وأعود إلى المحمل الذي استطردت عنه فأقول: إني سألت نفسي هذا السؤال: «ماذا ترى يفعل هؤلاء الذين يفدون زرافات ووحدانا ليقفوا على الرصيفين المتقابلين في انتظار موكب المحمل إذا علموا أن تاجرا سيشنق بعد ساعة في ميدان باب الخلق - وكان قديما هو الميدان الذي يشنق فيه من يحكم عليهم بالإعدام، وقد رأيت اثنين منهم يشنقان، وكان أحدهما أعمى - لسبب من الأسباب التي توجب الشنق؟ هل ينتظرون المحمل أو يخفون إلى باب الخلق؟!»
وقلت في جواب هذا السؤال: إن الأرجح عندي أن يهرعوا إلى باب الخلق، فإن موكب المحمل منظر مألوف، وإذا مد الله في أجلهم فإنهم يستطيعون أن يروه في موسم الحج المقبل، ثم إن مشاهدته لا تفيدهم شعورا أعمق مما يستفاد من الحفلات العامة. أما شنق رجل في ميدان عام فيحرك عواطف أعمق، فهو أولا قد اعتدى على الجماعة بقتل واحد منها مثلا، وبالخروج على نظامها وقانونها، ثم إنه بما اجترح يعد - إلى حد ما - ثائرا متمردا على الجماعة، فلا يسع الجماعة الوادعة إلا أن تشعر بمقدار من الإعجاب في سريرة نفسها - وحتى من غير أن تدرك أنها تعجب - بقوته وبأسه وجرأته. ثم إن شنق واحد من الجماعة مظهر لسلطان القانون وسطوته، فهو شيء رهيب له روعة. وأخيرا أحسب أن الشنق العلني يثير ويدفع إلى السطح الخشونة الكامنة في الجماعة، والقسوة الفطرية التي يحجبها الصقل والتهذيب والنظام في العادة، وقد يعرف القارئ أن الجماعة - كجماعة - أخشن وأعنف وأقل رحمة وأدنى مستوى على العموم من الفرد، وقد لا تستطيع وأنت وحدك أن تعتدي على ذبابة، وقد تسقط مغشيا عليك إذا رأيت دجاجة تذبح، وقد لا يطاوعك لسانك على الدوران بكلمة نابية تقولها حتى لأعدى أعدائك، ولكنك وأنت في جمهور كبير تلفى نفسك قادرا على العدوان باللسان واليد على من يعديك الجمهور بسخطه عليه، فإن وجود المرء في جمهور يجعله طوع الروح العام، فيصبح التيار الساري هو المسيطر عليه، لا عقله ولا إرادته. ثم إن اندماجه في خلق كثير يشجعه ويذهب عنه الخوف والجبن، ويطمئنه. وقد رأيت مرة جماعة من الرجال يعابثون امرأة مجنونة معابثة غليظة، ويضحكهم صراخها وعويلها وما تهرف به؛ إذ يجذبون ثيابها ويلوون ذراعيها، ويفعلون غير ذلك مما يصنع القط بالفأر، فزجرتهم فكادوا يتركونها ويعنون بي دونها، وأسمعوني من الكلام أفحشه وأقبحه، فمضيت عنهم وأنا أحدث نفسي أنه لو لقيها واحد منهم بمفرده لكان الأقرب إلى الاحتمال أن يرثي لحالها، وأن يجود عليها ويعطيها مما أعطاه الله.
ورأيت الأعمى يشنق في باب الخلق، وكنت في طريقي إلى المدرسة، فإذا الناس يضحكون ويصفقون وينكتون، ويقذفون المسكين بكل بذيء من القول، حتى النساء زغردن يومئذ، وكن في غير هذا الجمع خليقات أن يبكينه ويندبنه.
ورأيت في عرس قديم - قبل جيل تقريبا - شابا من أولاد البلد يتجمع عليه لفيف من أمثاله ويعرونه من ثيابه - إلا السراويل - وكانت ليلة شتوية باردة، ويرغمونه على الرقص وهم حافون به راصدون له، يحضونه على مواصلة التثني والتلوي ويصفقون، وهو يبكي من الغيظ والخجل مما صار إليه من الذلة، وبقية الناس يضحكون ويقهقهون وهم وقوف لينظروا، وأصحاب العرس عاجزون عن حماية الفتى المسكين، وأنا أتعجب له! ماذا تراه صنع حتى استحق ذلك؟ ولا أهتدي - على كثرة ما سألت - إلى جواب مريح، فقد كان كل من أسأل يقول: والله لا أعرف! وما داعي أن يعرف؟ أليس حسبه هذا المنظر المسلي؟!
وسمعت وأنا جالس إلى مكتبي أصوات التصفيق، فكان هذا إيذانا بمرور الموكب، فانتظرت دقيقة ثم قمت إلى النافذة أنظر، فإذا الشارع قد خلا إلا من الشرط، والنوافذ ليس فيها وجه واحد يطل! انحسرت الموجة وأعقب المد جزر، وسيمد هذا البحر الإنساني مرة أخرى ويقبل موجه يرجف حين يؤذن الموكب بعودة، فلننتظر. ***
أرى من نافذتي على هذا الرصيف شعوبا شتى لا يبدو لي أنها تتعارف أو تتواطن، وإن كانت تتجاور في حي واحد، ولكل منها حياته الخاصة التي لا تشبه حياة الآخرين، لا في مطعم ولا في ملبس، ولا فيما ينشده إنسان في حياته ويبغيه من دنياه. وأنا إذ أنظر إليها يخيل إلي أني أرحل إلى بلاد بعيدة، وإن كنت لم أبرح مقعدي إلى جانب النافذة، فسبحان ربي الخلاق! أكل هؤلاء المختلفين الذين يأبون أن يأتلفوا ذرية، آدم واحد وحواء مفردة؟! عجيب هذا! على أنه ليس أعجب من أن يكون كل من الرجل والمرأة إنسانا من أصل واحد. وتذكرت قول «لن يوتانج» إنه يتعجب للمرأة كيف تستطيع أن تمشي على قدمين اثنتين وتقاوم ما يغريها من طبيعة جسمها بالمشي على أربع!
وتذكرت ما حدثني به الأستاذ العقاد مرة أنه قرأ لعالم من العلماء، يرجح أن تكون أنثى الإنسان قد انقرضت لأسباب شتى ذكرها، فسطا على أنثى حيوان آخر واتخذها له بديلا من أنثاه؟
وتذكرت أني لقيت مرة إحدى بنات حواء التي لعلها مظلومة، فسألتني: «إلى أين»؟
قلت: «إلى الأستاذ العقاد، فهل لك في زيارته معي؟»
وكنت أعرف أنها تعرفه من كتبه فقالت: «وأنا هكذا؟»
Shafi da ba'a sani ba