صيغة عبارات قصيرة تعاود الظهور في النص. فالنص الأرسطي في النهاية ليس هو القرآن الكريم، ويتحدث ابن رشد عن أرسطو باعتباره شخصا ثالثا، مغايرا، موضوعا، آخر في مقابل الأنا أو الذات. هذا التقابل بين الأنا والآخر، بين الموروث والوافد هو الذي يجعل الشرح ممكنا، وضع الوافد في إطار الموروث، ورؤية الآخر في مرآة الأنا. ووظيفة هذه الصيغة للاستدلال ضم الأجزاء كلها في بؤرة واحدة، وتجميع أجزاء الفكر في استدلال واحد. ولا يقطع ابن رشد بشيء. ويظل في إطار منطق الاحتمال حتى لا يغلق الباب أمام غيره من الشراح. فهو يجتهد رأيه ولكن لا يقطع به على عكس باقي الشراح الذين يتعسفون مع نص أرسطو ويضبطونه على معتقداتهم السابقة. وقد يكون الاستدلال بالنفي. ويكون فعل الشرط منفيا ب «لم» فيكون الجواب منفيا كذلك. وأحيانا يكون الفعل منفيا والجواب مثبتا أو يكون الفعل مثبتا والجواب منفيا، بالإضافة إلى فعل الشرط المثبت والجواب المثبت، وهي الصيغة الأولى. فهذه أربعة احتمالات بين النفي والإثبات في أحكام الاستدلال. وأحيانا يكون الاستدلال بحروف العطف المنفصلة من أجل بيان الحلقة الثالثة في مسار الفكر ومنطق الاستدلال. وأحيانا تبدأ الجملة بالتقرير دون الشرط عندما يكون الموضوع واضحا بذاته. وقد يبدأ الاستدلال بالأسماء في جمل اسمية تعاملا مع الجواهر لا الأفعال. وقد تكون الأسماء أسماء جواهر أو أسماء إشارة. وأحيانا تكون وظيفة الاستدلال بيان العلة والسبب. فالفكر لا يحكمه فقط منطق الاتساق بل أيضا منطق التعليل. وقد لا تكون العلة في الواقع التجريبي بل علة الفكر. فالعلة عنصر الربط بين المقدمتين في القياس الصوري، وبين الأصل والفرع في القياس الشرعي، وبعد نهاية الاستدلال يصدر الحكم بالتناقض أو الخلف أو التعاند. وفي نفس الوقت الشرح أيضا نظرية فيما ينبغي أن يكون عليه الفكر، وطريقة صياغته ومنطق الاستدلال. فصحة المعنى ليست فقط مستقرأة من النص بل مضبوطة بالفعل؛ لذلك كثرت في الشرح عبارات «ينبغي أن ...».
29
وأخيرا، يطالب ابن رشد القراء بمراجعة شرحه وأحكامه حتى يتبين له صحة شروحه. فالتجربة المشتركة خير ضمان للموضوعية. وفي هذه الحالة يمكن إصدار الحكم والتقييم للشروح السابقة بناء على مراجعة الأجيال القادمة.
30 (2) الوافد
وبطبيعة الحال للوافد أولوية على الموروث من حيث الكم. فالشرح للوافد وما الموروث إلا الوعاء. الوافد هو المضمون، والموروث هو الصورة، وبمقارنة أعلام الوافد يتكاثر تردد الأسماء من النص إلى الشرح خاصة كبار الأعلام مثل أرسطو والإسكندر وأفلاطون وأحيانا سقراط، أعلام النص من الشرح لأنها أقل أهمية، بيئية خاصة، لا تفيد كثيرا في شرح المعنى. فالشرح هنا يقوم بوظيفة التلخيص في الأسماء الساقطة، وأحيانا يزيد الشرح أعلاما ليست في النص لوضع النص في إطار أعم في تاريخ الفلسفة اليونانية ابتداء من مقارنته مع غيره من الأعلام. ونادرا ما يتناقص تردد الاسم في الشرح عنه في النص إلا إذا كان مثلا يضرب، ففي هذه الحالة يقل ظهوره في الشرح مثل قلياس في الألف الكبرى. وهناك فرق بين ورود أسماء الأعلام داخل النص الشارح وورودها داخل النص المشروح. فالأول ذو دلالة أولى لأنه الوافد. في ذهن ابن رشد. بينما الثاني ذو دلالة ثانية لأنه من ذكر أرسطو، واختيار ابن رشد هذا النص دون غيره. قد تكون دلالته في تحليل النص اليوناني بقراءة داخل الحضارة اليونانية بقياس الوعي التاريخي عند فلاسفة اليونان، وتبدو أهميته أنبادقليس على أرسطو.
31
وبطبيعة الحال أن يغيب أرسطو من النص ويظهر في الشرح؛ لأن المؤلف لا يتحدث عن نفسه. وإذا ظهر فإنه من المترجم أو الناسخ. وقد تقل أسماء الأعلام للغاية مثل مقالة الهاء فلا يظهر إلا أفلاطون في النص يضاعف ثلاث مرات في الشرح وكأنه الموضوع قد بدأ في التحول من الأسماء المشخصة إلى الموضوع المستقل، خطوة نحو التأليف والإبداع، ومثل المقالة الثامنة مقالة الهاء التي تخلو كلية من أسماء الأعلام في النص أو الشرح. وتتطلب زيادة أعلام الشرح على النص معرفة وثيقة بتاريخ الفلسفة اليونانية حتى يمكن وضع الجزء في إطار الكل.
وواضح طغيان شخصية الإسكندر أيضا في الشرح حتى ولو لم يرد في النص مما يدل على أهمية شروح الإسكندر وصورته في الوعي الجمعي حتى في هذا العصر المتأخر عند ابن رشد. فالإسكندر هو أعلى الأسماء ترددا على الإطلاق في النص أو الشرح. ويظهر المترجمون والشراح المسلمون مثل يحيى بن عدي ويحيى النحوي.
32
وإذا كانت ميزة هذا الرصد الكمي هو معرفة وضع أسماء الأعلام وزيادة نسبتها بين النص والشرح فإن عيبه هو تقطيع الموضوع الواحد وضياع وحدته وبالتالي الاكتشاف بالشكل دون الدخول في المضمون. والحقيقة أن هذا التحليل الكمي إنما يهدف لمعرفة آليات الشرح وليس مضمون النص الذي هو موضوع المجلد الثالث «الإبداع». (أ) أرسطو
وبطبيعة الحال يأتي أرسطو في مقدمة الوافد كله، ولا يشرح ابن رشد أرسطو فحسب ولكنه يعترف له بحقه، ويوجب له الشكر لنفسه وللجميع كما شكر أرسطو القدماء مع قلة ما كان عند القدماء من معرفة الحق، وعظم ما أتى به أرسطو من الحق من بعدهم، وانفرد به عنهم حتى كمل عنده. ويتم شكر أرسطو عن طريق العناية بأقاويله وشرحها وإيضاحها لجميع الناس. لقد بدأت الفلسفة بالكندي في رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى معترفا للقدماء بمساهمتهم في الحق، وانتهت بوجوب شكر القدماء في حضارة تقوم على الموروث وفي بؤرته الوحي، ومن يدري فربما كان أرسطو وأفلاطون وسقراط أنبياء أرسلهم الله لبني يونان
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ،
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ،
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه . والقرآن لم يتحدث إلا عن أنبياء بني إسرائيل المعروفين لدى العرب في شبه الجزيرة العربية.
33
وبتواضع جم يعتذر ابن رشد عما يكون في شرحه من تقصير كما اعتذر أرسطو من قبل في آخر كتاب السفسطة من أنه لم يتقدمه أحد للاستعانة به إذ إنه أول من تكلم في الموضوع. وهو نفس موقف ابن رشد إذ لم يعثر على أحد قبله تكلم في الموضوع باستثناء شرح الإسكندر لمقالة اللام وتلخيص ثامسطيوس لها على الرغم من الخلاف بين الشارحين مما يجعل الأمور أكثر صعوبة لابن رشد لأنه لا بد له من تخليص شرح الإسكندر الأرسطي من تلخيص ثامسطيوس الأفلاطوني. هناك إحساس بالجدة والإبداع عند أرسطو وفي نفس الوقت إحساس بالوعي التاريخي في تأليفه ما بعد الطبيعة. وعند ابن رشد إحساس مشابه بالجدة مزدوج في التفسير وبالوعي التاريخي في آن واحد؛ إذ لم يجد له من سبق إلا الإسكندر في شرحه اللام وتلخيص ثامسطيوس.
34
إلى هذا الحد يوحد ابن رشد بينه وبين أرسطو.
ويرجع ابن رشد موضوعات أرسطو إلى المنهج، والمنهج هو أنواع الأقاويل أي صيغ الخطاب. فالفكر لغة. والتصديق قضية. وهكذا فعل أرسطو مع القدماء. فقد كانت عادته في جميع العلوم توضيح الغموض عن طريق التمييز بين الأقاويل لتوضيح ما فيها من أقاويل مشككة عن طريق تحويلها إلى أقاويل جدلية لمعرفة اختلافات الشراح، ثم يأتي ابن رشد وينقلها إلى أقاويل برهانية لمعرفة الحق ذاته؛ لذلك فإن ابن رشد على علم دقيق بمواضع الكلام في مؤلفات أرسطو وكأنه مكتبة متنقلة وليس فقط على علم بالكلام بل أين يوجد، في أي كتاب وفي أي مقال من الكتاب دون القطع بذلك. كما أنه حريص على عدم الجزم بصحة نسبة كل الأعمال المنسوبة إلى أرسطو ويسميها باستمرار «المنسوبة» احترازا من الخطأ.
35
وبالرغم من هذا الاحترام والتقدير من ابن رشد لأرسطو إلا أن ابن رشد يشير إليه باعتباره الآخر في الشخص الثالث، موضوعا للدراسة والحديث، ومسبوقا بحروف الاستنتاج مثل: لذلك، وعلى هذا. فأرسطو هو الشاهد وابن رشد هو المشهود عليه. كما أن أرسطو هو الشارح وابن رشد هو المشروح، ابن رشد هو الذي يعبر عن إرادة أرسطو، ويتحدث بلسانه، ويتمثل رؤيته، ويعيد صياغة عبارته، ويرفع اللبس عنه والغموض عند الشراح؛ يونان ومسلمين.
36
ومشروع أرسطو تصحيح الصنائع الجزئية أي إعادة بناء العلوم مثل مشروع ابن رشد إعادة تصحيح المسار الفلسفي الإسلامي فالمشروعان متشابهان.
37
وبالرغم من هذا الاحترام والتقدير من ابن رشد لأرسطو إلا أن ابن رشد يشير إليه باعتباره الآخر في الشخص الثالث، موضوعا للدراسة والحديث، ومسبوقا بحروف الاستنتاج مثل: لذلك، وعلى هذا. فأرسطو هو الشاهد وابن رشد هو المشهود عليه. كما أن أرسطو هو الشارح وابن رشد هو المشروح. ابن رشد هو الذي يعبر عن إرادة أرسطو، ويتحدث بلسانه، ويتمثل رؤيته، ويعيد صياغة عبارته، ويرفع اللبس عنه والغموض عند الشراح، يونان ومسلمين.
38
ولا يعني شرح أرسطو شرح أرسطو بأرسطو فقط بل وصفه في إطاره التاريخي ومقارنته مع أفلاطون. هكذا فعل الشراح اليونان خاصة ثامسطيوس والشراح المسلمين خاصة الفارابي مضحين بأرسطو دفاعا عن أفلاطون. ويعيد ابن رشد الكرة لتصحيح الموقف والإبقاء على المقارنة للكشف عن التقابل بين أرسطو وأفلاطون دون المزج بينهما أو دون قراءة أرسطو من خلال أفلاطون. لم تحدث قراءة أفلاطون من خلال أرسطو إلا من أرسطو نفسه، لبيان المطلبين الطبيعيين في الفلسفة، المثال والواقع، الصورة والمادة، الثابت والمتحول، الروح والبدن، الآخرة والدنيا، الله والعالم ... إلخ. فالمحرك هو المتحرك عند أفلاطون، والمتحرك من محرك لا يتحرك عند أرسطو.
39
وإذا كان ثامسطيوس قد أخذ صف أفلاطون ضد أرسطو في شرحه لأرسطو فإن الإسكندر كان أعدل منه نظرا لأنه شرح أرسطو بأرسطو كما يفعل ابن رشد. إذا اختلف الإسكندر وثامسطيوس فالإسكندر على حق. فالسلف أفضل من الخلف وأكثر التصاقا بالأصول. وإذا اختلف الإسكندر وأرسطو فأرسطو على حق. فالقرآن له الأولوية على الحديث. وكل ذلك تطبيق لاشعوري لمنهج التعارض والتراجيح في علم الأصول، الأولوية للنص السابق في الزمان عودا إلى الأصول الأولى وتطهيرا لما علق بها من تأويلات الشراح وأهداب الزمن، والصعوبة في هذه العدسات الرباعية؛ أرسطو الإسكندر، ثامسطيوس، ابن رشد، متى يتم النقد ومتى يتم الإعلان عن الموقف والرأي؟ من يعرض من؟ ابن رشد يعرض لثامسطيوس ملخصا الإسكندر شارحا أرسطو؟ هل يعرض ثامسطيوس الإسكندر أم يلخصه ويؤوله؟ هل يعرض الإسكندر أرسطو أم يؤوله؟ ويصعب معرفة كل ذلك تاريخيا لأن علم القراءة هو علم إنتاج النص لا فرق في ذلك بين القارئ والمقروء.
40
ويلاحظ ابن رشد أولوية علم المنطق على علم الطبيعة وعلى علم ما بعد الطبيعة، وإن الطبيعة ترد في قضاياها إلى علم المنطق ليحللها. فكثير من أخطائها في طريقة صياغة القضايا، كما أن قضايا ما بعد الطبيعة هي في حقيقتها قضايا الطبيعة مقلوبة إلى أعلى ومدفوعة إلى أقصى حد إذا ما اغترب الإنسان وتحول من المادة إلى الصورة، ومن المتحرك إلى الثابت، ومن القوة إلى الفعل، ومن العالم إلى الله؛ لذلك سمى أرسطو علم الأدب صناعة المنطق، ما يجب أن يتأدب به الإنسان لمعرفة الأشياء التي يريدها. ومن المنطق ما هو عام لجميع العلوم، ومنه ما هو خاص بعلم علم. وكل عالم يتعلم ما هو عام لكل العلوم وما هو خاص بعلم كما وضح أرسطو، ودون تعلم هذه الصناعة يخطئ الشراح. كل علم إذن علمان كما يصرح أرسطو في الحادية عشرة من كتاب الحيوان، العلم الخاص والعلم الذي به يتأدى الحصول على هذا العلم وهو علم المنطق، علم الآداب العقلية. ويبدأ التعليم بمبادئ العلم قبل العلم أو بما هو أسهل قبل ما هو أصعب؛ لذلك أتى المنطق قبل كل العلوم وآلة لها؛ ومن ثم كان تصنيف العلوم أحد المداخل لترتيبها؛ لذلك يثني ابن رشد على أرسطو وترتيبه للعلوم وتصنيفه لها، وترتيب مقالات كل علم الترتيب الأفضل كما حدث في مقالات علم ما بعد الطبيعة على غير ما زعم نيقلاوش الدمشقي الطبيعي، ويتفق ابن رشد مع أرسطو في ترتيبه؛ لذلك جعل غرض شرحه أن يقدم نصا لأرسطو أسهل متنا، تذكيرا أو مساعدة لمن يقرؤه من العامة أو الخاصة. ولا تعارض بين الاثنين في طريقة الكتابة.
41
والحقيقة أن العلمين؛ علم الطبيعة وعلم ما بعد الطبيعة علم واحد وهو الموجود، مرة النسبي ومرة المطلق، ولكن الأهم عند أرسطو ليس موضوع العلم بل قضايا العلم نظرا لتقدم الأقاويل الجدلية على الأقاويل البرهانية في تاريخ العلم. كانت وظيفة أرسطو نقل أقاويل القدماء من مستوى الخطابة والشعر إلى مستوى الجدل. ومهمة ابن رشد نقلها من مستوى الجدل إلى مستوى البرهان، ولكن نيقولاوش خالف أرسطو ورد علم ما بعد الطبيعة إلى علم الطبيعة. وهنا يبدو أرسطو أكثر تعادلا واتزانا بالإبقاء على العلمين العام والخاص، ويكون نيقولاوش أقرب إلى الرد الطبيعي. والأفضل عند ابن رشد هو نظام أرسطو.
42
ويمكن لموضوع واحد أن يدرس في العلمين على نحو مختلف، فالصورة يمكن دراستها في علم الطبيعة متصلة بالمادة ومتولدة عنها بالذات أو بالعرض. ويمكن دراستها مفارقة للمادة في علم ما بعد الطبيعة. طبيعة الكون موضوع للطبيعيات وكذلك الصور الهيولانية المتولدة من الصور الهيولانية كما هو الحال في البذور، هي أيضا موضوع لما بعد الطبيعة.
ومعقولات الحركة ليست الحركة. فالمعقولات في عالم الأذهان، والجواهر في عالم الأعيان. وهنا يحرص أرسطو على التمايز بين العلمين من أجل إعطاء الشرعية للعلمين، ما بعد الطبيعة للصورة، والطبيعة للمادة دون الخلط بينهما ودون رد أحد العلمين إلى الآخر، وقد عبر أرسطو عن ذلك على جهة الاستظهار أي من أجل التعليم والتوضيح وإزالة الشكوك والخلط عند الشراح من أجل إظهار الحق. والصور المفارقة هي التي سماها المتأخرون من المتفلسفين بعد أرسطو العقل الفعال، سخرية من ابن رشد على التيار الأفلاطوني المشائي. والمعقولات حادثة بالرغم من أنها على مذهب القائلين بالصور المفارقة أزلية ، ولا يمكن أن يكون الجوهر الأزلي جزءا من الجوهر الفاسد أو أن يكون الجوهر الفاسد جزءا من الجوهر الأزلي، فالصور المفارقة ليست في الكون إنما يوجد في الكون الأشياء المتكونة من مادة وصورة، ما يتحول من القوة إلى الفعل من جنسه، لا فرق بين معادن وحيوان ونبات. فصور النبات من البذور وليست مفارقة له. وهذا ما يختلف عليه أفلاطون الذي يقول بالصور المفارقة وأرسطو الذي يقول بالصور المتكونة.
43
وعندما يتحدث أرسطو عن التقدم في الجوهر فإنه يعني الجوهر المادي؛ فتقدم الجوهر لا يعطيه أية ميزة على سائر الموجودات وهو ما أدى إلى اللبس عند الشراح، وحاول الإسكندر توضيحه. فإذا كان المقصود مفهوم التقدم يكون من الكليات المستقرأة من الجزئيات. وإن كان المقصود التقدم المتكون فإنه يكون بالقوة لا بالفعل، الأشياء الحادثة باتفاق، ضد ما ذهب إليه ديمقريطس الأشياء الحادثة أو الأكوان، العقل لا يتقدم كما تتقدم الأشياء بعضها على بعض وهي من جنس واحد. فالكل عند أرسطو هو الجنس، والكليات عنده يجمعها الذهن من الجزئيات المتشابهة بالقوة لا بالفعل، إصلاحا لقول ديمقريطس. فأرسطو يصلح قول ديموقريطس كما يصلح ابن رشد قول الإسكندر شارحا أرسطو. الكليات عند أرسطو مستقرأة من الجزئيات، وعند أفلاطون معان ذهنية سابقة على الجزئيات. وفي نفس الوقت الذي يعارض أرسطو فيه الرد الطبيعي، جعل مقولات الحركة الجوهر المتحرك. وإرجاع عالم الأذهان إلى عالم الأعيان كما هو الحال عند نيقولاوش يعارض أيضا الرد الميتافيزيقي والذي يرجع الموجود الخاص إلى الموجود العام، وإرجاع عالم الأعيان إلى عالم الأذهان كما هو الحال عند بارمنيدس.
44
ومن ثم يبدو أرسطو مؤرخا للفلسفة اليونانية، قابضا على التيارين الرئيسيين فيها، الطبيعي وما بعد الطبيعي، وبلغة العصر الواقعي والمثالي، التجريبي والعقلي، ويجد ابن رشد نفسه في نفس الموقف التاريخي مراجعا الفلسفة الإسلامية بين نفس التيارين، الرازي والفارابي، والكندي وابن سينا، التيارين اللذين جمع بينهما الكندي في البداية وابن رشد في النهاية؛ فأرسطو مؤرخ للفلسفة اليونانية وراو عنها، وكثير من أقوال القدماء عرفت عن طريق أرسطو مؤرخا وراويا، فإذا ما عرض أرسطو للأين فإنه يعرض للمعنيين الطبيعي باعتباره المكان، والميتافيزيقي باعتباره مقولة، كما يدرس أرسطو البسائط والمركبات معطيا لكل منها مستواها الخاص دون خلط بينها. ويدرك ابن رشد وحدة الفلسفة اليونانية من خلال أرسطو. كما يدرك وحدة الفلسفة الإسلامية من خلال مراجعتها وتصحيح فهم لأرسطو.
45
وموضوع النفس هو المتوسط بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، في الطبيعة باعتبارها متصلة بالجسم وفيما بعد الطبيعة باعتبارها قوة ناطقة أو عقلا بالفعل متصلا بالعقل الفعال. فالصحة والمرض للنفس الجسمية وليس للنفس الروحانية. وقوى النفس في الزرع قوى شبيهة بالعقل ولكنها ليست كالعقل بل تفعل فعل العقل ودون آلة جسمانية. كلاهما لا يعمل بآلة. هي قوة تنتسب إلى المبادئ الطبيعية وليس إلى المبادئ الإلهية لأنها لا تعقل ذاتها وغير مفارقة. والبرهان على ذلك أن هذه الصور لا تتكون بذاتها إنما يتدخل العقل الفاعل المفارق للهيولى في حدوث القوى العقلية فقط لأنها غير مخالطة للهيولى، ولكن لم يفهم أحد برهان أرسطو كما فهم ابن رشد. فكل عقل يتولد من نوعه، الهيولاني عن الهيولاني، والمفارق عن المفارق، المركب عن المركب، والبسيط عن البسيط. ولكن عادة أرسطو الإيجاز. وأرسطو يفحص عن ذلك في موضوع النفس. وتتم سعادة البشر باتصالهم بالعقل كما بين ذلك أرسطو في كتاب النفس. وهو عقل مفارق يتم الاتصال به كمبدأ يعلق به البشر كما تتعلق السماء، وهذا هو معنى قول أرسطو أن الإنسان يولده إنسان والشمس أي الفعل الإنساني والفعل الإلهي؛ لذلك لا خوف على السماء من التوقف أو الفساد، أما قوى الأجسام وأفعالها فيها فإنها متناهية في حين أن كل فعل مستوى أي مستمر فإنه غير متناه، يصدر عن قوة غير متناهية.
46
والحقيقة أن الاتجاه الطبيعي عند أرسطو لا يعني أن الأشياء المتكونة تحدث عنه باتفاق لأن الطبيعة ليست أشياء مصنوعة ولا تعمل شيئا باطلا بل تهدف إلى غاية وقصد. وخير دليل على ذلك تحليل طبيعة الحيوان والنبات. فالقوة الكامنة في البذور تتولد عنها الصور؛ لذلك يقول أرسطو إن الإنسان يولده إنسان. والعقل المكتسب في كتاب النفس ليس هو العقل بالملكة ولا جزءا منها. ويحتمل أن تكون الطبيعة قد ألهمت إلهاما من سبب أكرم منها وأشرف وأعلى مرتبة. وهي نفس الأرض التي يظن أفلاطون أنها حدثت عن الآلهة الثواني. ويظن أرسطو أنها حدثت عن الشمس والفلك المائل؛ لذلك راحت تفعل مشتاقة نحو الغرض وكأن أفلاطون وأرسطو يقولان بالخلق وإن استعصى عليهما معرفة الخالق. الآلهة الثواني في الأرض عند أفلاطون أو الشمس عند أرسطو. وكانت وظيفة الوحي صياغة نظرية عقلية للخالق بعد أن عرف اليونان المخلوق.
47
فالقوة التي في البذور تجعلها متنفسة بالقوة وليس فيها شيء متنفس بالفعل. والفرق بين القوة والفعل هو الفرق بين المجاز والحقيقة؛ لذلك يشبهها أرسطو أحيانا بالقوة الصناعية حقيقة، وبالقوة الإلهية مجازا لأنها قادرة على إعطاء الحياة. وهي تشبه العقول لأنها تواقة إلى غاية. ولما كانت تفعل بالحرارة سماها أرسطو الحرارة النفسية التي تولد الصور في البذور دون اختراعها. وقد اتبع أرسطو التعليم في ذلك على جهة الأشهر والأبسط. وقال ما يعرفه الناس من أن الجوهر غير المتحرك مبدأ. وعرض مبادئ الجوهر غير المتحرك في علم ما بعد الطبيعة ومبادئ الجوهر المتحرك في علم الطبيعة وكأن أرسطو في تعبيره عن الحقيقة يستعمل الثقافة الشعبية لإيصال الناس ما يعلم بما في ذلك الدين. كانت القضية عند أرسطو هي هذا الميزان المتعادل بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، بين التناهي واللاتناهي، بين المادة والصورة؛ لذلك قام فكره على التمييز من أجل رفع الخلط بين المستويين والذي يتمثل في رد الصوري إلى المادي كما يفعل الطبائعيون أو رد المادي إلى الصوري كما يفعل الأفلاطونيون. حرص أرسطو على المستويين مستوى الجوهر والحركة ومستوى الصورة والثبات. ويظل الإشكال في المستوى المتوسط، مستوى الحركة اللولبية وحركة الأفلاك. ويحاول ابن رشد توضيح موقف أرسطو بحيث يجعله يقول بالعناية التي بها تحول جميع الشكوك. فيركب الوافد على الموروث، ظنون الوافد في يقين الموروث.
48
ويمكن توضيح الخلاف بين أفلاطون وأرسطو في نشأة النفس عن الآلهة الثواني أو عن الشمس والفلك المائل على النحو الآتي:
ومن ثم يكون أرسطو هو الجامع بين الكمون والاختراع، ويكون الدين قد اختار الإبداع والاختراع. وتأتي قراءة ابن رشد له لتبين كيفية تعشيق الوافد في الموروث في نظرة كلية واحدة من الداخل وليس من الخارج كما فعل الفارابي في الجمع بين رأيي الحكيمين.
49
ونظرا لقدرة أرسطو على معرفة الحق أصبح هو الحكيم
excellence . وأصبح فكره غير مشخص، الحقيقة الموضوعية ذاتها في حضارة ترى أن الرسول هو خاتم الأنبياء، وأن الإسلام هو خاتم الرسالات، وأن الحقيقة لديها، في حين أنه عند باقي الديانات والحضارات والشعوب أجزاء منها. يبتعد الناس عن الحكيم مثل نيقولاوش وثامسطيوس أو يقتربون منه مثل الإسكندر وابن رشد. فهو الميزان والمعيار. إذا تكلم الحكيم نطق بالحق، هكذا تكلم الحكيم، قصد الحكيم هو الحكمة، وشروحه اقتراب منها. ما ذكره سار الناس على هداه، وما لم يذكره انحرف الناس عنه، ومعارضته عناد له بل وعناد للعناية الإلهية. حتى الإسكندر لم يفهم كلام أرسطو عندما تحدث الحكيم عن العناية الإلهية. وهنا يتوحد أرسطو وابن رشد، والوافد بالموروث، واليونان بالإسلام، والعقل بالوحي. وتتوحد حقائق الشعوب في حقيقة التوحيد.
50 (ب) الإسكندر، ثامسطيوس، نيقولاوش، ثاوفرسطس
وبعد أرسطو يأتي الإسكندر. ويرى ابن رشد أن الإسكندر موافق باستمرار لرأي أرسطو. ومع ذلك يسميه ابن رشد الرجل تسمية شائعة يطلقها ابن رشد على الأصدقاء مثل أرسطو والإسكندر أو على الأعداء مثل ابن سينا والغزالي، يعني الشرح هنا تحقيق المناط بلغة الأصوليين، اتفاق قول الإسكندر مع الواقع الذي يراه ابن رشد. وفي مقالة اللام نظرا لأنها شرح الإسكندر يبدأ ابن رشد بأفعال الإرادة لوصف أغراض الإسكندر، وتختفي أفعال القول التي تصف مسار فكر أرسطو. وأحيانا يكون الإسكندر راويا عن أرسطو أو عن القدماء. وفي هذه الحالة تتصدر أفعال القول اسم الإسكندر، وقد يحسن الرواية فتكون صحيحة وقد لا يحسنها فتكون كاذبة كما هو الحال في وجوه النقل عند المسلمين، وقد ينقل الإسكندر خبرا على سبيل الاحتمال ويؤوله أيضا على سبيل الاحتمال، وكأنه خبر آحاد ظني وليس خبر تواتر يقيني.
51
ويقترب شرح ابن رشد لمقالة اللام من أسلوب الشرح الأوسط الذي يبدأ من العبارة المشروحة لأرسطو أو للإسكندر ثم يعالجها ويفصلها ويطورها ويستخرج كل إمكانياتها، ويوجهها نحو القصد الكلي الذي يكتمل فيه النص المشروح في النص الشارح. مهمة ابن رشد إذن تفصيل مجمل قول الإسكندر، وتحليل ألفاظه وعباراته من أجل إعادة تركيبها على نحو أرسطي من خلال وحدة الرؤية بين أرسطو وابن رشد. شرح ابن رشد للإسكندر على جهة الاستظهار أي البيان والإيضاح من خلال رؤية أكثر دقة للعدسات الأربع المتجاورة؛ أرسطو، والإسكندر، وثامسطيوس، وابن رشد إلى العدسة الأولى التي يرى بها أرسطو الواقع نفسه. وقد تكون المطابقة تامة أو شبه تامة. وكلاهما حكم بصحة الشراح.
52
وأحيانا يكون تركيز ابن رشد على شرح الإسكندر مؤولا إياه إلى معنيين وأحيانا إلى ثلاثة أو أكثر. ويرصد كل هذه المعاني في باقي شرحه، أحيانا تتكرر، ولا يزيد بعضها على بعض شيئا ودون أن يضيف جديدا خاصة إذا ساعده اللفظ مما يدل على إحساس ابن رشد بأن الشرح ليس تكرار المشروح بل إضافة تأويل جديد أو معنى جديد. وأحيانا يشرح الإسكندر مرتين، أحدهما أوضح من الثانية، ويختار أحدهما بناء على تحليل ألفاظ الإسكندر أو بالذهاب مباشرة إلى أحد المعنيين بطريقة الوجوب العقلي وما ينبغي أن يكون عليه المعنى، ويحدد ابن رشد نوع حجج الإسكندر. وفي الغالب يجدها جدلية. حينئذ تكون مهمة ابن رشد تحويلها إلى برهانية. ويحاول ابن رشد الدخول في قلب الإسكندر، تخوفاته وظنونه. فالمعنى يتخلق في النفس. وأحيانا يكون تركيز ابن رشد على قول الإسكندر أكثر من تركيزه على قول أرسطو. وفي هذه الحالة تنصب كل أفعال القول على الإسكندر، ويكون هم ابن رشد توضيح معنى القول إيجابا بما يقصد الإسكندر أو سلبا بما لا يقصده. ولا يجزم ابن رشد بشيء. ويعبر عن فهمه بصيغة الاحتمال ودون قطع وبتواضع العلماء.
53
ولم يصل ابن رشد شروح من الإسكندر إلا شرح مقالة اللام. وقد عرضها ولخصها ثامسطيوس؛ لذلك يستفيض ابن رشد في عرضها. ولأول مرة يظهر الإسكندر شارحا متوسطا بين ابن رشد وأرسطو، وثامسطيوس متوسطا بين الإسكندر وابن رشد. وقد كان شرح ثامسطيوس على هذا المعنى دون اللفظ مما له مميزاته وعيوبه، الفكر والرأي دون الدقة والضبط. لا يبدأ ابن رشد بقال أرسطو بل يتناول الموضوع كله خاصة وأن نقطة الالتقاء والالتحام والانصهار بين الوافد والموروث متوفرة في مقالة اللام. وأحيانا يخصص ابن رشد صفحات بأكملها لتلخيص مفصل لشرح الإسكندر وهو شرح واضح وموجز. معظم الشرح من الإسكندر ثم من ثامسطيوس ولا يكاد يظهر أرسطو إلا في النهاية. ويدخل ابن رشد كطرف رابع في هذا المسلسل المتتابع من أرسطو إلى الإسكندر إلى ثامسطيوس ذهابا أو من ثامسطيوس إلى الإسكندر إلى أرسطو إيابا. ويحاول معرفة مدى التطابق بين النص وشرحيه أو عدم التطابق مما يثير الشكوك أو الإضافة والحذف وهذا هو الانحراف؛ لذلك تضخمت مقالة اللام كثيرا عن باقي المقالات في شرح ابن رشد. ربما استعمل ابن رشد الإسكندر وسيطا إما لشيوعه أو لنقده وتخليص أرسطو من بعض التدين الزائد لديه الذي عرضه في «مبادئ الكل»، وربما للتخفي وراءه للتعبير عن تصور فلسفي خالص للعالم لا يرضي أنصار التشبيه أو للتعامل مع الموضوع كله مباشرة دون تمييز بين ما لأرسطو وما للإسكندر وما لثامسطيوس.
54
ويدخل ابن رشد في الموضوع مباشرة منذ البداية وراء الإسكندر في الحكم بأن مقالة اللام آخر مقالة في كتاب ما بعد الطبيعة؛ لأن بعض المقالات الأخرى السابقة تتضمن شكوكا في هذا العلم وتحاول حلها. ويتحدث البعض الآخر عن الموجود من حيث هو موجود أما مقالة اللام فتتكلم عن مبادئ هذا الوجود وفي مبادئ الجوهر الأول غاية الحقيقة. أما المقالتان التاليتان «الميم والنون» فلا يوجد شيء فيهما على القصد الأول ولا من رأيه الخاص بل مناقضة الذين قالوا إن مبادئ الموجودات الصور والأعداد، وهو تكرار لمضمون المقالة الثانية، الألف الكبرى، وفي أول مقالة الجيم مما يدل أيضا على أن مقالة اللام قد تكون آخر مقالات ما بعد الطبيعة.
فالإجابة على سؤال: لماذا بدأ ابن رشد بشرح الإسكندر قد تكون في التقليد المتبع آنذاك عند الشراح اليونان والمسلمين استمر فيه ابن رشد، خاصة وأن الشرح يبدأ بقضية ترتيب المقالات الداخلي وعددها. وهو موضوع عرفه ابن رشد من قبل في أول عرض الغرض من كتاب ما بعد الطبيعة، ولا يحتاج إلى شرح الشراح أو قضية حذف المقالين الآخرين، الميم والنون، وموضوعهما الصور والأعداد كمبادئ للموجودات عند أفلاطون وفيثاغورس المكرر في الألف الكبرى، وهو ما يعرفه ابن رشد دون ما حاجة إلى شرح الشراح. ولا يعقل أن يكون السبب هو صعوبة مقالة اللام أو خطورتها حتى يختفي ابن رشد وراء الإسكندر أو لعدم ثقته بنفسه والاعتماد على الآخرين. ولا يعقل أن يكون السبب تقية خاصة، وأن مقالة اللام، وهي أهم مقالات الكتاب، قد قاربت الدين، المحرك الأول، العلة الأولى، العناية الإلهية. وابن رشد لديه شجاعة الفقيه في الإعلان عن الحق، وربما توجد وحدة أصلية في الحضارة الإنسانية كلها في إطار واحد كما عبر عن ذلك الكندي في رسالته في الفلسفة الأولى.
ونتيجة الرؤية من خلال هذه العدسات الأربع هي عدم مطابقة تفسير ثامسطيوس لتفسير الإسكندر ومطابقة نص أرسطو مع تفسير الإسكندر وشرح ابن رشد؛ ومن ثم تجتمع ثلاثة نصوص ضد واحد مثل الفرق بين التواتر والآحاد في وجوه النقل الشفاهي عند المسلمين، اليقين في مقابل الظن. وقد تكون خمس عدسات عندما يروي أرسطو عن القدماء عن ديموقريطس مثلا. فتكون الأولى عدسة ديموقريطس التي يرى بها الأشياء، والثانية عدسة أرسطو التي يرى منها ديموقريطس، والثالثة عدسة الإسكندر التي يشرح منها أرسطو راويا عن ديموقريطس، والرابعة عدسة ثامسطيوس ملخصا الإسكندر الشارح لأرسطو الراوي عن ديموقريطس، والخامسة عدسة ابن رشد الشارح الذي يرى من خلال العدسات الأربع السابقة الناقد لثامسطيوس الملخص على الإسكندر الشارح لأرسطو الراوي عن ديموقريطس الرائي للواقع نفسه الذي يراه ابن رشد رؤية مباشرة وليس من خلال توسط الأقوال. كل عدسة ذات وموضوع في نفس الوقت . فديموقريطس ذات ترى الواقع وموضوع يراه أرسطو، وأرسطو ذات ترى ديموقريطس ويراه الإسكندر، والإسكندر ذات ترى أرسطو ويراه ثامسطيوس. وثامسطيوس ذات ترى الإسكندر ويراه ابن رشد. وابن رشد ذات يرى ثامسطيوس والسابقين عليه ولا يراه أحد من القدماء بل يراه الباحث الحالي رائيا للكل والسابقين عليه من خلال عدسة سادسة. وهكذا تتوالى العدسات، ويحدث التراكم التاريخي، ومذهب أرسطو هو أقل المذاهب شكوكا، وأكثرها مطابقة للوجود، وأكثرها اتفاقا مع الإسكندر، وأبعدها عن التناقض، وبالرغم من أن مسائل أرسطو صعبة وعويصة إلا أن ابن رشد يحاول أن يفهمها حسب الطاقة ويحسب الأصول والمقدمات التي تقررت في مذهبه. وقد يقتصر الإسكندر وثامسطيوس على المعنى الصحيح فيزيد ابن رشد العلة طبقا لطرف السبر والتقسيم عند الأصوليين.
55
وقد يرجع السبب في عدم المطابقة لاختلاف النسخة التي كان يعمل عليها الإسكندر وثامسطيوس لنص أرسطو أو لاختلاف نسخة الترجمة العربية التي كان يعمل عليها ابن رشد مع النسخة اليونانية للإسكندر أو لثامسطيوس أو لأرسطو. ويدرك ابن رشد السقط الذي في ترجمة الإسكندر ويكمله. وقد يرى زيادة فيها فيحذفها حرصا على النص الأصلي. النص النواة لكل شراح أرسطو؛ يونان ومسلمين، ويقوم ابن رشد بعمل المحقق التاريخي ليجد نسخة صحيحة من شرح الإسكندر بدلا من النسخة التي يختلط فيها كلامه فينقل الصحيح منها على جهة الظن ثم يراجعه على ترجمة أخرى، وينتهي تفسير الإسكندر بالإعلان عن ذلك سواء كان من ابن رشد أو من الشارح أو من الناسخ أو من الناشر بخط صغير. وقد تظهر ترجمة يحيى بن عدي لتوضح أي الترجمات اعتمد عليها ابن رشد.
56
ويحرص ابن رشد مع الإسكندر تحقيقا لرؤية أرسطو على الإبقاء على التمايز بين العلمين، الطبيعة وما بعد الطبيعة في دراسة الجوهر، المتكون الفاسد في الطبيعة، والثابت الأزلي فيما بعد الطبيعة دون رد أحدهما إلى الآخر، رد الطبيعي إلى ما بعد الطبيعي كما يفعل أصحاب الصور والأعداد، أفلاطون والفيثاغوريون، أو رد ما بعد الطبيعي إلى الطبيعي كما يفعل نيقولاوش . والبرهان على مبادئ الموجودات في علم ما بعد الطبيعة. أما الموجودات الموضوعة وضعا فهي في العلم الطبيعي. يحاول ابن رشد رفع التناقض بين ظاهر قول الإسكندر وحقيقته طبقا لمنهج الأصوليين في التفرقة بين الظاهر والمؤول، وهو المنتسب إلى بيئة الفقه الظاهري، وقد سبب إجمال قول الإسكندر وعدم تفصيل ثامسطيوس له غلط ابن سينا الذي يصححه ابن رشد بتفصيل قول الإسكندر. فابن رشد آخر الشراح والمتمم لأقوال أرسطو طبقا لمنهج الأصوليين في بيان المجمل، ويفرق الإسكندر بين ما في الأذهان كالمفاهيم والمعقولات مثل مفهوم التقدم وهي أدخل في علم ما بعد الطبيعة وما في الأعيان وهي أقرب إلى علم الطبيعة مثل تقوم الأشياء بعضها على بعض. وكذلك الجوهر فإنه يكون موضوعا للعلمين، كجوهر أزلي سرمدي ثابت في علم ما بعد الطبيعة، وكجوهر متكون فاسد في علم الطبيعة.
57
ويعرض ابن رشد لنماذج من موضوعات العلم الطبيعي مثل القوة والفعل والهيولى والكون والفساد هل هو بالطبع أم بالإرادة أي الصناعة أم بالاتفاق. يضم الإسكندر الموضوع من إحالاته المختلفة مثل القوة والفعل في حرفي الهاء واللام، ويتحقق من أقوال السابقين مثل ديموقريطس الذي يريد جعل المادة أزلية وليست فقط بالقوة. ويحيل إلى العلم الطبيعي للتحقق من أزلية المادة وليس إلى علم ما بعد الطبيعة كما يقول ابن سينا. وهو خلاف ظاهري؛ لأنهما علم واحد، مرة مقلوبا إلى أسفل فيصبح علم الطبيعة، ومرة مقلوبا إلى أعلى فيصبح علم ما بعد الطبيعة.
58
ويبحث الإسكندر موضوعا طبيعيا آخر وهو كيفية تكون الحيوانات من العفونة متولدة عن المتواطئة في الاسم أي عن الأشياء التي يطلق عليها نفس الاسم على ما هو معروف في مبحث العبارة من الأسماء المتواطئة أو عند المناطقة المسلمين باسم اشتراك الاسم أو عند الأصوليين باسم الأسماء المتشابهة. كيف تكون كذلك بالطبع أم بالإرادة (الصناعة) أم بالاتفاق؟ ويضم الإسكندر الموضوع من مقال الزاي إلى مقال اللام، ويحيل الكل إلى السماع الطبيعي في الطبيعيات. فالأشياء المتواطئة عند أرسطو هي التي تقال على الطبيعي والصناعي في نفس الوقت. أما الحيوان فيوجد من تلقاء نفسه ويتولد عن العفونة، وإلى هذا الحد يفسر الإسكندر أرسطو تفسيرا صحيحا إلا أنه لا يبين استثناء الجوهر من هذه المواطئة كما يقوم ابن رشد بتوضيح ما غمض على الإسكندر في شرحه لأرسطو مثل ما قاله عن المادة وأنها ترى.
59
وأهم شيء في شرح الإسكندر المقالة اللام هو دفعها إلى الإيمان الديني العقلي، وقد تركها أرسطو جاهزة لذلك لا ينقصها إلا الختام، ويبدأ ابن رشد بشرح مقالة اللام من خلال شرح الإسكندر وليس مباشرة كي يحقق هدفين في وقت واحد، الأول رؤية تفسير لأرسطو متفق مع تفسيره، والثاني تصحيح تفسير الإسكندر لو خالف أرسطو، وقد قطع ابن رشد نصوص مقالة اللام إلى وحدات صغيرة نظرا لأهمية النص، ودلالته لاتصال موضوعه بالموضوع المشترك بين الوافد والموروث، العلة الأولى أو المحرك الأول أو الصورة المفارقة من جهة الوافد، والتوحيد من جانب الموروث. عند الإسكندر والقدماء الجنس غير الهيولى. فالجنس مقولة عقلية تقترب من الصور المفارقة. والكل مثل الجنس لا هيولى فيه، وتتحد مبادئ الجوهر السرمدي والعلة الأولى والمبدأ للجسم الإلهي، ربما كانت غاية ابن رشد من الاعتماد على شرح الإسكندر استمرار تراث الإيمان العقلي من أرسطو إلى الإسكندر إلى ثامسطيوس حتى ابن رشد لعمل بؤرة لمقالة اللام مما يضطره أحيانا إلى إعادة إحكام شرح الإسكندر وشرح ثامسطيوس حتى تتحد بؤرة العدسات الأربع.
60
وقد وصل ابن رشد إلى شرح مقالة اللام إلى الإسكندر عن طريق ثامسطيوس وتلخيصه لها. فابن رشد في موقف إبداعي خالص أمام مقالة اللام لأرسطو لأنه لم يجد أي شرح لها إلا شرح الإسكندر وتلخيص ثامسطيوس. وهو نفس الموقف الإبداعي لأرسطو لأنه لم يجد أحدا من المتقدمين قد سبقه لتأسيس هذا العلم. ويبدأ ابن رشد بشرح الإسكندر. فإذا ما وجد شكا في شرح ثامسطيوس أزاله. وإذا ما وجد زيادة حذفها. فشرح الإسكندر هو مقياس صحة شرح ثامسطيوس. وهو موقف ضد أولوية النص على الشرح، أولوية الكتاب على الحديث كما هو معروف في مصادر الشريعة الأربعة في علم أصول الفقه . وهناك احتمال ضياع نص أرسطو داخل شروح الإسكندر وثامسطيوس. كما أن صعوبة أفعال القول والإرادة يصعب معها معرفة من يقول أو يريد أرسطو أم الإسكندر أم ثامسطيوس أم ابن رشد؟ ويقوم ابن رشد بعملية جراحية بفصل تلخيص ثامسطيوس عن شرح الإسكندر عن نص أرسطو. ويلاحظ أن تفسير الإسكندر ناقص، ومن هنا أتى خطأ تفسير ثامسطيوس لأنه تفسير على ملخص ناقص للإسكندر؛ لذلك غابت من شرح ثامسطيوس أشياء بالرغم من عرضه على تلخيص كلام الإسكندر شارحا أقوال أرسطو، وتكشف العملية على قدرة ابن رشد على معرفة ما لأرسطو وما للإسكندر وما لثامسطيوس، وكيف أن الشراح المسلمين، الفارابي وابن سينا، قد تابعا ثامسطيوس في حين أن ابن رشد قد تابع الإسكندر، والكل إلى حكيم اليونان منتسب، ولكن ابن رشد يزيد عليهم جميعا المعرفة بالعلة وهو ما وصل إليه عن طريق التعليل في علم الأصول.
61
وأهم موضوع يتناوله ابن رشد في ثامسطيوس هو دفاعه عن الصور الأفلاطونية وتأويل طبيعيات أرسطو تأويلا أفلاطونيا لإثبات الصور المفارقة في الموجودات المتكونة سواء في النفس أو في البذور. وهو نفس الرأي الذي يقول إن الصور كلها من العقل الفعال كما ظن ابن سينا. فشرح ثامسطيوس تأييدا لأفلاطون والصور المفارقة ضد أرسطو والصور المتولدة. إذ يقول أرسطو بالقوة النفسانية القريبة أو البعيدة (الأجرام) وليس بالصور المفارقة الفاعلة. فالصور هي المثل المحركة للطبيعة. والحقيقة أن حرارة الشمس والكواكب المتولدة في الماء والأرض هي المكونة للحيوانات المتولدة من العفونة ولكل ما يكون من غير بذر وليس أن هناك نفسا بالفعل حدثت عن الفلك المائل والشمس كما يظن ثامسطيوس ويروي. فهل انتقال الفلسفة من جيل إلى جيل ابتعاد عن العقل والطبيعة سمة فلسفة أرسطو إلى الإشراقيات سمة فلسفة أفلاطون؟ وهل مهمة ابن رشد هي العود إلى سمات الجيل الأول، جيل أرسطو، حيث يجده متفقا مع العقل والطبيعة أساس الوحي الإسلامي بتأكيده على أن الدين الطبعي هو نهاية تطور الدين؟
62
وقد صرح ثامسطيوس في كتابه في النفس في آخر المقالات التي تكلم فيها عن العقل أنها هي التي وجدت من الآلهة الثواني كما قال أفلاطون ومن الشمس والفلك المائل كما قال أرسطو. كما يلجأ أرسطو إلى المحرك الأول لينبه على أنه غير الحركات القريبة طبقا لظاهر كلامه دون تأويل، والظاهر والمؤول أحد مفاتيح منطق اللغة في علم الأصول. وينكر ثامسطيوس أن تكون في الشمس وسائر الكواكب المتناهية قوة لا متناهية، ويثبت أن اللاتناهي في الكواكب وبالتالي فقوتها ليست طبيعية، ويجوز ثامسطيوس أن يعقل العقل معقولات كثيرة دفعة واحدة في حين أنه عند ابن رشد يعقل ذاته ولا يعقل شيئا خارجا عنه؛ فثامسطيوس يرجح أن ترد المعقولات على العقل من الخارج وطبقا لتصور أفلاطون، وابن رشد من وعي العقل بذاته وطبقا لتصور أرسطو.
63
ويظهر ثاوفرسطس مع ثامسطيوس والمشائين في القول بأن العقل الهيولاني باق وأن العقل الفعال صورة فيه وهو أقرب إلى الاتجاه الطبيعي الأرسطي من الاتجاه الأفلاطوني القائل بالعقول المفارقة بما في ذلك العقل الفعال. أما نيقولاوش فبالرغم من أن قوله غير متصل لوجود بياض في النص يملئوه ابن رشد بالفكر فقد كان أقرب أيضا إلى الاتجاه الطبيعي؛ فقد خالف أرسطو في ترتيب علاقة العلم الطبيعي بما بعد الطبيعة رادا الثاني إلى الأول. فخفت لديه الأقاويل الجدلية ومرتبتها في علم ما بعد الطبيعة.
64 (ج) أفلاطون، فيثاغورس، بارمنيدس
وأفلاطون الذي يقول بالصورة المفارقة جزء من مشكلة يونانية أعم قبل أفلاطون وبعدها. وهناك ثلاثة تيارات: (1)
الصوريون مثل أفلاطون وفيثاغورس. (2)
الشكيون مثل بروتاجوراس. (3)
الماديون مثل ديموقريطس وأنكساجوراس.
كان موقف أفلاطون لا طبيعيا من أجل فتح الشعور اليوناني على المفارقة بعد أن أغلقه الطبيعيون ومن أجل تأكيد المطلبين وتأسيس البعدين فيه. وفي نفس الوقت تعبر هذه التيارات التاريخية الثلاثة عن بنية ثلاثية الموضوع على النحو الآتي:
يعني شرح ابن رشد تحقيق المناط، وتحول البنية إلى تاريخ، والنص إلى علة. ويشرح علل هذه التيارات الثلاثة. فالأسماء تقال على الأشخاص والأنواع باشتراك الاسم مثل الإنسان، ولا يوجد عنصر من غير صورة ولا توجد صورة من غير عنصر كما هو معروف في تحليل اللغة في علم الأصول؛ ومن ثم لا توجد صور مفارقة خارج الأشخاص وإلا لوجد إنسان من غير جسد. هذه الصور المفارقة ليس لها وجود في الكون. ولا يوجد في العالم إلا الأشياء المتفرقة بالصورة المختلفة بالعدد. لا يوجد في العالم إلا خروج من القوة إلى الفعل. كما هو الحال في النباتات والبذور والزروع والحيوانات. ولا توجد صور مفارقة في الخارج تتولد عنها كما يقول أفلاطون. ويقتصر ابن رشد على عرض الحجج والحجج المضادة، ومن طريقة العرض يظهر اتفاقه مع أرسطو. وهو موقف الفقهاء المسلمين مثل ابن تيمية من مشكلة الكليات رفضا لتعدد الآلهة. ويشير ابن رشد إلى أفلاطون على أنه صاحب الفكرة أو المذهب كنوع من تحقيق المناط، أفلاطون هو القائل بأن الممكن قد لا يكون ولزوم ما لا يمكن.
65
ويرصد ابن رشد بالمنهج التاريخي كالعادة تطور نظرية المثل والأعداد. فأحد طرق الشرح هو وضع أقوال أرسطو في إطارها التاريخي. أتى أفلاطون بعد الطبائعيين الأوائل والفيثاغوريين، وتابع مذهب الفيثاغوريين. فكلا المذهبين رياضيان، لا فرق بين صور أفلاطون وأعداد فيثاغورس. طبيعتهما واحدة. كان دافع أفلاطون على ذلك هو شك الهرقليين في وجود الصور. التاريخ إذن فعل ورد فعل. له جدل يقوم على التناقض.
66
وعند أفلاطون نوع الإنسان ليس هو المجموع من الهيولى والصورة ولكن الصورة نفسها لها وجود مفارق خارج الإنسان الجزئي وسبب وجوده، كما أن الأعداد لها وجود مفارق عن الأشياء المتعددة. كما نص في كتابه «فيدون» على أنها ليست أسباب الكون والفساد؛ ومن ثم لا كون ولا فساد. ويفند أرسطو وشراحه هذا الموقف الأفلاطوني بالإحالة إلى محاورته مثل فيدون. ويعرض ابن رشد ذلك عرضا تاريخيا موضوعيا هادئا رصينا، الصور هي الأعداد. فالوحدة هي النقطة. والثنائية الخط، والثلاثية السطح، والرباعية الجسم. والأعظام الهندسية عند أفلاطون ليست مبادئ للأجسام مع الأعداد. فالواحد جوهر الهويات عند أفلاطون وفيثاغورس في حين أنه موضوع عند أنبادقليس مثل العناصر الأربعة. وهي الجوهر الكلي لجميع الموجودات المشترك بينها، ويعقد أرسطو فصلا خاصا لعرض الحجج التي توجب أن تكون الكليات أمورا موجودة عند أفلاطون وفيثاغورس ولها طبع واحد. الواحد والوجود لا يدلان على مركب بل على واحد كما تدل عليه الأسماء المشتقة.
67
ويطيل ابن رشد عرض النقاش بتكرار ممل ودون اختصار وتركيز. فهناك نص أرسطو وشرح الإسكندر وتلخيص ثامسطيوس وشرح ابن رشد على فكرة رئيسية واحدة وهي نفي الوجود الفعلي للصور الأفلاطونية والأعداد الفيثاغورية، الواحد لديهم جوهر موجود في الخارج غير الجوهر المادي المحسوس الذي يقول به أنصار العلم الطبيعي واعتبروه أحد العناصر الأربعة. وهو ليس بكائن ولا فاسد إلا بالعرض عندما يفنى الشيء ولكنه بالذات باق، وكذلك الصورة مثل الوجود الواحد لها وجود سابق على المادة، قائمة خارج النفس، موجودة بذاتها عند أفلاطون في حين أنها عند أرسطو مستقرأة من الجزئيات كما هو الحال في كتاب «البرهان». وهي مادة العلوم ومتقدمة على الموجودات؛ لذلك كانت الرياضيات أساسا للعلوم إذا ارتفعت الكليات ارتفعت الجزئيات، وإذا ارتفعت الجزئيات لم ترتفع الكليات. فالمنطق مثل الرياضة علم سابق على الموجود، نظر في المبادئ العامة للأجسام. وقد انتهى ذلك كله إلى الجدل نتيجة للاعتقاد بوجود أمور خارجة عن النفس وعن طبيعة الشيء مما جعله غير مطابق للإقناع أو الموجود؛ ومن ثم تكون الأقاويل خارج المنطق. الإنسان واحد بالعدد كثير بالقوة. وقد وافق أصحاب العلم الطبيعي مثل أنبادقليس الفيثاغوريين وأفلاطون في أن اسم الواحد والموجود يدل على طبائع واحدة بسيطة، جعلها أفلاطون الصور العددية. وهي كلية أساس العلوم الضرورية. فالصور أساس نظرية المعرفة ونظرية الوجود في آن واحد. هي جوهر واحد، لا يكون ولا يفسد، غير محسوس، ليس لها فناء في الكون. القول بالصور نظرية في المعرفة كما هي نظرية في الوجود. فلو لم تكن الصور موجودة وكان كل ما يظهر حقا لما كان هناك فرق بين العلم والجهل، ولما كان هناك علم بالمنطق وبالمقولات وبالقضايا وبالقياس، ولاقتصر الناس على العلم بالجزئيات، ولصحت الأقوال السوفسطائية التي تقتصر على الأعراض مما اضطر أفلاطون إلى إلقائها ولم يجعلها داخلة في الوجود والجوهر.
68
والخلاف بين أفلاطون وأرسطو في المحرك. فعند أفلاطون المحرك هو المتحرك وعند أرسطو المتحرك غير المحرك لا يتحرك. وهنا يبدو أفلاطون أكثر علمية بتحليل الحركة بمبدأ ذاتي بينما يبدو أرسطو أكثر دينية بالقول بمحرك خارجي لا يتحرك. وإذا كانت الصور والأعداد والجواهر مفارقة فلا يمكن أن تكون عللا فاعلة أو محركة؛ ومن ثم تكون حركة الموجودات عبثا. الصور مثل، والمواد لا تتحرك دون محرك؛ لذلك آثر البعض مثل أفلاطون ولوقبس وديموقريطس أن يجعل للحركة وجودا خارجا عن الصور. فوضعوا قبل العالم حركة دائمة غير منتظمة ثم حولها الله إلى نظام عند أفلاطون وإلى حركة الأجزاء في الخلاء عند لوقبوس، ولكن كيف تكون هذه الحركة الدائمة قبل العالم ممكنة دون مبادئ محركة ذواتها؟ يرد أفلاطون بأن الله خلق الملائكة بيده ثم وكلها خلق الحيوانات. وبقي هو مستريحا، وهو لغز لا يليق بالحق. يحكم ابن رشد بتصوره الإسلامي للخلق على تصور أفلاطون. ثلثه مسيحي في خلق شيء، وثلثه يهودي في الإشراق، وثلثه يوناني في الكمون. ويستعمل ابن رشد لغة الموروث مثل البارئ، الملائكة، الحق؛ للتعبير عن تصور الوافد.
69
ويذكر ابن رشد فيثاغورس والفيثاغوريين وآل فيثاغورس مع أفلاطون في نظرية الأعداد كأصل لوجود الأشياء كما قال أفلاطون في الصور المفارقة. فالواحد أصل كل شيء في مقابل الطبائعيين الأوائل الذين قالوا بجوهر مادي لتفسير أصل الكون مثل المحبة عند أنبادقليس أو واحد العناصر الأربعة مثل النار والماء والهواء عند آخرين، فهل الواحد العددي هو الواحد الذي هو الجوهر الواحد؟ وهي مشكلة الكليات والجزئيات، الاستنباط والاستقراء، عالم الأذهان وعالم الأعيان. الأعداد مبادئ الموجودات لا من جهة أنها صور أفلاطونية بل من جهة أنها عناصر الموجودات التي منها تتكون. ويلزم الأفلاطونيين والفيثاغوريين معا أن تكون لهذه الصورة صورة واحدة، ولهذه الأعداد عدد واحد، فلا يكون هناك فرق بين الموجودات، فالنظرية تفسر الوحدة ولا تفسر الكثرة، وتذكر مبدأ التفرد. هل الواحد جوهر بذاته أم في موضوع؟ الأول إجابة فيثاغورس والثاني إجابة أنبادقليس. ولا يكتفي الفيثاغوريون بالقول بالأعداد بل إنهم جعلوا الأعداد أصل الموجودات. قالوا ذلك على طريقة التشبيه أي مجازا لا حقيقة على ما هو معروف في تحليل اللغة في علم الأصول. ويدقق ابن رشد في التاريخ، ويشرح عبارة الإسكندر، ويتحقق من قول شبيه بقول الفيثاغوريين من أن الأعداد سبب جوهر الأشياء، وهم أصحاب الجزء الذي لا يتجزأ تحقيقا للمناط. ويضع ابن رشد الفيثاغوريين في تاريخ الفكر اليوناني مع الأفلاطونيين القائلين بالصور المفارقة والطبائعيين القائلين بالجواهر المادية راصدا أوجه التشابه والاختلاف بين التيارات الثلاثة بروح المؤرخ الدقيق وبمنهج القاضي الحصيف. يوافق الفيثاغوريون الطبيعيين على القول بالمبدأين ولكن ليس على نفس النحو مع الشخص أم المجموعة؟ الأقرب مع الشخص لأن المجموعة تاريخية مثل القدماء أو مذهبية مثل الطبيعيين؛ فالفيثاغوريون وسط بين الأفلاطونيين والطبيعيين لأنهم يعترفون بالوجود الطبيعي للأشياء ويفسرونها تفسيرا رياضيا لا يقضي عليها، في حين أن الأفلاطونيين يعتبرون الأشياء وهما خادعا؛ لأن حقيقتها في الصور المفارقة. كلاهما يتفق في الهوية والواحد المشاركين في الطبع والبساطة. أما أصحاب العلم الطبيعي مثل أنبادقليس فإنهم اتفقوا مع أفلاطون والفيثاغوريين على أن اسم الهوية والواحد يدلان على طبائع واحدة وبسيطة. وقالوا في طبيعته قولا أوضح ولكن الصعوبة عند الفيثاغوريين أنهم جعلوا الواحد العدد.
70
ومثل أعداد فيثاغورس وصور أفلاطون هناك واحد بارميندس؛ فالواحد والوجود يدلان على شيء واحد حتى نفى بارمنيدس الكثرة وقال بالوجود البسيط الواحد غير العنصر. وخطؤه أنه لم يفرق بين اسم الموجود الدال على الواحد بالعدد والدال عليه بالجنس، فاعتقد أن الوجود كله واحد بالعدد؛ لذلك نفى بارمنيدس الكثرة والأسطقسات. والصعوبة هو تفسير كيفية صدور الكثرة من الوحدة، والمركب من البسيط إلا أن يكون اضطرارا كما قال بارمنيدس. هذه الشكوك كانت لازمة للقدماء لأنهم لم يفهموا من الواحد إلا معنى واحدا على التواطؤ، الواحد الكلي والواحد الجزئي أي أنهم لم يكونوا يعرفون الأسماء المتواطئة كما هو الحال في تحليل اللغة في المنطق في مبحث العبارة وفي مبحث الألفاظ في علم الأصول. لفظ الواحد يقال على معاني كثيرة ، ويشارك مالسيس بارمنيدس في القول بأن الوجود واحد. ومع ذلك يقول بارمنيدس إن العقل يخص الناس على قدر مزاج الأعضاء. فهو ميتافيزيقي مثالي في الوجود، ومادي طبيعي في الإنسان.
71 (د) ديمقريطس، أنبادقليس، أنكساغورش، أنكسمندريس
ويذكر أرسطو مجموع الطبيعيين، ديموقريطس وآله، أنبادقليس وآله وأنكساغورش وآله. مرة يكون الأهل قبل الاسم ومرة بعده. ويجعل ديموقريطس نموذجا للتساؤل حول المعرفة شكا ويقينا. فإما ألا يكون هناك شيء خارج الذهن وإما أن يكون هناك شيء له حقيقة في ذاته ولا سبيل إلى إدراكه. وفي كلتا الحالتين تستحيل المعرفة. ثم يعرض للصلة بين المعرفة والوجود في استحالة أن يكون جوهر واحد مركبا من جوهرين. وهو قول صحيح. وقد أخطأ ديموقريطس في حده الجوهر بعناصر ثلاثة؛ الشكل والوضع والترتيب. الجوهر واحد وحدوده ثلاثة. وهو ذو طبيعة واحدة، الجزء الذي لا يتجزأ، وتختلف فيما بينها بالأشكال الثلاثة.
72
والأجزاء التي لا تتجزأ من الخلاء والملاء. بعضها له هوية وهو الملاء وبعضها ليس له هوية وهو الخلاء. يصحح أرسطو قول ديموقريطس. فكل قراءة إصلاح أي إكمال وعدل كما يفعل ابن رشد مع السابقين. قد يكون رأي ديموقريطس أن الأجزاء التي تتجزأ بالقوة قبل أن تشتبك بالفعل بمعنى كون الأجزاء أزلية ثم قراءة أرسطو لها تجعلها بالفعل.
وإذا كان الطبيعيون جميعا يمثلون تيارا طبيعيا واحدا يذكر أرسطو أنبادقليس وأنكساجورش. ويتميز أنبادقليس بأنه تجاوز مطلب الطبيعيين وهو البحث عن الأصل المادي للعالم والذي وجدوه في العناصر الأربعة إلى مطلب صوري حتى تكتمل المادة والصورة. ويضع ابن رشد أنبادقليس في تاريخ الفكر الطبيعي كتيار داخل الفلسفة اليونانية ككل الطبيعيين والمثاليين. ويقرأ ما بين السطور. ويؤول كلام أنبادقليس حتى يكتشف الجديد لديه وهو البحث عن الصورة والمادة. ويعبر عما لم يعبر عنه أنبادقليس. فإذا كانت مبادئ الأسطقسات مادية لا يعمها شيء ولا يتركب منها شيء مثل الجسم. فإن المطلب الذي لم يتحقق بعد هو الأجناس والكليات المعقولة وهو ما حققه أرسطو. فأرسطو يعيد التوازن بين المحسوس والمعقول، بين الوجود والمعرفة مثل فقهاء المسلمين وابن رشد الذي جمع بين موقف الفقهاء وموقف الفلاسفة.
73
ولم يكتف أنبادقليس بالعناصر الأربعة التي قال بها الطبيعيون لأنها عناصر مادية في حاجة إلى صورة فأضاف إليها علة الكون والفساد، المحبة والعداوة؛ إذ لا يمكن أن يمر واحد من الأسباب الأربعة إلى ما لا نهاية. المحبة هنا ليست الواحد العددي عند فيثاغورس أو الصورة المفارقة عند أفلاطون بل هي شيء وسط بين المادة والصورة، مبدآن أو دافعان يعملان مع العناصر الأربعة، زيادة عليهما وليسا منفصلين عنهما، الواحد في موضوع وليس جوهرا عدديا كما يقول فيثاغورس أو كليا مشاركا للموجودات كما يقول أفلاطون، مساهمة أنبادقليس إذن هي محاولة خروجه عن نظرية العناصر المادية الأربعة إلى القول بمبادئ لا مادية وفاعلة منتقلا من التفسير الوصفي إلى التفسير العلمي ومتجاوزا التفسير المادي إلى تفسير لا مادي ودون أن يقع في التفسير الصوري عند أفلاطون وفيثاغورس.
74
ومع ذلك فمحاولة أنبادقليس بالرغم من أهميتها في محاولتها تجاوز العلم الطبيعي هي أيضا موضع نقد من أرسطو والإسكندر وابن رشد؛ فهي لا تخلو من الشك والتناقض يدفع إلى الدخول معها في نقاش وحوار، وتثير قدرا كبيرا من الافتراضات. تغلب عليها الحجج الجدلية لإيقاع الخصم في التناقض. كما انتهى الأمر بهذه الظنون والشكوك إلى الشك في العالم الخارجي وتحويل الأشياء إلى ظنون مما يجعل نقد أرسطو وابن رشد يرد الاعتبار إلى العالم الموضوعي، وينقد التشخيص والذاتية الشعبية مما يؤدي إلى الخلط بين العقل والمزاج. وإن من تغير مزاجه تغير عقله. ومن انتقل مزاجه من مزاج إلى مزاج تغير عقله من عقل إلى عقل. كما تؤدي هذه المحاولة إلى جعل الله أقل علما من غيره نظرا لتفسير مظاهر الكون والفساد في الكون بالمحبة والغلبة، وهو نقد قائم على إدخال الوافد في الموروث وتحكيم الموروث في الوافد من ابن رشد وليس من أرسطو مثل أسلوب القرآن في الحوار بين الموحد والكافر. كما تخلط هذه المحاولة بين علة الكون والفساد وبين الطباع والمحبة والغلبة مما يجعل أنبادقليس مترددا بين التفسير الطبيعي والتفسير المبدئي. وتنتهي هذه المحاولة إلى القول بأن كل شيء يفسد إلا الأسطقسات لأن الموجودات نوعان؛ فاسدة وغير فاسدة. فالأول غير فاسد لأنه خال من الغلبة وهو قول غير طبيعي، وهي نفس المعادلة. فنسبة المحبة إلى الغلبة كنسبة الواحد إلى الكثير، ولما كان الله واحدا فإنه محبة وخاليا من الغلبة. وإذا قام التركيب أو الاختلاط بناء على المحبة والعداوة فهل هما مبدآن متساويان في القوة؟ وكيف تم استثناء الواحد من الغلبة؟ وهل يتساوى الخير والشر؟ هل هما على التبادل؟ هل الكون والفساد يستويان على التبادل؟ وهل يفنى العالم ويفسد بغلبة العداوة؟ وماذا عن المحبة وانزوائها في الله وحده؟ أم هي دورة لا متناهية من كون وفساد إلى كون من جديد، من محبة إلى غلبة إلى محبة من جديد؟ ولمن تكون الكلمة الأخيرة، للكون أم للفساد، للمحبة أم للغلبة؟ ويمكن نقد أنبادقليس على الرغم أن نظريته تقوم على مفهوم الاختلاط والتركيب. هو تصور كمي مادي وليس تصورا معنويا. والحقيقة أن هذه المحاولة نموذج تشخيص الطبيعة وإسقاط الإنسانيات على الطبيعيات بالرغم من وجود الصراع في الطبيعة، الدفع، التناقض، الصراع، تحول الدين إلى كائن مشخص لا طبيعي للصراع ضد الوثنية في نشأة الدين. والآن بعد الوقوع في الوثنية المضادة، فالعودة إلى المذهب الطبيعي الأول دفاع عن التوحيد اللامشخص الذي لا يقوم على التشخيص أو التشبيه، فإذا كانت الفلسفة في الوعي الحضاري مقاصد عامة أو بواعث كلية فإنها تظهر في اتجاهات وتيارات. الحضارة قصد تاريخي والفلسفة قصد شعوري. ويظهر المطلبان في القصد الفردي والقصد الحضاري في آن واحد. هكذا يفعل أرسطو وابن رشد في تحليل الفلسفة اليونانية بناء على الوعي التاريخي.
75
ويرى أنكسماندريس أن الأسطقس مادي، عنصر غير متناه، متوسط بين الهواء والنار والماء والهواء. ويثبت خروسيس جواهر كثيرة ابتداء من الواحد، وأوائل كثيرة لكل جوهر أول. والأول والجوهر الأول له آخر ما دام له عظم وكذلك النفس مثل ذلك تكثر، هذا الصراع بين الكثرة والوحدة في تصور الجواهر أي الطبيعة يكشف عن الصراع بين التوحيد والتعدد في الشرح على مستوى الطبيعة وما بعد الطبيعة، وضعها الأصوليون في الأمور العامة في علم أصول الدين، هل هي منطق طبيعة أم ما بعد الطبيعة؟
76
وأنكساجوراس مع الطبيعيين ولكنه يجعل مبدأ الأشياء أكثر من واحد مثل الطبيعيين الأوائل أحد العناصر الأربعة وأكثر من اثنين المحبة والغلبة مثل أنبادقليس بل مبادئ متكثرة، الأجزاء التي لا تتجزأ التي منها يتكون الخليط بالإضافة إلى العقل، وهما في الحقيقة مبدآن؛ الخليط وهو ما يعادل المادة، والعقل وهو ما يعادل الصورة، الفاعل والمنفعل، العلة والمعلول. فالكل مختلط بالكل. الخليط أشبه بالوسيط بين الموجود والمعدوم. ويمكن نقد هذه النظرية أولا بالتساؤل حول هذا الخليط هل هو مادة أم مبدأ؟ الأجزاء التي لا تتجزأ أم مبدأ النسب؟ فإذا كان الخليط مادة فنظرية أنكساجوراس تقوم على الخليط كمادة أو كصورة، والعقل كمبدأ فاعل، وإذا كان الخليط مبدأ فمن ثم تقوم النظرية على مبدأين مثل المحبة والغلبة عند ابن دقلييس. كما يلزم من هذه النظرة ثانيا أن تكون الأجسام المتشابهة الأجزاء أولا، غير مختلطة قبل أن يتحقق فيها الاختلاط. ثالثا إذا كانت الأجسام المتشابهة المختلفة هي الأجزاء التي لا تتجزأ في غاية الصغر كيف يتم الاختلاط بينها؟ رابعا يؤدي إنكار العالم الخارجي الموضوعي والوقوع في الذاتية مثل ديموقريطس وبارمنيدس إلى جعل العقل مزاجا، والشيء عقلا وظنا ووهما مثل رد الكثرة إلى الوحدة، وفي ذلك يشترك أنكساجوراس مع بروتاجوراس، فجميع الأشياء موجودة معا في الضد، والوجود تابع للاعتقاد وليس الاعتقاد تابعا للوجود، وأن الموجودات متقدمة على الوجود، ويظن من قبل الحس أنها متكونه هي ليست كذلك في الحقيقة بل يخرج بعضها من بعض، ولما غاب الوجود الذي هو أساس الموجودات كانت الموجودات بلا أساس.
77
لقد أخطأ أنكساجوراس بقوله إن جميع الأشياء غير متناهية في الكثرة والصغر لأن الكثرة والصغر متناهيان. ولقد اضطر القدماء بقولهم بدوام الكون إلى القول بأشياء موجودة بالفعل غير متناهية مثل أنكساجوراس. كما أن هذا الخليط أشبه ما يكون بالقوة وليس بالفعل. وهو تفسير غير كاف لأن الكثرة تأتي إما من كثرة للهيولى أو كثرة الفاعل، والفاعل واحد وهو العقل؛ ومن ثم فلا يوجد سبب معقول لتفسير الكثرة في العالم وإلا كان العقل بإطلاق. وإذا كان العقل هو المحرك فمن الذي حركه؟ ما هو المحرك الأول؟ أحيانا يعتبره أنكساجوراس الخير، ولكن ما هي العلة الغائية للحركة؟ كما أنه لا يمكن للعقل والخير أن يفعلا الدين معا، الخير والشر.
78
ويقدم ابن رشد تحليلا نفسيا اجتماعيا لأقوال أنكساجوراس ويحلل شعوره. فالعلم دوافع ومقاصد. لما قال أنكساجوراس إن الذي يؤثر اتباع الحق فإن الصواب يلوح في أقاويله فإن ذلك يدل على أن أنكساجوراس كان يريد بفلسفته إما أن يحدث له ذكرا أو يروج بها نصرة رأي مشهور. والأمر الأول لأنه لم توجد في وقته شريعة يحكم بها عليه فيحدث له ضرر كبير. فقد تكون الأهواء البشرية وراء طلب المجد والشهرة، وأن التجرد في البحث والنظر لا وجود له، وأن الفكر هو تشيع لرأي ومذهب، وأن الحقيقة المجردة لا وجود لها. يتصور ابن رشد أن دور الشريعة هو الحكم على الناس ومحاكمتهم واتهامهم إسقاطا من ابن رشد على أنكساجوراس، ويكشف عن واقع الأندلس وأنه واقع كل المفكرين في كل زمان ومكان.
79
ولا تعارض بين تحليل الفكر باعتباره قضايا فكرية كما يفعل ابن رشد أو كتحليل اجتماعي، فالمفكر ابن مجتمعه أو تحليل فكري نفسي اجتماعي. قد لا يكون للميتافيزيقا موضوع خاص إلا إعادة التفكير في المنطق والطبيعة حتى يمكن رؤية المنفذ الذي يتم منه الاغتراب حتى يمكن إعادته إلى الموقف الطبيعي. (ه) بطليموس، أبرخس، أوطوكسيس، فيلومس
ويثبت بطليموس حركات زائدة على ما أثبته القدماء للقمر ولسائر الكواكب مثل حركة المحاذاة للقمر وحركة الأقطار لأفلاك التدابير. على الأقل وضع بطليموس للقمر حركتين زائدتين، وهنا يدخل علم الطبيعة والفلك لتفسير موضوعات ما بعد الطبيعة وكأنها علم واحد؛ الأول طبيعي والثاني اغتراب عن الطبيعة؛ وبالتالي يمكن تفسير ما بعد الطبيعة لأرسطو بالحالة الراهنة للعلم في عصره، فالميتافيزيقا امتداد للعلم. يمثل بطليموس الفكر العلمي في حين يمثل الطبيعيون الفكر الميتافيزيقي.
80
ومع ذلك لم يقدر بطليموس اضطرار القدماء للقول بالحركات اللولبية لأنها كانت أسهل عليهم وأبسط لعود الحركات حتى تعود الناس على هيئة بطليموس فتركوا عادتهم القديمة. فالفكر العلمي في حاجة إلى تعود واقتناع. ويمكن أيضا مراجعة بطليموس وتأويل ملاحظاته مثل ظن بطليموس أن حركتي الفلك؛ الإقبال والإدبار أنهما حركتان تامتان له من المغرب إلى المشرق. ويعتمد ابن رشد على نص لبطليموس غير «المجسطي» يسمى «الاقتصاص» وقد شارك أبرخس بطليموس في تأسيس علم الهيئة. وأوطوكسيس أيضا فلكي مثل بطليموس مثل الطبيعيين يرى أنه من السهل جمع الأشياء الكثيرة في واحد يجمع بين الميتافيزيقا والفلك. وكان يضع للشمس والقمر ثلاثة أفلاك أو ستة، ومن المتحيرة أربعة، في حين أن فيلومس كان يضع عددا أكثر، وهنا يتداخل علم الفلك مع الميتافيزيقا بحيث تبدو الميتافيزيقا تفكيرا على العلم عند أرسطو وابن رشد. وقد تأتي علوم الحياة كوسط بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي مثل جالينوس وتحليله للقوة في الزرع هل هي الخالق أم لا؟ وهي لا تعمل إلا بالحرارة لا على أنها صورة فيها كالنفس في الحرارة الغريزية بل على أنها منحصرة فيها مثل انحصار النفس في الأجرام السماوية. فجالينوس موحد بالطبيعة، وتصوره للخلق بتحليل القوة في الزرع والنفس في الأجرام السماوية. ويجوز جالينوس وجود المزاج المعتدل في الأطراف المتضادة في حين ينكر ابن رشد ذلك وإلا لأمكن تكونه من الأطراف دون أن يلحقه تغير ولا نقص، ويحيل ابن رشد إلى عمله السابق في الرد على جالينوس.
81
ويتداخل الفكر الطبيعي والرياضي والميتافيزيقي والإنساني مما يدل على بدايات العلوم قبل تمايزها أو انفصالها وفقدان توازنها. ويظل السؤال ما الأصل وما الفرع في العلم الطبيعي والعلم الإلهي أم أن هناك مدخلا آخر بينهما هو العلم الإنساني الذي يمثله سقراط أو السوفسطائيون.
82 (و) سقراط والسوفسطائيون
لقد أضاف ابن رشد في شرحه سقراط أو سقراطيس ليس فقط كمثل مثل زيد أو عمرو بل لأنه من مشاهير الحكماء . تكلم في الخلقيات وليس في الطبيعيات، ونظرا لأهمية السبب الغائي عند من جحد الفاعل وقال بالاتفاق. فالغائية في الطبيعة وفيما بعد الطبيعة وفي الإنسانيات، وهي أساس الفرد والمجتمع. والقول بالاتفاق إنكار للغائية التي أثبتها سقراط وأفلاطون وأقاما عليها تدبير المدن بحسب اعتقادهما في غاية الإنسان. لقد ألهمت الطبيعة في كلتا الحالتين النسب من سبب أكرم منها وأشرف وأعلى مرتبة وهي النفس التي في الأرض. ثم افترق أفلاطون وأرسطو في علة وجود هذه النفس في الأرض ونشأتها من الآلهة الثواني عند أفلاطون، ومن الشمس والفلك المائل عند أرسطو، الأولى أقرب إلى المثالية الدينية، والثانية أقرب إلى الواقعية الكونية؛ لذلك ظلت النفس مشتاقة نحو الغرض. وقد شرح ثامسطيوس ذلك في كتابه في التنفس. وهي النسب التي سماها أفلاطون الصور ناظرا إليها من بعد، وجعل لها وجودا مفارقا، وهي قوى حادثة في الأسطقسات عن حركات الشمس وسائر الكواكب.
83
وبعد إدخال البعد النفسي الأخلاقي بين الطبيعة وما بعد الطبيعة يواجه ابن رشد خطر السوفسطائيين الذين يقضون على هذا البعد الجديد بإنكار الحقائق. وينتقد ابن رشد نسبية بروتاجوراس بداية بنسبيته الرياضية في أن الدائرة لا تمس المقدار بنقطة بل تماسها بخط، وأن الكرة تماس السطح على نقطة، والكرة المحسوسة تماس السطح المحسوس على سطح. وهذا هو سبب توبيخ بروتاجوراس للمهندسين، كما ينقده ابن رشد لإطلاقه الموجبة على السالبة، والسالبة على الموجبة في المنطق لأن كل ما يظنه الإنسان فهو صادق. الإنسان والزورق والإله واحد؛ ومن ثم يلحق بروتاجوراس بقول أنكساجوراس بأن جميع الأشياء موجودة معا، وأن الضد موجود في الضد أي أن الموجود تابع للاعتقاد وتابع للموجود، وأن الموجود لا يوجد إلا في النفس. فالذاتية بلا موضوعية نسبية وشك. ليس الإنسان مكيالا لكل شيء، فالوجود لا يكال بالإنسان. والحقيقة مستقلة عن الاعتقاد.
84
وينكر مانن العلم والتعلم نظرا لإنكار القوة قبل الفعل. فالتعلم لا يخلو أن يكون إما بغير فعل أو بفعل تعلم. فإن كان بغير فعل فليس هناك تعلم، وإن كان بفعل تعلم فالمتعلم كان عالما ولا يحتاج إلى تعلم أصلا. وينكر غاريقون أن تكون القوة متقدمة على الفعل بالزمان مثل مانن. فهما يوجدان معا، وهذا يعني إنكار القوة لأنها بالضرورة متقدمة على الفعل. وأرسطويفوس ينكر العلة الغائية وسبب شكه أنها لا توجد في أوثق العلوم وهي الرياضية مع أنها موجودة حتى في الأعداد والأعظام في صورة نظام وترتيب. ويرى زينون أن الشيء الذي لا ينقسم ليس بشيء لأن الشيء يزيد وينقص وإلا لم يكن من الهويات. والواحد عند زينون لا يزاد عليه لأن الزيادة تجعله أكبر فينقسم ولا يبقى واحدا. ويرد عليه ابن رشد بأن العدد والعظم مركبان من الواحد ومما ليس بواحد. ويبين أخطاء زينون في الاستدلال. ويبحث عن الصدق في القول أي القول ذي المضمون المتفق عليه من العقلاء قبل أن ينقله على الموروث في إثبات الحقائق، وقال هرقليطس إن النفي والإثبات شيء واحد نظرا للتغير في الشيء منذ لحظة الحكم عليه؛ لذلك آثر الإشارة بإصبعه وعدم الكلام حتى لا يسبق الشيء القول. فكل الأقاويل حق وباطل في نفس الوقت لأنهما لم تعد تصدق على شيء؛ ومن ثم انتفى العلم بالمحسوسات الضرورية. فكل قضية صادقة وكاذبة معا حتى هذه القضية، وهو خلط بين الطبيعة والمنطق.
85
وهوميروش ذكر أمثلة على الذاتية وتبعية العقل للمزاج وتبعية الشيء للعقل مثل ديموقريطس وأنبادقليس وأنكساجوراس، والمادية خطوة نحو الشك.
86
ولقد احتار الناس في أقوال كسانقراطيس حتى عرفوا أوجه الخطأ فيها وضموه إلى السوفسطائيين، وتكلم أبيقورس في الأمور الإلهية لإقناع نفسه وليس لإقناع الناس لأنهم فهموا الألغاز واقتنعوا بها وكأن وظيفة الألغاز إقناع النفس وليس إقناع الآخرين كما هو الحال في التصوير الفني. ولا يسأل أبيقورس أشياء برهانية لأن أقواله ليست كذلك. وأنطيفاس رجل مشهور له أصحاب ويسأل عن طريق الأدب لأنهم جهلوا أن الحد ليس لجميع الأشياء. ويعني عدم الأدب أي عدم العلم بعلم المنطق. لا يهم المثل أو الاسم بقدر ما يهم الرد على الشكاك في الحد. ويضرب المثل بهرمس للعالم وبربوسوس بالجاهل. وأرسطوطاليس رجل مشهور في عمل الحدود الخاصة التي تجمع بين الصورة والعنصر. ويسقط ابن رشد بعض الأسماء اليونانية من شرحه مثل ديموس صاحب علم الشرائع وكذلك اسم فولوفيطس صانع الصنم للدلالة على الاسم المركب وهو ما سيفعله ابن رشد في تلخيص الخطابة.
87 (ز) فرق الحكماء القدماء والمحدثون
ويذكر ابن رشد أسماء فرق ومذاهب مثل القدماء والمحدثين والحكماء والأوائل المتقدمين. ولا يوجد لهم ذكر في نص أرسطو لأن ابن رشد يضع أرسطو في إطار تاريخ الفلسفة اليونانية، ويضع الفلسفة اليونانية في إطار تاريخ الفلسفة العامة. فالقدماء والمحدثون، والأوائل والأواخر يعبران عن وعي تاريخي إنساني عام ومسار الحضارات الإنسانية؛ لذلك لا تظهر هذه الألفاظ في النص المشروح بل في النص الشارح. فالوعي التاريخي عند ابن رشد أكثر ابتداء من الوعي التاريخي عند أرسطو. الوعي التاريخي اليوناني أقل انتشارا وأصغر مسارا من الوعي التاريخي عند ابن رشد. وأحيانا تزيد نسبة الإحالة عند ابن رشد إلى الفرق والمذاهب التي يشير إليها أرسطو مثل الفيثاغوريين والهرقليين في الألف الكبرى. وقد تزداد الإحالة نظرا لأهمية الفرقة مثل الفيثاغوريين. وقد تصل إلى ثلاثة أضعاف كما هو الحال في الألف الكبرى والباء. وأحيانا يذكر ابن رشد مجموعات أخرى مثل القدماء والجدليين والمتقدمين لم يذكرها أرسطو لأن الوعي التاريخي عند ابن رشد أعمق وأعم نتيجة للتراكم التاريخي من اليونان إلى الإسلام وزيادة ابن رشد القدماء والطبيعيين والفلاسفة والقدماء الأول والمتقدمين في الباء من أجل وضع الجزء في الكل. ويزداد تكرار السوفسطائيين في الجيم نظرا لهجوم ابن رشد عليهم. وفي الدال يضيف اليونانيين تأكيدا للتمايز بين الأنا والآخر. وفي الزاي يضيف ابن رشد القدماء والسوفسطائيين. وفي الثيتا يضيف ابن رشد السوفسطائيين والطبيعيين والمنجمين والأوائل. وفي العاشرة يضيف القدماء وأصحاب العلم الطبيعي، ويتضاعف الهرقليون. وفي حرف اللام يتضاعف القدماء في الشرح سبعة وعشرين مرة مما يدل على إحساس ابن رشد بوراثة أرسطو ووراثة المحدثين للقدماء أي المسلمين لليونانيين.
88
وقد تقل نسبة الإحالة عند ابن رشد مثل الإحالة إلى الإيطاليين أو الطبيعيين الذين هم أكثر ارتباطا بأرسطو منهم بابن رشد . وقد تتساوى الإحالة إلى المجموعات بين أرسطو وابن رشد مثل الإحالة إلى اليونانيين في الألف الكبرى. وقد تختفي الإحالات إلى المجموعات كلية عند ابن رشد مثل الإحالة إلى الأوائل واليونانيين والقدماء وأصحاب الشرائع والقدماء من الطبيعيين إسقاطا للآخر كلية ووراثة الأنا له، والتحول من علاقة المركز بالمحيط إلى علاقة المحيط بالمركز، من اليونان إلى المسلمين.
89
وعندما يشير ابن رشد إلى القدماء فإنه يطلق حكما عاما على الفلسفة اليونانية بصرف النظر عن العلم، طبيعيات أم رياضيات أم فلك أم إلهيات. فقد كانت هذه العلوم واحدة داخل علوم الحكمة. القدماء هم من قبل أرسطو بالنسبة له ومن قبل ابن رشد بالنسبة له، وقد أرخ أرسطو لعدة مشاكل: الصورة والمادة، الواحد والكثير، العلة والمعلول، الكليات والجزئيات، المعقولات والمحسوسات. واستسهل القدماء الحلول لأن الفكر الفلسفي كان ما زال في بدايته، ولم يتحول إلى فكر علمي بعد. يرى الظواهر في تعقيدها وليس في بساطتها. وهي كلها ثنائيات تعبر عن الفكر المثالي القديم الذي سهل بعد ذلك تركيبه على الفكر الديني الموروث. وقد خصص أرسطو مقالة خاصة للتحقق من صدق آراء القدماء أو كذبها في مبادئ الموجودات، وهو الجزء الثالث من علم ما بعد الطبيعة. فتاريخ الفلسفة جزء من الفلسفة، وتاريخ العلم جزء من العلم.
90
وقد اختلف القدماء في مبادئ الموجودات بين الوحدة والثنائية والكثرة وفي طبيعة كل منها. فقد اعتبر بعض القدماء أن هناك مبدأ واحدا ترد الكثرة إليه مثل الأجناس العامة، الواحد والموجود، وقد يكون الواحد صوريا مثل صور أفلاطون أو أعداد فيثاغورس. وقد يكون أصلا ماديا كما هو الحال عند الطبائعيين الأوائل مثل العناصر الأربعة، ويعطي ابن رشد بعدا لغويا جديدا، الأسماء المشتركة طبقا لتحليل اللغة عند المناطقة اليونان ومباحث الألفاظ عند الأصوليين المسلمين، ولم يقل أحد من القدماء باختلاف المبادئ غير الفاسدة، بعضها بفعل الفساد وبعضها بفعل الموجود. بل قالوا إن أوائل جميع الموجودات واحدة بأعيانها، بل إنهم قالوا إن الواحد الموجود شيء واحد دون معرفة أن ذلك اسم متواطئ أي ضرورة المدخل اللغوي لحل شكوك القدماء. فهي قراءة إسلامية لمعارك أرسطو مع القدماء من أجل إعادة التوازن في الشعور الفلسفي اليوناني وإيضاح ما ليس فيه من الأسماء المشتركة. الشرح هنا اكتشاف للتاريخ عند ابن رشد كما تم اكتشاف بنية التاريخ عند الفارابي في الجمع بين رأيي الحكيمين.
91
بالنسبة للمبادئ الكلية هناك الصور الأفلاطونية والأعداد عند فيثاغورس. اختلف القدماء حول طبيعة الأعداد هل هي مثل الصور أو مثل الموجودات أو هي متوسطة بين الاثنين. وعند البعض الآخر أن المبادئ أضداد. فالمضادة الأولى في العدد الكثير والقليل، وفي الأعظام المضادة الأولى المبادئ. فالأضداد تكون من شيء واحد. واعتقدوا أن الكون يكون من العدم. والقول بأن المبادئ امتداد غير كاف لتفسير الكون والفساد. ولا بد من إدخال أمر ثالث في التضاد وهو الموضوع الذي لم يقل فيه أحد قولا مستقيما ولا كيف صار موضوعا لذلك. لم يستطيعوا حل الشك لإبطال الكون ولا استطاعوا إعطاء علة الكثرة ووحدة العنصر والفاعل؛ لذلك قال أرسطو العلل ثلاثة، وأن أحد الضدين هو ما يدل عليه الحد وهو الصورة، والثاني عدم الصورة، والثالث هو الهيولى بالقوة، وكأن ابن رشد يشرح أرسطو شرحا جدليا. فبين المادة والصورة هناك القوة أو التحول من أحد الضدين إلى الآخر لإحداث مركب الموضوع.
92
واتفق آخرون على أن الموجودات قسمان؛ محسوسة وغير محسوسة. ويردهما أصحاب التعاليم إلى مبادئ معقولة واحدة ثم يردونها إلى الأمور المحسوسة وكأن الأعداد لها وجود متوسط بين المعقولات والمحسوسات، سماها ابن سينا مع الكثرة وليست بعدها كالمحسوسات أو قبلها كالمعقولات.
93
لقد حاول الفيثاغوريون الحديث في الموجودات حتى لا يكونوا أقل من الطبيعيين. فالحديث عن الطبيعة ميزة عند الطبيعي على الرياضي الذي يتهم بإنكار المحسوسات. وظن الطبيعيون أنهم وحدهم يفحصون في معرفة كلية الطبائع والهوية.
هناك مذهبان ووسط وهو الحق. الأول اختلاف اسم الجوهر على ماهية الشيء المادي (الطبائعيون)، والثاني على الكلي المحمول على الشيء، النوع أو الجنس، (أفلاطون) ثم يأتي أرسطو فيتوسط بين الجزئيات والكليات، بين الفردي والعام، وهو الحق، فأرسطو إسلامي يعرف قيمة التوسط. وابن رشد يوناني يشرح مسار التاريخ اليوناني. هذا التوسط عند القدماء ليس على مستوى اللغة كما هو الحال في الموروث بل على مستوى المعرفة والوجود، ثنائية الحس والعقل أو الجزئي والكلي.
94
وتبدو قضية النفس والبدن تعبيرا عن هذه الثنائية التي اختلف عليها القدماء بين الصوريين والماديين. فالفعل مشترك بين النفس والبدن، المعرفة من النفس والبدن، ولكن الصحة من النفس وسبب المرض من البدن. ويأتي البحث في الأشياء الإرادية بعد البحث في الأشياء الطبيعية والميتافيزيقية، وهي الأشياء التي تشترك في عمل واحد، ويوجد فيها هذان الصنفان من الأفعال.
95
واتفق فريق ثالث أن مبادئ الموجودات ثلاثة.
96
وقد يكون المبدأ الواحد هو الجوهر، والجوهر كلي، وما هو كلي أحق بلفظ الجوهر. والواحد الكلي هو المبدأ لجميع الأشياء، وهو من الحدود سواء كان ماديا أو كليا ضد من يتشكك في ذلك. وأحيانا يكون الجوهر مفارقا. والذين قالوا بالصور لم يقولوا في عددها قولا مقنعا أو يبينوا الطريق للوصول إليها. واعتبر المحدثون الكليات هي الجواهر مبادئ الجوهر المحسوس. ومن القدماء من قال إن المبدأ الأول خير دون أن يفصل على أية جهة، وكيف صار غاية للكل أو محركا أو صورة.
97
وقد يكون الجوهر الواحد ماديا مثل الهيولى، ثم اختلف القدماء في تحديدها بأحد العناصر الأربعة، والعلل أربعة كما أكملها أرسطو وأتمها ونسق بينها بعد أن جعلها القدماء متناقضة خاصة الصورية والمادية. ولم يفصلوا الفاعلة، ونسوا الغائية. وعند أرسطو الجسم هو الجوهر دون السطوح (الخطوط)؛ لذلك اعتبر كثير من القدماء أن الجوهر والهوية جسم، وأن سائر الأشياء لا تحد بحد الجسم، وظنوا أن أوائل الأجسام أوائل الهويات. يضع أرسطو البنية ويأتي التحليل من التاريخ. البنية تأتي أولا ثم يتلو التاريخ باعتباره تطورا لها، وقد جعل بعض القدماء المبادئ موجودات متفردة لا كليات كما هو الحال في العلم الطبيعي، فجعل البعض مبدأ الجوهر هو المحبة وعند البعض الآخر جسم متناه مثل الهواء أو الماء. وعند فريق ثالث جسم غير متناه، وغير المتناهي هو الأسطقس الأول. وأجناس الأسباب الأولى أربعة. فمبادئ الجوهر عند القدماء الأسطقسات وعللها أيضا مبادئ أول. أما الجزئيات فهي النار أو الأرض الحسية الفعلية. وفريق رابع يرى أن الجوهر متغير، وأن الإنسان لا ينزل النهر الواحد مرتين مثل هرقليطس. ولم يفت القدماء تناول الكيفيات الانفعالية في الموضوعات الطبيعية والتي عبروا عنها باسم الآلام.
98
ويعرض ابن رشد موضوع القوة والفعل وموقف القدماء منه. وهو أحد الموضوعات الرئيسية في كتاب ما بعد الطبيعة، فقد أنكر بعض القدماء الوجود الفعلي للكون، وأن من ظن الحواس أنه متكون وهو ليس كذلك بل تخرج الموجودات بعضها من بعض. فالموجودات متقدمة بالوجود والفعل. والسبب في ذلك أنهم لم يلاحظوا تماما طبيعة الهيولى بل توهموها بالرغم من توجههم نحوها وكأن طبيعة الحق دفعتهم إليها. هناك إذن بواعث حقيقية وتوجه صحيح للشعور نحو الموضوع.
99
يرى ابن رشد أن الحق يدفع الشعور التأملي نحو الحق، ومهمة الشعور الإدراك المباشر والرؤية عن قرب؛ لذلك عجز القدماء عن إدراك سبب كثرة الموجودات من قبل الهيولى حتى مع نظرية أنكساغورش عن الخليط. وإذا كان التفسير الأولي للهيولى ينكر الوجود فإن التفسير الثاني لها يجعلها جوهرا ماديا محسوسا فيتقضى على الكليات. ويشير هنا لأول مرة ويخصص قدماء المشائين. وقال آخرون بدوام الكون مما اضطرهم إلى إنزال أشياء موجودة بالفعل غير متناهية كما فعل أنكساجوراس وهو محال. وينقد أرسطو من ينكر القوة في الموجودات.
ويظهر إعادة تركيب تاريخ الفلسفة اليونانية على التصور الإسلامي الموروث وتعشيق الثنائية اليونانية على التصور الديني التقليدي، والحكم بالموروث على الوافد. فقد لزم أنبادقليس والقدماء شناعة جعلت الله أقل علما من البشر لأن المعرفة عندهم تكون بالشبيه، الأرض بالأرض، والماء بالماء، والمحبة بالمحبة، والغلبة بالغلبة، قياسا على ما في الإنسان. ولما كان الله خاليا من الغلبة فإنه لا يعرف الغلبة فيكون أقل علما من جميع الموجودات.
100
وعلاقة القدماء بالمحدثين مثل علاقة الآباء بالأبناء، علاقة الجيل السابق بالجيل اللاحق، ومن الطبيعي أن يكون هناك تفاوت بين الاثنين . إنما السؤال في مسار التقدم . عند أرسطو المحدثون أفضل من القدماء، والأواخر أكثر علما من الأوائل. فهناك تقدم في التاريخ من هوميروس إلى أرسطو، ومن الأسطورة إلى العقل، ومن اليونان إلى المسلمين، وهو الموقف الذي ظهر في علم الأصول في رفض تقليد الأنا وضرورة إعمال الاجتهاد. فالمسيحية تمثل تقدما بالنسبة لليهودية، والإسلام يمثل تقدما بالنسبة للاثنين. وهذا هو معنى تطور النبوة، أن اللاحق يمثل اكتمالا للسابق. وقد أخذ علم أصول الدين الموقف المضاد، أن الأوائل خير من الأواخر، وأن المتقدمين أفضل من المتأخرين، وأن الصحابة أفضل من التابعين، وأن السلف خير من الخلف، وهو الموقف السلفي بوجه عام.
101
التقابل بين المتقدمين والمحدثين هو تقدم بين جيلين وتيارين ومذهبين مما يكشف عن تطور الفكر اليوناني وسياقه التاريخي. قد يكون المحدثون بالنسبة لأرسطو هو أفلاطون وأرسطو في مقابل المتقدمين وهم الفلاسفة السابقين على سقراط. المحدثون مثاليون والقدماء طبيعيون، وكأن تقدم الفكر اليوناني من الاتجاه الطبيعي إلى الاتجاه المثالي.
102
أما المتأخرون فهو لفظ عام يشير إلى الفلاسفة والسابقين على أرسطو القائلين بوجود جواهر أول أقدم من محرك الكل. أما تعبير القدماء الأول فربما تعبير عام لا دلالة خاصة له مثل القدماء الذين لم يقفوا على تلك الأشياء في مقابل أرسطو الذي حقق ذلك. أما لفظ الأوائل فإنه يعني عند ابن رشد اليونان، فلاسفة وشراحا، في مقابل الأواخر وهم الأشاعرة. فالأوائل يقولون بامتناع خروج شيء من الأسماء على عكس الأشاعرة. كما أن الأوائل قد أجمعوا على وجود القوة والفعل.
103
وربما يقصد ابن رشد بالمتقدمين أو الأقدمين جدا الكلدانيين في مقابل القدماء وهم الفلاسفة مثل أرسطو، الشرق القديم في مقابل الغرب القديم مثل الشرق الحديث الآن في مقابل الغرب الحديث. فقد قال الأقدمون جدا أقوالا تجري مجرى الألغاز على عادة الشرقيين، إن الأجرام السماوية آلهة، وإنها تحيط بجميع الأشياء التي توجد بالطبع. وقد أراد القدماء بالآلهة تلك الجواهر، فقد وجدت الفلسفة وفسدت مرات لا نهاية لها كما حدث في سائر الصنائع. فقد تبين بالبرهان من أمر هذه المبادئ. فكل كائن فاسد وكل فاسد كائن يدور بالنوع مرارا لا نهاية لها.
ويدرك ابن رشد دور أرسطو مؤرخا للفلسفة اليونانية. فأرسطو هو الذي يفصل الفلسفة اليونانية إلى قسمين، ما قبل أرسطو وأرسطو، التاريخ والبنية. لقد استوعب القدماء كل الإمكانيات والحلول واستنفذوا البنية؛ لذلك ظهر أرسطو مؤرخا، وهو نفس الموقف لابن رشد في حضارته، وتشابه الموقفان. القدماء بالنسبة لأرسطو هم الفلاسفة السابقون عليه، ويعيد ابن رشد وصف مسار تاريخ الفلسفة اليونانية مع أرسطو ويكمله بتاريخ الفلسفة الإسلامية فيزداد التراكم التاريخي، ويتبلور الوعي التاريخي. يتحدث ابن رشد في صيغة المتكلم المفرد على لسان أرسطو، ثم يشرح وصفه للتاريخ في صيغة الغائب. ويشرح ما قاله القدماء وما لم يقولوه كما يشرح أرسطو القدماء. فكلاهما يعرف تطور الفكر اليوناني وبنيته، ويستطيع أن يضبط التاريخ من خلال البنية عن طريق الاستقراء المعنوي عند الأصوليين. كانت عند القدماء شكوك أثارت حيرة الناس. فأتى أرسطو وأزالها وكأنه خاتم أنبياء اليونان
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ،
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . إن وضع المسارين معا، الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية، يساعد على فهم كل منهما بالآخر فربما تماثل المساران. وتوحدت التيارات والاتجاهات، وظهرت بنية حضارية واحدة في كل مسار، مثل التيار العقلي الفيثاغوري الأفلاطوني، تيار الأعداد والصور المفارقة والتيار الطبيعي المادي عند الإيليين. ويرمز لهما بأفلاطون وأرسطو اللذين حاول الفارابي الجمع بينهما في فلسفة واحدة تعبر عن رؤية الحضارة الإسلامية للعالم.
104
ويبدو أن مصير كل حضارة في التاريخ انقسامها إلى تيارين؛ الأول يؤكد مطلبها المثالي، والثاني مطلبها الواقعي. الأول يجعلها أكثر جذرية، والثاني أكثر محافظة. الأول عقلاني، والثاني حسي.
105
ومع القدماء هناك ألفاظ أخرى مشابهة مثل المتقدمون وعكسها المحدثون، والقدماء الأول وعكسها المتأخرون، والأوائل، والأقدمون، والقدماء الأول وعكسها المتأخرون، والأوائل، والأقدمون من الطبيعيين، والقدماء الأول من الطبيعيين. وهي أكثر تخصيصا من اللفظ العام الأول. يعني المتقدمون القدماء تماما في مقابل المحدثين الذين يجب عليهم ما يجب على القدماء من حل الإشكالات وإيجاد الحلول، كان معظم كلام المتقدمين في الطبيعيات. فقد ترك ابن رشد طيماوس وخروسبس المذكورين في نص أرسطو، وتحدث عن المحدثين والمتقدمين، وعن القدماء والمحدثين، تاركا الخاص إلى العام، والمثل إلى التاريخ، فما يهم هو تاريخ الفكر وليس أشخاص المفكرين. ونظر إلى أرسطو مؤرخا للفكر اليوناني، مفكرا في سياقه التاريخي وفي إطار حضارته اليونانية احتراما للماضي وبلورة للوعي التاريخي. فقد قال بعض المتقدمين إن الأسطقس واحد، وقال آخرون إنه كثير، وإن المبادئ هي الأمور الشخصية التي منها تقوم المحسوسات. كذلك طلب المتقدمون المبادئ الأولى للموجودات بما هي موجودات وليس بصفة خاصة وإلا كان مطلبا بالعرض.
106
ويعرض ابن رشد لعدد من أسماء الفرق مثل الإيطاليين أي الإيليين. وهي طائفة كانت تقول بعلتين؛ الهيولانية والفاعلة. ويعبر ابن رشد عن ذلك بصيغة الاحتمال وكأن الأفكار وانتشارها يؤرخ لها بتاريخ الفرق على ما هو معروف في الفرق الكلامية. أما إيطاليا التي يقطنها الفيثاغوريون أو ما يقرب منها فلها اسم خاص، وهي التي تعرف في عصر ابن رشد ببلاد الإفرنج. فالتمايز أيضا بين إيطاليا وجزيرة الأندلس.
107
ويشير تعبير الأقدمين من الطبيعيين أيضا إلى الطبيعيين الأوائل الذين يقولون بالمادة والفاعل لا المادة والصورة، وكانوا يقولون بأن الواحد الذي هو جوهر الموجودات هو الأسطقس؛ نارا أو هواء أو ماء. ويشير تعبير القدماء الأول من الطبيعيين إلى نفس التعبير السابق واعتبار المبدأ لجميع المتكونات واحدا من الأسطقسات الأربعة؛ فهي تعبيرات على التبادل حسب الأسلوب. ويشير مصطلح الطبيعيين الأول إلى أنكساجوراس وآل أنبادقليس وآل ديموقريطس وآله على ما يظن ابن رشد حتى لا يقع في القطع والجزم في أمر تاريخي. أما لفظ الطبيعيين فإنه يطلق على هؤلاء الذين جعلوا مبدأ الأمور الطبيعية مبدأ طبيعيا. فقد قالوا بالهيولى والأسطقسات الأربعة باستثناء الأرض؛ لأنها لا تخضع للمد الطبيعي، وتبعهم أفلاطون. ويقال الطبيعيون في مقابل الفيثاغوريين الذين وافقوهم في القول بأن المبادئ اثنان مع اختلاف طبيعة المبدأين عند الاثنين. والفيثاغوريون يتشبهون بالطبيعيين ولكنهم يفسرون الموجودات بمبدأ غير طبيعي مثل النقطة والمساحة . وهو ما أصبح المادة أو الصورة عند الطبيعيين الأوائل، أما التعاليميون فهم أصحاب العلوم الرياضية، علم الفلك خاصة علم الفلك في عصر أرسطو وعصر ابن رشد نظرا لرصده ظواهر فلكية في جزيرة الأندلس، والمنطقيون عكس السوفسطائيين، آراؤهم مرضية شريفة. أما المنجمون فإن أقوالهم كاذبة. يظنون أن بعض الكواكب سعود وبعضها نحوس. فلا يوجد في الأشياء التي هي بالفعل وخالية من القوة شيء رديء لا خطأ ولا فسادا ولا شرا. أقصى ما يقال إن بعضها خير من بعض، وهذا يوجد في الخالية من الحركة وفي المتحركة. كما اختلف المنجمون في عدد حركات الكواكب وينتهون بالرصد إلى عددها ووضعها من فلك البروج. فإذا ما رصدوها بآلات وجدوها في مواضع أخرى. فاقتضى ذلك تجديد حركة الكوكب. وهناك فرق بين علم النجوم وعلم التنجيم، الأول علمي والثاني وهمي، ويطلق تعبير المتأخرين من المتفلسفين على أرسطو والذين يستعملون مصطلح العقل الفعال. فالمتأخر ما بعد أرسطو، والمتقدم ما قبله، ويستعمل لفظ الحكماء للدلالة على صنعتهم في الفحص عن جميع الموجودات. وهذه شريعة خاصة بهم. فالشريعة هنا لفظ موروث يدل على معنى وافد بمعنى مجازي وليس بمعنى حقيقي، فلم تأت التصورات أو الدوافع من الموروث بل أيضا من الألفاظ. ويطلق لفظ المفسرين على شراح أرسطو مثل الإسكندر. ويحاول ابن رشد معرفة إجماعهم التام أو الناقص مثل إجماع أكثرهم على أن العقل الهيولي باق، وأن العقل الفعال مفارق كالصورة في العقل الهيولاني شبه المركب من المادة والصورة، وأنه يخلق المعقولات كصورة ويقبلها عن جهة العقل الهيولاني كمادة.
108
والسوفسطائيون ينكرون أوائل العلوم وبديهيات العقول والمقدمات الأول والنظر مثل إنكار تقدم القوة على الفعل وجحد العلل في العلوم لأنها لا توجد في أوائلها وهي الرياضيات كما يقول أرستبس وإنكار كل القوى وإنكار السبب والنظام والترتيب في الأعداد والأعظام والعلة الغائية. فالمعرفة ليست في شخص واحد بل تصنع له، والمتعلم كون شيئا من التكون أي أن الفعل متقدم على القوة وهو شيء غريب؛ لذلك شكوا في العلم كما شك مانن وأبطل العلم والتعلم لإنكار القوة قبل الفعل أي إنكار التعلم وإبطال العلم؛ فالتعلم إما بفعل من العلم فالمتعلم عالم بعلم، وإما بغير فعل فلا نعلم. وأصبح شك السوفسطائيين نموذجا لكل شك آخر يقوم على الحيرة عند الفحص عن حقيقة الموجودات من خلال المحسوسات. ولما كانت المحسوسات ذات طبائع متغيرة في حين أن المعرفة بالموجودات ثابتة نشأت الحيرة وتم نفي العلم. والسفسطة جزء من المنطق عند أرسطو. والسوفسطائيون أهل كلام، يلزمهم ما يلزم الفيلسوف من تحكيم قواعد المنطق. إن منطق السوفسطائيين يقوم على التمويه في حين أن الفيلسوف يستعمل منطق البرهان. والجدلي والخطابي يستعمل كل منهما منطقا بين السوفسطائي والفيلسوف، بالرغم من أن الموضوعات بينهم واحدة مثل الهوية والموجود. ولا فرق بين الفيلسوف والسوفسطائي في رد الميتافيزيقيا إلى المنطق. صعوبة الموقف السوفسطائي في الحوار مع الفيلسوف لأن السوفسطائية لا يثقون بشيء حتى بمنطق اللغة ودلالات الأسماء. ولا يجوز توبيخهم المحبب لشكهم لأنهم لا يعترفون بالعلم، ويشكون في كل شيء حتى في ماهية الإنسان وآنية سقراط.
109
أما الهرقليون نسبة إلى مدينة هيراكليس وإبقاء ابن رشد للنسبة الجغرافية واليونانية فهم قوم من الشكاك من المشتغلين بالفلسفة ثم نفوا العلم لأن العلم ضروري ودائم ولا يوجد شيء إلا متغير ومحسوس. والعلم المتغير ليس علما.
110
هذا الشك هو الذي حرك أفلاطون على القول بالصور التي تتجاوز المحسوسات والأعداد المرتبطة بها كما هو الحال في علم التعاليم، فالفعل يؤدي إلى رد الفعل في جدل الفكر في التاريخ اليوناني كما يصف ابن رشد. والجنس عندهم يقال على القوم الذين ينتسبون إلى أب واحد في لسانهم وليس على العنصر أي الجنس الحقيقي. فواضح أن لغة الهرقليين لسان خاص بهم. وأحيانا يسقط ابن رشد اسم صاحب العلم الطبيعي ويطلق عليه لفظ فلان. فالمهم الفكرة لا الشخص. (ح) الإحالة إلى النسق
ويحيل ابن رشد إلى معظم مؤلفات أرسطو، كلا أو جزءا. فالعمل الأرسطي وحدة واحدة سواء داخل كل علم في المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة أو داخل النسق الأرسطي كله؛ لذلك يحيل ابن رشد في تفسير ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة والمنطق. ويسقط محاورة طيماوس من الشرح ربما لأنها ليست لأرسطو وربما لأن ارتباط أرسطو بها أكثر من ارتباط ابن رشد. ويحال إلى المنطق خاصة البرهان من أجل التثبت من صحة القضايا الميتافيزيقية. وهي إحالات ابن رشد إذ لا يحيل أرسطو إلى نفسه إلا قليلا.
111
كما يحيل ابن رشد في المقالة السادسة إلى المقالة الرابعة من كتاب ما بعد الطبيعة تفسيرا للكتاب بالكتاب.
وأحيانا يصعب الحكم على الأسماء المعربة مثل قاطيغورياس هل هو اسم الكتاب أو الموضوع، ولكنها أقرب إلى العمل منها إلى الموضوع لأنها مصطلح بلغته الأصلية. فلو كان موضوعا لاستعمل لفظ المقولات بعد استقراره. ويلاحظ من مجموع إحالات مقالات ما بعد الطبيعة أولوية الإحالة إلى السماع الطبيعي مما يدل على ارتباط العلمين معا. ما بعد الطبيعة طبيعيات مقلوبة إلى أعلى، والطبيعيات ما بعد الطبيعة مقلوبة إلى أسفل. فهما علم واحد ولغة واحدة ومسائل واحدة، وموضوعات واحدة، الجوهر والعرض، المادة والصورة، القوة والفعل، العلة والمعلول، الحركة والسكون، ثم يأتي بعد الطبيعة البرهان مما يدل على أهمية البرهان في كتاب الميتافيزيقا، ثم يأتي كتاب النفس مما يدل على أهمية التحليل اللغوي النفسي لقضايا الميتافيزيقا كما كان يفعل سقراط.
112
ثم تظهر أجزاء الطبيعة الأخرى مثل الكون والفساد والحيوان، وأجزاء المنطق مثل القياس ثم الطبيعة، السماء والعالم مع المنطق، الجدل والسفسطة والعبارة على التبادل مما يدل على أن قضايا الميتافيزيقا إما تحال إلى الطبيعة أو إلى المنطق، إلى العلم أو إلى الذهن دون أن يكون لها ميدان مستقل. ويحيل ابن رشد إلى طيماوس وفيدون لأفلاطون في إطار مقارن. ثم يأتي بعد ذلك الموروث الفلسفي من الفارابي فيحيل إلى كتاب الفلسفتين (الجمع بين رأيي الحكمين أو فلسفة أرسطو وفلسفة أفلاطون) والموجودات المتغيرة، وكتاب المنطق. وأخيرا يحيل ابن رشد إلى نفسه، في «الرد على جالينوس» فشرح ابن رشد جزء من كل هو مجموع عمله ووحدة مشروعه.
113
أما بالنسبة للأماكن فنتذكر إيطاليا، بلاد الإفرنج والروسيا وطروادة ، ويسقط ابن رشد أثينا من شرحه. وتدل على ربط النص المشروح ببيئته المغايرة لبيئة النص الشارح.
114
وإذا كانت الإحالة إلى المنطق في «جوامع» ما بعد الطبيعة لها الأولوية على الطبيعة فإن الإحالة إلى الطبيعة في التفسير لها الأولوية على المنطق. ويأتي «السماع الطبيعي» في المقدمة. وتحدد العلاقة بين العلمين طبقا لمباحث الألفاظ عند الأصوليين، مثل علاقة الظاهر بالمؤول على التبادل نظرا لتباين مستويات العمق في العلمين. وعادة ما تكون الطبيعة هو الظاهر، وما بعد الطبيعة هو المؤول، ويبدأ ابن رشد الفقرة بعبارة «وتأويل ذلك».
115
وقد تكون علاقة المجمل والمبين، وهي العلاقة النمطية بين العلمين والأكثر شيوعا تسبقها أفعال البيان في كل الإحالات تقريبا. وباقي العلاقات كلها مثل الخاص والعام أوجه للبيان. فيما بعد الطبيعة الإجمال وفي السماع البيان وكأنه لا يمكن فهم ما بعد الطبيعة إلا بالطبيعة؛ فالطبيعة أساس ما بعد الطبيعة، وما بعد الطبيعة اغتراب عن الطبيعة. الأصل في الأشياء والفكر فرع لها. فالمهنة الصناعة والقوة النفسانية، والفكرة روية، والاتفاق طبيعة، والنفس اختيار.
116
وقد تكون علاقة العام بالخاص، ما بعد الطبيعة أعم من الطبيعة، والطبيعة أخص من ما بعد الطبيعة. فغير المتناهي بالقوة لا يعني خروجه من القوة إلى الفعل كما هو الحال في المتناهي؛ لذلك امتنعت الحركة في غير المتناهي بالقوة لأنه لا يوجد فيه انتقال من القوة إلى الفعل. الحركة في الأولى أزلية كلية. والمحرك الأول أزلي صورة وغاية، واحد بعينه، مبدأ الجوهر، فعل دون قوة. وقد تبين ذلك في السماع الطبيعي.
117
وقد تكون علاقة المدلول بالدليل. المدلول فيما بعد الطبيعة والدليل في الطبيعة. الدليل في السماع. ما بعد الطبيعة تكتفي بالكليات في حين أن الطبيعة تضم الجزئيات والتفاصيل.
118
وقد تكون العلاقة لبيان الفرق بينهما طبقا لمفهوم المخالفة في علم الأصول مثل قول الموسيقوي هو لا أبيض، الأول من باب البخت والثاني من باب المحمولات بالعرض.
119
وقد تكون العلاقة بينهما علاقة المحكم بالمتشابه حتى تزال الشكوك من علم ما بعد الطبيعة بالرجوع إلى الطبيعة. فالجوهر على الإجمال فيما بعد الطبيعة هو الجوهر السرمدي، الصورة المحضة في ما بعد الطبيعة، والجوهر الفاسد في الطبيعة.
120
وقد تكون العلاقة تحقق مناط بين الأصل والفرع، الوصف فيما بعد الطبيعة والتعيين في الطبيعة.
121
وأحيانا تكون العلاقة بين العلمين علاقة البنية بالتاريخ. ففي علم ما بعد الطبيعة توضع البنية، وفي السماع تتحقق في التاريخ مثل تحقيق المناط ولكن على مستوى أوسع وأفق أرحب، فمعاندة أرسطو لبرمنيدس في السماع الطبيعي تعيد التوازن لجدلية التاريخ بين بارمنيدس الصوري وأنبادقليس الطبيعي.
122
وأخيرا قد تكون العلاقة مجرد تجميع للموضوع منعا للتكرار وتنويها بأنه قد تمت معالجته من قبل في السماع الطبيعي من أجل التذكير.
123
ويحال إلى كتاب «النفس». فعلاقة ما بعد الطبيعة بالنفس أيضا هي علاقة المجمل والمبين.
124
وتظهر أوجه البيان في إعطاء التفصيلات والأسباب وأوجه الاتفاق والاختلاف بين تناول الموضوع في كل من الكتابين، والموضوع واحد وهو الصلة بين العقل باعتباره قوة في النفس وصلته بالمعقولات وبالعقل الفعال ومفارقة النفس. فكلما كانت النفس مفارقة كانت معقولة في ذاتها، وليست مثل الصور الهيولانية التي لا تعقل إلا إذا عقلتها النفس، فالعقل هو الكمال الأخير للإنسان باعتباره موجودا طبيعيا بريئا من المادة. وهو ليس العقل المستفاد أو هو العقل بالملكة وهما جزءا النفس بل العقل بالفعل. هو الذي يتقبل الصور من العقل الفعال. ويلاحظ أن موضوعات ما بعد الطبيعة يمكن حلها في النفس. فهناك صلة بينهما في نظرية الاتصال بين العقل الفعال والقوة الناطقة في النفس. ويصبح علم ما بعد الطبيعة علما إنسانيا معرفيا أخلاقيا تأمليا وليس علما طبيعيا كونيا، ويقوم ابن رشد بتحقيق المناط والفحص بنفسه عن المذهبين، مذهب أرسطو ومذهب الإسكندر في العقل. ويتفق مع مذهب أرسطو في فناء العقل الهيولاني، وأن العقل الفعال كالصورة في العقل الهيولاني وأنه يفعل المعقولات ويقبلها من جهة العقل الهيولاني الكائن الفاسد. وتتحول نظرية العقل إلى نظرية في السعادة عن طريق الاتصال بالعقل الفعال؛ فالمعقولات صور مفارقة، والعقل مفارق، وإذا تم الاتصال بين الذات والموضوع حصل الإنسان على السعادة.
ويحال إلى «الكون والفساد» لإعطاء تفصيلات من الإشكالات التي يتم تناولها في ما بعد الطبيعة مثل معاندة تحويل الأجسام إلى خطوط وأشكال رياضية، وأن الأجسام مركبة من السطوح أو إيجاد مزيد من الأدلة في أحد الموضوعات أو مزيد من التفصيلات مثل أنه ليس في النار قوة فاعلة إلا الحرارة، وأن الفاعل أخص من المحرك أو شمول حاسة اللمس أو يحقق المناط ويلجأ إلى التاريخ، وينسب القول إلى أصحابه، ويحدد وجهته مثل أفلاطون وقوله على جهة المنطق.
125
كما يحال إلى كتاب «الحيوان» على العموم أو على الدقة بتحديد المقال السادس عشر لتحديد العلاقة بين العلوم خاصة علم المنطق وهو علم الآداب العقلية أو على العلم أو منهج العلم ولإعطاء مزيد من التفصيلات عن القوة التي في الزرع التي تفعل التكون، والفرق بين الطبيعة والصنعة وقوة العقل، والفرق بين القوة الصناعية والقوة الإلهية، والفرق بين الحرارة والنار، وتحقيق المناط لتحديد ما للإسكندر وما لأرسطو.
126
ويحال إلى «السماء والعالم» على العموم أو على الخصوص في مقالات بعينها، الأولى أو الثانية، بل حتى أولها أو آخرها في مقالات ما بعد الطبيعة ابتداء من التاسعة لنفي وجود شيء أزلي أو لبيان امتناع شيء أو إمكان شيء لا يلزم عنه مستحيل. وأحيانا يشير إليه بلفظ واحد «السماء» لأنه هو العنوان الأصلي لأرسطو، وأن لفظ «العالم» من إضافة الشراح اللاتين، عقلا وشرعا لارتباط السماء بالأرض.
127
ومن المنطق يحال إلى «البرهان». ويسمى أحيانا التحليلات دون تحديد بالثانية وذلك لأن قضايا ما بعد الطبيعة يتم التحقق من صدقها بقواعد المنطق وخلاصتها في البرهان؛ لذلك يظهر موضوع علاقات العلوم والصنائع بعضها ببعض من أجل حل قضايا علم بالعلم الآخر، وتحديد نوع الأقاويل البرهانية من الأقاويل الجدلية (الإقناعية) والخطابية والإحالة إلى كتاب البرهان على الإجمال أو على التفصيل، مقالاته أو مواضعه في الأول أو في الآخر. ويمكن لموضوع واحد أن يفحص في أكثر من علم مثل المقولات، ميتافيزيقيا في ما بعد الطبيعة، ومنطقيا في علم المنطق، ونفسيا في كتاب النفس، وطبيعيا في السماع فالموضوع الواحد يدرس في أكثر من علم على جهات مختلفة في عديد من العلوم. ولا يقتصر منطق البرهان فقط على نظرية الاتساق؛ اتساق النتائج مع المقدمات بل أيضا على بحث في العلل والأسباب كما هو الحال في التعليل في علم الأصول. فلا تكتمل المعرفة الحقيقية بالشيء إلا إذا كانت معرفته بالعلة. وإذا كانت العلل كثيرة تم تطبيق السبر والتقسم. هناك تعليل للمنطق الصوري في مبحث الحدود، وهناك تعليل للخطأ المنطقي جهل الناس بمنطق البرهان. وهناك تعليل لتطبيق قواعد المنطق على الترتيب، المقولات قبل العبارة، والقياس قبل البرهان. لقد حول ابن رشد علم ما بعد الطبيعة إلى علم المنطق. ثم خصص علم المنطق في البرهان. فكلاهما يدرس الوجود بما هو موجود.
128
وبتطبيق قواعد البرهان في موضوعات الميتافيزيقا يحال إلى القاعدة في كتاب البرهان مثل الجنس والنوع، والموجبة والسالبة، والمقدمات والنتائج، والموضوعات والمحمولات، والكل والجزء مع تحقيق المناط من أرسطو فيما يتعلق بالكليات والجزئيات.
129
ويحال إلى «المقولات» في عدة موضوعات مثل أجناس المتقدم والمتأخر التي استعملها أفلاطون، وأنواع الحركة من نوع الكم المفصلة في ما بعد الطبيعة والمتروكة على عمومها في كتاب المقولات على حين فصل المكان هناك ولم يفصل هنا في المقولات. فالإحالة إذن من المجمل إلى المبين أحيانا ومن المبين إلى المجمل أحيانا. فلكل إجمال وتفصيل مناسبته وموضوعه. فالحركة ليست من مقولة الكم؛ لذلك فصلها في ما بعد الطبيعة. والموضوع المشترك الغالب بين ما بعد الطبيعة والمقولات هو الجوهر وحده باعتباره من المحمولات الكلية في المنطق مقابل حدود أخرى أقرب إلى الرسم منها إلى الحد. أما الجوهر الأول فلا يقال في موضوع؛ ومن ثم لا يدخل تحت المقولات. هناك نسق يجمع بين كتب المنطق كلها مثل البرهان الذي يدرس المحمولات الكلية والمقولات التي تدرس الكليات الجوهرية، الأول للصورة والثاني للمادة.
130
ويحال إلى كتاب القياس؛ لأنه هو الذي يضع قوانين الفحص في أشكال القضايا وأنواع المقاييس البسيطة والمركبة، وتقدم مسألة الحد على مسألة الجوهر، وعدم لزوم المستحيل من الممكن مع الإحالة إلى باقي كتب المنطق مثل البرهان وبعض كتب الطبيعة مثل السماء والعالم.
131
ويحال إلى باري أرميناس والجدل والسفسطة على التساوي، مرة واحدة لكل منهما. يحال إلى العبارة لأن المقول وكل قول مكون من أجزاء، جزء الكلية، وجزء الحد، وجزء الشيء. ويحال إلى الجدل لمعرفة إذا كان الوجود في عبارة: الشيء موجود؛ داخلا في مطالب العرض إذا كان المقصود الصادق أو العرض إذا كان المقصود الجنس. ويحال إلى سوفسطيقي للتواضع المشترك بين أرسطو وابن رشد واعتذار كل منهما عن التقصير؛ وذلك لأنهما أول من بدآ هذا العمل ولم يجدا أحدا قد سبقهما فيه. فلهما الحمد والثناء في الأول والآخر. هناك إحساس بالإبداع بالرغم من العذر بالتقصير والشكر للإنجاز، ولا توجد إحالات إلى الشعر أو الخطابة مع أن الميتافيزيقا أقوال شعرية تعبر عن مواقف جمالية، وتستعمل الصور الفنية للتأثير على النفس بالإضافة إلى إخضاعها للتحليلات اللغوية في منطق البرهان.
132
ويحيل ابن رشد إلى عدة مؤلفات أخرى كل منها مرة واحدة مثل «ما بعد الطبيعة» لنقلاوش المشائي في كمال الإنسان بهذا العلم الذي به يشارك أفضل الموجودات، وكتاب إقليدس لأن أفلاطون كان يعتقد أن الأسطقسات الأربعة مركبة من سطوح متساوية الأضلاع والزوايا وهي الأجسام الخمسة المذكورة في آخر الكتاب. فابن رشد يشرح أرسطو بأفلاطون وأفلاطون بإقليدس في سياق تاريخي واحد، الفلسفة اليونانية، وكتاب الاقتصاص لبطليموس في موضوع حركة الأفلاك والحركة اللولبية التي كان يضعها أرسطو، ومحاورة «فيدون» في قول أفلاطون إن الأنواع سبب الوجود والكون، و«تلخيص مقالة اللام» وكتاب «النفس» لثامسطيوس في موضوع تكون الموجودات من غير بذر في مقالة اللام وجميع الصور والمعقولة في النفس، وفي موضوع نشأة النفس مقارنة بأفلاطون وأرسطو، وكتاب المنطق دون تحديد لأرسطو لأنه صاحب المنطق أو للفارابي لأنه هو الذي هذب المنطق أو ابن سينا لأنه هو الذي نسق المنطق أو لابن رشد لأنه شارح المنطق في التلاخيص والجوامع، والموضوع القضايا المعرفية هل هي موجبة أم سالبة، صادقة أم كاذبة. وأخيرا يحيل ابن رشد إلى نفسه، إلى مقالة في «الرد على جالينوس» في عدم وجود المزاج المعتدل في الأطراف المتضادة وإلا لأمكن أن يوجد من الأطراف دون أن يلحقه تغير أو نقص. فعمل ابن رشد له نسقه الموحد سواء كان شرحا أم تأليفا، وافدا أو موروثا، فلسفة أم طبا أم فقها.
133 (3) الموروث
ويتضح الموروث الفلسفي واللغوي والكلامي في تفسير ابن رشد. وهو الوعاء الذي يستقبل الوافد. وهو بطبيعة الحال أقل كما من الوافد. يأتي ابن سينا في المقدمة ثم الفارابي من الفلاسفة ثم المتكلمون والكلام وعلم الأشعرية من المتكلمين، ثم الشريعة والعرب وآية قرآنية وحدة، وأخيرا الصابئة وبنو إسرائيل. وعلى التخصيص، يأتي ابن سينا في المقدمة في الألف الصغرى والجيم والباء والزاي واللام. ولم يذكر الغزالي مرة واحدة، ولكن ذكر ابن سينا أكثر من أرسطو، والعرب أكثر من اليونانيين، وظهور أربعة أماكن محلية، وثلاث آيات قرآنية. ومن الطبيعي أن يشار إلى ابن سينا فهو المسئول عن سوء تأويل أرسطو مثل ثامسطيوس من شراح اليونان بسبب خلطهما بين أرسطو وأفلوطين، وتحويلهم الفلسفة العقلية الطبيعية لأرسطو إلى فلسفة إشراقية مع الفارابي. ثم يأتي علم الأشعرية والأشاعرة بعد ذلك والكلام والمتكلمون بعد أن تحولت الأشعرية إلى نسق عقائدي فلسفي، والكلام إلى رؤية وبنية تشخيصية شعبية للعالم. ثم يظهر لسان العرب والعرب واللغة العربية والبيئية المحلية المخالفة للبيئة اليونانية. كما يظهر مصدر الحضارة الأول القرآن كإطار مرجعي يعطي التصور للعالم.
134
ويبدع ابن رشد في تركيبه الوافد على الموروث وفي استعماله الوافد لنقد الموروث؛ وبالتالي يحقق التفسير هدفين؛ الأول: تخليص نص الوافد مما علق به من سوء تأويل الشراح اليونان والمسلمين، والثاني: استعماله لنقد الموروث الداخلي من سوء تأويل المتكلمين. الهجوم الرئيسي من أجل تخليص الوافد من التأويل الأفلاطوني (ثامسطيوس) الإشراقي (ابن سينا) لأرسطو ومن علم الكلام والمتكلمين عامة والأشعرية خاصة ضد سوء استخدام العقل في فهم العقيدة، وهو نفس ما فعله في «تهافت التهافت» دفاعا عن الفلسفة ضد الغزالي والهجوم على ابن سينا، وما فعله في «مناهج الأدلة» في تخليص العقيدة من سوء تأويل الأشعرية حتى يظهر اتفاق الحكمة والشريعة في «فصل المقال»، الموروث والوافد حتى تجف هذه القنوات المتصلة التي يغذي بعضها بعضا، إخوان الصفا والتصوف وابن سينا والأشعري والغزالي. أراد ابن سينا «أرسطنة» الكلام و«أشعرة» أرسطو في حين يريد ابن رشد رفع علم الكلام إلى مستوى أرسطو؛ فالكلام هو الذي يتحرك ليلحق بالحقيقة التي أعلنها أرسطو. وينسى ابن رشد أن الموضوع هو شرح أرسطو وتفسير كتاب «ما بعد الطبيعة»، ويدخل في حجاج مع ابن سينا وكأنه في «تهافت التهافت»، وتنعدم المسافة بين الشروح والمؤلفات. ولا يشير إلى مؤلفات ابن سينا بالرغم من كثرة الإحالة إليه ربما لأنها غير جديرة بذلك في حين يشير إلى مؤلفات الفارابي «الجمع» و«الموجودات المتغيرة» بالرغم من قلة الإحالة إليه. (أ) ابن سينا
لقد أخطأ ابن سينا في اعتبار أن موضوعات العلم الطبيعي يتم البرهنة عليها من علم ما بعد الطبيعة؛ وبالتالي يكون علم ما بعد الطبيعة هو أساس العلم الطبيعي مع أن العكس هو الصحيح، صحيح أن كل علم لا يبرهن على مبادئه إلا من علم آخر. ويكون ذلك بإرجاع علم ما بعد الطبيعة إما إلى المنطق أو إلى الطبيعة وليس العكس. فمبادئ الجوهر المحسوس أزليا أو غير أزلي يبرهن عليه في علم الطبيعة وليس في ما بعد الطبيعة كما يظن ابن سينا. ولا يحتاج العلم الطبيعي أن يبرهن على وجود الطبيعة من العلم الإلهي. فهناك فرق بين الجوهر في العلم الطبيعي والجوهر في علم ما بعد الطبيعة. يهدف ابن رشد إذن إلى فك الارتباط بين العلمين واستقلال علم الطبيعة عن علم بعد الطبيعة، والقضاء على إشراقيات ابن سينا، وفك الارتباط بين الله والعالم، ورفع الخلط بينهما حتى لا يصبح الله مشبها والعالم إلها بل يتم الحفاظ على التنزيه وفي نفس الوقت تأسيس العلم. خلط ابن سينا بين العلمين بسبب تبعيته للإسكندر مع أنهما علمان مختلفان بالجهة لا بالوجود، مع أن الإسكندر كابن رشد كان يحيل موضوعات علم ما بعد الطبيعة إلى علم الطبيعة مثل المادة في حين يرى ابن سينا أن حل مشكلة المادة في علم ما بعد الطبيعة محيلا موضوعات علم الطبيعة إلى علم ما بعد الطبيعة، ومضحيا بالعالم في سبيل الله. فلا هو حافظ على العالم ولا هو قدر الله حق قدره.
135
وبالرغم من شهرة ابن سينا في علوم الحكمة إلا أنه تجاوز الحد بقوله إنه بإمكان الإنسان أن يتولد من التراب كما يتولد الفأر. هذا هو اعتقاده وإن لم يكن قوله. يدخل ابن رشد في مذهب ابن سينا ويدفعه إلى أقصى نتائجه الممكنة في نظرية التولد الطبيعي التي عرضها ابن سينا في أول «حي بن يقظان» لتفسير نشأة حي باجتماع قدر معين من الرطوبة مع درجة معينة من الحرارة، وهو أفضل ما وصل إليه القدماء من علوم الحياة والتطور.
136
ويتهم ابن رشد ابن سينا أنه قال ذلك موافقة لأهل زمانه أي اتباعا للثقافة الشائعة. ربما يعني ابن رشد الثقافة غير العلمية لأنه لو شاعت الثقافة العلمية في تفسير الحياة تفسيرا طبيعيا كانت قد انتشرت وتحولت إلى ثقافة علمية مزاحمة للثقافة الدينية الشائعة. كما تابع علم الأشعرية مع أن الأشعرية لم تصل إلى هذا الفكر العلمي الطبيعي الحيوي التطوري وأقرب إلى الخلق من عدم، وهو فكر أقرب إلى أصحاب الطبائع ونظرية الكمون والخلق المستمر. يبدو ابن رشد هنا متكلما أشعريا تقليديا يرفض القول بالطبائع والتولد الطبيعي.
137
ولقد أخطأ ابن سينا عندما ظن أن الواحد والموجود يدلان على صفات زائدة على ذات الشيء وهو أثر الأشعرية في القول بالصفات زائدة على الذات. جمع ابن سينا بين الإشراقية والأشعرية مما جعله أشعري الحكمة، وحكيم الأشعرية مثل الفارابي. في حين أن ابن رشد معتزلي الحكمة، وحكيم الاعتزال مثل الكندي. مع أن ابن سينا يحاول الاستفادة من الموروث الكلامي لتقريبه إلى الوافد الفلسفي، وفي نفس الوقت يؤول الوافد الأرسطي كي يجعل قريبا من الموروث الكلامي من أجل تحقيق وحدة الثقافة الفلسفية، وهو الهدف الذي قامت من أجله علوم الحكمة. أراد ابن سينا أشعرة أرسطو كي يقترب من الموروث و«أرسطنة» الكلام كي يقترب من الوافد. كما استعمل ابن رشد تفرقة المتكلمين بين الصفات المعنوية والصفات النفسية من أجل نقد ابن سينا. فالواحد والموجود من صفات الذات «الست» أي من الأوصاف وهي ليست زائدة عليها. ينقد ابن رشد علم الكلام عندما لا يحتاج إليه ويكون في تعارض مع أرسطو ويستعمل علم الكلام عندما يمكن استعماله للدفاع عن أرسطو. وحجة ابن سينا ضد التوحيد بين الذات والصفات، الوجود واحد، والواحد موجود، تقوم في رأي ابن رشد على افتراض باطل وهو أن «واحد» و«موجود» يدلان على معنى واحد وهو غير صحيح؛ فهما يدلان على الذات في أنحاء مختلفة. لقد أخطأ ابن سينا وخلط كلامه بكلام الأشعرية وتفرقتهم بين صفات المعنى وصفات النفس، وإن الواحد والموجود من صفات الذات وليست زائدة عليها. وحجة ابن سينا أنه لو كان الواحد والموجود يدلان على معنى واحد لكان القول بأن الموجود واحد مثل القول بأن الموجود موجود، والواحد واحد، وهذا يلزم لو قيل في الشيء الواحد أن «موجود» و«واحد» يدلان على معنى واحد من جهة واحدة ونحو واحد. بل قلنا إنهما يدلان على الذات الواحدة بأنحاء مختلفة لا على صفات مختلفة زائدة عليها. لم يميز ابن سينا بين الدلالات التي تدل على الذات الواحدة على أنحاء مختلفة من غير أن تدل على معاني زائدة وبين الدلالات التي تدل من الذات الواحدة على صفات زائدة مغايرة لها. أخطأ ابن سينا لأن اسم الواحد من الأسماء المشتقة التي تدل على عرض وجوهر. فظن أن اسم الواحد يدل على معنى في الشيء الذي لا ينقسم وهو غير المعنى الذي هو طبيعة. كما ظن أن الواحد المقول على جميع المقولات هو الواحد الذي هو مبدأ العدد هو من الموجودات التي يقال عليها اسم الواحد وإن كان أحقها بالاسم. لو كان الشيء واحدا بأمر زائد كما قال ابن سينا لم يكن شيء واحد بذاته وجوهره بل بشيء زائد على جوهره. فلو كان الشيء الذي صار به واحدا صار بمعنى زائد على ذاته فكيف صار هذا الشيء واحدا؟ فإن كان بمعنى زائد عليه لتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية؛ ومن ثم يلزم أن يكون الشيء واحدا بذاته وليس بصفة زائدة عليه.
138
أخطأ ابن سينا إذن في اعتبار الواحد والموجود يدلان على معنى زائد في الشيء لأنه لا يرى أن الشيء موجود بذاته بل بصفة زائدة عليه، والواحد والموجود عنده عرضان في الشيء. وتلزم منه محالات عديدة منها ضرورة التسلسل إلى ما لا نهاية حتى يصبح الشيء معرفا بذاته لأن كل شيء معرف بصفة زائدة عليه يلزم هذه الصفة أن تكون معرفة بصفة زائدة ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية. كما أنه أخطأ في ظنه أن الواحد الذي هو مبدأ الكمية هو الواحد المرادف للوجود.
لقد خلط ابن سينا بين الواحد العددي والواحد الموجود. وظن أن الواحد مبدأ العدد هو جنس للموجودات العشرة إذ إنه يدل على عرض مشترك بينهما. وأشكل عليه الفرق بين الاثنين. أخطأ في الخلط بين اسم الوجود الذي يدل على الجنس واسم الوجود الذي يدل على الصادق أي على كل واحد من المقولات العشر، خطأ في علم المنطق وخطأ في علم الطبيعة. لقد توهم ابن سينا أنه ما دام اسم الوجود اسما مشتقا فإنه يدل على العرض لا على الجوهر مضحيا بالجوهر في سبيل العرض، ومدمرا للطبيعة. يكشف ابن رشد خطأ ابن سينا عن طريق تحليل اللغة والتمييز بين الاسم المفرد والاسم المشتق كما هو الحال في مبحث العبارة في المنطق أو بين المحكم والمتشابه كما هو الحال في علم الأصول. خطأ ابن سينا ينتهي إلى استحالة تعريف الجوهر ما دامت الجواهر أعراضا والأعراض جواهر. وانتهى الأمر كذلك إلى ما لانهاية. وهنا يثبت ابن رشد خطأ قضية ابن سينا بتحويلها من قضية ميتافيزيقية إلى قضية منطقية. ويدافع ابن رشد عن العالم ضد تحويله إلى مثال عند ابن سينا. فالصراع بين ابن رشد وابن سينا مثل الصراع بين أرسطو وأفلاطون . كما حاول ابن رشد إرجاع الفكر الإسلامي إلى العالم فلم يستطع، وظل تحت سطوة الإشراق وعلم الأشعرية.
ونظرا لأخطاء ابن سينا في كل هذه المقدمات اعتقد أن الصور كلها من العقل الفعال وهو الذي يسميه واهب الصور. وهو خطأ الفارابي كذلك أي في كل تيار الفلسفة الإشراقية. لم يفهم كلاهما معنى قول أرسطو وتصوره للنفس النباتية وما لا إلى قول أفلاطون بالصور المفارقة. فابن رشد مع أرسطو في التوحيد الطبيعي، وابن سينا والفارابي مع أفلاطون في التوحيد المفارق للطبيعة. ويشرح ابن رشد علاقة الصورة بالمادة. مذهب أرسطو به اختراع وكمون. وهو الجامع بين المذهبين المتعارضين على التوسط وهو مذهب ابن رشد.
139
ومذهب ابن سينا أكثر إشراقية من الفارابي، وتقوم الآراء الثلاثة على أن التغير في الجوهر، وأنه لا يخرج شيء من لا شيء. لقد توهم ابن سينا أن المادة التي بالقوة توجد لجميع الأجسام مع أن الجسم السماوي ليس فيه قوة منقسمة بانقسام الجسم أي صورة هيولانية. فلو كان فيه كذلك لكانت توجد فيه المادة التي هي بالقوة، ولا يوجد شيء أزلي فيه قوة على الفساد. لقد أخطأ ابن سينا في قوله بأن هناك شيئا ممكنا من ذاته أزليا وضروريا من غيره مثل حركة السماء الوحيدة المستثناة من قسمة الوجود إلى وجود بذاته ووجود بغيره. فلا يمكن وجود شيء ممكن من قبل غيره وفي نفس الوقت يكون ضروريا إلا إذا انقلب الطبع. يرفض ابن رشد هنا الوجود المتوسط بين الواجب والممكن.
140
ويدافع ابن رشد عن ابن سينا مرة واحدة ضد رواية كاذبة منسوبة إليه وهي أن شهادة الشاعر كدليل نظرا لطباعه وقوته الخيالية الغالبة على قوته الفكرية تجعله لا يصدق بالبرهان إن لم يصحبه تخيل. يدافع ابن رشد عن صحة مذهب ابن سينا ويفند الرأي المنسوب إليه خطأ عن أهمية القول الشعري ودور الخيال في الإدراك وكأن ابن رشد هنا يصحح الفهم الخاطئ لمذهب ابن سينا كما يفعل مع أرسطو. مع أن هذا الرأي لا يبعد عن آراء ابن سينا في النبوة وأهمية المخيلة للنبي وكيف أنه يفوق بها عقل الفيلسوف مما يطرح سؤال: هل كان موقف ابن رشد من ابن سينا موقف القاضي الحصيف المعروف عنه في «تهافت التهافت» دفاعا عن الفلاسفة أم أنه قسى عليه في نقده لاحتلال مكانه بالرغم من اختلاف الموقفين، شارح أرسطو «ابن رشد» ومنسق أرسطو «ابن سينا»؟
ويذكر ابن رشد أستاذه ابن باجه في التاسعة من تفسير ما بعد الطبيعة في نظرية الاتصال تأكيدا من ابن رشد على أن الاتصال بالعقل المفارق يتم بقوة في العقل النظري عند كماله وليس بقوة فكرية عن روية كما يقول ابن باجه؛ فالعقل عند ابن باجه بالفعل وعند ابن رشد بالقوة في الاتصال بالعقل الفعال. وهو من أضعف النقاط عند ابن رشد التي لم يستطع أن يتخلص منها. وماذا عيب القوة التي تحدث للعقل بروية وفكر، وهما أقرب إلى العقل الخالص عند ابن باجه، هنا يبدو ابن باجه أكثر عقلانية من ابن رشد، وابن رشد أكثر إشراقية من ابن باجه.
141
وتدل ألفاظ واهب، معط، أعلى، وأسفل، على تحول علم ما بعد الطبيعة إلى صياغات إنشائية تدخل فيها انفعالات النفس.
كما يذكر ابن رشد يحيى النحوي وملة النصارى مع المتكلمين وابن سينا، فالحضارة الإسلامية واحدة. فيحيى النحوي نصراني وشارح لأرسطو مع الشراح المسلمين، عربي يكتب بالعربية. فعنده لا يوجد إمكان إلا في الفاعل فقط. كما شك على المشائين نظرا لاستقلاله عنهم.
142 (ب) العلم الطبيعي والعلم الإلهي
ويحدد ابن رشد الصلة بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي. فبعد أن يبين ابن رشد خطأ ابن سينا في الخلط بين العلمين يضع تصوره الخاص للصلة بينهما مع مراجعة نقدية للموضوع في تاريخ الفكر الفلسفي عند اليونان والمسلمين على حد سواء. ويبدأ بتصنيف العلوم في ثلاثة؛ العلم الطبيعي لدراسة الجواهر المتكونة، وعلم التعاليم لدراسة صور الجواهر المادية، والعلم الإلهي لدراسة المبادئ الأول وعلل كل شيء؛ لذلك كانت الأجرام السماوية موضوع العلم التعاليمي عالما متوسطا بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي. والعلوم الإنسانية الإرادية تدخل مع العلم الإلهي مما يدل على ارتباط الإلهيات بالإنسانيات فيما يتعلق بعلم النفس ونظرية الاتصال وبعلم الأخلاق، الخير والخير الأقصى والسياسة والاجتماع، نظام المدينة وشرف الرئاسة فيها. وتتفاوت مراتب العلم طبقا لتفاوت مراتب الشرف لموضوعاتها. وأشرفها وآثرها موضوع العلم الإلهي. وهذا يدل من جديد على البعد الإنساني في الإلهيات. وإنها تشخيص إنساني لعلم ما بعد الطبيعة. ولا تختلف كثيرا هذه القسمة الثلاثية عما قاله ابن سينا من قبل من أن الموجودات إما قبل الكثرة (ما بعد الطبيعة) أو مع الكثرة (الرياضيات) أو بعد الكثرة (الطبيعيات).
143
ونظرا لأن علم التعاليم علم الأعداد فإنها أقرب إلى الصور المفارقة وبالتالي فهي أقرب إلى العلم الإلهي منها إلى علم الطبيعة؛ وبالتالي يكون التقابل بين علمين فقط وليس بين ثلاثة علوم، الطبيعي والإلهي، العالم والله. بل إن الإنسانيات كنظرية في الاتصال أقرب إلى العلم الإلهي منها إلى الطبيعي. فالوسطان الرياضيات والإنسانيات أقرب إلى العلم الإلهي منذ الفارابي وإخوان الصفا حتى ابن رشد. ويبدو هذا التقابل في قسمة الجوهر إلى جوهرين متحركين، فاسد وهو موضوع العلم الطبيعي، وسرمدي وهو موضوع العلم الإلهي، وعلى خلاف الإسكندر. فالعلم الطبيعي لديه ينظر في الجوهرين من حيث هما متحركان، ويستمد مبادئهما من الفلسفة الأولى. وهو غير صحيح إن أخذ القول على ظاهره. المبدأ المادي للجوهر المتحرك موضوع العلم الطبيعي. أما الصوري والفاني فأدخل في العلم الإلهي.
وأحيانا يبدو أن موضوع العلمين الطبيعي والإلهي موضوع واحد ولكن على نحوين مختلفين. فالمهنة العقلية الإلهية الشبيهة بالصورة الواحدة للصناعة الواحدة الرئيسية تحتها صنائع أخرى. أما الطبيعة فإنها تفعل فعلا في غاية النظام وهي غير عاقلة إلا أنها ملهمة من قوى فاعلة أشرف منها وهو العقل. وإذا قال المتكلمون في الإلهيات إن العالم يتولد من الليل، وقال المتكلمون في الطبيعيات إن الأمور كلها كانت معا ومتباينة فإنها تكونت من ذاتها من غير محرك. فالعلمان علم واحد وهو الطبيعة، مرة مدفوعا إلى مثالها وكمالها فتصبح العلم الإلهي، الطبيعة كما ينبغي أن تكون، ومرة تكون الطبيعة الحسية المشاهدة، ما هو كائن فتصبح العلم الطبيعي.
144
وكلاهما يعبر عن البعدين في الإنسان، المثال والواقع.
ويدل على ذلك استحالة الفصل بين العلمين، وهو ما يعيبه ابن رشد على ابن سينا ويقع فيه. موضوع العلم الطبيعي أوائل الجوهر ومبادئه، يتكفل العلم الإلهي ببيانها، والعلم الطبيعي يضعها وضعا. فالعلم الإلهي هو علم المبادئ الأولى للعلم الطبيعي مثل فلسفة العلم أو علم العلم أو نظرية العلم؛ لذلك سماه أرسطو والكندي الفلسفة الأولى.
145
ما بعد الطبيعة الاسم التاريخي، الفلسفة الأولى الاسم الأرسطي، والعلم الإلهي من المنظور الديني الإسلامي أو المسيحي، ومع ذلك فإن الفلسفة الأولى تستمد مادتها من العلم الطبيعي في مبادئ الجوهر من حيث هو متحرك. وينظر العلم الإلهي في مبادئ الجوهر من حيث هو جوهر ثابت، انتقالا من الجزء إلى الكل، ومن التاريخ إلى البنية، ومن الحس إلى العقل، ومن الاستقراء إلى الاستنباط. أما الأجرام السماوية التي يتشكك البعض في كونها مبدأ الكل فإن وجودها مثل مبادئ الجوهر المحسوس في علم الطبيعة ومبادئ الجوهر اللامحسوس في العلم الإلهي، وحتى لا تتسلسل المبادئ إلى ما لا نهاية لزم أن يكون للمبادئ مبدأ وهو ما تجيب عليه علم التعاليم بالأجرام السماوية عبر الضباب أو الظلمة أو أحد العناصر الأربعة.
146
وإذا كان موضوع العلم الإلهي العلة الأولى أو المبدأ للجسم الإلهي، فهذه التعبيرات تكشف عن العلمين معا مثل العلة والجسم سواء عند الفلاسفة أو المتكلمين الذين جعلوا الله شيئا طبقا لآية
ليس كمثله شيء .
147
تصور اليونان قبل كون العالم حركة دائمة غير منتظمة التي يقول بها أفلاطون ثم صار الله بها إلى نظام، وأظهرها في الشمس؛ لذلك قال المتقدمون إنها رب الحياة، وحركة الأجرام السماوية حركات إلهية لأن الأجرام أجسام إلهية. وكان أرسطو أول من وقف على هذا المبدأ ولم يتوصل إليه أحد من قبل. ويعتبر ابن رشد ذلك مجرد ألغاز في حاجة إلى تأويل. فإذا كان المقصود الجواهر الأول التي هي مبادئ الأجرام السماوية فالقول صحيح. وهو ما قصد به القدماء عندما قالوا إنها إلهية. والآراء الفلسفية تصح وتبطل عبر العصور كما هو الحال في عديد من الصنائع. الجرم إلهي نظرا لقربه من الفلك به إله وبه طبيعة، عنصر متوسط بين الله والعالم مثل الإنسان؛ لذلك ارتبط بالإنسان وارتبط الإنسان به. كما ارتبطت الآلهة بالأجرام السماوية عند القدماء وعند الكلدانيين قبل اليونان.
148
ويرد العلمان معا كعلم واحد إلى علم المنطق. فالعلم طبيعيا أو إلهيا من وضع الذهن؛ لذلك كان العلم الإنساني هو أساس العلم الطبيعي والعلم الإلهي معا من أجل القضاء على التشخيص والتجميد في العلم الإلهي تشبيها للعالم المفارق. فالقول بالصور المفارقة للأشياء تعني أن الإنسان والزورق والإله شيء واحد. الكل خاضع للسلب والإيجاب. فتتعلق الظنون المتقابلة بالشيء الواحد. كذلك لا فرق بين السلب المقيد والسلب المطلق أي صدق الإيجاب المطلق على السلب المطلق، وصدق الإيجاب المقيد على السلب المقيد ما دامت الأشياء كلها واحدة، وما دامت الأشياء تشترك في شيء مادي واحد. فطبيعة الصنم مثل طبيعة النحاس؛ لذلك اعتقد الناس أن الأصنام آلهة. ولا يمكن تخصيص علم رابع للمقولات الكلية كأمور موجودة خارج النفس وأنها صور للموجودات لأنها أولا لا توجد خارج النفس، ثانيا لأنها تجريد للأمور المحسوسة كما هو الحال في المنطق وعلم التعاليم وأبعد عن الطبيعة.
149
وتشخيص علم ما بعد الطبيعة في الإلهيات هو عود لتدخل الإنسانيات في علم ما بعد الطبيعة للتقليل من تجريدها وصوريتها، ولا تقتصر هذه الإلهيات المشخصة على الفكر الديني الإسلامي وحده بل تعم الفكر الديني كله قبل الإسلام وبعده. فقد تصور أنبادقليس أن الغلبة علة الفساد وأن جميع الأشياء تكونت من هذه الغلبة إلا الواحد؛ الله تعالى. ويعيد ابن رشد التعبير عن علم ما بعد الطبيعة الذي استبدل لفظ الواحد بألفاظ الموروث، الله تعالى كاشفا عن ظاهرة التشكل الكاذب المزدوجة التعبير عن الموروث بألفاظ الوافد والتعبير عن الوافد بألفاظ الموروث. فالواحد هو الله تعالى. والإله عند أنبادقليس هو الفلك الذي تكون من العناصر الأربعة والمحبة دون العداوة في حين تتكون الموجودات الأخرى من اجتماع العناصر الأربعة والمحبة والعداوة. ومن الغلبة تتكون الأشياء والرجال والنساء والسباع والطير والسمك والآلهة طويلة الأعمار. كما وقع في شناعة أخرى عندما جعل الله عز وجل الكامل في السعادة أقل علما من غيره لأن العلم يكون بالتشبيه والله ليس به غلبة ومن ثم لا يعرف الغلبة ولا ما تولد عنها فيكون أقل علما من الموجودات مع أن أنبادقليس يستعمل قياس الغائب على الشاهد في معرفة الشبيه بالشبيه، ومعرفة المجهول من المعلوم. يعيد ابن رشد إنتاج أنبادقليس بناء على التصور الإسلامي ابتداء من مستوى الألفاظ من الإله إلى الله إلى مستوى التصور، الإله المادي إلى الله الذي ليس كمثله شيء، والقول بمبدأي المحبة والغلبة مثل القول بإلهية الخير والشر، ثنائية تضاد الوحدانية. جعل أنبادقليس المحبة العلة الموجبة لكل شيء، وتعني الواحد لأن علة الوحدانية واحد بذاته. وعند أرسطو الصور الهيولانية هي المولدة لذاتها كما هو الحال في البذور. أما المتكونة من ذاتها فالأجرام السماوية. وكلاهما قوة طبيعية إلهية مثل القوة الصناعية في الأشياء، ولكنها ليست عاقلة لذاتها ولا مفارقة. فأرسطو هنا يقول بالخلق عن طريق توسط قوى طبيعة إلهية وليس الخلق من عدم مع ابن رشد حتى إن جالينوس يتساءل: هل هي الخالق؟ وتعظيمها يدل على الانتقال من العلم إلى الأدب، ومن العقل إلى الذوق، خلطا بين الخبر والإنشاء، بين الحقيقة والمجاز، بين العقل والخيال.
150
وكل ما أطلق عليه الجوهر الأول، المبدأ الأول، هو الله سبحانه، وهو ليس موضوع علم الطبيعة لأن الأول متقدم بالوجود والشرف والسببية أي السابق على الوجود والذي يفسر نشأته كافتراض عقلي ثان، الشيء من اللاشيء في مقابل الافتراض الأول الشيء من الشيء، ويضعف ابن رشد الأول ويبرهن على صحة الثاني. وهو حي أزلي عند أرسطو؛ لذلك جعل العقل فاضلا مثله. وينتقل ابن رشد من اليونان إلى المسيحية. فالله واحد، والتثليث تغاير في الذهن لا في الوجود. وهو أزلي في غاية الفضيلة، وهو حياة متصلة وهنا تصبح صفات الله في الموروث الوعاء الذي يصب فيه الوافد.
151
يصب العلم الطبيعي والعلم الإلهي في المنطق أي في العقل أي في النفس. والعقل يوجد دائما بالفعل. وهو أفضل من العقل الذي في الإنسان الذي يوجد مرة بالقوة ومرة بالفعل، وكلاهما يدرك لذاته ويجد لذته في هذا الإدراك. وهو في الإنسان وقتي وفي الله على الدوام؛ لذلك كان الإله حيا عالما لأنه عقل يعقل ذاته بذاته، لا يعقل غيره. حياته ذاته والعلم ذاته. وهنا يصب الوافد في الموروث، نظرية الذات والصفات والأفعال، والعلم والحياة والعقل مكان التعشيق. العلم أخص صفة له وهو ما احتوت عليه الفلسفة الأولى، والعلوم الخاصة مثل العلوم الجزئية وعلاقتها بالفلسفة الأولى، وهنا يحدث التشكل الكاذب، استبدال العلم الإلهي بالفلسفة الأولى.
152 (ج) النفس والعناية
والنفس على صلة بالله كما هو معروف في نظرية الاتصال. يراها أفلاطون وقد حدثت عن الآلهة الثواني. ويرى أرسطو أنها حدثت عن الشمس والفلك المائل؛ لذلك يشبه أرسطو قواها بأنها القوى الصناعية. ويقول إنها إلهية ما دامت فيها القوة على إعطاء الحياة مثل العقل لأنها متجهة نحو غاية. وارتباط الله بالنفس هو بداية الإشراق وفي نفس الوقت بداية الإنشاء والتشخيص الإنساني سواء في الصفات، العلم والقدرة والحياة، أو في الأفعال مثل العناية. ويكثر ظهور أفلاطون في العلم الإلهي. كما يبدو في العلم الإلهي التصور الشعري للطبيعة خاصة العلوية، الشمس والأفلاك. لذلك كان دين الصابئة حلقة اتصال بين دين الطبيعة ودين الوحي أقرب إلى إبراهيم. وهم من أهل الكتب. وربما كان السؤال عن الأهلة وتحويلها إلى منافع ومواقيت للناس والحج تصحيح لعبادتها.
153
وأشرف المطالب في الله أن يعلم ماذا يعقل ويتشوق إليه كل إنسان بالطبع. عرفه الكلدانيون وسموه الرأي الأبوي أو رأي الآباء. ولكن ماذا يعقل الله؟ إنه أشرف الموجودات أي في غاية الفضيلة والشرف والكمال، كرمه من فضله مثل عقل العقلاء واستفادتهم الفضيلة بفعل العقل. العقل الإلهي في غاية الفضيلة والتمام. ومن يعقل غيره يتغير، وكل ما يتغير يتغير إلى ما هو أشر، وهذا مستحيل على الله. التغير حركة من القوة إلى الفعل. وكل حركة عن محرك؛ ومن ثم يكون الله منفعلا ومحركا عن غيره، وهذا مستحيل. إن المبدأ الذي في غاية الكرم والفضيلة يستمد كرمه بفعله مثل منزلة العقل من العقلاء أي أنهم يستفيدون الفضيلة بفعل العقل. فإن كان الإله يعقل الأشياء الخسيسة فيكون كرمه وفضله بفعل الأشياء الخسيسة، ويكون فعله من أخس الأفعال وهو مستحيل.
154
وهكذا يحدث التشكل الكاذب. يتم استبدال الله في الموروث بالإله في الوافد. ثم يتحول إلى إشراقيات في النفس. يكشف العلم الإلهي عن عالم القيم، الأشرف في مقابل الأخس، والغنى في مقابل الفقر، والجمال في مقابل القبح، والثابت في مقابل المتحول. وانعكس ذلك كله في الثقافة والمجتمع، وغلبت عليه قيم الأخس والفقر والقبح.
ويظهر مفهوم العناية من الموروث ليصبح الوعاء التصوري لكل مفاهيم الوافد عن حركة الكواكب والعشق والمحرك الذي لا يتحرك. فهناك عناية الله بجميع الموجودات بمعنى حفظها بالنوع إن لم يكن حفظها بالعدد شخصا شخصا إلا بمعنى دخول الشخص تحت النوع. أما الشخص المفرد الذي له عناية خاصة دون غيره فإنه تصور معارض لعموم الجود الإلهي العام والشامل لكل الأشخاص. وهنا يجمع ابن رشد بين قانون العناية عن طريق بقاء النوع للحفاظ على عقلانية الوافد ومفهوم العناية المنزه عن الأغراض والميل نحو الأشخاص من التعالي في الموروث. ويضع ابن رشد العناية في إطارها التاريخي في جدل الأفكار بين إثبات العناية لكل شخص ولكل فرد ولكل موجود؛ لذلك غاب الشر وعم العدل، فأحدث رد فعل عنادي بإنكار العناية أصلا نظرا لوجود الشر في العالم. ثم يتوسط ابن رشد برأي ثالث جدلي وهو إثبات العناية للنوع وليس للشخص وأن ما يحدث في العالم من شر من ضرورة الهيولى لا من قبل تقصير الفاعل حتى لقد أخطأ البعض في تصور وجود إلهين، إله للخير عندما تحضر العناية وإله للشر عندما تغيب، لا فرق في ذلك بين أرسطو وابن رشد. فابن رشد يقرأ أرسطو، وفي هذه القراءة يتوحد الوافد والموروث. وقد يقصد ابن رشد العناية عند الأشاعرة للأشخاص ثم إنكار العناية عند الطبائعيين ثم عموم العدل وشموله عند المعتزلة في شمول الاستحقاق. ثم ينقل الموضوع كله من علم الكلام إلى الفلسفة مطورا الثقافة الدينية إلى ثقافة فلسفية خالصة، ثم يركب الوافد على الموروث. وقد يعاب عليها إرجاع الشر إلى طبيعة المادة وليس إلى حرية الاختيار. فالمادة ليست شرا لأن الطبيعة لا تفعل شرا، ولا تخلق باطلا
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك .
155
هذا هو كشف التشكل الكاذب وإعادة التعبير عن مصطلحات ما بعد الطبيعة؛ السبب الأول، العلة الأولى، المحرك الأول، الجوهر الأول بمصطلحاتها الإسلامية؛ الواحد، الوحدانية، الخالق، الله سبحانه وتعالى، والشريعة التي بها تتم عبادة الخالق. وللحكماء شريعتهم الخاصة وهو الفحص عن جميع الموجودات لأن الخالق لا يعبد إلا بمعرفة مخلوقاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته، وتلك أسمى الطاعات. ويدعو ابن رشد الله ويبتهل إليه أن يجعله وإيانا ممن شرفهم الله بهذه الطاعة طبقا لشريعة الحكماء. الحادث طريقة لمعرفة القديم، والممكن للواجب في علم أصول الدين، والطبيعيات مقدمة للإلهيات في علوم الحكمة، والحكمة في مخلوقات الله عز وجل في التصوف، وأولوية الواقع على الفكر في أسباب النزول. فالمفكر والقارئ مثل المشروح والشارح مشروع فكري واحد. ويرفض ابن رشد التشبيه في العلم الإلهي، ومن يشبه الله في صورة بشرية أو يتصوره بشرا. فالدين سر كالله مثل عديد من الشرائع زمان ابن رشد. ربما يقصد النصارى في تخليد المسيح، والشرائع هي الديانات ولكن ابن رشد يستعمل لفظ الفقهاء. فالدين شريعة، وكما عبر عن ذلك في «فصل المقال». والعقل التوحيدي الجديد أساس الفهم والشرح والتعبير عن الآخر في الذات. هذه هي خلاصة الحكمة النقلية، وهو الحوار بين الحضارات وليس تدمير ثقافة الآخر للأنا أو طرد ثقافة الأنا للآخر.
156
إن كل الذين تحدثوا في الأمور الإلهية كانوا يهدفون إلى إقناع أنفسهم وليس إقناع الآخرين أي إيجاد الاتساق مع النفس وتبرير عقائدهم وليس لغيرهم. جعلوا الأوائل آلهة من طبيعة واحدة إلهية وهي طبيعة الأشياء المتكونة، وجعلوا الآلهة الفاسدة من غير الفاسدة. فالأوائل التي لم تشرب ولم تطعم من مكان معين تموت . وغيرها التي شربت وطعمت من المكان لم تمت، وهو تصور مادي للآلهة من أبيقورس وكأن الخلود يأتي من الطعام والشراب. والأوائل والآلهة هنا ترمز للفضائل والقيم.
157 (د) الأشعرية والكلام
ويتحدث ابن رشد عن أهل الملة والزمان (الأشعرية) وعن «المتكلمين من أهل زماننا» و«أهل ملتنا» أي الفرق الكلامية والتيارات الفكرية في عصره وهم المتكلمون والأشعريون والأشعرية وعلم الأشعرية والمتكلمون من الأشعرية، والحديث عن المتكلمين من الأشعرية يقصد به السخرية بقلب الخاص والعام. فالأصح الأشعرية من المتكلمين. فالمتكلمون أعم من الأشعرية لأن هناك متكلمين غير أشاعرة، وليس كل المتكلمين من الأشعرية فالعام لا يتبعض من الخاص بل يتبعض الخاص من العام. وعلم الكلام انتقال من العام إلى الخاص، المتكلمون، الأشعرية؛ أو من الخاص إلى العام، الأشعرية، المتكلمون، الكلام، الفرق غير الإسلامية. يختلط علم الكلام بالأشعرية دون غيرهم لأنهم ليسوا حكماء بل متكلمين، سادوا علم الكلام باعتبارهم الفرقة الناجية، فرقة السلطان، وسادوا كرواة ومؤرخين مدحا لأنفسهم ونقدا لخصومهم. وصلت كتبهم الأندلس دون كتب المعتزلة نظرا لسيادة الفقهاء الأشاعرة في الأندلس.
ثم يتحول الخاص إلى عام، ويتحول الأشعريون والأشعرية من فرقة كلامية تاريخية إلى نمط فكري خالص «علم الأشعرية». يتحول الشخص إلى مذهب، والمذهب إلى علم، والعلم إلى تيار تاريخي، والتيار التاريخي إلى رافد حضاري، والرافد الحضاري إلى بنية ثقافية، والبنية الثقافية إلى نظم اجتماعية على النحو الآتي: (1)
من الشخص إلى المذهب، من الأشعري إلى الأشعرية. (2)
من المذهب إلى العلم، من الأشعرية إلى علم الأشعرية. (3)
من العلم إلى التاريخ، من علم الأشعرية إلى تيار يشارك فيه ابن سينا. (4)
من التيار التاريخي إلى الرافد الحضاري، من الأشعرية وابن سينا في مقابل رافد حضاري آخر من المعتزلة وابن رشد. (5)
من الرافد الحضاري إلى البنية الثقافية مثل اقتناع تكون الشيء من عدم. (6)
من البنية الثقافية إلى النظم الاجتماعية، وتخوف ابن سينا من الإعلان عن نظرية التولد الذاتي موافقة لأهل زمانه.
158
ولما كان علم الكلام باعتباره تاريخ الفرق يتضمن في داخله الفرق غير الإسلامية يظهر في تفسير ما بعد الطبيعة الكلدانيون والصابئة، وأصحاب الشرائع الكبرى والنصارى الأقدمون في مقابل قدماء اليونان. فهل عرف اليونان الكلدان؟ بطبيعة الحال، فقد كان الشرق، مصر وبابل وفارس حاضرة في الثقافة اليونانية منذ نشأتها وأحد مصادرها. كانت عادة أرسطو احترام القدماء وذكر تواريخهم والرواية عنهم، وكذلك كان ابن رشد تأصيلا للفكرة في التاريخ وكما يروي القرآن مع قصص الأنبياء. ولما لم يتقدم أرسطو أحد استشهد بأقاويل الكلدانيين الذين كانوا يظنون أن الحكمة كملت عندهم إلا أن ما بقي منها يجري مجرى الكفر، قراءة إسلامية للحضارات القديمة. فكل شعب يتصور أن التاريخ قد انتهى عنده. الكلدانيون، والمصريون، واليونان، واليهود، والمسيحيون، والمسلمون.
159
عبروا عن آرائهم وعقائدهم في رموز وألغاز ليس بها من الحق شيء. المقصود بها اقتناع الناس لإصلاح أخلاقهم كما هي الغاية من النواميس. فاللغز أو الرمز عند ابن رشد باطل نظريا وإن كان الهدف منه إصلاح الأخلاق عمليا شأنه شأن الشرائع والقوانين. أشرف المطالب في الله عندهم أن يعمل الإنسان ما يعقل ويتشوق إليه بطبعه؛ لذلك سمي الرأي الأبوي أو رأي الآباء وفيه شك كبير. فماذا يعقل الله سبحانه مستعيدا ابن رشد التصور الإسلامي بألفاظه كوعاء للحكم على التصور الكلداني؟ أما الصابئة فقد زلت مع علمائها بعبادة الكواكب؛ لذلك رد القرآن عليهم
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين . أما أصحاب الشرائع فهم في الغالب الملل الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام بالرغم من ذكرهم في سياق القدماء الأوائل من الطبيعيين واتفاقهم على المبدأ الأول لجميع المتكونات كأحد العناصر الأربعة على خلاف ما قاله أصحاب الشرائع مع أن الإسلام يقر بالطين لخلق آدم وبالماء الذي منه خلق كل شيء حي، ويذكر ابن رشد النصارى بمناسبة دلالات الأسماء على المسميات، الصورة والهيولى، والتعرض للذات والصفات وعلاقتيهما بعلم الكلام عند الأشاعرة، ورفض علاقتي المساواة والزيادة، والقول بالوحدة والكثرة، وإظهار الجهة واللفظ، ثم رفض التثليث لاستحالة تعدد الجوهر الواحد في ثلاثة واجتماع الثلاثة في واحد. أقصى ما يمكن الدفاع عنه هو أنه تغاير في الذهن لا في الوجود؟ يأخذه الذهن على أنه جهة أشبه بالأشياء المركبة من جهة المتحدة وليست معاني متغايرة لواحد، والموضوع الثاني وحدة الفاعل عند المتكلمين المسلمين والنصارى مثل يحيى النحوي وإنكار العلل المباشرة كما رفض ابن رشد جعل الأشاعرة الأوصاف زائدة على الذات وإلا لزمهم أن يكون الواحد زائدا على الذات والأوصاف، ولزمهم التركيب وكل مركب محدث، ولو كانت تتركب بذاتها لكانت أشياء تخرج من القوة إلى الفعل بذاتها وتتحرك بذاتها من غير محرك. الله حي وله حياة معنى واحد بالموضوع، اثنان بالجهة لا أنهما يدلان على معنى واحد مثل الأسماء المترادفة كالبعير والجمل ولا على معنيين كما هو الحال في الأسماء المشتقة مثل الحياة التي لا في موضوع، والحي الذي في موضوع، الأشياء التي هي صورة في غير هيولى كالموصوف والوصف، معنى واحد بالوجود، واثنان بالاعتبار أي وصف وموصوف. كل ذلك بمناسبة دلالة الأسماء والأشياء التي هي في صورة في هيولى ثم الانتقال منها إلى مشكلة الذات والصفات، ورفض المساواة والزيادة كعلاقتين، والقول معا بالوحدة والكثرة على سبيل الجهة واللفظ. ومع ذلك فهي أقرب إلى النفي، وقد أخطأ ابن سينا في اتباعه نمط الأشعرية في اعتبار الواحد والموجود صفات زائدة على الذات بالرغم من تفرقتهم بين الصفات المعنوية والصفات النفسية، والنفس ليست زائدة على الذات، وكأن ابن رشد يقترح من طرف خفي التحول من الأشعرية إلى الاعتزال من داخل الأشعرية ذاتها بالتفرقة بين الصفات المعنوية والصفات الذاتية.
160
وأحيانا يتم الانتقال من الفرقة إلى نمط الفكر، ومن الكلام إلى الفلسفة، ومن العقيدة إلى النسق. فالكلام باعتباره نطقا يعني إثبات العلة الأولى دون العلل الثانية. الموجودات كلها لها فاعل واحد هو الله. واستعمال لفظ «الله» وليس العلة الأولى أو المحرك الأول يدل على أن المقصود هم الأشاعرة الذين ينكرون التعليل وطبائع الأشياء وذواتها وكثرتها وتعددها حتى صار الوجود شيئا واحدا؛ وبالتالي ارتفاع الأسماء والحدود. وهو رأي غريب عن طبائع الإنسان والفطرة البشرية. وسبب الخطأ هو سد باب النظر بالرغم من ادعاء النظر ، وإنكار أوائل العقول أي إرجاع الموضوع إلى المنهج، إلى قضية العقل والنقل. والخطورة في النتيجة، التوهم بأن الشريعة لا يصح اعتقادها إلا بهذا الوضع، وهذا جهل بالشريعة ومكابرة لإعلانهم إلا من تغلبت عليه قوة الانقياد والطاعة لها بالعادة والألفة وإغراق الناس في الوحدة لأنها لا تعرف الكثرة، ورد كل شيء إلى الله مما يؤدي إلى إبطال عقول الناس وإفساد قرائحهم.
161
ويضع ابن رشد المتكلمين في تصور مذهبي تاريخي عام لعلاقة الأسباب بالمسببات لا فرق بين فرق إسلامية وفرق غير إسلامية. بين مسلمين ونصارى ويونان على النحو الآتي:
يقول الجميع بالفاعل والكمون ولكن الخلاف في علاقة الاثنين بعضهما بالبعض الآخر. وهناك طرفا نقيض ووسط مما يدل على بنية الفكر، المطابقة للتاريخ أو جواز اكتمال عناصر البنية دون تحققها في التاريخ، ولا يضع ابن رشد أسماء الفرق التي تقول بالكمون، هل الطبائعيون اليونان أم أصحاب الطبائع من المعتزلة؟ ولا يقول كل المتكلمين بالاختراع. وابن رشد نفسه يقول بالاختراع في دليل العناية والاختراع الذي يثبت به وجود الله ضد أدلة الأشاعرة الضعيفة، الجوهر والأعراض، والجزء الذي لا يتجزأ، والممكن والواجب. وابن رشد أقرب إلى أرسطو الذي يجمع بين الكمون والاختراع. كما يضع ابن رشد ابن سينا والفارابي مع أفلاطون لقربهم من اعتقاد المتكلمين من أن فاعل الأشياء واحد، وأن الأشياء لا تؤثر في بعضها البعض حتى لا تتسلسل الأسباب الفاعلة إلى ما لانهاية، مما أدى إلى القول بفاعل غير ذي جسم. ويرى ابن رشد أن إثبات فاعل غير ذي جسم لا يتم بهذه الطريقة لأنه لا يمكن أن يغير العنصر إلا بواسطة جسم غير متغير وهي الأجرام السماوية. وتستحيل الصور المفارقة أن تعطي صورا مخالفة للهيولى. ويقول أرسطو وجالينوس بالقوة الطبيعية في الزرع وهي النفس النباتية وهو موقف ابن رشد.
والموضوع الثاني الذي يعرض فيه ابن رشد للمتكلمين هي نظرية المثل عند أفلاطون أي موضوع الصور المفارقة ونفي أرسطو وابن رشد لها. وهو لا ينفصل عن الموضوع الأول ، وهو العلة مع بعض الاستطراد والتكرار. وقد أدى توهم اختراع الصور إلى القول بواهب الصور، والإفراط في هذا التوهم هو الذي دفع المتكلمين إلى القول بالخلق من عدم وليس الحكماء، وفي الملل الثلاث وليس المسلمون وحدهم، فابن رشد يحكم حكما حضاريا عاما. ويقرأ ابن رشد المتكلمين من جديد بمصطلحاته الخاصة مثل الإبداع والاختراع كما عرض في «مناهج الأدلة». يعتمد المتكلمون على قياس الأولى، إن جاز اختراع الصورة فالأولى اختراع الكل. ويرى ابن رشد أن توحيد الفاعل جهل بتعدد الأسباب، جهل بعلاقة العلة بالمعلول والتعليل المتبادل، ووقوع في الاغتراب بالقضاء على العلل المباشرة في سبيل العلة القصوى التي تفعل أفعالا متضادة ومتفقة لا نهاية لها؛ وبالتالي إنكار التعليل. ضحوا بالكثرة من أجل الوحدة، وبالعلل المباشرة من أجل العلة الأولى، وبالأفقي من أجل الرأسي. ويرجع السبب في ذلك كله إلى إعطاء الأولوية للعلم الإلهي على العلم الطبيعي، كما ينكر المتكلمون الإعدام أي الفناء وهو ما يقابل الخلق، فالفاعل لا يقدر على الإعدام؛ ومن ثم يقعون في تناقض، الانتقال من العدم إلى الوجود ممكن، والانتقال من الوجود إلى العدم مستحيل. وعند ابن رشد إذا كان الإبداع من القوة إلى الفعل ممكنا فإن الإعدام من الفعل إلى القوة ممكن أيضا. الصور موجودة بالقوة في المادة الأولى وبالفعل في المحرك الأول. فالخلق طبيعي، والحقيقة أنها كلها حجج جدلية لإثبات سوء استعمال المتكلمين للعقل على نحو جذري وليس فقط وفقا لأهوائهم، وهو يشبه نقد ابن حزم للأشاعرة لإنكارهم السببية. ربما لا يختلف بديل ابن رشد، العناية والاختراع عن الخلق والعلة الأولى إلا في الألفاظ، ربما قصد هز القناعات القديمة الموروثة في الثقافات الشعبية وطرح البدائل من جديد لاستئناف الفكر الفلسفي.
162
ويأخذ ابن رشد السوفسطائي غاريقون مناسبة يرتكن عليها للتوجه من الخارج إلى الداخل. فقد أثبت أن القوة عند الفعل فقط وأنكر تقدمها بالزمان. وهو نفس موقف الأشاعرة دون اتباعهم للوافد تقليدا. الدافع مختلف، والغاية متباينة، والإطار الحضاري متنوع. فإذ ما فند ابن رشد الرأي الوافد فإنه يقصد إلى نقد نفس الرأي الموروث بعرض حجته، وجود الشيء والقوة معا وهو مستحيل دون تقدم القوة على الفعل، ومخالف للطباع في الاعتقاد والعمل، تنأى عنه الفطرة. يستعمل ابن رشد نقد الوافد لنقد الموروث وليس لمجرد العرض الفلسفي النظري بل لإعادة استخدامه لنقد الموروث. الوافد وسيلة والموروث غاية.
163
وينقل ابن رشد الموضوع كله من مستوى الميتافيزيقا إلى مستوى الأقاويل، ومن الفكر الفلسفي إلى تحليل الخطاب سواء في الوافد أو في الموروث. من الوافد تأتي شهادة الجمع أي الإجماع مما يسهل بعد ذلك تركيب الوافد على الموروث. ثم يتم تحويل شهادة الجمع إلى الطبع والفطرة كمعيار للصدق، ولا يستطيع بعض الناس أن تتجاوز بفطرها الأقاويل الجدلية إلى الأقاويل البرهانية. فإذا اعترفوا بالمعقولات فإنهم يعترفون بها من جهة أنها مشهورة أو إنكار كثير منها متى كانت أضدادها مشهورة. وفي الموروث يتم الانتقال إلى علم الأشعرية كنموذج للأقاويل المشهورة لهذا النوع من الكلام المسيء بعلم الأشعرية مثل: إنكار تكون الموجود من لا شيء أي من العدم مع أنها قضية أجمع عليها الأوائل، إنكار بعض الفلاسفة «ممن يتعاطون الحكمة» سخرية بهم أنها أولوية، إنكار اختصاص الصور النوعية بموادها مثل قول ابن سينا بالتولد الطبيعي موافقة لأهل زمانه قبل مباشرته لعلم الأشعرية. وهناك أشياء أخرى يطول تعديدها عن علاقة ابن سينا بعلم الأشعرية. ويلاحظ أن الأشعرية لا تنكر الخلق من عدم بل أصحاب الطبائع، وأن إنكار ابن رشد للخلق الطبيعي ودفاعه عن نظرية الخلق التقليدية لا يتفق مع القول بقدم العالم.
وبعد أن ينتقل ابن رشد من المتكلمين إلى علم الكلام، ومن الفرقة التاريخية إلى نمط الفكر، ومن الميتافيزيقا إلى الأقاويل يحلل الأسس النفسية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية للمعرفة الإنسانية. فما يعوق الإنسان عن معرفة الحق في المعارف الإنسانية ما تعود عليه الناس منذ أيام الصبا من آراء تتجاوز أحيانا الفطر الذكية وتصرفها في المعرفة.
164
واستعمال الألغاز في التعبير عن الحق النظري أسهل لتعليم الجمهور، وأشد إيحاء إقناعا وتأثيرا لنيل الفضائل العملية لأن الآراء الواردة في علم ما بعد الطبيعة آراء ناموسية وضعت لغاية عملية وهو طلب الفضيلة وليس للبحث النظري المجرد عن الحق. والكل لا يصلح للآراء النظرية؛ لذلك لم يطالب الشرع بها. في حين أنه لا يتم وجود الناس إلا بالاجتماع، ولا يتم الاجتماع إلا بالفضيلة، ومن هنا أتت ضرورة الفضائل للناس.
165 (ه) التأويل والشريعة
وبعد أن يقوم ابن رشد بالنقل الحضاري عن طريق اللغة، فناموس اليونان هو شرع المسلمين، ينقل الموضوع كله من الواقع اليوناني إلى الواقع الإسلامي منتهيا إلى أن تعلم الفتيان عندنا العلم المسمى بعلم الكلام يمنع الإنسان من معرفة الحقائق ويؤدي إلى إفساد الناس. الغاية منه نصرة آراء مسبقة وليس البحث عن الحقيقة، الإيمان أولا ثم الفكر ثانيا. يستعمل أي نوع من الأقاويل حتى ولو كانت سوفسطائية جدلية خطابية شعرية، فالقول مطابق للغرض. ثم يتحول إلى أمور مشهورة من كثرة التعود على سماعها مثل إنكار وجود الطبائع والقوى، رفع الضرورات الموجودة في طبيعة الإنسان وجعلها كلها ممكنة، إنكار الأسباب المحسوسة الفاعلة، إنكار الضرورة المعقولة بين الأسباب والمسببات. وتحتج بدعوى وجود العلة الأولى والسبب الأول الذي يعلم كل شيء وأمور لا نهاية لها، وتصدر عنه أمور لا نهاية لوجودها.
166
ويبدو التأويل كمنهج إسلامي لا شعوريا في تفسير ابن رشد بين السطور في كثرة استعماله الظاهر والمؤول في أصول الفقه، وهو أندلسي حيث ساد المذهب الظاهري. فالتأويل منهج موروث لمعرفة قصد أرسطو والشراح، يونان ومسلمين، كيف فهم أرسطو القدماء. فالأقوال لا تحمل على ظواهرها. كل قول له ظاهر ومؤول. مهمة التأويل رفع التناقض بين الأقوال لإيجاد تناسق المذهب. قد يكون التأويل متدرج المستويات من أول إلى ثان إلى ثالث وكأن النص المشروح على سبعة أحرف. لا يعني التأويل الخروج على اللفظ بلا قرائن بل البحث عن أقرب المعاني إلى اللفظ، وأفضل تأويل ما اتفق مع الظاهر. ليس التأويل مجرد اجتهاد في الرأي بل يقوم على معيار يمكن به معرفة التأويل، هي مقولة بلاغية في مقابل الحقيقة وبالتالي تماثل المجاز. فالقوة تقال بالاستعارة وبالحقيقة. ويتحدث ابن رشد أحيانا عن الطبيعة باعتبارها عاقلة وفي وعيه
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك . فقد ألهمت الطبيعة النسب من سبب أكرم منها وأشرف وأعلى مرتبة وهي النفس التي في الأرض؛ لذلك صارت تفعل مشتاقة نحو الغرض وهي لا تفهمه كما يتكلم الملهمون بكلام لا يفهمونه. وهذا هو معنى تسبيح الطبيعة بلغة لا يفهمها البشر.
167
ويأخذ ابن رشد أمثلة من الشريعة، فيرد اللفظ لديه باستمرار كما ورد في مؤلفه الشهير «فصل المقال» الفلسفة حكمة، والدين شريعة، والشريعة لا ألغاز فيها بعكس الحقائق النظرية التي قد يعبر عنها بالألغاز والصور والأساطير لأن الآراء الشرعية متوجهة نحو العمليات مثل أولى درجات التعلم، وتستعمل بمعنى مجازي، الدستور والقانون، مثل ما ينشأ عليه الإنسان من آراء كاذبة تصبح له شريعة نظرية تكون من أعظم أسباب الخلط فيها. ويستعمل أمثلة فقهية مثل الطمث للمرأة كهيولى للإنسان، وأن الإنسان مولد للإنسان، كما يعطي أمثلة من البيئة الإسلامية الفقهية مثل علاقة السيد بالعبد، واتجاه أفعال العبد نحو السيد وغرضه، وعلاقة أهل المملكة بالملك، واتجاههم نحوه ونحو غرضه، وكذلك جميع الموجودات في تشوقها للمبدأ الأول.
168
كما تظهر البيئة المحلية الجغرافية مثل سبب خروج نهر النيل سواء كان من أرسطو أو من ابن رشد نظرا لانفتاح اليونان على الشرق وحضور الشرق في الغرب قدر حضور الغرب في الشرق، وحضور الجنوب في الشمال قدر حضور الشمال في الجنوب. كما قام ابن رشد ببعض التجارب الفلكية في الأندلس. فالشرح ليس للمشروح بل مراجعة وتصديقا وإضافة في الموضوع.
169
وتبلغ قمة الموروث في ذكر الآيات القرآنية داخل الشرح لتعلن عن مصدر التصور للعالم وأساسه. وترد أربع آيات؛ الأولى:
ما منعك أن تسجد . والثانية:
يبين الله لكم أن تضلوا
في سياق واحد لبيان أن السلب يراد به الإيجاب، وأن الإيجاب يراد به السلب، قضية منطقية نظرا لارتباط المنطق باللغة. كما يظهر القرآن لتدعيم لسان العرب مرتين في موضوع السلب والإيجاب فالقرآن شاهد لغوي لشرح التحليل اللغوي اليوناني. القرآن كتاب لغة ومنطق كما أنه كتاب حكمة. لا يصدق القول بأن الشيء موجود وغير موجود معا إلا أن يسمى الموجود وليس موجودا أو ما ليس موجودا موجود. وكلاهما يستعمل سلبا وإيجابا عند مختلف الأمم، ولكن لكل طرف لفظا خاصا للسلب أو للإيجاب. ويمكن أن يجتمع اللفظان على نص واحد كما هو الحال في لسان العرب. والقرآن شاهد على الاشتراك في لسان العرب. والثالثة:
ذق إنك أنت العزيز الكريم . لإطلاق صفة الجودة على السارق والكذاب على طريقة الاستعارة على طريق التخصيص، والرابعة:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين
نقدا لتصور الصابئة وتأييدا لإبراهيم.
170
وتدل الفواتح والفواصل والخواتم الإيمانية بالبسملة والحمدلة والإن شاء اللهيات والله أعلميات على الجو الديني العام الذي يتم تناول المخطوط فيه بين المؤلف والناسخ والقارئ والمالك، وتختلف فيما بينها طولا وقصرا طبقا لشدة العواطف الإيمانية والانفعالات الدينية. البسملة في أول الكتاب وفي أول كل جزء، والإن شاء اللهيات والله أعلميات في الوسط بعد الإعلان عن شيء، والحمدلات والصلوات الطيبات والتسليمات على محمد وآله. وقد تضاف بعض العبارات الفلسفية مثل الحمدلات لواهب العقل أو واهب العقل والحكمة والإعلان عن قدر الاجتهاد والطاقة والوسع، وهي العبارات التي تم حذفها في الترجمات اللاتينية فتم الفصل بين القيمة والواقع مما أدى إلى أزمة الفكر الغربي خاصة العلم في العصر الحديث.
171
سابعا: شرح النفس، والأرجوزة في الطب لابن سينا (ابن رشد)
(1) الشرح الكبير لكتاب النفس لأرسطو
بالرغم من أن تحليل المضمون لا ينطبق إلا على النص الأصلي وبناء الجملة العربية إلا أن الشرح الكبير لكتاب النفس لأرسطو لابن رشد ضاع أصله العربي، ومنقول من اللاتينية إلى العربية.
1
ومهما كانت الترجمة العربية دقيقة من اللاتينية إلى العربية فإنها قد لا تكون كذلك من العربية إلى اللاتينية.
2
فكل ترجمة هي عمل حضاري، ونقل من ثقافة إلى ثقافة أخرى. الأسلوب ليس رشديا تماما؛ وبالتالي يصعب تحليل أفعال القول. وربما حذف المترجم اللاتيني البسملات والحمدلات وكل العبارات الإيمانية لأنه اعتبرها خارج العلم مع أن دلالاتها كبيرة فيما يتعلق بتمثل الوافد داخل تصور الموروث . فليس من المعقول ألا يبدأ نص ابن رشد بالبسملة وينتهي بالحمدلة على الأقل أسوة بباقي الشروح. وقد استعمل ابن رشد عدة ترجمات لكتاب النفس لأرسطو. ويصرح بذلك بقوله: «وهذا المثال وجدناه في ترجمة أخرى.» (أ) الوافد
وطبقا لتحليل المضمون لأسماء الأعلام وهو ما يصعب اختلافه عن النص العربي المفقود يتصدر أرسطو بطبيعة الحال، فهو صاحب النص المشروح ثم الإسكندر فهو الشارح الأعظم، ثم ثامسطيوس فهو الشارح الثاني، ثم أفلاطون فهو الحكيم الإلهي، ثم ديموقريطس، ثم أنبادقليس، ثم أنكساجوراس، ثم جالينوس وسقراط، ثم ثاوفرسطس، ثم فيثاغورس، ثم نيقولاوس ولوسيبوس، ثم هوميروس وطاليس، ثم هيبوقراطيس وديوجينس وهراقليطس وفيليب وديدالوس وهومافروديث وأورفيوس، وهي الأسماء المذكورة في الشرح سواء كانت مذكورة في النص أم لا لأن المترجم العربي الحديث أسقط ترجمة الأصل من الطبعة العربية ولا مجال للمقارنة بين النصين، المشروح والشارح، إلا بالعودة إلى النص اللاتيني المشروح.
3
أما بالنسبة للمؤلفات فيتصدر طيماوس وهو لأفلاطون وليس لأرسطو مما يدل على أهمية أفلاطون في موضوع النفس، ثم الحس والمحسوس، ثم الحيوان لارتباطها بالنفس والعقل الفعال، والعقل من قوى النفس، ثم الكون والفساد، ثم الآثار العلوية، فالنفس آخر كتاب في الطبيعيات، ثم كتاب المناظر العامة فالعين وظيفتها الرؤية والرؤية فعل من أفعال النفس، ثم النفس وما بعد الطبيعة نظرا لأن الاتصال يكون بين العقل الإنساني.
4
ومن أسماء الفرق يتصدر القدماء. فأرسطو مؤرخ مثل ابن رشد تكتمل الحقيقة عند كل منهما، ثم المشاءون، ثم أهل السفسطة والجدليون والطبيعيون والرياضيون وأصحاب التناسخ، ولم يظهر لفظ يونان إلا كوصف للغة. فاسم حياة في لغة يونان مشتق من السخونة.
5
كما يشتق اسم الرؤية الحسية من الضوء، وفرق في اللغة اليونانية بين الملكة المتخيلة وملكة التمييز بين الأشياء، وتكثر الأسماء في الجزء الأول التاريخي الذي يستعرض فيه أرسطو أقوال السابقين في النفس.
6
لقد ظن ديموقريطس أن النفس مكونة من ذرات متحركة في أشعة الشمس، أشبه بالكرات النارية، وهو قول غامض، وظن ديموقريطس ولوسبوس هذه الكويرات لا منقسمة، وعندهما أن النفس والعقل شيئان. فالحق لا يدرك إلا عندما يظهر للحس. كما قال الشاعر هوميروس إن من فقد الحس فقد فقد العقل.
7
صلة النفس بالجسم كصلة الزئبق بالتمثال.
8
ويرفض أرسطو اعتبار أن سبب الحركة حركة الكريات من ذاتها. ورأي فيثاغورس شبيه برأي ديموقريطس ولوسبوس بالرغم من أنه مؤسس المدرسة الأفلاطونية الرياضة الروحية على عكس ديموقريطس ولوسبوس مؤسسي المدرسة المادية؛ إذ يرى أن النفس تنتقل من جسم إلى جسم طبقا للأسطورة التي وضعها ليصلح بها المواطنين. وهو رأي باطل لاختلاف الطباع. أما أصحاب التناسخ فيرون أنها ذرات هوائية. والكل متفق مع أفلاطون في أن الحركة جوهر النفس ثم يختلفون بعد ذلك في وصف كيفيتها. ويرى أنكساجوراس أن النفس تتحرك بالعقل، وهما سيان، وإن كان أقل وضوحا من ديموقريطس. وقد يكونان مختلفين ولكن من طبيعة واحدة. وهو الوحيد الذي لم يجعلها أسطقسا؛ لذلك امتدحه أرسطو وأثنى عليه، وجعل أمبادقليس النفس ناتجة عن أسطقسات ستة. وينتج عن ذلك صعوبة الحكم، هل التناسب الذي هو جوهر العضو هو النفس؟ ويفسر الأعضاء بالنسب. فالعظام بيضاء لأن الأرض فيها قليلة، ولا تعرف الأسطقسات إلا بالتشابه والاختلاف؛ لذلك توهم أورفيوس أنه لا يتكلم عن النفس الفردية بل عن النفس الشاملة متوهما أنها جسم مثل النفس يدخل الهواء الخاص من الهواء العام. وأخطأ أمبادقليس في جعل النفس هي الأسطقسات وأن الأعلى والأسفل ليسا جزءا واحدا. بل إن أمبادقليس يظن أن الآلهة وهي السموات مركبة من الأربعة أسطقسات بالإضافة إلى المحبة. ويرى أن الضوء جسم، وأن العقل يحكم على الشيء الحاضر المحسوس، وفي موضع آخر بين العقل والحس، يتحول كل منهما إلى الآخر. وهو ما قصده هوميروس بقوله إن الحس شبيه بالعقل. كما دحض أرسطو رأي ديموقريطس أنه لو كانت الرؤية في الخلاء لكان الصواب فيها أكبر.
9
وكان طاليس يرى أن النفس مبدأ محرك بذاته. وظن أن المغناطيس به نفس الكل مليء بالآلهة. وكان ديوجانس يرى أن النفس هواء لأنه ألطف من باقي الأجسام ومبدؤها. أما هرقليطس فكان يرى أن النفس هي المبدأ، وهو بخار سائل متحرك. فكل شيء يتكون من بخار ولا توجد أجسام أصلا. أما سقراط فيضرب به المثل فحسب كزيد وعمرو وليس الحكيم. ويحال إلى جالينوس الطبيب لمعرفة موضوع التنفس الذي كتب فيه وهو غير كاف. وحرارة الهواء الخارج من الصدر لا تكون بسبب الرئة فقط. ويظن جالينوس أن الحامض والحار باردان، وأن الحاد أسخن من المر، وهو رأي خاطئ. هنا يشرح الطبيب الطبيب. وهو غير مصيب في تراكيب الطعوم. ويحاول جالينوس عرض ما قيل في طيماوس في أفعال الطعوم. وجدال جالينوس والأطباء الآخرين في كون هذه القوة في هذه المواضع بحجة المصاحبة والموضع الفاعل للظن ليس بحق.
10
يضع ابن رشد أرسطو في تاريخ الفلسفة اليونانية، فمثلا يكون البحث عن طرق الوقوف على حدود الأشياء إما بطريقة البرهان عند هيبقراطس أو بطريقة القسمة عند أفلاطون أو بطريقة التركيب التي أوردها أرسطو، ويقارن بين أفلاطون وأرسطو في محل قوى النفس، فعند أفلاطون الملكة المتعلقة في المخ، والنزوعية في القلب، والطبيعية أي الغاذية في الكبد. ويرى أرسطو أنها واحدة بالموضوع ومتكثرة في القوى، ويشبه أرسطو العقل بخط منكسر لارتباطه بالحس، وأفلاطون بخط دائري لارتباطه بالصورة الخالقة. ويقارن بين نظريتي أنكساجوراس وديموقريطس. ويقارن بين ما قيل في طيماوس الذي لا يختلف كثيرا عن رأي ديموقريطس. في طيماوس تتحرك النفس تحرك الجسم في المكان. ويرفض أرسطو اعتبار النفس جسما حتى ولو كانت جسما كرويا حتى تكون شبيهة بالعقل. وأنكر أرسطو وجود الأشياء العامة خارج النفس كما يريد أفلاطون.
11
وتتفق نظرية أفلاطون في النفس مع نظرية المثل، النفس موجود مفارق مثل المثال وليس موجودا ماديا بالفعل كاليدين.
12
ولكنه جعل في طيماوس النفس من جوهر الأسطقسات وهو غير ما قيل في الجدليات. النفس طبيعة وسطى بين صور مفارقة لا تنقسم وصور محسوسة منقسمة حسب الهيولى، ويشرح ثامسطيوس ذلك بأن أفلاطون يعني بها العقل. أفلاطون في طيماوس، النفس جسم، مقابل فيثاغورس أن النفس صورة، وهي جوهر ينقسم في الجسم مع انقسام الأعضاء. ويتحدث أفلاطون عن قوى النفس العلم والخيال والعقل والنزوع. فالتعلم والتذكر سيان أي التحول من العلم إلى الجهل أو من الجهل إلى العلم، وهو غير صحيح. والخيال مركب من الظن والحس معا، ويختلف العقل عن قدرات النفس الأخرى. وأكبر قول يكون في المبدأ، وأجزاء النفس ثلاثة؛ العقل والغضب والشهوة وهما مظاهر للقوة النزوعية. وأفلاطون هو فيلسوف النفس الأقرب إلى التصور الإسلامي بتمايزها عن البدن وليس أرسطو.
وأرسطو مؤرخ يحصي آراء القدماء في النفس. كما أن ابن رشد مؤرخ يراجع الشراح المسلمين ويهاجم الماديين خاصة أمبادقليس أكثر مما ينقد المثاليين مثل فيثاغورس. يدافع ابن رشد عن موقف أرسطو وأنه لا يقع في التناقض وهو الذي اكتملت الفلسفة فيه. ولا تفصح أحيانا بعض ألفاظه عما يريد التصريح به مما يجعل شرحها ضروريا.
ونظرية أرسطو في النفس أنها تفعل أفعالا بملكات مختلفة وبأعضاء مختلفة رئيسية وفرعية. وتتميز حواس الإنسان عن الحيوان بالنزوع، ويتم الإدراك الحسي عن طريق التوسط، واللون امتزاج جسم مضيء بجسم مشف، وجوهر الخيال حركة الحس بالفعل. ويظهر العقل في البحث في المبادئ. فالخطأ في المبدأ يكون خطأ في النهاية. وهو جوهر يتقبل كل الصور الهيولانية. وهو بسيط سواء كان في الهيولى أو في غيرها، وهو مخالف لطبيعة الهيولى وطبيعة الصورة، ليس جسما ولا ملكة في جسم، ونسبة العقل إلى الخيال كنسبة الحس إلى المحسوس. كماله الأول تهيئته وإعداده. وهو العقل الأخير في ترتيب المفارقات وليس العقل الفاعل. ويصحح ابن رشد ما يروى عن أرسطو أن العقل الهيولاني ملكة مفعولة بالمزاج لأنه بعيد عن قول أرسطو. هو سبب المعرفة وإدراك حركة الأشياء.
13
وفهم الإسكندر الأفروديسي أن العقل الهيولاني قابل للفساد وهو يناسب أكثر الطبائعيين، ملكة مستحدثة. ويستشهد بأرسطو لإثبات رأيه. ويفهم ذاته بصفة عرضية أي من جهة ما يعرض لمعقولات الأشياء وتهيئة العقل الهيولاني صورة للخيال وامتزاج للأسطقسات. ويرى أن النفس في الحيوان كمال لها. وهو ضد أرسطو وضد الحق بعينه. ورأي أرسطو في أن اللحم متوسط في حاسة اللمس ضد رأي الإسكندر. ويقول ثامسطيوس إنه رأي أرسطو. ويعرض ابن رشد حجج الإسكندر، ويعطي الحجة على كون المشف بالفعل يتحرك على ما يظهر بفعل اللون.
14
ويحدد ابن رشد آراء الشراح في ثلاثة اتجاهات؛ الإسكندر وثامسطيوس ورأي ابن رشد شاقا طريقه بينهما؛ إذ يقصد الإسكندر بالعقل القوة المتهيئة الموجودة في المزاج الإنساني، وعند ثامسطيوس هو العقل الهيولاني المفارق. وعند ابن رشد، وهو رأي أرسطو، هو العقل الفاعل أي العقل النظري.
عند ثامسطيوس العقل مفارق وجلي، وفهم أنواع المدركات الحسية عند أرسطو مثل الحركة والسكون في حين ظن ثاوفرسطس أن العقل لا يدرك أية صورة إلا عن طريق اتصال العقل الفاعل بالعقل الهيولاني، ويظن كلاهما أن العقل الهيولاني جوهر لا كائن ولا فاسد. وهي عبارة أرسطو للعارفين بألفاظه في التعليم البرهاني. وهم مع نيقولاوس وقدماء المشائين على برهان أرسطو وألفاظه. والعقل النظري هو الذي يخلق وينشئ المعقولات. وهو العقل الفاعل، يضعف مرة ويقوى مرة أخرى. وهو ما قد يعارض قول أرسطو في التمييز بين العقل الهيولاني والعقل بالفعل.
15
ويعيب ابن رشد على القدماء جهلهم. فالعلم تقدم من القدماء إلى المحدثين حتى يكتمل في أرسطو على عكس ما يبدو أحيانا من أنه تقهقر من القدماء إلى المحدثين، من أرسطو إلى الشراح. وأرسطو يعرض آراء القدماء في النفس ويثني عليها لما فيها من حق وصحة. فما قالوه هو الصواب. ويعرض لثلاثة اتجاهات في النفس؛ أن حركتها من ذاتها، وأنها جسم لطيف أو أبعد عن الجسمانية، وأنها من بين المبادئ والأسطقسات لأنها مفكرة عارفة. وبعد عرض ابن رشد آراء القدماء في الكتاب الأول يبحث في جوهرها، الخيال في الكتاب الثاني؛ إذ تتكشف البنية من التاريخ.
16
وفي العقل في الكتاب الثالث. وقد قال القدماء إن النار تغتذي نظرا لحاجة كل ذي حرارة إلى الغذاء. ويستشهد ابن رشد بما قاله أرسطو في الآثار العلوية وفي الكون والفساد وفي كتاب الحيوان. وقالوا إن السمع يقع بخلاء ذي رنين لأنهم ظنوا أن السمع لا يتم إلا بالعضو الذي يوجد فيه هواء منفصل عن الهواء الخارجي. كما أخطأ الطبيعيون القدامى بقولهم أن لا كون بدون بصر، ولا طعم بدون ذوق على الإطلاق بحجة وجود تناسب بسيط بين الحس والمحسوس. كما أخطأ القدماء في ظنهم أن الخيال مركب من الظن والحس وهو ما ظنه أفلاطون أيضا. (ب) الموروث
ومن الموروث يتصدر ابن باجه شارحا أرسطو، ثم الفارابي المعلم الثاني، ثم ابن سينا، ثم أبو الفرج البابلي.
17
ومن المؤلفات تظهر مؤلفات الفارابي، نيقوماخيا ثم العقل والمعقول ثم العقل ثم المواضع الجدلية. ولابن باجه يظهر اتصال العقل بالإنسان، ثم التقديم.
18
ويذكر كله في الكتاب الثالث عن العقل كقوة من قوى النفس. ويستشهد ابن رشد بالفارابي على العقل الأول الذي لا يفهم أي شيء خارج ذاته في مقالته عن العقل والمعقول. وهي أنواع العقل التي قيلت في الأمثلة الجدلية. ولو أمكن للعقل الهيولاني إدراك الصور المفارقة لأصبح الممكن ضروريا كما بين ذلك في نيقوماخيا. ويظهر من أقوال الفارابي في رسالته عن العقل أن العقل المفارق غير فاعل. وتعارض رأياه في نيقوماخيا ورسالة العقل. وابن سينا هو المسئول عن عدم فهم كتاب النفس إذ إنه لم يقلد أرسطو إلا في الجدليات وضل طريقه فيما بعد الطبيعة.
19
ولا يوجد نقد للداخل كما هو الحال في تفسير ما بعد الطبيعة ونقد علم الأشعرية. الداخل مجرد استعمال ابن باجه والفارابي كشارحين لأرسطو واعتماد ابن باجه والفارابي في رسالتين عن العقل والمعقول والكون والفساد. ويتضح من قول ابن باجه أن العقل الهيولاني هو الملكة المتحولة من جهة ما هو مهيأ لتكون المعاني التي هي فيها معقول بالفعل هروبا من المحالات الحادثة للإسكندر، وهو أن المتقبل للصور جسم مفعول من الأسطقسات أو ملكة الجسم. ويستطيع فهم المعقولات المفارقة، وموضوع العقل الذي هو محركه بأية صفة هو ما حسبه ابن باجه متقبلا لأنه وجده تارة بالقوة وتارة بالفعل.
20
والعقل واحد بالعدد كما عبر عن ذلك ابن باجه في مقالته اتصال العقل بالإنسان. فالاتصال ممكن كما عبر عن ذلك جل المشائين.
وحسب ابن باجه أن التهيئة ليصبح الشيء معقولا هي التهيئة الموجودة في المعاني الخيالية. ويسلم في رسالته «التقديم» بأن القوة التي تحكم بها حكما عاما لا محصورة، وظن أن هذه القوة هي العقل الفاعل مع أن الحكم والفكر لا ينتسبان إلا إلى العقل الهيولاني، وحاول ابن باجه بيان هذا الاتصال في رسالته اتصال العقل بالإنسان.
21
وقد أخطأ أبو الفرج البابلي في شرح كتاب الحس والمحسوس في جعل القوة الهيولانية عقلانية وهو أيضا خطأ جالينوس.
ويظهر العلم الإلهي في تقسيم العلوم مع اعتبار علم الأخلاق علم سياسة الدول. فالأخلاق هي كل شيء، أساس الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ.
22
ويتحدث ابن رشد عن نص أرسطو كآخر، يصف مسار فكره، وطرق استدلاله. يوضح مقدماته، ويبين نتائجه. ويبدو من تحليل أفعال الفكر غلبة أفعال البيان كمقدمة في الاستدلال في عبارات مثل «بعد أن بين»، «بعد أن بين السبب»، «بعد أن بين فائدة.» وقد يكون البيان من ذاته على طريقة الكشف في عبارة «بعد أن تبين.» وقد تستعمل أفعال المعنى، فالبيان للمعنى مثل فعل «يعني». والمعنى قصد في فعل «قصد». والبيان إحصاء واستقصاء ورؤية لجوانب الموضوع كلها في أفعال «أحصى»، «استقصى». والفكر رؤية وملاحظة ومشاهدة في أفعال «لاحظ»، «رأى». ومهمة الشرح إزالة الشكوك والغموض في الفهم والتفسير؛ لذلك تكثر أفعال الشك والظن والنقد. أما باقي الأفعال فتدل على بداية الفكر مثل أفعال «بدأ»، «شرع»، أو أفعال الانتهاء إلى النتائج مثل «انتهى»، «استنتج»، «أكمل» أو أفعال وصف مسار الفكر مثل «وصف»، «اعتبر»، «قسم»، «فحص»، «حاول»، «برهن»، «بحث»، «سلم»، «وضع»، «عرض»، «أشار» ... إلخ. ولا تذكر أفعال القول إلا فيما ندر مثل «يقول»، وهي التي أخذت خطأ على أنها تدل على أن الشرح تبعية النص الشارح للنص المشروح.
23
ويعود ابن رشد على بدء، ويرجع إلى الموضوع بعد الاستطراد. وتظهر التعبيرات الإسلامية في الأسلوب العربي مثل «اللهم». ويتحدث عن الأجناس البلاغية كأسلوب في التعبير.
24
ويشرح ابن رشد الجزء بالكل، ويحيل نص أرسطو إلى مجمل كتاب النفس، ويشرح موضوعا في مقالة بإحالته إلى باقي المقالات. ويحيل إلى باقي الكتب مثل السماء والعالم وما بعد الطبيعة وكتاب الحيوان والحس والمحسوس مفسرا الجزء بالكل. فالشرح هو وضع العمل داخل مجمل النسق.
25 (2) شرح أرجوزة ابن سينا في الطب
ليس الشرح فقط للوافد، أرسطو، جالينوس، ولكنه أيضا للموروث من أجل إحداث التراكم الفلسفي الداخلي الضروري. فالوافد ما هو إلا رافد للموروث، والموروث هو المكون الرئيسي للوعي الفلسفي التاريخي.
26
والعجيب اختيار عمل لابن سينا، وهو نموذج الفيلسوف المعادي للعقل والطبيعة باسم الإشراق والفيض. ولا يوجد فيلسوف يوجه إليه ابن رشد سهامه قدر الغزالي وابن سينا، ولكن لا يوجد انتقاد كبير لابن رشد لابن سينا الطبيب، وإن كثر هذا الانتقاد لابن سينا الفيلسوف والشارح لأرسطو والصوفي، ويحدد ابن رشد الشرح كما طلب منه، إنه شرح للألفاظ من أجل بيان أغراضها دون تطويل أو إكثار، فهو شرح ملخص، يجمع بين الشرح والتلخيص للتعبير عن المعاني العلمية بالأقاويل الموزونة أي قد العبارة على المعنى مما يتطلب حذفا لبعض الألفاظ وجذبا لبعض المعاني وتوضيحها للأفهام. ويبدو أن ابن رشد كان لديه عدة نسخ من الأرجوزة يراجعها كلها، ويعرف الخلاف بينها.
27
وقد عبر ابن سينا عن الطب شعرا اعتمادا على عبقرية العرب الشعرية؛ فالشعر أداة للعلم وليس مجرد نوع أدبي. فقد طغى الذوق العربي على العلم العربي في المراحل المتأخرة لسرعة حفظه واستنكاره. وحوله ابن رشد إلى نثر علمي. ويوسع ابن رشد من شرحه حتى يخرج من إطار الطب بالمعنى الدقيق ليشمل الطب الجغرافي وعلم الفلك. فالطب ليس مجرد علم عملي للمداواة بل هو علم نظري للتشخيص، هو فلسفة طبيعية، جزء من الطبيعيات التي تشمل باقي العلوم الطبيعية.
وبتحليل أفعال القول تتصدر صيغة «يقول» إشارة لابن سينا. فهي ليست عادة خاصة بأرسطو بل بكل النصوص المشروحة. ليس فيها تبعية لأحد. بل هو أسلوب قرآني. ولا يظهر «قال» إلا مرة واحدة مما يدل على أن ابن رشد يصف حقيقة أكثر مما يتحدث عن ماض. ويتحدث في صيغة الفعل «يقول» وليس في صيغة «القول » الجاهز الذي لا شأن له بأفعال الشعور. ثم يأتي فعل «يريد» أي التوجه نحو المعنى والقصد الإرادي، وتتوالى أفعال الإدراك، أفعال الشعور المعرفي مثل: ظن، تكلم، ذكر، دعا، يحتمل، يوحي، اشترط، وافق، في المضارع أكثر من الماضي لأنه يصف أفعال شعور علمي حاضر وليس علما انقضى، ويغلب الإثبات على النفي في صيغ الأفعال. وكلها تقريبا في ضمير الغائب، وأقلها في ضمير المتكلم، إشارة إلى ابن سينا وليس إحالة إلى ابن رشد. وغالبا ما تكون أفعال القول في أول الفقرات ونادرا ما تكون في آخرها.
28
أما الأسماء فإنها أقل من الأفعال ولكنها أيضا تدل على تعامل ابن رشد مع الموضوعات الطبية مستقلة عن أفعال القول. ومعظمها أسماء إشارة أي إشارة إلى أشياء موجودة بالفعل.
وكما يستعمل ابن رشد «قال»، «يقول» فإنه يستعمل أيضا «قلنا»، تمايزا بين الأنا والآخر.
29
فإذا قال جالينوس بأن الحياة تبقى بالقوة الطبيعية فإن ابن رشد يسميها القوة الغاذية. فالتمايز بين النصين ليس فقط بين الداخل والخارج بين الموروث والوافد، دلالة على التمايز الحضاري، بل بين الماضي والحاضر في الداخل، دلالة على التقدم العلمي.
مهمة الشرح الإيضاح؛ لذلك يتكرر فعل «يعني» أو الحرف «أي». والإيضاح هو إيجاد فكر متسق بين المقدمات والنتائج في منطق محكم للاستدلال.
30
لذلك يصف ابن رشد مسار فكر ابن سينا، ويدخل في منطق استدلاله كما يدل على ذلك أفعال الشرط وجوابه، وحروف التوكيد، وأسماء الصلة.
31
ويحيل السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق في صيغ «فلنرجع إلى ما نحن بسبيله.» بعد الاستطراد.
32
ويبحث ابن رشد عن العلل والأسباب التي جعلت ابن سينا ينتهي إلى مثل ما انتهى إليه. فابن رشد يراجع أحكام ابن سينا على الموضوعات نفسها كما هو الحال في تحقيق المناط عند الأصوليين.
33
فلا يشرح الطبيب إلا الطبيب لأنه لا يشرح القول بل يرى الموضوع المشترك بين المشروح والشارح، وبعد أن يتحقق ابن رشد من عدة آراء ينتهي إلى «والحق في ذلك هو ما قلناه.»
34
ويتخيل ابن رشد الاعتراض المسبق «فإن قال قائل .» ويرد عليه من أجل الحفاظ على الاتساق العقلي.
35
وقد استطاع ابن رشد إخضاع الأرجوزة السيالة إلى أقسام فقسمها قسمين؛ الأول: الطب النظري، ويشمل الفزيولوجيا والمرض والدلائل. والثاني: الطب العملي، ويشمل العلاج بالأدوية والجراحة. ويتفرع كل موضوع إلى مسائل متعددة.
36
ويضع لكل مجموعة من الفقرات تدخل في موضوع فرعي عنوانا لا تسمح به صياغة الأرجوزة، تحويلا لها من الشعر إلى النثر، ومن الصياغة الأدبية إلى الصياغة العلمية.
37
ويذكر ابن رشد بين الحين والآخر أقسام الموضوع من أجل احتوائه عقلا.
38
ويقطع فقرات الأرجوزة، وتختلف المقاطع فيما بينها طولا وقصرا.
39
تبدأ في الطب، وتنتهي بالصيدلة. فالطب علم نظري وعمل للتشخيص والعلاج.
ويركز ابن رشد على منهج الطب، البحث عن الأصول والكليات كما هو معروف من كتاب «الكليات» والتي لا تعرف إلا بالعقل والقياس، وفي نفس الوقت يبحث عن الجزئيات التي لا تعرف إلا بالتجربة، وهو المنهج الفقهي الذي يجمع بين الأصل والفرع على ما هو معروف في القياس الشرعي، بالإضافة إلى «شهادة الجميع» أي إجماع الأخبار وهو ما يعادل الإجماع، المصدر الثالث في علم الأصول. فإذا ما تعارضت الأدلة فإنه يكفي حل التعارض بشهادة الأطباء كما هو الحال في التعارض والتراجيح في علم أصول الفقه، فإذا لم ينحل التعارض فليس على الطبيب إلا الاعتماد على رأيه الخاص، وهو ما يعادل الاجتهاد، الدليل الرابع من أدلة التشريع.
40
وأحيانا لا يصدق ابن رشد رواية عن جالينوس ولا أبقراط، وله وجه من القياس إن شهدت التجربة به، فالرواية لا تقبل إلا بعد أن يشبه العقل والحس بها كما هو الحال في شروط الخبر المتواتر في علم مصطلح الحديث.
41
ولا يكتفي بالاستشهاد بجالينوس بفصد الدواب آخر الربيع وأول الصيف إلا لأن ذلك نافع بالتجربة.
42
والتغيرات على المريض تدرك بالحس وليس قياسا، ويتحقق ابن رشد من كل رواية طبية. ويبدو أنه اقتصر على الرواية مثل تأويل جالينوس داء الثعلب على أنه الجذام دون أن يتحقق ابن رشد نفسه من ذلك بالتجربة.
43
ومن الوافد يتصدر جالينوس على أبقراط مع أن جالينوس لم يذكر عند ابن سينا إلا مرة واحدة.
44
وربما يكون الغرض من الإسهاب في ذكر مصادر الوافد كشف مصادر ابن سينا التي أخفاها. وفي نفس الوقت يعتمد ابن رشد في نقده المحدود لابن سينا على جالينوس.
45
ويستشهد بجالينوس على صدق تحليلاته الخاصة اعتمادا على التراث العلمي مثل الحذر الذي اعترى العليل عند شرب الماء البارد. فابن رشد حلقة من تراث علمي طبي طويل، من القدماء إلى المحدثين.
46
بل ويدافع عن جالينوس ضد أي معترض يقول إن الأمراض البسيطة التي ذكرها جالينوس هي التي مع غير مادة وأنها تحدث عن الأسباب الخارجية.
47
ويعترض على نسبة أقوال خاطئة لجالينوس مثل: إن سبب شعلة العين كثرة الروح. ويعترض على بعض آرائه مثل: إن النفس تستوحش بالخلط السوداوي كما يستوحش الإنسان من الظلام. ويصفه بأنه قول شعري وليس قولا علميا، وذلك أنه يلزمه أن يكون الدم الأبيض مضيئا. كما زعم أنه لم ير بعض الأمراض في البلاد الحارة. كما يعترض على الإسكندر في قوله إن النار التي في الأسطقسات هي هذه النار المحسوسة.
48
ويقارن ابن رشد بين آراء جالينوس وأبقراط. ويعتمد عليهما في أن الأجسام تتكون من الأسطقسات الأربعة وكما بين جالينوس في كتاب «الأسطقسات»؛ إذ يجتمع كلاهما على مذهب واحد. ويعتمد عليهما معا في الغذاء وبعض الموضوعات الطبية التي يشارك فيها أيضا أرسجتجانس.
49
ويرجع بعض آراء ابن سينا إلى مصادرها اليونانية عند جالينوس وأبقراط. فقول ابن سينا إن الأبدان الحارة لا ينبغي أن تراض قول أبقراط.
50
ويعتمد على أبقراط وحده في قوله الضد شفاء الضد، وإن أبدان الأطفال تحتاج إلى وقود كثير، وإن البراز الأسود في أول المرض علامة رديئة. وقد وضع كتابا في «تقدمة المعرفة» من أجل مساعدة الطبيب على التنبؤ بالأمراض من علاماتها الأولى.
51
ويشارك أبقراط وجالينوس وأفلاطون في مذهب واحد، وهو جعل القوى الحساسة والمحركة في الدماغ على عكس المشائين الذين يجعلونها في القلب.
52
ويستشهد بأفلاطون في قسمة القوى إلى حساسة ونباتية وحيوانية وبأرسطو في أن الحيوان كثير الجماع قليل العمر.
53
ويتكلم عن القدماء واضعا الأرجوزة في تاريخ الطب مقارنا بين الأطباء المتقدمين والمتأخرين والأطباء المشائين وبين مذاهب الأطباء ومذهب الفيلسوف، ومراجعا كتب الطب، واضعا ذلك كله عند اليونانيين.
54
فما يدل عليه الاسم في لسان اليونانيين قد يدل في لسان آخر على جهة التشبيه مثل البحران. ويتحدث عن عادة اليونانيين في جزعهم من شربهم الماء البارد لمكان عادتهم وبلدهم. وقد لاحظ جالينوس توفي أحد المرضى من جراء ذلك.
55
والعجيب أن ابن رشد لا يحيل إلى «كتاب القانون» في الطب لابن سينا، ولا يستعين به في الشرح بالرغم من أنه يحيل إلى مؤلفات جالينوس وأبقراط.
56
ومع ذلك يتصدر الموروث حنين بن إسحق وابن رضوان، ثم أبو العلاء بن زهر والزهراوي والرازي وابن سينا.
57
وينقد ابن رشد ابن سينا دون أن يذكر اسمه إلا في المقدمة كصاحب الأرجوزة، ولكن في ثنايا الشرح يعيب على ابن سينا أنه نقض ذكر أمزجة الأعضاء والعلامات الدالة عليها. ولم يذكر بعض الأخلاط المشهورة، وذكر أصنافا غير مشهورة. وأنكر عليه نسبة النحوس والسعود إلى الكواكب ودلالتها على سلامة النفوس أو هلاكها في الأمراض. وهو ما يعارض العلم الطبيعي من أن أفعال الكواكب خير كلها، رأيا برأي، وكلاهما يقوم على الخلط بين العلم والأخلاق، ويتشكك في بعض توصيات ابن سينا مثل أخذ راكب البحر الأغذية الرطبة للوقاية من الدوار لأنها وصية غير طبية. كما يعترض على ابن سينا في فصد ابن الستين والسبعين، ويتشكك في علاج البخر بالفصد. ويعترض عليه لجعله البلغم سببا في عسر الولادة، وربما يكون سببا للإسقاط، ويعترض على دهن الجسم بالزيت والشمع خوفا من أثر الشمس. كما يعيب عليه عدم ذكره الحميات والأورام. لا يعني الشرح إذن مجرد بيان لفظي بل يتضمن النقد والتصحيح للأحكام.
58
ويعتمد ابن رشد على الموروث الطبي لتأييد قسمة الطب إلى نظري وعملي، ويستشهد بحنين وأبي العلاء ابن زهر الذي رأى هذه القسمة عند جالينوس، في حين رفضها علي بن رضوان، ويعتمد ابن سينا على مذهب حنين. وهو مخالف لمذهب جالينوس كما يذهب ابن رضوان. وأثنى الزهاوي على خبز الطابق وجعله مثل خبز التنور. ويقارن من بين مذهب أطباء العراق الذي يؤثر مياه الأنهار على مياه العيون ومذهب أبقراط وجالينوس الذي يفضل مياه العيون. وإذا قال جالينوس إنه يدرك السكونين، الداخل والخارج فإن الرازي ينكر أن يدرك السكون الداخل، كما شك الرازي على قول جالينوس بإمكانية معالجة صاحب المزاج الخارج عن الاعتدال عن طريق الشبيه.
59
وتظهر البيئة العربية الإسلامية في الجغرافيا الطبية في الحديث عن الأقاليم المعتدلة اعتمادا على جالينوس الذي يقول على أهل الإسكندرية إنه لا يوجد فيهم مزاج معتدل، ويوافقه ابن رشد على ذلك لأن بلاد العراق تقرب من الصحراء ومتاخمة لها، وتجاور بلاد العرب، وبلاد العرب حارة. ويتحدث ابن رشد عن «بلادنا» و«وعندهم بالعراق» و«هذه البلاد». فهو يشرح في سياق جغرافي، ووضع اجتماعي، «على ما جرت به عادة أهل زماننا.» «وطريقة ممارسة المعالجين، والمجبرون من أهل زماننا.» ولا يستعمل الدهاليس «أهل بلادنا وهي جزيرة الأندلس.» إذا كانت بلاد منها في الإقليم الخامس وبلاد المسلمين.
60
ومن التراث الديني المباشر تظهر آية قرآنية واحدة إشارة إلى الأسطقسات الأربعة
خلق الإنسان من صلصال كالفخار . كما ينقد ابن رشد كثيرا من الجهال المتكلمين عن عجز الطبيعيين عن معرفة سبب الخواص، ويعني بهم الأشاعرة. وفي نفس الوقت ينقد ابن رشد رأي جالينوس المادي في فهم الطبيعة أو بتأثير الكواكب. ويضيف أنها بتسخير من باريها سبحانه. فهو مع الأشاعرة معتزلي ومع جالينوس أشعري.
ويبين ابن رشد شارحا ابن سينا مخاطر شرب النبيذ بعيدا عن الحكم الفقهي، اعتمادا على حكم الأطباء ووصاياهم في عدم شرب الكثير، يوما بعد يوم، وبخاصة للمحرورين كما يقول ديسقوريدس، يوما شرابا محزوما، ويوما ماء قراحا. والشرب ضار على العموم، يقرع العصب، ويكره على الطعام. والنبيذ مضر بخلطه بالسكر. أباحه الرازي مرة في الشهر وهو خطأ. فالشراب كما يقول جالينوس من ألوم الأشياء للحرارة الغريزية، كالزيت من المصباح، الكثير منه يطفئه، مفيد للحرارة الغريزية ومضر بالحرارة النفسية الحسية أي بالدماغ والعصب . وكان القدماء يحذرون الشباب منه ويسمحون به للشيوخ.
61
ويبدأ الكتاب بالبسملة والصلاة على محمد النبي وآله وسلم.
62
وتتجاوز الحمدلة إلى الأشعرية الدفينة المخففة بالاعتزال. فالله هو الشافي من الأدواء المعضلة والأسقام بما ركب في البشر من القوى الحافظة للصحة والمبرئة من الآلام. فالله يفعل من خلال الطبيعة وطبقا لقوانينها وليس ضدها. وهو الذي فهم صناعة الطب وحيلة البرء ذوي الألباب والأفهام.
63
والعجيب أن يدعو ابن رشد وهو السني الظاهري السلفي للإمام المعصوم والمهدي المعلوم الذي أمره بشرح الأرجوزة. فلا فرق بين الدعاء لله والدعاء للسلطان وفي الخاتمة يعلن عن نهاية شرحه تنفيذا للأمر المطاع ويدعو للسلطان بدوام العمر والتأييد. وينتهي الدعاء بالصلاة والسلام على الرسول.
64
ثامنا: تفسير ابن البيطار وشرح ابن النفيس
(1) تفسير كتاب ديسقوريدس لابن البيطار (646ه)
لم يقتصر الشرح فقط على كتب الفلسفة لأرسطو وأفلاطون والطب، جالينوس وأبقراط بل تعدى أيضا إلى كتاب ديسقوريدس. ولم يتوقف الشرح حتى ابن رشد بل استمر بعده في القرن السابع عند ابن البيطار في «تفسير كتاب ديسقوريدرس في الأدوية المفردة».
1
فالطب ثقافة عامة للمتشوقين وعلم خاص للأطباء والشجارين والمتطببين. الكتاب في الصيدلة وليس في الطب مما يدل على تداخل الصيدلة والطب. وسبب الشرح صعوبة الكتاب، وفك المصطلحات، وإيجاد مرادفها بالعربية والبربرية واللاتينية، واستعجام ألفاظ ديسقوريدس حتى عند المتعلمين المتخصصين، وتقريب النص إلى العوام في ترجمته عن طريق إعادة كتابته بأسلوب عربي تسهيلا للأدوية على الطبيب.
2
هذا بالإضافة إلى بيان استعمالاتها في شتى العصور القديمة والحديثة وفي شتى الأمكنة، الأندلس وأفريقيا ومصر والشام وفارس، في المشرق والمغرب. وقد تم الشرح اعتمادا على كتب القدماء ومشافهة المحدثين، والاعتراف بالأسماء غير المعروفة بتواضع للعلماء. وألقابه المؤلف الحكيم الفاضل العالم الملقي (نسبة إلى مدينة ملقا). وهو لا يدخل في المصطلح الفلسفي لأنه مجرد أسماء أدوية وليس مصطلحا. العلم لغة اصطلاحية. وتشير الأسماء إلى الأشياء أكثر مما تحيل إلى المعاني، من اللغة إلى الشيء مثل تحقيق المناط عند الأصوليين. القصد هو الإشارة إلى الشيء ابتداء من اللغة. كما تحكم الأسماء المشتركة كما هو الحال في مباحث الألفاظ عند الأصوليين. المحلي هو المعلوم وغير المحلي هو المجهول. والتحقق من الصدق عن طريق التجربة، الرؤية بالعين. والتنبيه على الغلط وتصحيحه يبين أن الشرح ليس مجرد نقل أو ترجمة. كل الأسماء معربة. تتوجه إلى الشيء ذاته كنوع من التأويل العيني. وترقم المصطلحات طبقا لأسماء عناوين الأدوية وليس طبقا للحروف الأبجدية وإلا كان قاموسا اصطلاحيا.
3
ومن الوافد يتصدر جالينوس، ثم ديسقوريدس، مما يدل على حضور جالينوس وسيطرته على النص المشروح، ثم اصطفن ثم جنتورش الحكيم أي الاعتماد على المصدر الداخلي. وتظهر كصفات اللاتينية العامية ثم اليونانية ثم الرومية ثم السريانية ثم لغة أهل ما يرقا. وواضح انحدار اللاتينية من الفصحى إلى العامية، واستمرار السريانية حتى هذا العصر المتأخر، وبداية الإحساس باللغة الإفرنجية التي تطورت عن العامية اللاتينية. كما يتبادل اللفظان الروم واليونان على شيء واحد.
4
ومن الموروث يتصدر ابن جلجل (ابن حسان)، ثم ابن الوافد، ثم أبو حنيفة مما يدل على إدخال الصيدلة داخل الثقافة العامة، ثم حنين بن إسحق وسليمان بن حسان وابن جزلة وابن سينا وابن الجزار وأبو عبيد الله الصقلي والبكري والشاعر ذو الرمة. ومن البلاد تتصدر الأندلس ثم أهل المغرب ثم عربي والعربية ثم أهل مصر وأطباؤها وديارها ثم البربرية ثم فارسية ثم لغة أهل الشام وبلاد الروم ثم بلاد المشرق.
5
وتتخصص المناطق أكثر في الإسكندرية ودمشق ثم في طرابلس المغرب والعراق ولبنان والأرمني والحبشي ... إلخ. هناك إحساس بالتطور في أجيال الأطباء.
وتتعلق العبارات الإيمانية بعلم الصيدلة. فالله هو الذي تدارك الخلق بنعمته، المانع عوادي الأسقام برحمته، والنازل لأدواء النوع الإنساني من الطاقة شفاء، وجعل لقوام الأبدان من الجنس النباتي غذاء وطيبا ودواء. وهناك شجرة إبراهيم وشجرة مريم. والله هو المعين والموفق للصواب، كل شيء عبيد له. وهو أعلم بالصواب. (2) شرح فصول أبقراط لابن النفيس (687ه)
وقد استمرت الشروح كنوع أدبي حتى القرن السابع مثل «شرح فصول أبقراط» لابن النفيس.
6
وله ألقاب عدة؛ فهو الشيخ الإمام الفاضل، الكامل، العلامة ، الرئيس، جامع أشتات العلوم ومعدن فرائد المنثور والمنظوم.
7
ويأخذ أحيانا أبقراط لقب الإمام. ويستعمل ابن النفيس طريقة الشرح مثل ابن رشد في التفسير، فصل النص المشروح عن النص الشارح. قطع النص المشروح إلى مئات الفقرات تطول أو تقصر، وهي في الغالب أقصر من النص الشارح.
8
ويبدأ النص المشروح كالعادة بعبارة «قال أبقراط.» ثم يتم استرجاع بعض عبارة النص المشروح داخل النص الشارح للاستشهاد به والتعليق عليه داخل الشرح أو مستقلا عنه ومسبوقا بصيغ أفعال القول وهي في الغالب «قوله» أو «قال». ويظهر التقابل بين «قال» و«نقول»، «قلنا»، بين الغائب والمتكلم ليس فقط تقابل المشروح والشارح بل تقابل الآخر والأنا، الحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية. بل ويشرح ابن النفيس قوله الخاص «قولنا» كما يشرح قول أرسطو.
9
والكتاب مقسم إلى سبعة مقالات من وضع الشراح اليونان وليس من وضع أبقراط، وحافظ ابن النفيس على القسمة بالرغم من إعلانه أنه لن يلتزم بذلك.
10
يعتمد على أكثر من نسخة ويعني ترجمة مما يدل على رغبته في معرفة موضوع النص وليس النص.
11
والغاية من الشرح هو أن ابن النفيس قد شرح من قبل هذا الكتاب عدة مرات. كل شرح له غرضه الخاص. وهذه المرة يتبع ما رآه «لائقا بالشروح ورائقا في التصنيف.» كل الشروح تقوم على نصرة الحق وإعلان مناره، وخذلان الباطل وطمس آثاره؛ فهو شرح مراجعة لا يقوم به إلا طبيب لطبيب، يعرف العلم وموضوع النص حتى يكون شرحه إعادة دراسة للموضوع وتحقق من صدق النص المشروح.
12
ويكاد يخلو من النقد. وإذا كان المسلمون قد فضلوا طب جالينوس على طب أبقراط إلا أن ابن النفيس لا يفضل أحدهما على الآخر بالرغم من شرحه أبقراط اعتمادا على جالينوس. ويحرص على ذكر تعدد الآراء كلها دون تحزب أو تعصب أو قطع. ويورد كل الاحتمالات.
13
ويذكر ابن النفيس ما ذكر أبقراط وما لم يذكر أي أنه يكمل نقصه حتى يظهر العلم الكامل.
14
ويعتمد ابن النفيس على الاستقراء إذا ما نقص البرهان.
15
والبرهان قياس؛
16
لذلك تكثر ألفاظ البيان مع أفعال الإرادة.
17
فالفعل المعرفي فعل قصدي إرادي. وقد يكون البيان بإضافة لفظ معناه.
ويصف ابن النفيس مسار فكر أبقراط، مقدماته ونتائجه ومنطق استدلاله وغايته.
18
يربط أجزاء الفصول بعضها ببعض، ويحدد علاقاتها الداخلية. ويتلمس الأسباب؛ لذلك تكثر تعبيرات «لذلك».
19
فيكمل التعليل الناقص. ويقدم قبل الشرح مقدمات أو مبادئ يقيم عليها نسقا طبيا عقليا يستند إليه الشرح. ويقوم بالعد والإحصاء حتى يحكم القسمة، ويبين أجزاء الموضوع وجوانبه المختلفة؛ فالشرح تحويل للنص إلى بنية عقلية هي نفسها بنية الموضوع.
20
والفكر اقتضاء له أسسه المعيارية؛ لذلك تبدأ العبارة الشارحة كثيرا بتعبير «ينبغي أن».
21
وينبه على التكرار مما يدل على رغبة في التركيز وجعل الكلام على مقتضى المقال.
22
ويحيل إلى باقي كتبه، فالشرح جزء من كل. فتتم الإحالة إلى كتاب «المباحث القانونية» وإلى كتاب «الأهوية والمياه».
ومن الوافد بطبيعة الحال يتصدر أبقراط في أول كل فقرة مشروحة. كما يتكرر الاسم داخل النص الشارح.
23
أما جالينوس فيتم الاستشهاد به في الشرح على صدق قول أبقراط ولو كان من ظاهر قوله. كما يستشهد به عن يقين. وإذا اختلف الأولون في موضوع مثل حرارتي الصبى والشباب أيهما أشد فالحق ما قاله جالينوس، وهو أن الحرارة فيهما واحدة. وجالينوس له رأيه مع غيره. وقد يخالف رأي أبقراط. وقد يبدأ ابن النفيس الشرح بقال جالينوس، جاعلا إياه متحدثا بلسانه. ويجوز فهم جالينوس لشيء ما مع جواز فهم آخر. فاعتماده على جالينوس دون تعصب أو تحيز.
24
ويقل الموروث للغاية بالرغم من هذا الوقت المتأخر، القرن السابع، وهناك التراث الطبي الموروث، ولكن يمكن تلمس الموروث على نحو غير مباشر في التعريف اللغوي لمصطلحات الطب مثل التدبير في اللغة الذي يعني التعرف ويقصد بها اللغة العربية.
25
ويبدو التوجه الديني في العبارات الشائعة الموروثة من الأشعرية الشعبية مثل «والله أعلم» وتظهر البسملة في البداية والدعوة بالتوفيق في أول فقرة.
26
الفصل الثاني
التلخيص
أولا: الشرح والتلخيص1
(1) المترجمون ملخصون (أ) وقد ضم حنين بن إسحق الشرح والتلخيص معا لجوامع الإسكندرانيين ومنها كتاب جالينوس في فرق الطب .
2
وهو إلى التلخيص أقرب نظرا لصغره ما زال يذكر أعلامه، ما يقرب من العشرين، على الاتساع وليس في العمق، مقسما إياها مثل جالينوس إلى أصحاب التجربة، وأصحاب القياس، وأصحاب الحيل.
3
ومن ثم فهو أقرب إلى الطب المنهجي أو منهج الطب منه إلى موضوع الطب والمدارس الطبية مثل الفرق الكلامية في بنية عقلية واحدة وفي حوار معها.
ويقوم هذا النوع الأدبي الذي يجمع بين الشرح والتلخيص على القسمة، قسمة الطب إلى علم وعمل، وقسمة العلم إلى الطبائع، والأسباب، والعلامات والدلائل، ثم قسمة العمل إلى حفظ الصحة واجتلاب الصحة.
4
فالقسمة أفضل وسيلة جامعة للشرح والتلخيص في آن واحد. وهي قسمة عقلية تضم الموضوع كله؛ وبالتالي تجمع بين العقل والطبيعة وهما دعامتا الوحي.
ولا ضير في هذا النوع الأدبي أن يتحدث جالينوس عن نفسه بعد أن تقمص الملخص الشارح شخصيته. ويوضع لفظ شرح أمام كل باب من الأبواب العشرة. ولا تغيب الشعوب، فالطب مرتبط بالجغرافيا. فيضرب المثل بالمناطق شديدة البرد مثل بلاد الصقالبة أو شديدة الحر مثل بلاد الحبشة.
وقد زاد عليه الناسخ ثلاثة أبيات من أقوال الشيخ الرئيس ابن سينا في فاتحته.
5
وقد يذكر هامش ساقط إما من الشارح الملخص أو من الناسخ.
6
ويظهر البعد الديني، فالشيء الخفي إما أن يكون بطبعه خفيا مثل جوهر الله تبارك وتعالى وجوهر العقل والنفس والطبيعة. ولا يعرف إلا بالقياس من الظاهر على الخفي أي قياس الغائب على الشاهد بتعبير الأصوليين وفي البداية البسملة والدعوة، وفي النهاية الحمدلة والصلاة على النبي وآله.
7 (ب) ومن نوع الشرح والتلخيص ولكنه إلى الشرح أقرب لكبره هو «كتاب جالينوس إلى غلوقن في التأتي لشفاء الأمراض»، مقالتان، شرح وتلخيص حنين بن إسحق المتطبب.
8
لا يعني هذا النوع الأدبي الالتزام بنوع واحد إما الشرح أو التلخيص بل ضمهما معا، أحيانا يحتاج النص إلى شرح وإسهاب وتفصيل، وأحيانا أخرى يحتاج إلى تلخيص وتركيز وتجميع. بل إن لفظ الجوامع يبدو في المقالة الثانية وكأن حنين أراد أن يمارس الشرح والتلخيص والجامع في آن واحد . وإذا كانت الدلالة الأهم في الترجمة القراءة والحذف والإضافة وإعادة كتابة النص بعيدا عن المطابقة فإن الدلالة في هذا النوع الأدبي الجامع بين الشرح والتلخيص هي مسار الفكر. فالفكر له مسار يظهر في عبارات التقديم والتأخير «على ما قلنا من قبل»، «وقد بينا فيما سلف».
9
كما يبدو في أفعال القول بعد تقطيع النص حتى يسهل هضمه شرحا أو تلخيصا «يقول» ثم «نقول» تقابلا بين الموضوع والذات، بين المقروء والقارئ، بين النص المترجم والنص الشارح أو الملخص.
10
ويظهر الاستدلال في مسار الفكر المشروح بفضل رؤية الفكر الشارح في كل صفحة بأفعال البيان والإيضاح.
11
وقد يكون الاستدلال في صيغة شرطية، فعل الشرط ثم جواب الشرط وأفعال الشرط مثل البيان والعلم. والقدرة.
12
والغالب فعل الكون، «إن كان ... كان» أو مع الزمان مثل «متى كان». وقد يكون الشرط منفيا مثل «إن لم يكن» إذا لم يقدر.
13
ثم يأتي الإقرار والخاتمة «وما كان ذلك كذلك» ويبحث الشارح عن الأسباب دون الاكتفاء بالوصف أي أنه يتجه إلى التعليل، انتقالا من الخارج إلى الداخل كما هو الحال في التعليل الأصولي؛ لذلك تظهر ألفاظ السبب والأسباب.
14
ويترك الظاهر ويذهب إلى الباطن.
15
وأخيرا يتوجه الشارح نحو الغاية والقصد والغرض؛ فالفكر ما يريد إثباته وما سواه مقدمات له. والتفسير بالعلة الغائية أقرب أنواع التفسيرات لأن الغاية هي التي تحدد مسار الفكر.
16
وبعد الفكر الوصفي والتعليلي يأتي الفكر المعياري الذي يضع ما ينبغي أن يكون إيجابا «وينبغي أن» «ويجب أن»، أو سلبا «ليس ينبغي» و«لا ينبغي».
17
وبالرغم من وضوح الفكر والعبارة القصيرة المركزة وسلاسة الأسلوب بالرغم من تطور اللغة حتى الآن إلا أن الشارح يقوم بضرب الأمثال لمزيد من الإفهام والتوضيح والبيان.
18
ومن أجل الاحتواء يقوم الشرح على القسمة والعدد والإحصاء من أجل احتواء الموضوع أولا، فقسمة العقل هي مراتب الوجود نظرا لتماثل العقل والطبيعة المكونين الرئيسيين للوحي.
19
كما لا يبعد النص المشروح عن تصور العالم للنص الشارح. فالشرف في الطبيعة، والكمال في الوجود. والطبيب خادم الطبيعة. والطب فلسفة نظرا وليس مجرد ممارسات عملية. ولا يظهر الموروث صراحة فلا حاجة لذلك طالما أن العقل قادر على احتواء النص. وإذا كان النص المشروح إرشاديا تعليميا فإن النص الشارح يزيد من ذلك ويتوجه إلى مخاطبة القارئ أسوة بأسلوب التأليف العربي.
20
وبالرغم من أن الشرح والتلخيص تجاوز المسافة بين القارئ والمقروء إلا أن التمايز ما زال قائما بين الشارح العربي والنص اليوناني. فالشرح ما زال يذكر اللغة اليونانية ويركز على التمايز اللغوي، ويحيل إلى الآخر، قدماء اليونانيين. كما أن النص المشروح يكشف عن حضور الشرق والغرب داخل اليونان.
21
ولا يظهر نقل الوافد على الموروث لأنها رسالة علمية دقيقة صرفة، ومناطق التعشيق فيها غائبة تماما أي مستوى الإلهيات، باستثناء البدايات بالبسملة بل ودون نهايات.
22 (ج) وهناك «مختصر لكتاب الأخلاق لجالينوس» ربما من وضع أبي عثمان سعيد بن يعقوب الدمشقي كما أخبر بذلك ابن أبي أصيبعة.
23
أبقى على فلاسفة اليونان أفلاطون وهرمس ثم أبقراط ثم سقراط وأرسطو وسولون، كما أبقى على أسماء الفرق مثل الفلاسفة والقدماء، وتظهر اللغة اليونانية إحساسا باللغة المترجم منها، وكعادة التلخيص في التركيز على المعاني دون الألفاظ، وعلى استدلال الفكر دون العبارات. ويظهر مسار فكر جالينوس، بداية ونهاية، مقدمات ونتائج، والأسلوب أدبي طبيعي كأنه تأليف وليس تلخيصا، إعادة كتابة النص وكأنه نابع من الحضارة. وهي أخلاق طبية بيولوجية تعتمد على العضو الحي، ولا تخرج النتائج عن الفكر العقلاني الإسلامي العام الذي يقوم على الثنائية الخلقية الناتجة عن الثنائية الدينية وعلى استحقاق الذم والمدح كما هو الحال عند المعتزلة في قانون الاستحقاق، وإن العوام أشد طاعة للأغنياء منهم إلى الفقراء.
ويغيب الموروث كلية من التلخيص. فما زال التلخيص يتم للوافد دون نقله على الموروث كما هو الحال في المراحل التالية كالعرض والتأليف والتراكم. ومع ذلك تظهر بعض التعبيرات الدينية مثل أن محبة الجميل من محبة الله تعشيقا في حديث: «إن الله جميل يحب الجمال»، ولا كرامة أعظم مرتبة من الاقتداء بالله حسب الإمكان البشري ، ومعرفة الإنسان بالأشياء الإنسانية والإلهية. ويستعمل الإيقاع والنظم في تسبيح الله. والفيلسوف هو العالم بالحكمة أي بالأمور الإلهية، وهي الحركات السماوية والأفعال الطبيعية الكلية والحيوانية والنباتية. والحكمة التامة لله تعالى وحده، فهو الحكيم المطلق. فإيثار الحكمة والميل إليها أمر إلهي جليل القدر، ومحبة الخير تشبه بالله لأن الله محب للخير، ومحبة الله محبة أفاضل الأبرار. والله يتعالى عن الإحسان.
24
كما يظهر لفظ الملائكة عدة مرات. فعلى الإنسان أن يختار إما أن يكون قبيحا كالخنزير أو حسنا كالملاك. والملائكة لا تتغذى ولا تتناسل على عكس أبدان الحيوان التي تتغير وتفسد لما ركب الله فيها من شهوة الطعام والتناسل. ومن صاروا كالملائكة يحق لهم تسميتهم بالمتألهين. وكما يميل الإنسان إلى اللذة يميل أيضا إلى قوة كالتي في الملائكة، وبعد الموت يصير الإنسان كالملائكة، ويكون بعقله مثلهم وشبيها بسيرتهم، وقد أعان الباري الإنسان على النفس الشهوية بالنفس الغضبية وأعانه على كليهما بالنفس الناطقة. وواضح اعتماد تلخيص جالينوس على أفلاطون، وقوى النفس الثلاث. والنفس التي يقتدي بها الإنسان هي النفس الناطقة. ومع ذلك ففي الإنسان فضائل ليست في الملاك لأنها لا تليق به مثل الغذاء والتناسل.
25
وكما يبدأ التلخيص بالبسملات ينتهي بالحمدلات.
26
ويقوم بالمختصر مجهول. فالمهم العمل وليس الشخص، وهو مختصر للمقالات الأربعة. لا ضير أن يبدأ بفعل القول «قال» مع أنه ليس اقتباسا حرفيا بل هو تلخيص للمعنى مما يدل على أن الغاية من المختصر هو اقتناص المعاني وليس شرح الألفاظ.
27
ولا يعني المختصر إسقاط أسماء الأعلام كلها فهذا أقرب إلى الجامع الذي يركز على الأشياء، ففي مختصر كتاب الأخلاق لجالينوس تذكر أسماء الأعلام مثل أفلاطون وأرسطو وسقراط وسولون. بل وتذكر الأسماء الخيالية النمطية مثل هرمس. كما تذكر أسماء الفرق مثل الفلاسفة القدماء، القوم المتأخرين، الفلاسفة. ومن بقايا الترجمة يتم التخصيص على اللغة اليونانية تمايزا بين لغة الوافد ولغة الموروث. ويحيل جالينوس إلى باقي أعماله الأخرى مثل «آراء أبقراط وأفلاطون».
والأهم من ذلك كله هو تعشيق ملخص الوافد في ثقافة الموروث بالحديث عن الملائكة وأنها لا تتغذى ولا تتناسل لأن جوهرها باق على حال واحد، أما أبدان الحيوان فإنها تتغير وتفسد، جعل الباري لها شهوة الطعام والتناسل. ومن كان طبعه من البشر حب الجميل وفعله فقد اقتدى بسيرة الملائكة. واستحقوا أن يسموا متألهين، وتكون سيرتهم مثل سيرة الملائكة، طالما أن الإنسان لا يشعر بأن العقل الذي فيه لا يموت. وهذا لا يمنع من الطعام والشراب وإلا كان الإنسان ملاكا بالفعل. «ولا كرامة أعظم من مرتبة الاقتداء بالله حسب الإمكان البشري.» وهي عبارة أفلاطون، ومن الفضائل ما يليق بالإنسان ولا يليق بالملاك مثل ضبط النفس عن الشهوات؛ لذلك قال أفلاطون لا يقدر أن يسوس الناس سياسة فاضلة إلا أن يكون ملكا.
28
والأشياء التي تعرف منها إنسية ومنها إلهية. والإنسية لرياضة النفس مثل الحساب والهندسة والأعداد والنجوم والموسيقى؛ إذ يستعمل الوزن والإيقاع والنظام في تسبيح الله وعند الذبائح، والحكيم هو العالم بالأمور الإلهية. وهي الحركات السماوية والأفعال الطبيعية الكلية الحيوانية والنباتية. وليست الحكمة التامة إلا الله تعالى؛ فهو الحكيم المطلق. ولهذا قيل للإنسان فيلسوف أي محب الحكمة. فإيثار الحكمة والميل إليها أمر إلهي جليل القدر. وهو من خصائص النفس الناطقة ومن فضائلها. والله محب للخير. والنفس الناطقة تقتدي به. ويتعالى الله عن الإحسان، ومحبة الناس لله والأبرار السابقين لأنه غني عن العالمين. ولا تطلب منفعة إلا من السلطان الإلهي وحده وهو الله، ولا تطلب المخاصمة إلا منه وليست من السلطان الأرضي، فالله هو العدل حتى ولو أكثر الإنسان ترك حقه. وكالعادة ينتهي كل مقال بالحمد والشكر والمجد والشكر دائما أبدا.
29 (د) وقد قام المترجمون أيضا بالتلخيص مثل ثابت بن قرة (288ه) «في تلخيص كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو».
30
ويستعمل لفظ «تلخيص» مما يدل على أنه نوع أدبي مبكر عند المترجمين. ويعني التلخيص عند ثابت التحول من الإقناع إلى البرهان «مما جرى الأمر فيه على سياقه البرهان سوى ما جرى من ذلك مجرى الإقناع.» فأرسطو يأتي في كتابه هذا بأقاويل فيه إغماض «يحتاج إلى شرح وبيان .»
31
وهو تلخيص «على طريق الجملة» أي التركيز الشديد الذي سيصبح الجوامع فيما بعد.
ويذكر أرسطو ثم أفلاطون. ويحال إلى السماع الطبيعي ثم إلى السماء.
32
ويوضع أرسطو في سياقه بالمقارنة بأفلاطون، وصفا للجزء في إطار الكل. وإحالة ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة تدل على أنهما علم واحد ولا تستعمل أفعال القول كما هو الحال في الشرح والتفسير إلا قليلا.
33
ويتم شرح عنوان الكتاب «فيما بعد الطبيعة» ببيان القصد منه. ثم يتتبع مسار فكره خطوة خطوة من المقدمات إلى النتائج للوثوق بصحة الاستدلال. ويظهر مسار الفكر وتوضيح الأشكال بعبارات الشرط «فإن ظن ظان»، «فإن قيل»، ثم الجواب «فقد تبين من هذا أن» فالغاية من التلخيص هو أيضا الشرح والبيان والتوضيح.
34 «التلخيص تبديد الظن الذي يظن كثير من الناس» أي التخلص من الأفكار الشائعة التي ذاعت عن أرسطو وتصحيحها. التلخيص حجاج وجدل مع مسيئي تأويل أرسطو «إلا أن قوما يرون أنه يجب من هذا.»
35
وهو ملخص بناء على طلب الإيضاح والتفسير، وكالعادة يبدأ التلخيص بالبسملة وطالب التوفيق.
36 (2) الكندي (أ) وقد قام الفلاسفة بعد المترجمين بالاختصارات والمختصرات قبل أن تتحول إلى نوع أدبي مستقل وتستعمل عند ابن رشد. فللكندي «القول في النفس المختصر من كتاب أرسطو وأفلاطون وسائر الفلاسفة.»
37
وكان يمكن أن يدخل في العرض الجزئي لولا أن الكندي لا يذكر أنه عرض لكتاب النفس لأرسطو بل يذكر أنه مختصر له. كما أن العرض لا يكون إلا لعمل واحد في حين أن هذا المختصر هو لأرسطو وأفلاطون وسائر الفلاسفة خاصة أفسقورس.
38
والمضمون إشراقي، أقرب إلى أفلاطون منه إلى أرسطو؛ إذ يذكر أفلاطون ثم أرسطو ثم أفسقورس، السيطرة على قواها الغضبية والشهوية لصالح الناطقة. وهو ما يتفق عليه أفلاطون وأفسقورس. ويتوارى أرسطو والنفس الحساسة المدركة أمام هذا التيار الإشراقي، والمختصر إجابة على سؤال اختصار قول في النفس. فجاء الجواب اختصارا لكتاب أرسطو في النفس تلخيصا كافيا وفحصا شافيا.
وجوهر النفس من جوهر الباري عز وجل، إلهي روحاني، من نور الباري عز وجل. النفس مفارقة للبدن ، وصائرة إلى عالم الحق الذي فيه نور الباري سبحانه ، معرفتها بالتشبه بالباري سبحانه فيصبح الإنسان فاضلا قريبا الشبه من الباري سبحانه لأن الأشياء التي للباري عز وجل هي الحكمة والقدرة والعدل والخير الجميل والحق، ويكون تشبه الإنسان بها. إذا تجردت النفس وفارق صارت في نور الباري وراءه وانكشفت لها العلوم والحقائق كما هي للباري عز وجل، تنظر بنور الباري كل ظاهر وخفي. تنصقل النفس وتعكس صورة من نور الباري، ويفيض عليها الباري من نوره ورحمته، وتحصل على لذة إلهية روحانية ملكوتية. ومسكن النفوس بعد التجرد كما قالت الفلاسفة خلف الفلك في عالم الربوبية حيث نور الباري، فتطابق النفس نور الباري ويفوض إليها الباري أشياء من سياسة العالم، فقوة النفس قريبة الشبه بقوة الإله تعالى. وهنا يأتي أرسطو متفقا مع إشراقيات أفلاطون وأفسقورس عن طريق حلم الملك اليوناني الذي رأى الأنفس والصور والملائكة وأعطاهم البراهين عليها. فأرسطو فيلسوف البرهان، الحكيم المبرز، المتعبد لباريه، ويعترف الجهال بفضل المتعبد لله. وينتهي الكندي إلى الدرس المستفاد من هذا المختصر في النفس بالتوجه إلى القارئ وبأنه عابر سبيل في هذه الدنيا عليه التوجه بإرادة ربه عز وجل. الأخلاق إذن بين الفلاسفة والأنبياء، بين الفلسفة والدين في أمر النفس، ولا خلاف بين الحكماء أنفسهم أفلاطون وأرسطو وأفسقورس، وكما يبدأ المختصر بالدعوة للسائل بالتسديد والإسعاد تنتهي أيضا بالإسعاد في الدنيا والآخرة وبالحمدلة لرب العالمين والصلاة على محمد وآله أجمعين. (ب) وللكندي أيضا «كلام في النفس، مختصر وجيز» مكتوب بنفس المختصر الأول. يجمع بين أفلاطون وأرسطو، وأقرب إلى أفلاطون الإشراقي منه إلى أرسطو العلمي.
39
ومع ذلك يتفق الفيلسوفان في أن النفس جوهر بسيط تظهر أفعالها من خلال الأجرام. فالحكمة واحدة عند الفلاسفة وعند الأنبياء وعند الفلاسفة والأنبياء.
ثانيا: تلخيص المنطق (ابن رشد)
(1) تلخيص المقولات
هناك طريقتان لعرض التلخيص. الأولى تلخيص كتاب كتاب ابتداء من كتب المنطق حتى كتب الطبيعيات إلى كتب الميتافيزيقا والسياسة حفاظا على وحدة العمل وخصوصيته. فقد يكون لكل كتاب تلخيصه الخاص بالنسبة لأفعال القول أو مسار الفكر أو بيان الغرض أو جدل الوافد والموروث .
1
فالكتاب هو وحدة التحليل، وعيبها هو تكرار المكونات الرئيسية للتلخيص التي قد تتشابه مثل تكرار أفعال القول، ومسار الفكر، وبيان الغرض، والبدايات والنهايات الإيمانية، والثانية عرض التلخيص ابتداء من مكوناته التي تخترق الكتب المنطقية والطبيعية والسياسية. فالمكون هو وحدة التحليل. والمكونات أفعال القول، الغرض والموضوع، المنهج المتبع، وهو في الغالب البيان والإيضاح عن طريق القسمة، وجدل الوافد والموروث لتعشيق الأول في الثاني، ووصف مسار الفكر واستدلالاته، ووضع مقدماته ونتائجه، وأخيرا البدايات والنهايات الدينية. وميزة هذه الطريقة الكشف عن بنية التلخيص التي تندرج تحتها كل التلخيصات، وتفادي التكرار. وعيبها القضاء على وحدة العمل وخصوصيته وعمليات الإبداع التي وراءه. وفي كلتا الحالتين هناك وحدة في التلخيص متمثل في وحدة العمل الذي تحيل أجزاؤه بعضها إلى البعض الآخر.
2
وواضح أن ابن رشد هو الذي جعل التلخيص نوعا أدبيا مستقرا ودائما؛ إذ لخص فيه كل كتب المنطق وبعض كتب الطبيعيات.
3
ويبدأ التلخيص بأفعال القول دون التنصيص في نصف الفقرات تقريبا في صيغة «قال» أو «يقال» أو «يقول» أو «قيل». كما تتداخل بعض أفعال الكلام مثل: «يتكلم» والإرادة «يريد»، والظن «يظن». وباقي الفقرات التي تبلغ أكثر من النصف تبدأ بالأسماء أي الأشياء ذاتها. فابن رشد لا يتعامل فقط مع القول غير المباشر نظرا لغياب القول المباشر ولكنه يتوجه إلى الأشياء مباشرة محللا إياها وواصفا لها، عينه على الموضوعات ذاتها مثل عين أرسطو عليها للاتفاق معه في الرؤية أو الاختلاف معها.
4
الغاية من التلخيص توضيح النص أمام الذات، واستيعابه إلى الداخل وليس عرضه إلى الخارج، وتحويله إلى بؤرة عقلية وموضوع ذهني. التلخيص هو تخليص النص من شوائبه اللغوية وتحريره من الألفاظ من أجل اقتناص المعاني. ولا يخلو التلخيص من النقد وتبديد الشكوك والتحول من الظن إلى اليقين. يكشف عن فكر باحث ومحقق وليس مجرد فكر ملخص وعارض؛ لذلك تكثر ألفاظ الشك والمماراة والظن واليقين.
5
والغرض من التلخيص بيان المعاني التي تضمنتها كتب أرسطو في صناعة المنطق. فإذا كان الشرح يتوجه نحو اللفظ فإن التلخيص يتجه نحو المعنى وتحصيله بحسب الطاقة، وترك الباب مفتوحا لغيره دون إعطاء القول الفصل. وهو جزء من مشروع، متكامل، وذلك على عادتنا في سائر كتبه، لعرض النسق الأرسطي من خلال أعماله.
6
والبداية بالترتيب، بالمقولات ثم العبارة ثم القياس ثم البرهان في منطق اليقين، ثم بالجدل ثم السفسطة ثم الخطابة ثم الشعر في منطق الظن. ويعتمد التلخيص على القسمة، والقسمة أحد وسائل التعريف؛ إذ ينقسم كتاب المقولات إلى ثلاثة أقسام من العام إلى الخاص إلى الأخص أو من الأصل إلى الفرع إلى فرع الفرع. فالأصول هي الأمور العامة التي تخص كل المقولات، والفرع عرض مقولة مقولة من المقولات العشر، وفرع الفروع اللواحق العرضية العامة المشتركة بين المقولات.
7
ويظهر مسار الفكر في وضع المقدمات والانتهاء إلى النتائج.
8
ومن الوافد يذكر أرسطو بطبيعة الحال فهو صاحب الكتاب. وينسب إليه الرأي الخاص مثل تعريف المكان بالحاوي والمحوي والسطح الملامس. كما تنسب إليه باقي أعماله مثل ما بعد الطبيعة والمقولات.
9
كما يلجأ إلى ظاهر كلامه كمقياس لتأويل المتأول وشرح الشراح وتفسير المفسرين مثل الحكماء والمسلمين خاصة أبا نصر. فالعودة إلى الأصول طريق الخلاص من الشراح والمؤولين والمفسرين، العودة إلى الكتاب نفسه كما هو الحال عند أهل السلف وعند البروتستانت الغربيين. فالكينونة ليست من المضاف إلا بجنسها، ويحال إليه لإثبات التضاد وجعله نسبيا متغيرا. فالصالح قد يكون طالحا والطالح قد يكون صالحا بالمعاشرة.
10
ويحال إلى أفلاطون في إحدى تعريفات المضاف بالرسم. ويحال مرة أخرى إليه مع سقراط كمتضادين.
11
كما يضرب المثل بسقراط على عادة اليونانيين دلالة على الشخص كما يضرب المثل بزيد وعمرو على عادة العرب، وبطرس وبولس على عادة الأوربيين المحدثين.
12
ويظهر الموروث اللغوي على استحياء مثل اللسان العربي أو كلام العرب دون الموروث الديني في مقابل اللسان اليوناني وعادة اليونانيين حتى يظهر التقابل بين الموروث والوافد، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر. ففي اللسان العربي يحمل الاسم دون الحد. وليس ببعيد أن يوجد في اللسان العربي أفعال ليس لها مصادر. وقد تكون بعض الأسماء غير مشتقة في اللسان اليوناني ومشتقة في اللسان العربي. وفي اللسان اليوناني قد يكون للكينونة المجردة من حيث هي موضوع اسم مشتق من اسم آخر مثل اشتقاق مجتهد من الفضيلة وليس فاضلا. فكل لسان له اشتقاقه. ويدل اسم الملكة في اللسان اليوناني على الأشياء الأطول زمانا في الثبوت والأعسر حركة.
13
ومن الموروث الفلسفي لا يظهر إلا الفارابي في معرض النقد في تحديده للجوهر بسبب تبعيته للمفسرين، وابن رشد يعود إلى كتاب أرسطو نفسه ويفسر الكتاب بالكتاب على طريقة المفسرين المسلمين. كذلك أخطأ أبو نصر في تأويله الإضافة وضرب المثل عليها بالكينونة على عكس ظاهر كلام أرسطو، وتظهر بعض ألفاظ الموروث مثل النحو والفقه بحيث لا يبدو الوافد غريبا على الموروث. بل إن ألقاب ابن رشد ألقاب موروثة فهو الفقيه الأجل العالم المحصل.
14
ويبدأ التلخيص بالبسملة والصلاة والسلام على محمد وآله.
15
والموضوع نفسه رابط بين الوافد والموروث، ويسهل تعشيق الاثنين فيه لأنه موضوع لغوي يتعلق بعلاقة اللفظ بالمعنى، والأسماء المترادفة والمشتركة والمتواطئة أي أنه يتعلق بالجانب اللغوي للمنطق. فالنحو منطق العرب كما أن المنطق لغة اليونان كما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين المنطق والنحو بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي.
16
فهو منطق على مستوى اللغة حتى ولو بدت المقولات على مستوى الطبيعة مثل الجوهر والعرض، الكم، الكيف، الزمان، المكان، الوضع، الإضافة، الفعل والانفعال والملكية. بل إن الكليات الخمسة أو الأجناس الخمسة أو الأسماء الخمسة هي أيضا ألفاظ أكثر منها موضوعات، لغة أكثر منها أشياء أو هي تصورات منطقية تبدأ من اللغة وتنتهي إلى الوجود، وبها التسلسل الهرمي الذي يتراوح بين الواحد والكثير أو الدوائر المتداخلة ذات المركز الواحد.
17 (2) تلخيص العبارة
وتتداخل موضوعات العبارة مع موضوعات المقولات. فالعبارة هي الجملة والمقولات الكلمات. والجملة مكونة من كلمات. العبارة هو الخط، والمقولات النقاط، والخط مكون من تكرار عدة نقاط على نحو متواصل؛ لذلك تظهر الأسماء والكلمات والأقوال والمعاني قبل القضايا والموضوع والمحمول والجهات والمتقابلات والمتلازمات.
18
ومع ذلك، يقل النقل ويتزايد الإبداع من تلخيص إلى تلخيص لاحق. فالتلخيصات الأولى أقرب إلى أرسطو، والأخيرة أقرب إلى ابن رشد، تدريجيا في مسار التحول من النقل إلى الإبداع، يقل في منطق اليقين: المقولات، والعبارة، والقياس، والبرهان. ويزيد في منطق الظن: الجدل، والسفسطة، والخطابة والشعر. الأول به قدر كبير من العمومية في حين أن الثاني به قدر كبير من الخصوصية.
وتظهر أفعال القول في نصف الفقرات تقريبا.
19
ولكن العبارة بعد القول ليست نصا حرفيا لأرسطو بل قولا لابن رشد يعبر فيه عن فكرة أرسطو كما هو الحال في الجوامع، ولم تذكر نصوص لأرسطو في تلخيص العبارة إلا نادرا؛ فالتلخيص هنا تأليف غير مباشر، إعادة إنتاج نص أرسطو بعبارة أوضح وأكثر تركيزا وأقرب إلى الفهم في الثقافة العربية. التلخيص هنا تعبير عن معاني أرسطو وتحقيق مقاصده بعبارات جديدة. وهو يمثل قدرة فائقة على الفهم والتمثل والاستيعاب وإعادة العرض والتعبير.
20
كما أن أرسطو هو البداية وابن رشد هو النهاية؛ لذلك يعرض ابن رشد لقضايا جديدة لا نظير لها عند أرسطو فيما يقرب من خمس التلخيص.
21
فإذا كان ابن رشد في تلخيص المقولات قد لخص المعاني وتابع نفس قسمة الكتاب إلا أنه في تلخيص العبارة غير ترتيب نص أرسطو وقسمته. ولخصه في خمسة أقسام فقط جامعا في كل قسم أكثر من فصل لأرسطو. وهو أيضا تلخيص للمعاني وليس شرحا للألفاظ كما يصرح بذلك ابن رشد نفسه في آخر عبارة في «تلخيص العبارة».
22
وأحيانا يكون التلخيص أكثر طولا من نص أرسطو دون أن يكون أقل دقة. وقد تجاوز ابن رشد في «تلخيص العبارة» أفعال القول إلا نادرا.
23
ومنها ما لا يتبع أرسطو على الإطلاق.
ويتحدث ابن رشد بضمير المتكلم المفرد أو الجمع في عدة صيغ مثل «أقول» «أقوله» ثم «نقول»، «قلنا». كما تظهر أفعال أخرى مثل «ذكرنا»، «فسرنا». فابن رشد يقول أكثر مما يقول أرسطو، والأنا تتكلم أكثر مما يتكلم الآخر.
24
وبينما يبدو فكر أرسطو مضطربا في باقي بعض الموضوعات إلا أن ابن رشد يقوم بتوضيحها، وحل إشكالاتها، وإيجاد بدائل أخرى لها. ثم ينتهي إلى أن يكون الموضوع واضحا بنفسه.
ويظهر مسار الفكر أكثر في «تلخيص العبارة». يبدو أن ابن رشد في «تلخيص المقولات»، كان ما زال يتحسس الطريق. وربما لأن موضوع المقولات لم يسمح له بالاستقلال شبه التام عن أرسطو كما هو الحال في «تلخيص العبارة». وتتم إحالة اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق لبيان وحدة الفكر ومساره وانتقاله من المقدمات إلى النتائج أو من النتائج إلى المقدمات في منطق الاتساق الذي يمحى من الوقوع في التناقض.
25
ويبحث ابن رشد عن السبب في نشأة الحروف والكلمات بالتواطؤ. ويدخل ابن رشد في الإشكالات الفلسفية، ويأخذ طرفا في المعارك الفكرية؛ إذ ينقد كل من يعلن أن لكل معنى ولكل لفظ دلالة طبيعية. كما يهاجم نظرية التوفيق في نشأة اللغة مدافعا عن الاصطلاح.
ويتجه ابن رشد بوضوح أكثر نحو غاية الكتاب، التلخيص بالقصد وبيان الغرض.
26
ويعتمد ابن رشد على القسمة من أجل تفصيل جوانب الموضوع، ثنائيا وثلاثيا ورباعيا.
27
وقد تجاوز ابن رشد موضوعات أرسطو في تلخيص العبارة، إلى موضوعات أخرى لم يناقشها أرسطو. فقد كان نص أرسطو مجرد مناسبة لإتمام الموضوع، مجرد بداية وليس نهاية. يذكر أرسطو في حد الاسم كلفظ يدل بتواطؤ لهذا المعنى، وربما عنى باللفظ الصوت كما هو الحال في اشتراك الاسم وهو الصحيح.
28
كما يذكر أرسطو في باقي مؤلفاته المنطقية وضعا للجزء في الكل، وتفسيرا للنص بالسياق الكلي ولكتاب العبارة في مجموع كتب المنطق الثمانية خاصة القياس والشعر.
29
كما يحال إلى كتاب النفس في دلالة المعاني في النفس على الموضوعات في العالم.
30
وفي حد العدم يحال إلى المقولات. وقد قسم أرسطو موضوع القضايا. ذكر البعض منها في العبارة وترك الآخر في القياس أو البرهان أو الجدل أو السفسطة. كما أحال أرسطو في موضوع الأقاويل الجازمة وغير الجازمة والتامة والناقصة إلى الخطابة والشعر. كما يحال في الحروف إلى كتاب الشعر، ويذكر سقراط كعادة اليونان في ضرب المثل بأي شخص. كما يذكر زيد وعمرو وعبد الملك وعبد قيس وبعلبك. وقد يظهر امرؤ القيس شاعرا وامرؤ القيس موجود شاعرا كمثل عربي تاريخي بدلا من زيد وعمرو لشرح الرابطة بين الموضوع والمحمول. هنا ينتقل ابن رشد من خصوصية اليوناني إلى عموم الشعوب. ويتجاوز الحضارة الخاصة إلى مجموع الحضارات البشرية كما نادى ابن سينا في آخر كتاب الشعر في الشفاء بالانتقال من الشعر الخاص إلى الشعر المطلق، الشعرية ذاتها كمشروع للأجيال القادمة.
31
بل إن ابن رشد نفسه على علم بحدود موضوع تلخيص «كتاب العبارة»، ولا يتطرق إلى باقي الموضوعات التي لا تدخل فيه.
32
وفي نفس الوقت يبين ارتباط المنطق بالطبيعة ويحيل الموضوعات الداخلة في الطبيعة إليه. فالمنطق ليس علما صوريا بل هو مرتبط بالنفس والطبيعة وربما بما بعد الطبيعة نظرا لوحدة العلمين.
33
فالتضاد ليس فقط في النفس بل خارج النفس، وليس فقط في النظر بل أيضا في الاعتقاد الصادق.
34
وكما أن الطبيعة وما بعد الطبيعة علم واحد فكذلك المنطق والطبيعة علم واحد. فثنائيات المنطق، الصورة والمادة، التقابل والتضاد، الكل والجزء لا تختلف كثيرا عن ثنائيات الطبيعة، الزمان والمكان، الحركة والثبات، العلة والمعلول. المنطق طبيعة في النفس، والطبيعة منطق الوجود. المنطق وجود في العالم الأصغر، والطبيعة منطق في العالم الأكبر.
وكان عند ابن رشد إحساس بالتحول من القدماء إلى المحدثين. فهو يحيل إلى القدماء باعتبارهم المغايرين، السابقين، مرحلة التجاوز إلى اللاحقين والمحدثين، كما أنه يشير إلى المفسرين وتعدد التفاسير، فلا يوجد تفسير واحد للمنطق أو رؤية نمطية له. بل تتعدد التغيرات بتعدد مستويات التحليل.
35
ويوسع ابن رشد مفهوم اللغة إلى اللسانيات الثقافية.
36
إذ تختلف معاني الألفاظ عند الأمم مما يدل على أن المعاني بالتواطؤ وليس بالطبع. فاللغة وضعية. وتجاوزت الأمثلة اللغة اليونانية عند أرسطو إلى اللغة العربية عند ابن رشد، وانتقل التحليل من المستوى المجرد العام في «تلخيص المقولات» إلى المستوى العيني الخاص في «تلخيص العبارة». وكما أن الحروف والخطوط ليست واحدة عند جميع الأمم فكذلك دلالاتها على معانيها. أما المعاني في النفس فهي واحدة عند الجميع. يضع ابن رشد هنا أسس الفقه المقارن. تعدد الألفاظ في اللغات ووحدة المعنى في النفس تطبيق لمبدأ التنوع والوحدة.
يذكر ابن رشد لسان العرب ثم كلام العرب ونحويي العرب.
37
فالاسم المحصل وغير المحصل غير موجود في لسان العرب، وليس للزمان صيغة خاصة في لسان العرب، وإنما الصيغة التي توجد له في كلام العرب مشتركة بين الحاضر والمستقبل؛ لذلك قال نحويو العرب بإدخال السين على المضارع ليتحول إلى المستقبل، كما أن لسان العرب لا يقتضي وجود رابطة بين الموضوع والمحمول كما لاحظ الفارابي من قبل. وقد يضاف هو على أقصى تقدير.
38
ويعطي ابن رشد نماذج من الأمثال العربية على الموضوعات الخيالية الخارجة عن الصدق والكذب مثل عنز أيل وعنقاء مغرب. التلخيص بهذا المعنى هو الانتقال من الخاص اليوناني إلى النظرية العامة ثم التحول من النظرية العامة إلى تطبيقاتها في نماذج أخرى في اللغة العربية والسنة الأمم على النحو الآتي:
وموضوع اللغة هو الذي يتم فيه تعشيق الوافد في الموروث في موضوع عرضه الأصوليون وهو: هل اللغة توقيف أم اصطلاح؟ هل دلالتها بالطبيعة أم بالتواطؤ؟ فالقول عند ابن رشد بالتواطؤ لا بالطبع.
39
فإذا كانت عبقرية اليونان في المنطق فإن عبقرية العرب في اللغة كما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي حول المنطق والنحو، المنطق لغة اليونان، والنحو منطق العرب.
كما استرعي انتباه ابن رشد موضوع الأمور الاتفاقية وكيفية ربطها بموضوع النبوة، وكذلك موضوع الأمور المستقبلة وعدم اجتماع السلبي والإيجاب فيهما؛ إذ لا يمكن استنتاج شيء بالنسبة للنبوة في المستقبل لأنها في حيز الإمكان وليست في حيز الوقوع، وإلا تحولت أمور المستقبل إلى أمور ضرورية وبالتالي تبطل الروية والاستعداد لدفع شر أو توقع خير.
40
وهنا يبدو ابن رشد أكثر إحساسا بإمكانيات المستقبل دون إخضاعه لحتمية تاريخية وقانون ثابت مثل قوانين المنطق الصورية. مع إنه يمكن التنبؤ بمصائر الأمم والشعوب كما هو الحال في خصائص الأنبياء.
وتظهر بعض المصطلحات الأصولية مثل الأمر والنهي للتعبير عن مصطلحات المنطق مثل الجازم وغير الجازم، وألفاظ العموم مثل إضافة ألف ولام التعريف.
كما يحيل ابن رشد كثيرا من قضايا المنطق إلى الفطرة ويحكم عليها بها. وهو تصور إسلامي
فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله .
41
ويبدأ ابن رشد بالبسملة والصلاة على محمد وآله.
42
وكثير من التحليلات المنطقية للقضايا هي في الحقيقة تحليلات لغوية؛ فالموضوع والمحمول في المنطق هما المبتدأ والخبر في النحو، والرابطة في المنطق هو الضمير في اللغة، والقضايا الشرطية في المنطق هي الجمل الشرطية في النحو، والجهات في المنطق الضروري والممكن والمستحيل هي أنواع الكلام في اللغة من خبر وإنشاء واستفهام وتعجب وتساؤل وتمن. والتصورات في المنطق هي الألفاظ في اللغة، والتصديقات في المنطق هي الجمل في الكلام، هنا يسير ابن رشد في نفس الطريق الذي اشتقه الفارابي من قبل وهو تحويل المنطق إلى لغة وكما عبر عن ذلك في كتاب «الحروف».
واضح أن الغاية من التلخيص ليس فقط بيان المعاني بل أيضا نقل المنطق كله من المستوى الصوري إلى المستوى الطبيعي والإنساني، بداية من التحول من منطق العقل إلى لغة الخطاب كما حاول المناطقة المحدثون في الغرب.
43
ومن ثم أصبح المنطق مفهوما للخاصة والعامة، وتحول العلم من هيكل عظمي إلى علم بلحمه ودمه. وانتقل المنطق من الرياضيات إلى الطبيعيات والإنسانيات.
كما يتحول المنطق من لغة الخاصة إلى لغة العامة، من لغة المناطقة إلى لغة الجمهور.
44
ومن ثم يمكن القول إن التلخيص هو تجاوز للمنطق الصوري الوافد إلى أسس للمنطق الشعوري الموروث، وتحليل المقولات والقضايا والموجهات على أسس شعورية. فالصدق والكذب، والتضاد والتقابل، والوجود والإمكان، والضرورة والاستحالة والسلب والإيجاب إلى آخر هذه المقولات المنطقية موجودة في النفس وفي العالم
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون ،
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم . وهو التوجه القرآني أصل الموروث الأول. المنطق الصوري الخالص يفرغ الفكر من مضمونه، ويترك الشعور فارغا خارج محليته. يقع في بئر صوري لا خروج منه، في بعض أشكال ورسوم كمتاهة عقلية فارغة كما وقع ابن سينا في أشكال القياس (216 شكلا).
45
وإذا كان المنطق الصوري يقوم على أكبر قدر من التعميم فإن المنطق الشعوري يرعى الفروق الفردية في استعمالات الناس للغة. فالصدق والكذب أنماط للاعتقاد، تختلف من جزء إلى آخر.
46
المنطق الصوري خارج الزمان، والمنطق الشعوري في الزمان. المنطق ليس مجرد قواعد صورية تعصم الذهن من الخطأ بل له نتائج عملية في السلوك الإنساني، وقدرة الإنسان على الإقدام والإحجام. فالمنطق الصوري هو منطق للفعل. المنطق النظري منطق للاستعمال. إن خطورة المنطق الصوري هو أنه تحصيل حاصل، تمرينات عقلية، اتساق الفكر مع نفسه، اطمئنان النفس إلى الاتساق بعيدا عن التناقض، تطهر من العالم، وابتعاد عن الموضوعات، واكتفاء بالشكل دون المضمون. يخلق المنطق من نفسه موضوعا وهو بغير ذي موضوع.
47
لذلك أبدع المسلمون في الجدل والسفسطة والخطابة والشعر أي في المنطق الإنساني في الحوار مع الخصوم والجدال معهم، وفي التأثير على النفوس وإثارة الخيال. (3) تلخيص القياس
وهو أكبر التلخيصات حجما
48
وهو تلخيص على المعاني وليس على الألفاظ (الشرح) أو الأشياء (الجوامع). ولا تظهر أفعال القول إلا في عشر الفقرات. وباقي الفقرات تبدأ بالأشياء ذاتها، بالموضوعات وليس بالأقوال، صحيح أن «قال» هو الأكثر شيوعا ولكنها صيغة مقابلة أيضا بصيغ «نقول»، «قلنا». فأرسطو يقول وابن رشد يقول في تقابل بين المشروح والشارح، بين الموضوع والذات.
49
أما باقي الأفعال فإنها تمثل ربع الفقرات أي أن الأشياء ما زالت لها الأولوية على الأفعال.
50
وهي أفعال الشعور المعرفي مثل الظن والاحتجاج والوهم والسؤال والإقرار والعرض والتوهم والغلط. وبعضها أفعال الاستدلال المنطقي مثل الوضع والاستنتاج والإيجاد والتخصيص والإيقاع والرفع والشرط. وتكون الأفعال إيجابا مثل ينبغي، يكون، أو سلبا مثل لا ينبغي، لا يكون.
وتأتي أفعال البيان لتستغرق نصف الفقرات تقريبا في صيغ «قد تبين» أو في صيغ أسماء «بيان». ومعظمها في صيغ شرطية «لما كان»، «أما كيف»، «أما أن»؛ فالبيان نتيجة الشرط، وانتقال عن فعل الشرط إلى جواب الشرط.
51
أما الأسماء فهي أيضا حوالي ربع الفقرات ومعظمها موضوعات المنطق فردا وجمعا مثل القياس والمقاييس، المقدمة والمقدمات، والقضايا والأشكال، والضروب والأصناف، والمطالب والأجناس، والحدود والوجوه .
ويظهر مسار الفكر من المقدمات إلى النتائج، من البدايات إلى النهايات في الإحالات إلى ما سبق أو إلى ما يلحق، ومن هنا تبدو أهمية الاتساق والاعتماد على منطق الخلف.
52
كما يظهر الغرض الذي يحدد مسار الفكر نحو غاية.
53
ويظهر تعليل الفكر ببيان أسباب الصدق والكذب. ويظهر مسار الفكر بوضوح على أنه نظرية في البيان والإيضاح.
54
ومن الوافد يتصدر أرسطو بطبيعة الحال ثم الإسكندر ثم سقراط كأسلوب يوناني يشير إلى أي شخص ثم ثامسطيوس ثم ثاوفرسطس ثم أفلاطون، وأوديموس، ثم جالينوس، ثم زينون ومانن من الشكاك.
55
ويرد ابن رشد على الشكاك دفاعا عن أرسطو؛ فقد صرح أرسطو في كتاب البرهان أن المقدمات التي تحمل على الكل غير الضرورية. ويرى أن النتيجة تتبع جهة المقدمة الكبرى. والاستقراء شاهد على صحة مذهب أرسطو ضد أبي نصر، فلا فائدة في شرط لا يطابق المواد. وهذا خطأ الإسكندر. فلا فائدة في شرط لا يعم جميع أصناف المقدمات. وبهذا تنحل الشكوك عند الناس في مذهب أرسطو في اختلاط الممكن مع الوجودي، كما حذر من استعمال المقدمات الوجودية بالرغم من استعماله لها كلما استدعى الأمر، وأرسطو وضح الأشكال الثلاثة الأولى. ويعد الأشكال كلها ضاربا أربعة في تسعة في ستة وثلاثين اقترانا دون التفرقة بين المنتج وغير المنتج.
كما أضرب أرسطو عن ذكر بعض أشكال القضايا. ويرد أشكال الثاني والثالث إلى الأول عن طريق العكس كمقاييس صناعية وليس في كل المقاييس، وعنده أن الصنفين الكليين من الشكل الأول أكمل الأشكال.
56
يعرض ابن رشد إذن للمقدمات المنعكسة في المطلق والاضطرارية حتى تنحل الشكوك التي شكها القدماء في هذا الباب عليه. ويدافع ابن رشد عن أرسطو ضد جهل الشراح إذ إنه أراد أن يعدد أصناف النتائج المقصودة بالذات، بالقصد الأول دون القصد الثاني. ويلجأ ابن رشد إلى ظاهر كلام أرسطو المعرفة شرط المقول على الكل، والمقدمات الكلية عند أرسطو صادقة على الأزمنة الثلاثة. يقول أرسطو إنه ليس يمكن أن يتبين بقياس الخلف أنه ينتج مطلقة.
ويحلل ابن رشد آراء أرسطو ويبين وجاهتها. ويشير إليه باعتباره رياضيا له آراؤه في القطر والضلع. ويبين لماذا يحتاج التناقض بالشكل الثاني إلى جهد كبير، ويدافع ابن رشد عن أرسطو عن طريق تخيل سؤال له ثم التطوع بالإجابة نيابة عنه. وعند ابن رشد مقاييس معيارية عليها ينبغي فهم أقوال أرسطو، والحق ما يقوله أرسطو، شاهد عليه ومتفق من كل جهة. وإذا كان هناك نقد لأرسطو فإنه يكون خفيفا للغاية مثل استعمال أرسطو للعكس استعمالا جزئيا.
57
في حين أن الإسكندر أدخل ضمن المقدمات التي يجهل أمرها الضرورية أو غير الضرورية لا الموجودة بالفعل ما دام الموضوع أو المحمول موجودا. وليست المطلقة ما يحكى عن الإسكندر ولا عن ثاوفرسطس كما بين ابن رشد في مقال سابق. كما شرط الإسكندر في المقول على الكل أن يكون محمولا باضطرار أو بإمكان، وجعلها ثاوفرسطس تشمل الضروري والممكن على حد سواء، وجعل ثاوفرسطس وأوديموس من قدماء المشائين وثامسطيوس النتيجة تابعة لأحسن المقدمتين، وتصح أقوال المفسرين عندما يطابق ظاهر لفظ أرسطو. ويشير إلى نظرية أفلاطون في التذكر وعلاقة الحب بالجماع.
58
وجالينوس هو واضع الشكل الرابع، وهو قياس لا يقع عليه الفكر بالطبع. فالمنطق عند ابن رشد فطري وليس منطقيا آليا صوريا مصطنعا، وما يقوله ثامسطيوس من المقاييس الأربعة غير التامة لا غناء لها أصلا قول باطل.
59
ومن الفرق يتصدر المفسرون جميعهم أو بعضهم، ثم المشاءون قدماؤهم ومفسروهم، ثم القدماء، وقدماء المفسرين والمفسرون.
60
ومعظم الاستعمالات بمعنى سلبي، فمذهب جل المفسرين أن جنس الممكن هو المعدوم، والفصل الذي يخصه هو إذا وضع موجودا لم يلزم منه محال.
61
والأمر ظاهر بنفسه ولكنه خفي على المفسرين. وكان القدماء يظنون أن قياسا لذلك تبرهن به حدود الأشياء عن طريق القسمة وهو ظن خاطئ، وابن رشد هو الذي يعيد التاريخ إلى مساره الصحيح بعد أن انحرف به جميع المفسرين إلا الإسكندر.
62
ويحال إلى باقي كتب المنطق السابق على القياس مثل باري أرمنياس أو كتاب الجدل نفسه كله أو المقالة الثامنة منه أو التالية له مثل كتاب البرهان كما يحال إلى كتاب الأسطقسات.
63
ويبرر ابن رشد استبعاد أرسطو بعض الحدود المنعكسة لخروجها على موضوع القياس وإخراج بعض الأقيسة لدخولها في موضوع الاستقراء.
64
أما الموروث فبطبيعة الحال يتصدر الفارابي، وبعده بمراحل ابن سينا. فأقرب الشراح لابن رشد هو الفارابي الذي نقل علم المنطق إلى علم اللغة.
65
نقد وهم أبي نصر على أرسطو عندما جعل المقول على الكل من جهة المواد، وهي موجودة في المقدمة الكبرى التي ظن أبو نصر أنه شرط أرسطو. ليس شرط المقول على الكل في جميع المقدمات الثلاث المطلقة والضرورية والممكنة، واحدا كما ظن أبو نصر، والاستقراء شاهد على صحة مذهب أرسطو وخطأ أبي نصر، كما ذهب أبو نصر إلى أن ما زيد فيه أنه إذا وضع موجودا لم يلزم عنه محال خاصة عن خواص الممكن لا فصلا من فصوله. وقد شك أبو نصر لما اعتقد أن الوجودية هي التي يوجد المحمول فيه لكل الموضوع في زمان مشار إليه كما حكاه الإسكندر، وتلخيص ابن رشد يبدد كل شكوك أبي نصر، وتفسير أبي نصر له ظاهر وباطن، واللزوم لأحد المقدمات لا يدخل تحت حد القياس كما ظن أبو نصر، وأرسطو على حق بالاستقراء، وليس أبو نصر وابن سينا.
66
ويظل الموروث قليلا نظرا لطغيان التحليلات الصورية لأشكال القضايا على عكس المقولات والعبارة التي تكثر فيها التحليلات اللغوية؛ وبالتالي يظهر الموروث باعتباره ثقافة لغة. ومع ذلك يبين ابن رشد التمايز بين علم المنطق مع العلم الإلهي، الأول يتحدث عن شكل الفكر، والثاني يتناول موضوعه.
67
وتظهر بعض مصطلحات علم الأصول على استحياء مثل السبارات من السبر والتقسيم. كما يظهر الأسلوب العربي في استعمال زيد وعمرو وخالد كما يستعمل اليونانيون سقراط، ويتحدث عن الاصطلاح عند المتكلمين، ولا يقصد به علماء الكلام بل أهل الاختصاص بالعلم، وتؤخذ قضية قتل الخلفاء عثمان وعمر كنماذج يمكن استبدالها ووضع رموز رياضية بدلا عنها. فالمادة محلية. ويضرب المثل من الفقه المالكي على المقاومة من الرأي المقبول قول القائل ليس ينبغي أن يعزر السكارى فيما جنحوا لأن مالكا لا يعزرهم، وكان يلزمهم الجنايات. ويظهر اللجوء إلى المشيئة أحيانا. وكالعادة يبدأ التلخيص بالبسملة وحدها وفي أول كل مقالة.
68 (4) تلخيص البرهان
وتلخيص البرهان أصغر حجما من تلخيص القياس
69
تستغرق أفعال القول حوالي ثلث الفقرات. صحيح أن معظمها «قال»، ولكن هناك أيضا «قلت»، «نقول»، «قولنا»، قول الأنا في مقابل قول الآخر.
70
والثلث الآخر من الفقرات تبدأ بأفعال الشعور مثل الشك والسؤال. ومعظمها أفعال البيان مما يدل على أن التلخيص هو إيضاح وبيان. كما تظهر العبارات الشرطية التي تبين مسار الفكر، بداية بفعل الشرط ونهاية بجواب الشرط.
71
وباقي الأفعال تتراوح بين الظهور والوجود والإقرار واللزوم والانقضاء وبين ينبغي ويجب، الفكر بين الواقع والمثال، بين التقرير والاقتضاء. أما الأسماء فهي الثلث الأخير تتراوح مفردا وجمعا بين البرهان والمقدمات والحمل والجدل والقياس والنتائج والغلط ومواضع الشكوك والعلم والمطلوب والخلاف والشكل واللازم والسبب والعلل والصنائع، وهي مصطلحات المنطق حتى الألفاظ العامة مثل الأمور والأشياء. ويظهر التمايز بين الأنا والآخر خارج أفعال القول مثل «أما نحن».
72
ويظهر مسار الفكر في إحالة اللاحق إلى السابق والسابق إلى اللاحق، والعودة إلى الموضوع بعد الاستطراد.
73
ويقوم مسار الفكر على الاتساق بين المقدمات والنتائج بحيث يستحيل الخلف والشناعة. ويتضح مسار الفكر في القسمة القادرة على توضيح أنواع المقاييس مثل إنتاج القياس المستقيم الأخفى بالطبع من الأعرف بالطبع، وإنتاج قياس الخلف من الأعرف عندنا لا من الأعرف بالطبع. وما ينتج من الأعرف بالطبع فهو أفضل.
74
ومن الوافد يتصدر بطبيعة الحال أرسطو ثم أفلاطون وبروش ثم أفروطاغورش وأناخرسس وفوثاغورس وديوجانس وسقراط ومانن، ويضرب المثل بديوجانس وسقراط على كبر النفس والاستخفاف بوجود البخت والاتفاق.
75
والإشارة إلى أرسطو ليست كثيرة؛ فقد توارى الشخص لصالح الموضوع. ومع ذلك فعند أرسطو كل ذاتية ضرورية وكل ضرورة ذاتية. وطعن عليه قوم في ذلك. وقد قصد أرسطو بقوله هذا أن يجعل البرهان البسيط من باب الكمية من ثلاثة حدود فقط، وهي أسهل من طريق القسمة. وشرط البرهان المطلق عنده أن يكون الحد الأوسط فيه علة الطرف الأكبر وضروري فيه.
وعند أرسطو المبادئ العامة منها يكون البرهان في صناعة إن كانت لا تستعمل هي أنفسها في صناعة. والمبادئ الخاصة يكون منها البرهان نفسه إذا كانت هي أجزاء البراهين أنفسها. ويذكر أفلاطون في معرض نقد نظرية الصور واستحالة البراهين على وجودها.
76
ويذكر مرة أخرى في حده النفس على أنها عدد محرك لذاته لأنها علة الحياة بذاتها.
ومانن نموذج الشكاك الذي يقول إن الإنسان لا يخلو أن يتعلم ما قد علمه أو ما لم يعلمه جاهل به. فإن كان يتعلم ما علم فلم يتعلم شيئا كان مجهولا عنده، وإن تعلم ما جهله فمن أين علم أن ذلك الذي جهله قد علمه.
وعند أفروطاغورش مقدمات البرهان مشهورة وليست برهانية وهو غاية البله والجهل.
كما أن برهان بروش على تربيع الدائرة ليس برهانا يقوم على مقدمات صادقة بل مقدماته عامة مشتركة. وهو ما صرح به أرسطو في كتاب السفسطة أن برهان بروس برهان سوفسطائي وإن لم يكن كاذبا لكن سماه سوفسطائيا.
ويضرب المثل بأناخرسيس على الإتيان بالسبب البعيد وليس بالسبب القريب عندما فسر غياب الموسيقى عند الصقالبة بغياب الكروم، وفيثاغورس على سبب وجود الرعد تخويفا به أهل الجحيم.
77
ويحال إلى كتاب القياس ثم إلى كتاب طوبيقا وكتاب باري أرمنياس ثم إلى كتاب السفسطة وكتاب البرهان.
78
فقد تبين في كتاب «القياس» أن البيان بالدور يكون في المقدمات المنعكسة التي تتألف من الحدود والخواص، وأن البرهان لا بد له من مقدمات، وأن النتائج الضرورية تصدر عن مقدمات ضرورية، وأنه لا يلزم من وجود التالي وجود المتقدم، كما تبين أن كل قياس يقوم على ثلاثة حدود وضروب الإنتاج. وتستنبط الحدود من كتاب طوبيقا وعدد آخر من الأقيسة، وطريق القسمة أيضا مجرد استنباط شيء مجهول من شيء معلوم ليس برهانا.
79
ومن الفرق يحال إلى السوفسطائيين ثم إلى القدماء.
80
ينكر السوفسطائيون مقدمات العلوم وأوائل البرهان. والعلم علم حقيقي وليس علما عارضا كما يدعي السوفسطائيون، علم بالعلة الموجبة للوجود. هو علم العلم أي العلم الثاني، ويعتمد السوفسطائيون على أمور مغلطة هي مبادئ القياس عندهم. والإحالة إلى القدماء لأنهم مصدر الرواية مما يدل على الوعي التاريخي ومسار التاريخ من الأوائل إلى الأواخر، ومن المتقدمين إلى المتأخرين.
81
ويظهر الموروث على استحياء. فعندما يكون التلخيص لكتب تتعلق باللغة مثل المقولات والعبارة يظهر تعشيق الوافد في الموروث. وعندما يكون الموضوع صوريا خالصا كالقياس والبرهان تخف الدلالة، إلا من عمل العقل الخالص لمزيد من التوضيح والاتساق. مع أن البرهان لفظ قرآني
قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .
والجدل ضد السوفسطائيين في أول تلخيص البرهان يشبه جدل المتكلمين في أول نظرية العلم عند أصحاب المقالات مثل ابن حزم والشهرستاني. ويظهر التمييز بين علم الهندسة والعلم الإلهي بمناسبة موضوع الضد؛ إذ لا تبرهن الهندسة على أن الضد له ضد واحد، وأن الضدين علمهما واحد وإنما يستطيع ذلك العلم الإلهي، كما أن العلم الإلهي لا يبرهن على أن المكعبين إذ ضوعف أحدهما بالآخر كان منهما عدد مكعب، وإنما يستطيع ذلك علم الحساب، كذلك يختلف الموضوع الواحد بحسب وجوده في العلم الطبيعي أو في العلم الإلهي. كما يسمي السوفسطائي اللفظ المعرب المرائي وهو اللفظ المنقول. والمراء لفظ قرآني سلبي إذ يهاجم القرآن المراءين في الدين، والتفرقة بين العلم والظن التي تقوم عليها قسمة المنطق إلى يقين وظن قسمة قرآنية
إن الظن لا يغني من الحق شيئا ،
إن بعض الظن إثم ،
إن يتبعون إلا الظن ،
وما قتلوه يقينا . وربما كانت هناك نية في تحويل المنطق إلى علم عمل، وجعل المنطق الصوري مجرد مقدمة نظرية للعلم الخلقي.
وتظهر بعض الأمثلة العربية الشهيرة مثل عنز أيل للإشارة إلى الحيوان المركب. كما يؤخذ مثال من التاريخ على الحد الأوسط، لم حارب أهل الجمل عليا؟ فيقال لمكان قتل عثمان.
82
ومع ذلك يقلل «تلخيص البرهان» هندسة فكرية بلا مضمون، صورية العقل المتسق مع ذاته دون موضوع، أقرب إلى الرياضيات منه إلى المنطق، فإن لم يتحول المنطق إلى علم إنساني عن طريق اللغة فإنه يتجه نحو الرياضيات عن طريق قوالب العقل الفارغة. الأكثر دلالة في هذه الحالة «الرد على المنطقيين» أو نقض المنطق عند ابن تيمية أو التقرب إلى حد المنطق والمدخل إليه عند ابن حزم أو المنطق البديل في علم أصول الفقه. هنا تحضر الدلالة على نحو سلبي أو بالقدرة على التمثيل أو بالتجاوز والإبداع. والصورية الآن قد لا تفيد كثيرا في مواجهة العصر والظرف الحضاري الآن بكل ما فيها من نتاج علمي بالرغم من ثورة المعلومات ونظم الشفرة التي امتدت إلى علوم الحياة. ويكاد يدرك ابن رشد محاذاة علم المنطق بالعلم الطبيعي والاقتراب من التماهي بين العقل والوجود.
83
ويبدأ التلخيص بالبسملة في المقالة الأولى وتنتهي بالحمدلة، وتبدأ المقالة الثانية بالبسملة والصلاة على محمد وآله، وتنتهي أيضا بالحمدلة.
84 (5) تلخيص الجدل
وتلخيص كتاب الجدل وسط في الحجم بين «القياس» و«البرهان»، أصغر من القياس، وأكبر من البرهان.
85
لا تتجاوز الفقرات التي تبدأ بأفعال القول فيه العشر.
86
وبالرغم من أن صيغ «قال» أكثر ترددا إلا أن هناك أيضا صيغ «نقول» «قلنا» لتشير إلى التقابل بين الأنا والآخر، الموروث في مقابل الوافد «وصيغ» القول إشارة إلى الموضوع المحايد الذي ينظر إليه كل من الأنا والآخر.
87
وتشير باقي الأفعال الأخرى إلى أفعال الشعور المعرفي مثل الظن، والنظر، والظهور، والشك، بالإضافة إلى أفعال الاقتضاء مثل ينبغي.
فالتلخيص في نفس الوقت فعل من أفعال الاعتقاد يقوم على اقتضاء عقلي، ما ينبغي أن يكون عليه الفكر. وهي أكثر من أفعال القول مما يدل على أن التلخيص ليس تبعية لقول بل إعادة إنتاج للنص بأفعال معرفية جديدة. كما تدل أدوات الشرط على مسار الفكر وترتيب المقدمات واستنباط النتائج.
88
وإذا كانت أفعال القول والنظر والشرط لا تتجاوز ربع الفقرات فإن باقي الفقرات ثلاثة الأرباع تبدأ بأسماء مما يدل على أن التلخيص يتجاوز الأقوال إلى الموضوعات التي يراها مؤلف النص الأول، أرسطو، ويراها مؤلف النص الثاني، ابن رشد.
89
ويأتي اسم المواضع، جمعا ومفردا في المقدمة لأنه عنوان الموضوع، «الجدل» أو «المواضع» طوبيقا كما يذكر ابن رشد في العنوان.
90
وهي أكثر من ثلاثة أرباع الأسماء مثل الاستقراء والقياس، المقدمة والنتيجة، الوجوه والأجزاء، المنفعة والمنافع، الجنس والخاصة، الأشياء والأصناف، القدرة والقوة، الغرض والموضوعات، القوة والقانون، الشرط والآلات، الوجوب والخطأ ... إلخ؛ فابن رشد لا يلخص «كتاب الجدل» بقدر ما يدرس موضوع «الجدل». يتعامل مع الأشياء أكثر مما يتعامل مع الألفاظ، ويعرض التلخيص في صيغة تساؤلية، أرسطو يسأل وابن رشد يجيب، الآخر يسأل والأنا يجيب.
91
وطريقة التلخيص وضع الوافد في الموروث منعا لازدواجية المعرفة من حيث المصدر وازدواجية الفكر من حيث الرؤية، وازدواجية الحقيقة من حيث المنفعة العامة ووحدة الأمة ومصالح الأوطان.
92
ويتكلم ابن رشد عن أرسطو كشخص ثالث غائب وليس كمتكلم حاضر؛ فهو الآخر المغاير، وليس الأنا المتناهي، إحساسا بالتمايز بين الأنا والآخر، بين الشارح والمشروح، بين الموروث والوافد. فابن رشد هو الذي يتكلم وأرسطو هو القناع، ابن رشد هو الذي يتكلم في مواضع الحدود، وأرسطو هو الذي يذكرها في المقالة السادسة من الجدل، «لذلك يقول أرسطو».
يدرس ابن رشد الموضوع ويذكر مكانه عند أرسطو اعترافا بفضل القدماء وليس تبعية لهم.
93
وفي نفس الوقت ليس التلخيص رجوعا إلى الماضي بل استحضار الماضي لذلك كثيرا ما يشير ابن رشد إلى «زماننا هذا»، «المتكلمون من أهل زماننا».
94
ويبدو مسار الفكر في إحالة السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق. كما يبدو مسار الفكر في تلخيص بعض الفقرات لمراحله، ما تم قبل الآن وما سيأتي بعد ذلك مع تذكير بأقسام الموضوع. ويتحدد المسار في أول فقرة بالغرض، تعريف القوانين والأشياء الكلية التي منها تلتئم صناعة الجدل.
95
وهو تلخيص حسب ما تأدى لابن رشد الفهم والنظر أي أنه عرض على العقل وليس مجرد اختصار قاموس كمي، وبعد الفهم يأتي النقد والمراجعة. يمتاز بأنه مكتوب بأسلوب عربي رصين واضح المعنى وكأنه موجه إلى القارئ العربي وليس إلى القارئ اليوناني. فالتلخيص للمعاني على نحو موجز.
96
ويضم ابن رشد العديد من مقالات أرسطو في جزء واحد. يترك المقالة الأولى من كتاب أرسطو كما هو، التعريف بالأقاويل التي تلتئم منها المخاطبة الجدلية وبأجزائها، ويترك الثالث كما هو، أحكام السؤال والجواب بتعبير الأصوليين وهو المقالة الثامنة عند أرسطو، ثم يضم المقالات الست من الثانية حتى السابعة عند أرسطو في الجزء الثاني لمزيد من التركيز دون الإسهاب والتفصيل في المواضع بالرغم من طول عرض المواضع وأنواعها وكأن التلخيص لم يحقق غرضه وهو على وعي بهذا التركيب الجديد المقصود.
ويبين في نهاية كل مقالة أنها تلخيص لمقالة في كتاب الجدل، كما يبين في أول كل موضع ما يعادلها عند أرسطو، ومواضع الجنس في الرابعة والخاصة في الخامسة.
97
ومن الوافد، يأتي أرسطو بطبيعة الحال في المقدمة مع لقبه مرة واحدة؛ الحكيم، ثم شراحه ثامسطيوس وثاوفرسطس والإسكندر ثم أفلاطون ثم جالينوس وزينن ويحيى النحوي وسقراط، وأوميروش وبارمنيدس.
98
ويشرح ابن رشد لفظ الجدل بمعناه عند الجمهور لجوءا إلى الثقافة الشعبية ونقلا للمنطق من الخاصة إلى العامة، وهو المعنى الذي يقصده أرسطو. فإن عظمة الحكيم تكمن في أنه أخذ المعاني الشعبية وطرق الحوار بين الناس ووضع قواعد وقوانين كلية لها. ولفهمها يرجع إلى مصدرها في ثقافة الجمهور؛ لذلك تسمى المواضع أي المواقف التي يتم فيها الحوار بين الناس لإقناع بعضهم البعض.
99
بل إن أرسطو يطبق الجدل أيضا في باقي العلوم، الطبيعي والإلهي والمدني على سبيل الشك قبل أن يتحول إلى البرهان. كما يستعمله أرسطو في باري أرمنياس في التصديق بالأمور المشهورة مؤقتا حتى يتحول الذهن إلى البرهان، وكما استعمله في المقالة الأولى من السماع ضد الذين جحدوا الكثرة والحركة. كما استعمله في ما بعد الطبيعة لتصحيح مبادئ العلوم الجزئية.
والمطلوبات الجدلية أصناف إلا أن أرسطو يجعلها خمسة بضم الفصل إلى الجنس.
100
فالمواضع الجدلية كلها تصنف ابتداء من الأجناس الخمسة. ويوحي أرسطو بعدم استعمال القول المشهور إلا مقرونا بضده حتى يكون أكثر ظهورا. وللإثبات مواضع أخرى، ويعطي أرسطو خمسة عشر قانونا لتمييز الاسم المشترك، وثمانية وعشرين موضعا في إثبات الشيء وإبطاله على الإطلاق، وأربعين في مطالب المقايسات.
وعند أرسطو المواضع مطالب الوجود المطلق. وهي واحدة مع مطالب العرض. ولم يجعلها حدية. ووافقه ثاوفرسطس على ذلك ويقسمها أقساما. وأول المواضع التي ذكرها أرسطو هو النظر في محمول الوضع. ويعتمد كثيرا على النوع الأول من المقايسات، مقايسة موضوعين إلى محمول واحد. ومن مواضعه ما كان اقتناؤه صعبا فهو آثر، ومثل إيثار العيش مع الأصدقاء. ويضرب بنفسه المثل أن أرسطو آثر من أفلاطون. وبعض المواضع عند أرسطو يوجد في الصحة والمرض، والأقل والأكثر جودة، ومواضع إخفاء النتيجة، وطلب الكثرة وأحكام السؤال، وعدم قصد أحد تعليم الكذب ووجوه انتهار السائل، والقدرة على السؤال والجواب والارتياض عليهما وعدم استحسان الجدل في كل شيء، ويعتمد أرسطو على أوميروش في التصديق الشعري.
ويذهب الإسكندر إلى أن مطابقة ما في النفس ما في الخارج أدخل في باب العرض.
101
كما يذهب أفلاطون إلى مطابقة العدل في النفس وفي المدينة. والنار لديها ثلاثة أجزاء؛ لهيب وضوء وجمرة، ويرى أفورطغورش أن الأشياء في أنفسها بحسب الاعتقادات الحاصلة فيها لمعتقد معتقد. وهو ما يسميه أرسطو الرأي المبتدع أو الوضع بخصوص.
102
ويشار إليه في الصور المفارقة. ونموذج القياس الكاذب أن العالم والشجاع واثق إذن العالم شجاع. ونموذج للمشهور شكوك يحيى النحوي على المشائين في وجود القوة متقدمة بالزمان للفعل في حدود الحركة. فالنصارى يشككون على أرسطو والمسلمون يبرئونه ويعطي أرسطو أمثلة لانتهارات السائل من أقوال مالسيس وبارمنيدس عن أن الوجود واحد ومن أقواله زينن لنفي الحركة ومالسيس لنفي الكثرة. ويضرب المثل بإقليدس بالبراهين على المقدمات البعيدة على عدم احتياج الجدل لمثلها وعلى حد الزاوية بعبارة سهلة.
ويحدد الإسكندر وثاوفرسطس الموضوع بأنه أصل أو مبدأ تؤخذ منه المقدمات في قياس من المقاييس التي تعمل على المطالب الجزئية في صناعة صناعة وهو نفس ما يراه أبو نصر؛ فابن رشد هنا يستعمل شراح أرسطو اليونان والمسلمين مستأنفا دورهم وليس رافضا لهم، وهو حد قريب جدا من أرسطو في كتاب الخطابة ومثل أنواع المواضع التي بينها أرسطو في كتاب أنالوطيقا الأولى، وحجة الإسكندر أن مقدمات المقاييس غير متناهية ولا منحصرة. وهو أقرب إلى الصواب عند ابن رشد. فالمواضع عند الإسكندر أقرب إلى الأحوال اعتمادا على أن أرسطو لا يسمي المقدمات مواضع. ويتفق جميع المفسرين على ذلك. ولا يعارض ابن رشد شراح اليونان على غير عادته، فهم أقرب إلى أرسطو؛ لذلك كان ابن رشد قريبا منهم. ويرتب الحدود بطريقة ثاوفرسطس وثامسطيوس، إذ كان أدخل في الترتيب الصناعي وأسهل للحفظ.
أما ثامسطيوس فيرى أن الموضع هو المقدمة الكلية التي هي أحق المقدمات بالقياس، وهو ما يتفق مع رأي أرسطو في كتاب الجدل.
103
ويتفق في أن أصول مواضع الجنس أربعة، وفي أن أحد المواضع برهاني، ويضيف ثامسطيوس نماذج من الأبطال والإثبات ليس فقط الكون والفساد بل أيضا من الفاعلات والغايات والأفعال. ويجعل للشبه موضعا ثانيا وهو المأخوذ عن طريق الأبدال والنقلة، ويجعل بعض المواضع مؤلفة من الشبيه والمقابل. ويدرك التشابه بين موضعين، ولا يعني دخولهما تحت جنس واحد. ويرى أن بعض المواضع صعبة للقسمة لتشابهها وقلة ظهور الفرق بينها. ويجعل المؤثر من أجل نفسه أثر من المؤثر من أجل غيره عند أرسطو مأخوذا من الأمر نفسه. وبعض المواضع عند ثامسطيوس قريبة من طبيعة الشيء. ويتفق ثامسطيوس وثاوفرسطوس على ظهور بعض المواضع مثل الحد ومواضع الخطأ ويرى ثامسطيوس استبعاد بعض المواضع لأنها ليست كذلك. وبعضها مموه وبعض المواضع في الخامسة وهي ليست كذلك؛ لذلك لم يكررها أرسطو. وقد ألزم سقراط الخطأ في كتاب السياسة ثراسوماخوس السوفسطائي لأن الأخس لا يكون نوعا للأفضل. وهو ما يتفق مع ثامسطيوس، ويوحد أيروقليطس بين الخير والشر، ويخالف ثامسطيوس وثاوفرسطس أرسطو في ترتيب الحدود.
104
ويعزل ثاوفرسطس أرسطو في تكريره مواضع الجنس، ويرصد ابن رشد الخلاف بين أرسطو وجالينوس في سبب تعطل الحواس في النوم، القلب عند أرسطو والدماغ عند جالينوس. وبقراط وجالينوس يقع عليهما حد الطبيب.
ويحال إلى باقي مؤلفات أرسطو وتلخيصاتها، ويأتي كتاب القياس أولا ثم البرهان ثم المقولات ثم السفسطة، أنالوطيقا الأولى، والجدل، وما بعد الطبيعة ثم الخطابة، والمواضع، وباري أرمنياس، والمقالة الأولى من السماع، والسياسة.
105
ويحال إلى المقولات حين فحص الجوهر والعرض، والمضاف.
106
ويحال إلى ما بعد الطبيعة في اسم الواحد، وإلى القياس لمعرفة أنواعه وطريقة الخلف وامتحان القياس والمصادرة على المطلوب، ويسمى أيضا أنالوطيقا الأولى الذي يحال إليه موضوع عكس القياس. ويحال إلى البرهان في حالة البراهين الذاتية الكلية، والحدود المطلقة كبراهين بالقوة والأعراض والخواص وفي الموضوعات المفارقة، وإلى الخطابة وأنالوطيقا الأول لبيان تحديد المواضع، وإلى الخطابة في الأقاويل الخلقية والانفعالية، وإلى السفسطة الذي حذر فيه أرسطو من حمل الشيء على نفسه وفي موضوع قياس الخلف.
ومن الفرق يذكر المفسرون، واليونانيون، والبابليون والقدماء، ثم السوفسطائيون.
107
يختلف المفسرون في إحصاء المواضع ويضرب المثل باليونانيين والبابليين على موضع التساوي مثل: إذا كان شأن اليونانيين قبول الحكمة كشأن البابليين ثم وجدت الحكمة لليونانيين فهي موجودة للبابليين، ويعتمد أرسطو على شهادة القدماء في أن العمر الناسك والعمر الفاضل شيء واحد، وهو ما يصدق فيه أنه أعظم وأفضل، وفي وضعهم وجود الحركة والكثرة. والسوفسطائيون هم الذين يبغون من المناظرة الغلبة والفلح.
108
ويأتي الموروث حثيثا ما دام الموضوع صوريا. فيتصدر الفارابي ثم ابن سينا من الأعلام، والمتكلمون من الفرق، ولسان العرب ثم كلام العرب وقبائل العرب.
109
تبدأ الدلالة في الظهور في بداية التلخيص وتحديد الجدل ومنفعته ثم تختفي بعد ذلك بتلخيص الموضع. ويحدد أبو نصر أن الموضع كما حدده الإسكندر وثاوفرسطس، مبدأ تستمد منه مقدمات القياس في صناعة جزئية، ويعتبره رأي أرسطو الذي صرح به في كتاب الجدل، ويرى أن المقايسة قد تكون في مقولة الجوهر اعتمادا على ما قاله أرسطو في كتاب المقولات، ويجعل ابن سينا بعض المقدمات المشهورة برهانية إذا كان الأولى فيها هو المتقدم بالطبع. وربما استعمله أرسطو في المقالة الأولى من السماء والعالم ويجعل بعضها موضعا علميا، ولا يظهر لسان العرب تصاريف تدل على وجود الموضوع في المحمول، وقد وضع الحرف «أو» في لسان العرب للتفضيل وواو العطف للجمع، والكلبي اسم مشترك بين الحيوان وقبيلة من قبائل العرب. وتظهر عادة العرب في ضرب الأمثلة بزيد وعمرو للإشارة إلى الإنسان العام غير المشخص. وكلام العرب وضع ألف الاستفهام قبل ليس في «أليس» مفوضا له الإجابة، سؤال تفويض وليس سؤال تقرير.
110
وتظهر مصطلحات علم الأصول مثل السيارات البرهانية من السبر والتقسيم كمنهج لاقتناص العلة. كما يظهر مصطلح الشريعة بالمعنى العام أي القانون ومصطلح القضية، وضرورة طاعة الآباء أو الشريعة. وتذكر بعض الأمثلة التاريخية المحلية على معنى الواحد؛ فالصقالبة والزنج شعبان مختلفان من حيث اللسان، ولكنهما واحد في الإنسانية. والخليفة في الإسلام وقيصر الروم واحد في الوظيفة أو النسبة. ويظهر الشرق مثل الهند لضرب المثل سواء كان من أرسطو، امتداد الشرق في اليونان بعد عصر الإسكندر أو من ابن رشد والجناح الشرقي للحضارة الإسلامية، ويبدأ التلخيص بالبسملة والصلاة على محمد وآله وتنتهي مواضع الإعراض بالحمدلة، كذلك مواضع الهوهو والغير، وكذلك الكتاب كله.
111
ويظهر الجدل في علم الكلام بطريق غير مباشر؛ فالجدل للجمهور، ونافع له، وليس عند الحكماء أهل البرهان. يتجه نحو الفضيلة والعدل أي إلى الأمور العملية وليس إلى الأمور النظرية كما هو الحال في منطق اليقين وأحيانا في علم الكلام منعا للمراءاة والكذاب في الاعتقاد. وإذا كان الجمهور يعتبر الحد هو تبديل الاسم باسم أعرف منه فإن المتكلمين يحددون العلم بأنه المعرفة. ولا تقتصر المنفعة فقط عند الجمهور بل تمتد إلى العلم الطبيعي والعلم الإلهي والعلم المدني، ومطالب المقايسة تمتد إلى الأمور الطبيعية والإلهية. ويضرب المثل بالعلم الإلهي على أن الأفضل ما كان في العلم الأفضل، وأن ما هو موجود لله تعالى آثر مما يوجد للإنسان، ويضرب المثل على المقدمة الجدلية بالقول المشهور وأولها عند الجميع «الله موجود» أو «النفس باقية». وتبلغ شهرتها عند العلماء والجمهور أنه تصعب معها المخالفة. ونموذج الجدل الضار في العمل هل ينبغي أن يعبد الله أم لا؟ كما يظهر «اللهم» كأسلوب وعادة عربية.
112
ويضرب المثل بالإجابة بأن البخت هو قضاء الله وقدره ولا شيء أجرى على نظام وأحرى بأن يقال باستحقاق من قضاء الله وقدره على سؤال أن الفضيلة أثر من جودة البخت والاتفاق لأنه غير محدود ولا ثابت ويكون بالعرض وليس اختيارا ولا بغير استحقاق، وهي مناقضة تنتهي إلى السآمة وتقطع المحاورة.
ويمكن تحويل الجدل إلى منطق للعلاقات بين الذوات؛ فالأمثلة للمواضع إنسانية، تعاطف بين البشر، انفعالات متبادلة. يمكن تحويل الجدل إذن من المستوى الصوري إلى المستوى الإنساني، وهل تستطيع هذه القوانين الجدلية طبقا لمواضعها طبقا للمقولات العشر أو الأسماء الخمسة إخضاع جدل الجمهور إلى منطق دقيق قابل للاستعمال طبيعيا وليس اصطناعيا؟ وهل يمكن اكتسابها وتعلمها أم أنها مهارات طبيعية وبداهات أولية؟ ربما يقوم بها منطق الجدل على الإيحاء والإقناع والتأثير والتخييل والإغراء أكثر مما يقوم على قوانين المواضع. ونظرا لكثرة القوانين يصعب العد والإحصاء الدقيق. والعجيب استيعاب التلخيص كل ذلك. هذا العد والإحصاء والترقيم يجعل التلخيص أقرب إلى القاموس أو المعجم. هو أقرب إلى البداهات العامة وفطرة البشر وحكمة الشعوب المتراكمة عبر التاريخ. ولا يمكن إخضاع العلاقات بين الذوات إلى حسابات كمية. فالعد والإحصاء للموضوعات المنفصلة، والعلاقات بين الذوات كيفيات متصلة، بل ومنها ما هو تعبير عن بعض الآيات القرآنية مثل جدل الحلو والمر الذي يشبه آية
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم .
113 (6) تلخيص السفسطة
وهو في حجمه أصغر من القياس والجدل وأكبر قليلا من البرهان
114
وتغيب الدلالة عنه نظرا لابتعاده عن اللغة، منطق العرب. كما أن الجهاز النقدي للناشر مجرد معلومات نحوية مصمتة خالية من القراءة. أفعال القول فيها أقرب إلى صيغة «قال» بالرغم من وجود «نقول» للتقابل بين الوافد والموروث، «نقول نحن».
115
لذلك يبدو التمايز بين لسان اليونانيين ولسان العرب. فالسفسطة والسوفسطائيون بلسان اليونانيين.
116
وتختلف كل لغة عن الأخرى في أحوال الأعراب والتنقيط.
كان عند أرسطو إحساس بالإبداع النظري؛ فالسفسطة مارسها الناس عمليا، والعجيب أن ينظرها جماعة من العلماء، ولكن الأعجب أن الذي نظرها ووضع قواعدها واحد فقط، من البداية إلى النهاية؛ لذلك يجب شكره والثناء عليه. فإن كان فيها نقص فالصفح والعذر.
117
وإذا كان أرسطو قد أبدع كل شيء فماذا سيضيف اللاحقون؟ فقد اكتملت النبوة بظهور آخر الأنبياء، والكل بعده فقهاء مجتهدون !
ويتحدد مسار الفكر منذ البداية بتحديد الغرض وهو القول في التبكيتات السوفسطائية التي يظن بها تبكيتات حقيقية وإنما هي مضللات. ويبدو مسار الفكر في الاستدراك؛ استدراك اللاحق على السابق، والسابق على اللاحق. كما يبحث الفكر عن الأسباب التي تجعل القياس تبكيتيا، ولا يكتفى بالرصد والتقرير بل يذهب إلى التعليل. وتبرز أفعال البيان لتكشف عن مسار الفكر؛ مقدماته ونتائجه، واستحالة التناقض فيه.
118
ويعترف ابن رشد أن النص الذي قام بتلخيصه معتاص جدا إما بسبب المترجم أو بسبب المؤلف وغموض العبارة. لم يشرحه أحد من قبل إلا ابن سينا في «الشفاء». فربما أضاف ابن رشد من عنده شيئا للتوضيح، وربما أول شيئا على غير قصده، فإن البادئ بالشرح كالمنشئ له؛ لذلك هو تلخيص ممكن محتمل ظني لا يغلق الباب أمام تلخيصات أخرى. ومع ذلك فلم يفت ابن رشد شيئا من أجناس أقوال أرسطو ولا من أغراضه الكلية. وربما فاتته بعض التفصيلات الجزئية وأوجه استعمالها وتعليمها. فالأصل أولى من الفرع، والمبدأ أخف من التطبيق. وتلك مهمة عدة أجيال أو مهام متتالية لجيل واحد.
119
ومن الوافد يتصدر أرسطو بطبيعة الحال ثم أفلاطون ثم سقراط ثم زينن ثم مالسيس وبقراط ثم جالينوس، وبروسن.
120
ويعرض التبكيت كما يقول أرسطو في المصادرة على المطلوب. وتقع المغالطة في توهم ما ليس بنقيض أنه نقيض بإغفال الشرط وأخذ مسألتين في مسألة واحدة. وربما ذكر أرسطو مواضع دون أخرى أكملها الشراح. فهل أغفلها أرسطو حقيقة وهو يعدد أصناف المواضع المغلطة؟ واستعمل أرسطو موضع اللاحق، وقياس العلامة في الخطابة. ولم يعدد أرسطو مواضع الإبدال لأنها مواضع شعرية. وجعل صناعة السفسطة جزءا من صناعة الجدل. ويسمي المقدمات الشنيعة الناقصة الإقرار. ويستعمل كثيرا من المباكتات.
121
ويذكر سقراط على أنه اسم لا شخص مثل زيد وعمرو عند العرب وبطرس وبولس في الغرب الحديث. ويعتذر جالينوس عن أبقراط عن خطأ عدم وضع النقط على الحروف. ومن أمثال غلط مالسيس أن الكل ليس له مبدأ. والخطأ في الكلام يعرض من جهة المسموع وليس من جهة المتكلم كما قال أفلاطون. وينقد ابن رشد أفلاطون أنه أساء في التعليم حين أراد أن يعلم التبكيتات السوفسطائية قبل القياس الصحيح. ومن السفسطة إنكار زينن الكثرة في الحس، واعتبر الوجود واحدا. وقام رجل من قدماء المهندسين هو بقراط ظن أنه عمل مربعا مساويا للدائرة عندما عمل مربعا مساويا للشكل الهلالي. وهي مثل محاولة بروسن في تربيع الدائرة، ويشار إلى سقراط كإشارة على الإنسان أو الواحد. وكان يفضل أن يسأل لا أن يجيب.
122
ومن أسماء المؤلفات يتصدر كتاب الجدل ثم القياس ثم البرهان، والخطابة، وباري أرمنياس.
123
المخاطبة البرهانية في كتاب البرهان، والجدلية في كتاب الجدل، والخطبية في كتاب الخطابة. ويعرض المصادرة على المطلوب في كتاب القياس وكتاب الجدل. وقد تبين في باري أرمينياس أسباب توهم ما ليس بنقيض أنه نقيض، كما تبين في القياس متى يكون فاسدا. وإثبات المبادئ الأولى ضد من يجحدها في كتاب الجدل، وكذلك سؤال المتعلم للمعلم، وقوانين القياسات الصحيحة في كتاب الجدل.
124
ومن أسماء الفرق يتصدر القدماء ثم قدماء المفسرين، وقدماء المهندسين.
125
وللتمايز يذكر لسان اليونانيين. قال قدماء المفسرين: إن المقدمات الكاذبة إما دائما وإما في الأكثر خاصة بهذه الصناعة. كما أن الصادقة خاصة بالجدل في الأكثر، والبرهان دائما. وللقدماء أمثلة مشهورة على الأقوال المغالطية. وتكامل أمثلتهم تساعد على معرفة الموضوع.
126
ومن الموروث يتصدر الفارابي ثم ابن سينا. وللدلالة على التمايز يتصدر لسان العرب ثم لساننا، وكلام العرب.
127
لقد زاد الفارابي على ما ذكره أرسطو بعض المواضع. ويرى وجود صناعة متوسطة بين الجدلية والسوفسطائية. ويرى أن هذا الجنس من الكلام هو الذي يسمى عيا في لسان العرب بسبب نقصان في العبارة، كما أن الهذر زيادة فيها؛ فالأقوال المستغلقة ليست جنسا في كلام العرب لأن ليس له موضع.
128
وعند ابن سينا يظن الفارابي أنه استدرك وضعا في المغالطات وهو موضع الإبدال. ولم يخف على أرسطو؛ لأنه إما أن يكون مغلطا بالذات أو بالأكثر، وهو بالذات خطبي أو شعري وإما أن يكون بالعرض فيذكر في الصناعة أو لا يذكر. وما زاده الفارابي في المطلقات والمقيدات وفي أخذ ما ليس بسبب على أنه سبب فيه نظر، وهو أقرب إلى البسط والشرح دون الإضافة أو يكون مزيجا بينهما. وابن سينا هو الوحيد السابق على الفارابي الذي تعرض للسفسطة في كتاب «الشفاء»، ويعترف بإبداع أرسطو الذي لم يزد عليه أحد منذ ألف عام ولا ابن سينا نفسه. ولا يوجد من المغالطات إلا ما عدده ابن سينا.
129
ويظهر الموروث اللغوي على استحياء في الحديث عن زيد وعمرو طبقا لعادة العرب، كما تظهر خصوصية اللسان العربي.
130
وتظهر بعض الألفاظ الفقهية مثل أن المحمودات عند الشريعة كثيرا ما تضادها محمودات عند الطبيعة، فالتشنيع على أحدها يكون محمودا في الآخر. وهو تضاد مصطنع نظرا لوحدة الشريعة والطبيعة. الطبيعة محمودة بالعقل والشريعة محمودة عند الجمهور، والذي عنده الشريعة وعنده الأكثر هو محمود من أجل أنه مشهور وأن عليه الأكثر. وتضرب الأمثلة الفقهية على المغالطات. فإذا سأل أحد: هل المحرم الكثير أم القليل؟ وكانت الإجابة الكثير ألزم إلا يكون القليل غير محرم.
131
ويكاد يختفي الديني تماما من الكلام أو الفقه أو الأصول الأولى للموروث بالرغم من وجود ابن رشد في بيئة ابن حزم. (7) تلخيص الخطابة (أ) أفعال القول
وإذا كان الموروث قد تحول إلى وعاء للوافد في «تلخيص المقولات» و«تلخيص العبارة» نظرا لسهولة تعشيقهما معا في اللغة، الميدان الأول للثقافة العربية، وانحسرا معا في «تلخيص القياس» و«تلخيص البرهان» نظرا للطابع الصوري لتحليل القضايا، وانفرجا بعض الشيء في «تلخيص الجدل» و«تلخيص السفسطة» فإن الموروث بدا وعاء كبيرا لاحتواء الوافد في «تلخيص الخطابة» و«تلخيص الشعر» الميدان الثاني للثقافة العربية.
132
و«تلخيص الخطابة» أكبر حجما من الترجمة العربية القديمة نظرا لتوسع ابن رشد في إيضاح المعاني وإضافته مادة جديدة من الخطابة العربية إما لإعطاء أمثلة توضيحية على تحليلات أرسطو أو لتعديل هذه التحليلات لتوسيع أسسها النظرية على النحو الآتي.
133
والخطابة لا تنفصل عن الأخلاق والاجتماع والسياسة لأنها مجرد وسيلة للاتصال بين الناس في موضوعات عن الحياة العامة والأوضاع الاجتماعية. ومع ذلك فالتحليلات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية ناقصة. يعوض عن ذلك كثرة الأمثلة من البيئة الثقافية العربية الإسلامية خاصة في المقالة الثالثة. ولا ينظر الفارابي إلى الخطابة عند أمة واحدة، العربية أو اليونانية، بل عند سائر الأمم.
وإذا كان الشرح على مستوى اللفظ فإن التلخيص على مستوى المعنى. وهو ما يعترف به ابن رشد نفسه في نهاية المقالة الأولى من أن التلخيص للمعنى من أجل توضيح المعاني وتحويلها من مجهول إلى معلوم حصرا للمعاني والأغراض أولا قبل الكلام.
134
وبالرغم من قدرة ابن رشد الأدبية إلا أن أسلوب «تلخيص الخطابة» أقل أساليبه ملاءمة، وربما لسوء الترجمة أو لصعوبة نقل الموضوع من البلاغة اليونانية إلى البلاغة العربية، وربما يرجع ذلك إلى الترجمة العربية القديمة.
135
وكثير من العناوين الجانبية من وضع ابن رشد.
والأقاويل الشعرية متقدمة بالزمان على الأقاويل البلاغية؛ فالشعر أسبق من النثر. فالأقاويل تتطور في الزمان.
136
وتظهر أفعال القول بوضوح. البداية من أرسطو ولكن بقية القول من ابن رشد. ولا يذكر قول أرسطو حرفا ولكن معنى، فالتلخيص توجه نحو المعنى وليس نحو اللفظ كما هو الحال في الشرح أو نحو الشيء نفسه كما هو الحال في الجوامع. وتبدأ الفقرات بالصيغة اللفظية «قال». وتظهر بصورة أقل صيغ أخرى مثل «فهذا جملة ما قاله»، «فهذا آخر ما قاله». وفي نفس الوقت توجد أيضا صيغ المتكلم مفردا أو جمعا للدلالة على التقابل بين الآخر والأنا مثل «فنقول»، «قلنا»، «نقول»، «فلنقل»، «نحن قائلون». كما قد تظهر صيغة المبني للمجهول «قيل» بصرف النظر عن القائل. وتظهر صيغة ثالثة محايدة مستقلة عن ضمائر الغائب والمتكلم وهو مصدر «القول» الصريح أو بأداة الصلة «ما قال».
137
كما يظهر هذا التقابل في أشكال أخرى مثل «عندنا» و«عندهم».
138
كما تأتي أفعال «البيان» بعد أفعال القول مما يدل أيضا على أن التلخيص هو نظرية في الإيضاح في عدة صيغ أهمها «فقد تبين»، في المضارع أو «فقد استبان» في الماضي أو «يبين» في المضارع و«بين أن» في المصدر.
139
كما تظهر أفعال الفهم والإدراك والتصور مثل «يعني» يفهم، أو أفعال الاقتضاء مثل «ينبغي» إيجابا أم سلبا. فالفكر صورة معيارية، ما ينبغي أن يكون عليه.
140
ويظهر مسار الفكر في إحالة السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق. يتوقف عند جزء ويعلن عن بداية جزء آخر.
141
ويلاحظ على «تلخيص الخطابة» ما يلي: (1)
توسع مفهوم الخطابة وشمل السنن والشهود والعقود والعذاب والإيمان، وتحول من مستوى البلاغة إلى مستوى القانون؛ لذلك ظهر الفارابي كمعلم لابن رشد في تحليلاته الاجتماعية والسياسية. (2)
الخطابة موهبة طبيعية لا تخضع لقانون. هي أقرب إلى الطبيعة منها إلى الصنعة، موهبة وليست اكتسابا. كما أن الفكر السليم لا يحتاج إلى قواعد النطق. ويرتجل الشاعر دون وعي بالبحور كما تغرد البلابل دون قراءة للنوتة الموسيقية؛ ومن ثم يكون السؤال ما مدى استعمال كل هذه التقسيمات لأنواع الأقيسة الخطبية وإرجاعها إلى أشكال القياس الصوري؟ (3)
ظهور بعض الألفاظ الحديثة مثل السلطان والثروة تجعل التلخيص عصريا.
142 (4)
ظهور التحليلات النفسية للعلاقات الاجتماعية في الخطابة. (5)
جعل التدوين جزءا من الخطابة مع الخطاب الشفاهي العام. (6)
القدرة على إيجاد المصطلحات العربية المقابلة للمصطلحات اليونانية والفهم والاستيعاب للنص اليوناني ونقله إلى البيئة الثقافية الجديدة والتطوير لكليهما لوضع نظرية عامة في الخطابة كما حاول ابن سينا أن يضع قبل ذلك نظرية عامة في الشعر المطلق، والحديث عن التشبيه والاستعارة والتمثيل وكأنه يؤلف نصا في البلاغة العربية. (ب) الوافد
أسقط ابن رشد كثيرا من أسماء الأعلام اليونانية. ولم يستبق بعد أرسطو ثم سقراط ثم أفلاطون وزينون وأفروطاغوراش إلا أوميروش لأنه أصبح معروفا للقارئ العربي عبر الترجمات وكثرة الإحالة إليه عند أرسطو وعند غيره من حكماء اليونان.
143
وأحيانا يقع الخلط بين سقراط الفيلسوف وأبوقراطيس الخطيب اليوناني، إما من الناسخ وهو الأرجح أو من ابن رشد الذي لا يهمه الشخص بقدر ما يهمه القول. ومما يدل على ذلك إسقاط الاسم كلية والاكتفاء برجل مشهور «اكسينوفون»، امرأة مشهورة «أنطوقونا»، رجلان مشهوران «قاليقوس وفمفيلوس»، رجل معروف بالتغلب «فلاريس». رجل معروف «أودوسوس»، شاعر «أنطيفون»، أحد شعراء اليونان «ايفنوس». فلان «قودياس ، أفنيدس، جرجياس، أماسيس»، بعض القدماء «أسطيخورس، سمويندس»، ملك «ديانوسوس».
144
كما يستعمل ابن رشد تعبير «بعض القدماء» لضرب المثل بقبول شر أقل اتقاء لشر أعظم «أسطخورس»، وقول «بعض القدماء» إن السنة تحتاج إلى سنة فوقها، وكذلك تعبير «رجلين من القدماء» «قاليفوس، فمفيلوس» مشهورين بالخطابة عندهم.
ومعظم استعمالات أرسطو لا تبدأ بفعل القول. بل إن أرسطو يحكي أيضا راويا عن آخرين، فأرسطو مؤرخ وفيلسوف في آن واحد. ويسمي الأشياء التي يراها ابن رشد أيضا والتي قد يسميها تسميات أخرى.
145
كما أنه يذكر أشياء مستقلة عنه يذكرها أيضا ابن رشد. ويرى الواقع الذي يراه ابن رشد، ويحصي، ويعرف. وقبيح أن يعجز أرسطو عن معرفة ما أدركه زينن، وأن يمدح مادح أرسطو أنه حكيم يعم أرسطو وغيره من الحكماء.
146
أما أوميروش فإنه تذكر معاني أشعاره دون أشعاره نفسها؛ فالمعنى مفهوم على عكس الشعر بما فيه من تخيلات وأسماء مجهولة. إذ يقبل الإنسان الشر اليسير في مقابل تجنب الخير العظيم، وهو أحد القواعد الفقهية. كما اختار أوميروس من الاصطلاحات النافعة إنسانا عظيم القدر له عدو عظيم القدر فيفعل به الشر وبأصدقائه الخير، كما قسم الشيء إلى جزئياته حتى يخيل أنه أعظم. وقال إن الشر «أحلى من قطرات العسل» إذ أحل الإنسان إيقاع الشر بالمغضوب عليه وهو ممكن الوقوع. كما أجاد في تصوير هذا المعنى قائلا «لما تكلم الناس بالمرثية صرخ السامعون بها صرخة جامعة لذيذة.» والهالكون لا يغضب عليهم لأنهم صاروا إلى شيء أعظم من الشر المؤمل فيهم. واستعمل ذلك أوميروش لتسكين غضب إنسان على آخر.
ومدح أوميروش إنسانا قسم نهاره أقساما يفعل في كل قسم منها فعلا، يكتسب به نوعا من الفضيلة كمثل للتعليم اللذيذ. كما جعل الأشياء غير المتنفسة متنفسة مثل أبي العلاء. واستعمل الأسماء المترادفة معه دقة الرباطات ليصير الواحد كثيرا. واستعمل كثيرا من الأقاويل الانفعالية التي توجب استغرابا للشيء وعجبا له مثل «إن تلك العجوز حبست عندها الوجوه الحسان».
147
ويحال إلى باقي كتب أرسطو المنطقية مثل كتاب الجدل (طوبيقا) ثم كتاب الشعر ثم كتاب القياس وأخيرا كتاب سوفسطيقا.
148
يحال إلى الجدل الذي يعتمد على المقدمات الظنية المشهورة كما هو الحال في القياس الجدلي المخالف للقياس البرهاني. وإليه يحال الفرق بين الاستقراء والقياس، ومواضع الأقل والأكثر في الخصوص والعموم في القياسات الخطبية، والنظائر والتصاريف، والصلة بين الوجود بحال والوجود المطلق أيهما أولى من الآخر، ومعاندات القياس، ووصايا للخطيب في الفكر للتأثير في السامعين، ومعرفة مقدمات الخصوم.
149
ويحال إلى كتاب الشعر لأن به الأشياء التي تعمل منها الطرائف والنوادر، وكيف تعمل، والتمييز بين أصناف التغيرات الحسنة الجميلة والتغيرات الباردة التي لا ينبغي استعمالها، وكل ما يتعلق بأصناف التغيير وضروبه وتفصيل الاختراع لأنه أخص بالشعر منه بالخطابة، وأنواع الهزل الذي يليق بالكريم.
150
ويحال إلى كتاب القياس لبيان أن كل تصديق يكون بالقياس، وكون المقال استقراء والضمير قياسا، وأنواع القياس وأجناس الأقاويل القياسية.
151
ويحال إلى كتاب سوفسطيقا لإحصاء المموهات. ويشير ابن رشد إلى القدماء ويعني بهم الأسلاف المعروفين المقبولين عند جمهور الناس المشهور فضلهم الذين تقبل شهادتهم على الأشياء السالفة سواء أخبروا أنهم عاينوها أو لم يخبروا بذلك. فالقدماء ليسوا اليونان بل الأسلاف.
152
ويشير ابن رشد إلى تبكيت أفلاطون لأفروطاغورش الذي ينكر التفلسف لمعرفة الحقائق مع أنه إذا أنكرها الإنسان أو أثبتها فإنه يثبت الفلسفة في كلتا الحالتين. ويضرب المثل بسقراط وزينن على أنه ما كان ممكنا للأوضع والأخس والأقل غاية فهو لأضداد ذلك أمكن، كما قال سقراط إنه لشديد عليه أن يعجز عما يفعله الجاهل، وكما يقال إنه قبيح على أرسطو معرفة ما أدركه زينن. ويستعمل سقراط كموضوع في قضية برمزه لا بشخصه. ويضرب به المثل على الصنف المقبول من الناس. ويضرب المثل بقول سقراط «إنه يسهل مدح أهل أثينية بأثينة.» على ضرورة أن يكون المدح بحضرة الذين يحبون الممدوح. ويضرب أرسطو المثل بسقراط على مقايسة الغير على النفس، جاعلا فضيلة النفس مقياسا لفضيلة الغير، ويضرب المثل بقول سقراط «إنه لشديد علي أن أعجز عما يفعله الجاهل.» على أن الممكن للأوضع والأخس يكون لأضدادها أمكن. ويضرب المثل بقول سقراط «لا ينبغي أن يتسلط أناس بالقرعة على المثال المخترع الذي تقاس عليه أمثلة أخرى.» وكان أصحاب سقراط يتعلمون الأقاويل الخلقية في الأشياء والتعاليمية.
153
أما أبوقراط فخطيب من أهل أثينية. كان يقدم لهم المقدمات بتأويلها كنموذج للتشكك في المقدمات. وكان يدخل أقاويله المديحية في الكلام. (ج) الموروث
ويتصدر الموروث الوافد في كم أسماء الأعلام
154
ويتصدر من الحكماء الفارابي وحده مؤرخا وشارحا وفيلسوفا ولا يذكر غيره مثل ابن سينا.
155
ومن الشعراء يتصدر المتنبي ثم جرير وابن السراج وابن المعتز ثم أبو العباس التطيلي، وأبو نواس، والفرزدق والمعري والنابغة الذبياني.
156
ومن النادر الإشارة إلى شاعر عربي مجهول نظرا لوجود الشعراء في الوجدان العربي باستثناء مرتين، الأولى إشارة إلى معن بن أوس، والثانية مجرد شاعر مجهول وإن لم يكن الشعر مجهولا. ومن الأنبياء يتصدر صاحب الشرع «محمد عليه السلام» ثم عيسى وهود. ومن الخلفاء: أبو بكر، عمر، علي، معاوية، المتوكل، المنصور بن عامر، ومن الفقهاء مالك بن أنس.
وتظهر بعض الأمثلة الطبية من ثقافة ابن رشد كطبيب مثل: نقع شراب السكنجبين ثلاثا لأنه محمود مع ستر الضمير. وتستعمل الضمائر في صناعة الطب وغيرها من الصنائع.
157
ومن الفلاسفة يتصدر الفارابي؛ إذ يذكر الفارابي راويا عن الفرس أنهم عرفوا رئاسة الأخيار التي تكون فعالها فاضلة فقط. وهي تعرف بالإمامية. ويقال إنها كانت موجودة عند الفرس.
158
وقد أدرك أبو نصر أن كثيرا مما يقوله أرسطو غير مفهوم عندنا ولا نافع نظرا لأن خطب كل شعب تعتمد على أساليبها البلاغية في ثقافتها الوطنية. ويستشهد الفارابي نفسه بالشعر العربي للدلالة على المثال المركب البعيد التركيب الخفي الاتصال. ويدرك ابن رشد أهمية الفارابي في تحليلاته للحروف والروابط وتعديدها في غير ما موضع في أول الكلام أو في آخره. ويستشهد بقول أبي نصر في اعتبار العرب البلاغة استعمال القول الغير المربوط.
وأسقط ابن رشد معظم الأمثلة اليونانية لأنها لا تخاطب إلا الوجدان اليوناني، واستبدل بها أمثلة عربية تخاطب الوجدان العربي؛ فالخطابة تعتمد على اللغة وأساليب البلاغة كجزء من الثقافة الوطنية. وتستعمل الأمثلة العربية مثل «قلة العيال أحد اليسارين» على أن الغنى لا يكون فقط بزيادة المال بل بنقص النفقات وأيضا «ولو من الميت أكفانه» على الاستحياء من الاكتساب من الأمور المستقبحة أو من الضعفاء أو المساكين أو الأموات. وتضرب الأمثلة العربية على ضرورة الاستعمال عند الإشارة بالأمثال المشهورة مثل «ول حارها من تولى قارها»، «قد تبين الصبح لذي عينين» وهي أمثال آراء وشهادات. ومثل الأمثال المشهورة الأقوال السائرة «اعرف قدرك» سواء على جهة التوبيخ أو على جهة التعظيم، أو «ليس بسوء مذل شيء وقد عرفت خلقك» مدحا أو ذما. وللانتقال من الأجزاء إلى الكل تضرب الأمثال العربية مثل «قد ساوى الماء الزبى»، «بلغ الحزام الطبتين».
159
وتكثر الأمثلة من الشعر العربي بديلا عن الأمثلة اليونانية. ويأتي المتنبي في المقدمة كمثال على الأشياء المتناسبة، ومن الجيد في التغيير في الشعر جعل غير المتنفس متنفسا، ومثال التصدير بالأمور الصعبة.
160
وتستعمل أشعار جرير والفرزدق كمثال على الاستعانة بجميع الأشياء المقنعة في موضع المنازعة لتحصل الغلبة، وكذلك مثل خطب علي ومعاوية. ومن أمثال الاستعارة يستشهد ببيت شعر لابن المعتز تشبها للنساء بالظبي على وجه الإبدال. والتمثيلات تخص كل شعب بعينه مثل قول امرئ القيس في وصف حماره الوحشي بنبات تعرفه العرب ولا تعرفه باقي الأمم. فإذا كانت الصور المركبة خاصة بالشعر فإن الصور البسيطة خاصة بالخطابة. واستشهد أبو نصر بضرب المثل على المركبة البعيدة التركيب الخفية الاتصال ببيت لامرئ القيس ويستشهد بالنابغة وأبي تمام في وصف الأفعال في كلام كثير من البلغاء وفي كثير من الشعر غير المنسوب إلى أصحابه. ويضرب المثل بتغريب اللفظ من المعنى وإلا فإذا كان المعنى خفيا في اللفظ فهو قبيح بشعر من أبي العباس التطيلي الأندلسي، ومثال الأقاويل الانفعالية التي توجب استغرابا للشيء وعجبا به قول لأبي تمام وقول آخر لأبي نواس.
161
وقد يكون الشاعر مجهولا. فما يهم هو الشعر لا الشاعر، القول لا المؤلف. ويضرب المثل على مدح الذات دون الاكتفاء بمدح الآباء بشعر الشاعر ، وقد يقتصر المدح على الفضيلة ويستشهد ببيت واحد. كما يستشهد بالشعر على مدح الضرر الذي يلحق بالمسيء حتى ولو تضاعف حجم الضرر على حجم الإساءة. فالبادي أظلم، وعلى الباغي تدور الدوائر. ويضرب المثل بالشعر على الغضب لذم الأصدقاء. ويصور بالشعر تخطي الشر الدون الاعتماد على الأرفع، وتكرار الأسماء المترادفة لتصحيح الوزن والقافية، ووصف امرأة مخضوبة إليه بالحناء وعلى وصف الأفعال، والجزئيات الواقفة التي تنقل القول الواقع فيها إلى أمور كثيرة لموضع الشبه.
162
ويظهر التمايز بين اليونانيين وأهل أثينا من ناحية والعرب من ناحية أخرى، وتكون الصدارة للعرب.
163
فالخطابة أداة في المجتمع الأثيني وطبقا لعادة الكلام فيه، فأهل المدن فريقان. منهم من يرى تثبيت السنن التي تؤدب بها أهل المدينة، ومنهم من يمنع ذلك من الأمور التي تأتي من الخارج خاصة عند الحكام على ما كان عليه الأمر في موضع الحكومة في أثينا وفي بلاد اليونان وما يكون به الكرامة منها ما هو مشترك عند الأمم جميعا ومنها ما هو خاص بكل أمة مثل الذبائح والقرابين على عادة اليونانيين لتكريم الأموات وكذلك الألعاب التي كان اليونانيون يروضون بها صبيانهم، ولما اشتدت محاربة أعداء اليونانيين قتل ابن ملكهم فطلب جثته لإحراقها على عادة موتاهم وشكرهم قبولا للشر اليسير بعد الشر العظيم. ومن الاصطناعات النافعة، أن يختار الإنسان إنسانا عظيم القدر له أيضا عدو عظيم القدر فيفعل بعدو ذلك الإنسان الشر وبأصدقائه الخير كما عرض لأوميروس مع اليونانيين وأعدائهم فمدح أحد عظماء اليونانيين فخصه بالمدح وأصدقائه من اليونانيين وخص عدوا له عظيما بالهجو هو وقومه المعادين لليونانيين في حروب بينهما. فكان رب النعمة العظيمة بذلك عند اليونانيين وعظموه حتى اعتقدوه رجلا إلهيا، المعلم الأول لجميع اليونانيين.
164
ومن عادات الشرف عند اليونانيين توفير الشعور. والإكراه مؤذ كما عبر عن ذلك الشعراء اليونانيون. ويشتد الحياء حين النظر مثل الإيحاء لمن يتوانى في المحاماة عن الدفاع عن اليونانيين بأن اليونانيين ينظرون إليه. وكذلك يغطي من يقتل وجهه حتى لا ينظر ويستحي من العار كما عبر عن ذلك أحد شعراء اليونان. ولا يحسد البعداء في المكان الأخيار كما لم يحسد خيار اليونانيين الأخيار في جزيرة هرقلس بالأندلس. واليونانية هي أيضا اللسان. ففي اليونانية أسماء وسط بين المذكر والمؤنث وهي الجماد. والاستقامة في اللسان اليوناني هو الإعراب في اللسان العربي، ويكون المدح بحضور من يحبون الممدوحين كما قال سقراط إنه أسهل مدح أهل أثينية بأثينية. وينبغي لمن يشكك في المقدمات المأخوذة من السنة أن يفعل ما كان يفعله سقراط مع الخطباء من أهل أثينية بذم تلك المقدمات بتأويلها. فالتأويل ذم للقول.
أما العرب فهم أكثر ذكرا من اليونان؛ فللعرب عاداتهم في مخاطبة الجمهور، ومقدماتهم أشبه بالمثل. والأمثال التي هي أخص بالمقدمة المخترعة عند أرسطو مثل «ذكرني الطعن وكنت ناسيا» أو «بلغ الماء الزبى». وإذا وزنت الأمم أشعارها بالنغم والوقفات فإن العرب تزنها بالوقفات فقط. وإذا كانت عادة الأمم الأخذ بالوجوه في الأشعار مقام الألفاظ أي التشكيلات ويحذقون اللفظ الدال على المعنى إما للاختصار أو للوزن والإلذاذ فهو ما لم تجربه عادة العرب. وقد تكون كثير من أوجه الاتصال في التشبيهات غير بينة في نفسها أو غير بينة عند كثير من الأمم مثل كثير من التمثيلات التي جرت عادة العرب أن يستعملوها. وكان من عادة العرب تشبيه النساء بالظباء في الجنس القريب أو تشبيه أحد بالنوع مثل تشبيه الجميل بيوسف. والفصاحة في كلام العرب قول أكرمت زيدا لجوده وليس لجوده أكرمت زيدا. وربما تكون الأزمنة التي بين المقاطع والأرجل سكنات ووقفات على ما هو عليه في أوزان العرب وعند سائر الأمم مركب من سكنات ونبرات. وبعض النبرات تسمى عند العرب مواضع الوقف فإن العرب تستعمل الوقفات عوضا عن النبرات، والاستعارة موجودة في أشعار العرب وخطبها، والمجاز استعارة تشبيهية عند أهل لساننا الناظرين في الشعر والبلاغة. وكثير في أشعار العرب جعل الاختيار والإرادة لغير ذوات النفوس. والمبالغة والإفراط كثير في كلام العرب، وكذلك الغريب وغير المألوف والأقاويل الانفعالية التي توجب استغرابا للشيء وانفعالا به كثير في أشعار العرب وخطبها.
165
وفي كل لسان ألفاظ ليست منه كما يوجد في لسان العرب كثير من ألفاظ الفرس. والمزينة وهي ألفاظ في بعض أجزائها نغم، والمركبة مثل عبد قسي بدلا من عبد قيس وعبشمي بدلا من عبد شمس فليسا موجودين في لسان العرب على غير ما يفعل بعض المحدثين. وأما الإدغام فهو موجود في لسان العرب طبقا لمخارج الأصوات لعسر فيها؛ لذلك تتبدل إحدى الصادين ياء لتضاد المخارج؛ لذلك قل في لسان العرب اسم يوجد على وزن فعلى. ومثال الأسماء الباردة التي ينبغي أن يتجنبها الخطيب أربعة: الأسماء التي يصعب فهم معناها أو التي توحي بمعاني زائدة، وهذا لا يوجد في لسان العرب. ولم يوضع بعد في لسان العرب علامات الاتصال والانفصال التي تشمل القراءة. ويستعمل الأسلوب العربي في الإحالة إلى اللاشخصي باسم زيد أو عمرو.
166
وبالرغم من هذا الحضور الظاهر للموروث إلا أن كتاب الخطابة لم يؤثر في البلاغة العربية هذا التأثير الذي يعزوه إليه كثير من المستشرقين وروافدهم في الوطن العربي، أكثر أو أقل من كتاب الشعر وأثره في النقد العربي ليس فقط لحدود منهج الأثر والتأثر وأخطائه المنهجية، اعتبار اليونان هم الأصل والعرب الفرع، الحكم بالتشابه الخارجي وليس بالتعليل الداخلي، الحكم على الشكل وليس على المضمون، إفراغ الحضارة الإسلامية من مضمونها الإبداعي، ولكن لنقص البراهين التجريبية القائمة على تحليل المضمون لنص «تلخيص الخطابة».
167
ويحضر الموروث الشرقي في مقابل الوافد الغربي. فمن الشعراء الفرس يظهر ابن بابك الشاعر والملك أردشير بن بابك والفرس.
168
ومن الآداب الشرقية يحال إلى كليلة ودمنة. ويبدو التداخل بين اللسانين العربي والفارسي بوجود كثير من الألفاظ المشتركة في كليهما. ومع ذلك فلكل لغة خصائصها. كما يمكن ألا يوجد في لسان الفرس شكل خاص للمذكر والمؤنث. ويقال إنه وجدت عند الفرس رئاسة الأخيار وهي التي تكون أفعالها فاضلة فقط، وهو ما يعرف بالإمامية كما حكى أبو نصر، ويضرب المثل بحكايات كليلة ودمنة على الحديث الطويل المعلوم الكذب عند المتكلم والسامع وكثير من ألغاز أصحاب السياسات، وهي نوع من الأخبار المخترعة التي يسميها أرسطو كلاما وإن كان الاختراع أخص بالشعر منه بالخطابة، هي نموذج الأمثال المقولة بخصوص تغييرات الشيء إلى شبيهه.
169
وهناك الموروث التاريخي أيضا مثل ضرب المثل بما عرض للمتوكل من بني العباس على ضرورة التمييز بين الحراس المخلصين وغير المخلصين لما قتل وهو في مجلس شراب. ويعطى نموذج من التاريخ العربي لتصغير الملوك اعتمادا على التخييل مثل ما يحكى عن المنصور أن رجلا سبقه إلى دخول الكعبة عاصيا أمره، وكان الرجل قد سمع أمر المنع وعرف المنصور وتجاسر وقال «وهل أنت في أول أمرك إلا نطفة مذرة أو في آخر أمرك إلا جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل عذرة.» تحقيرا للمنصور. ويضرب المثل على عدم الحاجة إلى تفصيل المجمل بأبي بكر وعمر ولا حاجة في مدحهم إلى بيان فضلهم إلا أن يكون السامع جاهلا بالممدوح.
170
وتظهر الجغرافيا الإسلامية في مقابل الجغرافيا اليونانية، بالحديث عن أصنام هرقل في جزيرة الأندلس. ومثال جعل ما ليس بعلة علة أن يقال إن تدبير ابن أبي عامر كان من أجل شر قصده؛ لأن الفتنة بالأندلس كانت بعده.
171
وبالرغم من أن الخطابة موضوع أدبي أولا وأخلاقي اجتماعي سياسي ثانيا إلا أنه أيضا، كما يبدو في التلخيص، موضوع فقهي تشريعي، ويبدو ذلك في كثرة ظهور لفظ السنة مفردا والسنن جمعا وكأن التلخيص قد تحول إلى كتاب في الفقه بالإضافة إلى ألفاظ الشريعة والشارع والشرائع وصاحب الشرع وشرعي والفقهاء وبعض الألفاظ الفقهية مثل البيوع والمواريث والشهادات والإيمان وأهل الذمة والقاضي. وتظهر الألفاظ الكلامية مثل الله، إلهي، العدل والجور، والمدح والذم، والحسن والقبح، شكر المنعم، الإسلام، إسلامي، ملة الإسلام، مدن الإسلام، النبي، وبعض ألفاظ الحديث مثل الراوي، الحديث. ومن قصص الأنبياء قابيل وهابيل، وأصحاب عيسى، ويبين ابن رشد كيف أن مواضع اختلاف الفقهاء ترجع إلى مواضع سوفسطائية. فمثال الأفراد والجمع ما عرض في مسائل العدل في المواريث. فإنه لما وضع لكل واحد منها شريعة في حظه من الحال كان ذلك صادقا. فلما جمع ذلك من الغير لم يصدق. فإنه لا يوجد حال له نصف وثلثان. فاختلف الفقهاء، وكلها مواضع سوفسطائية مشتركة بين البرهان والجدل والخطابة.
172
ويأخذ شكر المنعم على نحو نقلي صرف، شكر المنعم والإساءة إلى المسيء حتى وإن كان التعبير اعتزاليا، وكذلك تعبيرات العدل والجور والمدح والذم يستعملان في الأمور الإنسانية في المشاجرات وبالمقايسة إلى من سلف. ويضرب المثل على إبطال الحمول من الشريعة الإسلامية مثل كيف يكون الإنسان مجرحا فأي خمر شربها، وأي زنا أتاه، وأي نفس قتلها، وأي مال أكله، وأي صلاة تركها على سبيل النفي، وكيف لا يكون فلان عدلا، وأي صلاة فوتها أو أي زكاة لم يؤدها أو أي منكر عرف أنه أتاه؟
173
ومثال المواقع المتضادة بين اللسان والضمير أن يقول قائل حاثا على اجتناب الخمر إنها رجس، وإنها محرمة ومفتاح الآثام باللسان، ويقول آخر إنها تنفع المرء في صحته وتجيد خلقه وذهنه في الضمير، ويضرب المثل على الخصومة في قدر الجور على من جار دون رفع ذلك الحاكم على وجود نفس الاختلاف «عند الفقهاء في ملتنا».
والتصديقات غير الصناعية أي التي لا تكون عن قياس خطبي أكثر تعلقا بالمشاجرية أكثر من تعلقها بالمشاورية والمنافرية وهي خمسة: السنن، والشهود، والعقود، والعذاب، والإيمان.
السنن نوعان: خاصة وهي السنن المكتوبة وعامة وهي السفن غير المكتوبة مثل بر الوالدين وشكر المنعم؛ الأول يكون الفعل فيها إلزاما، والثاني طوعا واختيارا. وبينهما يقع الحجاج، الاحتجاج بالعام ضد المكتوب لدرجة التأويل والتزييف للمكتوب لدرجة إعطاء الأولوية للشفاهي على المدون. العام للخاصة والمدون للعامة، العام ملائم للطباع والخاص قاس وشاق على الناس، الالتزام بالعام أفضل، وترك المكتوب أنفع، العام أبدي والخاص وقتي كما هو الحال في ضرورة دفن الموتى، العام يقيني والمكتوب ظني، ومهمة الحاكم التوفيق بين السنتين وهو ما يحاوله الفقهاء أيضا. وربما هو التعارض الشهير في الفقه بين أهل الرأي (السنة غير المدونة) وأهل الأثر (السنة المدونة). وفي حالة استحالة الجمع يتم التوقف حتى تتبدد شبهة الاستحالة . فإذا كانت السنة العامة هي سبب التضاد قيل إنها مبدلة مزيفة تحتاج إلى استنباط وتحديد. وفي هذه الحالة تكون الأولوية للسنة المكتوبة. السنة العامة تقتضي حكما عاما بديهيا متفقا مع تجربة البشر مثل «أحسن إلى مثل من أحسن إليك.» والسنة المكتوبة ملزمة وإلا فلا فائدة من وجوبها. ميزتها أنها من وضع أهل الصناعة، وأنهم هم حكام المدن وأصحاب القوانين.
174
فالسنة تعني هنا القانون وربما ترجمة له. فبعض المدن لا تبيح السنة فيها التكلم بين يدي الحكام بالأشياء التي تخيل الحكام وتستعطفهم إلى أحد المتكلمين بل تبيح فقط الأمور التي توقع التصديق فقط. فمن المدن فريقان؛ الأول من يريد تثبيت السنن التي يؤدب بها أهل المدينة، والثاني يمنع ذلك. وبعض الظلامات وما ليس بظلامات فيه سنن، وبعضها فيه سنن مكتوبة أو غير مكتوبة لرسم العدل والجور، والخير والشر، الخير بحسب السنن غير المكتوبة هي الأفعال التي تنال الحمد والتكريم. والشر بحسب السنن غير المكتوبة هي الأفعال التي تنال الذم والاحتقار. أما الخير والشر في السنن المكتوبة فإنهما ثابتان دون زيادة أو نقصان، ينطبقان على الجميع، زيادة الخير حسنة وزيادة الشر سيئة. ولا يمكن وضع سنة عادة واحدة لكل الناس في جميع الأزمنة والأمكنة. بل تكون منفعتها لأطول زمان ممكن. الظلم في السنن غير المكتوبة أي تعديلها أعظم من الظلم في السنن المكتوبة. فالسنن غير المكتوبة شيء اضطراري طبيعي مثل بر الوالدين، وشكر المنعم. أما السنن المكتوبة فليست اضطرارية. وتعديلها أيضا ظلم عظيم، ويضرب المثل بالسنة على الاشتراك في الخير والشر. فللتهوين على أحد أمر السنة فيقال له إن فلانا خالفها فلم يضره شيء أو لتعظيمها بأن يقال إن فلانا تمسك بها فدام سلطانه.
175
والأمور الخارجية أي قوانين المدن خارج صناعة الخطابة. ويترك الأمر لصاحب الشريعة لتحديد العدل والجور. وهو ما يحتاج إلى زمن طويل لأنه لا يمكن لصاحب السنة أن يصنعه وحده. والتشاجر حول السنن ليس بها نفع كبير لأنها تضع ما هو عدل وما هو جور، ولا دخل للخطابة فيها ؛ لذلك لا يجوز الخطابة أمام الحاكم في موضوع قدرته السنن ووضعه صاحبها، والنظر في وضع السنن ليس يسيرا في المدن بالرغم من أن المدن يسلم وجودها بالسنن. وواضعها ينبغي أن يعرف أصناف السياسات وأنواع السنن النافعة في كل منها حتى لا يدخل الفساد على المدينة؛ فقد تفسد المدينة بسبب فساد السنن باستثناء المدينة الفاضلة، إذ كانت السنة مفرطة في اللين أو مفرطة في الشدة، فضيلة الاعتدال الإسلامي، واستئناف التراث الفارابي، كما ينبغي لواضع السنن معرفة السنن السابقة والاستئناس بها أي تاريخ التشريع. فالحاضر ما هو إلا تراكم للماضي ومعرفة أخلاق الناس وعاداتهم حتى تتحقق السنن النافعة لجميع الأمم مهما اختلفت طباعها. هذا في صنعة السياسة وليس في صنعة الخطابة. والسنن نافعة خاصة بالسياسات. ولا مجال للإقناع الخطبي بها. تصديقها في منفعتها. وهي السنن العادلة حتى ولو اختلفت السياسات، والسياسات أربع: الجماعية، والخسة، وقوة التسلط، والوحدانية أي الكرامة عودا إلى الفارابي وأفلاطون وتلخيص السياسة. وهي سنن موضوعة له تتبدل على مر الدهور مثل سنتنا الإسلامية، السنن سياسة أما الأقاويل المدنية فخطابة.
176
وتتراتب السنن بعضها فوق بعض. فكل سنة لها سنة تفوقها.
وبالرغم من التفصيل في السنن إلا أن الشهود والعقود والعذاب والأيمان أقل تفاصيل؛ فالشهادة نوع من التصديقات، والعقد هو وضع شرائط بين الناس للتصديق من الطرفين، والشرائط نوع من السنن، فإذا تعارض الشرف والسنة تكون الأولوية للسنة؛ لأنها ترعى المصالح العامة للجميع في حين أن العقد يرعى المصلحة الخاصة بين طرفين. والسنة المكتوبة أكثر رعاية للمصالح الخاصة من السنن العامة. ويقوم العقد على خديعة وليست السنة. والقائم على المدينة هو المسئول عن مراعاة العدل في العقود. وإذا وضعت العقود قسرا فإن السنن ليس فيها قسر، ويبطل العقد عقد آخر متقدم عليه أو لاحق به. أما العذاب فهو شهادة تصديق، توجب العقوبة في حالة الكذب؛ لذلك درأ الشرع «عندنا» الحدود التي تتعلق بالإقرارات التي تحت الإكراه، والأيمان تستعمل في أربعة مواضع: الأخذ والعطاء كما هو الحال في البيوع، عدم الأخذ والعطاء ، العطاء دون الأخذ، الأخذ دون العطاء. واليمين إما أن يكون من المدعي أو من المدعى عليه. وتصديقه بالضمير، وهو ملزم للخصمين، اليمين حكم شرعي ألزمه المرء نفسه طوعا وعن علم ولا يجب مخالفته. تلك هي التصديقات بلا قياس.
177
وإذا كان هناك فرق بين الحاكم والناظر، وأن الأول أعتى من الثاني لأن الحاكم لا يطلب منه دليل أما المناظر فهو مساو للمتكلم ومطالب بالدليل إلا أنه في ملة الإسلام قد يكتفى في الأقاويل الخصومية بقول الحاكم دون المتكلم، لأن قول الحاكم مضاف إلى أشياء من الخارج مثل الشهادات والأيمان. والفرق بين الشاهد والحاكم أن الشاهد يشهد بصدق النتيجة والحاكم يشهد بصدق القياس المنتج لها، والمناظر يناظر على إبطالها. وأكثر الأقاويل الخلقية والانفعالية إنما تستعمل مع الحكام، والحاكم في الأمور الكائنة هو الذي ينصب الرئيس مثل القاضي في مدن الإسلام على عكس المناظر بقول الحكمة الخطبية.
178
ويظهر الدين صراحة في العقوبات جزاء على هتك حرمة بيت الله وحرمة ماله والمظالم التي تقع في بيوت الله وأوليائه؛ لذلك قال الفقهاء «عندنا» إن من قال في صاحب الشرع عليه السلام إن زره وسخ قتل.
179
ومن الظلم أخذ أموال أحد وتعذيبه خاصة إذا كانوا من الصالحين العادلين ذوي الفضائل، ويكون ما يقع لهم فخرا وكرامة؛ لذلك يقصد كثير من ملوك الجوهر إهانة العلماء بالضرب فكان فخرا لهم في الحياة كما عرض لمالك وغيره من الفقهاء. وتعرض لهم بعد الموت كرامات عظيمة كما عرضت لعيسى والتابعين له. ومن الظلم ما كان متبعا لم يسبق إليه أحد من قبل مثل قتل قابيل لهابيل، والغرامة والخسران على من يوصل الخيرات للناس، وإلقاء الناس إلى السباع كما هي العادة عند بعض الأمم؛ لذلك زيد في عقاب الفرية التفسيق ورد الشهادة «عندنا». والإساءات هي التي تكون بين الله والعبد. وتكون الناس في أحوال جميلة فيما بينهم وبين الله آمنون، والغضب يعطي الإنسان شجاعة، خاصة لو كان الغاضب مظلوما ويعتقد أن الله تعالى ناصر للمظلومين.
وللشريعة معنى قريب من السنة. وهي أيضا مكتوبة وغير مكتوبة توصي بالعقوبات أكثر مما توحي بالتكريمات. والشارع أيضا له نفس المعنى، واضع العقوبات. والسنة هي القانون الذي طبقا له يحكم بتوقيع العقاب. وقد تكون السنة بوحي من الله حينئذ تكون حاكمة على الشرط. والحلف كذبا استهانة بالله وحرمته. ويضرب المثل بتفويض الأمر إلى الله، وإمكان علم ذلك إلى الله عز وجل على تضارب الانفعالات، بين الحزن والفرح، واليأس والأمل، والشك والإيمان. وإذا نال الإنسان من العطايا أكثر مما يستحق يقال إنه من عند الله، وهي من الناس. كما يضرب المثل على مواضع التقابل بالتضاد قول القائل إن الموت شر هذا خلق الله خاصة ليس بمائت. ومثال أن يلحق بشخص أحد الشيئين قول القائل: إن نطقت نطقت إما بالحق وإما بالكذب. فإن نطقت بالكذب أبغضني الله وإن نطقت بالحق أغضبني الناس، فالواجب السكوت. أو يقول: بل الواجب التكلم لأنك إن تكلمت بحق أحبك الله وإن تكلمت بباطل أحبك الناس. واللازمان لا يمكن اجتماعهما. وذلك أن محبة الله هي العدل ومحبة الناس هي الجور.
180
ومثال على أن الضدين أو المتقابلين واحد بعينه قول القائل إنه سواء في الإثم والغربة أن الإله مخلوق وأنه لا يموت، أو قوله إنه ليس بمخلوق ويموت؛ إذ يلزم عنهما أن يكون الإله ليس بإله. ومن هذا أيضا قول القائل: سواء عصيت الله أو عصيت الرسول ويضرب المثل بصدق المقدمات وكذب النتائج مثل سؤال رجل من النصارى: أليس الآباء والأبناء من جنس واحد؟ فإذا قيل نعم قال فعيسى إذن ليس ابنا لله.
181
ويتضح الموروث الأصيل، القرآن والحديث أكثر من القرآن، ففي أنواع التصديقات الثلاثة، الأول منها إثبات المتكلم فضيلة نفسه التي يكون بها أهلا أن يصدق يذكر ابن رشد آية على لسان هود
وأنا لكم ناصح أمين . ويستعمل القرآن أيضا كمثل لبيان عن الكناية عن الشيء بضده مثل
كانا يأكلان الطعام
كدليل على النبوة. ويضرب المثل على الكرور، أن يكون أول الكلام مثل آخره أو بتعبير البلغاء رد العجز على الصدر بآية
الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة . كما يضرب المثل بالقرآن على الأقاويل الخطبية المفصلة بالصيغ المتنقلة آية
فاصبر صبرا جميلا * إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا . فألفاظ: جميلا، بعيدا، قريبا، كلها على صيغ واحدة وشكل واحد، وهو كثير في الكتاب العزيز، وهو نموذج الكلام البليغ. وأخيرا يضرب المثل بالقرآن على الاعتماد على الشيء كأنه نصب العين بطريقة المقابلة مثل
وبشروه بغلام عليم * فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم . ويضرب المثل على مد الحروف في قوافي الشعر بآية
وتظنون بالله الظنونا . كما يضرب المثل بنطق اللفظ وقصد معنى آخر بما قالته اليهود
راعنا
للإيهام بأنهم يقولون: ارعنا السمع وهي تريد غير ذلك.
182
والأحاديث النبوية أكثر من الآيات القرآنية. يستعمل الحديث كمثل على النوع الثاني من الشهود على الأشياء المستقبلة. فإذا كان النوع الأول هو الكهان فالنوع الثاني ذوو الأمثلة السائرة التي تمنع أو تأذن في العمل كما قال الرسول: «صلة الرحم تزيد في العمر.» كما يستعمل الحديث كمثال على لغة البدن والإشارة كعامل مساعد على لغة البيان والألفاظ عندما قال الرسول في آخر خطبة: «بعثت أنا والساعة كهاتين.» وأشار بأصبعيه يقرنهما. وتنتهي كل مقالة بالبسملة والصلاة على محمد وآله وتنتهي بالحمدلة.
183 (8) تلخيص الشعر
وهو آخر الكتب المنطقية الثمانية. أصغر من الخطابة، بل وأصغر حجما من الترجمة العربية القديمة لكتاب الشعر.
184
فهو تلخيص بالمعنى الدقيق أي تركيز وضم وجمع وإضافة وليس شرحا وتفصيلا وإسهابا وإضافة وتأويلا كما هو الحال في تلخيص الخطابة.
وهو مقسم إلى فقرات كل منها تبدأ بإحدى صيغ أفعال القول وهي الصيغة النمطية «قال». مجرد العبارة الأولى من أرسطو دون إكمال الفكرة ثم يبدأ التلخيص أي الشرح وعرض الفكرة، فلا يوجد نص من كتاب الشعر له بداية ونهاية، كما هو الحال في التفسير.
185
ويظهر التقابل بين الأنا والآخر، بين النحن والهم إدراكا للتمايز بين الثقافات، والمقارنة بين أشعارنا وأشعارهم، وأوزاننا وأوزانهم، ولساننا ولسانهم، وعاداتنا وعاداتهم، وألفاظنا وألفاظهم.
186
وأحيانا يكون التركيز على «الهم» فقط مثل ألفاظهم، عندهم، أشعارهم، شعرائهم ، بلادهم، طباعهم، عاداتهم، لسانهم، قولهم، تشبيهاتهم.
187
وأحيانا يكون التركيز على «النحن» فقط مثل أهل زماننا، عندنا، بيننا، شعراؤنا، لساننا.
188
وهناك إحساس بتقدم التاريخ عند ابن رشد بين المتقدمين والمتأخرين؛ فقد كان الأقدمون من واضعي السياسات يقتصرون على تمكين الاعتقادات في النفوس بالأقاويل الشعرية حتى شعر المتأخرون بالطرق الخطبية وكأن هناك تقدما من الشعر إلى الخطابة.
189
كما يتحدث من تسمية بعض القدماء الشيخوخة عشية العمر، والعشية شيخوخة النهار كنموذج للاسم المنقول.
ويحال إلى كتاب الخطابة إذ يقتصر الشعر على الوزن واللحن ولكن الخطابة تجعل القول إثم بإضافة الإشارات والأخذ بالوجوه. والأقاويل الانفعالية والخطبية وضروب الانفعالات أقرب إلى الخطابة منها إلى الشعر.
190
والتلخيص هو بيان للقصد والغرض، والغرض تلخيص ما في كتاب أرسطو في الشعر من القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر سواء الموجود في أشعار العرب أو في أشعار غيرهم من الأمم، ويتضح من مسار الفكر أيضا على أن الغاية من التلخيص هو البيان والإيضاح باستعمال أفعال البيان، ومن الوضوح الفكري تأتي القسمة العقلية الجامعة المانعة للموضوع؛ فالتشبيهات ثلاث وفصولها ثلاثة، وأصنافها ثلاثة. وإذا ما استقرئت الأشعار تأكد أنه لا يوجد صنف أو فصل رابع.
191 (أ) الوافد
ومن الوافد يتضح أوميروش ثم أرسطو ثم أنبادقليس وسقراط
192
فأشعار أوميروس يوجد فيها الوزن واللحن في حين أن أقاويل سقراط وأنبادقليس بها الوزن فقط. وكانت طريقة أوميروش أنه كان يأتي في تشبيهاته بالمطابقة والزيادة المحسنة أو المقبحة. فمن الشعراء من أجاد في المطابقة فقط، ومنهم من أجاد في التحسين والتقبيح، ومنهم من أجاد في الاثنين مثل أوميروش. ويثني أرسطو على أوميروش لأنه هو الذي أعطى مبادئ هذه الصنائع. ولم يسبقه أحد في صناعة المديح بعمل يعتد به ولا في صناعة الهجاء ولا في غير ذلك من الصنائع المشهورة عندهم، وميزة أوميروش أنه يلتزم في شعره بغرض واحد. ولا يتنقل بين الأغراض كما يفعل باقي الشعراء.
وذكر أوميروش شعرا في وصف قضية عرضت لرجل عن طريق التشبيه والمحاكاة، وهي مدائح الأشياء في غاية الفضيلة ، وهي مهمة الشاعر، محاكاة كل شيء كمحاكاة الأخلاق وأحوال النفس. وقد خاطب أوميروش في شعره أيضا الديار والأطلال، وسمع ردودها عليه. كما أثنى أرسطو على أوميروش لإبداعه في الأشعار القصصية وفي اختيار أجود الأوزان وأليقها للأشعار وأنواعها، ومن قوانين الشعر أن يكون كلام الشاعر يسيرا بالإضافة إلى الكلام المحاكي، وهو ما فعله أوميروش، فقد كان يعمل صدرا يسيرا ثم يتخلص إلى ما يريد محاكاته.
193
ويأتي أرسطو بعد أوميروش. فالغرض هو تلخيص ما في كتاب أرسطوطاليس في الشعر من القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر، ليس في الشعر اليوناني وحده أو في الشعر العربي وحده. فالشعر خاص بكل أمة، وما يوجد في لسان قد لا يوجد في لسان آخر، الغرض إذن الخروج من الشعر الخاص إلى الشعر المطلق كما أراد ابن سينا قبل. وابن رشد يجتهد رأيه في فهم ما ذكر أرسطو من الأقاويل المشتركة للأكثر أو للجميع، جميع أصناف الشعر والخاصة بالمديح، فتلخيص ابن رشد وكتاب أرسطو كلاهما يساهم في وضع القوانين العامة لصناعة الشعر.
194
ومن الوافد الشرقي يذكر كتاب كليلة ودمنة كنموذج للأقاويل المخترعة الكاذبة كنوع من أنواع المحاكاة، مثل الأمثال والقصص. في حين أن الشعر لا يتكلم إلا في الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود.
195 (ب) الموروث
ويطغى الموروث على الوافد خاصة الموروث الشعري. ويأتي في المقدمة المتنبي ثم امرؤ القيس ثم أبو تمام، ثم ذو الرمة، ثم النابغة، ثم الأسود بن يعفر، والأعشى، والبحتري، والخنساء، وزهير، وعنترة، وأبو فراس، وقيس المجنون، والكميت، ومتمم بن نويرة، وابن المعتز، والمعري والهذلي.
196
ونظرا لانتشار الموروث في كل صفحات التلخيص فإنه يمكن عرض الشعراء معا دون عرضهم شاعرا شاعرا؛ فالموضوع الواحد المستقى من الشعر العربي له أكثر من مثل عند مجموعة من الشعراء. فالقصد هو مجموع الموروث الشعري وليس شعر كل شاعر بمفرده بالرغم من تفرد المتنبي وامرئ القيس وأبي تمام وذي الرمة والنابغة على غيرهم.
يضرب المثل ببيتين للمتنبي لبيان أن الاستدلال والأداة في غير المتنفسة هو الغالب على أشعار العرب. في البيت الأول استدلال وفي الثاني إرادة وهما صنفا المحاكاة التي في غاية الحسن.
197
ويضرب المثل بشعر للمتنبي وامرئ القيس والنابغة على الشعر السوفسطائي الذي يقوم على الغلو الكاذب. وقد يوجد من المطبوع من الشعراء قول محمود مثل شعر المتنبي، ويضرب المثل بأشعار المتنبي وأبي تمام على الربط بين الأجزاء في النسب وهو المسمى الاستطراد ربط صدر القصيدة بالجزء المديحي، ويذهب على الحل، تفصيل الجزءين أحدهما من الآخر يؤتى بهما مفصلا.
وأفضل أنواع الاستدلال الشعري والإرادة في غير المقدمة بيتان للمتنبي. ويضرب المثل بالمتنبي مع أبي تمام بالمدائح دون صدور. والتشبيه والمحاكاة هي مدائح الأشياء في غاية الفضيلة، محاكاة الأخلاق وأحوال النفس مثل قول المتنبي يصف رسول الروم إلى سيف الدولة. والمحاكاة لأمور معنوية بأمور محسوسة إذا كانت لها أفعال مناسبة في شعر المتنبي، وهناك شعر أدخل في التصديق والإقناع منه إلى التخييل وأقرب إلى المثالات الخطبية منها إلى المحاكاة الشعرية مثل بعض أشعار المتنبي وأبي فراس ومتمم بن نويرة والخنساء والهذلي.
198
ويستعمل المحدثون من الشعراء بعض الأسماء المنقولة إلى الصنائع على طريقة الاستعارة أو استعماله في تعريف لم يستعمله أحد من قبل مثل المتنبي. ويضرب المثل بشعر المتنبي على الموافقة في بعض اللفظ وبعض المعنى، الأسماء المشتقة من تصريف واحد، ويقول المعري على الموافقة في كل اللفظ فقط مثل الأسماء المشتركة والمتقدمة في بعض اللفظ فقط قول حبيب والمتنبي. ويؤخذ المثل من المتنبي عندما يكون صورة البيت الأول صورة الثاني وصورة الثاني صورة الأول وهو المتناسب. وحروف التشبيه عند العرب تقتضي الشك، وكلما كانت المتوهمات أقرب إلى وقوع الشك كانت أتم تشبيها. وكلما كانت أبعد من وقوع الشك كانت أنقص تشبيها، وهي المحاكاة البعيدة وينبغي أن تطرح مثل قول امرئ القيس في الفرس.
199
وفي شعر امرئ القيس أيضا نماذج لمحاكاة الأمور المعنوية بأمور محسوسة، أفعال مناسبة للمعاني. أما ما كان غير مناسب فينبغي أن يطرح وهو كثير في أشعار المحدثين مثل أبي تمام وهو محدث بالنسبة لشعراء الجاهلية ، ويستشهد بشعر امرئ القيس على ذكر الشخص بشبيهة كنوع من المحاكاة، وبعوائد الأمم في التشبيهات. ويضرب المثل بابن المعتز على المحاكاة بالمجتمع في وصف القمر في تنقصه، وبامرئ القيس على ترك المحاكاة الشعرية إلى الإقناع والأقاويل التصديقية خاصة لو كان مجبنا قليل الإقناع في تبرير الجبن.
200
ويقيم العرب الجمادات مقام الناطقين في مخاطباتهم ومراجعاتهم إذا كانت فيها أحوال تدل على النطق مثل مخاطبتهم الديار والأطلال ومجاوبتها إياهم مثل أشعار ذي الرمة وعنترة. ويضرب المثل بشعر الكميت وامرئ القيس على الموازنة في أجزاء القول عن طريق المناسبة مثل الملك والإله على الرغم من اعتراض البعض أنه غير متناسب. ويضرب المثل بشعر النابغة على التغيير من الإيجاب إلى السلب وعلى جمع الأضداد في شيء واحد. ويضرب المثل بشعر الأسود بن يعفر على الأشعار القصصية وهو قليل في لسان العرب وكثير في الكتب الشرعية.
201
ويضرب ابن رشد مثلا لقول الأعشى على المديح القائم على محاكاة الأمور الموجودة وليس المخترعة تحريكا للأفعال الإرادية لحصول التصديق الشعري لأن التخييل بأمور غير موجودة لا يوافق كل الطباع بل قد يزدريه كثير من الناس بالرغم من أن شعر الأعشى ليس عن طريق الحث على الفضيلة، ويضرب المثل على المحاكاة بالتذكير بأشعار متمم بن نويرة وقيس المجنون والخنساء والهذلي، وتفنن العرب في الخيال كثير. يدخل في النسيب والرثاء كما قال البحتري.
202
وما يهم هو الشعر لا الشاعر لذلك يذكر ابن رشد كثيرا من الأمثلة دون نسبتها إلى أصحابها؛ فيضرب المثل بالشطر الأول من بيت شعر على النوع الثاني من التخييل والتشبيه وهو أخذ الشبه بعينه بدل الشبيه
203
ويضرب المثل بقول الراجز على طرح التشبيه بالخسيس، وأيضا مدح أحد الشعراء لسيف الدولة، وبأشعار العرب على المحاكاة بالتذكير، وتذكر الأحبة بالخيال، وإقامة الجمادات مقام الناطقين في مخاطبتهم ومراجعتهم إذا كانت فيها أحوال تدل على النطق، وبشعر أحد الفقهاء لتحريض عبد الرحمن الناصر على حسداي اليهودي كنموذج القول الذي لا يخرج عن الوقار. ويضرب المثل بشطر للموافقة في كل اللفظ وفي كل المعنى وبالفرق بين القول والشعر عندما يوضع في القول الموازنة والمقدار وتتغير الأسماء مثل قول أحد الشعراء. ويضرب المثل على تحريف المحاكاة من بعض أشعار الأندلسيين المحدثين في وصف الفرس وعلى تشبيه الشيء بضده مقبول أحد الشعراء. كما يضرب المثل على التحول من القول الشعري إلى الخطابي بشرط الصدق بقول أحد الشعراء معتذرا عن الفرار.
وكما تذكر الأشعار دون الشعراء يذكر الشعراء دون الأشعار؛ إذ يضرب المثل بالمتنبي وحبيب على الشعراء الذين اعتادوا القول في الأشياء الكثيرة الخواص أو هم بفطرتهم معدون لمحاكاتها أو اجتمع لهم الأمران جميعا، ويضرب المثل بشعر ذي الرمة على الألفاظ غير المشهورة.
204
ويتوارى الموروث أمام الموروث الشعري.
205
ويبدأ الموروث الفلسفي بالإحالة إلى الفارابي المعلم الثاني وحده. فابن رشد يستشهد به على أن أكثر أشعار العرب في النهم والكريه لأن النسيب حث على الفسوق. وفي الخاتمة يستشهد به ابن رشد على أن في كتاب الخطابة نزر يسير بالإضافة إلى كتاب الشعر لأرسطو في القوانين الشعرية.
ويظهر لفظ العرب ولا يكاد يذكر لفظ اليونان أو اليونانيين.
206
ويضاف اللفظ إلى عدة مضافات أخرى مثل أشعار العرب، ثم لسان العرب، ثم العربي بلا مضاف، ثم قول العرب، وشعراء العرب، ثم كلام العرب، وتشبيهات العرب، وعادة العرب، ولغة العرب.
207
فأشعار العرب ليس فيها لحن وإنما فيها إما الوزن فقط وإما الوزن والمحاكاة معا.
وأجزاء صناعة المديح الستة: الأقاويل الخرافية والعادات والوزن والاعتقادات والنظر واللحن. وهذا كله لا يوجد في أشعار العرب. وإنما يوجد في الأقاويل الشرعية المديحية. ولا توجد مدائح الفضائل في أشعار العرب بل في السنة المكتوبة أشعار العرب خلية من مدائح الأفعال الفاضلة وذم النقائص. والمدائح الأربعة للفعل الإرادي الفاضل غير موجودة في أشعار العرب. ويعسر وجود في أشعار العرب من التخييلات والمعاني ما يناسب الأوزان الطويلة والقصيدة، وربما كان الوزن مناسبا للمعنى دون التخيل أو للتخيل دون المعنى أو غير مناسب لكليها.
208
وليس يعسر وجود احتمالات ذلك في أشعار العرب، المطابقة والتحسين والتقبيح. وكثيرا ما يعرض في أشعار العرب المحدثين وبخاصة عند المديح أنه إذا عن لهم شيء ما من أسباب الممدوح مثل سيف أو قوس اشتغلوا بمحاكاته وأضربوا عن ذكر الممدوح. وهذا النوع من الاستدلال هو الغالب على أشعار العرب أي الاستدلال والإرادة في غير المتنفسة، وإقامة الجمادات مقام الناطقين في مخاطبتهم ومراجعتهم إذا كانت فيها أحوال تدل على النطق.
ويوجد في أشعار العرب من أجزاء المديح ثلاثة. أولا الجزء الذي يجري مجرى الصدر في الخطبة الذي يذكر فيه العرب الديار والآثار ويتغزلون فيه، والثاني المدح. والثالث ما يجري مجرى الخاتمة دعاء للممدوح أو تقريظا لشعره. والمحاكاة لأمور معنوية بأمور محسوسة كثيرة في أشعار العرب. والمحاكاة التي تقع بالتذكير كثيرة أيضا في أشعار العرب. وتذكر الأحبة بالديار والأطلال. وما يستعمله السوفسطائيون من الشعراء، وهو الغلو الكاذب، والحل بين أجزاء المديح كثير في أشعار العرب.
209
والاستدلال الفاضل والإرادة إنما تكون للأفعال الإرادية وهو قليل في أشعار العرب. والرمز واللغز هو القول الذي يشتمل على معاني يصعب اتصالها حتى تقابل أحد الموجودات ويكون بحسب الألفاظ غير المشهورة، وهو غير ممكن أو بحسب الألفاظ غير المشهورة وهو ممكن وذلك كثير في شعر ذي الرمة من شعراء العرب، ويتفرد كل شاعر عربي بخصائصه داخل الخصائص العامة لأشعار العرب. فلا بد من معرفة من الغالب على شعره من هذا النوع من الألفاظ المشهورة المبتذلة من شعراء العرب. ووجود بعض أنواع الأشعار في الشعر العربي قد لا يرى من أول وهلة ولكنه يحتاج إلى بحث وتدقيق مثل تحريف المحاكاة ومثله يمكن أن يتفقد في أشعار العرب.
210
والاسم المعمول المرتجل الذي يخترعه الشاعر اختراعا ويكون أول من استعمله غير موجود في أشعار العرب بل في الصنائع الناشئة.
ويكون التشبيه في كل لسان بألفاظ خاصة به مثل كأن وإخال وما أشبه ذلك في لسان العرب. والألفاظ البينة الدلالة والتي تدل على أشياء بعينها لا على أشياء متضادة أو مختلفة هي التي تسمى في لسان العرب الفصاحة، وهو قول ظاهر الصدق. والتعديلات للاسم والقول والكلمة. والاسم المعرف هو الاسم المضاف أي المنسوب إلى شيء بمنزلة الأسماء التي تسمى المنصوبة في لسان العرب أو المخفوضة. وهناك أسماء دخيلة في لسان العرب مثل الإستبرق والمشكاة وغيرها من الأسماء الأعجمية. والأسماء المركبة تصلح للوزن الذي يثنى فيه على الأخيار من غير تعيين رجل واحد منهم. وهذه الأسماء قليلة في لسان العرب مثل العبشمي المنسوب إلى عبد شمس، وهي الأسماء المركبة من مجموع اسمين مثل عبد الملك وعبد القيس. والأشعار القصصية قليلة في لسان العرب مع أنها كثيرة في الكتب الشرعية. والمفارق والمعقول لا يوجدان في لسان العرب. ومن أغلاط الشعر الأسماء المتضادة، مثل: الصريم في لسان العرب والقرء والجلل وغيرها مما يعرفه أهل اللغة. وتستعمل العادة العربية في ضرب الأمثلة بأسماء العرب.
211 «جاء شبيه يوسف» أو بالإشارة إلى فلان «لم يأت إلا فلان».
وكثير مما في كتاب الشعر قوانين خاصة بأشعار اليونان وعاداتهم فيها. وربما لا توجد في كلام العرب أو غير موجودة في غيره من الألسنة.
212
ولا تتحدث العرب على الفضائل في أشعارها كما تحث على فضيلتي الشجاعة والكرم.
على عكس اليونانيين الذين لا يقولون شعر إلا وهو موجه نحو الحث على الفضيلة أو الكشف عن الرذيلة أو ما يفيد الآداب والمعارف وهو الشعر الأخلاقي التعليمي. وتصرف العرب والمحدثين في الخيال متفنن وأنحاء استعمالهم كثير. وقد عرض للعرب في هذه الأشياء أشعار المديح في الأوزان والأجزاء والمحاكاة والقدر، أمر خارج عن الطبع، ولم يذكر في كتاب الشعر ما هو خاص بأمة واحدة بل ما هو مشترك بين جميع الأمم. ومن أغلاط الشعر تشبيه الشيء بضده مثل قول العرب «سقيمة الجنون» وجرت عادة العرب بتذكر الأحبة بالخيال وإقامته مقام المتخيل.
وجل تشبيهات العرب راجعة إلى هذه المواضع محاكاة الأشياء المحسوسة بأخرى محسوسة؛ لذلك كانت حروف التشبيه تقتضي الشك. وكلما كانت التشبيهات أقرب إلى المطابقة كانت أتم. وكلما كانت أبعد كانت التشبيهات أنقص وحسن القول وصدقه عندما يكون التغيير فيه يسيرا مثل قول القائل: «يا معشر العرب لقد حسنتم كل شيء حتى الفرار».
وتظهر بعض أسماء المواقع من الجغرافية العربية في مقابل الجغرافية اليونانية. فيشير ابن رشد إلى الموشحات والأزجال «وهي الأشعار التي استنسقها في هذا ألسان أهل هذه الجزيرة.» ويعني بها الأندلس. ويضرب المثل بأقوال بعض المحدثين الأندلسيين على تحريف المحاكاة.
213
وتظهر بعض المصطلحات التراثية مثل الحسن والقبح والتحسين والتقبيح في الشعر الذي أجاد فيه بعض الشعراء. كما أجاد أوميروس فيهما وفي المطابقة في آن واحد. كما تظهر بعض المصطلحات القرآنية من قصص الأنبياء مثل المزامير ووجود الترنم في المزامير والوزن في الرقص. وفي مقابل أشعار العرب توضع الأقاويل الشرعية المديحية. ففي أشعار العرب لا توجد إبانة صواب الاعتقاد إنما توجد في الأقاويل الشرعية المديحية. وتوجد المحاكاة في الأشعار وفي الأقاويل الشرعية فهي أقاويل مديحية تدل على العمل مثل ما ورد من حديث يوسف وإخوته وغير ذلك من الأقاصيص التي تسمى مواعظ. وهذا هو السبب في أن كثيرا من الذين لا يصدقون بالقصص الشرعي يصيرون أراذل لأن الناس يتجهون بالطبع لأحد قولين، برهاني وغير برهاني. وهناك صنف من الناس لا يتحرك لكليهما. ومن الشعراء من يدخل في المدائح محاكاة أشياء يقصد بها التعجب فقط من غير أن تكون مخيفة ولا محزنة. وكثير منها مقصود في المكتوبات الشرعية. وهناك بعض القصص مثل قصة إبراهيم في أمر ابنه في غاية الأقاويل الموجبة للحزن والخوف. وتظهر بعض المصطلحات العقائدية مثل أهل الجحيم والشياطين. فيقال في أهل الجحيم أمور محزنة ومفزعة. ويحاكي الأشرار بأمور غير موجودة مثل الشياطين.
214
ويظهر الموروث الأصلي، القرآن، كمصدر رئيسي للأمثلة الشعرية دون الحديث.
215
فالقرآن وريث الشعر، وكلاهما المكونان الرئيسيان للوجدان العربي. فأصناف التخييل والتشبيه ثلاثة؛ اثنان بسيطان وثالث مركب، والبسيطان أحدهما تشبيه شيء بشيء وتمثيله به، والثاني أخذ الشبيه بعينه بدل الشبيه وهو الإبدال مثل قوله تعالى
وأزواجه أمهاتهم ، وفي هذا النوع تدخل الاستعارة والكناية مثل
أو جاء أحد منكم من الغائط . والاستدلال الفاضل والإرادة إنما يكون في الأفعال الإرادية. وأكثر ما يوجد هذا النوع من الاستدلال في الكتاب العزيز، مدح الأفعال الفاضلة وذم الأفعال غير فاضلة. ومثال الإرادة في المدح
ضرب الله مثلا كلمة طيبة ... ما لها من قرار . ومثال الاستدلال قوله تعالى
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل . وأشعار العرب خلية من مدائح الأفعال الفاضلة وذم النقائص؛ لذلك أنحى الكتاب العزيز عليهم واستثنى منهم من ضرب قوله إلى هذا الجنس، ويعني ابن رشد الآية الأخيرة في سورة الشعراء.
216
ومن أنواع المجاز الحذف مثل قوله تعالى
واسأل القرية ، وقوله:
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، والتقديم والتأخير مثل قوله تعالى:
ولم يجعل له عوجا
وقوله:
وإذ ابتلى إبراهيم ربه ، والزيادة مثل قوله تعالى:
تنبت بالدهن ، ومثل قوله تعالى:
ليس كمثله شيء
ومثل قوله تعالى:
ولا طائر يطير بجناحيه ، وكون الضد سببا للضد قوله تعالى:
ولكم في القصاص حياة . وربما عرض من الإبدال المناسب قلة فهم بعض السامعين كما عرض في قوله تعالى:
حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود
ظن بعضهم أنه الخيط الحقيقي فنزلت
من الفجر . ولكل أمة تشبيهاتها، تشبيه اليونان الضب بالنون لمكان السراب الموجود في بلادهم، وتشبه القرآن في قوله تعالى:
والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ، ويحال أيضا إلى الكتاب العزيز سواء تم الاقتباس منه أم لا، مقارنة بأشعار العرب. فكثير من الشعر السوفسطائي موجود في أشعار العرب ولا يوجد في الكتاب العزيز، فهذا النوع من الشعر أشبه بالكلام السوفسطائي من البرهان. كما أن أمثال أنواع المدائح الأربعة للفعل الإرادي الفاضل غير موجودة في أشعار العرب وإنما هي موجودة في الكتاب العزيز.
217
وكما بدأ الكتاب بالبسملة والصلاة على محمد وآله ينتهي أيضا بدعوة الله بالتوفيق للصواب بفضله ورحمته.
ثالثا: تلخيص الطبيعيات (ابن رشد)
(1) تلخيص السماء والعالم
وهو الكتاب الثاني بعد «السماع الطبيعي» من العلم الطبيعي عند أرسطو.
1
ويقسم ابن رشد بالإضافة إلى قسم الكتاب التقليدية إلى مقالات أربع كل منها عدة جمل إلى أقوال، كل منها يبدأ بإحدى صيغ فعل القول، الصيغة النموذجية في ضمير الغائب «قال».
2
ويحيل إلى تلخيصاته السابقة وشروحه مثل شرح السماء والعالم وكتاب الآثار. وبالرغم من أن التلخيص مكتوب للخاصة إلا أن العامة لم تكن غائبة عن ذهن ابن رشد التي وضع لها «الفلسفة الخارجية» مثل أنه يجب للشيء الروحاني الذي هو في غاية الفضيلة ألا يتغير ولا يبيد.
3
بالرغم من أن فقرات التلخيص تبدأ بفعل القول في صيغة «قال» إلا أن «نقول» و«أقول» أو «قلت» تتخلل ثنايا التلخيص إما بمفردها أو بالتقابل «أما نحن فنقول» للتمييز بين الأنا والآخر، «وهو الذي يدل عليه اسم العالم عندنا».
4
والقراءة المدققة للتلخيص تتطلب ثلاث خطوات؛ الأولى: قراءة أرسطو أولا في ترجمته العربية كما بدأ ابن رشد. والثانية: قراءة تلخيص أرسطو، قراءة على قراءة. والثالثة: مقارنة النصين من أجل التعرف على آلياتها بين النقل والإبداع. وعند ابن رشد إحساس بالجدة وأنه لم يسبقه أحد على هذا القدر.
5
وابن رشد يلخص المعاني ولا يشرح الألفاظ «فمعنى قول أرسطو أن ...» والمعنى قصدي يبينه ابن رشد «فقد تبين من هذا القول المعنى الذي قصده أرسطو.» يبين ابن رشد منذ فاتحة الكتاب، بداية المقالة الأولى غرض أرسطو في الكتاب؛ لذلك تكثر أفعال البيان. ويدخل ابن رشد في حجاج أرسطو ومسار فكره. ويتابعه في مقدماته ونتائجه وجدله ومعاناته للخصوم حتى يلزمهم بتناقضاتهم. ويبرر أجزاء الكتاب بأنه تابع لمسار الفكر، الكلام في المحسوسات في «السماء والعالم» بعد الكلام في العموميات في «السماع الطبيعي». ويعد ابن رشد الأفكار والخطوات والمراحل ويحيل السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق.
6
والمعنى اقتضاء ومعيار «فعلى هذا ينبغي أن يفهم قول أرسطو»، ويبحث ابن رشد عن الاتساق في القول، وتطابق النتائج مع المقدمات وغياب التناقض «وذلك خلف لا يمكن». يبحث عن براهين أرسطو، مقدماته ونتائجه واستدلالاته ويضيف براهين جديدة لمزيد من الأحكام. ويستعمل العبارات الشرطية «إذا ... كان». ويبدأ في كل مقالة أو فصل أو قسم أو مطالب بتلخيص مسار فكر أرسطو، مقدماته ونتائجه، مراحله وخطواته، أهدافه، وأغراضه والمطلوب إثباته.
فتلخيص ابن رشد قراءة منهجية للسماء والعالم حول القياس والبرهان الاستنباط والاستقراء، والمقدمات والنتائج ، والتصديق والخلف ويدخل في الشكوك ويبددها ويحلها، ويبدد الأوهام والظنون.
7
ويضع في بداية كل مقالة خطواتها وأقسامها، بداياتها ونهاياتها، نظرة كلية للموضوع في حدس واحد. ثم يأتي التلخيص تفصيلا للجمل كما يفصل المقالة الأولى في عشر جمل، واحدة تلو الأخرى واستنباط النتائج من المقدمات، يفرغ من السابق ليبدأ باللاحق. ثم يعيد تلخيصها للتذكير بها في النهاية. وما يحصيه ابن رشد ليس النتائج بقدر البراهين التي تؤدي إليها والمقدمات التي تقوم عليها هذه البراهين، فما يهم هو مسار الفكر وليس موضوع الفكر، المنهج وليس الموضوع؛ لذلك يعدد البراهين ويصنفها، والبيانات ويفصلها، والشكوك ويحلها. ويتعامل مع وحدات الفكر باعتبارها وحدات براهين وليست موضوعات بل إن كل برهان ينقسم إلى أقسام كما هو الحال في البرهان الهندسي، ويعتمد على أصول، ويستعمل برهان الخلف، «وإذا كان ذلك كذلك فلم يبق إلا الوجود الذي قلناه وذلك ما أردنا بيانه.» إبطال كل الآراء حتى لا يبقى إلا رأي واحد صحيح كما هو الحال في اللاهوت السلبي عند المتكلمين.
8
ويطغى الوافد على الموروث.
9
وبطبيعة الحال يتصدر أرسطو الوافد ثم ثامسطيوس.
10
ومن أفعال أرسطو لا تتجاوز أفعال القول ثلثها. وكلها تقريبا في صيغة المضارع «يقول» أي التعبير عن حقيقة فلسفية وليس تقرير حقيقة ماضية أعلنها أرسطو. وكل الأفعال بعد ذلك أفعال الشعور المعرفي، أنماط الاعتقاد مثل ظن، حد، رسم، قصد، جزم، نسق، استقصى، أطلق، ألزم، تأول، سمى، تعرض، فهم، أصبح، رأى، عبر، وضع، حكى، أوجب، رد، اعتمد، شبه، ذكر، بين. وفي قليل من الاستعمالات يسبق أرسطو حرف الجر.
11
ومعظمها أفعال مثبتة وأقلها منفية مثل «ما فهم» أي التعامل مع أرسطو بالإيجاب وليس بالنفي. ويبين ابن رشد أنواع الأقاويل، «وإنما نسق أرسطو هذه البراهين على جهة الاستظهار.» وابن رشد هو الذي يصف ويحلل ويقرر ثم يستشهد بأرسطو «ولذلك يقول أرسطو.» يلخص القول بل يصف الشيء ثم يستشهد على رؤيته بقول أرسطو. فإذا اجتمع القولان، صح الحكم على الشيء. ويذكر أرسطو باعتباره راويا عن القدماء «أرسطو مؤرخا»، مصدر علم وليس أرسطو فيلسوفا صاحب موقف. فأرسطو أحد مصادر المعرفة بالقدماء. ويراجع ابن رشد موقف أرسطو، ويتحقق من صدق وصفه، وقد يظن أن هذا يوافق «مذهب أرسطو». ويضع التقابل بين قول أرسطو وقوله ويتساءل عن صدقه «فكيف أطلق أرسطو أنه يلزم ...» «أما أنا فإني أقول» يستقصي ابن رشد مدى صدق أقوال أرسطو.
ويصل ابن رشد إلى برهان لإثبات صدق الوصف وهو برهان لم يستعمله أرسطو «وهذا البرهان صحيح وإن لم يذكره أرسطو.» «وهذا هو البرهان الذي اعتمده أرسطو.» بل يتخيل اعتراضا على أرسطو «لكن قد يعترض في هذا معترض على أرسطو ويقول» ويتحقق من صدق اعتراضات الشراح مثل ثامسطيوس على أرسطو، ويدخل كقاض بينهما «فهذه جملة ما يعترضه به ثامسطيوس في هذه المواضع على أرسطو فنقول نحن» ويصدر حكما ببراءة أرسطو وذنب المعترض «فقد تبين من هذا القول صحة قول أرسطو وفساد ما اعترض به عليه ثامسطيوس.» ويعطي حيثيات الحكم وهو مطابقته مع الحس وخلوه من الشك «فقد تبين من هذا القول أن ما يقوله أرسطو في الثقيل والخفيف وفي طبائعهما هو الرأي الذي لا يلقاه شك ولا يخالفه حس.»
12
يدرس الموضوع نفسه ثم يحيل إلى أرسطو إما استشهادا به وتدعيما لنتائجه أو مراجعة لأقواله كما راجع أرسطو أقوال القدماء؛ فالتلخيص هو دراسة الشيء وتجاوز اللفظ إلى المعنى ثم إحالة المعنى إلى الشيء، والاتفاق في المعنى ثم التعبير عنه بلفظ الأنا ثم نقد الشراح اليونان والمسلمين، ثم توجيه كل ذلك إلى الداخل وهو الموقف الفقهي.
13
ويأتي ثامسطيوس بعد أرسطو، فهو الذي تأول على أرسطو عباراته وأساء فهم أقواله.
14
فقط تشكك وافترض وجود أصوات لا نسمعها لبعد المسافة بيننا وبينها. وظن أن وجود الرباط لا يمنع من الصوت. أميل إلى أفلاطون في طيماوس أن الشيء المتشابه إذا وضع في الشيء المتشابه لا يحيل إلى أحد الجوانب. ويستجفي قول أرسطو ويقول: إن علة سكون الأرض الطبع. ويظهر غلطه فيما ظنه بأرسطو؛ فقد استعمل مقدمة ممكنة في نتيجة ضرورية. وأراد الاعتذار بقوله إن الأجسام مركبة من السطوح المحددة الأبعاد الثلاثة. وهو عذر غير مقبول لأنه أساء فهم عبارة أفلاطون في حين أن عبارة أرسطو صحيحة دون تأويل ثامسطيوس لها. كذلك يعتذر عن قوم لا يجوز الاعتذار فيهم. وزعم أن الأشكال المثلثة الأبعاد متناهية والأشكال غير المنتظمة غير متناهية قول لا معنى له. وظن صحة قوم وانتصر لهم. كما أخطأ في الفرق بين الأشياء البسيطة والمركبة في الحركة. ويرد ابن رشد على جملة ما يعترض به ثامسطيوس على أرسطو ويبين فساد اعتراضاته. لم يفهم ثامسطيوس قول أرسطو وألزم منه محالات.
وقد شعر يحيى النحوي بشك حاول ابن رشد حله ويستشهد بالإسكندر بتعرض الهواء لحرارة الكواكب وهو غير مماس لها.
15
كما يعتمد ابن رشد وأرسطو على آراء القدماء للاستشهاد بها أو لشهادة القدماء عليها؛ وبالتالي يكون الاتفاق في الآراء دليلا على صدقها؛ فقد شهد فيثاغورس على صدق تحليلات ابن رشد وأرسطو وقال بأن النار في الوسط والأرض متحركة حولها، كما يذكر في نظريته في تركيب العالم من الأعداد. وكان أنكساغوراس يظن أن اسم الأثير يدل على النار، وأن الأشياء كانت ساكنة زمانا لا نهاية له ثم حركها العقل، وأن الأسطقسات متشابهة الأجزاء غير متناهية. ويتم الاعتماد على إقليدس لمعرفة النسب. ويعترض ديموقراطيس ولوقيش بالأجزاء التي لا تتجزأ التي منها تتكون الأجسام بطريقة الانفصال. ويقول أفلاطون بصور الأشياء المحسوسة المفارقة وأن العالم متكون ولكن لا يفسد، فالسماء مكونة وثابتة لا فناء لها كما عبر عن ذلك في طيماوس واعتقد أن السماء لها جهات. وكان يرى أن حركة الأسطقسات كامنة غير منتظمة قبل كون العالم ثم أصبحت إلى نظام. ويرى أنبادقليس أن الأرض دائمة الحركة وثابتة في موضعها من أجل سرعة حركتها ونقد من قال بأن الأرض غير متناهية، وأن سبب سكونها الزوبعة ذات الجولان، وأن العالم تارة كائن وتارة فاسد. ويرى فيثاغورس أن للسماء يمينا ويسارا. والرأي المنسوب إلى القميدروس القديم هو الأكثر اقتناعا وهو أن سبب سكون الأرض في الوسط أنها موضوع من جميع الآفاق بالسواء.
16
ويحال إلى بعض الأعمال الأخرى لباقي الحكماء. ويتصدرها كتاب إقليدس ثم طيماوس لأفلاطون.
17
وينقد أرسطو الرأي الوارد في طيماوس أن الأرض مكونة من السطوح. ويستشهد بصاحبي المجسطي على صحة إحدى العلل وبرصد بطليموس لحركة الكواكب. ويثبت بالبراهين أن الأرض وسط العالم. ويحال إلى نظرية إقليدس في الأشكال الخمسة المذكورة في آخر كتابه.
18
وتتم الإحالة إلى مؤلفات أرسطو الأخرى، ويتصدرها السماع الطبيعي ثم القياس ثم البرهان ثم الكون والفساد ثم النفس ثم حركة الحيوان. وقد يحال إلى مقالات بعينها مثل السادسة من السماع.
19
ومن الفرق يتصدر القدماء الأولون والمتقدمون والأقدمون ثم المهندسون ثم الطبيعيون والمفسرون ثم الروحانيون والأطباء والمشاءون.
20
ويعني ابن رشد بالقدماء كل السابقين، يونان وغير يونان وآراءهم في الخلاء والدهر، ويبدأ ابن رشد وأرسطو قبل فحص أي موضوع بذكر آراء الأقدمين المخالفين وحججهم لحل الشكوك ومتى يكون قول أرسطو وابن رشد أتم تصديقا وأكثر قبولا عند محبي الحق، فلا يوجد فكر بلا جدل في التاريخ. وتتعدد آراء القدماء وتتضارب حتى يظهر أرسطو وابن رشد فيحق الحق الواحد أمام الاحتمالات الكثيرة. ويدل لفظ «القدماء» على معنى سلبي إذ يزعم القدماء ويظن القدماء ويرى القدماء. أقوال القدماء خارج الإقناع والقبول. القدماء أصحاب مذاهب في حاجة إلى تمحيص وفحص ومراجعة حتى يختتم أرسطو الحق ويعلنه ابن رشد، وكلاهما خاتما الحكماء. وطبيعة التلخيص تبديد شكوك القدماء والانتصار لأرسطو ومعرفة إذا كانت أقوالهم مقنعة أم لا.
21
ولا يخطئ ابن رشد أرسطو القدماء دائما بل يحمد القدماء في طلبهم علة المشاهدة؛ فطلب العلة هو الفلسفة الحق. بل يتعرف ابن رشد وأرسطو معا على مقصد القدماء وغرضهم. لكلام القدماء ظاهر وباطن وفي حاجة إلى تأويل ومع ذلك غمضت بعض المواقع على المفسرين.
22
ومن الوافد الشرقي يظهر اسم الكلدانيين الذين يتفقون مع آراء الإسلاميين واليونانيين على أن الجرم موطن الروحانيين والملائكة. فقد كانت لديهم حكمة موجودة قديما، ويحقق ابن رشد المناط على طريقة الفقهاء عندما يتحدث أرسطو عن أقاويل الآراء السالفة في الأحقاب الدائرة ويعينهم ابن رشد بالكلدانيين وقولهم إن في الوجود شيئا من الأشياء المتحركة فاسدا ومنقضى وشيئا دائم الوجود غير فاسد ولا منقضى، وليس لحركتها بداية ولا نهاية. هو نهاية كل نهاية، وغاية كل غاية، والمحيط بكل محيط، تام غير ناقص.
23
ومن الموروث يتصدر ابن سينا ثم الفارابي.
24
ويبدو الفارابي شارحا أرسطو مثل ثامسطيوس ومتفقا معه فلا خلاف بين المفسرين في ظاهر كلامهم لشرح السماء والعالم في أن الجرم السماوي لا موضوع له. وهو رأي الفارابي أي مذهبه، وأحيانا يتشكك أبو نصر على أرسطو وهو أن المعنى الموجود للسماء من هذه الجهات مقول بالتشكيك. والواقع أن المقدمات المشهورة قد تستعمل بوجه ما في البرهان خاصة في الأشياء التي ليس بأيدينا فيها مبادئ إلا من هذا الجنس. وإن لم يفهم مذهب أرسطو حسب هذا القول تلحق شكوك ليس يخلو منها كما عرض لأبي نصر وغيره.
25
ولكن ابن سينا هو الذي انحرف كلية عن أرسطو؛ فقد تابع الإسكندر في بعض مقالاته وقال إن واجب الوجود قسمان؛ واجب الوجود بذاته وممكن الوجود بذاته واجب بغيره؛ ظانا أن هذا ما يوافق مذهب أرسطو. كما اعتقد ابن سينا أن الجرم السماوي المتحرك عن الصورة المحركة له مؤلف أيضا من صورة ومادة؛ ومن ثم لزم الشك، ولوجب الاعتقاد أنه يوجد شيء أزلي فيه إمكان الفساد من غير أن يفسد. ولا عجب أن يخفى هذا المعنى على ابن سينا والإسكندر مع أنه يسلم أن الجرم السماوي بسيط غير مركب من مادة وصورة، وذلك ظاهر من قوله في شرح مقالة اللام.
ويظهر لسان العرب على استحياء كمقياس للمصطلحات. فالأصل في لسان العرب أن الثقل والخفة ليسا قوة في حين أنهما كذلك عند أرسطو.
26
ومعظم أسماء الأماكن، البلاد والجزر والبحار والأهالي كلها موروثة وليس فيها اسم وافد واحد مما يدل على السياق، سياق الأنا الجغرافي والبشر الذي توضع فيه ثقافة الآخر، العالم الإسلامي شرقا وغربا؟
27
ويعترف ابن رشد وأرسطو بتقدم الأرصاد عند أهل بابل ومصر قبل أرسطو وبطليموس. ويرصد ابن رشد الكواكب ويعرف مطالعها من أرض مصر وأرض قبرص. ويتحدث عن النجم سهيل «الذي لا يظهر في بلادنا هذه التي هي جزيرة الأندلس ولكن يحكى أنه يظهر في جبل سهيل. ويظهر في بلاد البربر خلف البحر الذي بيننا وبينهم المسمى بالزقاق.» وقد عاين ابن رشد نفسه بمراكش عام 548 كوكبا على جبل درن فزعموا أنه سهيل. وقد حكى أرسطو عن قوم يرون صغر الأرض وأن موضع صنم هرقل وهو المعروف عندنا بجزيرة قادس قريب من حدود الهند. فالطرح واحد بدليل وجود الفيلة في الهند والمغرب وفي الجنوب في بلاد السودان. كان أرسطو على وعي بجغرافيا المنطقة كلها خاصة بلاد الشرق بعد فتوحات الإسكندر. كما يزيد ابن رشد من معلوماته عما سمع من أخبار عن وجود الفيل في الصحارى وهو ما لاحظه أيضا أصحاب المجسطي.
28
ويضرب المثل باختلاف الغربي والرومي والبربري كأفراد واتفاقهم بالنوع كإنسان. وتظهر عادة الأسلوب العربي في الإشارة إلى الواحد الشخصي بزيد أو عمرو.
29
ويتم تعشيق أيضا الإلهيات الصريحة بالإضافة إلى الإلهيات الضمنية في المثاليات العقلية؛ فالطبيعة لا تخلق شيئا عبثا. فقد وفقت الطبيعة الإلهية إذ كان قصدها أن تسير هذا الجرم غير مكون ولا فاسد بأن باعدته عن الأضداد. هو جرم كريم. وهذا القول لا يليق إلا بالجرم السماوي. وقد اتفق جميع الأولين الذين أقروا بالله والملائكة على أن هذا الجرم هو موضع الروحانيين والملائكة الذين لا يلحقهم كون ولا فساد. والشيء الروحاني هو في نهاية الفضيلة لا يتغير ولا يبيد لأنه العلة الأولى ولو كانت لها علة أولى لكانت هذه أفضل منها، وقد جعلت جميع الأمم المتقدمة والفرق السالفة السماء موضعا لله عز وجل لاقتناعها دوام وجودها وامتناع الفساد عليها من بين سائر الموجودات. وإذا كان كل شيء موجودا من أجل فعله كان الشيء الإلهي الأزلي واجبا أن يكون الدوام والبقاء هو فعل جوهره وذاته، وهذه هي الحياة الأزلية. ولم يكن ذلك مما يخفى على مرور الأحقاب مع عناية السلف الصالح بتفقد أمثال هذه الأحوال في السماء وقول القدماء إن الآلهة كثيرة ، خارج عند الاقتناع. وقال أفلاطون إن حركة الأسطقسات كانت قبل كون العالم غير منتظمة، ثم صار بها الله إلى نظام.
30
وفي سياقات أخرى يرفض ابن رشد نظرية الخلق من عدم، ويقول بخلق الشيء من الشيء كما قال القدماء وليس المتكلمين من أهل ملتنا.
31
وتظهر بعض التعبيرات الإيمانية مثل «فسبحان الخلاق العليم»، «ما شاء الله» تعبر عن الإطار المرجعي للشارح.
32
وتبدأ كل مقال بالبسملة والصلاة على النبي وآله. وتنتهي بعون الله وتوفيقه، وتنتهي المقالة الثانية بالحمدلة والرابعة بعون الله.
33 (2) تلخيص الكون والفساد
وهو الكتاب الثالث من الطبيعيات بعد السماع الطبيعي والسماء والعالم، ضاع الأصل العربي وبقي نقله إلى الحروف العبرية.
34
أتمه ابن رشد عام 567ه. وبالرغم من أنه تلخيص إلا أنه مقسم إلى اثنين وأربعين مقطعا يبدأ كل منها بفصل «قال» دون فصل بين النص الأول والنص الثاني. ونادرا ما يظهر التعبير النمطي «قال أرسطو» يبدأ ابن رشد بتلخيصها في ثمان جمل: غرض الكتاب، مذاهب القدماء، الكون والفساد، في الجوهر، والكون والاستحالة، حركة النمو، المماسة والأشياء المتماسة، الفعل والانفعال، الاختلاط والأشياء المختلطة.
35
وتستمر القسمة كأداة للضم وجمع الأجزاء المتناثرة في بنية واحدة، وعد وإحصاء جوانب الموضوع. ويتكلم ابن رشد أيضا بصيغة المتكلم الجمع «فنقول» للدلالة على التمايز بين الأنا والآخر، بين النص الأول والنص الثاني، بين الحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية. وأحيانا يتم الإعلان عن ذلك بطريقة احتمالية مثل «فأما نحن» أي نهاية المطاف.
36
ويغيب الموروث إلى حد كبير في التلخيص على عكس تلخيص الخطابة وتلخيص الشعر. إنما تظهر اللغة على استحياء في تحليل الألفاظ على أنها أسماء مشتركة. وكذلك استعمال بعض الأمثلة والمصطلحات الفقهية مثل «قد مسني الضر» على الفعل والانفعال. كما يظهر الأسلوب العربي في استعمال زيد وعمرو وأيضا في «يا ليت شعر».
37
ويتدخل التصور الإسلامي للعالم. فالله هو الذي يقوم بالاتصال بين أجزاء الوجود والوجود العام عن طريق النقلة. وتظهر آلهة اليونان. فمن الشنيع أن تكون الأسطقسات والمحبة عند أنبادقليس أقدم من الآلهة وذلك لأن الآلهة عنده هي الكرة السماوية .
38
وبطبيعة الحال يبدأ التلخيص بالبسملة وينتهي بالحمدلة.
39 (3) تلخيص الآثار العلوية
وهو الكتاب الرابع من الطبيعيات، نص عربي بحروف عبرية مثل «تلخيص الكون والفساد».
40
وهو مقطع إلى فقرات يسبق كل منها فعل القول في صيغة «قال».
41
وفي مقابل قال هناك أيضا «أقول»، «نقول» تقابلا بين الأنا والآخر، بين الحضارة الإسلامية والحضارة اليونانية. وقد لا يكون قول ابن رشد مخالفا للفلسفة اليونانية كلها بل قد يتفق مع بعض حكمائها، «وهذا القول لم نختص نحن به بل شاركنا فيه كثير من الفلاسفة.»
42
والتلخيص ليس مجرد بيان بل تصحيح وبيان أخطاء ومراجعة «وقد بان خطؤهم»، «وخطأ هؤلاء»، «وقولهم خطأ».
43
ويلخص ابن رشد ابتداء من الغرض أي القصد الكلي حتى يتم توجيه الأجزاء كلها نحو الغاية المطلوب إثباتها.
44
لذلك كان للفكر مقامات ونتائج، بدايات ونهايات، يعبر عنهما بفعل الشرط، وجواب الشرط في صيغة «لما ... كان» أو «إذا ... كان» «وإذا كان ذلك كذلك». كما يحال إلى ما سلف وإلى ما تقدم تذكيرا به وإلى ما سيأتي وعدا به.
45
ويبحث ابن رشد عن الأدلة والبراهين على صدق تحليلات أرسطو. فهو لا يلخص أقوالا بل يراجع الاستدلالات، ويبحث عن البراهين؛ لذلك تكثر أفعال الاستدلال وأسماؤه مثل الدليل، يدل، يستدل.
46
وينتهي بأسماء الاستدلال مثل «ولذلك».
كما تكثر أفعال البيان.
47
وتأتي باقي أفعال الشعور المعرفي مثل الشك والظن واليقين والنظر. ويستطرد ابن رشد ثم يعود إلى تلخيص أرسطو. وهذه الاستطرادات هي إكمال لمذهبه وزيادة في تعليلاته، وإيجاد مزيد من البراهين عليه والتطبيقات له.
48
ويجمل ما يقوله أرسطو في فقرة واحدة حتى تتسلسل الموضوعات في ترتيب متسق.
49
يعلن عن نهاية مقالة، وبداية أخرى، وموضوع ما انتهى إليه وما يبدأ منه.
ويظهر عند ابن رشد منهجه الجغرافي في الجمع بين القياس والحس، البرهان والمشاهدة، الاستدلال والتجربة.
50 «ولم نر نحن قوس قزح بالليل في خمسين سنة إلا مرتين.» «وهذا الذي ذكره ظاهر بالاستقراء في جميع المركبات الصناعية والطبيعية.» والفكر اقتضاء ومعيار أي أن هناك قواعد نظرية تحكم الفكر قبل شرح الألفاظ.
51
وقد يكون الاقتضاء إيجابا أو سلبا، ما ينبغي وما لا ينبغي، ما يجب وما لا يجب، ويحال الجزء إلى الكل، هذا الموضع إلى موضع آخر، فالموضوع كلي، والتلخيص لأحد أجزائه.
52
لذلك ارتبط علم الآثار العلوية بعلم المناظر الاعتماد الأول على الرصد والهندسة. ولا يكتفي ابن رشد ببيان الأدلة والبراهين العقلية بل يبحث عن الأسباب والعلل القائمة على المشاهدة. وقد يرصد الحكماء الظاهرة ويختلفون في أسبابها.
53
ويتصدر الوافد الموروث بإطلاق. وبطبيعة الحال يتصدر أرسطو (الحكيم) الوافد ثم الإسكندر شارحا له ثم أنكساغوراش ثم ديموقراطيس من الطبيعيين ثم فيثاغورس ثم أبقراط المهندس ثم أراطيس، وجالينوس، وابن دقليس، ومالسيس وأوميروش،
54
ويؤيد ابن رشد أرسطو في حد النار والجليد في «الكون» كبسائط، وأن الحركة سبب السخونة. ويوافق ظاهر قوله أنه في ذوات الذائب نار ملتهبة، ويؤيد براهينه. «فهذه البراهين هي التي اعتمدها أرسطو في هذا الموضع وهي، كما ترى، براهين طبيعية صحاح.» وقد وعد أرسطو في كتاب الحيوان بالفحص عن النار كمكان للأخلاط. ويكمل ابن رشد ما نقص أرسطو اعتمادا على الأصول الأولى واستنباطه منها «وإن كان لم يذكر هذا أرسطو لكن هو معلوم من الأصول التي قررناها.» ويحدد ابن رشد نوع النسخة التي وصلت إليه والتي منها نص كلام أرسطو. ويعبر عما سكت عنه أرسطو، ويكمل مذهبه، ويتحدث بلسانه، ويبرر النقص بأنه خارج الموضوع، وأدخل في علم المناظر. لم يقصر أرسطو ولم يترك شيئا كان يجب ذكره «فسبحان الذي خصه بالكمال الإنساني.» يدرك بسهولة ما يدركه الناس بصعوبة، وما يدركه الناس بصعوبة يدركه بسهولة. وهو حكيم عاقل واضح لا يخلط بين الأمور «ولم يكن أرسطو ليخلط بين النظرين.» ويستعمل ابن رشد أرسطو راويا عن السابقين. ويستعمل ألفاظه وظاهر قوله، «فهذه هي ألفاظ أرسطو في هذا الموضع في النسخة التي وقعت إلينا.» ولا يقطع برأي ولا يجزم به بل يستعمل صيغة الاحتمال. ويشبه أن يكون هذا رأي أرسطو. وأحيانا يكون على يقين «وهذا شيء صرح به أرسطو.»
55
كما يعرض لرأي أبقراط المهندس في ذوات الذوائب وفي المجرة.
ومن أسماء الفرق يذكر المفسرون ثم المتقدمون أو القدماء ثم أهل إيطاليا والفلاسفة والحكماء ثم المشاءون والإسبانيون.
56
ومن أسماء الأماكن لا يظهر إلا بلاد اليونان مما يدل على نقل البيئة الجغرافية اليونانية إلى البيئة العربية.
57
وتتم الإحالات إلى مؤلفات أرسطو الطبيعية وغالبها من أرسطو وأقلها من ابن رشد. فيحال أولا إلى السماء والعالم والكون والفساد ثم إلى الآثار العلوية ثم إلى الحيوان ثم إلى السماع الطبيعي والنبات والمعادن.
58
ومن الصعب معرفة هذه الإحالات هل هي من أرسطو أم من ابن رشد. والأغلب أنها من أرسطو لأنه يتحدث عنها بضمير المتكلم الجمع «كتابنا» كما يحيل إلى تلخيص الآثار العلوية للإسكندر.
وينقد ابن رشد الإسكندر كيف ذهب عليه أن النار ليست محرقة؛ فقد استقل الإسكندر بمذهب ولم يعد مجرد شارح لأرسطو.
59
ويرى أن كل كوكب ذو ذئابة نار ملتهبة، ويرصد ابن رشد أوجه الخلاف بين أرسطو وشارحه الإسكندر. وينتصر لأرسطو عودا إلى الأصول الأولى؛ فالأصل أفضل من الفرع، والنص المشروح أدق من النص الشارح «وأما على مذهب الإسكندر فليس يكون بين قولهم وبين قول أرسطو موافقة أصلا.» ويذهب الإسكندر مذهبا في المجرة ويزعم أنه مذهب أرسطو. وظاهر كلام أرسطو في النسخة أي الترجمة التي عند ابن رشد ليس على ما توهم الإسكندر. ويتحقق ابن رشد من الخلاف بين أرسطو والإسكندر بالتجربة. فإذا اختلف عدد الرياح فإن «الوقوف على صحة هذين القولين يكون بالتجربة.» ويسلم الإسكندر وجميع مفسري أرسطو بأن الأسطقسات مركبة. ويوافق ابن رشد على رأيه من أن النار سبب الكون. كما يفسر رأي الإسكندر بأرسطو في العفن، وليس رأي أرسطو بالإسكندر؛ فأرسطو هو الذي لديه القول الفصل. أرسطو هو الشارح والإسكندر هو المشروح، وليس الإسكندر هو الشارح وأرسطو هو المشروح. وما قاله الإسكندر من أن النار سبب للكون صحيح. يتفق ابن رشد مع كثير من آراء الإسكندر. وأقواله وأقوال ابن رشد غير متناقضين لأنهما على نحوين مختلفين في منشأ الريح الجنوبية.
ويروي الإسكندر عن أرسطو راويا عن فيثاغورس. وسبب كثرة الرياح من الجنوب والشمال عنها من المشرق والمغرب عند أرسطو غيره عند الإسكندر. كما تختلف المسائل في كتب أرسطو عنها في كتب الإسكندر فيما يتعلق بالريح وعلل هبوبها. والإسكندر أيضا ولا غيره من المفسرين لم يعرض أيضا لبعض الموضوعات مثل أثر الجغرافيا على الأمراض، والحر على الرمد كما عرض ابن رشد.
60
ويرى أنكساغورش أن هناك عنصرا خامسا هو النار أو الأثير، فمعناهما واحد.
61
وقال مع مالسيس: إن الأثير هو الهواء الملتهب. وتختلف أنكساغورش مع ابن دقليس في تفسير الرعد في مصدر النار، الأثير عند الأول، والسحاب عن الثاني، وشبه ابن دقليس اختلاط الرطوبة واليبوسة في الأجساد حتى تتحدد ويعسر انفصالها بالغذاء، ويقول فيثاغورس في المجرة: إنها أثر طريق كان من سلوك بعض الكواكب في قديم الدهر حين فسدت على عهد فلان فصارت نورا مستطيلا لما فسد بعضها إلى بعض وتحركت واختلطت. وقال أنكساغورش وديموقراطيس: إن المجرة ضياء الكواكب التي لا يصل إليها ضوء الشمس من ستر الأرض إياها. ولهما تفسير مشابه للزلزال وأثر الماء في الأرض. وللإسكندر تفسير آخر للزلزال، مكوث الماء في الأرض ثلاث سنين. وأثبت أراطيس كواكب صغيرة وكبارا مضيئة. والإقليم المعتدل هو الإقليم الخامس كما يقول جالينوس لا الرابع كما يعتقد كثير من الناس. يؤيد ابن رشد الجغرافيا العلمية ضد الجغرافيا الشعبية.
ويستعمل ابن رشد لفظ المتقدمين ويعني به القدماء مثل أنكساغورش إحساسا منه بالتاريخ، وبتوالي المضادات.
62
وقد تعني القدماء كل السابقين على أرسطو أي قبل أن تكتمل الحقيقة فيه. وقد يعني لفظ القدماء آل فيثاغورس على التخصيص باعتبارهم مؤسسي الفلسفة. وأقوال القدماء بطبيعة الحال متناقضة ينقصها الاتساق. وظن المتقدمون من الحكماء أن قوس قزح لا يكون بالليل. وأحيانا يتفق القدماء على شيء بديهي علمي يؤيده القياس والتجربة. كما يتفقون على حدود الأسماء. ويعني ابن رشد بلفظ الحكماء الفلاسفة على الإطلاق دون تخصيصهم باليونان أو بالمسلمين. فالحكمة خالدة، والحكيم نمط العقلاء. ويسمي الفلاسفة أنكساغورش وديموقراطيس في مقابل قوم من أهل أنطاكيا من أصحاب فيثاغورس.
63
ويعني المفسرون مجموعة شراح أرسطو الذين أصبح لهم مذهب مستقل عن أرسطو استقلالا عنه وربما انحرافا منه. فهم يعطون سببا لتسخين الكواكب غير السبب الذي يعطيه أرسطو في «السماء والعالم». ولم يقسم أرسطو الجنوب إلى مسكون وغير مسكون كما فعل المفسرون. لقد عرض للمفسرين شكوك كثيرة على «أقاويل هذا الرجل» ثم تبين بعد زمان طويل صوابه وتقصير غيره. والمفسرون رواة عن الآخرين فيما حكوه عن الصاعقة. وأحيانا يصيب المفسرون ومعهم الإسكندر مثل القول بأن الأسطقسات المحسوسة مركبة وليست بسيطة. والمشاءون متفقون على ما يذهب إليه أرسطو. وهم الأرسطيون الأصلاء وليس المفسرين. ويسقط ابن رشد اسم العلم اليوناني ويكتفي بقوله في «عهد فلان الملك» إما لأنه لا يعرفه وإما لأن التحديد الشخصي لا يهم.
64
ويحيل ابن رشد إلى جوامع الآثار العلوية «الجوامع الصغار التي لنا» التي جمع فيها بين الحس والعقل في بناء مقدماته. ويثني على «صاحبنا أبو عبد الرحمن بن طاهر» وإطالته القول في المسألة التي عرضها ابن رشد في جوامعه واستعماله مقدمات كثيرة لا يخفى جنسها على من ارتاض العلوم الطبيعية، وما أثبته هو بالرغم من منازعته قوما «من أهل زماننا» ورده عليهم. وأقاويله مشهورة بين أيدي الناس. ولابن طفيل قول جيد في الاعتراض على المقدمات التي استعملها في ذلك البيان وناقصة. كلها أو جلها أقاويل جدلية. فابن رشد يعيد دراسة الموضوع في بيئته العلمية الخاصة وينقد أستاذه ابن طفيل، ويصف أقواله بأنها جدلية، ويرجح عليها أقوال العالم ابن طاهر. ويراجع نفسه في «الجوامع الصغار» حين ظن أنه كابن الهيثم يمكن الجمع بين الصناعتين، الآثار العلوية والمناظر في علم برهاني واحد. وأثبت العلل التعاليمية والتي هي في الآثار العلوية على جهة المصادرة. والأمر ليس كذلك لأن العلل في الآثار العلوية بينة بنفسها مباشرة في حين أن علل المناظر غير مباشرة.
65
كما يحيل ابن رشد إلى تلخيص الحواس والمحسوسات لتعرف منها المقدمات المعرفية الخاصة بالرؤية. كما يحيل إلى بعض كتبه الأخرى دون تحديد .
66
ومن الموروث يظهر ابن الهيثم ثم ابن سينا ثم ابن طفيل وابن باجه وابن الطاهر.
67
ويحيل إلى مقالة ابن الهيثم تدعيما لرأيه ولذيوعها بين الناس، وهي أدخل في علم المناظر. لذلك لم يعرض لها أرسطو. ولا يمكن الجمع بين النظرين الجغرافيا والمناظر وإلا وقع في الخطأ. لذلك قرر ابن الهيثم أن الصناعتين مختلفتان. هناك فرق بين التعليل الطبيعي في الآثار العلوية والبرهان التعاليمي في علم المناظر. لم يخلط أرسطو بين النظرين في حين خلط ابن الهيثم، وعسر عليه إعطاء بعض الأسباب الطبيعية. وينقد ابن رشد قول ابن سينا أن الأسطقسات بسيطة لأن ذلك يفسدها. ويبين كيف عدل عن رأيه في علل ألوان القوس التي اعتمد فيها على المفسرين. ولا تحتاج أقوال أرسطو إلى تدعيم كما زعم ابن باجه، نعم بها أشياء لم يفهمها هو ولا غيره من بعده بما في ذلك ابن رشد وبخاصة في الكتب التي لم تصل إلينا منها أقاويل المفسرين؛ لذلك وجب عليه الفحص عن كلامه لإضافة أشياء خارجية عنه. فابن رشد يكمل الناقص ويخرج المنطوق به من المسكوت عنه ولا يسمح لابن باجه أن يقوم بمثل ذلك؛ لأن ابن رشد يستنبط من الداخل وابن باجه يضيف من الخارج.
68
ومن البيئة الجغرافية العربية يذكر البربر ثم العرب والحبشة.
69
ومن أسماء المدن والمناطق والأماكن تذكر قرطبة ثم الأندلس ثم مصر أرضا وأهلا والبحر الشامي ثم إشبيلية وأندوشر ومراكش والشام وشريس والعراق والبحر المحيط وبحر القلزم والأصنام الهرقلية وكنيسة الغراب.
70
والجزائر القريبة من البحر متحرك بتحريك البحر كما عرض في الموضع الذي يسمى «عندنا» بكنيسة الغراب عند البحر المحيط، ويقاس الرصد بالمدن القرية مثل قرطبة ومراكش. كما حدث زلزال في قرطبة في ست وستين وخمسمائة للهجرة. وقد شاهد ابن رشد نفس الأعراض التي وصفها أرسطو.
71
ويذكر أوميروش أرض مصر وعلاقة الماء باليابس فيها؛ فالبيئة العربية حاضرة في أمثلة اليونان. فالمقارنة بين البيئتين، بيئة اليونان وبيئة العرب داخل النص الأرسطي نفسه مما يسمح لابن رشد بالاستمرار فيها وتحويلها من اليونان إلى العرب، والانتقال من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، كان اليونانيون يسمون إغريقية من الغرق الذي أصاب بلادهم، وهو ما يتفق فيه لسان اليونان ولسان العرب. كما ذكر أوميروش البحر الشامي مما يدل على حضور الشام حضاريا ونسبة شرق البحر المتوسط إليها وهو شرق الأندلس الذي يقطن فيه ابن رشد. كما يتحدث عن الأصنام الهرقلية في البحر الذي فيه العبور من جزيرة الأندلس إلى بلاد البربر، يعتمد ابن رشد على المشاهدات في بيئته الأندلسية مصدقا مشاهدات أرسطو في البيئة اليونانية. فالصبا والدبور «في بلادنا هذه التي هي جزيرة الأندلس» ليست أكثر هبوبا من الجنوب بل أكثر منها، الصبا في النصف الغربي منها والدبور في النصف الشرقي. ثم يعمم ابن رشد من ذلك على «جميع المواطن المسكونة من الأرض». هناك فرق بين بلاد اليونان التي في وسط العرض والطول، البلاد الطبيعية جدا، وباقي المناطق. «وبلادنا» موافقة لبلاد اليونان في العرض ومقصرة عنها في الطول. وبلاد الشام والعراق مقصرة عن بلاد اليونانيين في العرض وموافقة لها في الطول. فبلادنا أقرب إلى طبيعة بلاد اليونانيين من بلاد العراق. وتؤخذ قرطبة أحد نقاط القياس. وليس لبعض الرياح أسماء في لسان العرب إلا أن العرب تسمي كل ريح تعدل عن الجهات الأربع النكباء.
72
والدليل على الأمزجة اللون والشعر، المعتدل الخالص البياض. والشعر المعتدل أقرب إلى السبوطة منه إلى الجعودة. ووجود هذا اللون والشعر قليل في بلاد العرب؛ لذلك كانت تسمي الأبيض أحمر. وبلاد العراق على النصف من بلاد العرب، الحمرة غالبة على أهلها كالحال في العرب. ويوجد اللون والشعر بالطبع ما لم تتداخل الأقوام كما يتداخل العرب والبربر بجزيرة الأندلس. فإذا ما طال التداخل يعودون إلى الأمة التي يعيشون فيها وهم الإسبانيون. لذلك كثرت فيهم العلوم. هنا يظهر ابن رشد عالما بالأجناس، ويميز بين الصفات المكتسبة جغرافيا والصفات الموروثة، وتداخل الاكتساب مع الوراثة. هناك الوراثة ثم الاكتساب ثم الوراثة من جديد في طبائع الشعوب. ويقارن ابن رشد بين الحبشة والصقالبة. الأحباش معايشهم غير طبيعية، وأمزجتهم خارجة عن الإنسانية. وعلى نقيضهم الصقالبة، وكلاهما كذلك نظرا لقربهم من الشمس أو بعدهم عنها وليس لخصائص عرقية.
73
ويظهر الأسلوب العربي المميز مثل «لعمري»، «ليت شعري». وقد يظهر الأسلوب الفقهي مثل «وقد يسأل سائل عن الخمر.» وقد يبدو مستوى التحليل اللغوي وكأنه موروث يظهر على استحياء مثل ضرورة شرح الأسماء غير المحصلة. فابن رشد يفكر باللغة العربية «وهذا يسمى عندنا من اسم مشتق من أسماء التمام إذا قوي بزره وعجمه على أن يولد مثله.»
74
وبالرغم من أن الآثار العلوية تتعلق ببعض الموضوعات الإلهية مثل الأجرام السماوية إلا أن الإلهيات تقل في التلخيص، بل إن ابن رشد يرفض القوم الذين تكلموا بالكلام الأول الإلهي «لأن أكثر كلامهم خارج عما يفعله الإنسان» مثل أن البحر ليس له كون وأن مبدأه عيون تنصب فيه، وأن هذه العيون أبدية.
75
لقد أجادوا في قولهم إنه غير متكون ولم يجيدوا في قولهم إن مبدأه العيون. فالكلام العلمي شيء والديني شيء آخر تمايزا بين الدين والعلم، وينطلق تعبير «سبحان» إعجابا بأرسطو الذي لم ينس شيئا ولم يقصر في شيء «فسبحان الذي خصه بالكمال الإنساني وبهذه القوة الإلهية التي وجدت فيه. كان هو الموجود للحكمة والمتمم لها.» والعجيب غياب البسملة. ويسقط لفظ الحمدلة في آخر المقالة الثانية في النسخة الأم وكذلك في آخر الثالثة والرابعة. (4) تلخيص النفس
وهو تلخيص بالجملة أي تركيز على المعاني
76
يتكون من مقالات ثلاث متساوية كما تقريبا.
77
ولا تظهر كلمة فصل إلا مرة واحدة في الثالثة. ويعبر ابن رشد عن قصد أرسطو أي عن الموضوع القصدي الذي هو قصد ابن رشد أيضا، والتلخيص مكون من عدة فقرات أكثر من نصفها يبدأ بصيغة «قال» كما هي العادة في التلخيص عندما يبدأ ابن رشد من قول أرسطو وينتهي إلى ابن رشد. هناك أيضا صيغة «نقول» أي إن ابن رشد يقول مع أرسطو على التبادل.
78
ويحيل ابن رشد السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق تأكيدا على وحدة الموضوع.
79
ويظهر منطق الاستدلال والبرهان في التلخيص في صيغ أفعال البيان مثل «تبين». كما يظهر لفظ «البرهان» و«الدليل». كما تظهر صيغ الشرط التي تضع المقدمات وتستنبط النتائج مثل «لما كان»، «إذا كان»، «لما»، «كما أن». وتظهر أفعال الشعور المعرفي الأخرى مثل «ظن»، «شك»، «لزم»، «تقرر»، «فرض». والفكر معيار واقتضاء له بنيته الداخلية، ويقينه وصدقه من ذاته كما يبدو ذلك من أفعال «ينبغي».
80
والفكر أيضا يبحث عن العلة والسبب فهو فكر تجريبي. وباقي الفقرات تبدأ بالموضوعات ذاتها مثل الحاسة والحواس والمحسوسات، والعقل والمعقولات، والحق والباطل، والنفس والحركة.
ويتصدر الوافد الموروث على الإطلاق. يتصدر أرسطو بطبيعة الحال، ثم ابن دقليس، ثم ديموقريطس، ثم أفلاطون، وأنكساغوراش، ثم فيثاغورس، والإسكندر، ثم مالسيس، وأبورقليطس، وجالينوس، وأوميروش، وثامسطيوس.
81
وواضح أن المعركة مع الطبائعيين الأوائل أو الماديين الذين يجعلون النفس مادة غير مفارقة فهي عند ديموقريطس نار. وهو قول أقرب إلى الحق لأنه حكم على النفس والعقل وجعلها من طبيعة واحدة، من الأجسام النارية الكرية الشكل التي لا تتجزأ، وأن النفس تحرك البدن. ولم يصب في قوله إنه لو كان التوسط بين الحاس والمحسوس خلاء لكان الإبصار أتم لدرجة إبصار النحلة بين السماء والأرض، واعتقد مالسيس أن التحريك أولى شيء بالنفس. أما ديوجانيس فقد ظن أن النفس هواء لأنه ألطف بالأشياء، وجعلها أبورقليطس بخارا. وكان يتصور مع كثير من القدماء أن كل شيء متحرك ولا شيء ساكن.
وفي مقابل الماديين هناك المثاليون مثل فيثاغورس (وشيعته) الذي يعتبر النفس الهباء. وقد تكلم رمزا باللغز على طريقة السياسة المدينية واعتبره الناس حقيقة. وهي عدد وكأن العدد يحرك الحيوان. وهو مذهب أفلاطون. وقد اعتقد في بعض كتبه أن النفس من طبيعة المبادئ، وعند أنكساغورش الظاهر أن النفس والعقل شيء واحد وأن العقل هو الذي يحرك القول، وأن العقل هو سبب الاستقامة. ويظهر أحيانا من قوله إن النفس غير العقل، فالعقل مبدأ المعرفة والتحريك، ويحمد على هذا القول.
وكذلك الأمر عند ديموقريطس مستشهدا بقول أوميروش في بعض أشعاره أن من فقد حواسه فقد فقد عقله. والعقل غير مخالط حتى يمكن أن يعرف. وأنبادقليس جعل المبادئ كثيرة وهي الأسطقسات الأربعة والبغضة والمحبة، وجعل النفس مركبة منهما، وأن كل واحد من الأعضاء على نسبة من اختلاط الأسطقسات. والعظم عنده ثمانية أجزاء جزءان من الأرض وأربعة من النار واثنان من الماء والهواء. وكل واحد منها يعرف بشبيهه وهو قول شديد الغموض، ويلزم منه أن كل مبدأ يمهل أكثر مما يعرف وبالتالي نسبة الجهل إلى الله. ولم يصب ابن دقليس حين نسب هذه الأفعال في النبات إلى الأسطقسات. وكذلك لم يصب في قوله إن الضوء متحرك ينتقل من جسم إلى جسم، من الهواء إلى الأرض، لأنه خارج عن القياس. ويقول إن الفهم والإحساس شيء واحد كما قال أوميروس أن الحس والعقل شيء واحد.
82
وأرسطو هو مصحح آراء القدماء والمفند لها. رد على آراء أفلاطون بالرغم من شهرته. فليست النفس عظما من الأعظام أي جسما من الأجسام. ويبدو أرسطو راويا عن القدماء، فقد أتى في نهاية الفلسفة اليونانية كما أتى ابن رشد في نهاية الفلسفة الإسلامية قبل ازدهارها من جديد في إيران. فالخلد كما يروي أرسطو له عينان تحت الجلد وليس يبصر إلا ما زعم بعضهم أن يبصر ظلال الأشباح. وقد أحسن الإسكندر تأويل معنى العقل المنفعل عند أرسطو. أما سائر المفسرين فإنهم فهموا، من قوله إن العقل الهيولاني غير مخالط، أنه جوهر مفارق، وطبقا لتأويل الإسكندر العقل بالقوة مجرد استعداد. إن ثامسطيوس وأغلب المفسرين يرون أن العقل الذي فينا مركب من العقل بالقوة والعقل بالفعل أي الفعال. ولأنه مركب فإنه لا يعقل ذاته بل يعقل المعاني الخيالية، ولأنها فاسدة يفسد ويعرض له الغلط والنسيان، ويتأولان قول أرسطو في ذلك. ويحال إلى باقي أقوال أرسطو في الموضوع تفسيرا لأرسطو بأرسطو. ويستعمل ابن رشد تشبيهات أرسطو مثل تشبيه حالة العقل بالخط المنعطف لأنه يشبه أخذ العقل الصورة بالخط المستقيم.
83
ولا يقبل ابن رشد أقوال أرسطو على طول الخط بل يراجع بعضها لأن بها نظرا. فيقول مثلا إن الطعم هو بمنزلة اللمس وفيه نظر، وهو نفس رأي أفلاطون وجالينوس. وقد وعد أرسطو بأن يفحص موضوع المفارقة في العقل ولكنه لم يحقق وعده؛ إذ لم يجد ابن رشد له شيئا في ذلك، وكأن ابن رشد يريد إكمال مذهب أرسطو من داخله حتى يكتمل، ففيه اكتملت الحقيقة.
84
ومن مؤلفات أرسطو يحال إلى البرهان ثم القياس ثم الحس والمحسوس. ومن أفلاطون يحال إلى طيماوس.
85
فقد تبين في كتاب البرهان أن كل معرفة تنتهي إلى البرهان أو إلى الحد. فالبراهين تتكون من حدود على ما تبين أيضا في كتاب القياس، والموجود لا يعني بالضرورة ما قيل في كتاب البرهان وهو كون المحمول في جوهر الموضوع أو كون الموضوع في جوهر المحمول، أي الجوهر والعرض. فقد يعني الوجود بالذات ما يقابل الوجود بالقياس على غيره. أما سبب رؤية الأشياء في الظلمة فقد تم عرضه في كتاب الحس والمحسوس، وكما تبين في الثامنة من السماع أن لا شيء يحرك ذاته. كما تبين في السادسة منه أن كل متحرك جسم. وفي الكون والفساد تم عرض موضوع الفعل والانفعال. وقد عبر أيضا أفلاطون عن النفس محركا للبدن في محاورة «طيماوس» وهي في المحاورة جسم من الأجسام السماوية.
86
ومن الفرق يحال إلى القدماء ثم المهندسين ثم المفسرين، والجدليين، وأصحاب الجدل، والسوفسطائيين، والطبيعيين، وصاحب علم التعاليم، وصاحب العلم الطبيعي إذ يوجد نفس المذهبين عند القدماء في النفس، المذهب المادي والمذهب الصوري.
87
وكثير من القدماء يرون أن النفس تحرك البدن. ويختلف أصحاب العلم الطبيعي في الحدود عن الجدليين نظرا لاختلاف العلمين، المنطق والطبيعة. ولم يصب الطبيعيون المتقدمون في قولهم إنه لا يوجد شيء أبيض ولا أسود دون بصر ولا طعم ولا فرق. فهو قول صحيح من وجه وغير صحيح من وجه آخر، صحيح على المحسوس بالفعل وغير صحيح على المحسوس بالقوة. ويقول المهندسون: إن النقط إذا تحركت أحدثت خطوطا وإن الخطوط إذا ركبت أحدثت سطوحا، والسطوح إذا تحركت أحدثت أجساما، فإذا كانت النفس تتحرك فعليها إحداث ما تحدثه النقطة. والنقط تتطابق عند المهندسين لأنها لا تنقسم. ويقول السوفسطائيون إن جميع ما يسنح في الذهن ويتصور فهو حق فلا يوجد غلط أصلا لأن النفس لا تدرك إلا ما هو موجود في طبيعة الأشياء.
88
ويختفي الموروث كلية بالرغم من إمكانية تعشيق الوافد الموروث في موضوع النفس. وقد قيل إن الباري لما صاغ النفس من الأسطقسات صاغها أولا خطا مستقيما ثم جناها إلى دائرة ذات عرض ثم قسمها قسمين وكل واحدة سبع دوائر وهي الأفلاك. ويبدو الله تصورا حديا للنفس لأن تصورها عند ابن دقليس مكونة من ثمانية أجزاء يجعل المبدأ يجهل أكثر مما يعلم، يعلم ذاته ويجهل سائر المبادئ، وهو ما يستلزم نسبة الجهل إلى الله عز وجل وهو الفلك عنده، وقال قوم إن النفس شائعة في كل العالم، وهذا هو أحد المواضع التي يظن منها أن الأشياء كلها مملوءة من الله. وإذا كان الله تبارك وتعالى صيرنا من السكون إلى الحركة فإن الحركة تكون أفضل من السكون، وأفضل من سائر الحركات. فأفعال الله كلها كمال وعرية عن النقص. والعقل خليق أن يكون أحق الأشياء مما فينا وأن يكون شيئا إلهيا غير منفعل أي غير مركب من هيولى وصورة. والحركة المتصلة الدائمة توجد للآلهة التي هي الشمس والقمر وسائر الكواكب والسموات بأسرها.
89
وكعادة اللسان العربي يضرب ابن رشد المثل بزيد وعمرو كمثل على الشخص العام في مقابل اللسان اليوناني. فإن فعل البصر يقال له إبصار، وفعل اللون في الحاسة لا اسم له في اللسان اليوناني.
90
وكما يبدأ التلخيص بالبسملة والعون تنتهي كل مقالة بالحمدلة والتوحيد.
91 (5) تلخيص الحاس والمحسوس
وهو ثلاث مقالات، يشمل الصحة والمرض، والشباب والهرم، والنوم واليقظة والذاكرة والتذكر، والرؤيا والأحلام وهو ما يعرف باسم الطبيعيات الصغرى.
92
وهو مرتبط بكتاب النفس الذي له تفسير كبير وجوامع. ويتضمن ثلاث مقالات؛ الأولى عن القوى الجزئية للنفس، والثانية عن الذكر والفكر، والنوع واليقظة والرؤيا، والثالثة عن طول العمر وقصره. وواضح أن التلخيص سابق على مرحلة تالية هي الشرح إذا شاء الله في العمر كما يعد ابن رشد.
93
ويبدأ أول التلخيص بفعل «قال » مرة واحدة ولا يتكرر في أول كل فقرة مما يجعله ينحو نحو الجوامع. كما يبلغ من وضوحها وتركيزها أنها أقرب إلى الجوامع، ومع ذلك تتكرر أفعال «نقول»، «قلنا» أكثر من فعل «قال» مما يدل على أن ابن رشد هو الذي يتحدث بمناسبة أرسطو ولا يلخص أرسطو أو يشرحه، إذ تفوق صيغ المتكلم، مفردا أو جمعا صيغة الغائب عشرات المرات.
94
والعنوان حديث للغاية «الحاس والمحسوس» أي الذات والموضوع وكلاهما وجهتان للذات.
95
ويضع ابن رشد «الحاس والمحسوس» في مجموع فلسفة أرسطو الطبيعية مفسرا الجزء بالكل.
96
ويصف مسار فكر أرسطو بداياته ونهاياته، مقدماته ونتائجه.
97
ويقسم المقالات طبقا لمنهج الاستدلال، الأولى للبرهان، والثانية للتعليل. وكثيرا ما يستعمل ابن رشد أفعال البيان.
98
والفكر اقتضاء ومعيار، وضع لما ينبغي أن يكون. كما يبحث ابن رشد عن العلل جامعا بين البرهان والمشاهدة، بين القياس والتجربة. ويستطرد ثم يعود إلى الموضوع.
99
وبطبيعة الحال يتصدر الوافد الموروث على الإطلاق. ويتصدر الوافد أرسطو ثم جالينوس ثم سقراط وهرقل وفيثاغورس وأفلاطون.
100
فأرسطو هو مؤلف كتاب النفس، وضع فيه القول الكلي والتعليل. والصناعة مقصرة عن الطبيعة، والطبيعة أكمل من الصناعة. ويلخص ابن رشد أسباب طول العمر وقصره ليس بحسب رأي أرسطو وحده بل أيضا بحسب ما تقتضيه الأصول الطبيعية أي أن ابن رشد يدرس الموضوع أولا بنفسه ثم يراجع الأدبيات حوله ثانيا للتحقق من صدقها.
وعند أرسطو للصورة مراتب بين الطيف والكثيف. وكل حاسة عنده هي الطريق إلى المعقولات. والذين لم يعدموا هاتين الحاستين هم أكثر عقولا وأجود إدراكا. والذاكرة عند أرسطو تتم بتعاون القوة المحضرة للمعنى والقوة المركبة له في الخيال. تعمل هذه القوى بمفردها أو بتعاونها مع بعضها البعض، ويبدو أرسطو راويا عن الآخرين مثل حجج الذين يقولون إن النفس لا تحتاج إلى المتوسط ثم رد أرسطو عليها. كما يبطل قول من قال إن القوة المبصرة تمتد من العين إلى الشيء وهو قول أفلاطون. لقد أخطأ المعبر عبارتها، وصمت حين نام، وبقي مشغول النفس بها. وعند أرسطو الحس بالفعل جسماني والذي بالقوة روحاني؛ ومن ثم يجب العدل بين القوتين. وقد تكلم أرسطو في الرؤيا. وينبغي عنده أن يكون المعبر متعاهدا لنفسه بالفكرة والنظر والنظافة. وقد حكى رؤية غريبة عرضت لهرقل.
101
ويخطئ ابن رشد جالينوس عندما ظن أن الهواء حساس، والماء عنده الرطوبة الزجاجية ويسميه أرسطو الرطوبة البردية. والمزاج المعتدل عند جالينوس أحد العوامل المحددة لطول العمر وقصره. أما فيثاغورس فكان يعتقد أن الضوء يكون في جسد شفاف. وأفلاطون كان له رأي في إدراك النفس محسوساتها، وهو وجود صور المحسوسات في النفس بالفعل، ولا تستفيدها من الخارج، والخارج إنما هو منبه ومذكر على الداخل. وقد قال سقراط محتجا في أثينا: «يا قوم إني لست أقول إن حكمتكم هذه الإلهية أمر باطل ولكني أقول إني حكيم بحكمة إنسانية.» الحكمة الإنسانية العقلية البديهية أقدر على نقد الحكمة الإلهية المزيفة. فالعقل البشري تطهير للدين المؤسس. ويقول ابن رشد «وسنظهر هذا فيما بعد بحسب قوتنا واستطاعتنا.»
102
ويحال إلى كتب أرسطو. ويتصدر كتاب النفس لارتباط الحاس والمحسوس به ثم الكون والفساد ثم الحيوان ثم النبات والآثار العلوية والبرهان، لما كانت مباحث النفس جزءا من الطبيعيات.
103
فبعد الحديث عن النفس الكلية يبدأ الحديث عن قوى النفس الجزئية مثل النوم واليقظة، والشباب والهرم، والحياة والموت دخول النفس وخروجه، الصحة والمرض، طول العمر وقصره، وبعد الحديث عن القوى الجزئية يتم الحديث عن آلاتها. كما أن التعليل في كتاب النفس وكذلك الضوء والمستضيء والأشفاف، والأصوات، والحاسة المشتركة بين الحواس الخمس.
104
ويحال إلى «الكون والفساد» في موضوع الأسطقسات والتجاور والحدوث والكميات مثل الثقل والخفة، والسواد والبياض، والخشونة والملامسة. ويحال إلى الحيوان والنبات في أن أشخاص الحيوان والنبات محصلة الوجود محدودة الأسباب، ويحال إلى الرابعة من الآثار العلوية في أن الكون إنما يتم إذا غلبت القوى الفاعلة في المتكون القوى المنفعلة أي إذا غلبت الحرارة والبرودة الرطوبة واليبوسة. ويحال إلى القدماء وما يحكي أرسطو عنهم.
105
ومن الموروث يظهر ابن سينا بمفرده في تسميته التذكر في الحيوان بالقوة الوهمية.
106
كما يظهر الأسلوب العربي في ضرب الأمثلة بزيد وعمرو وخالد واستعمال «ليت شعري». كما يتحدث عن كتب أرسطو التي توجد في «بلادنا».
ولكن يظهر التصور الديني للعالم. فكل شيء في الطبيعة يوحي بالخالق. فمعنى الصورة تحضره الذاكرة، ورسمها تحضره المخيلة، وتركيب المعاني إلى الرسم تعطيه المميزة «فسبحان الله الحكيم العليم». وبعد وصف طول العمر وقصره والمزاج المعتدل وجهل النسب مما يجعل كثيرا من الزمناء يطيلون العمر وذوي البيئات الجيدة يعطبون يقول: «فسبحان الله تعالى واهب الأعمار ومقدرها والعليم بها.»
وتكمن بؤرة الحاس والمحسوس في معرفة طبيعة الرؤيا بعد معرفة النوم وما كان من جنسها من الإدراكات الإلهية وهي ليست من اكتساب الإنسان. وهي ثلاثة أقسام، رؤيا، وكهانة، ووحي. أنكرها البعض وجعلها اتفاقا وأثبتها البعض الآخر، وأنكر البعض جزءا منها وأثبت جزءا مثل الرؤية الصادقة والإنذار بما يحدث في المستقبل. والتمايز بينها من أجل أسبابها، الرؤيا من الملائكة، والكهانة من الجن، والوحي من الله بواسطة أم بغير واسطة. بالإضافة إلى أن الوحي يأتي للتعريف بأمور علمية مثل ماهية السعادة وما يحصل بها بأمور كائنة. هذا النوع من الإعطاء شريف جدا ومنسوب إلى مبدأ أرفع وأرفع، إلى أمر إلهي وعناية تامة بالإنسان. وماهية النبوة داخلة في هذا النوع من الإعطاء نسبة إلى الإله وإلى الأشياء الإلهية وهي الملائكة.
107
وقد تبين في العلوم الإلهية أن هذه العقول المفارقة تعقل الطبائع الكلية. ومع ذلك هناك إيمان عقلي يتفق مع إيمان الوحي مثل أن الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا، تعبيرا عن
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك . كما أن تحليل ابن رشد للمعرفة عن طريق الحواس هو ما يتفق مع حكماء المسلمين، فالسمع طريق التعلم، والتعلم بالكلام، والكلام بالسمع، وفهم دلالة الألفاظ ليس للسمع بل للعقل. واستثمارا لأرسطو، كما أن معنى الشيء في القوة الذاكرة أكثر روحانية منه في القوة المتخيلة، يألم الروحاني بألم الجسماني، ولا يألم الجسماني بألم الروحاني، والأكثر روحانية يألم لألم الأقل روحانية، ولا يألم الأقل روحانية لألم الأكثر روحانية. الفعل الذي بالحس جسماني، والذي بالقوة روحاني، والجسماني أشرف عند الحاس الجسماني، والروحاني أشرف عند المدرك الروحاني. وليس الروحاني أشرف عند الجسماني، ولا الجسماني أشرف من الروحاني عند الروحاني، وأما الروحاني على الإطلاق فهو أشرف من الجسماني، والحس الروحاني إنما يوجد في النوم فقط. والمعنى يدرك بالفكر الروحاني. القوى الداخلية الروحانية تدرك الأمور الجزئية، وتطلع على الأمور الروحانية الموجودة في العالم كالملائكة والسموات. وهؤلاء هم الذين يقال إنه عرج بأرواحهم. هذا الإدراك الروحاني في النوم يعطي القوة المتخيلة الكمال الأخير.
108
فلكل شيء صورتان؛ روحانية وهي الصورة المحاكية، وجسمانية وهي الشيء المحسوس. والمحاكية أكثر روحانية لأنها أقرب إلى طبيعة الكل تدركه القوة المتخيلة. ويبدأ التلخيص كالعادة بالبسملة والدعاء في كل مقالة وتنتهي بالحمدلة.
109
رابعا: تلخيص العلم المدني (ابن رشد)
(1) آليات التلخيص
بالرغم من أن معظم شروح وتلاخيص وجوامع ابن رشد كانت لأرسطو وعروضه كانت لجالينوس إلا أن تلخيصا واحدا له كان لجمهورية أفلاطون وهو «الضروري في السياسة» أو «مختصر كتاب السياسة لأفلاطون».
1
ألفه قبل وفاته بعد سنوات. وقد ورد في بعض الفهارس على أنه جوامع سياسة أفلاطون، ولكن أقرب إلى التلخيص «سالكين في ذلك سبيل الاختصار كما هي عادتنا في ذلك.» كما ورد في بعض الفهارس الأخرى وكما هو موجود في العنوان الثاني، وكانت عادة ابن رشد تسمية التلخيص مختصرا مثل «المختصر في علم النفس»، «واختصار العلل لجالينوس»، «مختصر المجسطي»، بل إن لفظ المختصر قد يتجاوز التلخيص كنوع أدبي محدود إلى المعنى العام بمعنى التركيز الذي قد يشمل الجوامع كما هو الحال في «جوامع ما بعد الطبيعة». وهو كله نوع من الشرح كما يطلق عليها ابن رشد في نهاية التلخيص «وبانتهائها انقضى الشرح». وهو كتاب «السياسة» المنسوب إلى أفلاطون إحساسا بالعلاقة غير الضرورية بين المؤلف والكتاب وافتراض النسبة الخاطئة على عكس الحكم الشائع بعدم وعي المسلمين بصحة نسبة الأعمال إلى أصحابها، ويستبعد ابن رشد المقالة العاشرة؛ لأنها أدخل في صناعة الشعر؛ فالتلخيص يعني حذف ما لا يدخل في الموضوع.
2
ولا تظهر أفعال القول كثيرا قبل خطاب مباشر ولا خطاب غير مباشر، فقد ذكرت أفعال القول دون أفلاطون ثم بعد الفاعل، وليس بالضرورة في أول الفقرة. وذكرت أفعال الشعور المعرفي مثل الظن والذكر والانتقاد والرؤية إيجابا وسلبا. كما تذكر أفعال البداية والنهاية مثل شرع، انتهى.
3
وفي مقابل ذلك هناك أيضا صيغ «قلت»، «قلنا». أفلاطون يقول وابن رشد يبادله القول في مواقف رشدية خالصة.
وبين الحين والآخر يتوقف ابن رشد عن شرح أفلاطون ب «قال» ويخرج عن نصه ليكتب نصه الخاص به «نقول» وقد تظل صيغة «قلنا» تعني الاستمرار في شرح يقول وتذكارا بالماضي، والموضوعات التي ينفرد بها ابن رشد بصيغة «قلت» هي أشعار العرب التي يحاكي فيها الشعراء أي شيء حتى ولو كانت الأشياء الدنيا دون اقتصارها على محاكاة الفضيلة، وموضوع مساواة النساء بالرجال وتمايز كل منهما بأفعال، دون استثناء الشريعة الإمامة الكبرى، وموضوع العلوم النظرية كالطبيعة وما بعد الطبيعة والعلوم العملية كالأخلاق والسياسة واعتبار البعض الأمور النظرية أزلية حتى وإن طمستها الأخلاط من زمن الطفولة.
4
ويحول ابن رشد محاورة «الجمهورية» لأفلاطون إلى خطاب برهاني في السياسة مستخلصا «الأقاويل العلمية»، وأضاف عليها أمورا نظرية منهجية. غرضه «تجريد الأقاويل العلمية»، وحذف الآراء والأقاويل الجدلية، فالتلخيص تحويل القول الخطابي إلى قول برهاني.
5
وهنا يضيف ابن رشد مصطلحا جديدا هو «الضروري» كما هو الحال في «الضروري في المنطق»، «الضروري في علم أصول الفقه». ويظهر لفظ الضروري داخل المتن في «المختصر في علم النفس»، وهو غير التلخيص. كما يظهر لفظ «الضروري» في «جوامع ما بعد الطبيعة». فلفظ الضروري يعني الأساسي الجوهري، القلب، اللب؛ لذلك يضع ابن رشد أقاويل أفلاطون ويصنفها طبقا لأنواع الأقاويل الخطابية والجدلية والبرهانية.
والفكر منطقي استدلالي، له مقدماته ونتائجه؛ لذلك تبدأ كثير من الفقرات بحروف وأفعال الشرط وتنتهي بجوابه. يعني التلخيص توضيح الفكر وجعله بينا بنفسه. فالتلخيص بيان. ويتخيل ابن رشد المعترض سلفا ويرد على اعتراضه كما هو الحال في الأسلوب الكلامي والفقهي، ويستعمل لغة الترجيح عندما لا يكون مستوثقا من الحكم كما هو الحال عند القاضي وكما هو مدون في علم أصول الفقه في باب التعارض والتراجيح. فالراجح عنه أن المدينة لا تستعمل كثيرا من الأدوية إلا ما ظهر من الأمراض وليس لذوي العاهات.
6
ويظهر مسار الفكر عند ابن رشد، وضع الأشياء في ترتيب معين، والتذكير بالسابق والإعداد للاحق، والتنبيه على ما فات والوعد بما هو آت.
7
ويبحث عن الرؤية الكلية للموضوع بادئا عبارته بالجملة.
8
وهذا مجمل ما قاله أفلاطون.
ويعلن ابن رشد عن نهاية كل موضوع وبداية آخر مما يدل على تعامله مع الموضوعات وليس مع الأقوال. والفكر قصد وغاية سواء المشروح أو الشارح. وأول عبارة في التلخيص «قصدنا في هذا القول». كما يبحث ابن رشد عن الأسباب كفقيه، يبحث عن العلل وراء الأحكام، وهو ليس سببا واحدا بل قد يكون عدة أسباب؛ لذلك تبدأ كثير من الفقرات بلام التعليل و«لذلك».
9
والفكر اقتضاء، بحث عما ينبغي أن يكون، فكر معياري وليس مجرد فكر وصفي، وهو إيجاب وسلب، وينبغي ولا ينبغي.
10
ويستعمل ابن رشد ثقافته الطبية في التلخيص. فنسبة القسم الأول من العلم المدني وهو الأخلاق إلى القسم الثاني وهو السياسة كنسبة تناسب الصحة والمرض إلى كتاب حفظ الصحة وإزالة المرض. فالأخلاق تشخص والسياسة تعالج. والفضائل النظرية لا يكفي تحويلها من القوة إلى الفعل إلا بقوة العقل مثل صناعة الطب التي تجمع بين النظر والاكتساب مع طول العمر، وكذب الرؤساء على العامة يصلح لهم كما يصلح الدواء للمريض. ويتحقق من صدق أقوال أفلاطون الطبية. إذ يرى أفلاطون أن الأمراض التي تحدث في المدن لم تكن على مذهب اسقليبوس، وأن الأسماء التي وضعت لها مستحدثة، وهي الأمراض التي سببها سوء أخلاط المواد كالخراجات والحمى. وصناعة القاضي مثل صناعة الطب في المدينة. كلاهما يزيل الأضرار ويداوي الشرور، القاضي من النفس والطبيب من البدن.
وتتحول المدينة الجماعية إلى وحدانية التسلط لإفراط في الحرية حتى تصبح حرية مطلقة فيطرأ على المدينة زنابير على رئاسة القلة. كما تكثر في الأجسام السقيمة نشوء الأخلاط أي الصفراء والسوداء، فحذر المدنية من ذلك مثل حذر الطبيب، يجب استئصالهم مثل ما يستأصل الطبيب المرارة والبلغم.
11
ويضع ابن رشد مصطلحات جديدة مثل «وحدانية التسلط» إشارة إلى الحكم الاستبدادي أو ما يسميه اليونان «الطغيان». ويستعمل مصطلحات قديمة بمعاني جديدة مثل الجهاد بالبدن وهو أحد الشروط الخمسة للرياسة مع الحكمة والتعقل التام وجودة الإقناع وجودة التخييل، فللرئيس قدرة مبدئية على مزاولة الأشياء الجهادية.
12 (2) الوافد
ومن الوافد يتصدر أفلاطون بطبيعة الحال ثم أرسطو ثم جالينوس ثم سقراط وإقليدس، واسقليبوس.
13
يشرح ابن رشد الفكرة بتتبعها عبر كتب الجمهورية وفصولها وليس عبارة عبارة على التوالي مثل التفسير الموضوعي للقرآن وليس التفسير الطولي مثل آرائه في العدل، وانتفاء الطبائع المعدة للتحلي بالفضائل وطرق تثبيتها. وأفلاطون ابن بيئته وزمانه. الألحان التي يصفها كانت في زمانه. وابن رشد يفحص الألحان في «زماننا». في زمانه المدينة ألف مقاتل. تحدث أفلاطون عن الآراء المشهورة في زمانه مثل طبيعة العدل في المدينة. يبدأ أفلاطون بالتعليم أي بالرياضيات لأن المنطق في أيامه لم يكن قد وجد بعد. فقد تطور الروح اليوناني من الرياضي إلى المنطقي. والأصوب عند ابن رشد البداية بالمنطق ثم العدد ثم الهندسة والهيئة والموسيقى ثم المناظر وعلم الأوزان ثم الطبيعة ثم ما بعد الطبيعة.
14
ويعترض ابن رشد على أفلاطون. فليس الشرح موافقة بالضرورة. إذ يمكن الاعتراض على أفلاطون بأن الناس يمكن أن يكونوا متحابين بالفضائل إذا نشئوا عليها منذ الصغر، وتغيب إذا فسدت أحوالهم عبر السنين.
15
ويستعمل علومه الطبية كمادة للمقارنة مع العلم المدني في الموضوعات التي تسمح بذلك مثل الرياضة والطعام والشراب لا من حيث هي فضائل بإطلاق كما هو الحال عند جالينوس بل من حيث فضائل خاصة تستكمل بها النفوس التي تستأهل فعل الحفظ مثل الشجاعة. ويبين خلط جالينوس في فهم عبارة أفلاطون حول ما إذا كان الأفضل الإكثار من الاحتفالات جهلا منه بقصده. فالاحتفالات شرط الشيوع. وينقد حكايات أفلاطون من أن النفس لا تفنى وما تئول إليه نفوس السعداء من ذوي العدل من النعيم واللذة وما تئول إليه نفوس الأشقياء الحيارى. ولا تمثل هذه الحكايات أي شيء لأن الفضائل الصادرة عنها ليست حقيقية . وإذا قيل إنها فضائل فباشتراك الاسم لأنها من المحاكاة البعيدة؛ لذلك يحكم عليها بأنها ضلال وليست ضرورية لأن يصير الإنسان بها فاضلا بل ربما تسهل عليه الطريق. ولكل شعب حكاياته. ولا فضل لأساطير اليونان في التمثيل على أساطير غيرهم. وقد اختلف فيها القدماء واضطرب أمر أفلاطون فيها.
16
ويلخص ابن رشد السياسة عند أفلاطون واضعا إياها في منظور أعم مع أرسطو. فالقسم الأول من العلم المدني هو الأخلاق الذي عرض أرسطو في «نيقوماخيا». والقسم الثاني في كتاب «السياسة» الذي لم يطلع عليه ابن رشد.
17
القصد الأول من هذا العلم العمل وليس العلم كما يقول أرسطو. ويقارن ابن رشد بين أرسطو وأفلاطون في الحروب في المدينة الفاضلة. الشجاعة فضيلة في الحرب عند أرسطو وعن اضطرار عند أفلاطون، أما على القصد الأول، فأخذ ما في سائر المدن بالإكراه، وأما على القصد الثاني، فوقاية المدنية من التهديد من الخارج. كما تتم مقارنة أفلاطون سقراط. فما لم يكن مؤهلا لقبول الفضائل الأخلاقية فلا داعي لمداولته. ولا فرق بين الوجود والعدم لديه؛ لذلك فضل سقراط الموت على الحياة لما رأى أنه لا يمكنه أن يحيا حياة إنسانية.
ويظهر لفظ «اليونانيين» مما يشير إلى البيئة الأولى التي نشأ فيها النص.
18
والفلسفة ليست لليونان وحدهم بل تتوزع الفضائل على الأمم كلها. فلا يوجد جنس واحد معد للكمالات الإنسانية وبخاصة النظرية منها. وقد اعتقد أفلاطون ذلك في اليونانيين. ونحن لو سلمنا بذلك فإن الحكمة موجودة في بلدنا هذا الأندلس والشام والعراق ومصر. وإن وجدت عند اليونان أكثر، ولا يقال إن الحكمة النظرية عند اليونان أغلب، والعملية أي الغضبية مثل الشجاعة عند الإكراه والجلالقة أقوى. وعند أفلاطون لا ينبغي لليونانيين استبعاد اليونانيين أو حرق بيوتهم أو اقتلاع أغراسهم لأنه خراب واستئصال وتمزيق. فهي حروب بين أهل البيت الواحد والإخوة الأعداء. ومن يفعل ذلك فإنهم عصاة لا كفرة، وهو مناقض لمعظم الشرائع. كما يحال إلى السوفسطائيين كفرقة وإلى الأخلاق إلى نيقوماخيا وطوبيقا والجدل لأرسطو. والسوفسطائيون يعرضون عن كل ما هو جميل كالفلسفة، ويستحسنون كل ما هو قبيح. كما يشير إلى «القدماء» إحساسا بالتغاير في المرحلة التاريخية. فقد اختلف القدماء عما يجب أن يبدأ به التعليم أو المنطق.
19 (3) الموروث
ويتصدر الموروث الوافد مثل «تلخيص الخطابة» و«تلخيص الشعر» ليس كأسماء أعلام بل كموضوعات ومصطلحات.
20
ويذكر الفارابي راويا عن أرسطو أقواله في حروب المدينة الفاضلة.
21
كما يحيل إليه في الأمور النظرية التي يليق بها أن توضع في أعلى مراتب التمثيل في كتاب «مبادئ الموجودات».
والحقيقة أن حضور الفارابي أكثر مما هو مذكور منه. فالمدن وأنواعها، المدينة الفاضلة ومدينة الكرامة والتغلب كلها من ألفاظ الفارابي، ولكن ابن رشد يركب أفلاطون على التاريخ السياسي للأندلس أكثر مما يركب الفارابي المدينة الفاضلة على تاريخ المشرق مما قد يدفع إلى الحكم بأن المدينة الفاضلة عند الفارابي أقرب إلى «اليوتوبيا» بالرغم من أحكامه على العرب والترك والزنج، وأن المدينة الفاضلة عند ابن رشد أقرب إلى التحليل السياسي لانهيار الحكم في الأندلس، ملوك الطوائف. الفارابي يطبق نظرية الفيض في السياسة وابن رشد يتحقق من صدق أقوال أفلاطون في قيام دول الأندلس وسقوطها، من المرابطين إلى الموحدين وربما إلى انهيار النظام الذي يقوم على وحدانية التسلط.
ويضرب ابن رشد المثل بالمنصور بن أبي عامر على رجال الكرامة الذين لهم السيادة الكلية وليست السيادة الجزئية، فيكون رجل الكرامة سيدا ومسودا في آن واحد. فقد حكى عن المنصور بن أبي عامر أنه كان يخرج في موكبه في الأعياد وحفلات الأعراس قائلا: من يرى أنه أمير المؤمنين فليأمرني فأحضر نفسي أمامه «لأنه لا يكرم النفس إلا من يهينها.» ويضرب المثل بابن غانية على وحداني التسلط الذي يحمل الناس على التمسك بالناموس تسترا على تسلطه. فإذا ما صالح الأعداء وقهر الآخرين عاد إلى المدينة يثير فيها الرعب والحروب والفتن فيستولي على أموال الناس ظانا أنه يسلبهم إرادتهم، ويعجزهم عن خلقه لانشغالهم بالخير اليومي. ويفتك بأصحاب رءوس الأموال ويسلمهم لأعدائهم.
22
ولا ينبغي إسماع الأطفال الأقاويل التي تحث على الكسب وجمع المال لأنها أكثر الأشياء إعاقة على الصنائع. وأشعار العرب مليئة بهذه الأمور الساقطة. كما يضرب المثل بأشعار العرب على المحاكاة بالعبارة؛ فالمحاكاة نوعان، محاكاة بالصوت والهيئة والعبارة، ومحاكاة بالقصص والرواية. ويضرب المثل بأبي تمام على قدرته على المدح دون الهجاء. ولا ينبغي أن تكون المحاكاة للسفلة والأراذل بل للموصوفين بالشجاعة وصواب الرأي والتقوى، كما لا ينبغي للعقلاء محاكاة النساء أو الخدم أو العبيد أو السكارى أو المخبولين أو الحرف الدنيا كالدباغة والخرازة أو صهيل الخيل ونهيق الحمير أو خرير الأنهار أو هدير البحار أو قصف الرعد لأنها مثل محاكاة المجانين. وهو كثير في أشعار العرب.
23
وفي مقابل اليونانيين يظهر العرب، ملك العرب ثم أشعار العرب ثم الشعراء العرب، وسياسة العرب، واللسان العربي، والعرب.
24
يعطي ابن رشد نموذج غلبة أهل الوبر على إمبراطورية الفرس والمدن الفاضلة بأعمالها فقط دون آرائها. وهي التي يطلق عليها اسم المدن الإمامية وكانت هي مدن الفرس القدامى.
25
وأضاف ابن رشد مادة من الحياة العربية السياسية عامة والأندلسية خاصة إما من أجل إعطاء مزيد من التحليلات على صدق أقوال أفلاطون وإما من أجل إعادة أحكامها وتصحيحها انتقالا من الخاص إلى العام ثم نزولا من العام إلى الخاص ثم عودا إلى المطلق.
وقد اقتضى ذلك حذف كثير من المادة اليونانية وإضافة مادة عربية بديلة تقرب من ثلث الكتاب.
26
هل كان ابن رشد يقصده باختياره هذا نقد الحكم التسلطي في الأندلس مستعملا عظات أفلاطون كما استعمل من قبل عظات أرسطو لنقد الأشعرية أم أنه اهتم بالسياسة حتى يغطي أقسام الفلسفة، المنطق والطبيعيات والإلهيات ثم العلم المدني بتعبير الفارابي الذي يشمل الأخلاق والسياسة؟ فالمختصر يغطي القسم الثاني من العلم المدني لما كان القسم الأول هو الأخلاق وكما يصرح أيضا بذلك في العنوان.
27
ويصرح أيضا أنه يريد بيان ترتيب العلم المدني وترتيب هذا الكتاب ضمن مؤلفات أفلاطون الأخرى، مبينا فوائد وأغراض وأقسام هذا العلم على عادة المسلمين في الحديث عن العلوم.
وتظهر عدة تعبيرات تدل على أن التلخيص هو إعادة عرض المادة اليونانية في سياق آخر هو السياق الإسلامي مثل «في زماننا هذا.» «والشرائع.» «في مدننا هذه.» «من أهل بلدنا.»
28
ففي زمان أفلاطون المدينة ألف مقاتل. وهو صحيح في زمانه وبالقياس إلى الأمم المجاورة. وهو بالنسبة إلى زماننا تقدير غير صحيح، وقد اعترض عليه جالينوس أيضا بأنه في زمانه تقدير غير صحيح «ألا ترى أن هذه المدنية (في الأندلس) ينبغي أن تدفع جميع أمم الأرض.» فالمدنية محددة عند أفلاطون طبقا لحدودها ومساحتها وطبيعة الإقليم وطبائع الناس، أما مذهب أرسطو فهو أكثر عموما. وهو رأي الإسلام لقول الرسول «بعثت للأحمر والأسود». وفي زمان ابن رشد كثر السوفسطائيون حتى إذا نجا أحد من الخلق منهم فقد اصطفاه الله بعنايته السرمدية. ويعدد ابن رشد الغايات في زمنه والشرائع مثل شريعتنا هذه.
كما يظهر التاريخ الإسلامي ممثلا في ملوكه مثل ملوك الإسلام، الممالك الإسلامية وتضم إمبراطورية الفرس، والفرس. في التاريخ الإسلامي يتحدث ابن رشد عن دولة المرابطين على تماثل مدنية الكرامية مع مدنية الشهوة، فكلاهما نوع واحد. كان المرابطون في بداية عهدهم يتبعون السياسة الشرعية مع أول القائمين فيهم وهو يوسف بن تاشفين ثم تحولوا مع ابنه إلى السياسة الكرامية لما أصابه حب المال. ثم تحول صغيره إلى السياسة الشهوانية ففسدت المدنية في أيامه؛ لذلك ناهض السياسة الشرعية الممثلة في دولة الموحدين، وهنا يبرر ابن رشد سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين كانتقال طبيعي من سياسة المال والشهوة إلى السياسة الشرعية باعتباره فيلسوف الموحدين. والاجتماعات في الممالك الإسلامية اجتماع بيوت وأسر. ولم يبق لهم من النواميس إلا ما يحفظ حقوقهم الأولى، وأحيانا يدفعون لمن يقاتل عنهم، وهم قسمان: عامة وسادة كما كان الحال في فارس «وكما عليه الحال في كثير من مدننا.» وفي هذه الحال يسلب السادة العامة، ويستولون على أموالهم بما يؤدي إلى التسلط أحيانا «كما يعرض هذا في زماننا هذا وفي مدننا هذه.» وسياسة التسلط في غاية التناقض مع السياسة الفاضلة كما هو الحال في الأجزاء الأمامية الموجودة في المدن الحاضرة «في أيامنا هذه.» التشابه بين مدن الغلبة والمدن الإمامية كثير لأنه في مدينة الغلبة لا يحقق السادة للعامة غرضا بل أغراض أنفسهم. وكثيرا ما تتحول طبقة الإمامية إلى طبقة الغلبة وتتستر بالإمامية.
29
كما تظهر البيئة الجغرافية العربية مثل: الأندلس، الشام، مصر، العراق، الأكراد، الجلاقة.
وقد وصف أفلاطون هذا التحول من السياسة الفاضلة إلى السياسة الكرامية وهو ما حدث تماما في سياسة الحرب القديمة لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية. ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر، وتتحول المدينة الجماعية «في زماننا» إلى تسلط مثل الرئاسة التي قامت في قرطبة بعد الخمسمائة. فابن رشد يحقق المناط كالفقيه، ويعطي أمثلة من التاريخ الإسلامي على صدق تحليل أفلاطون «وهو شيء بين في أهل زماننا هذا ليس فقط بالقول فحسب ولكن أيضا بالحس والمشاهدة.» «لا بالقول وحسب ولكن بالمشاهدة.» وينقد ابن رشد ما طرأ «عندنا» من الملكات والأخلاق بعد العام الأربعين أي عام 540 أي خلال حكم الموحدين؛ إذ انقطعت أسباب السياسة الكرامية، وصار أمر الناس إلى الدنيويات. ويثبت منهم على الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية. وهم قلة فيهم. فالشريعة القرآنية هي الحافظة للمدن من التحول إلى مدن الكرامة والتغلب.
ويأخذ ابن رشد أمثلة من الشريعة على نحو غير مباشر لشرح أفلاطون لأسباب الحروب مثل السلب والنهب؛ فقد ترسل مدينة إلى مدينة أخرى تطلب منها العون. «إننا لا نستعمل الذهب والفضية فهو حرام في شريعتنا» وهو مسموح به عند آخرين. فيكون الذهب والفضة أحد دوافع الحرب.
30
والناموس الذي يشرع لبناء المعابد وكذا الصلوات والذبائح والقرابين التي تغرس في النفوس الخضوع وتعظيم الإله والملائكة فهو من أمر الله بواسطة النبي. وهي أمور مشتركة بجميع الشرائع لا فرق بين دين طبيعة ودين وحي، بين ما يقره أفلاطون ويقره الشرع.
وفي موضوع أن النساء كالرجال فيلسوفات وحاكمات يتحدث ابن رشد بصيغة «قلت» في أن الرجال والنساء نوع واحد في الغاية الإنسانية؛ ومن ثم فإنهم يشتركون معهم في الأفعال الإنسانية وإن كان الرجال أكثر كدا والنساء أكثر حذقا مثل الموسيقى العملية. الرجال يلحنون والنساء ينشدون ويغنون، ومثل صناعة النسيج والخياطة. يعمل النساء في المدينة ما هو أقل مشقة. أما والحرب من ساكني البراري وأهل الثغور فللنساء فيه من الذكاء وحسن الاستعداد حكيمات وصاحبات رياسة. وقد ظنت بعض الشرائع أن هذا الصنف نادر في النساء فمنعت عنهن الإمامة الكبرى. وهذا مشاهد في الحيوان عندما يقوم الذكور بالدفاع عن الإناث. وفي هذه المدن (الأندلس) اقتصرت النساء على النسل؛ الإنجاب والرضاعة والتربية والقيام برعاية الأزواج وغير مهيأة للفضائل الإنسانية مثل الأعشاب. فأصبحن حملا على المدينة وأحد أسباب فقرها. وهن ضعف عدد الرجال ولا يقمن بالأعمال الضرورية بل يرتقين بأقل الأعمال مثل الغزل والنسيج في حالة العوز والحاجة. وفي الحرب يشاركن الرجال في الموسيقى والرياضة.
وتقام الأضرحة وبيوت العبادة وأماكن للصلوات لحراس المدينة. ويشاع أنهم يصيرون ملائكة يخطون على الأرض، وهي الصورة الإسلامية للشهداء الأحياء.
31
ويعترض ابن رشد على تحريم أفلاطون استعباد اليونانيين لليونانيين وحدهم وجواز ذلك لغيرهم وجعل من يقوم بذلك فقط عصاة لا كفرة وهو الذي يعتقده أفلاطون مناقض لما يعتقده معظم واضعي الشرائع.
ويعتبر ابن رشد من الأسماء المتواطئة «الفيلسوف» و«الملك» و«واضع الشرائع»، «الإمام». فالإمام في اللسان العربي هو من يؤتم به في أفعاله، وهو الفيلسوف على الإطلاق. أما كونه نبيا فيدخل في موضوع الجزء الأول من العلم أي الأخلاق «إن شاء الله»، ويكون على جهة الأفضل لا الضروري. فليس هناك مانع من أن يكون الفيلسوف نبيا على جهة الأفضل؛ ومن ثم لا مانع أن يكون فلاسفة الشرق واليونان أنبياء. وتظهر بعض المصطلحات الفقهية مثل الجهاد بالمعنى الاشتقاقي أو بالمعنى الاصطلاحي. وقد يكون رئيس المدينة عارفا بالشرائع التي سنها المشرع الأول ويكون له قدرة على استنباط مالم يصرح به المشرع الأول فتوى وحكما. وهو المسمى عندنا صناعة الفقه. كما تكون له القدرة على الجهاد، لذلك يسمى ملك السنة. وقد لا تجتمع الصفتان في رجل واحد، فيكون أحدهما فقيها والآخر مجاهدا. ويشتركان في الرئاسة كما كان الحال عند كثير من ملوك الإسلام.
كما تظهر الفرق الكلامية إشارة إلى المتكلمين.
32
وتأتي كثير من المواد المضافة من ابن رشد فقيها. فالحاجات الإنسانية أنواع: الضروري والحاجي والتحسيني على ما هو معروف في علم أصول الفقه. وهذا هو الذي جعل أفلاطون أن يتعلم كل واحد في المدينة أكثر من صناعة. فمادة علم أصول الفقه هي التي تفسر مقالة أفلاطون.
وهناك منهجان لتحصيل الفضائل: الإقناع والإكراه كما هو الحال في شريعتنا الإلهية، فالدعوة إلى الله تعالى تكون بإحدى سبيلين؛ سبيل الموعظة وسبيل الجهاد.
ويشرح ابن رشد قول أفلاطون فيما يتعلق بشروط الرئاسة. وهي من خلق الله. فأهل المدينة إخوة من أم واحدة غير أن الله خلق في واحد الاستعداد للرياسة فخلط جوهره بالذهب الإبريز وهم المكرمون بين الناس. كما أعد الله خداما لهم، وخلط هيئتهم بالفضة. وخلق العامة في الدرجات الدنيا، وسائر الحرفيين والصناع في بعضهم حديد وفي البعض الآخر نحاس، وعهد الله إلى الرؤساء ألا يراعوا إلا أبناءهم وتقويم طباعهم نزولا على أمر العناية في تخلط المعادن بعضها ببعض، وما قدره الله لا يغيره الإنسان. ولا يعلق ابن رشد على ذلك بنظريته العقلانية والطبيعية.
33
ويحيل ابن رشد إلى المتكلمين في مسألة الخير والشر؛ فقد ذكر أفلاطون وحذر من تلاوة قصص كاذبة للأطفال لأنهم مدعاة للتصديق. كان ذلك مشهورا في أيامه. وأصبح مشهورا عندنا من التمثيل القبيح القول بأن الله علة الخير والشر وهو الخير المطلق الذي لا يفعل الشر ولا هو علة له، وما يقوله المتكلمون من أهل ملتنا في هذا الشأن من أن الخير والشر لا يتصوران في حق الله تعالى أن جميع أفعاله خير قول سوفسطائي بين السقوط؛ لأنه انكار الطبيعة الخاصة للخير والشر، ويكونان بالاتفاق. ينقد ابن رشد الأشاعرة دون تسميتهم وجعلهم الله العلة الأولى لكل شيء بما في ذلك أفعال الإنسان في الخير والشر. كما لا ينسب الشر إلى إبليس أو الشيطان فهو تمثيل ضار على الأطفال وحكاياتهم عن الشياطين وقدراتها على الأفعال العجيبة مما يعزز في نفوسهم الخوف والجبن. ومن أقبح الأمور أيضا القول بتشكل الملائكة بأشكال مختلفة وأن هذا من قبيل المعجزات. والأولى تمثيل الشر بالمادة أو بالظلمة أو العدم. ومع شيوع النسوة والولدان إذا ارتأى الرؤساء أن الحاجة تدعو إلى الإنجاب أقيمت الأفراح في المدينة، ويقربون القرابين، ويولمون الولائم، ويصلون ويتوسلون إلى الله تعالى ليلطف بهم وينشدون الأشعار.
34
ويظهر العلم الإلهي بمناسبة العلم المدني في تقسيم العلوم. فموضوع العلم المدني الأفعال الإرادية، ومبادئها الإرادة والاختيار كما أن موضوع العلم الطبيعي الأشياء الطبيعية ومبادئها الطبع والطبيعة. وموضوع العلم الإلهي الأمور الإلهية ومبدؤه الله سبحانه وتعالى. فالفرق بين الإنسان والطبيعة هي الحرية والإرادة والاختيار. ويفرد ابن رشد فقرات طويلة عن مسألة الخير والشر من الله أم من الإنسان. إذ تقول الشرائع الموجودة «في زماننا هذا» إنه ما أراده الله تعالى غير الأمر الذي أراده الله منهم تتم معرفته عن طريق النبوة. فالشرائع معرفة كما تأمر به «شريعتنا» ومعرفة عملية كما تحض عليه الأخلاق. والقصد واحد؛ لهذا اعتقد البعض أن هذه الشرائع تابعة لحكمة قديمة أي لا فرق في ذلك بين أنبياء الوحي وأنبياء الطبيعة.
والخير والشر هما النافع والضار والحسن والقبيح. ويوجدان بالطبع لا بالوضع. فكل ما يؤدي إلى الغاية فهو خير وحسن، وكل ما يضيف إليه فهو شر وقبيح، وهو ما يظهر في هذه الشرائع وخاصة شريعتنا هذه. وكثير من أهل بلدنا يرون هذا الرأي في شريعتنا هذه.
أما هؤلاء القوم ممن يعرف بالمتكلمين من أهل ملتنا ويعني الأشاعرة فقد قادهم النظر في الشرع إلى القول بأن إرادة الله لا تتعلق بما له طبيعة خاصة، وأن كل شيء جائز وإرادته مخصصة لمراداتها؛ وبالتالي فلا حسن ولا قبح إلا بالوضع، وضع الشرع، ولا غاية للإنسان إلا بالوضع. وقد انتهوا إلى ذلك لتأويلهم للصفات بأن الله قادر ومريد، وأن إرادته جائز أن تتعلق بجميع الجزئيات. فهذا تأويل على الشرع، يصفون الله بصفات ثم يطلبون بعد ذلك موافقة الجزئيات لهذه الصفات دون تناقض معها . وهو قول غير مقنع لا يتعدى القول الجدلي الذي في الشرع بل هو قول سوفسطائي بعيد عن طبيعة الإنسان، ويمنع أن يأتي به الشرع، وهو جزء من آراء الجمهور وليس من الصعب الوقوف على فسادها.
35
ويستعمل ابن رشد لفظ «إلهي» في مقابل «بهيمي» للدلالة على نوعين من الرجال والاحتياجات وعلاقة السيطرة، في القوم ينطلق البهيمي وفي اليقظة بتحكم الإلهي، فالأخلاق والسياسة يقومان على بنية واحدة. وحال وحداني التسلط هو حال من لم ينظر إلى أشرف الأجزاء فيه وهو العقل مثل المجنون والسكران. لا يريد الرئاسة فقط على الناس ولكن على الملائكة لو استطاع لذلك سبيلا. وإذا كان لا أسعد من الملك الفاضل ولا أشر من وحداني التسلط يضع ابن رشد احتمالين أمام الطاغية، إما أن يحصل على القوة العظيمة وإما استخف به. فإن قدر الله له جيرانا يستخفون به تخور قوى الطاغية ويكون أسيرا لهم.
36
ويستعمل ابن رشد آية قرآنية واحدة وحديثا واحدا ومثلا عربيا واحدا؛ الآية في شرح خصائص المدينة الفاضلة، الحجم والسكان. فعظم المدينة لا يكون بالضرورة بحجم سكانها بل ببأسهم
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين . ويظهر حديث واحد «بعثت للأحمر والأسود.» لبيان انتشار الدعوة للبشر جميعا، وهو مشابه لمذهب أرسطو على عكس أفلاطون والذي يريد تحديد حجم المدينة ومساحتها طبقا لطبيعتها ولطبائع الناس، وتظهر بعض التعبيرات القرآنية الحرة مثل «وليس عليهم جناح» أو «خفض الجناح» مثل أن يقوم الولدان مع الوالدين بما يوجب الشرع من خفض الجناح والاحترام. وربما أسقط المترجم العبري بعض الآيات القرآنية واستبدل بها بعض آيات التوراة. أما المثل العربي فهو «مصائب قوم عند قوم فوائد.» حول الشياع في المنافع والمضار عند أفلاطون.
37
ويظهر تعبير «اللهم» كأسلوب عربي وليس له دلالة دينية معينة، ويبدأ التلخيص بالبسملة وينتهي ابن رشد التلخيص بنداء «أدام الله عمركم وأطال بقاءكم.» وهي «التي ألهمنا الله تعالى إليها بفضلكم أدام الله عزكم.» ويدعو «أعانكم الله على ما أنتم بصدده وأبعد عنكم كل مثبط بمشيئته وفضله.» وينتهي بالحمدلة.
38
خامسا : مختصر المستصفى (الضروري في أصول الفقه) (ابن رشد)
(1) ابن رشد والغزالي
ولأول مرة في المختصر كنوع أدبي وربما في الشروح والجوامع يتوجه التلخيص إلى الموروث وليس إلى الوافد، إلى الداخل وليس إلى الخارج. التلخيص إذن ليس قاصرا على الوافد من أجل تمثله واحتوائه بل هو نوع أدبي من أجل التركيز على المعنى وتجاوز اللفظ بصرف النظر عن مصدر النص، صحيح أن الغالب هو نص الوافد عند ابن رشد ولكن هناك أيضا «شرح الإشارات» للكاشاني، وتعليقات ابن باجه على الفارابي، وابن طفيل على ابن سينا، فلاسفة المغرب يشرحون فلاسفة المشرق ويعلقون عليهم ويلخصونهم. وفلاسفة المشرق المتأخرون يعلقون على فلاسفة المشرق المتقدمين. ولم يحدث أن علق فلاسفة المشرق متقدمين أو متأخرين على فلاسفة المغرب؛ لأن «هذه بضاعتنا ردت إلينا» والشروح والتلخيصات على الموروث تدخل في موضوع مستقل حول النقل والإبداع داخل الموروث وحده، الإبداع في البداية ثم النقل في النهاية بعد القرن الخامس الهجري في عهد الشروح والملخصات.
والضروري في أصول الفقه، مثل الضروري في السياسة.
1
ويعني الضروري المختصر المفيد واللب والجوهر، القلب والأساس، القصد والغاية والهدف. وهو معنى التلخيص أي التركيز. وأصبح لفظ الضروري مرادفا للفظ المختصر «فهو يشبه المختصر من جهة حذف التطويل والمخترع من جهة التتميم والتكميل».
وإذا كان ابن رشد قد نقد الغزالي في الكلام باعتباره ممثلا لعلم الأشعرية وناقدا له في التصوف ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى ذلك بأنه صرح بالحكمة كلها إلى الجمهور، وناقدا له في الفلسفة رادا إليها الاعتبار في «تهافت التهافت» بعد أن نقدها الغزالي في «تهافت الفلاسفة» فإن ابن رشد هنا من كبار المعجبين بالغزالي في أصول الفقه في كتابه «المستصفى»، وهو آخر كتب الغزالي بعد عودته من الطريق الصوفي وانشغاله بالعلوم العقلية من جديد. ربما رأى الغزالي في علم أصول الفقه العلم الذي يجمع بين النظر والذوق في إطار المصالح العامة والاجتهاد والذي يضم الجهد العقلي ومجاهدة النفس في آن واحد.
هو من مؤلفات الشباب من قاضي القضاة على حجة الإسلام.
2
وليس ابن رشد أول من قام بالاختصار فقد اختصره فقيهان من فقهاء الأندلس، الأول قبله والثاني بعده. فالتقليد كان شائعا قبل ابن رشد وبعده.
3
ابتدأ ابن رشد أصوليا قبل أن يكون فيلسوفا. وقد يعني الضروري أيضا المبادئ العامة
Axioms
أو الأصول أي أصول الأصول مزيدا من التنظير والتعقيل. ينقل ابن رشد المنطق إلى «ما بعد المنطق»، والرياضيات إلى «ما بعد الرياضيات»، واللغة إلى «ما بعد اللغة». ولدى ابن رشد إحساس بالجدة والإبداع؛ فلا يسميه فقط «المختصر» بل أيضا «المخترع».
4
كتبه لنفسه على جهة التذكرة أي أنه تمرين شخصي حتى يستوعب جوهر العلم دون عوارضه، أصوله دون فروعه أي «بحسب الأمر الضروري في هذه الصناعة.» على طريقة الإيجاز والاختصار وحذف الشوائب الصناعية.
كما استطاع التلخيص تخليص كل ما علق في المستصفى من شوائب. وهي الحجج التي يقدمها الغزالي ضد المعتزلة دفاعا عن الأشاعرة، والحنفية دفاعا عن الأشعرية. وهي معارك الغزالي الرئيسية ودوره التاريخي حتى ولو كان متسترا وراء علم أصول الفقه. فابن رشد يريد تخليص العلم من أسسه الأشعرية الشافعية لوضع أسس اعتزالية حنفية مالكية أي أسس عقلية مصلحية خالصة مستقلة عن العقيدة والشريعة.
5
ومع ذلك فان التحسين والتقبيح العقليين ليسا كافيين. ونظرية الكسب الشهيرة «مخالفة للحس»، ورأي «غريب عن طباع الإنسان». ولا يذكر ابن رشد الأشعرية أو الأشاعرة في حين يذكر المعتزلة والقدرية والخوارج وأهل الظاهر والسوفسطائيين والمتكلمين. ومع ذلك يدخل في النقاش ويفصل فيه كالقاضي بين المتخاصمين «والذي ينبغي عندي أن يقال في هذا الموضع» ويتعجب ابن رشد من وضع كثير من المسائل الخارجية عن علم الأصول فيه.
ويتضح ذلك في الجزء الثالث وهو طرق الاستثمار بترديد ابن رشد عبارة «والقول في هذه المسألة ليس من هذا العلم الذي نحن بسبيله.» وأيضا بالابتعاد عن مضمون المستصفى كلية والاكتفاء بالمراتب الدلالية للألفاظ أي تحويل مبحث الألفاظ إلى جهاز بلاغي وبياني خارج القياس الصوري. ويحيل ابن رشد كل هذه الشوائب إلى علومها الخاصة مثل علم الكلام. ويخلص الدليل الأول وهو الكتاب من المسائل الكلامية.
6
وابن رشد له أسلوبه العربي ولازماته المميزة مثل «اللهم»، «وليت شعري».
ولا يستعمل ابن رشد صيغة «قال» كما هو الحال في تلخيص الوافد، فالموروث لا يقول لأنه جزء من الشارح. ولا يوجد تمايز بين الأنا والآخر في تلخيص الموروث كما هو موجود في تلخيص الوافد بل هناك خلاف في المذاهب الفكرية والمراحل التاريخية. إنما توجد صيغة «فنقول» أي الأنا المعاصر الجديد الذي يتجدد مجددا الأنا القديم الذي انتهى وولى.
7
ويحدد ابن رشد مسار فكره، مقدماته ونتائجه.
8
والفكر أيضا اقتضاء، ما ينبغي أن يكون عليه، وتظهر أفعال البيان ولكن بصورة أقل.
9
ويخاطب ابن رشد القارئ «وأنت تعلم» فالعلم تجربة مشتركة أو «اعلم».
10
كما ينفي ابن رشد الدور الذي حدده الغزالي لعلم أصول الفقه لضبط وجود وأحوال تحصيل المجهول من المعلوم للتساؤل حول أسس المعلوم نفسه. واستنباط المجهول من المعلوم تحصيل حاصل مثل استغراق النتائج من المقدمات في المنطق الصوري التقليدي.
11
ولا يعني التلخيص مجرد التركيز والحذف بل يتضمن أيضا دراسة الموضوعات نفسها وإصدار الحكم بين المتخاصمين مثل رفض أن تكون الأشياء على الخطر قبل ورود الشرع وهو «قول لا معنى له، وهو بين السقوط بنفسه.» وأخطأ من زعم أن الوجوب إذا نسخ رجع إلى ما كان قبل من حظر نظرا لوجود درجات متوسطة بين الوجوب والحظر. ويسقط من قال إن المباح مأمور به. وعند ابن رشد شرط العدد ليس شرطا من شروط خبر الواحد. ويعيد النظر في نسخ التلاوة وبقاء الحكم مثل آية الرجم «لكن عندي في هذا نظر.» هذا في القرآن المتواتر وليس عن طريق الآحاد. وينقد الشافعي أنه لا يجوز نسخ السنة المتواترة بالقرآن ويكتفي بالتأويل. وزعم الغزالي أن رد العموم إلى أقل الجمع ممتنع.
12
وأبقى ابن رشد على القسمة الرباعية للمستصفى: الثمرة وهي الأحكام، والمستثمر (بفتح الميم) وهي الأدلة الأربعة أو إحصاء الشرع، طرفي الاستثمار، وهي المبادئ اللغوية، والمستثمر (بكسر الميم) وهو المجتهد.
ولكنه حذف المقدمة الشهيرة في المنطق فمن لا منطق له فلا ثقة لنا بعلمه، فابن رشد وهو المعروف بأنه الشارح الأعظم والأرسطي الفج يرفض جعل المنطق أساسا نظريا أو مدخلا ضروريا لعلم أصول الفقه، ويريد أن يستبدل به أساسا نظرية من داخل العلم وليس من خارجه، من الموروث وليس من الوافد.
13
بل إن ابن رشد يضع علم أصول الفقه ضمن نظرية عامة في تصنيف العلوم إلى ثلاثة أصناف؛ علوم غايتها الاعتقاد والحاصل في النفس مثل علم العقائد، وعلوم غايتها العمل، كلية بعيدة عن العمل أو جزئية قريب منه مثل الفقه، وعلوم تعطي القوانين والأحوال التي بها يتوجه الذهن نحو الصواب مثل علم أصول الفقه وهو ما يعادل المنطق كآلة للفلسفة. وهو أقرب إلى الأصول الكلية للعمل. ويختلف هذا التصنيف عن تصنيف الغزالي العلوم إلى دينية وعقلية ثم قسمة الدينية إلى كلية مثل علم العقائد وجزئية مثل باقي العلوم ومنها علم أصول الفقه الذي رفعه ابن رشد إلى مصاف العلوم الكلية. وذهب الغزالي في موضع آخر إلى أن علم أصول الفقه علم نظري وهو عند ابن رشد علم آلي منطقي خارج العلوم النظرية والعملية. والآلة مثل المسبار والقانون نسبة إلى الذهن مثل نسبة الفرجار والمسطرة إلى الحس.
ثم رد ابن رشد الأقطاب الأربعة إلى قطب واحد وهي طرق الاستثمار أي الجانب المنهجي في علم أصول الفقه بالرغم من أن هذا الرد إلى القطب الثالث لا يظهر من الناحية الكمية.
14
وهو نفس الموقف عند الفلاسفة خاصة الفارابي في «كتاب الحروف» بتحويل المنطق إلى اللغة. ويمكن عرض هذا القطب الثالث بطريقتين؛ الأولى طبقا لأشهر المذاهب فيها كما يفعل أهل السنة. فالمذهب هو الأصل والمبدأ اللغوي هو الفرع، والثانية: أن يكون المبدأ اللغوي هو الأصل الذي تتفرع المذاهب عليه وهو طريقة ابن رشد من أجل إرساء القواعد وتأسيس العلم، وضع القاعدة ثم بيان اختلاف أهل القياس والظاهرية عليها. بل إنه يفرق بين القياس ودلالة الألفاظ. فالقياس خاص يريد به خاصا أي أقرب إلى التمثيل، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من جهة الشبه لا من جهة دلالة اللفظ.
ويقتضي الدليل الأول وهو الكتاب النظر في ألفاظه، حقيقة ومجازا. وهو بين لأنه بلغة العرب ولسانها بل إنه لا يوجد لسان يعرى من ذلك. وإذا كان في لسان العرب شيء من غير ألفاظها فقد عربته العرب وأصبح جزءا منها. ويجوز شرح العربية وتبديلها بالعجمية. ويضرب المثل بعنز أيل على الخبر المتواتر الذي لا يتفق متنه مع الحس. كما يرفض الموقف السوفسطائي الذي ينكر العلم بالتواتر أو بغيره.
بل إن الأصل الرابع وهو دليل العقل أو الاستصحاب يعني براءة الذمة عن الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق فيما لم يأت فيه أمر أو نهي. فهو دليل تجوزا في العبارة، ويعني الاستصحاب أيضا استصحاب العموم مالم يرد الخصوص، والنص ما لم يرد النسخ، والحكم دون التكرار، والإجماع. وهو ليس قياسا صوريا آليا، مقدمات ونتائج أو ماديا يقوم على التعليل.
15
ومعنى اللفظ حسب الاستعمال العربي وعادة العرب وكلام العرب. ويستشهد ابن رشد بالشعر العربي على أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى. وإذا كان الإجماع يتوقف على العلم بالكتاب فشرطه علم اللغة واللسان.
ويحل ابن رشد كثيرا من المسائل الأصولية ذات الأصول الكلامية بناء على تحليل الألفاظ ويقول «وهذه المنازعة لفظية.»
16
وكثير من الدعاوى لغوية وعلى مدعيها إثبات ذلك عرفا شرعيا أو وضعا لغويا. كما أن مسألة الحرام الواجب «من جهة صيغة لفظ النهي.» بل إن للمتكلمين مصطلحاتهم، والكلام نفسه مصطلح. (2) تراكم الموروث
ويتصدر الموروث الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
17
تستعمل الآية القرآنية دليلا على الاستثناء في اللغة. ومن المؤلفات يتصدر بطبيعة الحال المستصفى للإمام أبي حامد ثم مختصر ابن رشد ثم البخاري والرسالة النظامية للجويني.
18
ومن أسماء الأعلام يتصدر الرسول فهو المرجع الأول.
19
وربما ما يدل على النزعة السلفية عند ابن رشد، ثم الغزالي بطبيعة الحال موضوع التلخيص وليس النقد، ثم الشافعي، ثم أبو حنيفة من أجل التحول من الوسطية إلى العقلانية، ثم القاضي وهو في أغلب الظن ابن رشد، ثم البخاري وداود والكرخي الفقيه جامع السنة مساو لمؤسس الظاهرية لأحد الصوفية، ثم الخلفاء الأربعة، باستثناء أبي بكر، ومسلم صاحب الصحيح، وأبو هريرة المحدث، ومعاذ الصحابي، وأبو يوسف صاحب المذهب الذي اختفى في الشافعية، وسيبويه فقيه اللغة، والأشعري والجويني من المتكلمين، وفاطمة بنت قيس والأشجعي اللذان رد عليهما عمر.
ويدرك ابن رشد أهمية الزمان والتطور واختلاف المراحل راصدا تطور علم أصول الفقه «في هذا الزمان» منذ وفاة الرسول وتفرق الصحابة دون حاجة الأعراب إلى قوانين يزنون بها كلامهم. ويسقط الاعتراض أن الصدر الأول لم يكن يعرف هذا العلم لأنهم مارسوه عملا دون صياغته نظريا كما هو الحال في الشعر قبل أوزانه، والنشر قبل البلاغة.
20
ويخطئ القاضي الشافعي بجعله البسملة آية من كل سورة تقرأ في كل صلاة. ويرفض ابن رشد قول الغزالي أن كل مجتهد مصيب بالرغم من رده على كل الاعتراضات التي تثبت استحالة الصواب في اجتهادات متناقضة. واتبع طريقين؛ الأول أن الأدلة ظنية تختلف من شخص إلى شخص. ولو كان اليقين واحدا عند كل الناس لكان تكليفا بما لا يطاق. ويرى ابن رشد أن هذه كبيرة وتحكم في الشرع بالأهواء والإرادات «ونعوذ بالله من ذلك.» فالأدلة الشرعية نوعان؛ قطعية وظنية، والظنية تعتمد على أصول قطعية. والأدلة الظنية لألفاظها. فإذا أفادت دلالتين فهي مجملة. وإنكار دلالة الأدلة القطعية قول سوفسطائي يحدث ضررا في الشريعة. والثاني هو أن ترك الواجب يتضمن عقابا. فلو كان شيئا معينا لكان تركه إثما. وقد انعقد الإجماع على سقوط الإثم عن المجتهدين ومن ثم انتفاء الخطأ. ويرد ابن رشد على هذه الحجة بأنه لا يلزم عن سقوط التأثيم انتفاء الخطأ، فالخطأ غير المتعمد مصفوح عنه في الشرع. وهو الخطأ الواقع عن الغفلة والسهو والنسيان. أما ترجيح جهات النقل فكل إنسان قادر على أن يعرفها بنفسه.
21
وينقد ابن رشد فقهاء الكسب عند الأشعري. بل إنه لا يوجد اكتساب فعل للإنسان بل مجرد مصاحبة فعل دون تسبب قريب أو بعيد، «وهذه مخالفة للحس ورأي غريب جدا عن طباع الإنسان.» وقد بين ذلك أيضا الجويني مضيفا جواز تكليف ما لا يطاق ، وهو ما يمتنع عقلا لقوله تعالى
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
فلا عذاب إلا بعد معرفة الله والإيمان به وطاعة أوامره. وتؤول الآية طبقا للأصل العقلي.
22
ومن أسماء الفرق والطوائف الصحابة وأصحاب الرسول جمعا، والصحابي مفردا مما يدل ربما على سلفية ابن رشد ثم المجتهدون وأهل الاجتهاد جمعا والمجتهد مفردا مما يدل على حداثة ابن رشد والتوتر في كل فقيه بين التقليد والاجتهاد.
23
ويضع ابن رشد أهل السنة والمعتزلة على التقابل في تعريف الحسن والقبح في حد الحكم، ويعني بأهل السنة الأشاعرة، فالمعتزلة من أهل السنة بدلا من استعمال الغزالي لفظ «عندنا»، ويعني به أهل السنة.
24
ومن أسماء العلوم يتصدر بطبيعة الحال أصول الفقه باعتباره موضوع التلخيص ثم علم الكلام فهو الشق الثاني من علم الأصول، أصول الدين، ثم صناعة الفقه وهي المادة التي ينظرها علم الأصول.
25
ومن أسماء الأماكن يذكر مسجد قباء، وبين المقدس والكعبة وكلها بيوت للعبادة.
26
وبطبيعة الحال يبدأ التلخيص بحمد الله «معلم البيان، وموجب النظر والاستدلال، ومختص الإنسان بإقامة الحجج البالغة وضرب الأمثال.» والصلاة على «خاتم الرسل ونهاية التمام والكمال.» فتصور الله نابع من كل علم. فإذا كان علم أصول الفقه هو علم الاستدلال فالله هو موجب النظر والاستدلال خص الإنسان بإقامة الحجج والأدلة، وضرب الأمثال. وإذا كان الإسلام خاتم الرسالات بعد تطور الوحي والشريعة فإن الاستدلال يكون للبنية بعد التاريخ، وللتحقق بعد التجربة، وللنهاية بعد البداية. وينتهي التلخيص بالحمدلة والصلاة على خاتم النبيين، واسم مالك المخطوط والدعوة له.
27
الفصل الثالث
الجوامع
أولا: جوامع شعر للفارابي
يظن الكثير أن «الجوامع» مصطلح رشدي أو نوع أدبي ابن رشد هو أول من كتب فيه، وهو في الحقيقة مصطلح الفارابي مثل أنواع الأقاويل الثلاثة الخطابي والجدل والبرهاني. فالفارابي هو المعلم الثاني وابن رشد هو الشارح الأعظم، وقد كان ابن باجه هو الصلة بينهما. وهو الذي حول التعليق إلى نوع أدبي مستقل. كتب الفارابي جوامع الشعر.
1
وهو الوحيد من كتب المنطق الذي صب في هذا النوع الأدبي، وهي قصيرة مثل: الجوامع، مركزة للغاية، تعطي اللب والجوهر، ترى الموضوع ذاته فيما تحت اللفظ، وفيما وراء المعنى.
2
والجوامع لفظ في صيغة الجمع وليس له مفرد «جامع» في حين أن اللفظين الآخرين الشرح أو التفسير والتلخيص في صيغة المفرد. ربما لأن «الجوامع» هي التي تضم الموضوعات وتجعلها في نسق واحد، تبدأ من الكل إلى الأجزاء في حين أن الشرح أو التفسير يبدأ من الأجزاء إلى الكل. أما التلخيص فإنه أيضا يبدأ من الجزء إلى الكل وفي نفس الوقت من الكل إلى الجزء. يبدأ بالقول الجزئي وينتهي إلى المعنى الكلي.
ولا يوجد أي ذكر للوافد حتى أرسطو. فالجوامع هنا أقرب إلى التأليف غير المباشر، لم يذكر إلا أوميروس واليونانيون والقدماء.
3
ويضرب المثل بأوميروس شاعر اليونانيين بعدم تساوي النهايات في الأبيات. فقوام الشعر وجوهره عند القدماء أن يكون قولا مؤلفا مما يحاكي الأمر، وأن يكون مقسوما بأجزاء ينطق بها في أزمنة متساوية.
4
ومن الموروث يظهر العرب، وفي أول عبارة، وكأن الفارابي يكتب للبيئة الثقافية الجديدة وليس لليونان، البيئة الثقافية القديمة التي نشأ فيها النص أول مرة. يلاحظ الفارابي أن للعرب عناية بنهايات الأبيات التي في الشعر ويعني القوافي أكثر مما لكثير من الأمم. ويقارن بين النغم في الشعر العربي والنغم في شعر باقي الأمم. ويعني بالنغم الشعر أو وزنه. فبعض الأمم يجعلون النغم الذي يلحنون به الشعر جزء منه فلو وجد القول دون اللحن بطل الوزن، والعرب لا يجعلون النغم كبعض حروف القول، ويجعلون القول بحروفه وحدها. ويضرب الفارابي المثل بزيد كما هي العادة في الأسلوب العربي، عمل تمثال لزيد أو صنع مرآة يرى فيها تمثال زيد.
5
ثانيا: جوامع المنطق (ابن رشد)
(1) جوامع الجدل
ابن رشد هو الذي أفاض في الجوامع كنوع أدبي ودون فيه الشرح الأصغر، ولا يوجد منها إلا جوامع كتب المنطق الأخيرة، الجدل والخطابة والشعر، وجوامع الطبيعيات الخمس: السماع الطبيعي، السماء والعالم، الكون والفساد، الآثار العلوية، النفس، وجوامع ما بعد الطبيعة .
1
وتتفاوت الجوامع المنطقية كميا، أكبرها الخطابة، وأصغرها الشعر، وأوسطها الجدل .
2
وهو نفس التفاوت في التلخيص. فتلخيص الخطابة أكبر التلخيصات. ومن الواضح أن الجوامع كانت أيضا لباقي الكتب المنطقية البرهانية قبل التصديقات الجدلية والبلاغية. ويضم الخطابة والشعر في الأقاويل البلاغية، ويسقط السفسطة أو المغالطة أو التبكيتات السوفسطائية ربما لأنها التطبيقات السلبية للجدل. فالمنطق له وحدة واحدة وجوامعه ومراحله المتعددة.
3
ويستمد ابن رشد بعض أمثلته من ثقافته الطبية مثل ضرب المثل بأن السقمونيا تسهل الصفراء على الاستقراء، وأن المقدمات تكون من جنس العلوم مثل مقدمات العلم من صناعة الطب.
4
وفي أفعال القول لا تظهر الصيغة النمطية «قال» لأن الجوامع لا تبدأ بالقول بل بالشيء ولا تظهر كل الصيغ المشتقة منها مثل «يقول»، «قوله». ولا تظهر إلا صيغ المتكلم «نقول»، «قلنا» مما يدل على أن الجوامع إنما هي تأليف غير مباشر يقول فيها ابن رشد ويختفي أرسطو كقائل.
5
بل وتقل أفعال القول كلها لصالح الأسماء لأن الجوامع رؤية للموضوعات نفسها وليست شرحا أو تفسيرا أو تلخيصا للأقوال.
6
فالجوامع رؤية للاستقراء والقياس والمقدمات والكليات والمواد والمقدار وصور القضايا وأصنافها، وتبدو أفعال الشعور المعرفي في أفعال البيان والاستعمال والاضطرار.
7
كما تبين الصيغ الشرطية مسار الفكر، والانتقال من المقدمات إلى النتائج.
ويبدأ ابن رشد بتحديد الغرض؛ فالغرض هو أقصر طريق لاقتناص الموضوع، ويتحدد مسار الفكر بالإحالة إلى السابق واللاحق.
8
وفي الجوامع يقل الوافد والموروث لأن الجوامع تعتمد على الداخل على بنية الموضوع وليس على المكونات الخارجية له ومصادره في الوافد والموروث. الجوامع بهذا المعنى أقرب إلى الإبداع الخالص وخطوة متقدمة نحوه قبل العرض والتأليف والتراكم.
فمن الوافد لا يظهر إلا أرسطو وثامسطيوس وأبقراط.
9
فيشار إلى أرسطو وتمييزه بين الأقاويل الجدلية والبرهانية ليس فقط في المواد بل أيضا في القول، وأن هذه الأقاويل الجدلية وإن لم تكن برهانية إلا أن منافعها في الارتياض نظرا لأن كثيرا من المقدمات المشهورة متقابلات تثبت وتنفي في نفس الوقت.
10
ويحال إلى ثامسطيوس في حكمه على أحد الأقيسة أنه ليس بجدلي، وإلى قول أبقراط كمثل على المشهورين بالحذف في الصنائع من غير أن يخالفهم أهل الصناعة وهو أن الإعياء الحادث من غير سبب متقدم منذر بمرض.
ومن مؤلفات أرسطو المنطقية يحال إلى القياس والبرهان والجدل.
11
يحال أولا إلى القياس في أنواع الأقيسة الثلاثة، الحملي والشرطي والخلف، البسيط منها والمركب. ويحال ثانيا إلى كتاب البرهان في تصور الأشياء التي منها تلتئم الحدود. ويحال ثالثا إلى كتاب الجدل في المنافع الأخرى لهذه الصناعة.
12
ومن المورث لا يظهر إلا الفارابي.
13
ويدافع ابن رشد عنه حيث ظن الناس أنه قد سقط منه كثير من ضروب المقاييس البرهانية وهي في الحقيقة مقاييس جدلية. ويحكم ابن رشد بين الفارابي وثامسطيوس إذ اعتبر الفارابي أن أحد الأقيسة جدلي في حين اعتبره ثامسطيوس غير جدلي. ويأخذ ابن رشد صف الفارابي «وأنا أقول» مبينا السبب وهو أن التصديق غير مشهور اليقين ومقياسه كون المحمول في جوهر الموضوع وكون الموضوع في جوهر المحمول وإلا كان التصديق مجرد شهرة واستقراء.
14
وتظهر بعض الأمثلة الدينية للمقدمات المشهورة عند الجميع الذي تتفق عليه جميع الأمم مع تباين محلها وفطرها مثل أن شكر المنعم حسن وبر الوالدين واجب. كما يضرب المثل على المقدمات المشهورة عند الأكثر دون الباقين مثل أن الله واحد. فالأخلاق تجتمع عليها كل الأمم، والدين خاص بكل أمة على حدة.
15
وكما تبدأ الجوامع بالبسملة والدعاء تنتهي أيضا بالحمدلة والدعاء.
16 (2) جوامع الخطابة
وكعادة الجوامع تتوجه جوامع الخطابة نحو الموضوعات أكثر من توجهها نحو الأفعال أو الأدوات.
17
وتغيب أفعال القول وفي صيغة «قال» وتحضر نسبيا في صيغ «نقول». فالجوامع لا تبدأ من الأقوال المباشرة كالشرح والتفسير أو غير المباشرة كالتلخيص بل تصف الموضوعات عودا إلى الأشياء ذاتها.
18
ابن رشد هو الذي يقول وليس أرسطو. هو الذي يصف وليس أرسطو، ولا يتم اللجوء إلى أرسطو إلا استشهادا به وإثباتا للاتفاق أو تخليصا من سوء تأويل الشراح يونان ومسلمين أو اختلافا معهم وهو الأقل. فكمال العقل واحد بين ابن رشد وأرسطو. والأسماء والموضوعات التي يصفها ابن رشد هي كل ما يتعلق بالمقاييس الخطابية، أصنافها (ضروبها) وصورها ومثالاتها ودلالتها وتشبيهاتها وأسبابها وكيفية الاستشهاد بها.
19
كما تظهر ثقافته الطبية في ضربه الأمثلة مثل الذي يصفها إلى أقوال الأطباء فلا يبرأ.
20
وتتراوح الأفعال بين أفعال البيان والاقتضاء والتقديم. أفعال البيان مثل «تبين»، والاقتضاء مثل «ينبغي»، والتقديم مثل «فرغنا»، وذلك في إطار الغرض الكلي.
21
كما يكشف استعمال أدوات الشرط مسار الفكر من المقدمات إلى النتائج وكذلك التذكير بالسابق، والتنبيه على اللاحق، وفواصل الموضوعات وأقسامها، ما تم الانتهاء منه سلفا وما لم يتم.
22
ويراجع ابن رشد بعض الأخطاء السابقة مثل من اشترط في الأخبار عددا يحصل عنه اليقين بالذات فإذا لم يحصل قيل إنه محصن في نفسه وليس عند الأشخاص. «وهذه مغالطة بينة.» فلو كان ذلك صحيحا لما تفاضلت الأشياء المتواترة في عدد المخبرين ولأمكن الإحساس بالعدد والوقوف عليه. والكثرة والقلة قريبة من القرائن. وكل شروط أخرى لا تعطي اليقين؛ لذلك فضل البعض أن يحدد اليقين الشروط لا أن تحدد الشروط اليقين.
23
ويتصدر الوافد الموروث. وفي الوافد يتصدر أرسطو وجالينوس وأفلاطون، وأفراطغوروش ثم سقراط.
24
فقد تبين لأرسطو مرتبة الأقيسة الخطابية في التصديق واستعمال الجمهور لها. وأعطاها القوانين التي يمكن بها الإقناع. واستعمل أمثلة من محاورات أفلاطون على أنواع القضايا كما قيل في مناقطة أفراطغوروش حين قال له أفراطغوروش: «لا شيء ما مدرك» فقال له أفلاطون «فشيء ما مدرك»، وكلاهما حكمان. ويضرب المثل بالمقدمات التي ليست أقاويل مثل مقدمات جالينوس التي لم تتدنس برأي فاسد ولا كان مقلدا. ويستعمل جالينوس وكثير من المشرحين هذا النوع من القياس الاستثنائي في استنباط ما جهل أسبابه من أفعال الحيوان.
25
ويضرب المثل بالحكماء وسقراط في قضايا مثل «الحكماء فاضلون لأن سقراط حكيم وفاضل».
ويكثر نسبيا تردد لفظ القدماء ثم الحكماء مما يدل على الوعي التاريخي عند كل من أرسطو وابن رشد. يستشهد بقول بعض العلماء على الاستثناء المقنع مثل «إن كان الموجود تكون فله مبدأ لكنه لم يتكون فليس له مبدأ.» ويؤخذ منهم مثل الدليل الأشبه أو الدليل المشتبه. كما أسقط القدماء ضربا من العلامات على قوة المقدمات. وقد اضطر القدماء لتقسيم مقدمات الضمائر حسب المواد نظرا لضعف المقدمات الشائعة وقوتها، وقد استعمل القدماء هذه المقدمات الخطابية لأنهم كانوا يظنون أنها تؤدي إلى اليقين.
26
ويحال إلى باقي مؤلفات أرسطو المنطقية والطبيعية مثل القياس ثم الحاس والمحسوس.
27
فقد تبين في كتاب القياس بأنه يكون منتجا إذا كان صحيح اللزوم، ويكون المستثنى فيه مبينا بقياس حملي. ومبين أيضا فيه أن القول المنتج بالضرورة إنما هو يبين فيه الجزئي بالكلي. ويحال إلى الحاس والمحسوس في السبب في حصول اليقين. وهو خارج عن صناعة الخطابة وأدخل في علم النفس المعرفي. كما يحال إلى كتاب المجسطي الذي بلغ من الشهرة درجة إسقاط مؤلفه بطليموس، ويضرب به المثل على الكتاب الذي يمكن قراءته ما لم ينظر قط في شيء من الهندسة، ويكون حدوث العالم معلوما بنفسه.
ومن الموروث يتصدر الغزالي والجويني ولكل منهما كتاب، «التفرقة بين الإسلام والزندقة» للغزالي و«الإرشاد» للجويني.
28
ويضرب المثل بما لم يستوف جميع المعاندات قول أبي المعالي في «الإرشاد» حين أراد أن يبطل التكون عن الأسطقسات. وقد أسقط القول أحد ما ينبغي أن يجعل معاندا في القياس. فابن رشد يستعمل قضايا علم الكلام الأشعري ليبين تهافتها من حيث صورها المنطقية. كما يشير إلى بعض متأخري المتكلمين مثل أبي المعالي وقوله إنما يفيد المثال اليقين على جهة الإرشاد والتصفح فقط لا على جهة القياس. ولما كان لا يقول بالقياس الصحيح الشكل لزمه أن تكون العلوم كلها أولية فلا يكون هناك معلوم بقياس، وأنه يمكن قراءة المجسطي ما لم ينظر قط في شيء من الهندسة ويكون حدوث العالم معلوما بنفسه.
ويحال إلى أبي حامد في قوله إن خارق الإجماع ليس بكافر الذي صرح به في «التفرقة بين الإسلام والزندقة» وإنه لم يجمع بعد على ما هو الإجماع في موضوع الإجماع كوسيلة للإقناع نظرا لشهادة الشرع للمجمعين بالعصمة. كما يعتمد على أبي حامد في «القسطاس» على أن الإيمان بالرسل بطريق المعجز على ما رسمه المتكلمون هو طريق جمهوري وإن طريق الخواص هو غير هذا. هنا يبدو ابن رشد معتمدا على أبي حامد وليس معترضا عليه أو ناقضا له.
29
كما يشير ابن رشد إلى «المتكلمين من أهل ملتنا» في موضوع المقنعات التي ليست أقاويل إذ إنهم لم يقتصروا في معرفة حدوث العالم ووجود الباري وغير ذلك على شهادة الشارع فقط بل استعملوا في معرفة ذلك المقاييس في حين رفضت الحشوية ذلك.
30
وتظهر بعض المفاهيم الكلامية غير المباشرة مثل الجور والعدل، والنافع والضار. الأولى في المخاطبة المنافرية والثانية في المشاورية مما يدل على إعادة التعبير عن الموضوعات بمعطيات موروثة لأنها أكثر وضوحا وأسرع فهما.
وتبدو المادة الإسلامية في «جوامع الخطابة» كما بدت من قبل في «تلخيص الخطابة». وهي المادة الخاصة بالإيمان والشهادات والإجماع والترغيب والترهيب والتحدي والمراهنة كمقنعات ليست بأقاويل. وهي المقنعات من الخارج. ومن أقواها مرتبة الشهادة. فالشهادة خبر. والمخبرون إما واحد أو أكثر. والأكثر قد يكون جماعة يمكن أو لا يمكن حصرها. والأشياء المخبر عنها إما محسوسة أو معقولة. والمخبرون إما أن يكونوا أحسوها بأنفسهم أو مخبرين عن آخرين. والأشياء المحسوسة المخبر عنها إما تكون عن أمور ماضية لم يحس الحاضر بها أو عن أمور حاضرة غائبة لم يحس المخبرون بها. والأشياء المحسوسة بها مباشرة لا فائدة من الأخبار فيها، وكذلك المقولات التي يستطيع كل إنسان الاستدلالات عليها. إنما يحتاج الجمهور إلى الشهادة لمعرفتها، والشهادة والأخبار عن الأمور المحسوسة التي لم تشاهد يقوى التصديق بها ويضعف بحسب عدد المخبرين وغيره من القرائن، وأقواها ما أخبرت به جماعة لا يمكن حصرها. ما زاد على واحد فصاعدا، واستواء أولها ووسطها وآخرها، وهو ما يسمى بالتواتر، وبه يحصل اليقين في أمور مثل بعث النبي ووجود مكة والمدينة. وتصديقها بالذات وليس بالعرض أي بالحس، فمن فقدها فقد علما. ويضاف إلى الحس الخيال أو القياس. أما الأمور المحسوسة التي لا تمس ولا يدرك وجودها بقياس يحصل اليقين بوجودها على الأقل. تدرك أسماؤها أو ما يدل عليها بالحس وليست بالشخص. والتصديق بذلك عن أكثر الناس عن طريق التواتر والأخبار المستفيضة وهو تصديق بالعرض لا بالذات لأن صدقها راجع إلى سببها وهو الأخبار مثل تبعية المسببات لأسبابها العرضية. ويستحيل تحديد عدد يحصل به اليقين وإلا لما تفاضل اليقين بالعدد، قلة أو كثرة. لا تحدد الشروط اليقين بل اليقين هو الذي يحدد الشروط. والشهادات تؤخذ من الأكثرية ظنا. ولا تعتمد عليه الصناعة أصلا لذلك يؤخذ على الأقل. والاستشهاد بالسنن المكتوبة يتم التصديق بها بالنشأة والاعتياد بما في ذلك التصديق الجازم بالخرافات. والإجماع اتفاق أهل الملة وتواطؤهم على أمر فيها، ومستند شهادة الشرع للمجمعين بالعصمة بناء على حديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة.» لذلك لا يكفر خارقه. أما التحدي فإنه يكون بالمعجز الخارق للعوائد وهي الأمور الممتنعة على البشر. ومن الواضح أنه حتى إذا كان الشيء في غاية الغرابة فإنه لا يفيد إلا حسن الظن لفاعله والثقة بفضيلته إذا كان أمرا إلهيا. فالإيمان بالرسل عن طريق المعجز طريق جمهوري وليس طريق الخاصة. هذه هي الأمور الخارجة التي يظن لها حصول اليقين.
وهناك مادة غير مباشرة مستقاة من البيئة الإسلامية لضرب المثل بها على دليل الأشبه مثل «فلان يجمع الرجال ويعد السلاح ويحصن بلاده وليس قربه عدو فهو إذن مزمع أن يعصي السلطان.» هذه صورة من البيئة المحلية ومن الأوضاع السياسية للتاريخ الإسلامي في الأندلس وخارجه. كما يضرب المثل بالشبيه في المناسبة بعبارة الملك في المدينة كالآلة في العالم وكما أن الإله واحد كذلك ينبغي أن يكون الملك. وهي عبارة في ظاهرها البراءة المنطقية وفي حقيقتها وضع الإصبع على سبب وحدانية التسلط بتعبير ابن رشد، بنية السلطة سواء كانت السلطة الكونية، وإله العالم أو السلطة السياسة، الملك في المدنية.
31
وكما تبدأ جوامع الخطابة بالبسملة والدعاء تنتهي بالحمد لله.
32 (3) جوامع الشعر
لا تظهر فيها أفعال القول في جميع سياقها بل تتجه كل الموضوعات ذاتها مثل الأقاويل الشعرية والخيالات، وهذه الصناعة.
33
ولا يظهر إلا الوافد دون الموروث بالرغم من ارتباط الموضوع بالموروث وكما وضح في «التلخيص». ومن الوافد لا يذكر إلا أرسطو وابن دقليس، ومن الكتب السفسطة لما رأى أرسطو أن هذه الصناعة عظيمة الغناء لتحريكها نفوس الجمهور نحو اعتقاد شيء ما أو عدم اعتقاده من أجل الفعل أو الترك عدد الأمور التي يمكن أن تكون موضع التخييل. وهي صناعة الشعر، ويذكر قول ابن دقليس كنموذج على اخذ خيال الشيء على أنه الشيء؛ أن ماء البحر عرق الأرض اجتمع في مثانتها وهو خطأ. ويحال إلى كتاب السفسطة في الأشياء التي لا يمكن أن تتصور إلا بخيالاتها أو يعسر تصورها فتكون كثيرة التغليط كمن لا يقدر تصور موجود لا داخل العالم ولا خارجه.
34
وربما لا يظهر من الموروث إلا الموضوعات المتشابهة وعلى نحو غير مباشر مثل التبديل والاستعارة والبسملة والحمدلة في البداية، والله الموفق للصواب في النهاية.
35
ثالثا: جوامع الطبيعيات (ابن رشد)
(1) السماع الطبيعي
وهو الكتاب الأول من المؤلفات الطبيعية مع السماء والعالم، والكون والفساد، والآثار العلوية، والنفس.
1
وتختلف فيما بينها كما. أكبرها السماع الطبيعي وهو الذي يشمل المبادئ العامة للفلسفة الطبيعية، وأصغرها الكون والفساد.
2
ويقصد ابن رشد من هذه الجوامع أن يجرد الأقاويل العلمية من كتب أرسطو التي يقتضيها مذهبه بل وأوثقها فحسب، وحذف ما علق به من أقوال غيره من القدماء لأنها قليلة الإقناع وغير نافعة في معرفة مذهبه. الغاية إذن تخليص أرسطو من براثن الشراح والعودة إلى أرسطو وبناء مذهبه. وقد يعتمد بعض آراء القدماء إذا كانت أشد إقناعا وأقوى حجة. كان الدافع على هذه الجوامع أن كثيرا من الناس يعرفون مذهب أرسطو دون الوقوف على حقيقته.
فيختفي الحق أو ينقلب باطلا. ويلخص ابن رشد الكتاب مقالة مقالة مجردا الأقاويل العلمية بعد حذف الأقاويل الجدلية التي كان أرسطو مضطرا إليها في الفحص عن المطالب الفلسفية والسجال مع آراء السابقين وعلى وجهة الارتياض أي التمرينات العقلية لإخراج الحقيقة من تطورها، والبنية من تاريخها. تعني الجوامع هنا أيضا التلخيص أو تلخيص التلخيص. ويصحح ابن رشد أقوال الشراح عودا إلى أرسطو، مفسرا أرسطو بأرسطو . وكل الذين عاندوا أرسطو من الشرح فأقاويلهم كلها خطابية أو سوفسطائية.
ولا تظهر صيغ أفعال القول على الإطلاق ممثلة في صيغة «قال» إلا مرة واحدة أو «يقول» إشارة إلى أرسطو، هناك باستمرار صيغ «قال» في ضمير المتكلم الجمع «نقول»، «نحن نقول» زيادة في التأكيد أو المفرد مع التوكيد مثل «أنا أقول». وتوجد صيغ المبني للمجهول مثل «قيل» أو «يقال» في حين يكثر تعبير «وبالجملة» أي الرؤية العامة الكلية للموضوع. وتبدو ثقافة ابن رشد الطبية. فصاحب العلم الطبيعي ينظر في المادة والصورة كما ينظر الطبيب في الصحة. وموضوع الصحة وإن يكون الطبيب المعالج عربيا أو أعجميا هي صفة بالعرض فيه والعلاج صفة ذاتية.
3
والجوامع أيضا نظرية في البيان والظهور.
4
ففي الجوامع وضوح الفارابي وبساطته وشفافيته. كما أن الفكر مسار له مقدماته ونتائجه، قصده وغرضه، براهينه واستدلالاته التي يعبر عنها بأفعال الشعور المعرفي مثل ظن، ينبغي أو بأسماء «غرضه»، البرهان، «السبب» أو بأدوات الشرط «إذا كان ...» ومن مقاييس صحة الفكر الاتساق وإلا كان خلفا. وهو ليس فقط فكرا استدلاليا برهانيا بل هو أيضا فكر استقرائي يبحث عن العلل والأسباب. ويعرف ابن رشد حدود السماع الطبيعي ويعود إليه بعد الاستطرادات التي يضطر إليها بإدخال الجزء في الكل أو تنبيها على خلط وتصحيحا لسوء تأويل.
5
وبعد كل جانب من جوانب الموضوع يتم الإعلان عنه ثم بداية جانب آخر من أجل ربط الأجزاء والتذكير بها في كل واحد.
6
ويتصدر الوافد الموروث. ومن الوافد بطبيعة الحال يتصدر أرسطو ثم ثامسطيوس ثم أفلاطون ثم أنكساجوراس والإسكندر وثاوفرسطس ويحيى النحوي.
7
ويتبع ابن رشد عادة أرسطو بالبداية بالمادة الأولى لأنها أشهر الأسباب عند القدماء. ويؤيد فحص أرسطو الشكوك حول السبب الذي هو الغاية. فالطبيعة لا تفعل باطلا، ويكشف عن السبب الذي من أجله بدأ أرسطو بالمادة الأولى، وحد الحركة، واتبع ترتيب أرسطو لشهرته. ويدافع عن نقد أرسطو أن الحركة والزمان متناهيان من أحد طرفيهما وغير متناهيين عن الطرف الآخر. فذلك ممتنع بالرغم من ظن البعض أن وجود ما لا نهاية له في الحركة والزمان ممكن بالقوة في المستقبل وممتنع في الماضي اعتمادا على حجج واهية. وما يقوله أرسطو ظاهر بين بنفسه. كما يأبى أرسطو أن يكون المقدار إلى ما لا نهاية. ويستشهد ابن رشد بأمثلته اليونانية مثل «دخول السماء في قبة جاورس.» دون تغيرها إلى أمثلة عربية مستقاة من البيئة كما فعل ذلك من قبل في تلخيص الخطابة وتلخيص الشعر، كما فصل أرسطو رأيه في الزمان أنه عدد الحركة أي أنه خارج النفس. ويتابع ابن رشد أرسطو في بيان أي جنس من المقولات توحيد الحركة بالرغم من أن أقوال أرسطو بينة بنفسها إنما المهم جهة اليقين والطرق المستعملة في ذلك الاستنباط عن طريق القسمة والاستقراء وشرح ما يدل عليه الاسم. والطبيعة لا تفعل باطلا. ويصحح أرسطو أخطاء القدماء بالاستقراء.
8
وقد ظن ثامسطيوس أن المتغير عند أرسطو بالتقديم بعد أن أطلقه الشراح وتخصيص ثامسطيوس لذلك للبرهان وليس لإعطاء سبب الوجود.
9
ويرى ابن رشد أن هذا كله عدول عن فهم برهان أرسطو. وكان يلزمه شك القدماء إذا كانت المتغيرات في غير زمان هي بالموضوع غير المتغيرات في زمان. وتجري الابتداءات عند ثامسطيوس مجرى النهايات في كل شيء، وأن الموضع الذي غلط فيه ثامسطيوس ومعه ثاوفرسطس ومن تبعهم من المفسرين هو من أحد مواضع الأبدال الذي يؤخذ فيه الشيء خياله ومثاله، ثم تؤخذ الأشياء الصادقة على خيال الشيء ومثاله صادقة على الشيء. ولما شعر ثامسطيوس بالتعارض بين حسن الظن بأرسطو مع ما في نفسه من مقدمة شعرية صرف التأويل إلى قصد أرسطو ضد ظاهر كلامه، وقد أخطأ ثامسطيوس بظنه أن الاستقراء كاف لإثبات أن كل متحرك له محرك. ومذهب أفلاطون أن الزمان والحركة حادثتان ويوجد أي جزء منهما إلى غير نهاية؛ إذ يقول بتكوين العالم وبأزليته في آن واحد. وعند أرسطو أن الجزء لا بداية له ولا نهاية له، فالمادة قديمة وأزلية؛ وبالتالي يكون أفلاطون أقرب إلى الخلق في البداية والخلود في النهاية إلى التصور الإسلامي، ويذكر أفلاطون في لغزه أن قوما أسرى محبوسين تحت الأرض منذ لا يشعرون بالزمان أصلا لأنهم لم يحسوا حركة الجرم العالي وهو محال لأن الحركة سريعة وبطيئة، وعند الإسكندر الزمان نفسي، ولولا وجود النفس لما وجد الزمان ولا الحركة أصلا. ويقول أنكساجوراس بوجود أجسام لا نهاية لها بالعدد غير متماسة كما هو الحال في الخليط.
10
ومن أسماء الفرق يتصدر القدماء وقدماء الطبيعيين ثم المشاءون.
11
يرى كثير من قدماء الطبيعيين أنه لو كانت الصورة من ضرورة المادة لما كان هناك فاعل ولكان مبدأ الأمور الطبيعية الاتفاق. وكان قدماء الطبيعيين يتصورون جسما طبيعيا غير متناه. وقد وقعت للقدماء شكوك على أرسطو لأنهم أخذوا المتغير على العموم. وإذا أخذوا المتغير فيأخذونه بالتقديم كما يظنه ثامسطيوس، وقد ظن كثير من المفسرين أن المقدار بمعنى واحد في مقالات السماع. ومع ذلك أغفل القدماء النظر في أمر الحركة لخفاء حدها عليهم بالرغم من حد أرسطو لها.
12
ويحال إلى باقي مؤلفات أرسطو الطبيعية والمنطقية والميتافيزقية. ويتصدر السماء والعالم ثم الكون والفساد ثم المقولات ثم البرهان (أنالوطيقا الثانية) وما بعد الطبيعة ثم القياس.
13
فالجزء لا يفسر إلا بالكل إعلانا عن وحدة النسق الأرسطي ليس فقط داخل كل علم، المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة، بل في علاقة هذه العلوم كلها. فالمنطق مقدمة للطبيعة، والطبيعة مقدمة لما بعد الطبيعة. وتقوم ما بعد الطبيعة على الطبيعة فهي تجريد لها. كما تقوم الطبيعة على المنطق فهي محكومة به، والموضوع الطبيعي الواحد يعرضه أرسطو فيه عدة مؤلفات، النقلة في السماء والعالم والنمو والنقص في الكون والفساد، والحركة حول الوسط بجسم بسيط في السماء والعالم وكذلك المتناهي بالنوع، وتحديد الهواء والنار واستقامة الأجرام المتحركة، ويحال إلى الكون والفساد في موضوع الجزء الذي لا يتجزأ. ويحال إلى «ما بعد الطبيعة» لبيان أن القوة الأزلية واحدة وأنها ليست هيولانية، وقد اعتبر أرسطو في المقولات «الزمان أو أصناف الكم».
14
ومن الموروث يتصدر ابن باجه ثم ابن سينا ثم الفارابي ثم الغزالي.
15
وما يقوله ابن باجه في المكان مستقى بصراحة من الفارابي شرحا لمعنى أرسطو أن الجسم السماوي إن وجد في مكان فبالعرض، ولكن يظهر من كلام ابن باجه أن الكرة في مكان بالذات. وقد قال ابن سينا في الحركة الدورية إنها ليست مكانا أصلا وإنما هي في الوضع وهو ما لا يفهمه ابن رشد، ربما يقصد ابن سينا أنها تنتقل من وضع إلى وضع دون تعديل في المكان وهو صحيح وإن قصد الحركة في الوضع فخاطئ لأن الوضع ليس فيه حركة أصلا. وقد حل ابن باجه الشكل في مكان دون آخر وأجاب على شك القدماء الذين أطلقوا اسم المتغير بأن الانقسام الذي قصد أرسطو هو الانقسام بالأعراض المتقابلة والسبب خاص وذاتي ولو كان أرسطو قصد إنتاج الانقسام بالنهايات للمتحرك لما تكلف أن يبين أن ما ليس بمنقسم ليس بمتحرك.
ويرى أرسطو ومن تبعه من المفسرين أن وجود المبادئ الأربعة التي يرتكز عليها السماع الطبيعي واضحة بذاتها إلا ابن سينا،
16
وابن سينا متعسف مع المشائين في قوله إن هذا الحد للطبيعة غير بين بنفسه. وإن صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يتكفل بيان ذلك وربما يريد بذلك أن صاحب الفلسفة الأولى يتكفل بإبطال الأشياء التي يرام بها نفس وجود الطبيعة. فابن سينا يريد تدمير الطبيعة باسم ما بعد الطبيعة. وابن رشد يريد الدفاع عن الطبيعة باسم ما بعد الطبيعة. لقد أخطأ ابن سينا بقوله هذا إن الطبيعة مجهولة وإن صاحب العلم الإلهي يبرهن وجودها؛ ذلك لأن العلم الطبيعي يقوم على مبادئه الخاصة به وليس على العلم الإلهي لأن المجهول لا يعرف إلا بالمعلوم. والعلم الطبيعي معلوم أكثر من العلم الإلهي. والعجيب أن ابن سينا يقول إنه يجب على صاحب هذا العلم أن يتسلم وجود المادة الأولى عن الفلسفة الأولى دون ضرورة لذلك على عكس المحرك الأول الذي يمكن اتباعه في الفلسفة الأولى، وإذا كان المقصود النظر في العلم الإلهي الذي ينظر في العلم الطبيعي والموجودات كما ينظر في المحرك الأول لكان صوابا. وتلك مادة ابن سينا في شكوكه على المشائين.
17
لقد حاول الغزالي عرض مذهب أرسطو في «المقاصد» لكنه لم يحقق الغرض. فكرر ابن رشد المحاولة لما يرجوه «لأهل زماننا» من منفعة. والطريق إلى ذلك البداية بصناعة المنطق التي في كتب الفارابي أو «المختصر الصغير الذي لنا»، وهو الضروري في المنطق؛ لذلك يبدأ ابن رشد الجوامع بالمنطق. وقد تابع «المتكلمون المتعلمون من أهل ملتنا وملة النصارى» أفلاطون وكل من قال بحدوث العالم في توهمهم أن ما بالعرض هو بالذات فمنعوا وجود حركة قبل الحركة إلى ما لا نهاية، وقالوا بوجود حركة أولى في الزمان، وألزموا هذا الشك لأرسطو إلا أنه حد الحركة بالمكان كما توهم الفارابي عليه في كتاب «الموجودات المتغيرة» وغيره مما أتى بعده كابن سينا وابن باجه وكما توهم قبلهم جميعا يحيى النحوي الذي أخذ يرد على أرسطو مثبتا أن قبل كل حركة حركة. فعرض «للمتفلسفين من أهل ملتنا» في ذلك شك عبر عنه الفارابي وهو توهم خاطئ على أرسطو المقصود به إثبات حدوث العالم ويوقع أرسطو في التناقض.
18
ويشير ابن رشد في موضوع الزمان إلى أنه لا حاجة إلى افتراض زمان لا يمكن توهمه أو تصوره. فإذا لم نشعر بالحركة لا نشعر بالزمان وكما عرض «للمتألهين الذين ناموا» وربما يعني بهم أهل الكهف دون الإشارة إليهم صراحة، وكما هو الحال في انكباب الإنسان على الأعمال الملذة أو في الاستغراق في النوم وهو ما يعادل الزمان النفسي الذي لا يمكن قياسه موضوعيا. وهو ما افترضه أفلاطون أيضا في لغز أهل الكهف الذين لا يشعرون بالزمان لعدم اتصالهم بالحركة.
19
ويتضح الأسلوب العربي المميز لابن رشد مثل «ليت شعري» «اللهم» «لعمري». كما يستعمل عادة العرب في الإشارة إلى زيد للدلالة على إنسان.
20
وهو «الفقيه القاضي» أبو الوليد محمد ابن رشد «رضي الله عنه». هكذا لقبه الديني الوظيفي الإسلامي. وتبدأ الجوامع بالحمد لله بجميع محامده والصلاة على المنبعث بالصدق والهدى، وتنتهي بالحمد لله والصلاة على محمد وآله أجمعين، آمين. وأحيانا تنتهي بعض المقالات بالحمدلة مثل المقالة الخامسة.
21 (2) السماء والعالم
وهو الكتاب الثاني من الكتب الطبيعية.
22
يعرض غرضه الكلي؛ لذلك تكثر الفقرات التي تبدأ بالجملة.
23
ويذكر بمكانة الكتاب في سائر الكتب الطبيعية لأن «السماء والعالم» يعرض للأجسام الأولى «البسيطة قبل الأجسام المركبة في الكون والفساد» بعد الحديث عن الأمور العامة في «السماع الطبيعي». فمسار أرسطو من العام إلى الخاص، ومن البسيط إلى المركب «على ما يقتضيه التعليم المنتظم».
24
واسم الكتاب هو «السماء» فقط وأضاف إليه اللاتين اللفظ الثاني «العالم» فعرف باسم السماء والعالم وهي إضافة دقيقة تعبر عن مضمون الكتاب؛ فالإضافة من أجل الإيضاح ليست فقط سنة المسلمين، مترجمين وشراحا، بل سبق إليها اليونان واللاتين أنفسهم. فلا يوجد نقل حرفي مطابق بل نقل حضاري قارئ.
ويقصد ابن رشد من الجوامع الإيجاز والاقتصار على الضروري.
25
ويحذف الأقاويل العنادية والأقاويل التعليمية خاصة وأنها في الكون والفساد. ولا يوجد موضوع خاص للسماء والعالم بل يضم عدة موضوعات متنوعة بين الرياضة والطبيعة والمنطق مما يجعل دلالته أيضا متنوعة. ويطلق ابن رشد على الجرم هذا الجرم الكبير تشخيصا للطبيعة مما يبين أن الطبيعة مقدمة للإلهيات وأن كليهما إنسانيات، إسقاطا إلى أسفل على الطبيعة أو إسقاطا إلى أعلى على الميتافيزيقا.
26
وابن رشد هو الذي يقول وليس أرسطو؛ إذ تتردد أفعال القول في صيغة المتكلم المفرد «نقول» أكثر من أي صيغة أخرى.
27
كما تظهر أفعال البيان والإيضاح في صيغة يتبين أو اسم بيان وباقي أفعال الشعور المعرفي مثل يسأل، يظهر، يحتج.
28
وتتكرر صيغ البيان أحيانا داخل الفقرة في الاستدلالات مثل «هذا بين بنفسه» وبالتالي مقياس الصدق هو الإنسان ومقياس الكذب هو الخلف والتناقض والاستحالة. كما يظهر القصد والغرض. فأرسطو قصد كلي وليس قولا أو عبارة.
29
كما يبحث ابن رشد بالإضافة إلى الدليل والبرهان عن العلة والسبب، ويحيل إلى السابق تذكيرا أو إلى اللاحق تنبيها لبيان وحدة الموضوع خاصة بعد الاستطراد والجنوح بعيدا عنه.
30
والجوامع أيضا مراجعة له وإعادة دراسته وإصدار أحكام بالصواب والخطأ مثل إبطال الخلاء.
31
ويتصدر الوافد الموروث بطبيعة الحال. فالجوامع نوع من العرض والتأليف يظهر قبل تمثل الوافد وتنظير الموروث.
32
ويتصدر الوافد أرسطو (الحكيم)، ثم ثامسطيوس شارحا، ثم أفلاطون، ثم الإسكندر شارحا ثانيا وبطليموس، ثم أنبادقليس، ثم ايرقليطس.
33
ويحيل إلى أرسطو دفاعا عن ترتيبه واستعماله بعض المقدمات بالقوة اتكالا منه على ما تقدم وجريا على عادته في الإيجاز والتصريح فقط ببعضها مما أشكل على ثامسطيوس واعتباره أن برهان أرسطو غير محدود ولا محصل.
34
ويرى أرسطو أن لكل واحد من البسائط ثقلا. وهذا أمر بين.
35
ويدافع ابن رشد عن رأي أرسطو ضد نقد ثامسطيوس له وأن الثقل هنا يعني السرعة طبقا للمشاهدة. ويستعمل ابن رشد حجج أرسطو لإثبات الحركة الطبيعية الدائرية للأجسام السماوية. وهي حجج بينة بنفسها تصيب الحق من كل جهة وفي كل موضوع كما يقول أرسطو. والجسم المستدير لا نهاية له. وخطوطه الخارجية غير متناهية. ولا يعسر تأمل كل ما قاله أرسطو لاكتشاف أنه بين بنفسه وأنه واحد وقد أكثر منها إلا لشهرة الرأي في زمانه وما لغموضه فيشرحه، فابن رشد يضع أرسطو في سياق عصره. وهو معه في تحديد معاني الكائن. ويحدد طرقه في الاستدلال والبرهان عن طريق الخلف. والاستقراء كاف لإثبات صحة ما يقوله، ومعرفة كل شيء بحسب الطاقة كما يقول أرسطو، وما يقوله أرسطو مجتمع عليه، إن لكل جسم طبيعة وعظم جرم الشمس. ينظر أرسطو إلى الموجودات ويعطي أسباب ظواهرها ونظامها. وابن رشد يدرس نفس الموضوعات ثم تتضح أقوال أرسطو. فالموضوع هو الذي يشرح القول وليس القول نظرا لأن الجوامع رؤية للموضوعات قبل صياغاتها في الأقوال. لقد كلف أرسطو نفسه ببيان من لم يكن بينا بنفسه؛ ومن ثم لا يحتاج ابن رشد لتكرار ذلك.
ويعلل ابن رشد تقسيم أرسطو الجهات الست للجسم معمقا رأيه، ويدافع عنه ضد تشكك البعض نظرا لتبادل الجهات بين اليمين واليسار طبقا لفهم ابن رشد، «فهذا هو الذي تأدى إلى فهمنا من تفسير كلام الحكيم.» ولا يجوز عند أرسطو إذا كانت الحركة أزلية أن تشتد زمانا لا نهاية له وتفتر زمانا لا نهاية له. وقد اعترض ثامسطيوس على قول أرسطو اعتراضا بين السقوط بنفسه فلا يوجد سبب غير الذي أعطاه أرسطو، ولا يوجد سبب خاص كالذي يقول به ثامسطيوس لأن الأمور البسيطة أسبابها بسيطة. كما يرى أن أرسطو أعطى الأسباب البعيدة دون القريبة لحركة الأجسام. وينكر ثامسطيوس ثقل الهواء والماء والأرض في مواضعها. وكما يعترض على أرسطو في سبب جذب الإناء المحمي الماء وأنه الهواء، وهي نفس شكوك الإسكندر، ويدافع ابن رشد عن رأي أرسطو دفاعا علميا بتحليل عوامل التسخين.
36
ويرى الإسكندر أن النار مقولة باشتراك الاسم، ويصحح مذهب أرسطو، ويزعم أنها ليست محرقة بل حارة يابسة فقط. ويعتمد في ذلك على ما صرح به أرسطو في «الكون والفساد» من أن النار الحقيقية ضد الجليد. كما يظن الإسكندر أن هذا الجرم السماوي ليس فقط متحركا بل أيضا متنفسا. وأنه يسخن بالتوسط كالسمكة البحرية التي تخدر يد الصائد بتوسط الشبكة.
37
ويرى أفلاطون أن العالم أزلي يفسد ومكون غير فاسد.
38
وهو سؤال أرسطو على أفلاطون كيف يكون أزليا يفسد؟ وقد اعتذر ثامسطيوس عن أفلاطون مبينا أن العالم مكون ويبقى أزليا بمعنى الكون الذي ليس في زمان. ويرى ابن رشد أن أفلاطون على هذا النحو قد أساء العبارة حين استعمل في التعليم البرهان اسما مستعارا، واستعمال أمثال هذه الأسماء في التعليم أقرب إلى التغليط منه إلى التعليم، يقول أفلاطون إن الأرض تثبت في الوسط لتشابه المحيط. ويحال إلى ايروقليطس الذي يجعل الأسطقسات كلها نار.
ومن مؤلفات أرسطو يحال إلى الكون والفساد ثم السماع الطبيعي، والسماء والعالم، والقياس، والبرهان، ثم العبارة، وسوفسطيقا وحركات الحيوان، والاقتصاص والأسطقسات لبطليموس، وطيماوس لأفلاطون، فلا يمكن تفسير الطبيعة إلا بالرجوع إلى المنطق، وبعض القضايا الطبيعية داخلة في المواضع المغلطة التي عددت في كتاب سوفسطيقى في موضوع النقلة.
39
ويحال إلى «الكون والفساد» في موضوع حركة الجرم السماوي وفي امتزاج العناصر، ومقارنة الجرم السماوي بسائر الكواكب. بل إن المقالة الثالثة في السماء والعالم مقدمة للكون والفساد، وأرجأ أرسطو الحديث عن الكمون إلى الكون والفساد. وكذلك ويحال إلى «السماء والعالم» لبيان وحدة الكتاب وضم موضوعاته في رؤية واحدة. وقد تبين في «السماع الطبيعي» أن كل حركة على خط مستقيم تبتدئ من حيث انتهت إلى أن تعود من حيث ابتدأت. ويحال إلى كتاب «حركات الحيوان» لمزيد من التفصيل في الموضوع ويحال إلى «طيماوس» لإبطال أن الأجسام مركبة من السطوح.
40
ويحال إلى «السماع الطبيعي» تعبيرا عن وحدة الرؤية وحتى تنتظم في نسق دون تكرار أجزائه، ويحال إليه في أنواع الحركة والمادة. ويحال إلى «البرهان» لبيان نموذج اليقين في الاستدلال على صحة المبادئ الطبيعية مثل الحركة الدائرية للأجسام السماوية وأنواع القضايا المستعملة في السماء والعالم مثل القضية العدمية التي قوتها قوة الموجبة. ويحال إلى كتاب القياس لأحكام قضايا الطبيعة. ويحال إلى كتاب الاقتصاص لبطليموس ليبين عدم تطبيق الأكر المحروقة الأقطاب على المتحركات دورا حركة طبيعية.
41
ويحيل ابن رشد إلى القدماء ثم إلى قدماء الطبيعيين تخصيصا واليونانيين والبابليين.
42
ويمكن الرجوع للمتقدمين من اليونانيين إلا في الكواكب المتحيرة، وكذلك لم يكن يظهر للبابليين كثير من الحركات التي أثبتها بطليموس.
43
وآراء القدماء في سكون الأرض في الوسط كلها بينة السقوط. وأقواها قول أفلاطون بثبوت الأرض في الوسط لتشابه المحيط، وأنبادقليس أن وقوف الأرض قسري. وهي مسألة حيرت القدماء وطلبوا استيفاءه في سكونها بسبب قسري. ولما أراد القدماء إعطاء سبب الخفة والثقل مرة يقولون إن سبب الخفة الخلاء وسبب الثقل الملاء، فالخلاء سبب الحركة وقد بان امتناع وجوده. ومرة يقولون إن الثقيل من أجزاء أكثر، وهذا كله بين السقوط. كما يحيل إلى المهندسين لبيان مساواة السطح لنفسه. وقد شرح أرسطو في المقالة الثالثة أمر الأسطقسات الأربعة وهل هي متناهية أم غير متناهية كما كان يرى قدماء الطبيعيين وبين أنها غير متناهية. ثم بين هل هي واحد كما كان يرى كثير من الطبيعيين أم كثير، وأبطل أنها واحدة.
44
ومن الموروث لا يظهر إلا ابن سينا ثم ابن باجه.
45
أنكر ابن سينا مقدمة بينة بنفسها لأرسطو وهي أن الحركة الدورية الموجودة بالحس والقياس طبيعة للجسم المادي. فابن سينا لا يفهم الواضح، وينكر البين بنفسه. وكيف يقول ابن سينا أيضا إنه ليس في العلم الطبيعي مقدمات يوقف منها على أن الكواكب الثابتة في فلك واحد؟ وقد ساعده ابن باجه على ذلك في بعض التعاليق المنسوبة إليه. ويحيل ابن رشد إلى «المتأخرين من أهل زماننا» الذين زعموا أن الحركة القريبة التي أثبتها بطليموس لهذا الفلك ليست بحركة تامة.
46
ويظهر أسلوب ابن رشد العربي المميز مثل «لعمري»، «ليت شعري» كما يظهر العلم الإلهي نظرا لارتباطه بالعلم الطبيعي. ففي العمل الإلهي يتبين أن المحرك لهذا الجرم الأقصى واحد بالعدد والصورة إذ كانت الهيولى لا تشوبه، والواحد لا يصدر منه إلا الواحد وإلا لزم أن يوجد محركان اثنان بالشخص وواحد بالنوع وهو مستحيل. وهو يشبه دليل الأشاعرة، دليل التمانع الشهير على استحالة وجود إلهين. كما يظهر الباري في تحديد معنى الكائن كما يقال في الباري تعالى إنه غير كائن. كما يمكن تصور الجرم السماوي بالعقل كما يتبين في العلم الإلهي. ويبدو التوجه الإسلامي غير المباشر الذي يدل على اتفاق العقل والوحي في النظر إلى الطبيعة مثل أن الطبيعة لا تفعل باطلا
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار . وكما بدأت الجوامع بالبسملة تنتهي بالحمدلة.
47 (3) الكون والفساد
هو أصغر الجوامع وأيسرها
48
ويعرض ابن رشد الموضوع بالجملة أي الموضوع ذاته في مجمله دون تفصيلاته. وتعني الجوامع هنا كالجوامع السابقة النقاط الأقاويل العلمية كالعادة تجريدا لها عن الأقاويل الخطبية والجدلية. أي أن الجوامع لا تتعامل إلا مع الأقاويل البرهانية. ويتكون من عدة فقرات تبدأ أكثرها بصيغة «نقول». فابن رشد هو الذي يقول ويرى ويحلل الموضوعات ذاتها وليس أرسطو هو الذي يقول.
49
ويبدأ الموضوع بتحديد الغرض وهو الكلام في التغايير الثلاثة؛ الكون والفساد والنمو والاضمحلال، والاستحالة والنقلة، طبقا للترتيب المنظم في التعليم، ومن البسيط إلى المركب، وكثير من الأقوال بينة بنفسها.
50
وكثير من التحليلات بديهية وكأن الفلسفة هي مجرد ملاحظة الطبيعة وتحويلها إلى فكر؛ لذلك تنتهي كثير من الفقرات بتعبير «وهذا محال» بعد الاستدلال. والفكر اقتضاء له معاييره الداخلية وبنيته العقلية؛ لذلك تظهر أفعال مثل «ينبغي» و«يجب». ويحيل السابق إلى اللاحق ، واللاحق إلى السابق، بيانا لوحدة الموضوع.
51
ويتصدر الوافد الموروث على الإطلاق. ومن الوافد يتصدر أرسطو ثم الإسكندر.
52
يرى أرسطو أن الاستحالة ضربان: استحالة في الجوهر وهو الكون والفساد، واستحالة في الكيف وهو الكيفية. ويوافق ابن رشد على معظم تحليلات أرسطو مثل أن اللطافة أسرع شيء إلى الانحصار، وأن النار يابسة لأنها مضادة للجليد، وأن الإنسان يولده إنسان آخر. ويبرر مصطلحاته مثل أن المحرك أعم من الفاعل. لذلك لا يطلق أرسطو اسم الفاعل على المحرك الأول. الفاعل عند أرسطو لاتصال الكون والفساد هي الحركة الأولى المتصلة. ويذهب ابن رشد إلى ما وراء ظاهر قول أرسطو ويؤوله حتى يبين خطأ الشراح؛ لذلك يقبل بعض شروح الإسكندر على مجمل التسامح «وهذا القول فيه تسامح» ودون خلاف معه.
53
وكان القدماء على مذهبين؛ الأول عدم التميز بين الكون في الجوهر والاستحالة في الكيف، فالأسطقس واحد، ومنه ينشأ الكون بالتخلخل والتكاثف؛ والثاني التمييز بين الاستحالة والكون، الكون في الاجتماع والافتراق، وهو مذهب الجزء الذي لا يتجزأ، والاستحالة إدراك حسي وليست شيئا حقيقيا لأن الأسطقسات لا تقبل الانفعال لأنها بسيطة غير مركبة. كما يرى القدماء أن الثقب هو سبب الانفعال هي بالعرض وليست بالذات. كما يعتمد ابن رشد على أصحاب النجوم في آرائهم في الفلك فهم أصحاب العلم.
54
ويحال إلى باقي كتب أرسطو الطبيعية، السماع الطبيعي ثم السماء والعالم ثم الكون والفساد والآثار العلوية، والحيوان، والنفس.
55
فالكون والفساد استمرار من الرابعة للآثار العلوية في موضوع ما يتقوم به جميع الكائنات من المتشابهة الأجزاء واستمرار لكتاب النفس وكتاب الحيوان في موضوع حركة النمو وأسبابها القصوى. ومن الطبيعي أن يأتي بعد السماء والعالم لأن ما تحت فلك القمر يأتي بعد ما فوق فلك القمر؛ لذلك أخذ اسم «الكون والفساد». ويحال إلى السادسة من السماع لإبطال القول بوجود أجرام غير منقسمة وكذلك في موضوع الأجزاء الكائنة الفاسدة فلا تتكرر في التعليم، والسبب الأقصى للكون والفساد. كما يحال إلى السماء والعالم في أسباب الكون والفساد.
56
ويحال إلى القدماء. فالثقب عندهم كان سبب الانفصال. وقد ذهب عليهم السبب الأقصى للكون والفساد كما عاب عليهم أرسطو.
57
ومن الموروث لا يظهر إلا الفارابي المنطقي الذي صنف أنواع البراهين. ثم يضع ابن رشد أحد الأقوال في الضرب الثاني من الصنف الرابع.
58
وكما تبدأ الجوامع بالبسملة تنتهي بالحمدلة والعون. كما تنتهي كل مقالة من المقالات الثلاث أيضا بالحمدلة والعون.
59 (4) الآثار العلوية
والغرض مرتبط بأغراض الكتب السابقة نظرا لوحدة الفلسفة الطبيعية
60
ويتكون من أربع مقالات. وبعد أن يستعرض ابن رشد كتب الفلسفة الطبيعية وعلاقة الآثار العلوية بما قبله وما بعده حتى النفس وأعراضها في الطبيعيات الصغرى يعد باستئناف الشرح «إن شاء الله إن ساعد العمر ووضع لنا مع ذلك فراغ» مما يدل على أن الجوامع كانت في مرحلة الشباب. ويتبع ابن رشد ترتيب أرسطو «ونحن نجري في ذلك على ترتيبه.» وفي أول كل مقالة يعطي ابن رشد تلخيصا لمطالبها. والغاية كالعادة تجريد الأقاويل البرهانية من كتب أرسطو. وتظهر ثقافة ابن رشد الطبية في الحديث عن الأشياء المتنفسة وغير المتنفسة، وقول أبقراط إن سبب العفونة الحرارة والرطوبة.
وتتكون من عديد من الفقرات تتصدرها صيغة «نقول» أي إن ابن رشد هو الذي يقول وليس أرسطو، وهو الذي يرى الموضوعات مباشرة دون توسط قول أرسطو.
61
وهو في نفس الوقت توضيح بالجملة؛ لذلك تكثر الفقرات التي تبدأ «بالجملة».
62
ويحيل الكتاب إلى السابق واللاحق للتذكير بوحدة العمل وضم الأجزاء.
63
ويشعر بالاستطراد ويعود للتذكير بالموضوع، ويعلن بداية موضوع ثم يعلن نهايته، ويعد بجوامع الحيوان إن قدر الله.
64
ومن أفعال الشعور المعرفي تظهر أفعال «الظن» بالرغم من أن الفكر اقتضاء يقوم على معايير عقلية ثابتة بصرف النظر عن الآراء.
65
وتكثر أفعال البيان في صيغة «تبين». فالجوامع أيضا إيضاح عن طريق رؤية الموضوعات بوضوح وليس شرح الأقوال، وضوح الرؤية في مقابل وضوح القول.
66
والفكر اتساق واستقلال؛ لذلك يكثر لفظ الدليل.
67
ويبحث ابن رشد عن السبب جامعا بين الاستدلال العقلي والفحص الاستقرائي.
68
ويتصدر الوافد الموروث. ويتقدم أرسطو الوافد ثم الإسكندر شارحا ثم أوميروس وبطليموس وإقليدس وأبقراط .
69
ويبدأ أرسطو بوضع أمور تجري مجرى الأصول الموضوعة والمبادئ، وابن رشد يبدأ بالأصول قبل الفروع وبالعدم قبل الخصوص كما يفعل الأصولي. وقد حكى أرسطو أنه طلع كوكب عظيم في بلاد الروم من ذوات الأذناب في زمان الشتوة فكانت رجفة شديدة. فابن رشد يحيل الجغرافيا إلى مكانها وزمانها في بلاد الروم طبقا لمشاهدة أرسطو ويعيد الكرة في مشاهداته في قرطبة وبلاد الأندلس. يرى أرسطو أن ما تحت معدل النهار غير مسكون لإفراط الحر هنالك. وهو حق يقين على ما سيظهر من قولنا.
70
يعتمد ابن رشد على المشاهدة الخاصة يستمد منها آراءه وليس من أقوال أرسطو «وأما أنا فقد شاهدت.» والبخار الذي يحدث عن الكواكب كما يقول أرسطو ليس بمحدود بل مختلف كثير الأشكال. وأما إعطاء أسباب الاختلاف ففي علم المناظر والذي يتكلم فيه أرسطو، وابن رشد هو الذي يدرس وأرسطو هو الذي يؤيد نتائج ابن رشد «وهذا شيء صرح به أرسطو.» والإنسان، كما يقول أرسطو، يولده إنسان.
ويثبت ابن رشد أقوال أرسطو بالدليل «فقد تبين من هذا صحة ما ذهب إليه أرسطو.» كما يستدل على صحة براهينه «وهذا البرهان حق.» وحكى أرسطو أن رجلا أصابه ضعف بصر فكان يرى بين يديه شيئا في الهواء لأنه كأنه بمنزلة المرآة إلى الأبصار السليمة. ويتدخل ابن رشد القاضي لفض الخلاف بين أقوال القدماء ومشاهدة أرسطو. ويخبر أرسطو أن المشاهدة خلاف ذلك. فما قاله أرسطو موافق للمشاهدة والاستدلال.
71
ويظهر من قول الإسكندر أن جنسها وجنس ذوات الأذناب واحد. ويأخذ ابن رشد ظاهر قول أرسطو فإذا اتفق شرح الإسكندر معه فهو صحيح. وقد ينشأ عدم التطابق من الترجمة «فإن كثيرا ما تنقلب مفهومات المعاني عند المترجمين.» الخطأ من الترجمة والإسكندر أعظم من أن يقع فيه. وأرسطو هو الفيلسوف الكامل. ليس الإسكندر مخطئا على طول الخط؛ إذ يوجد قول له في بعض النسخ المنسوبة إليه وهو قول صحيح.
72
ويقوم ابن رشد بدور القاضي بين فريقين متخاصمين: الأول أرسطو وجملة المشائين الذين يزعمون أن المواضع الممكنة لعمارة الأرض من جهة الشمس هي على جانبي مداراتها شمالا وجنوبا والباقي لا يسكن لفرط الحر أو البرد. والثاني بطليموس وأصحاب التعاليم أي الفلك يرون أن عمارة الأرض ممكنة تحت معدل النهار طالما أنه لا يمر بحضيض الشمس أي خط الاستواء المحرقة، وتابعهم ابن سينا. وهو أعدل الأقاليم وزعم أن قول المشائين مخالف للحس والقياس، «ونحن ننظر في ذلك بحسب ما يمكننا من جهة الأمر المنظور فيه وذلك بحسب ما في أيدينا في ذلك من المقدمات.»
73
ومن مؤلفات أرسطو يحال إلى الكون والفساد ثم السماء والعالم ثم النفس والسماع الطبيعي ثم الحيوان ثم الآثار العلوية. والحاس والمحسوس وكتاب إقليدس.
74
وترتيب الكتب الطبيعية يدل على نسق الطبيعيات من حيث غرض كل كتاب. يفحص الطبيعي «المبادئ العامة للوجودات»، ويبين «السماء والعالم» أجزاء العالم البسيطة ولواحقها العامة. ثم يفصل «الكون والفساد» الأمور الجزئية.
ثم يبين «الآثار العلوية» أعراض الأسطقسات ولواحقها وهي أقرب إلى الأشياء البسيطة الجزئية. فابن رشد يراجع ترتيب أرسطو ويقترح ترتيبا جديدا متسقا، من البسيط إلى المركب. ويلخص مقالات الآراء العلوية ويعدد مقالاتها ضاما الثلاثة الأولى في موضوع الأمور الجزئية، ومؤصلا الرابعة حول الأجسام المتشابهة الأجزاء ومبينا ارتباطها بالكون والفساد. ثم يستأنف عرض الكتب الطبيعية بعد الآثار العلوية مثل المعادن ثم النبات ثم الحيوان ثم النفس ثم الحاس والمحسوس تخصيصا للأمور العامة في النفس ثم القوى الجزئية فيها كالرؤيا والذكر في مقالة مفردة ثم حركة الحيوان المائية. ثم يفحص أعراض الحيوان كالنوم واليقظة والشباب والهرم، والتنفس والموت والحياة، والصحة والمرض، وكلها أعراض للنفس، وبعض هذه الكتب حصل عليها ابن رشد وبعضها لم يحصل عليه. لقد تبين في كتاب السماء والعالم أن الأجسام البسيطة خمسة، الجسم السماوي والأسطقسات الأربعة وأن النار بسيطة في موضعها لا ثقل لها، وسبب تسخين الشمس وظهر في كتاب «الكون والفساد» أنها توجد على جهة الاختلاط وتتفق بعض الأدلة مع الثالثة من كتاب إقليدس.
ومن الفرق يحال إلى المشائين ثم أصحاب التعاليم ثم المفسرين ثم الأقدمين من الطبيعيين والقدماء.
75
كان الأقدمون من الطبيعيين يرون أن الإبصار إنما يكون بأشعة تخرج من العينين. وجرت عادة أصحاب المناظر أن السبب في اختلاف الرؤية الشعاع الخارج من العين. ويقول أصحاب التعاليم إذا وقعت على السطح على زوايا قائمة نفذ. ويتحدث عن جل أصحاب التعاليم الذين يجعلون مركز فلك الشمس هو مركز فلك البروج.
76
ومن الموروث لا يظهر إلا ابن سينا ثم ابن حيان.
77
فابن سينا تابع بطليموس وأهل التعاليم في أن ما تحت معدل النهار أعدل الأقاليم وأن رأي المشائين أن المناطق المعمورة من الأرض من جهة الشمس على جانبي مداراتها من الجهتين الشمالية والجنوبية وما دون ذلك خال لفرط الحر أو البرد. ويأخذ ابن رشد موقفا وسطا بين الرأيين وهو أن ما تحت معدل النهار يسكن لكن لا على الاعتدال الذي يقوله ابن سينا، بل على جهة الأقاليم التي تمر الشمس بسمت رءوس أهلها. وقد حكى ابن سينا عن الدخان الأرضي الناتج عن الزلزلة أنه يبلغ في بلاد خراسان وبلاد الترك القدرة على إذابة نصل ويستحيل دخانا ويفنى. وربما هي مبالغة من ابن سينا لأن ابن رشد لم يشاهده «في هذه البلاد»، ولا ذكره أحد من المشائين، وقد حكى ابن حيان أن حجرا عظيما وقع في الكنبانية بقرطبة ملتهبا نارا في وقت صحو وكان كبريتي الرائحة في طبيعة النشادر وهو غير بعيد في رأي ابن رشد. ويزعم ابن سينا أن مرآة الرؤية ليست هي جزء من السحاب بل هي هواء مائي يتشكل بحيث يسمح بالرؤية. وحكى ابن سينا أنه رأى هذا الأثر في حمام كان يقع الشعاع فيه بهيئة ممكن ذلك فيها لرطوبة هواء الحمام وقربه من الماء «وقد رأيت أنا وجملة من أصحابي هذا القوس في وهج عظيم.»
78
وقد عذل ابن سينا المفسرين على أقوالهم؛ فقد كان أيضا مراجعا لكتب المفسرين يكتشف أخطاءهم مثل ابن رشد. وقال إن إخوانه المشائين لم يأتوا في أمر ترتيب الألوان بشيء، وزعم أن الأخضر غير الأشقر والأرجواني بالزيادة والنقصان. «ولم يقل هذا الرجل في ذلك شيئا بل تشكل عليهم فقط.» وأرسطو أحق من أن ينصرف إليه هذا العذل لأنه على رأس المشائين. ويقوم ابن رشد بدور القاضي «ونحن ننظر في ذلك على عادتنا.» إذ يصرح أرسطو بأن الأخضر متوسط بين الأشقر والأرجواني، ويعني المتوسط بين الضدين وهو ما يتفق مع ظاهر نصه. وربما قصد المفسرون ذلك وأرادوا هذا المعنى فقصرت عبارتهم بسبب الترجمة أو بسبب آخر، وما سوى ذلك خطأ. وما كان ينبغي لابن سينا استثناء أرسطو من جملة المشائين ولا يطلق القول.
ومن البيئة الإسلامية تتصدر قرطبة ثم الأندلس، ثم بلاد الترك، وخراسان وفلسطين وبلاد الحبشان، وبلاد الروم، وكنيسة الغراب.
79
ويضرب ابن رشد المثل «في بلادنا هذه أعني جزيرة الأندلس» على الاعتدال. ويقابل مشاهدة أرسطو للبركان مع ما شاهده ابن رشد من الزلزلة الحادثة بقرطبة وجهاتها عام 566ه وما صاحبها من دوي وأصوات ولم يكن حاضرا بقرطبة. وهي أصوات تتقدم حدوث الزلزلة. وشعر الناس أن الصوت يأتي من جهة الغرب، وشاهد الزلزلة تتولد عن نشأة الريح الغربي. وتمادى الزلزال بقرطبة نحو عام ولم ينقطع إلا بعد ثلاثة أعوام. وقتل في الزلزلة الأولى أناس كثير وهدمت منازل. وزعموا أن الأرض انشقت بقرب قرطبة بموضع يسمى أندوجز فخرج منها شبه رماد أو رمل، ومن شاهدها وقع له اليقين. وكانت عامة في الجهة الغربية من هذه الجزيرة إلا أنها كانت أشد في قرطبة ونواحيها بل كانت بشرق قرطبة أقوى من قرطبة. وكان غربها أخف. وقد حكى أرسطو أن الأراضي تختلف في كثرة الزلازل وقلتها بحسب استعدادها لأن يتولد فيها البخار وبحسب انسداد مسامها، وهو ما يحدث بموضع في الأندلس المعروف بكنيسة الغراب فإنه يسمع فيها دائما شبه الدوي السابق على الزلزلة.
80
ويتحدث عن الجغرافيا من موقعه وليس من موقع أرسطو. فيتحدث عن «شتاؤنا» و«أقاليمنا» و«بلدنا».
81
ويضرب المثل بالبحيرة المنتنة في فلسطين التي لا يعيش فيها حيوان لشدة الحرارة، ويتحدث عما يوجد في أرض مصر مثل الصدف الموجود في البحار «وهو يوجد كثير في بلدنا هذا.» كما يضرب المثل بالخطوط التي لا يمكن قراءتها كالخط الذي يوجد اليوم في هرمي مصر، ويعني الهيروغليفية. ويقول أرسطو إن أرض مصر الآن صائرة إلى الفساد فإنها كانت بحرا فيما حكى أوميروس وغيره ثم جفت وهي الآن صائرة إلى الجفاف حتى تخرب. فهي لا تمطر وإنما يعيش أهلها من النيل الذي يفيض هنالك. ويسمي العرب جميعا الرياح النكباء لتنكبها المهاب المشهورة، وعددها في النسخة المنسوبة إلى أرسطو اثنا عشر ريحا، وعند الإسكندر أحد عشر ريحا. كما يكثر المطر في بلاد الحبشان لكثرة الأبخرة في الجنوب. وتظهر العبارات الإيمانية مثل «إن قدر الله» وعدا بإتمام جوامع الحيوان. وكما تبدأ الجوامع بالبسملة في كل مقالة تنتهي بالحمدلة.
82 (5) النفس
وغرض جوامع النفس أيضا إثبات من أقاويل المفسرين في علم النفس ما هو أشد مطابقة للعلم الطبيعي وأليق بغرض أرسطو وهو إنقاذ نصه من الشراح والمفسرين وإرجاعه إلى موضوعه الطبيعي وهو النفس.
83
ويعد ابن رشد إن فسح الله في العمر وجلى هذا الكرب أن يعيد الكرة بقول أبين وأوضح وأشد استقصاء، واكتفى بالجوامع بالضروري في الكمال الإنساني وبه يحصل أول مراتب الإنسان، وهو بحسب «زماننا كثير». الجوامع بحث بالجملة أي مع قدر كبير من التركيز بدليل بداية كثير من الفقرات بتعبير «وبالجملة»،
84
وابن رشد لا يعرض فقط أو يحلل بل يصحح ويراجع أقوال السابقين ويصدر أحكاما بالخطأ وبالصواب. فقد غلط من قال بمفارقة المعقولات. وينتهي ابن رشد من الجوامع وهي «الأقاويل الكلية من علم النفس حسب ما جرت به عادة المشائين» أي استمرارا للتراث الأرسطي. ويعد بعدها بالقوى الجزئية في الحاس والمحسوس.
ويتكون من عدد من الفقرات بصيغ أفعال القول المعروفة ليس منها صيغة «قال أرسطو» بل صيغ «نقول»، «قلنا»، «فلنقل»، «أقول»، «قيل»، «القول». فابن رشد هو الذي يتكلم وليس أرسطو.
85
ويحيل ابن رشد السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق من أجل إظهار وحدة الموضوع، ويعود إلى الموضوع بعد كل استطراد معتذرا عنه.
86
وتدل أفعال الشعور المعرفي على أن الجواهر بيان لكثرة استعمال لفظ «يتبين »، بالإضافة إلى باقي أفعال الشعور الأخرى، والفكر اقتضاء وله معاييره الداخلية كما تظهر في أفعال «يجب» و«ينبغي». والفكر دليل وبرهان واستدلال، ومقدمات ونتائج كما يظهر من استعمال لفظ «الدليل»؛ لذلك تنتهي حجج الخصوم إلى أنها «خلاف المعقول»، والجوامع بحث عن الأسباب والعلل يجمع فيها ابن رشد بين الاستنباط والاستقراء، الاستدلال والمشاهدة، النظر والتجربة. وأهم الأسباب هو السبب الغائي. فالغاية هي التي تحدد باقي الأسباب.
87
ويتصدر الوافد الموروث على الإطلاق. ويتقدم الوافد أرسطو ثم ثامسطيوس والإسكندر وجالينوس شارحين ثم أفلاطون ثم أبقراط.
88
ويدرس ابن رشد الموضوع ثم يستشهد بأرسطو في تعبير «كما قال أرسطو.» فأرسطو هو الشارح وابن رشد هو المشروح، ابن رشد هو الأصل وأرسطو هو الفرع. ويستعمل ابن رشد تشبيهاته، قوة النفس بقوة العالم، وجرت عادة المتكلمين في النفس من أرسطو ومن دونه من المفسرين على تفهم هذه القوة. وكثيرا ما لا يصرح أرسطو بأمور ولكنها بالضرورة مصادر عليها بالقوة على عادته في الإيجاز. فابن رشد يحول المسكوت عنه إلى منطوق به. النفس مفارقة كما يقول أرسطو. والعقل المنسوب إلى أرسطو في السادسة من نيقوماخيا ماضيا منسوب أيضا إلى هذه القوة، العقل العملي. ويبدأ ابن رشد بأشد قوى النفس تقدما في الزمان كما فعل أرسطو وهو التقدم الهيولاني. وقد وقع الشراح في الخطأ عندما حاولوا الجمع بين أفلاطون وأرسطو؛ فقد وضع أرسطو ثلاثة عقول: الأول هيولاني، والثاني بالملكة وهو كمال الهيولاني، والثالث المخرج له من القوة إلى الفعل وهو العقل الثالث. واعتبرها أزلية فيقع في التناقض وهو ما حذر الإسكندر منه. ويتحقق ابن رشد من ذلك من أجل الحكم فيه بين المتخاصمين. فعند الإسكندر العقل الهيولاني استعداد فقط في حين جعله المفسرون أزليا. ويستدعي الفعل بينهما مزيدا من التفصيل والبحث والاستقصاء لا تتحملها الجوامع.
89
ويقول ثامسطيوس نقلا عن الإسكندر إن الأشياء لها طبيعة نارية. ويجعل وغيره من قدماء المفسرين هذه القوة التي تسمى العدم الهيولاني أزلية لأن كل ما هو بالقوة لا يكون بالفعل. عنده لا يوجد فرع إلا ويحدث عنه انعكاس ما، وإن الإحساس يأتي بتوسط الرطوبة بين الحس والمحسوس. وقد يكون اللحم هو المتوسط عنده وعند أرسطو كما يظهر في كتاب «النفس» بخلاف قوله في «الحيوان». ويعتمد على ظاهر كلام الحكيم، وثامسطيوس وغيره من قدماء المفسرين يسمون هذه القوة، العقل الهيولاني، ويعتبرونها أزلية والمعقولات فيها فاسدة لارتباطها بالخيال. وهو تناقض.
ولا يرى الإسكندر أن هذه القوة تحتاج إلى توسط بين الحاس والمحسوس ويرى أن الذي يعنيه أرسطو بالعقل المستفاد هو العقل الفاعل. وليست الحرارة هي النفس كما ظن جالينوس، وأن الأعصاب آلة الحس، يستعمل جالينوس هذه الطريقة، طريقة الارتفاع مجردة في استنباط أفعال هذه الأعضاء في علم المنطق مع كثير من «المشرحين». ويصرح بأن هذه القوة تدرك محسوساتها الخاصة بتوسط إدراكها. والأمر على غير ذلك وهو ما اعترف به نفسه في شرحه أبقراط. وأما القول في العقل النظري فقد اختلف فيه المشاءون من أفلاطون حتى الآن وتعني المشاءون هنا اليونان. ويمكن تعقل الأشياء الكثيرة من غير إدراكها فالعلم تذكر كما قال أفلاطون.
90
ومن كتب أرسطو الأخرى تتم الإحالة إلى الحس والمحسوس، ثم الحيوان، ثم الكون والفساد، ثم الآثار العلوية، ثم السماع الطبيعي، والسماء والعالم، والنفس، والبرهان، ونيقوماخيا حتى الكتب المنطقية والأخلاقية. فالنفس أيضا موضع للفكر المنطقي وللسلوك الخلقي.
91
وكلها منظومة واحدة. فقد تبين في الأولى من «السماع الطبيعي» أن جميع الأجسام الكائنة الفاسدة مركبة من هيولى وصورة. وتبين في «السماء والعالم» أن الأجسام التي توجد صورها في المادة الأولى وجودا أولا هي الأسطقسات الأربعة، وتبين في «الكون والفساد» أنها تكون على جهة الاختلاط والمزاج. وتبين في الرابعة من الآثار العلوية نسبة هذه الأخلاط. وتبين في الحيوان أنواع التركيبات.
92
والمزاج يكون بالحرارة كما قيل في «الآثار العلوية». وقد لخص أرسطو في «الكون والفساد» وكيف أن النفس الغائية فيها آلة هذه القوة وهي الحرارة الغريزية، وقوة الأسطقسات والملموسات.
والمضيء يوجد في المخترع من حيث هو لون، وهو لون باشتراك الاسم كما بان في «الحس والمحسوس»، ويحيل إليه ابن رشد لإكمال الموضوع وإثبات أن اللون هو اختلاط الجسم المشف بالفعل وهو النار مع الجسم وتحليل الطعم كاختلاط مع الحرارة، وكذلك موضوع الطعوم، وما يفارق به الإنسان الحيوان في هذه القوى. ويحال إلى «الحيوان» لمزيد من التفصيلات عن الحواس كآلة للنفس وهي مشتركة وبسيطة لجميع الحيوان. وقد عدد أرسطو في «ما بعد الطبيعة» المحالات اللازمة عن اعتبار التصورات خارج الذهن، وعدد في كتاب «البرهان» جميع الصنائع النظرية، التمامات الأربعة.
93
ومن أسماء الفرق يظهر المفسرون والقدماء، وأصحاب التناسخ، ثم المشاءون ثم المشرحون، وقدماء المشائين.
94
اختلف القدماء في معنى القوة الناطقة. ورأوا أنه يمكن الإبصار بلا توسط وأن تتم الإدراكات بالخلاء، ولا يصح نسبة الترتيب إلى الحرارة إلا بالعرض كما كان يفعل القدماء. ويقول أصحاب التناسخ إن النفس تتغير عند الحدوث من لا هيولى إلى هيولى ومن هيولى إلى لا هيولى. ويلزم من ذلك أن تكون منقسمة، وهي ليست كذلك. وقد ذهب عليهم أن تعدد النفس بتعدد موضوعاتها وليس بتعدد ذواتها.
95
ومن الموروث لا يظهر إلا ابن سينا ثم ابن باجه وكتابه النفس.
96
فتفرق الاتصال لا يبرر وجود جنس آخر من الحس على ما يراه ابن سينا فلا توجد محسوسات غير المشهورة. وإذا كان ثامسطيوس وغيره من قدماء المفسرين يجعلون القوة التي يسمونها العقل الهيولاني أزلية في حين أن المعقولات الموجودة فاسدة لارتباطها بالصور الخيالية فإن ابن سينا وأتباعه يناقضون أنفسهم ولا يشعرون لأنهم يجعلون المعقولات أزلية حادثة ولها هيولات أزلية وهو تناقض. فإن ما كان بالقوة ثم أصبح بالفعل حادث. وقد صرح ابن باجه في كتاب النفس أن الحاسة تدرك محسوساتها بتوسط الرطوبة وهو أيضا رأي ثامسطيوس.
97
وتظهر بعض التعبيرات الدينية العقلية مثل أن الأجسام المضيئة نوعان الجسم الإلهي والنار، بالذات في الجسم الإلهي وبالعرض في النار، وربما تظهر بعض التوجهات الدينية غير المباشرة عن طريق استعمال تصورات خلقية مثل تصور العقول «أشرف» و«أخس» والأعلى والأدنى تصورات دينية غير مباشرة، كما تظهر بعض التوجهات الإسلامية التي أتت من العقل اليوناني والتنزيه الطبيعي مثل أن الطبيعة لا تفعل باطلا
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك . وتظهر بعض التعبيرات العربية النمطية المعروفة عند ابن رشد مثل ليت شعري، وكما تبدأ الجوامع بالبسملة تنتهي بالحمدلة.
98
رابعا: جوامع ما بعد الطبيعة (ابن رشد)
وهو أكبر الجوامع لدرجة الخلط بينه وبين التلخيص.
1
أعلن ابن رشد أنه سيجعلها خمس مقالات ولا توجد إلا أربعة.
2
يبدأ أولا بتحديد غرض العلم ومنفعته وأقسامه ومرتبته ونسبته ابتداء من الأنفع، وهو التصور العام للعلم قبل الدخول في تفصيلاته. وإذا كانت المقالة الأولى جديدة للغاية عن مصطلحات علم ما بعد الطبيعة فإن المقالة الثانية في مطالب ما بعد الطبيعة تعادل الزيتا
Z
والهاء
H
من كتاب أرسطو، والمقالة الثانية في اللواحق العامة تعادل الثيتا
Θ
الآي
I ، والمقالة الرابعة في مبادئ الجوهر تعادل المقالة الحادية عشرة، اللام في كتاب أرسطو. فمن أربعة عشر مقالا يذكرها أرسطو يلخصها ابن رشد في أربعة. أصغر المقالات الأربع الأولى، وتتساوى المقالات الثلاث الأخرى.
وفيها يتبع ترتيب أرسطو في كل مقالة. ويحيل اللاحق إلى السابق والسابق إلى اللاحق مما يدل على وحدة الموضوع، وضم الأجزاء إلى الكل، والعودة من الاستطراد والخروج عن القصد.
3
وتظهر ثقافته الطبيعية في ضرب الأمثلة الطبية والصيدلية مثل السكنجبين، ورأي الأطباء في الطبيعة وقواها المدبرة للأجسام. ويتكون من عدة فقرات لا يبدأ أي منها بالصيغة الشائعة «قال أرسطو» التي أصبحت عنوانا على التبعية بل «قلنا»، «نحن نقول»، «يقول»، «يقال»، «القول»، «قيل».
4
وتبدأ الجوامع بتحديد القصد والغرض وهو التقاط الأقاويل العلمية من مقالات أرسطو الموضوعة في علم ما بعد الطبيعة على عاداته في الجوامع السابقة. وهي رؤية «بالجملة» أي الرؤية عن بعد، والجوامع بيان وإيضاح ليس للأقوال بل للموضوعات؛ لذلك تكثر صيغ البيان، أفعال وأسماء «يتبين». وأنحاء التعليم المستعملة في علم ما بعد الطبيعة هي الوضوح والاستدلال والأمور البينة أو القريبة من البينة أو أمور بينت في العلم الطبيعي. وإن غاب البيان وقع الفكر في المحال والشناعة والخلف والتناقض. كما تظهر أفعال الشعور المعرفي مثل «رأى»، «لاح »، «شك»، «نظر»، «ظن»، «شك». والفكر اقتضاء ومعيار له مقاييس صحته الداخلية؛ لذلك تتكرر أفعال «ينبغي»، «يقتضي».
5
الفكر ليس فقط فكرا استدلاليا بل هو فكر تجريبي يبحث عن العلل والأسباب وليس فقط عن الاتساق، اتساق النتائج مع المقدمات؛ لذلك تكثر الصيغ الشرطية مثل «إذا كان هذا هكذا».
6
ويرد ابن رشد سلفا على السائل «وقد يسأل سائل» أو على العارض «فإن اعترض أحد» حتى يكتمل بناء الموضوع، ويصبح واضحا بذاته. (1) الوافد
ويتصدر الوافد الموروث كالعادة في الجوامع. يتقدم أرسطو ثم أفلاطون ثم الإسكندر ثم بطليموس وديموقرسطس، ثم فيثاغورس وسقراط وثامسطيوس وفرفوريوس وجالينوس وأفروطاغورش ومانن.
7
يحدد أرسطو أقسام العلم: الأول الأمور المحسوسة بما هي موجودة والتي أجناسها هي المقولات العشر كما فعل الأوائل، والثاني مبادئ الجوهر وهي الأمور المفارقة ونسبتها إلى المبدأ الأول، والثالث موضوعات العلوم الجزئية وأغاليطها التي وقع فيها القدماء في المنطق والطبيعيات وعلم التعاليم. ويسمي العقول المفارقة جواهر. والجوهر موضوع العلم الطبيعي في المقالة الثالثة من «السماع الطبيعي». ويعذل أرسطو أفلاطون بأن جعل ما هو مبدأ فاعل للشيء الكائن بالعرض أي بعيدا مبدأ وفاعلا للشيء الكائن بالذات أي قريبا. وهذا هو الفرق بين المذهبين. أرسطو ينكر أن تكون الصور المفارقة مبادئ فاعلة إلا على أنها كليات في الذهن، ولا يحتاج الأمر أن تكون صورا مفارقة كما هو الحال عند أفلاطون في شيء من المتكونات ما عدا العقل الإنساني. هذا هو الصحيح من مذهب أرسطو، المولد بالذات للشخص هو شخص مثله؛ لذلك يقول إن الإنسان إنما يولده إنسان، والمعنى المتكون فيه بالعرض وهي الإنسانية تولده الإنسانية المجردة من المادة وهذا هو الفرق بين مذهب أفلاطون ومذهب أرسطو.
8
يدرس ابن رشد الموضوع ثم يستشهد بما قاله أرسطو. فابن رشد هو صاحب النص وأرسطو هو المؤيد ربطا للتجربة بالقول، وللمشاهدة بالتراث، وللحاضر بالماضي، فقد وضع أرسطو موضوع القوة والفعل في المقالة الأولى في علم ما بعد الطبيعة تبين أهمية الموضوع.
وأرسطو يفصل الفلسفة اليونانية إلى قسمين، ما قبله وما بعده. الحقيقة تتطور وتتشكل وتتخارج وتتضارب وتتباعد إلى آراء ومذاهب ثم يأتي أرسطو ليوحدها ويبينها ويعرضها ويعلن عن اكتمالها كما يفعل آخر الأنبياء مع الأنبياء السابقين عليه وكما يفعل القرآن مع الكتب السماوية الأخرى بحيث يكون مصدقا لها ومهيمنا عليها.
وتسير الكواكب والأفلاك مثل الشمس والقمر سيرات معتدلة في أبعاد محدودة من الشمس لذلك يقول أرسطو إن سيرتها سيرة الشمس.
ويتبع ابن رشد طريقة أرسطو لإثبات أن المحرك ليس في هيولى وهو طريق الأولى، فالأشرف أولى من الأخس وقياس الأولى هو قياس الفقهاء؛ فابن رشد الفقيه هو الذي يتعامل مع أرسطو الفيلسوف. وهو ما تتضمنه مقالة اللام، وهي التي تتمم العلم، وتكمل الجزء الأول منه. والفلك أشرف أجزاء الكوكب. وكلما كثرت الكواكب كان أشرف. وقد صرح أرسطو بذلك. الفلك المحرك بالحركة العظمى هو أشرف الأفلاك. وقد ظن البعض أن مذهب أرسطو هو وجود محركين بعدد الحركات. وصحح الإسكندر ذلك في مقالته المشهورة «مبادئ الكل»، وجعل المحرك لجميع الأفلاك محركا واحدا. ويحاول ابن رشد الجمع بين الاثنين بحثا عن الأولى والأليق. فلكل حركة متحرك طبقا لأهل التعاليم وإلا لفعلت الطبيعة باطلا وعبثا. وفي نفس الوقت الحركة واحدة بالحقيقة تكون عن محرك واحد.
ويستعمل ابن رشد ظاهر قول أرسطو كي يثبت أن الله عالم بكل شيء وأنه لا يضيره أن يعلم الأفضل الأخس والأكثر كمالا الأقل كمالا والأتم الأنقص لإثبات العلم الإلهي ضد منكريه.
ويضع ابن رشد قضية الصور في سياقها التاريخي ثم ينتهي كما انتهى إليه أرسطو أنه «لا حاجة لنا في ذلك إلى القول بالصور.» كان الفلاسفة قبل أفلاطون يرون أن العلم هو المحسوسات. ولما رأوها متغيرة نفوا العلم حتى إن البعض منهم إذا سئل عن العلم أشار بإصبعه أي إنه متغير ومن ثم لا حقيقة أصلا. وهو الموقف السوفسطائي. ثم أتى سقراط وأثبت وجود معقولات أزلية خارج النفس مطابقة لما هي عليه في النفس، وهي مبادئ الجوهر المحسوس فلو كانت موجودة فليس لها غناء في وجود الكائنات. فالجزئي جزء لآخر مثله شبيه بالنوع ولا يوجد لها صورة خارج النفس.
وثامسطيوس يحتج لأفلاطون على وجود الصور الفاعلة بوجود الحيوانات التي تتولد عن العفونة. ويظن أن هذا مقربه عند أرسطو دون ما حاجة إلى إدخاله سببا للكون على ما يظن في كتاب «الحيوان»، ولكن المبدأ القريب عند أرسطو هو القوة النفسية والبعيد هو صور الأجرام السماوية، ومن غير المحتمل أن يرى أرسطو أن للصور المفارقة تأثيرا عاما في جميع ما يتكون بغير واسطة. وقد أخطأ من يظن ذلك وأجرى الأقاويل العلمية مجرى الأقاويل الشعرية التي تستعمل في تعليم الجمهور. ولولا النفس لم يوجد إلا التحرك فقط، وهذا بين مما يقوله الإسكندر لأنه ليس غير المتنفس أفضل من المتنفس لأنه مدبر له ومتقدم عليه. والأزلي أفضل من غير الأزلي.
ويخطئ الإسكندر من يقول إن العناية تقع بالجزئيات كلها. وكان أصحاب الرواق يقولون ذلك لأن العناية تكون للكل لأنها عالمة به؛ لذلك أخطأ بروتاجوراس عندما جعل نسبة الخير والشر إليه نسبة واحدة. وهو قول غريب على طباع الإنسان ومناف لطبيعة الوجود التي هي في غاية الخير. فلا يوجد خير أو شر أو يتغلب أحدهما للآخر فتعدم الحقيقة؛ وبالتالي يكون تعظيم الله وعبادته خيرا، وقد يكون الخير في غيره، وكلها آراء شنيعة.
9
ويتسلم عدد الحركات والأجسام المتحركة من صناعة النجوم التعاليمية الأشهر في «وقتنا» والذي ليس عليه خلاف بين أهل هذه الصناعة من لدى بطليموس إلى «زماننا» وترك ما بينهم من خلاف. ووجود فلك تاسع في شك؛ فقد ظن بطليموس أنه توجد حركة بطيئة لفلك البروج غير الحركة اليومية التي يتم دورها في آلاف السنين، ويضرب المثل بقول جالينوس على القول بمثال متوسط بين الصحة والمرض تجوزا على المتوسطات. وقد رأى فيثاغورس أن هناك كما مفارقا، وجوده غير وجود هذا الكم المحسوس هو موضوع صناعة التعاليم. وحصر ديموقراطس فصول الأشياء في ثلاثة فقط: الشكل، والوضع، والترتيب. وهذا هو سبب عذله. الفصول أكثر من ذلك مثل الجواهر التي فصلوها في الحرارة والبرودة، وقال فرفريوس وربما أفلاطون وغيره من الفلاسفة المتقدمين إن الجوهر هو الجسم ذو الأبعاد الثلاثة. ثم اختلفوا بعد ذلك بأن جعل البعض المادة الأولى غير مصورة بالذات وبعضهم جعلها مصورة بالأبعاد مثل أصحاب المظلة. وتؤدي أفكار القوة والفعل في العلم إلى شك مانن كما هو مذكور في أنالوطيقا الأخيرة.
ويحال إلى باقي مؤلفات أرسطو المنطقية والطبيعية. فالإلهيات هي طبيعيات مقلوبة، وكلاهما إنسانيات، إسقاط من الزمن على الواقع عن طريق الوهم. فيذكر البرهان ثم المقولات، والسماء والعالم، ثم النفس، ثم السماع الطبيعي والحيوان، ثم أنالوطيقا، وسوفسطيقا، والكون والفساد، وما بعد الطبيعة، وفي مبادئ الكل للإسكندر.
10
يحيل ابن رشد إلى كتاب البرهان في تصنيف الصناعة إلى كلية وجزئية، الكلية التي تنظر في الموجود بإطلاق ودوافعه الذاتية مثل الجدل والسفسطة وما بعد الطبيعة، والجزئية التي تنظر في أحوال الوجود مثل الطبيعة والتعاليم. وفي البرهان تظهر أغاليط القدماء في العلوم الجزئية القسم الثالث من علم ما بعد الطبيعة بعد القسمين الأولين، الموجودات المحسوسة والمبادئ المفارقة. ويعرف التمييز بين الذات والعرض أيضا في كتاب البرهان، وتنشأ المجالات من وضع هذه الكليات بذاتها خارج النفس، وهي مخترعة وكاذبة وليست صادقة. فالصادق هو الذي يوجد في الذهن مطابق لخارج الذهن كما وضح ذلك في كتاب البرهان. وتعرف الأعراض من كتاب المقولات وكذلك المتقابلات والمتقدم والمتأخر وأنواع المحمولات. وتبين في سوفسطيقى أن ما لا نهاية له بالفعل تناقض.
11
وتم عرض منفعة علم ما بعد الطبيعة «في كتاب النفس» في استكمالها لقواها الناطقة لحصولها على كمالها الأخير. وقد تبين فيه أيضا موضوع الكلي في الذهن، المعنى الذي كان به الكلي كليا، جوهر مفارق واحد بعينه أي معقول المعقولات. كما تبين فيه أن العقل خاص بالقوة الناطقة. وقد تبين في كتاب النفس أن المعقول كمال العاقل وصورته، وقد لخص «السماء والعالم» أن الفعل مقترن بالقوة أبدا. والأمور الأزلية لا تشوبها القوة، ولا يحدث فيها تغير من القوة إلى الفعل. كما بان فيه تتبع الأجزاء بعضها بعضا عن محرك واحد وهي منفصلة عنه، وأن الأسطقسات ضرورة معلومة عن الحركة العظمى، واستكمال الجسم المستدير. ولم يكن في المحرك الذي تبين وجوده في السادسة عشرة من الحيوان كفاية في محرك دون محرك الكل. ويحال إلى «الكون والفساد» لمعرفة الهيولى ومراتبها. وقد تعرضت السابعة والثامنة من «السماع الطبيعي» إلى تقدم القوة على الفعل.
12
ومن أسماء الفرق يتصدر القدماء ثم اليونانيون، ثم الفلاسفة والمعشرون والأقدمون من الطبيعيين، والحدث، وأصحاب الرواق، وأصحاب المظلة.
13
لقد أخطأ القدماء أخطاء منطقية في أمور واضحة بذاتها ومن ثم تكون مهمة علم ما بعد الطبيعة حل تلك المغالطات لأن حل الشكوك الواقعة في الموضوعات جزء من تمام المعرفة بعد حصولها بالجوهر. وقد ظن بعض من سلف من القدماء أن الموجود واحد، تاركين أنفسهم للمحسوس وانقيادهم إلى أقاويل سوفسطائية. ناقضهم أرسطو فيها في المقالة الأولى من السماع الطبيعي. اعتبروا الواحد مرادفا للموجود. وقد اختلف القدماء فيما يتقوم به هذا الجوهر المحسوس. وهي كلها آراء فاسدة، تبين بطلانها في العلم الطبيعي مثل القول بالجزء الذي لا يتجزأ. وهو نفس موقف ابن رشد في نقد دليل المتكلمين في «مناهج الأدلة». ولقد أقر جميع القدماء بوجود المادة. وحكى أرسطو عن بعضهم وهو ديموقراطس أنه كان يحصر فصول الأشياء في ثلاثة فقط: الشكل، والوضع، والترتيب. هذه الأبعاد الثلاثة الموجودة في الهيولى الأولى هي التي أجمع القدماء عليها. وقد أقر جل القدماء السابقين على أرسطو أن القوة متقدمة على الفعل.
14
وجرت عادة اليونانيين على استعمال الاسم المشتق وليس الاسم الصحيح. فلكل لغة أساليبها في الصفة والنسبة. وقد اشتهر عند الفلاسفة أن القوة هي الاستعداد للوجود بالفعل. ووصف الشعراء اليونانيون الاضطرار بأنه مؤذ ومحزن، وعند أصحاب المظلة المادة الأولى مصورة بالأبعاد. ورأى الأقدمون من الطبيعيين تقدم المحسوسات الجزئية إلى الكليات العقلية. وشعر الحدث منهم بالسبب الصوري وتصوره على غير ما هو عليه، واعتقدوا أن المعقول خارج الذهن وهو أحرى بالوجود من محسوسه. واعتبروا الواحد سبب كثرة الموجودات. وجعل كثير من القدماء الكثرة عدم الوحدة لأن العدم أخس من الملكة، والملكة أشرف من العدم. والحقيقة أن الوحدة عدم الكثرة لأن العدم أشرف من الموجودات الدينية، والترتيب على طريقة الأخرى والأولى والأخلق وهي عادة المفسرين. (2) الموروث
ويظهر الموروث بصورة واضحة أكثر من الجوامع المنطقية والطبيعية نظرا لإمكانية التعشيق بسهولة بين الوافد والموروث في الإلهيات. فيتصدر ابن سينا على الإطلاق وكأن جوامع ما بعد الطبيعة قد كتبت ضده. ثم محمد بن عبد الله، والفارابي، والغزالي، والزرقالي.
15
ويظهر ابن سينا منذ الصفحات الأولى؛ إذ ينقد ابن رشد البيانات التي يستعملها ابن سينا في بيان المبدأ الأول في هذا العلم. ويعتبرها أقاويل جدلية غير صادقة بالكل ولا تعطي شيئا على التخصيص؛ لذلك عانده الغزالي في «التهافت». يتسلم علم ما بعد الطبيعة مبادئه من العلم الطبيعي مثل الحركة. ويتسلم أعداد المحركين من صناعة النجوم التعاليمية وليست من المبادئ المفارقة التي قد تلوح من العلم الطبيعي كما يقول ابن سينا. علم ما بعد الطبيعة يبدأ من العلم الطبيعي وليس من المبادئ المفارقة التي هي أحد أجزائه. ابن رشد يبدأ من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة وابن سينا يبدأ من ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة. يؤسس ابن رشد ما بعد الطبيعة على الطبيعة، ويؤسس ابن سينا الطبيعة على ما بعد الطبيعة. لقد غلط ابن سينا كل الغلط عندما رأى أن صاحب العلم الطبيعي لا يمكنه أن يبين أن الأجسام مؤلفة من مادة وصورة وأن صاحب هذا العلم، وهو ما بعد الطبيعة، هو الذي يتكفل ببيانه. «وسقوط هذا كله بين» بنفسه عند من زاول العلمين.
16
ولا يكفي أن يقول إن حركة الميل إنما تكون من حال غير طبيعية إلى حال طبيعية فإن ذلك لا ينطبق إلا على الأجسام التي حركتها مستقيمة وسكونها طبع ردا على من قال إن حركة الجرم السماوي بشوق الميل فقط. والأجرام أزلية وليس لها قوى متخيلة كما يزعم ابن سينا لأنها لا توجد بغير حواس كما يبين ذلك علم النفس. ويزعم أن الأجرام السماوية تتخيل الأوضاع التي تتبدل عليها مما يجعل حركتها ليست واحدة أو متصلة لتعاقب اختلاف الصور المتخيلة . واختلاف أحوالها.
والعرض كمصطلح فلسفي يدل على العرض في الشيء كما يكرر ذلك ابن سينا. وهو خلط بين المعقولات الأوائل والمعقولات الثواني «ولكن هذا شأن هذا الرجل في كثير مما يأتي به من عند نفسه.»
17
وقد ظن أن الواحد بالعدد إنما يدل على عرض في الجوهر وليس على الجوهر ذاته. ويعيد ما يراه من أن أرسطو يرى أن الصور المفارقة لها تأثير عام في جميع ما يتكون بغير واسطة ويرى أن الأبعاد الثلاثة تابعة لصورة بسيطة موجودة في الهيولى الأولى وهي التي بها يفعل الجسم الاتصال والانفصال. وهي واحدة مشتركة بين جميع الأشياء كالمادة الأولى، والأدق هو لفظ المتجسم لأنه اسم مشتق، والمشتق أدل على الأعراض. وإذا كان ظاهر كلامه أن هناك صورة بسيطة بالفعل غير صور الأجسام البسائط التي هي الثقل والخفة فإن مجموع هذه الصورة مع المادة الأولى هي الجوهر الذي عرض له التجسم أي الأبعاد الثلاثة، وغير ذلك باطل. ولا يلزم الدور الذي يقول به ابن سينا أنه يلحق في تحديد القوة والفعل فإن المضافين يؤخذ كل منهما في تصور الآخر على مستوى التصور وليس على مستوى التقدم والتأخر.
وموضوع الواحد المطلق إما أن يكون شيئا مشتركا للمقولات العشر كلها كما يقول ابن سينا، وإما أن يكون شيئا مفارقا كما يرى كثير من القدماء في طبيعة الواحد وهو خطأ. أما رأي ابن سينا من أن الموضوع الواحد أمر زائد على جميع المقولات ويدل أبدا وفي كل حال على عرض مشترك للمقولات كلها فيستحيل لأنه يدل على أمر خارج الأشياء التي يقال عليها. فهو ليس واحدا بالجوهر لا بالشخص ولا بالمعنى الكلي. وهو قول بين السقوط بنفسه. وقد ظن ابن سينا أنه من الواجب أن يكون للموضوع عرض موجود في جميع المقولات، وليس الأمر كما ظن، فإن الواحد بالعدد طبيعته غير طبيعة سائر الموجودات، الواحد العددي معنى الشخص مجردا عن الكمية والكيفية، وقد رام ابن سينا أن يجعل الأمر في العدد مثل الأمر في الخط والسطح في حين أن المنفصل غير المتصل. وقد اعترض على حد العدد أنه جماعة الآحاد والكثرة المؤلفة منها بأن الكثرة لا تكون جنسا للعدد وهي نفس العدد.
18
ويذكر من مؤلفات الموروث «الموجودات المتغيرة» للفارابي أو «التهافت» للغزالي. فقد أطال الفارابي في أنحاء التغليط في المواضع المغلطة تحت موضع النقلة والأبدال في «الموجودات المتغيرة».
19
ويذكر المتكلمون ثم المتفلسفون ثم المترجمون كفرق داخلية، المتكلمون «من أهل زماننا» في الجزء الذي لا يتجزأ أو الجوهر الفرد. وقد تمسك بهذه الشبهة كثير من متكلمي زماننا. ونقلوا هذه الأقاويل بأعيانها من أجل إبطال وجود الكليات. ولا يلزمهم عن ذلك فيما يزعمون ارتفاع المعرفة لأنهم لا يقولون بالمقاييس التي تتألف من مقدمتين ولا بالمحمولات الذاتية. ويصحح كلامهم في مبادئ المنطق والصنائع الجزئية.
20
قبل المتفلسفون لفظ الجوهر وهو اسم منقول من الجمهور، وفضل المترجمون صياغة لفظ الهوية للترادف مع الموجود. وهو لفظ منقول. عند الجمهور حرف وعند الفلاسفة اسم. فالهوية من الهو. فعل ذلك بعض المترجمين لأنها أقل تغليظا من اسم الموجود إذ كان شكله شكل اسم مشتق.
21
ويرى المتكلمون أن الأسباب تتقدم بالزمان المسببات في حين أن الارتباط بينهما بالذات وليس بالعرض، في التصور وليس في الوجود.
وتبدو روح الحضارة الإسلامية في المقالة الأولى «في المصطلحات المستعملة في علم ما بعد الطبيعة».
22
فالعلم يبدأ بالمصطلحات أي باللغة كما حول الفارابي من قبل علم المنطق إلى علم اللغة في كتاب «الحروف» وكما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين النحو والمنطق بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى بن يونس.
23
والحضارة اليونانية تبدأ بالإشكالات
Aporia
والحضارة الإسلامية تبدأ بالمصطلحات أي باللغة. تبدأ المصطلحات عند الجمهور، في لغة الحياة اليومية ثم تصبح مصطلحات عند الخاصة، أسماء منقولة أو مشتقة مثل الجوهر.
وتظهر خصائص اللسان العربي وعاداته وأمثلته مثل «عنز أيل» و«عنقاء مغرب» كتصورات في الذهن وليست كموجودات في الخارج.
كما يظهر الأسلوب العربي في ضرب الأمثلة بزيد وعمرو للإشارة إلى أي إنسان في موضوع الماهية والوجود، وأن محمدا هو ابن عبد الله على تكون اسم من اسمين. وتظهر بعض اللازمات الأدبية مثل «لعمري»، «باطل وأي باطل.» ويشار إلى اللسان العربي في مقابل اللسان اليوناني. فبينما جرت عادة اليونانيين بتسمية الشيء المتكون باسم مشتق مثل «خشبي» وليس أرضي ولا سمائي. وهذا النحو من التعليم ساقط في زماننا لأن هذه الدلالة لا توجد في لغتنا إنما يظهر ذلك في اللسان العربي في الأعراض والفصول. فلا تقول العرب إن بعض الحيوان نطق بل إنه ناطق. فالصورة غير الموضوع. ولا نقول عن الجسم بياض بل أبيض، وقد تحمل الأجناس على الأنواع فنقول الصندوق خشب، والإنسان حيوان. بل إن تعليم اللغة ساقط «في زماننا» لأن النحويين يتبعون أساليب خارج اللسان العربي في النسبة والأسماء المشتقة.
24
وتذكر البيئة الجغرافية الإسلامية مثل جزيرة الأندلس.
25
وزمان العصر «زماننا» و«وقتنا». وينتقل ابن رشد من المكان والزمان اليوناني إلى المكان والزمان الإسلامي. فقد ظن بطليموس أنه توجد حركة بطيئة لفلك البروج عن الحركة اليومية يتم دورها في آلاف السنين. ورأى آخرون مثل الزرقالي «من أهل بلادنا هذه، وهي جزيرة الأندلس» ومن تبعه منهم أنها حركة إقبال وإدبار. ووضعوا لذلك هيئة تلزم عنها الحركة. كما ينقل ابن رشد الزمان من الزمان اليوناني إلى زمانه. فقد كثرت تعبيرات مثل «في زماننا هذا.» في وجود الإمكان متقدما على الشيء الممكن بالزمان وكما هو الحال منذ قديم الدهر، لكن «أهل زماننا» يضعون الإمكان قبل الفاعل، وينتج عن ذلك عدة محالات في الصنائع الجزئية النظرية. والغلط في هذا المبدأ سبب لأغلاط كثيرة، وهؤلاء القوم من «أهل زماننا» ينفون أن تكون بالإنسان استطاعة وقدرة فتبطل الحكمة العملية، وتبطل الإرادات والاختيارات وجميع الصنائع الفاعلة. ولا يرجع هذا الموقف إلى تحليل نظري بل لتبرير مواقف مسبقة اعتقدوا بصحتها، واتفقوا فيما بينهم عليها، ويريدون تزييف ما يعاندها وإثبات ما يعاضدها. ويقصد ابن رشد الأشعرية التي تريد الدفاع عن العقائد الشعبية باسم الفكر، وعن عقائد السلطان باسم النظر.
26
ويظهر الموروث بطريقة غير مباشرة مثل الإلهيات والتي يسهل فيها تعشيق الوافد في الموروث. فالأسباب للموجودات إما من جهة الطبيعة في العلم الطبيعي أو من جهة الإله في العلم الإلهي والأشياء الإلهية. والقسم الثاني من علم ما بعد الطبيعة في مبادئ الجوهر، وهي الأمور المفارقة. ونسبتها إلى المبدأ الأول وهو الله تبارك وتعالى، صفاته وأفعاله ونسبة سائر الموجودات إليه، وهو الكمال الأقصى، والصورة الأولى، والفاعل الأول. هناك فرق بين الوافد والموروث في الموضوع والتوجه والقصد. الفرق في اللغة والمصطلحات وحدها. وأحرى ما قيل في اسم التام هو المبدأ الأول تعالى إذ إنه هو علة الجميع وليس معلولا لشيء، كماله من ذاته، وجميع الموجودات مستفيدة كلها منه. فهو إذن أتم كمالا. وقد تلطفت العناية الإلهية لاتصال الوجودين أحدهما بالآخر، القوة والفعل. وهو انتقال من الأقل كمالا إلى الأكثر كمالا. وتستفيد الموجودات كلها من المبدأ الأول الذي هو الله تبارك وتعالى. فالعناية الأولى بنا هي عناية الله عز وجل، وهو السبب في سكن الناس على الأرض، وكل خير منه، والشر لضرورة الهيولى. جعلت العناية للحيوان حسا، وللإنسان عقلا، وتتضمن العناية ألا يكون الشر من عند الله بالرغم من أن كل الأمور ممكنة له. وهو أقرب إلى الموقف الاعتزالي الذي ينكر وجود الشر في العالم.
وظن قوم أن العلم الإلهي إنما ينظر في الأشياء المفارقة فقط في حين أنه ينظر أيضا في الأمور المحايثة ويضرب المثل على سلب الطرفين، وعدم دخولهما تحت جنس واحد لا توسط بينهما بالقول في الإله تعالى أنه لا خارج العالم ولا داخله. وقد عظمت القدماء المتنفس واعتبرته من الآلهة. ويبحث أرسطو وابن رشد عن مبادئ لهذه الأجرام السماوية الإلهية ابتداء من علم النفس لأن أكثر المبادئ مأخوذة منه؛ لذلك قيل في الشرائع الإلهية «اعرف ذاتك تعرف خالقك» فالإلهيات نفسانيات أي إنسانيات، ومبادئ العلم الإلهي في مبادئ علم النفس.
27
وتذكر آيتان قرآنيتان: الأولى
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
لإثبات وحدانية الغاية ووحدانية المحرك. فالعلم واحد بمبدأ واحد وإلا كانت الوحدة موجودة له بالعرض. والثانية
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، وهو أن الكمال يصدر عن الكمال وأن المبدأ لا يصدر عنه إلا مبدأ. فمحال أن يصدر الجهل عن العلم، والفاضل لا يوجد فيه نقص؛ لذلك تمسك البعض بأن الله يعلم الأشياء في مقابل آخرين يقولون إن الله لا يعلم ما دونه. وهذا هو المبدأ الذي تليق به الصفات المتقدمة وتنطبق عليه. هو الله تبارك وتعالى لأن إدخال مبدأ آخر متقدم على هذا ضرورة أفضل، والطبيعة لا فضل فيها. ويظهر تعبير «إن شاء الله تعالى» بعد الإعلان عن نهاية قسم من العلم وبداية آخر. وكما تبدأ الجوامع بالبسملة تنتهي بالحمدلة والسلام على عباده الذين آمنوا.
28
Shafi da ba'a sani ba