ومعنى هذا أن الإعلان في حقيقة الأمر خصم من خصوم الحرية الفردية والاجتماعية، وخصم من خصوم العقل، وخصم من خصوم التفكير وتحري الصدق والصواب؛ ونتائج هذا كله ظاهرة في حياتنا وحضارتنا؛ فالإعلان هو الذي أفسد قلوب الألمان وخدعهم بزخرف القول حتى أضاع عليهم عقلهم، وحتى سلبهم حريتهم، وحتى أخضع ملايينهم الضخمة لفرد أو لأفراد يصرفونهم كما يحبون، ويتصرفون في أنفسهم وأموالهم وعقائدهم وآرائهم كما يشتهون. والإعلان هو الذي دفع الألمان - بعد أن صاغهم هذه الصيغة - إلى هذه الطاعة المطلقة التي انتهت بهم وبجزء عظيم من العالم إلى هذه الكارثة التي نشهدها، والتي نرجو ألا تشمل العالم كله بآثارها المنكرة.
فالإعلان إذن شر قد لا يكون منه بد، ولكنه شر لا بد من الاحتياط حينما نضطر إليه، وحينما تكرهنا الظروف على اصطناعه، وما أكثر الشرور التي لا بد منها! ولكن ما أشد ما يجب على الناس أن يصطنعوا من الحذر والاحتياط حين يضطرون إلى بعض هذه الشرور! فهل نحن نصطنع شيئا من الحذر والاحتياط فيما يكون بيننا وبين الإعلان من صلة تضطرنا إلى أن نصطنعه في بعض شئوننا ومصالحنا؟ أم هل نحن قد فتنا به كما فتن غيرنا، وأذعنا له كما أذعن له غيرنا، وأهدينا إليه عقولنا وقلوبنا في غير تحفظ ولا احتياط كما أهداها إليه غيرنا؟
وأنا لا أريد بالطبع أن أقوم مقام الواعظ المرشد؛ فليس بي أن أقوم هذا المقام، ومصر والحمد لله غنية بالوعاظ والمرشدين، قد امتلأت الصحف والراديو والأندية بوعظهم وإرشادهم، وإنما أنا باحث يحاول أن يفهم، ويحاول أن يدعو غيره إلى الفهم والاستقصاء. ولست أخفي عليك أن الذي حملني على التفكير في أمر الإعلان هو هذه الظاهرة الغريبة، ظاهر التهالك على الإعلان، في بيئات قد كانت خليقة ألا تفكر في الإعلان الآن، فضلا عن أن تتهالك عليه. وقد قرأت في بعض الصحف ما دعاني إلى هذا التفكير، وهو أن الذين يعلنون يجب أن يكون عندهم ما يعلنونه إلى الناس، فأما أن يعلنوا قبل أن يظفروا بما يريدون إعلانه فهذا هو الشيء الغريب حقا، وواضح جدا أن هذا الكلام إنما يمس وزارة الشئون الاجتماعية، التي لم تكد تنشأ، ولم يكد الناس يبتهجون بإنشائها حتى كان أول ما أقدمت عليه وآخر ما أقدمت عليه وأهم ما أقدمت عليه إلى الآن الإعلان. أنشأت له إدارة، وعينت له موظفين. أستغفر الله، بل أساءت إلى الأدب الخالص، فأخذت أديبا كان الناس يحبون أن يقرءوا له، وكلفته أن يفرغ لأبعد الأشياء عن الأدب، وأبغضها إلى الأدب، وأسوئها أثرا في الأدب؛ وهو الإعلان. وأخذنا لا نعرف توفيق الحكيم ولا نسمع عنه، ولا نلقاه إلا وهو غارق في الإعلان إلى أذنيه، قد اتخذ لنفسه من الإعلان معطفا وعصا مكان معطفه وعصاه اللذين طالما تحدث عنهما الناس، وسيتخذ لنفسه من الإعلان صنما يشغله عن أصنامه تلك التي كان مفتونا بها كل الفتنة، والتي كانت تسمى الموسيقى والتمثيل والغناء والقصص؛ فكان من أول الشر الذي جناه تهالكنا على الإعلان في وزارتنا الجديدة تعقيم توفيق الحكيم. وأنا أستأذنك في الضحك من هذه الكلمة، فقد أراها تصلح عنوانا لرسالة ظريفة تصور صديقنا حين كان أديبا خالصا للفن، وتصوره بعد أن أصبح معلنا خالصا للإعلان.
ولكن أمر الإعلان في وزارة الشئون الاجتماعية - وقد كدت أملي في وزارة الدعاية - لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى ما هو شر منه من إضاعة الوقت والجهد والمال في غير نفع ولا غناء؛ فإدارة الدعاية في هذه الوزارة تريد أن تعظ الناس وترشدهم إلى الخير والإصلاح، والأزهر قائم بهذا الإرشاد والوعظ منذ زمن بعيد، ووزارة الداخلية قائمة بهذا الإرشاد والوعظ منذ زمن بعيد أيضا. وما أظن أن وزارتنا الجديدة ستبلغ من التوفيق في الوعظ والإرشاد إلى ما لم يبلغه الأزهر ووزارة الداخلية.
وأكثر من هذا أن كل وزارات الحكومة لم تنشأ عبثا، وإنما أنشئت لمصلحة الناس قبل كل شيء، وهي من هذه الجهة محتاجة إلى الإعلان كما يحتاج الإصلاح الاجتماعي نفسه إلى الإعلان. فما رأيك لو أنشأت وزارة العدل إدارة للإعلان تذيع في الناس فضائل العدل وتدعوهم إليه؟ وما رأيك لو أنشأت وزارة التعليم ووزارة الأمن ووزارة الري والصرف إدارات للإعلان، تذيع في الناس فضائل التعليم والأمن والري والصرف، وتدعوهم إلى ما يصلح من ذلك وتردهم عما لا يصلح؟ وما رأيك لو أنشأت وزارة المال والاقتصاد ووزارة الدفاع عن الوطن ووزارة البر والإحسان إدارات تدعو الناس من طريق الإعلان إلى الخير وتردهم عن الشر في كل ما تعالج من مرافق البلاد؟
وأظرف من هذا كله أن وزارة التجارة - وهي وزارة الإعلان بأصح ما لهذه الكلمة من معنى - لم تنشئ إدارة للإعلان، أو أنشأتها ولكن لا تتحدث عن نفسها ولا تشغل الناس بنفسها!
أليس يكون من أغرب الأمور أن تنشئ كل وزارة إدارة للإعلان وأن تختار لها الموظفين وتنفق عليها المال وتغذي منها الصحف والراديو، وتصبح أمور الحكومة كلها إعلانا في إعلان، ولا شيء غير الإعلان؟ ألست توافقني على أن هذا كثير، وعلى أن الخير أن نرجع في هذا كله إلى القصد والاعتدال؟ ألست توافقني على أني لا أسرف على وزارتنا الجديدة إذا طلبت إليها ناصحا لها أن تلغي هذه الإدارة الجديدة، وأن ترد موظفيها إلى أعمال أنفع وأجدى وأحسن ملاءمة للمصلحة من أعمال الإعلان هذه، وأن ترد توفيق الحكيم إلى أدبه وكتبه وأحاديثه في الصحف، فذلك أحسن موقعا عند الناس من هذا الجهد الضائع الذي يضر كثيرا ولا ينفع شيئا، والذي أقل ما يوصف به أنه تهالك على الكلام الذي لا يدل على معنى، وعلى الدعاء الذي لا يحصل منه شيء، وأظنك تستطيع أن تؤكد معي لوزارة الشئون الاجتماعية أن المصلحين إن كانوا قد سئموا شيئا من مصر والمصريين فقد سئموا الكلام والإعلان، وطال شوقهم إلى أن يفكر المصريون تفكيرا صحيحا منتجا في كلمة قاسم أمين رحمه الله: إن الوطنية الصحيحة تعمل ولا تعلن عن نفسها.
رحلة
تركت للقاهرة جد الحرب والسلم، ودعابة الحرب والسلم أيضا، وفررت منها إلى حيث تعودت أن ألجأ بين حين وحين من أعماق الصحراء في أواسط الصعيد. فشغلت بضروب أخرى من الجد والهزل ليس بينها وبين ما يشغل به الناس في القاهرة سبب قريب أو بعيد. وقد علمنا أساتذتنا القدماء والمحدثون أن في التغيير ترفيها على النفس وتسلية عن الهم وتجديدا للنشاط.
وأعترف بأني حين أزمعت هذه الرحلة كنت ألتمس الترفيه على النفس والتسلي عن الهم والتجديد للنشاط، ومع أني قد ظفرت من هذا التغيير بشيء كثير فقد عدت إلى القاهرة كما خرجت منها متعبا مكدودا عظيم الحظ من السأم والضيق. إما لأن الحوادث التي تشغلنا في هذه الأيام أثقل وأكثف من أن يجليها التغيير ويريحنا التنقل من بيئة إلى بيئة، وإما لأن الرحلة كانت قصيرة لا تكفي لنسيان ما خرجنا منه قبل أن نعود إليه، وإثم هذا على مجلس الجامعة وعلى السادة العمداء خاصة؛ فهم قد أرادوا في هذا العام أن يسرفوا على أنفسهم وعلى زملائهم وطلابهم في الجد، كأن الأيام لا تسرف على الناس في هذا الجد. ولأول مرة في تاريخ الجامعة قصرت إجازة العيد حتى لا تتجاوز خمسة أيام، منها يوم الجمعة الذي هو يوم أجازة بطبعه. ولأول مرة في تاريخ الجامعة كان الجامعيون أشد على أنفسهم وتلاميذهم وأعنف بها وبهم من وزارة المعارف؛ فقد أذنت وزارة المعارف للأساتذة والتلاميذ في أن يستريحوا أسبوعا كاملا من عناء الدرس، وأبت الجامعة إلا أن ترد الأساتذة والطلاب إلى القاهرة مساء الإثنين ليستأنفوا الدرس صباح الثلاثاء، كأن الدرس شيء لذيذ لا يمكن الصبر عنه ولا تصح الاستراحة منه سبعة أيام. ومهما يكن من شيء فكانت الرحلة قصيرة ذهب منها يومان في السفر ذهابا وإيابا كما يقال، وأنفق باقيها في راحة تشبه التعب أو تعب يشبه الراحة. فلم نسمع للراديو ولم نقرأ فيها الصحف ولم ينفض علينا التليفون فيها ضوء النهار ولا ظلمة الليل، ولم نشعر فيها بهذا التطواف السخيف في مدينة القاهرة وضواحيها، نلقي البطاقات إلى الخدم والبوابين حتى إذا عدنا وجدنا بطاقات قد ألقيت عندنا إلى الخدم والبوابين، ولم نناقش أحدا ولم يناقشنا أحد فيما كان وما يمكن أن يكون من شئون الحرب، ولم نجادل أحدا ولم يجادلنا أحد فيما كان وما يمكن أن يكون من سياسة أحزابنا المصرية الموفقة في كل ما تأتي وما تدع. وإنما فرغنا في هذه الأيام لأنفسنا، ولهذه الناحية من أنفسنا التي نزدريها ما أقمنا في القاهرة؛ لأنها فيما يظهر تقرب من الحيوان، وتنزل بنا عن هذه المرتبة الممتازة مرتبة الإنسان المتحضر الذي يقرأ الكتب ويلقي الدروس ويجادل في العلم والسياسية ويكتب في الأدب والسياسة، وقد يختلف إلى ملاعب السينما والتمثيل. هذه الناحية التي نتنافس في البعد عنها ونستبق إلى ازدرائها ونصطنع ألوان النفاق في كتمانها والتستر في أكثر ما نضطر إليه من مظاهرها، أريد بها ناحية الحياة الجسمية الخالصة التي تختصر في الطعام والشراب والنوم وبعض الحركات الآلية السخيفة. إلى هذه الناحية الحقيرة من نواحي حياتنا فزعنا في هذه الأيام الثلاثة، فأنسينا العلم والأدب نسيانا تاما، وكدنا نشغل عن الحرب لولا هؤلاء الذين كانوا يلمون بنا من حين إلى حين، فيحملون إلينا غرائب الأنباء وطرائف الأخبار عن بلاء الإنجليز في مقاومة الألمان وبلاء اليونانيين في مقاومة الإيطاليين.
Shafi da ba'a sani ba