58

فإذا كان الفصل الثاني كانت الخطبة قد تمت بين الأستاذ وتلميذته الغنية الفيلسوفة، ولكن الجار قد كلف بالفتاة، ويظهر أن الفتاة لم تنصرف عن الجار، فأخذ هذا الجار واسمه «البارون هوبير دي بيوليه» يتكلف العلل والمعاذير ليتردد على القصر، وأخذت الفتاة تستقبله استقبالا حسنا، وتسمع لما يقول في شغف وإعجاب، وكان هذا الفتى على جمال خلقه، وقوة جسمه، رجل عمل يكره التفكير الخالص والنظر العقيم، ويريد أن يكون كل شيء منتجا إنتاجا عمليا، وألا يتكلم الإنسان ولا يتحرك إلا كانت لكلامه وحركاته آثار عملية ملموسة نافعة.

كان يحب الفتاة، وكان رجل عمل بالمعنى الصحيح، وكان الأستاذ يحب الفتاة، وكان رجل تفكير بالمعنى الصحيح، وكانت الفتاة تحب الرجلين، أو يخيل إليها أنها تحب الفيلسوف لفلسفته وذكائه، وتميل إلى رجل العمل لعمله وحسن خلقه، ولكن الفيلسوف كان بفلسفته وتفكيره في شغل عن الفتاة وجمالها وقلبها وعواطفها، كان يحبها حبا فلسفيا، كان يحب عقلها أو كان يحب نفسه في هذا العقل؛ لأنه كان يرى الفتاة متأثرة بفلسفته، وكان يراها ذكيه، فكان يحب فيها ذكاءها، وكان يحب فيها صورته الفلسفية، كان إذن مشغولا بالفلسفة عن الحب، ولم يكن رجل العمل مشغولا بعمله عن الحب، وإنما كان يحب لأنه رجل عمل، وكان الحب عنده عملا من الأعمال، وكانت الفتاة مضطربة بين هذين الرجلين، فلم يكن بد من أن يجتمعا بمحضر منها، وأن يتحاورا في الحب، يجتمعان ويتحاوران، ويحل الحوار المشكلة أمام الفتاة.

يسأل رجل العمل: لم تحب؟ فيجيب: لنلد، يسخر الفيلسوف من ذلك، فيشتد بينه وبين رجل العمل حوار ينهزم فيه الفيلسوف؛ لأنه يكبر فلسفته أن يناقش فيها من لا علم له بها، ويخلو «هوبير» بالفتاة، فيتحاوران ويتحدث كل منهما بحياته إلى الآخر، فيظهر بينهما شيء هو الحب، ولكن الفتاة لا تريد أن تسميه هذا الاسم، ولا تريد أن تفكر فيه؛ لأنها مخطوبة، ولأنها قد وعدت بالوفاء لأستاذها الفيلسوف، تنكر حبها لهذا الشاب، ولكن هذا الحب يملؤها، ويتسلط عليها، فإذا أخذ الأستاذ يتحدث إليها في الفلسفة بعد حين انصرفت عنه، قائلة في سخرية: دعني فإني أريد أن أجني بعض الأزهار. يظل الأستاذ متصلا بفلسفته وحبه الفلسفي، ويعمل في نفس الفتاة رجل العمل وصورته، وبلاؤه في الصيد، وحياته المنتجة المملوءة، وصحته القوية المعجبة، فلا تكاد تنام الليل، أما رجل العمل فلا يذوق طعم النوم.

فإذا كان الفصل الثالث ظهر ظهورا جليا سأم الفتاة، وانصرافها عن الحب الفلسفي؛ لأنها تشعر بعواطفها وميولها وشهواتها، وترى أن الفلسفة والذكاء الخالص لا يرضيان هذه العواطف، ولا هذه الميول، ولا هذه الشهوات، وهي في الوقت نفسه شريفة وفية، لا تريد أن تغدر، ولا أن تنكث، فتحاول أن تستصبي عاشقها الفيلسوف، وتذكره أن الحب يستطيع أن يعيش على الأرض كما يستطيع أن يعيش في السماء، وبأن العقل وحده ليس مصدر الحياة ولا غايتها، وبأن في الجسم وجماله مدعاة للذة والصبا. تحاول ذلك فتتكلف ما يصبي، وتلقي بنفسها عارية في فسقية في الحديقة أمام الأستاذ يراها وتتجاهل أنه يراها، فلا تكاد تفعل ذلك ولا يكاد الأستاذ يرى منها ذلك حتى ينصرف وجهه إلى كتاب في يده، ويولي مدبرا. فاقدر أنت ما يحدث هذا الانصراف في نفس الفتاة من ألم وأسف ويأس، ولكنها تخرج من الماء، فتشعر بأن عينا مختبئة تلحظها من كثب، فيملكها الحياء، وتعدو إلى القصر حيث تجد مربيتها، فتتحدث إليها بما فعلت، وما حاولت، وما رأت، وتتحدث إليها بأنها تخشى أن يكون رجل العمل هو الذي كان يلحظها من كثب، وهما كذلك إذ يقبل رجل العمل، فلا تشك في أنه كان يلحظها فتوسعه لوما، وتأنيبا، وتظهر الحوادث أن الرجل قد كان بريئا مما اتهم به، وأن الذي كان يلحظها إنما هي امرأة تعمل في أرض خالها، ولكن الحب بينها وبين الشاب يقوى وينمو، ويشتد سلطانه، وإن حاولت الفتاة أن تخلص من هذا السلطان.

يحس خالها ذلك فيحاول أن يلفت الأستاذ الفيلسوف، وأن يستنزله من سماء الفلسفة إلى أرض الحب، فينزل ولكن قليلا ينزل، ولكن ريثما أن الحب والفلسفة شيئان لا يتفقان، فلا يلبث أن يصعد إلى السماء، ولا يلبث أن يضحي بعواطفه وأهواء نفسه وحبه في سبيل الفلسفة، فيخطب الفتاة لهذا الشاب، وتقبل الفتاة، ويقبل الشاب، ويرضى الخال، ويسافر الأستاذ.

هذه القصة لخصتها تلخيصا شديد الإيجاز مخلا بكثير من معانيها، مضيعا لكثير مما فيها من الآراء القيمة، فلم أترجم لك منها شيئا، ولم أتل عليك منها حوارا، وأحسب أنك قد ألممت بها إلماما، وأحسب أنك تشعر معي بأن هذه القصة تبعث الحيرة في نفس من يقرؤها، ومن يشهدها، فماذا أراد الكاتب؟ أأراد أن يقارن بين الفلسفة والعمل، وأن يفضل العمل على الفلسفة؟ فإن أراد هذا فقد ظلم الفلسفة؛ لأنه مثلها تمثيلا سيئا، ووضع الأستاذ الفيلسوف موضعا مضحكا، يشبه موضع الفلاسفة الذين يسخر منهم «موليير»، وغير «موليير» من الممثلين المضحكين. وقد كان الإنصاف يلزمه أن يمثل الفلسفة تمثيلا صحيحا كما مثل العمل تمثيلا صحيحا؛ حتى تكون نتيجة الخصومة بينهما مقنعة للقراء أو للنظارة، أم أراد أن يدرس نفس هذه الفتاة، وأن يبين أن الحب الفلسفي الذي لا يطمع إلا في الذكاء، ولا يرغب إلا في اتحاد الميول العقلية الخالصة ضعيف الأثر في نفوس النساء؛ لأنه يهمل أشياء لم تهملها الطبيعة: يهمل القلب، والعاطفة، والحس؟ فإن كان أراد هذا فليس هذا بجديد، وإنما هو شيء مألوف قاله الناس، وأكثروا من الخوض فيه، أم أراد الأمرين جميعا؟ أم لم يرد شيئا منهما، وإنما حاول أن يعرض على قرائه ونظارته طائفة من الخواطر والآراء ليست متسقة ولا متصلة، فتكلف لها صورة القصة التمثيلية ليوجد بينها الاتساق والاتصال؟ ذلك ما أظن، وأرى أن الكاتب إن كان قصد إلى هذا فقد وفق توفيقا لا بأس به، ولكنه لم يحسن إلى التمثيل، فإن التمثيل لا يقصد به إلى عرض الخواطر والآراء، وإنما يقصد به قبل كل شيء إلى تصوير الحياة الواقعة، أو إلى تصوير المثل الأعلى للحياة تصويرا يملك على الجمهور قلبه وهواه، ويوجهه إلى الطريق التي يريد الكاتب أن يتجه إليها، وليس من شأن هذه القصة أن تترك في نفس الجمهور مثل هذا الأثر، ولكن من شأنها أن تعجب القارئ، وتلذه، وترفه عليه، وقد كان خليقا بها أن تبسط في كتاب لا في قصة تمثيلية.

بينيلوب

لم يطل ليلي ولكن لم أنم

ونفى عني الكرى طيف ألم

ولكنه لم يكن طيف هند، ولا عبدة، لم يكن طيف عربية، ولا مصرية، ولا أوروبية، وإنما كان طيف امرأة بقي اسمها في ذاكرة الإنسانية، وذهبت بشخصيتها الغير والأحداث، ولعلها لم توجد قط، ولعل التاريخ لم يعرف من أمرها قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فقد قضيت الليل أفكر فيها، بل أسمع إلى حديثها ومناجاتها، هادئة مرة، ثائرة مرة أخرى، يملؤها الحنان حينا، وتملكها الوحشية حينا آخر، قضيت الليل أفكر فيها، وأسمع لأحاديثها ونجواها حين كانت تتحدث إلى خدمها، وحين كانت تتحدث إلى عشاقها، وحين كانت تتحدث إلى مرضع زوجها، وحين كانت تناجي الآلهة متلطفة آنا، ومحنقة آنا آخر، ثم حين كانت تناجي خيال زوجها الغائب، وتتحدث إلى زوجها وقد آب بعد غياب طويل، قضيت الليل أفكر فيها وأستمع لحديثها، وأعجب بقدرة الفن، لا أقول على إحياء من مات، وتجديد ما اندثر، بل على خلق ما لم يوجد، والتخييل إليك أنه قد وجد وأثر في الحياة آثارا أبقى من أن ينالها الفناء، لم يكن هذا الطيف طيف عربية، ولا مصرية، ولا أوروبية، وإنما كان طيف يونانية، كان طيف «بينيلوب» زوج «أولس» بطل «الأودسا».

Shafi da ba'a sani ba