والنقاد الفرنسيون يجمعون، أو يكادون يجمعون، على أنها قصة جيدة، متقنة الوضع، بديعة التنسيق والتأليف، ولكن هذه القصة لم تنقل إلى الفرنسية كما وضعها صاحبها، وإنما صاغها الكاتب الفرنسي صيغة جديدة، فجعل أشخاصها فرنسيين، وأجرى حوادثها في ضاحية من ضواحي باريس، ولاءم بين نظامها وبين الذوق الفرنسي في التمثيل، ومن هنا يتفاوت النقاد الفرنسيون في تقدير ما ينال المؤلف والصائغ من حظ في الإحسان والإجادة، ثم من حظ في الثناء والتقريظ، فمنهم من يضيف جمال القصة إلى المؤلف المجري، ويأسف أسفا كثيرا أو قليلا لأن الصائغ الفرنسي لم يكن أمينا في الترجمة والنقل، ومنهم من يضيف هذا الجمال إلى الصائغ الفرنسي، ويرى أنه قد أحسن الإحسان كله حين غيرها وعرضها على الفرنسيين في هذه الصيغة الجديدة التي تلائم ذوق باريس.
وقد يكون من العسير علينا أن نحكم في قضية كهذه؛ لأننا نجهل الأصل المجري، ولم نوفق لترجمة ألمانية أو إنجليزية لنوازن بين الأصل وبين الصيغة الفرنسية لهذه القصة، لا سيما أن النقاد الفرنسيين يحدثوننا بأن الكاتب الفرنسي قد غيرها تغييرا شديدا، وبدل أشخاصها تبديلا باعد بينها وبين الأصل إلى حد ما.
على أن النقاد مهما يختلفوا فيما بينهم متفقون على أن الكاتب المجري نفسه متأثر في قصته هذه وفي غيرها من القصص التمثيلية بالأدب الفرنسي، وهم يذكرون تأثره بموباسان، وهنري بيك، وماريفو، فهي إذن في رأيهم قصة فرنسية عادت إلى فرنسا.
ومهما يكن من شيء فإن من المحقق أن هذه القصة على جمالها ودقة موضوعها، وعلى ما فيها من قوة في التصوير لا تخلو من شيء غير قليل من ضعف التأليف، فأنت حين تقرؤها لا تستطيع أن تنسى أنك تقرأ قصة وضعت للتمثيل بحيث لا يستطيع جمالها الفني أن يشغلك عن تأليفها، وعما تكلف الكاتب فيها من هذه الحيل التي يتكلفها أصحاب التمثيل للملاعب، فحركات الأشخاص مثلا حين يدخلون ويخرجون، وحين يذهبون ويجيئون، وحين يظهرون ويستخفون ليست حركات طبيعية، وإنما هي في كثير من الأحيان حركات متكلفة، نرى تكلفها ونحسه، حتى ليخيل إلينا أن هؤلاء الأشخاص قد اتصلوا بحبل أو سلك يجذبه شخص خفي ليظهروا حين يجب أن يظهروا، وليستخفوا حين يجب أن يستخفوا، وما هكذا يكتب أفذاذ الكتاب في التمثيل؛ أذلك عيب الكاتب أم ذلك أثر الصائغ؟ هذا شيء لا نستطيع الفصل فيه كما قدمنا.
وموضوع القصة نفسه مطروق، سبق الكاتب إليه غير مرة، سبق إليه في قصص مختلفة، منها المضحك، ومنها المحزن، ومنها ما هو بين بين، ولكن هذا كله لا يمنع أن هذه القصة جيدة، يجد قارئها لذة قوية، ويضطر إلى أن يقف عند بعض فصولها وقفة التفكير والتأمل، وليس أدل على ذلك من هذا الفوز العظيم الذي ظفرت به في عواصم أوروبا وأميركا.
وليس في هذا شيء من الغرابة، فقد يطرق الموضوع الواحد مرات ومرات دون أن يحول ذلك بينه وبين الحدة وقوة التأثير في نفوس الأفراد والجماعات، ذلك حين يكون الموضوع نفسه قويا قوة لا تذهب بها الأيام، ولا يعمل فيها تغيير الظروف، وحين يكون الموضوع شائعا مألوفا، نشهده في مواطن كثيرة، وفي ظروف مختلفة.
ولست في حاجة إلى أن أذكرك بهذه الموضوعات الخالدة التي تناولها الشعر القصصي اليوناني، وأخذها عنه الشعر التمثيلي اليوناني فزادها قوة وتأثيرا، ثم أخذها عنه التمثيل الحديث، والقصص الحديث في فرنسا وألمانيا وإنجلترا فلم يزدها إلا قوة وقوة على الأخذ بمجامع النفوس كما يقولون.
والموضوع الذي طرقه كاتبنا من هذه الموضوعات التي إن لم تكن شائعة مألوفة في بعض البيئات التي قلما يختلط فيها الرجال والنساء، فهي شائعة مألوفة في كثير من البيئات الأوروبية، وهو موضوع يسير جدا: زوجان لم يصل بينهما الحب، ولا ما يشبه الحب، وإنما قامت صلاتهما الزوجية على المنفعة أو على المصادفة ليس غير، فهما يعيشان عيشة هادئة وادعة، لولا أن لهما صديقا قد اتصل بهما، وقويت بينه وبينهما الصلة، فهو يلازمهما لا يستطيع أن يقضي يوما دون أن يراهما، لا يستطيعان هما أيضا أن يحتملا الحياة إذا لم يرياه.
وهو خير ليس بالشرير، ولا بصاحب المجون والدعابة، ولكنه على ذلك صاحب قلب يخفق، ونفس تحب، فلا يستطيع إلا أن يحب صديقته وامرأة صديقه، وهو يخفي على نفسه هذا الحب، ويصوره في صورة الصداقة والمودة الخالصة، وربما كان صديقه مثله مخدوعا أو ربما لم يكن مخدوعا، وربما خدعت المرأة نفسها، وربما عرفت حقيقة الأمر، وأحبت هذا الصديق، ولكنها تجاهد هذا الحب، وتنتصر عليه، تسلك إلى ذلك ما تستطيع أن تسلكه من طريق، ولعلهم يستطيعون جميعا أن يعيشوا مطمئنين إلى هذا الحال الغامضة الواضحة معا، هم سعداء، أو هم يحسبون أنفسهم سعداء، ولعلهم يستطيعون أن ينفقوا حياتهم كلها في مودة كلها صفو مطرد، لولا أن يعرض لهم من الظروف ما يزيل الغشاوة عن الأبصار، ويشق الغلاف عن القلوب، فيروا ... وهم إذا رأوا قد يسعدون وقد يشقون.
هذا الموضوع مألوف في البيئات الأوروبية، تنشأ عنه في كثير من الأحيان ألوان من التعقيد في حياة الأسر، وصلات الأصدقاء، منها ما ينتهي إلى السلام والدعة، ومنها ما ينتهي إلى الشر والنكر، وقد طرقه كاتبنا هذا فصوره تصويرا حسنا مؤثرا، ولكنه لا يخلو - كما قلنا - من تكلف، ومن غلو أحيانا.
Shafi da ba'a sani ba