53

وما لدغة البعوضة في جلد الفيل؟

ثم تخرج الأميرة، وتأتي «بولين»، فيشتد العتاب بينها وبين ابنها؛ لأنه آثر عليها هذه المرأة، وأنها لفي ذلك إذ يأتي الجندي الألماني الذي يشارك بول في التجسس، فينبئها بأنه رأى في النافذة امرأة أمرته بالألمانية أن يذهب إلى القرية فيعلن إلى السلطة فيها أن في هذا البيت جاسوسا.

وإذن فقد حنثت الأميرة في القسم، وأخلفت الوعد، فحل دمها، ولكن بول يتردد مع ذلك في قتلها، ولا يطمئن إليه إلا على كره منه، وتخرج أمه لتدعو الأميرة، فيسمع الرجلان طلق المسدس، وتعود المرأة فتعلن إليهما أنها قد قتلت الأميرة، وأنها تعلم ما ينتظرها من موت، ولا تطلب إلا شيئا واحدا، وهو أن تستخرج من حفرتها إذا عاد الفرنسيون إلى «لورين» فتدفن في قبر، ويكتب عليه: «ماتت لأجل فرنسا.»

هذه هي القصة، ولعل ما نقلناه لك من أحاديثها يغني عن الشرح والتفسير.

الدمية الجديدة

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «فرنسوا دي كوريل»

لست أدري أحدثك عن قصة من قصص التمثيل أم عن رسالة من رسائل الفلسفة، ولعلي أحدثك عنهما جميعا، فإن القصة التي بين يدي الآن تمثيلية عرفت أكبر ملاعب باريس، وهي في الوقت نفسه فلسفية، تناولت بالبحث والتحليل مسألة من أكبر المسائل التي تشغل الضمير الإنساني وتعذبه، سواء أكان ضميرا فرديا أم اجتماعيا، وليس في ذلك شيء من العجب؛ فإن صاحب القصة هو ذلك الذي حدثتك عنه في القصة الماضية؛ هو «فرنسوا دي كوريل» الكاتب الفرنسي.

وضع هذه القصة سنة 1895، ولكنه لم يقدمها إلى الملعب؛ لأنه أشفق أن تكون من الدقة والتعمق في البحث الفلسفي بحيث تسبق عقل الجمهور، فاكتفى بنشرها في «مجلة باريس»، ولم تكد تنشر هذه القصة حتى أعجب بها الناس، وحتى نالت لدى القراء والنقاد فوزا لا بأس به، ثم مضت الأعوام فلما كانت سنة 1899 تحدث الكاتب مع زعيم من زعماء التمثيل في عرض هذه القصة على الجمهور فأصلحها الكاتب، وغير منها، وأضاف إليها، ثم مثلت فكان الفوز عظيما، وأجمع النقاد أو كادوا يجمعون على أن هذه القصة آية من آيات التمثيل تؤرخ العصر الذي وضعت فيه، وتدل على أن هذا الفن سينتقل من طور إلى طور، فيختم القرن الماضي في طوره القديم، ويبتدئ هذا القرن في طوره الحديث. ولم ينكر تفوق هذه القصة إلا ناقد واحد هو «سارسي»، ومع ذلك فقد اعترف بأنها قيمة مؤثرة، ولكنه زعم أنها خليقة بالقراءة لا بالتمثيل، ويقول «فرنسوا دي كوريل»: إن هذا الحكم لم يصدر عن إنصاف، وإنما صدر عن الهوى.

وضعت هذه القصة منذ أكثر من ربع قرن، ومع ذلك فلم ينسها الناس، ولم تعرض عنها ملاعب التمثيل، بل ما زالت تمثل وتمثل في أكبر ملاعب باريس في «الكوميدي فرنسيز»، ولعل إعجاب الناس بها، وفهمهم إياها في هذه الأيام أشد وأصدق منهما يوم مثلث لأول مرة، فقد ارتقى الجمهور في هذه السنين الأخيرة ارتقاء عقليا ظاهرا، يمكنه من الوصول إلى دقائق هذه القصة وأمثالها، ومهما يكن من شيء، فإن إعجابي بالجمهور الذي يفهم هذه القصة، ويكلف بها أشد من إعجابي بالكاتب الذي وضعها، ونظم فصولها، وأحسب أن هذه القصة لو مثلت في مصر لما استمع لها من الناس إلى نفر قليل، وقليل جدا، ولهذا ترددت قبل أن أختار هذه القصة موضوعا للحديث؛ ذلك أن الجد فيها أكثر من الهزل، بل ليس فيها من الهزل شيء، وليس أمر الحب فيها ذا خطر، وإذا شئت فقل إنه ذو خطر جليل، ولكنه حب علماء يخلو من هذه الرقة، ومن هذه الدعابة التي تستخفك وتستهويك، فأنا أعرفك وأعرف أنك لا تطلب إلى الصحف السيارة دروسا علمية أو أحاديث فلسفية جافة، وإنما تطلب ذلك إلى الكتب والمجلات والأساتذة، فأما كتاب الصحف فأنت تريدهم على أن يسلوك ويلهوك في أوقات الفراغ، في القهوة، أو في الترام. وفي الحق أن هذه القصة لا تسلي ولا تلهي، بل لا تكاد تحرك عواطف القلب، وإنما هي تهز العقل الإنساني هزا عنيفا، وتحيي الشك حينا ما، وحسبك أنها تقرب بين الذكاء والإيمان، أو بين العلم والدين.

قلت إن الحب في هذه القصة حب علماء، ولست أغير هذا القول، ولا أعدل عنه، فسنرى أن الأشخاص الممتازين في هذه القصة أربعة: رجلان، وامرأتان، فأما الرجلان، فعالمان من أكبر العلماء يتعمق أحدهما في الطب، والآخر في علم النفس، وأما المرأتان، فإحداهما ليست عالمة ولكنها كالعالمة؛ لأنها تستطيع أن تفهم هذين العالمين، وتناقشهما، وتلزمهما الحجة، والأخرى ليست عالمة ولا شبيهة بالعالمة، ولكنها أبعد عن الحب ولذاته ودعابته من العلماء والفلاسفة؛ لأنها تستعد لتكون راهبة، وهي تستعد لذلك بقلب ملؤه الدين والإخلاص.

Shafi da ba'a sani ba