56

فيدفع الطبيب عن نفسه بأنه كثيرا ما عرض حياته للخطر في مكافحة الأمراض المهلكة، ويذكرها مرضا أصابه، وأشرف به على الموت، وأنها قد عنيت به في هذا المرض عناية ملؤها الإخلاص؟ وينتقل بهما هذا الحديث إلى ما بينهما من صلة، فيذكر الطبيب أن امرأته لا تحبه، ويحدثها بذلك، فيكون بينهما حوار مؤلم، تذكر «لويز» أنها كانت تحبه، ولكنه كان يزدريها، ويذكر هو أنه كان يثق بها، ويعتمد عليها، ويعتز بعطفها في جهاده العلمي، تذكر له أنها فقدت حبها إياه، ولكنها كانت تجله إلى اليوم، فيسألها عن رأيها فيه منذ اليوم، فتجيبه أنها أصبحت تخافه؛ لأنه كان ينكر على المؤمنين المتعصبين ازدراءهم حياة الناس في سبيل الإيمان والعقيدة، حينما هو يزدري حياة الناس في سبيل علمه دون أن يضمن لهؤلاء الناس ما يضمنه لهم المؤمنون من حياة أخرى فيها الأمل والرجاء، وفيها السعادة والنعيم. ويستمر بينهما الحديث حتى يعرض الطبيب على امرأته أن تسترد حريتها، فتقبل ذلك مترددة، وهنا تظهر عاطفة جديدة في نفس هذه المرأة التي تكره زوجها وتخافه، تظهر عاطفة الخير والرحمة، ولكنها ليست واضحة. تحس هذه المرأة في أعماق نفسها شيئا غامضا يأمرها ألا تترك هذا الزوج الذي ينصرف عنه الناس جميعا، ويتركونه يعاني وحده سخط الجماعة، ووخز الضمير، وإنهما لفي ذلك إذ يدخل «موريس كورميه» فينصرف الطبيب ليحضر الأوراق التي يريد أن يخفيها عند صاحبه، وينتهز الصديق هذه الفرصة القصيرة ليتحدث إلى صاحبته في الحب، ولكن هذه الفرصة لا تطول فيعود الطبيب، ويكلف صاحبه أن يعنى بما يدفع إليه من الأوراق، وهنا ينتهي الفصل الأول وقد عرض فيه موقف الأشخاص جميعا أحسن عرض، وفصل أدق تفصيل. فأما الطبيب فهو يرى نفسه مجرما أمام ضميره بعد أن استيقن شفاء «أنطوانيت» من السل، وهو جزع لهذا؛ جزع لأن امرأته تكرهه وتخافه، وهذه المرأة ترى زوجها مجرما وقد كانت تكرهه وتخافه، ولكنها بدأت تعطف عليه دون أن تتبين ذلك من نفسها، فأما «موريس كورميه» فهو يجل الطبيب ويكبره، وهو مع ذلك يحب زوجه ويدور حولها. •••

فإذا كان الفصل الثاني ازدادت هذه المواقف وضوحا، تذهب «لويز» إلى معمل «موريس كورميه»، فيريد هذا أن يتحدث إليها في الحب، ولكنها تنبئه بأنها تحبه غير أنها جاءت تلجأ إلى العالم لا إلى الصديق، جاءت تلتمس عنده شفاء نفسها المضطربة، أليس نابغة في علم النفس؟ إذن فليشفها، إنها مترددة بين الحرية التي هي حقها وبين العطف على زوجها، هذا العطف الذي هو واجبها، لقد لجأت إلى الصلاة فلم تنفعها، فليشفها العلم إن لم يشفها الدين، ولكن العلم عاجز عن شفائها؛ لأنه لم يتقدم بعد، وما زال ناشئا، وهو لا يعالج إلا المرضى، و«لويز» ليست مريضة الجسم، وإنها لفي ذلك مع صاحبها إذ يقبل الطبيب فتستخفي حيث تسمع، وترى دون أن يراها أحد، لذيذ جدا هذا الحوار القوي العنيف الممتع الذي يدور بين هذين العالمين، لذيذ يستحق أن يترجم كله، ولكني مضطر إلى ألا أترجم لك منه شيئا إشفاقا من الإطالة التي بلغت حد الإملال.

في هذا الحوار يظهر الجهاد بين العقل والقلب، بين العلم والدين، بين الذكاء والعاطفة، وقد انتصرت العاطفة على الذكاء، وقد انتصر القلب على العقل، وقد ظفر الدين بالعلم، فإذا الطبيب مؤمن بقوة لا يتبينها، وإذا ضميره مقتنع بأنه مجرم، ولكن هذا الانتصار ليس باهرا ؛ لأنه نتيجة الضعف والاضطراب. يتحدث الطبيب إلى صاحبه، فما أسرع ما ينتهي بهما الحديث إلى وجود قوة قاهرة تسمو إليها الإنسانية كلها، فيعترف الطبيب بهذه القوة، وينكرها النابغة في علم النفس، ويشتد بينهما الجدال، فبينما يستدل الطبيب بمظاهر الطبيعة المختلفة، وميل الفطرة الإنسانية والعقل الإنساني إلى الخلود والإيمان بالخلود، يجيبه صاحبه بأن هذا كله أثر من آثار الضعف، ونتيجة من نتائج الاضطراب الذي هز قواه منذ أمس؛ ذلك لأن أشد الناس قوة، وأمضاهم بصيرة، وأكثرهم إلحادا إذا دهمته الداهمات، وألمت به الملمات، وأعوزه النصير من أبناء جنسه إلى قوة خفية يخلقها له الضعف، ويستحدثها له الوهم، ويصورها له حرصه على الأمل، وجزعه من اليأس، فما أسرع ما يعترف الطبيب بأن هذا حق، ولكن هذا الاعتراف لا يحوله عن يقينه، فهو يؤمن بأن هناك قوة وإن شئت فقل حقيقة عليا عامة تشمل حقائق الحياة كلها، هي الصور المجملة المفصلة لكل ما هو كائن، يؤمن بذلك، وبأن الميل الطبعي للإنسان إنما هو السمو إلى هذه الحقيقة العليا، يسمو إليها بقلبه تارة، فيؤمن دون بحث ولا تفكير، ويسمو إليها بعقله تارة أخرى، فيؤمن بعد البحث والتفكير، يصل إليها الطبيب بواسطة طبه، ويصل إليها الطبعي بواسطة بحثه الطبعي، ويصل إليها كل عالم بواسطة العلم الذي يشتغل به.

ولكن العلماء يقصرون بحثهم وهمهم على ما بين أيديهم من حقائق الحياة الدنيا، ولا بد لهم من أوقات الشدة والمحنة لينتقلوا من حقائق هذه الحياة إلى الحقيقة العليا التي ينتهي إليها كل شيء. ثم يصل بهما الحديث إلى ذكر امرأة مريضة كانت موضوع التجربة في علم النفس في هذا المكان، فقدت هذه المرأة ابنا لها كانت تحبه، فخيل إليها أنها قاتلة ابنها، وضاقت عليها لذلك سبل الحياة، فأقبلت إلى صاحبنا العالم النفسي تلتمس لديه الشفاء، ووجد هذا العالم وصاحبه الطبيب وسيلة إلى شفائها، وهي أن أنامها العالم ووضع أمامها تمثالا يشبهها، وأعطاها سكينا، وأنبأها بأن شخصيتها مضاعفة تتألف من امرأتين مختلفتين؛ إحداهما: أم تحب ابنها، والأخرى امرأة غادرة قتلت هذا الابن، ثم قال لها العالم: دونك هذه القاتلة، انتهزي نومها فاقتليها انتقاما لابنك، ففعلت، وكان ذلك شفاء لها.

قال «موريس» لصاحبه الطبيب: إن وجهك الآن يذكرني وجه هذه المرأة، فلك صورتها ونظراتها، قال الطبيب: لم تخطئ لأني قتلت اليوم رجلا، وأنبأه بأنه في صباح هذا اليوم لقح بمرض السرطان رجلا قويا صحيح البنية، ليس بالمريض، ولا المتعرض للموت، وذلك لتكون تجاربه العلمية أصح وأصدق إنتاجا، ثم دفع إليه ورقة فيها ذكر هذه التجربة، ونتائجها الأولى، وأنبأه بأنه سيدفع إليه في كل يوم نتائج تجاربه، وهنا اضطرب العالم النفسي، ولم يتردد في اتهام الطبيب بالإجرام، فدفع الطبيب عن نفسه بأن هذا الرجل الذي قدم نفسه ضحية للعلم حر في أن يحيا أو يموت، وأنه قد اختار الموت لا مكرها، ولا مخدوعا، ولا مضللا، وإنما اختار الموت رغبة في العلم من جهة، وفي الخير من جهة أخرى، أراد أن يستفيد العلم، وأن يستفيد الناس بعد ذلك، ثم انصرف الطبيب، وقد قال ذلك بصوت يملؤه البكاء.

فتخرج «لويز» من مخبئها مضطربة واجمة، قد أخذها شيء يشبه شوق الصوفية، فيحب «موريس» أن يتحدث إليها، ولكنها تأبى، وتعلن إليه أن زوجها لم يقتل إلا نفسه، وأن هذا الرجل الذي ضحى بنفسه للعلم والخير إنما هو «ألبير»، وأن قربه من الموت هو الذي حبب إليه ذكر الخلود والحياة الآخرة، وأنه جاء يلتمس معونة صاحبه وعزاءه فلم يجد إلا جفاء العلم وقسوته، دعني ألحق بزوجي! ثم تتركه، ويلقى الستار.

فهذا الفصل الثاني قد أوضح هذين الشخصين إيضاحا كاملا، فتم في نفس الطبيب انتصار ضميره على عقله، وتم الاتفاق بين علمه ودينه، فهو مقتنع بأنه يجب أن يقتص من نفسه لهذه الفتاة البريئة التي قتلها، وهو يقتص من نفسه فيلقح نفسه مرض السرطان، ويحقق بهذا التلقيح شيئين: الانتقام، وتجربته العلمية، فسيصبح منذ هذا اليوم موضوعا لهذه التجربة، وسيموت بعد أشهر، وقد أرضى علمه، فعرف نتيجة بحثه، وأرضى ضميره فانتقم لتلك الفتاة البريئة.

وأما زوجه فكانت مترددة بين الحرية، والعطف على زوجها؛ لأنها كانت تجهل هذا الزوج، فلما سمعت له، وعرفت ما فعل بنفسه استقر رأيها، وتم أمرها على أن تؤثر الواجب على الحق، فنسيت حبها «لموريس»، ونسيت حريتها، ولم تفكر إلا في زوجها الشهيد، فلحقت به تواسيه وتعزيه. •••

فإذا كان الفصل الثالث تم التفهم والاتفاق بين هذين الزوجين، فأنبأت «لويز» زوجها بأنها تحبه؛ لأنها سمعت ما قال عند «موريس»، وأن حبها إياه لا يعرف حدا، فهي مستعدة لأن تتلقى مرض السرطان، مستعدة لأن تتلقى شرا من هذا المرض، لا تريد من ذلك إلا أن تشعر بأن زوجها يحبها.

وقد نسينا الفتاة البريئة التي نجت من السل فوقعت في السرطان، تقدم هذه الفتاة فتنبئ الطبيب في لطف ورفق بأنها تعلم ما أصابها، وأنها سعيدة به، وأنها لا تأسف على شيء؛ لأنها كانت قد وهبت نفسها للخير، كانت تريد أن تعطي حياتها قليلا قليلا للبائسين، فستعطي حياتها للبائسين دفعة واحدة لا أقساطا، فهي لم تخسر شيئا، ولعلها ربحت شيئا كثيرا، وهي سعيدة بالموت؛ لأنه سلمها إلى السماء.

Shafi da ba'a sani ba