وحدث مرة أن كلفتني أن أشتري لها فاكهة، وكنت أعرفها تحب الجوافة حبا جما، فانتقيت حبات طيبة الرائحة ذكية العبق، واشتريت لها فاكهة أخرى، ولكن الجوافة كانت هي المهمة والتي عليها الكلام، وذهبت بحملي إليها ودخلت به حجرة الانتظار، وقلت لخادمتها: «قولي لسيدتك صباح الخير يا نور العيون، لقد حضر سيدك ونن عينك اليمنى - واليسرى أيضا في الحقيقة - ومعه حمل بعير من الجوافة، بل من أبدع أنواعها.»
فذهبت الخادمة وأبلغتها الرسالة، فأطلت تلك من باب غرفتها - بوجهها فقط - وصاحت وهي فرحة: «صحيح؟ جوافة. حلوة؟!»
ففتحت الكيس وأخرجت واحدة ورفعتها بين أصابعي، وأدرتها أمام عينها، فابتسمت ابتسامة السرور وقالت: «حالا، حالا، دقيقة واحدة»، ودخلت.
وبقيت أنا أتمشى في الحجرة، ولم يكن فيها ما يسلي المرء، ولم يكن معي كتاب أقرأه وأزجي به الفراغ، فجعلت أقوم وأقعد، وأنظر تارة في المرآة، وأمسح الطربوش تارة أخرى، وأنفض عنه ما علق به من التراب، ومسحت الحذاء أيضا، مسحته مرتين حتى صار جلده كالمرآة، وحتى حدثتني نفسي أن أخلعه وأنظر إلى وجهي فيه، ولكني خفت أن تدخل علي وأنا أفعل ذلك، وتأملت الحرير الذي كسيت به الكراسي، ورفعت طرف السجادة وجسستها وفركت وبرها بأصابعي، ثم لم أجد شيئا آخر أصنعه في هذه الغرفة، فانحططت على كرسي كبير وثير، واضطجعت وفي مأمولي إذا نمت أن لا توقظني حين تدخل. ولكني لم أنم؛ لأن رائحة الجوافة الذكية كانت قوية، فقد نسيت الكيس الذي هي فيه مفتوحا فتسور إلى أنفي أريجها، وملأ صدري وأدار رأسي، فأحسست بالجوع، ولكني ضبطت نفسي وشددت على اللجام وقلت: «اللهم اخزك يا شيطان» غير أن الشيطان شديد الغواية قوي الفتنة، فجعل يقول لي: «وما حبة واحدة تأكلها فتنيم بها هذه الثعالب التي تمزق أحشاءك؟» فقلت: «والله لقد صدق اللعين! فلآكل حبة واحدة من الجوافة اللذيذة، ثم إن هذا عدل؛ أحملها وأحرمها! وأكون كالعيس التي يقولون: إنها يقتلها الظمأ وهي تحمل الماء على ظهورها في القرب، أو كالحمار الذي يحمل أسفارا؟»
ومددت يدي إلى الكيس وأنا يقظان كنائم، وتناولت منه من غير أن أنظر إليه، وطابت الجوافة في فمي، فأقبلت عليها آكل وآكل - ولكن بغير احتفال والله - وإذا بصاحبتنا تدخل مؤهلة مرحبة باسطة يدها للسلام، ثم إذا بها تقف في وسط الغرفة الفسيحة وعينها مفتوحة جدا علي فلم أستغرب، فقد كان فمي محشوا وأسناني تعمل دائبة كالليل والنهار. وتنبهت إلى واجبي حين رأيتها تحملق على هذا النحو، فبلعت ما بقي في فمي بسرعة، ومططت عنقي ليسهل الانزلاق - أعني البلع - وانحنيت على الكيس لأتناوله وأقدمه إليها وأسرها به - أعني بالجوافة التي فيه - وإذا به ينطبق بين يدي لأنه فارغ!
والحق أقول إني بهت فما كان يخطر لي في بال أن آكل كل هذه الجوافة؛ ولو أن إنسانا راهنني أن أفعل لفزعت، وأشفقت على نفسي، ولكن هذا الذي لم أكن أحسب أن لي قدرة عليه وقع اتفاقا، وقد سرني هذا في الحقيقة؛ لأنه كان من بواعث الاطمئنان على صحتي، وكان جديرا بها أن تهنئني وتفرح لي، فإن الجوافة كثيرة وهي في السوق أكوام عظيمة، والجيد الطيب ليس بالقليل، وثمنه شيء تافه لا يستحق الذكر، ولكنها وجمت يا أخي، لا أدري لماذا، ووقفت لا تتحرك، كأنما سمرت إلى الأرض، فأزعجني ذلك وخفت أن يكون قد أصابها شيء - لا قدر الله - وأقبلت عليها أسألها عما جرى لها، فلما أفاقت أشارت بيدها - دون أن تتكلم - أن: اذهب، اذهب ولا ترني وجهك. فاستغربت أن تلقاني بهذه الجفوة بعد ذاك الترحيب والتأهيل والبشر الذي كان يفيض به وجهها وهي مطلة به من بين مصراعي الباب، وتمنيت لو أنها تبقى أبدا ووجهها بين المصراعين ليبقى لي بشرها وحلاوة ابتسامها.
الحق إني لا أفهم النساء، وهل تستطيع أنت أن تفهم كيف يفسد الحال وتقع النبوة بين رجل وامرأة من أجل أقة من الجوافة ثمنها بضعة قروش! إن كنت تفهم هذا فإني أحسدك وأدعو لك بالتوفيق إن شاء الله.
Shafi da ba'a sani ba