الباب الثاني: الإنسان الكامل
الفصل الخامس: الوعي الخالص (الذات)1
أولا: البراهين على وجود الوعي الخالص (الذات)1
ثانيا: أوصاف الذات وصفاتها
ثالثا: الوجود
رابعا: القدم
خامسا: البقاء
سادسا: المخالفة للحوادث
سابعا: القيام بالنفس
ثامنا: الوحدانية
الفصل السادس: الوعي المتعين (الصفات)
أولا: أحكام الصفات
ثانيا: الصفات السبع
ثالثا: الأسماء
رابعا: إلهيات أم إنسانيات؟
خاتمة
الباب الثاني: الإنسان الكامل
الفصل الخامس: الوعي الخالص (الذات)1
أولا: البراهين على وجود الوعي الخالص (الذات)1
ثانيا: أوصاف الذات وصفاتها
ثالثا: الوجود
رابعا: القدم
خامسا: البقاء
سادسا: المخالفة للحوادث
سابعا: القيام بالنفس
ثامنا: الوحدانية
الفصل السادس: الوعي المتعين (الصفات)
أولا: أحكام الصفات
ثانيا: الصفات السبع
ثالثا: الأسماء
رابعا: إلهيات أم إنسانيات؟
خاتمة
من العقيدة إلى الثورة (2)
من العقيدة إلى الثورة (2)
التوحيد
تأليف
حسن حنفي
الباب الثاني: الإنسان الكامل
تركنا شرح عنوان الباب الثاني «الإنسان الكامل» لخاتمة الباب كله بفصليه.
الفصل الخامس: الوعي الخالص (الذات)1
أولا: البراهين على وجود الوعي الخالص (الذات)1
(1) ماذا يعني الوعي الخالص أو الذات؟
موضوع التوحيد هو لب علم الكلام كله، أعطاه اسمه فأصبح التوحيد هو علم التوحيد، وأصبح العلم كله يدور حول إثبات الذات والصفات والأفعال.
2
وفي كتب الفرق يظهر التوحيد كموضوع أول تفترق فيه الفرق وتجتمع.
3
ولكن لا يبدو بناء الموضوع وتطوره إلا من خلال المؤلفات الموضوعية لا من خلال كتب الفرق. وتبدأ كتب العقائد المتقدمة بالتوحيد، وتكون كل الموضوعات الأخرى مرتبطة به دون تفصيل أو تقسيم لموضوعات جديدة، وكأن التوحيد هو المحور الذي حوله تدور كل الموضوعات الأخرى.
4
ولكن ماذا تعني الذات؟ بعد الانتقال من العالم كما عرضته نظرية الوجود، وتم اكتشاف الطبيعة والإنسان كبعدين رئيسيين فيه، يبدأ السؤال حول الذات، أي الوعي الخالص، سواء كان وعي الطبيعة أم وعي الإنسان أم وعيا مفارقا لما انتهت نظرية الوجود إلى إثبات المفارقات. بداية علم أصول الدين كموضوع هو الذات، أي الوعي الخالص بعد أن كانت المقدمات النظرية كما بدت في نظريتي العلم والوجود أقرب إلى إثبات العالم الحسي. كان السؤال إذن: وماذا بعد العالم الحسي؟ هل هناك وعي خالص أو ذات؟ هل إثبات العالم الحسي يؤدي بالضرورة إلى إثبات الذات؟ وهل الذات افتراض يمكن إثباته أم أنها بديهية وجودية، إذ يشعر كل منا بأن له وعيا قد يكون شائبا وقد يكون خالصا؟ وماذا تعني الذات إن كان وجودها بديهيا؟ لقد حاول القدماء إثبات الذات قبل تعريفها، أي الانتقال من حقيقة العالم الحسي إلى حقيقة الوعي. وتعني الذات مؤقتا الحقيقة، الماهية، الجوهر، الوجود المطلق، التعالي. وقد أتت الحاجة لضرورة إثبات الذات أولا قبل تعريفها؛ لأنه لا يمكن تعريف شيء لم يثبت بعد. لذلك كان السؤال: هل ينتقل الإنسان انتقالا طبيعيا من نظرية الوجود إلى الذات؟ وماذا لو بقي على مستوى العالم الطبيعي دون الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك؟ ولكن العالم الطبيعي وضع الإنسان كأحد أبعاد الطبيعة، وبالتالي وضع الإنسان الطبيعي افتراض الذات أو التعالي. لذلك تنتهي نظرية الوجود عند القدماء لتفسح المجال لدليل القدم والحدوث أو لدليل الجوهر الفرد أو لدليل الممكن والواجب لإثبات الذات أو «الصانع»، أي بداية استخدام الأمور الاعتبارية في «ميتافيزيقا الوجود» لإثبات أمور وجودية في «أنطولوجيا الوجود»، وبذلك يتم الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان.
ولكن يبدأ القدماء، وهم بصدد إثبات الذات بمسلمة وهي التوحيد بين الذات والصانع، ويشيرون إلى أن البراهين على إثبات الذات هي براهين على إثبات الصانع، مع أن الصانع أحد الصفات أو الأسماء وليس من أوصاف الذات. لم يبدأ القدماء إذن ببداية مطلقة يتسلسلون منها على نحو بديهي أولاني مما يدل على أن العلم لم يصل إلى درجة قصوى من العقلانية والتجريد، وأن الفكر الديني أتى ليزحزح الفكر العقلاني عن مكانه ويبطل عليه دوره، وذلك بإدخال إحدى العقائد قبل أن تتأصل؛ وهي عقيدة أن العالم مصنوع، صنعه صانع، وهي عقيدة «الخلق». وإذا كان لفظ الذات قد بلغ درجة قصوى من العقلانية، وبالتالي أصبح معبرا عن التنزيه، فإن لفظ الصانع لم يبلغها فوقع في التشبيه على عكس اللفظ الأول، فماذا يعني الصانع؟ هل هو الخالق؟ وماذا يعني الخالق؟ وهل لفظ الصانع أكثر تجريدا من لفظ الخالق؟ وهل انتهت نظرية الوجود إلى إثبات ضرورة الخلق أم أن العالم كان مكتفيا بذاته عن طريق القسمة وأن المفارقات لم يكن من وظيفتها الخلق بل كانت مؤشرا إلى وجود الوعي الخالص؟ صحيح أن كلا اللفظين الصانع والخالق موجودان في الوحي وكلاهما أسماء «الله». إن لفظ الصانع يشير إلى حقيقة تالية وليس إلى حقيقة أولى؛ إذ إنه يتم إثبات الذات أولا، ثم صفة الصانع ثانيا. وقد يكون لفظ الصانع افتراضا مسبقا أتى من الوحي مباشرة وليس من العقل الذي لم يصل حتى الآن إلا إلى إثبات العالم.
5
وتتعدد براهين إثبات الذات بالنسبة إلى تعدد العلوم وتطور مراحلها. فمثلا في المراحل الأولى كانت البراهين غير متميزة وغير منظرة، بل كانت تعتمد على الآيات القرآنية، مثل:
أفي الله شك ...
أو
ولئن سألتهم من خلقهم ... ، وهي أدلة فطرية توحي بدلالة الصنع على الصانع وتعتمد على أوائل المعقول وبداهات الحس وشهادات الوجدان اعتمادا على نظرية العلم الأولى؛ لذلك لم يرد التكليف بمعرفة الصانع لأنها معرفة فطرية، بل إن صفاته أيضا يمكن معرفتها بالفطرة.
6
كانت مقدمات الأدلة أيضا آيات قرآنية، مثل:
أمن يجيب المضطر ... ،
قل من ينجيكم ... ،
أمن يبدأ الخلق ... . وعلى هذا النحو لم يكن هناك فرق بين موقف الأشاعرة وموقف الصوفية. لم تفترق إذن الأدلة، دليلا الحدوث والإمكان عن العواطف الصوفية عندما يتحد التحليل العقلي القائم على القسمة مع المواجيد الصوفية.
بعد ذلك خرج دليل الحدوث لإثبات الصانع من نظرية الوجود، بل ويبدو أحيانا وكأنه بديل عنها.
7
وارتبط، خاصة لإثبات مقدمته الأولى «العالم حادث»، بمبحث الجوهر والأعراض في نظرية الوجود ارتباطا وثيقا، حتى إنه ليصعب التفرقة بين المادة الواحدة في موضوعين مستقلين، وحتى انتشرت الطبيعيات في كلا الموضوعين. فالطبيعيات ما هي إلا حديث في دقيق مسائل التوحيد لإثبات فروع الأصول التي يقوم التوحيد عليها. بل إن كل مسائل الطبيعيات لم تكن إلا مقدمة للإلهيات أو أنها إلهيات مقلوبة على الطبيعة كما هو الحال أيضا في الطبيعيات عند الحكماء. وأن كل نظريات المتكلمين في المجاورة والملامسة والاعتماد والتأليف والاجتماع والافتراق إنما أتت من خلال دليل الحدوث وإثبات حدوث الأعراض كمقدمة لإثبات حدوث العالم. ويصل أحيانا إلى درجة أنه يصعب التفرقة بين دليل الحدوث وبين إثبات الذات، الموضوع الأول في الإلهيات. بل إنه يصعب التفرقة فيه بين أوصاف الذات وبين الطبيعيات؛ لأنها كلها تشير إلى الخصائص الطبيعية، مثل الحدوث والفناء والجهة والمكان والزمان والحد ... إلخ.
8
وبعد ذلك حدث تمايز بين المتقدمين والمتأخرين، سواء في براهين المتكلمين أو في براهين الحكماء، إن لم يكن على مستوى المضمون فعلى الأقل على مستوى اللفظ. ففي حقيقة الأمر هي براهين واحدة لها بناء عقلي واحد، تقوم على نفس التصور للعالم وعلى نفس الموقف منه، وتؤدي إلى نفس النتائج. إنما الخلاف في الألفاظ التي تشير إلى درجة التجريد. فالحدوث هو الإمكان، ولكن اللفظ الأول أقرب إلى الطبيعة في حين أن الثاني أقرب إلى ما بعد الطبيعة. والمحدث هو الواجب، ولكن اللفظ الأول أيضا أقرب إلى الطبيعة، والثاني أقرب إلى ما بعد الطبيعة، استعمل المتقدمون ألفاظ الطبيعة وكانوا قريبي العهد من مبحث الجوهر والأعراض، في حين استعمل المتأخرون ألفاظ ما بعد الطبيعة. فالانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية هو انتقال من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، من الحس إلى العقل، ومن التشبيه إلى التنزيه، من مرحلة أقل تجريدا إلى مرحلة أعلى تجريدا. وقد حدث ذلك بعد سيادة علوم الحكمة على علوم الكلام بعد القرن الخامس عندما بدأ الكلام يحدد نفسه بالنسبة لهذا الخطر الداخلي الجديد وعلى رأسه قدم العالم، فتحول دليل الحدوث القائم على الجوهر والأعراض إلى تفنيد شبه قدم العالم. فلما مثلت علوم الحكمة خطرا على علوم التوحيد، بدأ الكلام في رفض نظرية قدم العالم وما يتبعها من نظريات الفيض والصدور والعقول العشرة ... إلخ،
9
وكأن الهجوم على علوم الحكمة في القرن الخامس لم يفعل أكثر من أنها غيرت وجهتها وتحولت من علوم مستقلة إلى علوم دخيلة على العلوم الأخرى وفي مقدمتها علم التوحيد، أساس العلوم كلها. وقد استغرق دليل الحدوث معظم اهتمامات القدماء باعتباره أول الأدلة. وما يقال بعد ذلك من دليلي الجوهر الفرد أو دليل الإمكان إنما يتم على نفس المنوال، فالبناء واحد وإن اختلفت الألفاظ ودرجة التجريد.
10 (2) دليل الحدوث
تبدأ الإلهيات عند القدماء بدليل الحدوث وإثبات العلم بالصانع، مما يدل على أن دليل الحدوث كله الذي نشأ على مبحث الجواهر والأعراض في مبحث عوارض الأجسام ما هو إلا مقدمة للإلهيات دون أن ينفصل عنها، ونقطة انتقال من العالم إلى ما وراء العالم، من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة.
11
فالحديث عن الجواهر مقدمة للحديث عن الأعراض، والحديث عن الأعراض مقدمة لدليل الحدوث. وقد تأتي مقدمات عقلية لإثبات الحدوث دون الاكتفاء بالحس والمشاهدة للتغير، حركة وسكونا.
12
فماذا يعني الحادث؟ وما هو الحادث؟
يعني الحادث «الذي كان بعد أن لم يكن»، أي إنه وجود في الزمان وحركة من الماضي إلى الحاضر، وهو موجود من عدم وكأن الوجود قائم على عدم ومنبثق منه وصادر عنه. ولما كان العدم عند معظم الإسلاميين «نفي محض غير مستمر على صفة من صفات الإثبات، فلا يتحقق ترتيب شيء عليه»، فكيف يمكن إقامة الحدوث عليه، ثم إقامة دليل على وجود الذات ابتداء من الحدوث؟
13
ثم إن هذا التعريف يعتمد على مسلمة مطلوب إثباتها، وهي نظرية الخلق من عدم، فتعريف الحادث بأنه «ما كان معدوما ثم صار موجودا» ينبني على هذه النظرية في مقابل تحول الكائنات. والحادث قد يكون تحولا وتغيرا في الكون وليس بالضرورة خلقا من عدم.
14
وقد يعني الحادث «الوجود الذي له أول»، وهو تعريف متناقض، فإن أول الحادث هو نفسه ويستحيل أن يكون الشيء أول نفسه، وإن كان له حادث هو غيره لزم التسلسل إلى ما لا نهاية.
15
وقد يكون الحادث هو «المتأخر بوجوده عن الأزلي»، وهو خلط بين التقدم بالزمان والتقدم بالمرتبة على ما هو معرف من تمييز بينهما في موضوع النسبة في مبحث الأعراض في نظرية الوجود.
16
وقد يكون من معاني الحادث المنفتح وجوده، وهي صورة تشبيهية، فالوجود ليس منفتحا أو منغلقا إلا كصورة شعرية. الانفتاح والانغلاق إما مفاهيم طبيعية حركية أو هندسية، وإما صور فنية تعبر عن أحوال شعورية. فالوجود المنفتح هو القابل للحركة والسكون وسائر الأعراض، وهذا دليل على أن مفاهيم العلم مفاهيم إنسانية خالصة.
17
وقد يكون الحادث هو الشيء، و«الله» مشيئ الأشياء، وفي نفس الوقت لا يتصف بكونه شيئا.
18
وهو تعريف متناقض، يقوم بخطوة إلى الأمام في إثبات الشيء كما يفعل الفكر الطبيعي، ثم بخطوة إلى الخلف في جعله تابعا لشيء آخر كما يفعل الفكر الديني. وقد يكون الحادث عين وجود الحادث أو وصفا زائدا عليه. فإن عين وجوده هو تحصيل حاصل. وإن كان وصفا زائدا عليه فهو أنه وجود بعد عدم، وهو ما يرجع إلى المعنى الأول.
19
هذه التعريفات كلها إذن قاصرة على أن تعرف الحادث أو أن تصوغ له معنى. وهذا يدل على أن الحادث نفسه مفهوم ديني صرف يتضمن حكما مسبقا يدين الشيء لصالح القديم، فهو مفهوم نسبة أو إضافة، لا يعقل معناه إلا بالنسبة للقديم، له معنى متضايف، ولا يفهم إلا بالاقتران. ولما كان الشيء المقرون به هو المطلوب إثباته استحال التعريف وعقل المعنى.
وقد يأخذ الدليل شكلا خطابيا إنشائيا مكتفيا بالاعتماد على الحس والمشاهدة دون صياغة التجربة الحسية في مقدمات عقلية وقياسات منطقية واستدلالات صورية كما سيحدث في علم الكلام المتأخر فيما بعد. والحقيقة أن هذه التجربة الحسية ليست بريئة تماما عن كل إيمان مسبق، بل هي مرتبطة بإيمان ديني قوي يجعل التناهي والحصر والعد والإحصاء والزيادة والنقصان مقدمات خطابية سريعة لإثبات واجب الوجود. لا تقوم إذن كل صياغات دليل الحدوث على مقدمات عقلية من أجل الوصول إلى نتائج منطقية، بل يكون بعضها مجرد عبارات إنشائية تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال وعلى مقولات بدائية يقوم معظمها على التشخيص الساذج. ولا ترمي هذه الصياغات إلى إثبات الذات المشخصة، بل إلى إثبات صفاتها من علم وقدرة وخلق وتنزيه، وكأن إثبات الصفات يسبق إثبات الذات، وكأن الأعراض توجد بلا جوهر، وكأن العربة تسبق الحصان!
20
فإذا ما فرض العقل نفسه على هذه التجربة الحسية في ظاهرها الإيمانية في باطنها تخرج مقدمات أقرب إلى الأحكام الحسية على العالم، ثم احتمالات تعكس الإيمان المسبق بإحداها على أنه الصحيح والأخرى باطلة في عبارات تستعمل مفاهيم الجمال والقبح كوسط بين مفاهيم الإيمان وتصورات العقل. فإذا ما عجز العقل عن الصياغة والإحكام المنطقي تأتي الأدلة النقلية للمساندة والعون. ومع ذلك تكشف هذه المحاولات الأولى عن بزوغ العقل من خلال الإيمان وعن تجاوز المشاهدة الحسية والتجربة المباشرة إلى التحليل العقلي الصرف،
21
وهذا ما سيسمح بعد ذلك بإحكام المقدمات وتنظير القياس وترتيب النتائج، فتكتمل صياغات منطقية صرفة لدليل الحدوث.
وقد يأخذ الدليل شكلا إراديا قبل أن يتحول إلى دليل محكم، أي إنه يتحول من الإنشاء إلى الإرادة الإنسانية، وهذا يدل على أن الحدوث إما موقف وجداني من الأشياء أو موقف إنساني من الوجود. فالحدوث هنا مقولة للإرادة وليس للأشياء، ويستوي في ذلك بعض الأشاعرة وجمهور المعتزلة. يرتبط دليل الحدوث إذن عند بعض الأشاعرة بالإرادة الإنسانية. وهنا تتأكد الحرية الإنسانية من أجل سلبها من جديد بدعوى الحدوث ونسبتها إلى المحدث، وبالتالي تكون الحرية صفة «لله» وليس للإنسان،
22
وتكون أفعال «الله» دليلا على وجوده، كما كان حدوث الأشياء دليلا على وجوده، فالأفعال جزء من عالم الأشياء.
23
ويأخذ دليل الحدوث عند المعتزلة صيغة عقلية إرادية، ويصبح عند الجمهور أكثر قبولا وأكثر إنسانية مما هو الحال عند الأشاعرة. «فالله» لا يعرف ضرورة كما هو الحال عند الطبائعيين، ولكن يعرف استدلالا كما هو الحال عند الأشاعرة. كل ذات لا تعرف ضرورة فالطريق إليها إما عن طريق حكم صدر عنها أو عن طريق فعل وقع منها، وبالتالي ليس الطريق هي الأجسام والجواهر الطبيعية بل طريق العقل والإرادة الإنسانية. ولما كانت الأحكام إنما تصدر عن علل، و«الله» ليس بعلة لأن العلة تنفك عن المعلول، وذلك يوجب علة ثانية وثالثة، وينتهي الأمر إلى تعدد العلل وحدوثها، وهذا ما يأتي في وحدانية «الله» وقدمه أو إلى أن يكون «الله» عرضا من الأعراض. و«الله» ليس كذلك. يكون الطريق إذن فعلا منه. والأفعال نوعان: نوع يدخل تحت مقدورنا، ونوع لا يدخل تحت مقدورنا. الأول لا يمكن الاستدلال بها على «الله» لأننا أصحابها، والثاني يمكن الاستدلال بها على «الله» كفاعل لها، وذلك مثل ما يقع منا من أفعال القلوب وأفعال الجروح التي لا تدخل تحت سيطرة الإرادة، الأفعال العكسية. بل ويمكن أيضا الاستدلال بما يدخل في مقدورنا على «الله» مثل العقل لأنه من جنس «الله». والاعتقادات لأنها قد تكون من فعلنا ومن فعل غيرنا، واحتمال أن تكون من فعلنا أقل لأنها أفعال الشعور التي لا نستطيع منها شيئا، فهي مرتبطة بالإرادة والكراهة والدوافع والدواعي. الاستدلال هنا مرتبط بالأفعال التي تكشف عن قدرة الإنسان وحرية الأفعال في دليل الحدوث حيث تصبح صلة الذات بالطبيعة صلة أثر وإيجاد لا صلة وجوب ووجود. والحقيقة أن الجواهر سواء كانت من أفعال القلوب تقع منا وكذلك باقي الأفعال مثل: الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والحياة والقدرة والشهوة والنفرة والفناء، فكلها مرتبطة بحواس الإنسان، والفناء أيضا لأنه تجربة العجز والشيخوخة والموت.
24
ومع ذلك يظل الدليل قائما في إطار دليل الحدوث التقليدي، ولكنه يقوم على بناء إنساني وليس على بناء طبيعي مما يكشف عن ارتباط الدليل بالإنسان وأن إثبات وجود «الله» إنما يتم عن طريق تحليل الوجود الإنساني من خلال الأفعال الإنسانية، القدرة أو العجز، ولما كان الإنسان صاحب أفعاله في حال القدرة، فإن الله لا يثبت إلا في حالة العجز، ويكون تعبيرا عن الضعف الإنساني.
ثم ينتقل الدليل بعد ذلك من الأفعال إلى الأجسام، ومن الإرادة إلى الطبيعة لما كانت الأفعال أيضا أجساما وأعراضا، وهنا يتحول دليل الحدوث من الإنسان إلى الطبيعة ومن الأفعال الإرادية إلى الأجسام الطبيعية. وبدل أن يكون مجرد دليل عام من الأفعال إلى «الله» تتفصل خطواته في ثلاث: (1)
إثبات الأعراض، وهي على ضربين: مدرك وغير مدرك. والمدركة سبعة: الألوان، والطعوم، والروائح، والحرارة، والبرودة، والآلام ، والأصوات. ويثبت كل منها على التفصيل، وهي ليست نفس المحل على ما يقول نفاة الأعراض، ولكنها مخالفة لها، فالأجسام متماثلة والاختلاف في الأعراض. (2)
حدوث الأعراض، إذ يجوز عليها العدم والبطلان بعكس القديم. (3)
احتياجها إلى محدث وفاعل مخالف لنا وهو «الله»، وذلك قياسا للغالب على الشاهد.
ولما كان الاستدلال بالأجسام أولى لأنها معلومة باضطرار وليست باستدلال كما هو الحال في الأعراض، فإن العلم بكمال التوحيد يحصل بحدوث الأجسام. ولما كان الاستدلال بالأجسام يتضمن بالضرورة إثبات الأعراض وحدوثها، ظهرت ثلاث طرق للاستدلال بها على حدوث الأجسام، هي: (1)
الاستدلال بالأعراض على «الله» ومعرفته وتوحيده وعدله بعد معرفة صحة السمع ثم الاستدلال بالسمع على حدوث الأجسام. فهو دليل مركب بين السمع والعقل. (2)
الاستدلال بالأعراض ومعرفة قدمه ثم نفي القدم عن الأجسام منعا للمشاركة، مما يدل على أن المفاهيم المستعملة مفاهيم مشتركة بين الإنسان و«الله»، وأنها في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز. (3)
الدلالة المعتمدة، وهي صيغة الدليل التقليدية، وهي أن الأجسام لم تنفك عن الحوادث، وما لم يخل عن الحوادث فهو محدث.
25
وهي مبنية على أربع دعاوى: (أ)
أن في الأجسام معاني هي: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، ووصفها بأنها معان يجعلها أقرب إلى الفلسفة منها إلى الطبيعة. ويمكن الاعتراض عليها بسؤال: ولماذا لا يكون الجسم مجتمعا لذاته أو لوجوده أو لحدوثه طبقا لقانون؟ (ب)
أن هذه المعاني محدثة، ويعترض أصحاب الكمون والظهور الذين ذهبوا إلى قدم الاجتماع والافتراق، فإذا كمن الاجتماع ظهر الافتراق، وإذا كمن الافتراق ظهر الاجتماع. (ج)
أن الجسم لم ينفك عنها ولم يتقدمها، ويعترض أصحاب الهيولى الذين ذهبوا إلى أن الأعيان قديمة والتراكيب محدثة. (د)
أنها إذا لم ينفك عنها ولم يتقدمها وجب حدوثه مثلها، ويعترض جماعة عن طريق إثبات حوادث لا أول لها.
26
ويكشف الدليل بهذه الصورة وما يعتمد في كل مقدمة من مقدمات على تنازع الفكر الإنساني والفكر الطبيعي، وعلى تقدم الفكر الطبيعي على الفكر الإنساني حتى يصل إلى الأشاعرة ويصبح طبيعيا خالصا. وبالرغم من الاعتراضات عليه من أصحاب الفكر الطبيعي الخالص يظل الدليل بصرف النظر عما تبقى فيه من طابع إنساني عقلاني أقرب إلى دليل الأشاعرة من موقف الطبائعيين والحكماء.
ثم انتقل الدليل إلى الأشاعرة. وتفصلت مقدماته وتشعبت. يأتي البعض منها من شهادة الحس، والبعض الآخر من مسلمات دينية، نقلية أو عقلية، ومجموعة ثالثة مجرد تحصيل حاصل، ورابعة تعبر عن نظرة تدميرية للعالم، وخامسة لإثبات عجز الذات.
27
ومما لا شك فيه أن هذا الدليل، دليل الحدوث، له بعض المميزات منها: (1)
أنه دليل تجريبي يقوم على الحس والمشاهدة على الأقل في بعض مقدماته، وليس دليلا عقليا صوريا خالصا يمكن معارضته بدليل عقلي آخر طبقا لقواعد الجدل. وهي مشاهدة يتفق عليها الجميع. وقد كانت شهادة الحس إحدى وسائل المعرفة في نظرية العلم. فهو دليل يبدأ بالواقع الحسي المشاهد، وينتقل من الواقع إلى الفكر، دليل استقرائي تجريبي أو دليل بعدي، في حين أن الأدلة المعروفة والذائعة لإثبات وجود «الله» هي أدلة استنباطية تعتمد على صورية العقل ونظرية الاتساق. يبدأ هذا الدليل من العالم ويتفق مع بناء العالم، والانتقال من مبحث الجوهر والأعراض إلى إثبات الصانع.
28 (2)
أنه دليل قرآني، موجود في الوحي، استعمله الخليل في الاستدلال على وجود «الله»، وليس فيه أثر خارجي من حضارات مجاورة يونانية أو غيرها بالرغم مما قد يوحي به لفظا الحدوث والقدم. بل إن لفظ العرض والقديم ألفاظ قرآنية أصلية، والاستدلال على حدوث الأعراض وإثبات التغير والتحول والتطور مستعمل في الوحي في وصف تحول النطفة إلى علقة ثم إلى مضغة إلى آخر ما هو معروف من تصوير للجنين في رحم الأم في أطواره البيولوجية المختلفة.
29 (3)
أنه يطابق شهادة الوجدان، والانتقال من الشيء إلى غيره، ومن الحسي إلى العقلي، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن الفردي إلى الشمل، ومن الخاص إلى العام. كما أنه يتفق مع بداهة البسطاء، والموقف الطبيعي للعامة بالذهاب من اللفظ إلى المعنى، ومن الشيء إلى الدلالة. (4)
أنه قد يؤدي إلى البحث عن الأصل والنشأة والتكوين من أجل فهم الشيء عند العلماء. فالشيء أصل وتكوين، والبحث عن هذا الأصل في العلل البعيدة، وتكوين رؤية ميتافيزيقية بعيدة، ومنظور فلسفي شامل، كما يؤدي أيضا إلى البحث عن الغاية والقصد، والنظر إلى العلة الأولى من الأمام، فتثبت القصدية والغائية وتنتفي العشوائية والمصادفة.
30 (5)
قد يؤدي حدوث العالم بعد الوعي به إلى الإحساس أيضا بإمكانية تغيير هذا العالم، وبأن كل شيء فيه يخضع لإرادة الإنسان وطيع لحريته، وبالتالي يكون حدوث العالم دعوة إلى التغيير وممارسة الإرادة الحرة حتى يتم تشكيل الواقع من جديد طبقا لمثل الإنسان ولمشروعه الجماعي القومي، وهو النظام المثالي للعالم الذي يستنبطه منه الوحي. ففناء العالم يعني بقاء الإنسان فيه، وليس عزلته عنه أو تركه له أو نبذه إياه أو إسقاطه من الحساب ووضعه في السلب المطلق، ودفعه إلى العدم باعتباره غير ذي قيمة، لا يستحق أن يكون طرفا للإنسان، وميدانا للفعل، ونشاطا للإرادة، وهذا هو معنى أن «لكل ممكن علة مؤثرة.»
31
إن حدوث العالم قد يوحي بالنشاط والرغبة في تجاوزه. وقد يحدث هذا بالفعل عند بعض القديسين وحدهم رغبة في شهادة فردية، وبطولة استثنائية يؤثر عالما آخر، خيرا وأبقى. أما عند عامة الناس فإنه قد يكون إسقاطا للعالم، وانعزالا عنه أو زهدا فيه، وتخليا عنه، ونبذا له.
ومع ذلك فللدليل عيوب كثيرة، منها ما يتعلق بالفكر العلمي، ومنها ما يتعلق بالفكر المنطقي، ومنها ما يتعلق بالفكر الديني، ومنها ما يتعلق بالفكر السياسي والاجتماعي. فمن ناحية الفكر العلمي: إن إثبات حدوث الأعراض أسهل بكثير من إثبات حدوث الجواهر؛ لأن الأعراض تطرأ على الجواهر وتتوالى عليها، فالجوهر هو الثابت والأعراض هي المتغيرة، وبالتالي يصعب تصور الجواهر على أنها حادثة إلا إذا تم التوحيد بين الجوهر وأعراضه مما ينفي وجود الجوهر. كما أن موضوعات الحركة والسكون وباقي الأعراض مواضيع للعلم الخالص مثل الديناميكا وليست مجالا للتأمل الفلسفي الخالص كدليل على أن الأعراض حوادث. والتغير، كونا وفسادا، موضوع لعلم الحياة وليس وسيلة لإثبات فلسفي لوجود لا يتغير ولا يتطور.
32
وقد بزغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني في دليل الحدوث، وذلك بإثبات استحالة حدوث الأعراض إذا كانت في حالة كمون وليست في حالة ظهور، وكذلك إمكان تعري الجواهر عن الأعراض واستحالة انتقالها إذا كانت في حالة كمون. ولماذا يستحيل اجتماع الضدين في مكان واحد؟ وعلى هذا النحو تكون مقدمة «كل جسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث» غير واضحة بذاتها؛ لأنه يمكن أن يكون الجوهر قديما والأعراض حادثة، والجسم قديم وصفاته حادثة عن طريق الانبثاق والطفرة بعد الكمون. العالم قديم وصفاته حادثة افتراض ليس مستبعدا، إذ تكشف الجواهر عن تجدد مستمر للأعراض. ولا يعني الظهور أو الكمون الانتقالي وبالتالي الحدوث، بل يعني الوجود الخصب. وكذلك تكون مقدمة «الجواهر لا تنفك عن الأعراض» غير مستبعدة، لأن الأعراض قد تكون في حالة ظهور أو في حالة كمون. فإذا كانت في حالة كمون فإن المقدمة لا تكون صادقة. أما قضية «ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث» فهي مترتبة على القضية السابقة، وبالتالي قد يكون ما لا يخلو من الحوادث قديما نظرا لإمكانية قدم الجوهر وحدوث الأعراض، وهو موقف الحكماء.
33
والعجيب رفض الأشاعرة للكمون مع أنه أقرب إلى تصور العلم لظواهر الطبيعة وتجددها.
34
ولماذا يبطل الظهور والكمون لإثبات وجود الله؟ الظهور والكمون ظاهرتان طبيعيتان ظن المتكلم الأشعري أن في إثباتها إثبات لفعل الطبيعة من ذاتها، وأن في ذلك مناقضة للحدوث وكأن لا شيء يظهر أو يكمن بعيدا عن «الله» الذي خلق كل شيء.
إن تحليل الطبيعة بحيث تؤدي إلى الحدوث واستبعاد كل ما سواه هو في حقيقة الأمر فكر الانتقال يغير علمي موجه بأحكام مسبقة وخاضع للأهواء والانفعالات والعواطف الدينية، وقد سبب هذا عن حق رد فعل الدهريين والطبائعيين دفاعا عن الفكر العلمي. فموقف الدهرية أقرب إلى الموقف العلمي الذي يجمع بين القدم والحدوث، قدم الجواهر وحدوث الأعراض، واكتشاف قوانين الحركة، وتفسيرها بالعلل القريبة الداخلة في الموضوع وليس بالعلل البعيدة الخارجة عنه. الجواهر قديمة، والحوادث لا نهاية لها. قد تكون الجواهر عرية عن الأعراض ثم حدثت الأعراض فيها عن طريق الظهور والكمون، يظهر بعضها عند كمون ضدها في محله. ويتفق الطبائعيون مع الدهرية، ولكنهم يجمعون بين قول الحكماء وقول المتكلمين من أن «الله» خلق الأجسام ثم خلقت الأجسام الأعراض من تلقاء نفسها.
كما يبرز الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني في مفهوم العلية. فاعتبار أن المحدث الموجب لكل حادث لا بد أن يكون خارجا على الحادث تصور يجعل القوة المؤثرة أو العلة خارج العالم ويترك العالم بلا علة داخلة فيه. فينتهي الأمر إلى صورية العلة وبقائها، ومادية المعلول وفنائه. مفهوم العلية مفهوم طبيعية، ولكنه يستخدم في هذا الدليل استخداما ميتافيزيقيا. أن يكون لكل حادث سبب، هذا فكر طبيعي علمي لظاهرة علمية محددة، ولا يمكن الانتقال منها إلى العالم ككل. فالعالم ليس ظاهرة علمية، بل مفهوم ميتافيزيقي أو تجربة إنسانية لا يمكن أن تطبق عليها مفهوم العلية إلا إذا كان بمعنى السبب
Grund
المتيافيزيقي، وهو الوجود ذاته وليس خارجا عنه.
35
لا يفرق الدليل إذن بين العلة والسبب، العلة سبب طبيعي، والسبب علة ميتافيزيقية، العلة للأثر، والسبب للوجود. إن علاقة الحركة بالمحرك والمعلول بالعلة على هذا النحو المشخص الطولي الذي لا بد من الوصول فيه إلى علة أولى مشخصة ليست علاقة علمية بل علاقة دينية إيمانية تقوم على التشخيص، فليس لكل حركة محرك، وليس لكل علة معلول. هناك حركة ذاتية، وتغير ذاتي، وفعل ذاتي. وهناك دوران أبدي بين العلة والمعلول على شكل دائري، كل معلول علة، وكل علة معلول، دون الوصول إلى علة أولى ليست معلولة لعلة أخرى، دون الوصول إلى «بيضة» أولى أو «فرخة» أولى. لماذا لا تكون الموجودات فاعلة لنفسها؟ لماذا يحدث كل فعل بفاعل خارجي، وكأن العالم لا فعل له بما في ذلك الإنسان، لا فعل له، ولا خير منه، ولا قوة له؟
وبعض مقدمات الدليل لم تصل إلى صياغة منطقية محكمة، ولا تتجاوز كونها تحصيل حاصل. فاستحالة عدم القدم تحصيل حاصل لأنه قلب لجواز عدم الحادث، ونتيجة طبيعية للقدم، فالقدم والبقاء طرفان لشيء واحد، ما لا أول له ولا نهاية له، ويستحيل وجود أحدهما دون الآخر. ولماذا إثبات استحالة عدم القديم، فالقديم لا يعدم، وإثبات استحالة العدم متضمن في إثبات القديم. هذا بالإضافة إلى أن استحالة العدم يأتي لصفة الوجوب وإثبات استحالة القديم يأتي باستحالة الحدوث وليس باستحالة العدم.
36
كما لا يمكن إثبات حدوث الجواهر بحدوث العالم، فالحدوث هو المطلوب إثباته في كلتا الحالتين. الجواهر هي العالم، والعالم هو الجواهر. كما لا يمكن إثبات الحادث بالممكن أو الممكن بالحادث، فهما مفهوم واحد مرة بلغة الطبيعة ومرة بلغة الميتافيزيقا، مرة عند المتقدمين وأخرى عند المتأخرين. وكذلك مقدمة «ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث» تحصيل حاصل، فكأن الإنسان يقول: ما لا ينفك عن الماء فهو ماء، أو ما يتصل بالهواء فهو هواء. بالإضافة إلى أنها لا تصدق على كل الموضوعات. فما لا ينفك عن الماء قد يكون حيوانا مثل السمك، وما لا ينفك عن الحوادث قد يكون قديما مثل الجواهر. ولماذا يحتاج علم التوحيد إلى إثبات الأعراض والأكوان (الجواهر)؟ فالأعراض مرئية، أما الأكوان فهي مجرد وجود الأجسام، وهي أيضا مرئية مع الأعراض.
ويظهر الفكر الديني صراحة في مفاهيم التناهي والحدوث، وفي سؤال النشأة، بل وفي التقابل بين الجوهر والعرض، والقدم والحدوث، واللاتناهي والتناهي، وفي القفزة التي ينتقل بها المتكلم من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، ومن الأمور الاعتبارية إلى الحقائق الوجودية، ومن العلم «بالله» بالذهن إلى وجوده بالفعل. فلولا إدانة العالم بالحدوث والتناهي بناء على افتراض ديني مسبق بأن «الله» لا متناه وقديم لما أمكن صياغة مقدمة مثل استحالة حوادث لا أول لها، وتصبح ممكنة بقدم الجواهر. حدوث العالم ذاته بالتجرد التام عن الافتراض الديني المسبق في حاجة إلى إثبات. إلا أن إثباته يأتي من عاطفة دينية وموقف إيماني صرف لا يقوم على شهادة حس أو حكم عقل أو بداهة وجدان طبيعي لم يضعفه بعد الإيمان الديني. ولماذا يكون المتناهي في المقدار دليلا على الحدوث؟
37
في حقيقة الأمر هذا فكر ديني مقلوب؛ لأن «الله» هو اللامتناهي القديم، فكان العالم هو المتناهي المحدث. قد يكون التناهي دليلا على العظمة، الإنسان المتناهي، العمر المتناهي، اللذة المتناهية، الحب المتناهي، الألم المتناهي، الغياب المتناهي، بل وحتى الجبل المتناهي، والطعام المتناهي ... إلخ. قد لا يفيد التغير والفناء أي حدوث، بل يشير إلى بناء الطبيعة. التغير جوهر الطبيعة، وبين التغير والحدوث فرق كبير. التغير يحدث في الطبيعة ومن الطبيعة، ولا يدل على شيء آخر غير التغير والتطور والارتقاء، ولا يشير إلى أي ذات مشخصة تحدث هذا التغير كما هو الحال في صور التفكير العلمي البدائي الذي يفسر الظواهر بقوى وملكات غيبية قادرة على إحداث هذه الظواهر. فالمطر يحدث بالقوة الممطرة، والحرارة بالقوة المحرة، والبرودة بالقوة المبردة ... إلخ.
38
ولماذا افتراض التركيب والقسمة في كل شيء كأحد مظاهر التناهي أو الحدوث؟ الأجسام قد تكون بسيطة لا تركيب فيها. الإنسان بسيط، ولو كان مركبا لما كان إنسانا، والشيء بسيط، ولو كان مركبا لما كان شيئا.
39
والزمان الطبيعي موضوع لدراسة علم الطبيعة دون افتراض وجود لا زماني وراء الزمان. وينتهي الدليل بالتصور الشائع وهو أن العالم مخلوق، أحدثه «إله» قديم، خالق، وهو التصور الذي يعبر عن أثر التأليه في إدراك الطبيعة، وعن اعتبار الثابت والدائم والخالد والباقي الأصل والأساس خارج الطبيعة. ويكون السؤال: لماذا الانتقال من الحدوث إلى أن المحدثات لها أول؟ إن إثبات ظاهرة وإدراك معناها لا يعني بالضرورة أن هذه الظاهرة لها أول، سواء كان معناها أم غيره. صحيح أن المعنى مستقل عن الظاهرة، ويتحكم في بنائها ووجودها وتطورها، ولكن ذلك لا يعني أنه أول الظاهرة وأصلها ونشأتها، فسؤال الأصل والنشأة قضاء على المعنى المستقل، وتحويل الظاهرة إلى صنعة والمعنى إلى صانع، في حين أن الظاهرة موجودة والمعنى مستقل محمول عليها ونسبته إليها كنسبة الدلالة إلى الدليل. وحتى على فرض تشخيص النشأة لماذا يوصف الصانع بصفات مناقضة للعالم المصنوع؟ إذا كان المصنوع حادثا يكون الصانع قديما؟ إن الصانع من جنس المصنوع أقرب، فالفنان حادث كما أن فنه حادث لأنه أيضا يتشكل.
والأقرب إلى العقل وشهادة الحس ومضمون التجربة البشرية اتفاق الصانع والمصنوع في الصفات أكثر من اختلافهما، باستثناء الفكر أو الوعي أو الشعور. فالصانع واع بفنه وعالم به وقادر عليه، في حين أن المصنوع طبع متشكل يخضع لعمل الفنان. وما الذي يمنع من وجود حوادث لا أول لها؟ لماذا يستحيل وجود حوادث لا أول لها؟ يمنع من ذلك فقط بناء العقلية المتدينة التي تظن أن الحوادث لا بد أن يكون لها أول حتى لا نشارك مع «الله» في صفة الأول؛ لأن «الله» أول الأشياء. يمكن للأشياء أن تتسلسل إلى ما لا نهاية من حيث الأول إن كان ولا بد من التصور الطولي المتراجع. ويمكن أيضا تسلسل الأشياء تسلسلا دائريا حيث يرجع أول الأشياء إلى آخرها وأن يكون الشيء علة ومعلولا في نفس الوقت دون حاجة إلى علة أولى ليست معلولة إلى علة أخرى.
40
وحتى على فرض أن العالم حادث بفعل التغير، فلماذا الاستدلال من الحدوث إلى المحدث بهذا المنطق التشخيصي، والانتقال من الظاهرة إلى صانع الظاهرة؟ إن الطبيعة ليست مصنوعة. الطبيعة موجودة، ويتعامل معها الإنسان، باعتبارها موجودة، سابقة عليه، ولاحقة عليه، ولا يلحقها بصانع. الصنع تصور إنساني مشخص، يسقطه المتكلم على الطبيعة فيجعلها مصنوعة، وكأن الطبيعة عالم مصنوع، وكأن المتكلم قد حول جمال الطبيعة إلى جمال الفن، وحول الطبيعة إلى صنعة.
41
لقد كان المتكلم في حياته الخاصة حرفيا أو تاجرا وابن سوق، وكان المجتمع كله كذلك، مجتمعا صناعيا تجاريا، الأشياء مصنوعة ولها صاحب، ومملوكة ولها مالك.
وما العظمة في إثبات وجود «الله» عن طريق الأعراض والأعراض أقل القسمين قوة وقدرة؟ فالأعراض بداية دليل الحدوث، وكل حادث له محدث، فالدليل هنا قائم على القسم الأضعف من الجسم وهو العرض وليس على القسم الأقوى، وهو الجوهر الذي منه يبدأ الدليل الثاني، دليل الجوهر الفرد. وكأننا أقمنا وجود الله على الشق الضعيف من الشيء، فقام البناء كله على ركن مائل هش.
42
والتحول من الأعراض إلى الأكوان لإثبات وجود الله ابتداء من الحدوث استجابة لهذا الاعتراض، وهو أن الله لا يثبت من القسم الضعيف وهو العرض بل من القسم القوي وهو الجوهر حتى لا يتمخض الأسد فيلد فأرا. فالأكوان أكثر التصاقا بالجوهر منه بالأعراض، وتدل على التكوين والصلابة، في حين أن العرض يفيد الزوال والتغير والفناء.
43
إن مفهومي الجوهر والعرض في حقيقة الأمر إنما يكشفان عن طبيعة الفكر الديني الذي يقسم العالم إلى قسمين: قسم إيجابي وآخر منفي، قسم بالزائد وآخر بالناقص، وتكون علاقة الطرفين علاقة أولوية وشرف، علة ومعلول، أول وآخر، قدم وحدوث. وجوب وإمكان، لا تناه وتناه، إلى آخر هذه الثنائيات المعروفة في الفكر الديني. فاستحالة قيام الأعراض بنفسها لحاجتها إلى الأصل وهو الجوهر والأساس. المفهومان إذن يعبران عن فكر ديني مجرد؛ وذلك لأن العلاقة بين الجوهر والعرض هي علاقة الثابت بالمتحول، الأصل بالفرع، المركز بالدائرة، وهي العلاقة الدينية المشهورة بين «الله» والعالم، إعطاء أولوية لطرف على حساب الطرف الآخر، وليست علاقة التساوي بين الأطراف، وهي أيضا علاقة من طرف واحد وليست علاقة متبادلة بين طرفين، أو باختصار علاقة الاستقلال والتبعية التي نعاني منها في شتى مظاهر حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى أصبحت طابعا مميزا لجيلنا وسمة أساسية للعصر. هي قسمة ذهنية في الظاهر، دينية إيمانية في الباطن، من شأنها تثبيت الأساس ثم التفريع عليه. قسمة عقلية في الظاهر، ولكن تفنيها عواطف التأليه فتترك العالم بلا أساس من داخله، وتجعل له أساسا مستمدا من الذات المشخصة التي يعلق عليها كل شيء. كانت هذه القسمة باستمرار من دعامات الفكر المثالي، وهو الفكر الديني في أكثر صوره عقلانية في اعتبار الأصل هي الصورة، والفرع هي المادة أو في تصور العالم على أنه عالمان، أساس ومؤسس عليه، أصل وفرع، وهي القسمة التي تجعل علاقة الأشياء بعضها ببعض على المستوى الاجتماعي والسياسي علاقة تسلط وتبعية، قاهر ومقهور، غالب ومغلوب، غني وفقير، أعلى وأدنى ... إلخ. وتفرض هذه القسمة نفسها على كل المستويات، وفي التأليه فتصير الذات والصفات، الذات جوهر والصفات أعراض، وفي الطبيعيات الجوهر شيء والكيفيات أعراض. وكذلك مفهوما القدم والحدوث، والوجوب والإمكان ... إلخ من مفاهيم الفكر الديني المجرد . وبالتالي تكون مقدمة «الأعراض حادثة» ليست حكما طبيعيا على الأعراض، بل إلهيات مقلوبة على الطبيعيات، فلأن الله قديم عكسنا الحكم وجعلنا العالم حادثا.
والحقيقة أن الانتقال من عالم الحدوث والجواهر والأعراض إلى عالم القدم والصور قفزة شعورية خالصة تقوم على الانتقال من الضد إلى الضد عن طريق القلب كتعويض نفسي، فلا يستطيع أن يأكل الصغير إلا الكبير، ولا يستطيع أن يهزم الضعيف إلا القوي. فهو تعليل عن طريق الرجوع إلى الأعلى، أي إلى السلطة، في حين أنه يمكن تفسير الأشياء والظواهر بالظواهر على نفس المستوى دون الرجوع إلى السلطة القاهرة التي هي «الله» على مستوى السياسة. والبحث في فعل لا يأتي بالضرورة بالبحث عن الفاعل، فذلك أسلوب بوليسي مباحثي جنائي، ولكن عن طبيعة الفعل، وتكوينه، وأثره. ولماذا تكون العلة الفاعلة لها السبق على العلة المادية أو العلة الصورية أو العلة الغائية؟ من الطبيعي أن لكل فعل فاعل، ولكن الأصعب هو البحث عن بناء الفعل وغايته ومادته، فلا شيء يحدث في الطبيعة عشوائيا أو بالمصادفة.
44
كما يحتوي الدليل على قفزة شعورية ثانية، وهي الانتهاء من وجود الذات إلى وجود صانع أو خالق. ومن ثم يكون الدليل في حاجة إلى دليل آخر لإثبات صفة الصنع أو الخلق. فقد يثبت أحد الذات أي الوعي الخالص دون إثبات صفة الصنع.
فتصور الذات منذ البداية في موضوع الذات على أنها صانع هو استباق إلى الموضوع الثاني، وهو الصفات، خاصة وأن صفة الصنع أو الخلق ستكون أحد الموضوعات في بحث الصفات. فإذا كان كل موضوع لاحق إنما يتراءى في الموضوع السابق، فإن ذلك يدل على النسق المحكم لعلم أصول الدين وتنظير العقائد بحيث يؤدي كل منها إلى الآخر ذهابا أم إيابا، صعودا أم نزولا، تقدما أم رجوعا. وعلى فرض إثبات وجود الله يبقى السؤال قائما، وهو: كيف يمكن العلم به وهل يمكن العلم به؟ إن الاستدلال بالصنعة على الصانع لا تعني بالضرورة العلم بالصانع، ومن ثم لزم الحديث بعد ذلك عن الذات والصفات والأفعال كمحاولة لتعريف الصانع وكيفية تصوره.
45
ولكن القفزة الشعورية الثالثة هي الأهم، وهي أن دليل الحدوث يثبت أن هناك القديم، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن القديم موجود؛ لأن تصور الحادث تصور إضافي مثل أبيض لا بد أن يحيل إلى أسود. فالحادث لأنه تصور إضافي لا بد وأن يحيل إلى القديم دون أن يكون القديم موجودا بالفعل، وكأن هناك دليلا أنطولوجيا مفترضا مسبقا يمكن بواسطته الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان. وكيف لهذا الافتراض أن يوجد و«ميتافيزيقا الوجود» في نظرية الوجود قد انتهت إلى أن الوجود والماهية والعدم والواجب والممكن والمستحيل والقدم والحدوث، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، كلها أمور اعتبارية لا وجود لها إلا في الذهن؟
ولكن أخطر شيء في دليل الحدوث هو تدمير العالم وإثبات عجز الإنسان مما يسمح لكل نظم القهر والتسلط بأن تقوم بدور «الله» الماسك بالعالم والحافظ له. فلماذا تكون «الأعراض حادثة»؟ إن الحدوث إسقاط من عواطف التأليه على الطبيعة، فينشأ من هذا الإسقاط تقليل لها في الشرف والقيمة في مقابل إثبات الأكثر قيمة وشرفا. ليس الحدوث تصورا للأشياء، بل هو نتيجة عكسية لعواطف التأليه، وأزمة نفسية بالنسبة لقضايا التغير الاجتماعي، ويأس من تغيير العالم بالفعل. الحدوث اتجاه «ماسوشي» بالنسبة للأشياء لأنه يقضي عليها ويريد إفناءها وتدميرها، وينكر عليها أن تكون مستقلة باقية موجودة بنفسها. الحدوث تدمير للعالم كله، وقضاء عليه، وإنكار لوجوده، ترفعا عليه، وذهابا إلى ما وراءه بحثا عن أمل ضائع وتعويض ذلك بانتصار ذهني في مجتمع مهزوم أو تأكيدا للسلطة وتثبيتا للقدرة في حالة مجتمع منصور. هذا بالإضافة إلى أنه حكم مسبق يتنافى مع الفكر العلمي، وناتج عن تطهر ديني مسبق. وحتى على افتراض الانتقال من التغير إلى الحدوث، فالحكم على العالم بأنه حادث يتضمن حكما ضمنيا يسلب العالم حقه في الوجود. فهو حادث، أي أنه يحتاج في وجوده إلى غيره، ريشة في مهب الريح، وهو تصور عادم للكون، مناقض للتصور العلمي القائم على الثبات والاطراد. تصور العالم حادثا إذن يجعله محتاجا إلى غيره ، فاقدا وجوده من ذاته، مستمدا وجوده من طرف آخر يمده بالعون ويجعل العالم داعيا له طالبا المدد، وهو ما ترسب في وجداننا المعاصر في تصوراتنا للعلاقات الاجتماعية والسياسية، فتحولت مجتمعاتنا إلى قسمين: يد عليا ويد سفلى، وأصبحنا كلنا في النهاية أيادي ممدودة إما للأخذ وإما للعطاء. إن هذا الفصم بين الحركة والمحرك أو المعلول والعلة لا يفسر الحركة والتغير، بل يدمر العالم؛ لأنه يجعل الأثر كله والفعل كله للعلة دون المعلول وللمحرك دون المتحرك، وبالتالي تسقط الطبيعة نهائيا ولا يبقى إلا ما بعد الطبيعة. إن رؤية التغير والحركة في العالم تدفع إلى كشف قانون للحركة وليس إلى علة الحركة، أي الانتهاء من الشيء إلى الشيء وليس من الشيء إلى اللاشيء، حتى تبقى الملاحظة على مستوى التجربة وينشأ العلم دون الانتقال من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة أو من العلم إلى الميتافيزيقا حتى لا تستعمل الطبيعة كمقدمة لشيء آخر، وهذا الذي سماه القدماء حكمة الصانع، وأنه لا بد من «مؤثر صانع حكيم».
46
ولماذا تكون الحركة والسكون عيوبا ونقصا ويكون الثبات كمالا وشرفا؟ ولماذا يكون التضاد نقصا والاتساق والوئام كمالا؟ وهل في الطبيعة قيمة؟ هل الظواهر الطبيعية ناقصة أو كاملة، خسيسة أو شريفة؟ أليس هذا خلطا بين أحكام الواقع وأحكام القيمة؟ ويسوء الأمر أكثر فأكثر باعتبار أحدهما كمالا والآخر نقصا، الأول إيجابا والثاني سلبا، الأول وجودا والآخر عدما، فينتهي الأمر كله إلى تدمير العالم لصالح شيء آخر هو ما وراء العالم، مما يجعل إحساس الناس بالواقع معدوما، وشعورهم بالدنيا غائبا، ومما قد يوقعهم أيضا في الغيبيات والأساطير، ويجعلهم مغتربين عن العالم، يشيحون بوجوههم عنه. ولما كان المؤثر فاعلا والعالم مفعولا فيه تتحول هذه العلاقة من مستوى الطبيعة وما بعد الطبيعة إلى مستوى الاجتماع والسياسة من خلال البناء الشعوري والتصور للعالم، فتنشأ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الرئيس والمرءوس، بين الأعلى والأدنى على نفس نمط العلاقة بين «الله» والعالم، أو بين القديم والحادث كما يعرضه دليل الحدوث، فتنشأ النظم التسلطية التي تقوم على القهر والسيطرة وإعطاء كل شيء إلى السلطان وحرمان الشعب من كل شيء، كما أعطى من قبل كل شيء إلى «الله» وحرم العالم من كل شيء، حتى توحد الله والسلطان في وجداننا المعاصر، والتحمت السلطة الدينية بالسلطة السياسية، وكل ذلك على حساب العالم والشعب، على حساب العلم والحرية.
ولماذا الإصرار على أن الجسم لم يتقدم المعاني، بل المعاني سابقة عليه، في حين أن العلاقة الطبيعية بين الشيء والمعنى هو أن المعنى مدرك؟ صحيح أن المعنى عقلي وليس في الشيء، ولكنه حصل بعد حصول الشيء إن كان ولا بد من القبلية والبعدية. ولماذا لا تكون المعية افتراضا معقولا مثل القبلية؟ إن المعنى يحدث بمجرد وجود الشيء، فلا شيء إلا وله معنى مصاحب بشرط فعل الإدراك وانتباه الشعور. إن القول بأن المعاني سابقة على الأجسام حتى يمكن بعد ذلك إثبات أولويتها يهدف إلى إثبات وجود «الله»، «فالله» هو المعنى السابق على الجسم، وهي مصادرة على المطلوب، وافتراض النتيجة مسلمة. والنظرة المثالية في علاقة المعنى بالشيء، سواء كان لفظا أم جسما، إنما هو تعبير عن تصور ديني مقنع، وإيمان تقليدي دفين. وتصل النظرة التدميرية للعالم إلى درجة إثبات نهاية العالم وتناهي الأعراض، وكأن «الله» لا يثبت إلا بعد تدمير العالم، وكأن بقاء العالم بالضرورة ينفي وجود «الله». إن هذا التصور للأشياء بين الأعلى والأدنى إنما يعبر عن هذه العلاقة الإيمانية التقليدية بين «الله» والعالم، وهو مناقض للتصور العلمي للأشياء الذي يجعلها على مستوى واحد، فالخلاف بين الظواهر في الدرجة لا في النوع. كما أن سؤال النشأة والمصدر والأصل يقضي على بنية الشيء، ويلغي مستقبله من أجل ماضيه مما يطبع العقلية كلها بطابع البحث عن الأصول والمصادر دون البحث عن الكائنات الحاضرة. ولماذا لا يدرك التكوين من داخل الشيء وليس من خارجه، والتفسير بالعلل القريبة أكثر علمية من التفسير بالعلل البعيدة؟ ولماذا يكون «الله» وحده هو القادر المختار؟ وأيهما أولى: البحث عن النشأة والتكوين أم الإعداد للغاية والمصير؟ صحيح أن البحث الأول عامل مساعد للبحث الثاني ولكنه ليس بديلا عنه أو ضده كما هو الحال في دليل الحدوث.
والأخطر من ذلك كله هو ما يوحي به دليل الحدوث من إثبات عجز الإنسان عن فعل شيء في العالم أو إحداث أي تغيير. وأيهما أفضل: إثبات عجز الإنسان أم قدرة الإنسان؟ صحيح أن الإنسان ليس صانع نفسه ولا صانع العالم ولا صانع ذبابة،
47
ولكن هل المقصود تعذيب النفس وردها إلى ما هو أقل منها، ثم خلاصها بإثبات قدرة الآخر واستجلاب العون منه؟ هذا بالإضافة إلى أن الدليل يثبت صفة القدرة وليس وصف الوجود. ولماذا تعذيب الذات واعتبار الإنسان عاجزا جاهلا ميتا أكثر من اعتباره فاعلا للقدرة وصاحب علم وأهل حياة؟ لماذا هذا الإقلال من شأن الذات؟ ولماذا يكون الإنسان غير قادر على فعل أي شيء أو أن يكون علة أي شيء وأن يكون غيره أقدر منه على الفعل في العالم وأن يكون علة له؟
48
لماذا يكون الفاعل المختار غير الإنسان؟ ليس المهم إثبات قدرة الإنسان على خلق الشيء بل قدرته على تغيير بنائه، فالأشياء موجودة، والإنسان قادر على تغيير بنائها الاجتماعي والسياسي، فالأعراض نوعان: الأولى خارج القدرة ولكن الثانية داخلة في نطاق القدرة. وفي حقيقة الأمر ينتهي دليل الحدوث إلى نزع قدرة الإنسان على الفعل ولا يثبت قدرة الآخر عليه. فإذا لم تثبت قدرة الإنسان فكيف يتمخض الفيل فيلد ذبابة؟ وإذا كان موضوع القدرة على الفعل تصادم قدرة الصانع مع قدرة المصنوع فتضيع قدرة المصنوع من أجل إثبات قدرة الصانع. ولما كان الصانع قد صنع كل شيء، وبالتالي فهو قادر عليه، يكون إثبات القدرة جزءا من الكل، وتحصيل حاصل، ولا يأتي بجديد، لأنه متضمن في إثبات الصنعة، والقدرة جزء منها، فضاع وجود الشيء أولا من أجل إثبات وجود «الله»، ثم ضاعت قدرة الشيء ثانيا من أجل إثبات قدرة «الله». (3) حدوث العالم
وقد يتحول دليل الحدوث من مجرد دليل لإثبات الصانع أو واجب الوجود إلى موضوع ميتافيزيقي مستقل عن حدوث العالم وقدمه ذاتا وصفات في بناء رباعي يضع احتمالات أربعة: قدم الذات والصفات، حدوث الذات والصفات، حدوث الذات وقدم الصفات، قدم الذات وحدوث الصفات. الأول اختيار الحكماء، والثاني اختيار المتكلمين خاصة الأشاعرة منهم كرد فعل على الاختيار الأول واتهام أصحابه بأنهم ملاحدة، والثالث مستحيل عقلا لاستحالة أن تكون الجواهر حادثة والأعراض قديمة بدليل الأولى، والرابع تصور الطبائعيين من المعتزلة، وهو أقرب إلى التصور الطبيعي الذي يجعل الجواهر قديمة ثم تظهر فيها الصفات عن طريق الطفرة أو الكمون فتبدو حادثة بمعنى التحقق من القوة إلى الفعل.
49
وقد ظهر الموضوع من قبل نظرا لأهميته في نظرية الوجود، سواء في «ميتافيزيقا الوجود» أي «الأمور الاعتبارية» في مفهومي القدم والحدوث أو في «أنطولوجيا الوجود» في «الجواهر» في عوارض الأجسام. ولما كان كل فريق يقوم بإبطال قول الخصم ثم بإثبات قوله الخاص، فيقوم أنصار الحدوث بإبطال قدم العالم ثم إثبات حدوثه كما يقوم أنصار القدم بإيراد الشبهات على حدوث العالم كي يثبت قدمه.
50
ويعتمد الأشاعرة لإبطال القدم على إثبات استحالة وجود حادث لا أول لها واستحالة وجود أجسام لا تتناهى في المكان؛ وذلك لأن الحادث هو الوجود الذي له أول وله نهاية.
51
وفي حقيقة الأمر أن هذا تحصيل حاصل أو دور منطقي؛ لأنه إثبات الموضوع بالمحمول والمحمول بالموضوع، فالحادث ما لا أول له ولا نهاية ولما أول له ولا نهاية هو الحادث. كما أنه خلط بين الأول والنهاية كجسم في المكان وبين الأول والنهاية كأجسام متصلة أو كمادة مستمرة بصرف النظر عن قسمتها إلى أجسام. أما إثبات الحدوث فإنه عادة ما يكون بإبطال قول الخصم، أي بإبطال حجج القدم ولا يكون دليلا إيجابيا، وهو بالتالي يعود إلى المسلك الأول. وإثبات أن لو كان الجسم أزليا لكان إما ساكنا أو متحركا، وكلاهما باطل هو مجرد افتراض خالص؛ لأن الحركة والسكون لا تكون إلا للأجسام الحادثة وليس للأزلية، وبالتالي فالحجة تقوم على إسقاط تصورات الحدوث على القدم وقياس الغائب على الشاهد، وهو منطق الفكر الديني.
52
وقد يثبت حدوث العالم عن طريق إثبات تناهي النفوس الإنسانية عددا، وتناهي الأشخاص الإنسانية، وحدوث الأمزجة وتناهيها، وتناهي الحركات الدورية للعناصر، وتناهي المتحركات والحركات السماوية، وهي كلها افتراضات صرفة تعبر عن إيمان ديني مسبق وتحتاج إلى إثبات. فما الدليل على تناهي النفوس والأشخاص والحركات؟
53
وقد يثبت الحدوث ابتداء من تحليل الأفعال الإنسانية والسلوك البشري والانتهاء إلى أنها محتاجة إلى بواعث ومقاصد وإرادات، وبالتالي فهي ليست أفعال ذاتها. وفي حقيقة الأمر أن ذلك يثبت البواعث والمقاصد ولا يثبت شيئا آخر خلافها. ولا يثبت حدوثا أو قدما، بل قد يثبت بقاء للأفعال بعد تحققها في العالم، وبقائها فيه.
54
ويستعمل دليل الحدوث لإثبات الخلق ضد الصدور أو الفيض باعتباره أحد أشكال نظرية القدم. لذلك يتصل دليل الحدوث بأفعال واجب الوجود فيما يتصل بالفرق بين الخلق والإيجاد ووضع الخلق بديلا عن الفيض، والحرية بديلا عن الحتمية.
55
ولقد عرض المتكلمون لشبه الحكماء حول حدوث العالم موردين حججهم لقدمه بحيث يصعب الرد عليها وتفنيدها، وهي حجج منطقية وميتافيزيقية وحسية واضحة وقوية يسهل اقتناع الإنسان بها، فلو كان العالم محدثا لاحتاج إلى محدث، وهذا إلى محدث، إلى ما لا نهاية، وهو محال. ولو كان محدثا لوجب أن يكون لفاعله غرض وحاجة، جلب نفع أو دفع ضرر، وهو محال أيضا على «الله». ولو كان محدثا لاستحال وجوبه إما إلى المقدور أو القادر، وكلاهما محال، وإلا لما وجد المقدور ولعجز القادر. ولو كان محدثا لوجب كون القديم غير عالم بوجوده، وهذا مما يوجب التغير في العلم، وإن كان علمه قديما وجب قدم العالم. كما أنه لا توجد دجاجة إلا من بيضة ولا بيضة إلا من دجاجة، وهكذا أبدا، وهذا يوجب قدم العالم.
56
وهي حجج تعتمد على استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية، وإلى دور أن العلة والمعلول دون ما حاجة إلى علة أولى أو معلول أول، وإلى العلم والقدرة والاستغناء. وهناك حجج أخرى تعتمد على قدم الزمان وقدم المادة والتجانس بين العلة والمعلول. فإذا كان المحدث يعني التأخر، فإن ذلك قد يكون بلا مدة، وبالتالي لن يكون قديما أو بمدة متناهية وجب تناهي القديم أو بمدة لا متناهية فوجب قدم العالم، كما أن كل حادث يسبق إمكان عدم والإمكان أحد أنماط الوجود، وهو لا يتصور إلا في مادة والمادة لا تتصور إلا في زمان ويستحيل التسلسل، وبالتالي لزم الانتهاء إلى موجود واجب بذاته هو العالم، وهي الشبهة التي من أجلها جعل المعتزلة المعدوم شيئا. كما أن ما يثبت جوازه يثبت وجوبه، ولا يثبت سبب حادث إلا لأمر حادث مثله.
57
وقد تأخذ الحجج طابعا إنسانيا خالصا مثل صفات الجود والإحسان والكرم التي للقديم مما يدل على فيض عواطف الإيمان على منطق العقل وأحكام الاستدلال. فالإيجاد إحسان والامتناع عن الإحسان نقصان. وقد تنكر حجج استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية أو ضرورة التجانس بين العلة والمعلول بصور عديدة. مثلا لو كان القديم في الأزل موجودا ثم صار موجدا، فصفة الموجودية محدثة وبالتالي تفتقر إلى موجد آخر وهو محال، وإن كانت أزلية لزم أن تكون الموجودات أزلية لاستحالة انفصال المعلول عن العلة. كما أن ذات الباري إما أن تكون متقدمة على وجود العالم والتقدم متناه فيلزم حدوث الباري وإن كان التقدم غير متناه يكون الزمان قديما، وإن لم تكن متقدمة لزم حدوث الباري وهو محال أو قدم العالم.
58
وقد يشارك في هذه الحجج بعض القدماء الذين ينتسبون إلى حضارة أخرى ثم أصبحوا رافدا في الحضارة خاصة في علوم الحكمة. وذلك مثل حجة الجود والكرم، أو أن الصانع لا يزال كذلك إما بالفعل، وبالتالي يكون المعلول مثله أو بالقوة فيحتاج إلى إخراج وتغير، وهو مستحيل على القديم. وذلك أيضا أن العلة من جهة الذات لا يجوز عليها الانتقال كما لا يجوز على المعلول، وبالتالي يصبح كلاهما قديما.
59
ولم يجد الفقهاء حرجا في عرض شبهات الحكماء والاستشهاد عليها بالحس والمشاهدة طبقا لنظرتهم الحسية للعالم. فلم يشاهد إلا حدوث شيء من شيء، ولم يشاهد أحد خروج شيء من لا شيء إلا بفعل ساحر. كما أن المحدث إما أحدث لأنه كذلك وبالتالي يكون الحدث مثله أو أحدث لعلة، والمعلول لا يفارق العلة. وإن كان للأجسام محدث فلا يخلو الأمر من أوجه ثلاثة، إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه، وهذا يعني قدمها، أو أن يكون مثلها من وجه وخلافها من وجه، وهذا أيضا لا ينفي القدم، أو أن يكون خلافها من جميع الوجوه وهو محال. والإحداث قد يحدث للحاجة أو لجلب نفع ودفع ضرر، وهو مستحيل على القديم أو تحدث لأشياء بالطباع التي لا يفترق فيها العلة والمعلول. كما أن الأجسام لو كانت محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلا لتركها وهذا يوجب قدمها أجساما وأعراضا.
60
والحقيقة أن نقد الحكماء باعتبارهم دهريين لا مبرر له؛ لأن «الدهرية» تحاول الرجوع إلى الطبيعة المستقلة التي لا يمكن أن تستخدم كوسيلة لإثبات شيء آخر. هي أكبر رد فعل على التفكير التقليدي الرأسي الذي ينحو من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، ويضع بديلا آخر وهو الفكر الأفقي الذي يتجه من الطبيعة إلى ذاتها. وهي التي حاولت وضع بديل للتسلسل إلى ما لا نهاية، ليس عن طريق إثبات علة أولى أو مبدأ أول، بل عن طريق الدوران والاستمرار. الدهريون إذن هم الطبائعيون وليسوا الإلهيين أي علماء الكلام. إن تصور الحكماء والطبائعيين للعالم أقرب إلى التصور العلمي من تصور المتكلمين.
61
فالأجسام سابقة على الأعراض، والأعراض تظهر فيها بعد الكمون، والحوادث تسلسل إلى ما لا نهاية.
62
لقد كان القول بالطبائع أكبر رد فعل على القول بالحدوث، فالطبائع رد للأشياء استقلالها ورفض لجعلها تابعة لقدرة مشخصة خارجة عليها. فهو تفسير بالعلل المباشرة الداخلية لا بالعلل الأولى الخارجية.
63
وقد يمثل تفسير الظواهر بطبائع الأشياء تفكيرا علميا مرحليا، إلا أنه بالنسبة إلى الفكر اللاهوتي يمثل تقدما فكريا هائلا. وإذا كان يمكن الآن نقض الطبائع علميا، فإنه لا يمكن نقضها بالنسبة للفكر اللاهوتي لأنها تمثل تقدما بالنسبة له. فالطبائع كانت آخر ما وصل إليه العصر من فكر علمي إبان سيادة الفكر اللاهوتي، وهو الصراع الذي ما زال موجودا في وجداننا القومي حتى الآن.
64
وتفسير الأشياء بالرجوع إلى الأشياء ذاتها، الطبائع الأربع أو الخمس أو بالعمليات الطبيعية في الأشياء مثل الامتزاج والاختلاط، التولد والفطرة أولى مراحل الفكر العلمي.
65
ليس الخلاف إذن فقط في معرفة الله استدلالا كما تريد الأشاعرة، أو اضطرارا كما يريد الطبائعيون، بل الخلاف الأساسي في تصور الطبيعة من خلال تصور ديني كما يفعل الأشاعرة أو من خلال تصور علمي كما يفعل الطبائعيون. هل يتم تفسير الطبيعة بعلل خارجية أم بعلل داخلية؟ هل الطبيعة مستقلة بذاتها أم أنها تابعة لغيرها؟ هل تدرك بالحواس وبالعقل كفكر طبيعي، أم أنها افتراض إيماني كفكر إليه مقلوب؟ وقد تكون صورة الأجرام السماوية بحركاتها الدائرية صورة تشبيهية للقدم عند «المنجمين».
66
والحقيقة أن القول بقدم العالم لا يعني تعطيل الصانع عن الصنع بل تنزيها له عن الاشتغال بالعالم والتدخل في قوانين الطبيعة، وإثباتا لحكمته في ترك العلمية والغائية، وتركا للحرية الإنسانية للعمل في العالم، وللعلم الإنساني لاكتشاف قوانينه.
67
الباعث على نفي الصانع باعث شرعي وهو الحفاظ على استقلال العالم والحفاظ على الحرية الإنسانية فيه. وإن إثبات الصانع ليس له باعث آخر إلا القضاء على استقلال العالم ونفي الحرية الإنسانية، وهذا ما يفعله دليل الحدوث.
68
وبالتالي كان موقف الملاحدة هو موقف الدفاع عن التنزيه ضد التشبيه وعن حرية الإنسان ضد جبره. «الله» مبدع لكل المتقابلات، وخالق كل الأضداد دون تقدم أحدهما على الآخر، مثل تقدم الوجود على العدم، والوحدة على الكثرة، والوجوب على الإمكان. «الله» متعال عن هذه الأضداد وخالقها دون أن يكون صانعا لها. «الله» هو الماهية المجردة عن أي صفات التشبيه، وليس ذلك «هذيا بين البطلان»، بل حرص على التنزيه وخوف من الوقوع في التشبيه.
69
مع أن الأمر عند الحكماء لم يخل من بقايا تشبيه في القول بعلة أولى هي النفس أو العقل أو العلة أو الفلك، وهو شبيه القول بوجود كائن مشخص مع الاختلاف في الدرجة والاتفاق في النوع. الكائن المشخص أكثر تجريدا وأقل جسمانية، في حين أن باقي الموجودات أقل تجريدا وأكثر حسية. والأمر في كلتا الحالتين عواطف إنسانية إيمانية أو عقلية ومواقف من العالم دينية أم علمية، ومواقف من الله والإنسان، دفاع عن «الله» أم دفاع عن الإنسان. وفي هذه الحالة لا تقل حجج القدم دلالة على حجج الحدوث.
دليل الخلق أو الصنع إذن صورة أخرى من دليل الحدوث لإثبات الخلق أو الصنع. أي أنه يتجاوز إثبات الذات إلى إثبات صفة، قافزا من موضوع الذات إلى موضوع الصفات. وبالإضافة إلى ضعف الدليل وبنيته الداخلية وتصور الله كصانع وليس كخالق، وهو التصور البدائي لنشأة الكون،
70
وإبطال كل فعل للطبيعة، وإنكار لقوانين العلم، وتفسير الظواهر بعلل خارجية وليس بعلل داخلية، فإن مخاطر هذا الدليل وآثاره السلبية على الحياة الاجتماعية والسياسية عظيمة. إذ يؤدي إلى تصوير العالم في حالة ضياع، وأن «الله» هو الماسك له، فكما أنه صانع له فهو مفن له.
71
في حين أن قدم العالم قد يعطي أهمية للعالم لأنه ماسك نفسه بنفسه، إله مثل «الله»، أو يجعل «الله» داخلا في العالم وليس خارجا عنه، وبالتالي ينشط «الله» في العالم وبسببه ومن خلاله وليس من فوق العالم، ورغما عنه، وضد قوانينه. كما أنه يجعل الإنسان يعيش في عالم كله ألوهية وعالمية في آن واحد. ومن ثم يحمي الإنسان نفسه ومجتمعه من الوقوع في مخاطر الازدواجية، والروحانية الفارغة التي تنقلب إلى مادية صريحة كرد فعل أو إلى مادية مقنعة كغلاف وستار.
ولقد تغيرت الظروف والملابسات عند القدماء وعندنا اليوم. كان موضوع قدم العالم الذي دافع عنه الدهريون والطبائعيون والحكماء و«الملاحدة» دفاعا عن الفكر العلمي والإنساني يمثل خطرا على العقيدة الدينية الجديدة كما تصورها المتكلمون في صورة الخلق من عدم كتصور بديل عما كان موجودا في البيئات الدينية والحضارية المجاورة. ظهرت الحجج التفصيلية عند القدماء لتفنيد قدم العالم اعتمادا على الجدل والمحاجة العقلية بمفاهيم عصرهم مثل: الحركة، والسكون، والجزء، والعلة، والسبب، والمؤثر، حتى انتصرت العقيدة الجديدة وانتشرت، ولم يعد أحد اليوم من العامة يعتقد بقدم العالم. ولكن الحال قد تغير الآن، ولم تعد نظرية قدم العالم تمثل خطرا على الأمة اليوم،
72
بل إن الذي يهدد موقفهم من العالم ووعيهم به قد يكون خلق العالم من عدم، فقد تحول في تصور العامة وربما الخاصة أيضا إلى جعل الله ساحرا، خالقا من عدم، كمن يخرج العصفور من كم المعطف أو الذي يفتح يده ويقبض الهواء فيخرج منه شيئا مرئيا، وبالتالي تحولت العقيدة إلى أحد روافد الفكر الغيبي الأسطوري.
73
وأصبح تصور الله قادرا على كل شيء عاملا مساعدا لترجيح القدرة على العلم، مما جعل ذلك يؤثر في النظم الاجتماعية والسياسية في صورة الحاكم القادر على كل شيء، والذي تفوق قدرته علمه! كما تؤدي عقيدة الخلق من عدم إلى تدمير العالم، واعتباره وجد بعد أن لم يكن موجودا، وبالتالي فلا أساس له كوجود، وما دام موجودا من عدم فإنه يصير لا محالة إلى عدم، وبالتالي يؤدي القول بالخلق من عدم إلى الفناء إلى العدم، فيصبح العدم أساس الوجود في البداية والنهاية، ويصبح على نقيض الله الموصوف بأنه موجود، والذي يرمي الدليل إثباته. فقد العالم استقلاله في شعورنا القومي، وغذى ذلك موقف الصوفية منه عندما أصبح التصوف أساس الأشعرية المتأخرة. ولم نستفد من ميزات الخلق من العدم وهي الجدة والابتكار والإبداع، والتمايز الكيفي، واختلاف المستويات، ومحونا صفة الإنسان وانتزعناها منه ونسبناها إلى «الله» مما يكشف عن عجز الإنسان عن الخلق وتعويض هذا العجز عن طريق نسبتها إلى الموجود الكامل وتحققها فيه، لم تعد اليوم مخاطر من قدم العالم، فلا يوجد أحد ينكر أن «الله» موجود، أو يثبت أن العالم قديم كما يتصور القدماء لا خالق ولا صانع له، وجد من شيء مسبق، فقد كسب القدماء المعركة، وما زالت آثار انتصارهم موروثة. لا توجد ديانات أو ملل قديمة يخشى منها. هنا أيديولوجيات مشابهة للمادية القديمة، وهناك فلسفات علوم ولكنها مدعمة بالعلم ولا تمثل خطرا على وجدان المعاصرين، بل إنه يمكن التعرف على مميزاتها وإدراك آثارها، فهي ترد الاعتبار إلى العالم المفقود، وتملأ الوعي الفارغ، وتعيد العالم إلى بؤرة الشعور واهتمام الإنسان، فيصبح الإنسان ميدانا للنشاط، ويجد الإنسان العالم بعد أن فقده، ويعمل فيه بعد أن انعزل عنه، ويدخل إليه بعد أن خرج منه. كما تبعث فيه الفكر العلمي الكمي القائم على الاتصال حتى يتطبع به، ويجد الصلة بين العلة والمعلول، والعلاقة بين التقدم والتأخر. تجعل «الله» قريبا من العالم، عاملا فيه، داخلا إليه، فتعيد إلى الله فاعليته في العالم كما أعادت النشاط إلى الإنسان. ترد الاعتبار إلى المادة وأنها ليست مضادة للروح بل متحدة بها، فتحيا المادة ويعود إلى الروح مضمونها. (4) دليل الجوهر الفرد
ودليل الجوهر الفرد صياغة أخرى لدليل الحدوث، وأقل منه ظهورا في المؤلفات الكلامية، وكأنه تفريع صغير على دليل الحدوث. ويتم عرضه في مبحث الوجود أكثر مما يتم عرضه في أدلة إثبات الصانع في موضوع الذات.
74
ومن مميزاته أنه دليل علمي، يجعل الشعور في موقف طبيعي من العالم من أجل نشأة العلم عن طريق البحث عن الجزئيات واتباع منهج التحليل والتدقيق حتى الوصول إلى الجزء الذي لا يتجزأ، وقد كان هذا الدليل أحد مصادر نظرية الذرة عند القدماء، ولكن ماذا يقال أمام العلم الحديث الغربي الآن الذي يجعل الجزء الذي لا يتجزأ يتجزأ إلى جزئيات بالفعل، وأنه يمكن التجزئة إلى ما لا نهاية، ثم يتحول الكم إلى كيف والمادة إلى طاقة؟ ولكن عيوب الدليل أكثر من مميزاته، فهو يقوم على وهم خاطئ لا وجود له لا في الذهن ولا في الواقع، فالشيء لا ينقسم إلا بالوهم والافتراض والخيال. الشيء واحد، جزء واحد أو كل واحد لا ينقسم إلا افتراضا ولا يمكن قسمته بالفعل إلى قسمين، وكل قسم إلى قسمين، فذاك يستحيل عملا نظرا لوجود أقسام صغيرة يصعب قسمتها حتى ولو بأساليب العلم الغربي الحديث. هو افتراض عقلي خالص لا وجود له بالفعل، قائم على إبراز مشكلة الجوهر الفرد الذي لا ينقسم، ومن ثم يحتاج في تبرير وجوده إلى غيره وكأن القسمة تعدمه، فإن استعصى عليه احتاج إلى تبرير لوجوده! وقسمة الشيء إلى شيئين ثم قسمة كل شيء منهما إلى شيئين إلى ما لا نهاية افتراض عقلي خالص. الشيء لا ينقسم، وإن انقسم يكون شيئين، ولا يمكن القسمة بالفعل حتى يتم الوصول إلى المتناهي في الصغر. كل ذلك تمرين عقلي لمتدين يركب ذاته حتى يسمح له بإثبات جوهر فرد يقدر على قسمته، ومن ثم يحتاج لتبرير وجوده إلى غيره. الغير عنده حل لكل المسائل إلا الذات. ولا تفهم الأمور بالرجوع إلى الذات بل بالرجوع إلى الغير وهو ما ترسب في وجداننا القومي حتى الآن بالاعتماد على الغير لا على الذات، وباستبعاد الحلول الذاتية وإلقاء التبعة على الآخرين. وما المانع أن تستمر القسمة افتراضا إلى ما لا نهاية حتى نصل إلى المتناهي في الصغر الذي ينقسم إلى ما لا نهاية؟ فالموضوع باق إلى الأبد طالما له ثقل حتى ولو تحول إلى طاقة كما هو الحال في العلم الحديث الغربي، فالطاقة لها ثقل. ولو انقسم بالفعل فإن الشيء لا يصبح شيئا. لو انقسم الإنسان إلى نصفين فإنه لا يكون إنسانا ولو انقسمت الشجرة إلى قسمين فإنها لا تكون شيئا. يأخذ الشيء معنى جديدا ويصبح شيئا جديدا مخالفا للأول. لكل شيء وحدته ومعناه وبناؤه واسمه. الشيء لا يعني الجماد بالضرورة، بل قد يعني الشيء الحي الذي يدل على معنى وحقيقة. وإن افتراض الجزء الذي لا يتجزأ حتى ولو كان موجودا بالفعل لا يثير بالضرورة سؤال النشأة عن طريق البحث عن علة مشخصة تكون هي سبب وجوده. قد يكون هو سبب وجوده من نفسه، وسبب نشأته من نفسه، موجود في الطبيعة، وجوده من ذاته، وأن يكون به نوع من وجوب الوجود. وسؤال النشأة نفسه سؤال ديني وليس سؤالا عقليا يقوم على أن لكل معلول علة، في حين أن المعلول يمكن البحث فيه عن قوانين حركته الخاصة من أجل معرفتها والسيطرة عليها واستخدامها في الحياة العملية دون طرح سؤال النشأة.
75
وبالتالي يكمن خطأ الدليل في الانتقال من القسمة إلى السببية. فعلى فرض الوصول إلى جزء لا يتجزأ فلماذا يستدل منه إلى أنه يحتاج لتبرير وجوده إلى غيره، إلى قدرة أعظم منه هي قدرة «الله». وأيهما أولى إثبات وجود الله القادر عن طريق الجزء الذي لا يتجزأ والمتناهي في الصغر أم عن طريق المتناهي في الكبر حتى يكون جديرا بإثبات قدرة الله؟ فالقدرة على الأكبر أجدر بالإثبات من القدرة على الأصغر. وحتى على افتراض أن سؤال النشأة سؤال شرعي، فإن الدليل يثبت أن الجزء الذي لا يتجزأ له صانع وله علة دون أن يثبت بالضرورة أن هذه العلة هو «الله». يحتوي الدليل إذن على حلقة مفقودة، وخطوة لم تتم، وقفزة شعورية، وهو الانتقال من الصانع إلى «الله» أو من العلة إلى «الله». كما يثبت الدليل «الله» خارج العالم، وخارج الأشياء، متقدما عليها، سابقا لها، أفضل منها. وهي نظرة متطهرة لله تفصله عن العالم، تجعل العالم أقل منه مرتبة مما يسهل بعدها الوقوع في التصوف والإشراق من ناحية «الله» وفي المادية أو العدمية من جانب العالم. وقد يوحي في الظاهر أنه يثبت «الله» متصلا بالعالم ولكن تقتصر وظيفته على تفسير نشأة العالم، وهذا إقلال من قدرته كما يتصوره المتكلمون.
76
وما المانع أن يكون التسلسل إلى ما لا نهاية أو أن يكون التسلسل عن طريق الدور؟ لماذا يجب الوقوف بالضرورة إلى واجب ذاته ليس ممكنا، وأن يقف خط التسلسل أو أن يكون بين العلة والمعلول أثر متبادل، كل منهما علة للآخر ومعلولا له؟ يبدو أن الفكر الديني هنا لم يصل بعد إلى درجة كافية من العقلانية وظل أسير الوجدان الديني. إن مفاهيم الوجود بالذات والوجود بالغير، وهما أساس الاستدلال في البراهين على وجود الله، كلها مفاهيم تعكس الصراع بين الفكر الديني والفكر العلمي، فالفكر العلمي يقوم على الوجود بالذات وتفسير الشيء من داخله في حين يقوم الفكر الديني على الوجود بالغير وتفسير الشيء من خارجه، وهو التفسير الذي سرعان ما يتحول إلى موقف سياسي واجتماعي بتفسير كل شيء في المجتمع من خارجه، مظاهرة شعبية ضد النظام بفعل المندسين والعملاء أو اعتبار الشعب كله موجودا بغيره في حين يكون الحاكم هو الموجود بذاته . إن هذه المفاهيم كلها مفاهيم اعتبارية تعبر عن مطلب شعوري وليس لها أي أساس في الواقع، فالواجب بالذات والواجب بالغير، والممكن، والقديم، والحادث، كلها مفاهيم إنسانية يسقطها الإنسان على الواقع حتى يفهمه من أجل التكيف المعرفي مع العلم كي يصبح العالم مفهوما فيعيش الإنسان فيه مدركا فاهما في عالم يحكمه العقل وتصدق عليه المفاهيم. الواجب في الحقيقة هو الواجب الأخلاقي، والممكن هي قدرة الإنسان على الفعل، والقديم هو العمق التاريخي للإنسان، والحادث هي الجدة والمعاصرة، والموجود بذاته هو الشعور بالاستقلال، والموجود بغيره هو الشعور بالتبعية. ويكشف أي دليل على إثبات وجود «الله» على وعي مزيف، فالغاية في الظاهر تبدو إثبات تناهي الأجسام، وهي غاية إلهية مقلوبة على الطبيعة أي إثبات لا تناهي «الله».
77
والوعي الشرعي بالعالم هو القادر على إعادة اللاتناهي إلى العالم دون البحث عن تعويض عنه وإجهاد العقل في البحث عن الدليل. (5) دليل الإمكان
ودليل الإمكان أقل شيوعا من دليل الحدوث بالرغم من أنه يفيد نفس المعنى وله نفس البناء، إلا أنه ظهر عند المتأخرين بعد سيادة علوم الحكمة على علم أصول الدين، وهو مبني على أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والامتناع والإمكان؛ لذلك كانت المعلومات الثلاثة: أقسام الواجب لذاته والممتنع لذاته والممكن لذاته، ومنها يتم الانتقال إلى أنواع الموجودات الثلاثة: الواجب والممكن والممتنع.
78
وللدليل صياغات بسيطة وأخرى مركبة. فمن الصياغات البسيطة يعطي القدماء ثلاثا:
79
الأولى لما ثبت أن العالم ما كان موجودا ثم صار موجودا، فحقيقة العالم قابلة للعدم وقابلة للوجود. وكل ما كان كذلك فرجحان وجوده على عدمه لأجل ترجيح مرجح فثبت أن وجود العالم محتاج إلى مؤثر وموجد، والحقيقة أن هذا الدليل به عيوب ثلاثة رئيسية: الأولى أنه يشكك في وجود العالم ثم يوقن به عن طريق الإيمان بأنه كان معدوما ثم وجد بافتراض الخلق. ومن الناحية العقلية الصرفة ودون اعتبار لأية مسلمات دينية سابقة نحن لا ندري هل كان العلم غير موجود ثم وجد أم لا، فنحن نولد في عالم موجود، ونشب فيه، ونعمل في العالم، ونمارس نشاطنا فيه. إنما افتراض عدم وجوده ثم وجوده افتراض ناتج عن الإيمان من نظرية الخلق التي تفترض وجود الله السابق على العالم وأن العدم هو الأساس، وأن الوجود منبثق من العدم، وهذه هي العدمية المحضة، وكأن الموقف الإيماني والموقف العدمي واحد. والثاني هو افتراض فناء العالم وتحويله إلى عدم بعد أن وجد من عدم، وهو افتراض ناتج أيضا عن مسلمة دينية هي عقيدة الفناء وليس برهانا عقليا. نحن نعيش في العالم، ويتركه الآخرون، ولا يتوقف نشاطنا فيه بدليل فعلنا المستمر من خلال الأفكار والأفعال والآثار التي نتركها. نحن نرى الناس يغيبون عنه، ولكن لم يشاهد أحد فناء العالم، أي أنه عدم بعد وجوده. والثالث هو أن إيجاد سبب أو مرجح للوجود لا يكون بالضرورة عن طريق مرجح خارجي، بل يمكن أن يكون عن طريق سبب داخلي، هذا على افتراض صحة الانتقال والتحول من العدم إلى الوجود.
والصياغة الثانية هي أن الموجودات إما واجب الوجود أو ممكن الوجود أو البعض واجب والبعض ممكن، واستحالة أن يكون الكل واجبا نظرا لاستحالة أكثر من واجب وجود واحد، واستحالة أن يكون الكل ممكنا لحاجة الممكن إلى الواجب، والحقيقة أن قسمة الواجب والممكن قسمة إيمانية خالصة، عاطفة دينية صرفة يقوم العقل بتنظيرها عن طريق التمييز بين مستويات في علاقة رأسية بين الأكثر شرفا والأقل شرفا. واجب الوجود مجرد مطلب أخلاقي، ونزوع نفسي نحو غاية، وحاجة إنسانية وتطلع إلى الكمال الذي لم يتحقق، وكل شيء أمامنا واجب أو ممكن مثل الجوهر والعرض والقديم والحادث، واجب لأنه موجود أمامنا باستمرار، وممكن لأنه يتغير ويتقلب، فلا استحالة هناك أن تكون كل الموجودات واجبة وممكنة في آن واحد دون قسمة من صنع الإيمان العقلي. وقد تكون كل الموجودات ممكنة لأنها قابلة للتحقيق والتغير من خلال الفعل والنشاط الإنساني، أي بدافع الوجوب الأخلاقي، فالدليل لا يثبت وجودا واجبا خارجا عن العالم، بل يصف عملية التحقق ومسار النشاط الإنساني من الوجوب إلى الإمكان ومن الإمكان إلى الوجوب.
والصياغة الثالثة أن الأجسام متماثلة في الجسمية مختلفة في الصفات، وسبب الاختلاف ليس جسما؛ لاستحالة التسلسل إلى ما لا نهاية، والمؤثر ليس بالطبع والإيجاد بل بالقصد والاختيار؛ لأن الطبع واحد ولا يختلف، إذن هو بالقصد والاختيار. والحقيقة أن سبب التشابه والاختلاف بين الأجسام قد تكون الأجسام ذاتها وتراكيبها وطبائعها، أي أنه يرجع إلى الطبع وإلى قوانين الطبيعة وليس إلى القصد والاختيار، فالاختيار مقولة إنسانية تعبر عن حرية الأفعال يسقطها المتكلم الأشعري على الطبيعة، ثم يتنازل عنها بعد ذلك ويعزوها إلى المطلوب إثباته، وبالتالي يحيل الدليل من مستوى الطبيعة إلى مستوى خلق الأفعال.
وتتفاوت الصيغ المركبة بين الدليل الموجز في مقدمتين أو المفصل في ثلاث مقدمات، تثبت المقدمة الثالثة بثلاث مقدمات أخرى، أو المفصل في أربع طرق، كل منها دليل بحد ذاته على انفراد، فالصيغة المزدوجة من مقدمتين، هي: (أ) العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه. (ب) الجائز محدث، وله محدث، أي فاعل صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر.
80
والصيغة الثلاثية المفصلة، هي: (أ) العالم متغير ومتكثر. (ب) وكل متكثر ومتغير فهو ممكن الوجود بذاته. (ج) إذن وجود العالم بإيجاد غيره، وذلك الغير يستحيل أن يكون مرجحا لثلاثة أوجه: (1) أن الوجود والذات لا اختلاف فيهما بين موجود وموجود. (2) أن الجائزات بأسرها متماثلة من حيث هي جائزة. (3) أن الواجب بذاته مهما كان بينه وبين الموجب مناسبة أو تعلق ما، لم يقض العقل بصدور أحدهما عن الآخر. أما الصيغة الرباعية المتأخرة، فإنها تقوم على مبحث الجوهر والأعراض والاستدلال منهما إلى إثبات الصانع إما بالحدوث أو الإمكان. والحقيقة أنه بنائي ثنائي وإنما الخلاف في اللفظ، فالحدوث هو الإمكان ولكن بلفظين مختلفتين، الأول من الطبيعة والثاني من ما بعد الطبيعة. وهو نفس التقسيم الرباعي عندما يستبدل لفظ الذات بلفظ الجسم، وبالتالي تكون الاحتمالات أربعة: الأول إمكان الذوات، والثاني حدوث الذوات، والثالث إمكان الصفات، والرابع حدوث الصفات.
81
والطريقة الأولى وهي الاستدلال بحدوث الأجسام طريقة الخليل في القرآن مما يدل على أنه لا شأن له بالحضارات المجاورة أو بأقوال الحكماء،
82
وهي مركبة من مقدمتين، الأولى أن العالم محدث والثانية أن كل محدث له محدث. وبالتالي يكون هو محدث الأعراض بدليل انقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما ودما، ولا بد من مؤثر وهو ليس الإنسان أو أبويه. والحقيقة أن الاعتراض على الدليل موجود عند القدماء وهو: «لم لا يجوز أن يكون المؤثر هو القوة المولدة المركوزة في النطفة»؟ والرد بضرورة الشعور والاختيار والقصد لا يستدعي بالضرورة وجود كائن مشخص، إذ يمكن أن تكون الطبيعة واعية من خلال الغائية والقصدية. والطريقة الثانية الاستدلال بالإمكان كما تم من قبل الاستدلال بالحدوث للأجسام. والطريقة الثالثة الاستدلال بحدوث الأعراض وإقامة الدليل على أنه واجب الوجود، ويستحيل أن يكون أكثر من واحد وأن نشاهد الأجسام كثرة ممكنة وكل ممكن له مؤثر. والطريقة الرابعة الاستدلال بإمكان الأعراض فالأجسام متساوية في الجسمية مختلفة في الصفات واختلافها لا يعود إلى الجسمية بل في حاجة إلى مؤثر.
والحقيقة أن دليل الإمكان له بعض المميزات كما لدليل الحدوث، إذ يعتمد على الإمكانية وهي جوهر الحياة. فالإمكانية تعني الفعل بالقوة، الشيء قبل التحقق، الكمون، الخصب، النماء، ويوحي بالطبيعة في الظهور والطفرة والتطور والازدهار من خلال الفعل والجهد والعمل. فالعالم ممكن، أي أنه قابل للفعل، يظهر وينمو، حياة وأمل، غاية وهدف، قصد واتجاه، تحقق ونشاط. كما يقوم على نظرية عقلية ممكنة هي نظرية أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والإمكان والاستحالة، وهي نظرية يصعب نقدها لأنها تعتمد على طبيعة العقل وبناء الفكر البشري، وبالتالي فهي بديهية يمكن لكل إنسان أن يعقلها وأن يطبقها، لا فرق بين دين ودين، وعقيدة وعقيدة. وإذا كان الإمكان يعني التغير، والتغير مشاهد بالحس، اعتمد الدليل أيضا على شهادة الحس بالإضافة إلى أوائل العقول.
ومع ذلك فللدليل عيوب كثيرة، منها ما هو خاص بالمنطق، ومنها ما يتعلق بالطبيعة والفكر العلمي، ومنها ما يرتبط بالدين والفكر اللاهوتي. فمن حيث منطق الدليل لا يمكن إثبات تصور ميتافيزيقي مثل إمكان العالم بمشاهدات حسية مثل الأعراض وأن العالم مركب. فنوع المقدمات لا بد وأن يتفق مع نوع النتائج، وأن يبقى الاستدلال على نفس المستوى من الحكم. كما أن شهادة الحس بأن الأجسام متماثلة تنتهي أيضا إلى أن الأجسام مختلفة، وبالتالي لا تكون شهادة حس كاملة بل ابتسار لها، ورؤية جزئية، شهادة حس تقوم على وجهة نظر موجهة بموقف إيماني انفعالي وجداني. إن العالم يمكن أن يرى ليس فقط على أنه مركب وكثير، بل أيضا على أنه بسيط وواحد، كلاهما ممكن. بل إن الثاني أقرب إلى الميتافيزيقا، وبالتالي يتفق مع نوع النتائج المطلوبة. ولا يمكن الانتقال من مقدمة عن الإمكان إلى نتيجة عن الحدوث؛ لأن الإمكان والحدوث لفظان مترادفان يشيران إلى نفس المعنى، الأول لفظ ميتافيزيقي، والثاني فيزيقي. إن أقصى ما يمكن أن يشير إليه الدليل هو حاجة الذهن إلى نقطة بداية مطلقة أو ما يسمى بواجب الوجود، وهو ما يعبر عن حاجة معرفية خالصة، وهي البداية بالأوليات والمصادرات كأساس لأي نسق دون تشخيص لها في موجودات مشخصة. هي وظيفة معرفية وليست حقائق أنطولوجية. ومن ثم كانت ضرورة النهاية إلى واجب مطلق تضع نهاية للعالم وللذهن معا، ويستحيل معها تصور تقدم مستمر إلى الأمام مما يوقف الشعور الإنساني وهو على عكس ما يهدف إليه التعالي الذي يعني التقدم المستمر، والتجاوز، وعدم الوقوف عند صياغات أخيرة لأية ماهية وإلا وقعنا في القطعية والمذهبية وخلطنا بين العلم كبحث مستمر وأحد مراحله وصياغاته. تعني الضرورة على هذا النحو في الدليل الانتهاء إلى نقطة معينة ليس بعدها شيء، صياغة أخيرة، وبالتالي إعلان العجز والتسليم، وإلقاء السلاح والتوقف، على عكس التسلسل إلى ما لا نهاية الذي يفيد التعالي المستمر والتجاوز الدائم. وما زال الدليل يقوم على برهان الخلف، أي أنه دليل سلبي بمعنى أنه يبطل الاحتمالات كلها إلا احتمالا واحدا، فيثبت نظرا لبطلان غيره، وهو أقل يقينا من الدليل المثبت للشيء وليس للناهي عن ضده. وقد لا يكون الحصر شاملا، وقد لا يكون النفي للاحتمالات كلها نفيا، كما تبدو بعض المفاهيم متناقضة مثل مفهوم ممكن الوجود، فليس هناك ممكن لذاته بل ممكن بغيره أو واجب بغيره، فالذات تعني الاستقلال في حين يعني الممكن التبعية للغير.
ويكشف الدليل عن زحزحة الفكر الطبيعي العلمي جانبا لحساب الفكر الديني. يقوم الدليل على القسمة التي تكشف بدورها عن ثنائية متطهرة كقناع للإيمان الديني التقليدي، وبالتالي توضع المستويات الثلاثة في وضع رأسي أعلاها الواجب وأقلها المستحيل وأوسطها الإمكان. في حين أن الفكر العلمي لا ينقسم بل يحلل، ولا يرتب ويفرق بل يداخل ويجمع، وتتسلسل فيه الأمور تسلسلا دائريا إلى ما لا نهاية، فالشيء يكون علة ومعلولا، أثرا ومؤثرا، فاعلا ومنفعلا. الطبيعة متداخلة، وحدة عضوية واحدة دون ما حاجة إلى الخروج عليها. التفكير العلمي دائري في مقابل التفكير الطولي الديني. الدليل كله إيمان عقلي مقنع. فكل شيء في هذا العلم ممكن إنما هو نتيجة مقلوبة لحكم إيمان مسبق بأن «الله» واجب الوجود، ثم لزم ضرورة بعد ذلك أن كل ما سواه فهو ممكن، وأن الله واجب الوجود تجريد عقلي لموقف إيماني يقوم على التسليم بوجود «الله». وقد تمت استعارة لفظ فلسفي هو واجب الوجود في مرحلة غزو علوم الحكمة لعلم أصول الدين نظرا لأنها أكثر عقلانية وإحكاما. بل إن مقولتي الواجب بذاته، والواجب بغيره، أي الممكن، مقولتان دينيتان تكشفان عن العلاقة التقليدية بين «الله» والعالم. «الله» هو الموجود بذاته، والعالم هو الموجود بغيره، وهو مجرد تغير لفظي للدلالة على مستوى أعم وأكثر تجريدا. وخطورة هاتين المقولتين عندما تتحولان في ميدان الاجتماع والسياسة لتحدثا نوعين من العلاقة، علاقة الاستقلال وعلاقة التبعية. كما تتحول صلة الله بالعالم إلى صلة الحاكم بالمحكوم، فيصبح الحاكم موجودا بذاته، والمحكوم موجودا بغيره، الحاكم مستقل، والمحكوم تابع. فلا ينتهي هذا الدليل فقط إلى القضاء على استقلال الطبيعة وحتمية قوانينها بل يجعل العالم كله، الطبيعي والمجتمع، خاضعا لسلطان قاهر. ويحتوي الدليل على قدر كبير من التشخيص، وإسقاط البعد الإنساني على الطبيعة و«الله» معا كما يبدو ذلك من ألفاظ حاجة واحتياج، ومرجح وترجيح، وقصد وغاية. يقوم الدليل إذن على التشبيه ويكشف عن موقف وجداني خالص في عبارات مثل: لا بد، حاجة الأثر إلى مؤثر، حاجة التخصيص إلى مخصص، حاجة الممكن إلى واجب، وهي علاقة الاحتياج والعوز والتبعية، وتنتقل إلى العلاقات الاجتماعية على هذا النمط فتنشأ علاقات الاحتياج والتبعية بالرغم مما يبدو على الدليل من تجريد وطابع ميتافيزيقي. يكشف الدليل عن الجانب الوجداني في الإنسان بمفاهيم الاحتياج، والافتقار، والترجيح، والاشتراك، والاقتضاء، والتأثير، والتخصيص، والمشابهة، والاستفادة، والقدرة، والإرادة، والصدور، والنقص، والكمال.
83
إن احتياج الممكن إلى مخصص وجعل المحتاج دون المحتاج إليه افتراض تشخيصي محض، مجرد إثارة غبار من أجل إزالته فيما بعد، ووضع مسألة من أجل حلها، وبالتالي فهو تمرين عقلي يقوم على أساس وجداني لإقناع النفس والتكيف مع الذات، تكيف العقل مع الوجدان حتى يصير العالم مفهوما. الأشياء على ما هي عليه بالطبيعة، وتحولات الشيء تخضع لقانون طبيعي، بالتفاعلات الداخلية وليس بأسباب الخارجية، والتعليل الذاتي أكثر علمية من التعليل بالآخر. يكشف الدليل عن علاقات قوى بين الطرفين،
84
ولماذا الخشية من الإيجاد بالذات؟ ولماذا يكون الإيجاد بالعلة الخارجية؟ لماذا لا يكون الشيء سبب وجوده؟ لماذا يكون وجودي مستمدا من غيري؟ بل إن الدليل لم يحرص على التنزيه، وحول الوجود بذاته إلى كائن ممسوح لا غاية له ولا هدف ولا قصد إمعانا في التنزيه ونفي جميع مظاهر النقص الإنساني كالاحتياج والافتقار، فانقلب إلى الضد، وهو نفي القصد والغائية، وبالتالي الانتهاء إلى الموت، فكيف يمكن الترجيح دون قصد أو غاية؟ وكيف يتم استبعاد الاحتمال المرجوح؟ ولماذا يتم استبعاده إن كان ممكنا؟ ولماذا لا يكون الترجيح اختيارا طبقا للحرية أو للصلاح والأصلح وليس مجرد عشوائية لا قصد فيها ولا غاية؟ إن افتراض الشيء على غير ما هو عليه افتراض يقوم على الرغبة في تدمير العالم، ونفي أوضاعه، وتحيل إمكانيات لا وجود لها، فالشيء لا يمكن إلا أن يكون على ما هو عليه، فلا يصبح البرغوث فيلا أو الفيل برغوثا. ليس العالم ممكنا بهذا المعنى الذي يدمره. فإذا كان الممكن هو أن يكون الشيء على غير ما هو عليه فليس المحيط ممكنا؛ لأنه لا يمكن أن يكون على غير ما هو عليه فيصبح يابسا. وليس الجبل الشاهق ممكنا لأنه لا يمكن أن يكون على غير ما هو عليه فيصبح هوة سحيقة في باطن الأرض. إذا كان الممكن هو ما سوى «الله» فإن العالم ليس ممكنا لأنه لا يمكن أن يكون على غير ما هو عليه، ويصبح «الله»! لا السماء ولا الأرض، ولا الشمس ولا القمر، ولا النجوم ولا الكواكب بممكنات، أي أن تكون على غير ما هي عليه، وإلا اصطدمنا بقوانين الطبيعة الثابتة وبأوائل العقول وبمبادئ الميتافيزيقا وفي مقدمتها مبدأ الهوية، وهو أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، ومبدأ الاختلاف وهو أن يكون الشيء هو غيره، ومبدأ الثالث المرفوع وهو استحالة وجود وسط بينهما، فالشيء لا يمكن أن يكون ذاته وغيره في آن واحد. قد يكشف الدليل على هذا النحو عن انفعال ديني، وتمن لعاجز، ورغبة مكبوتة لتغيير الواقع في الخيال والوهم، وليس في الواقع بالفعل. بل إن الدليل كله يصطدم في نهاية الأمر بما تواجهه الأدلة جميعا من نقص في بيان كيفية الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، من أحكام العقل الثلاثة، وهي أمور اعتبارية صرفة كما بان ذلك من «ميتافيزيقا الوجود» في نظرية الوجود إلى واجب الوجود بالفعل. يقوم الدليل إذن على حجة أنطولوجية كافتراض مسبق. فهو ليس دليلا أولانيا بسيطا؛ لأنه يعتمد على دليل آخر متضمن فيه وهو الدليل الأنطولوجي. وتظهر هذه الصعوبة في وصف أحكام العقل الثلاثة: هل هي قسمة للمعلومات، وهو ما يبدو من الدليل، أو قسمة الموجودات؟ وما الدليل على التوحيد بين المعلومات والموجودات إلا افتراض الدليل الأنطولوجي.
85 (6) نقد الأدلة
هناك انتقادات عامة للأدلة كلها تقوم على إبطال التسلسل إلى ما لا نهاية، وعلى ضعف منطق الاستدلال، وعلى نوع المفاهيم والتصورات المستعملة إسقاطا للمفاهيم الإنسانية على الطبيعة لاحظ القدماء بعضها ورأى المحدثون البعض الآخر. فمن حيث منطق الاستدلال، تقوم الأدلة كلها على بطلان الدور والتسلسل مع أن كليهما ممكن. فالدور هو التفكير العلمي، أي تبادل الأثر بين العلة والمعلول. فقد يكون الشيء علة نفسه، علة ومعلولا في آن واحد. السحاب علة للماء، والماء علة للسحاب، وهو المثل المشهور مثل «الدجاجة والبيضة»، فلا وجود لدجاجة أولى أو لبيضة أولى. كما أن التسلسل ما لا نهاية لا يستحيل سواء من الأول الذي ينتهي بضرورة وجود علة أولى أو من الآخر الذي ينتهي بضرورة موجود أول. فذلك هو الفكر الديني في أقصى درجة من التجريد قبل أن يتحول إلى فكر علمي. ولماذا التفكير بطريقة الرجوع إلى الوراء للبحث عن العلة مرات عديدة وضرورة التوقف في التسلسل إلى علة مخالفة في الطبيعة والكمال لكل العلل؟ وحتى على فرض أن هناك تسلسلا إلى ما لا نهاية، فلماذا يكون التسلسل دائما طوليا في خط مستقيم وليس دائريا، فتكون العلة اللاحقة علة للسابقة والعلة السابقة علة للاحقة دون أن يكون هناك سبب مطلق أو لحق مطلق؟ يبدو أن الفكر الديني فكر طولي تراجعي، في حين أن الفكر العلمي فكر دائري تقدمي.
86
ولماذا يكون التسلسل إلى ما لا نهاية مرفوضا؟ إنه يمكن الذهاب إلى العلل المباشرة، ثم إلى العلل الأولى دون أدنى حرج علمي، وتكون صورية العلم بقدر البحث عن علل أولى للعلل المباشرة. بل إن التسلسل إلى ما لا نهاية يكون باعثا مستمرا على تقدم العلم في حين أن الوقوف عند علة مفترضة بالقفز عن طريق القلب يوقف العلم. فما دام العلم قد وصل إليها ففيم العلم بعد ذلك؟ الحجة عن طريق التسلسل إلى ما لا نهاية حجة عاطفية خالصة؛ لأن اللانهائي صياغة عقلية لعواطف التأليه، حتى إذا كان الأمر متعلقا بالرياضيات أو الطبيعة أو ما بعد الطبيعية.
87
كما يستحيل العلم «بالله» عن طريق إبطال الدور والتسلسل إلى ما لا نهاية؛ لأن ذلك إبطال للفكر العلمي، وإيقاف للفكر العقلاني عن تقدمه وتحوله إلى فكر علمي. فليس بديهيا تقدم المؤثر على الأثر أو العلة على المعلول. قد يؤثر الأثر في المؤثر، والمعلول في العلة، كما يؤثر الابن في الأب، والتلميذ في الأستاذ، والمنسوخ في الناسخ، والجديد في القديم، والحاضر في الماضي. هناك تبادل أثر وتأثر بين العلة والمعلول. وليست العلاقة من طرف واحد بل من طرفين. ليست أحادية الطرف بل مزدوجة الأطراف. هذه العلاقة الأحادية هي التي جعلت الفكر الديني كله يعطي الأولوية للعلة الأولى على العلة الثانية، و«لله» على العالم. وهي السبب التصوري الذي يجعل العلاقات الاجتماعية والسياسية ذات بعد واحد، من الحاكم إلى المحكوم، ومن الرئيس إلى المرءوس، ومن الأعلى إلى الأدنى. وقد تنبه القدماء أيضا إلى استحالة إثبات العلم بالله عن طريق إبطال التسلسل إلى ما لا نهاية.
88
فإيقاف تسلسل العلل إلى علة أولى يوجب التناهي، وهو مضاد لتصور اللامتناهي، وبالتالي يكون تسلسل العلل إلى ما لا نهاية أقرب إلى تصور التوحيد. كما أن وقوف التسلسل إلى علة أولى وقوف تعسفي ليس له ما يبرره من عقل أو واقع أو مطلب إلا رغبة إيمانية لإثبات «الله» كموجود أول أو كعلة أولى. كما أنه خوف من المجهول، وعجز عن حساب اللامتناهي، وهو الحساب الذي برع فيه علماء الرياضة القدماء، وإيثار للسلامة، وارتكان للأمان. ولا يمكن إثبات تناهي العلل عن طريق التصور الدائري للمكان، أي التقاء الطرفين، فما زال التناهي يرمز إليه بالخط الممدود من الجهتين على مساحة مسطحة. ولا يتطلب تسلسل الممكنات إلى ما لا نهاية بالضرورة وجود واقع أول، فالإمكانيات لا نهاية لها. ويأتي تحقيقها بالفعل من داخل الإمكانية، وليس من خارجها. واعتبار الممكن في حاجة إلى غير ممكن، لا هو نفسه ولا داخلا فيه، هو التصور الخارجي للعلاقة بين الواجب الممكن على نمط التصور الخارجي للعلاقة بين الله والعالم.
أما بالنسبة لضعف منطق الاستدلال فيبدو في عدة موضوعات، منها أنه إذا وجد دليلان في كل مسألة ينفي كل منهما الآخر فيبطل المطلوب إثباته.
89
وقد برر القدماء ذلك برفض تكافؤ الأدلة، وبوجود دليلين أحدهما أقوى من الآخر فيبطل الدليل الضعيف أو ببطلان الدليلين معا، ولا ينفي ذلك وجود الشيء . وذلك في الحقيقة معارض بمنطق الأصوليين بقاعدة «ما لا دليل عليه يجب نفيه». كما تقوم كثير من الاستدلالات على برهان الخلف، أي نفي النقيض حتى يثبت الشيء، وذلك مثل إثبات حدود العالم بنفي قدمه.
90
وهو برهان سلبي يعتمد على شمول الحصر. فإن لم يكن حصر الاحتمالات شاملا انهدم الدليل. ونفي العكس ليس إثباتا للشيء بل نفي لضده فحسب. ولا بد للدليل أن يكون مثبتا خاصة ولو كانت هناك احتمالات أخرى لم تدخل في الحصر الأول. طبقا لقاعدة «ما لا دليل عليه يجب نفيه» فإنه إذا غاب الدليل المثبت وجب نفي الشيء. وعادة ما يكون إثبات بطلان قول الخصم ضعيفا، فدليل الحدوث لا يقضي على اعتراضات الخصم و«تفنيد مزاعم القائلين بقدم العالم».
91
كما أن اعتراضات الخصم ضد المطلوب إثباته تترك بلا رد. لقد عرف القدماء بعض الاعتراضات الأساسية ضد دليل الحدوث، ولكن سيادة الأشعرية طوت هذه الاعتراضات في حيز النسيان، فالأشعرية لا يعترض عليها لأنها وحدت نفسها بالصواب، مع أن هذه الاعتراضات هي القادرة الآن على بعث الوجدان الفكري في شعورنا القومي.
92
وهناك نقائص منطقية استدلالية أخرى في قلب عملية الاستدلال،
93
فمثلا يكون السؤال عاما مثل: ما الدليل على أن للخلق خالقا أو للعالم صانعا؟ وتكون الإجابة خاصة بتجربة التغير في الإنسان وأحواله. السؤال عن المخلوقات جميعها والإجابة عن تجربة واحدة. فهل يجوز الإجابة على سؤال عام بتجربة خاصة؟ هل يجوز على سؤال مبدأ إعطاء تجربة واقع؟ وكيف يمكن بعد ذلك التعميم والاطراد؟ وهل يثبت المبدأ بالتجربة. وإذا كان يسهل رد الأشعرية على ذلك لإنكارها صيغة العموم، فكيف يمكن مناقضة منطق الأصوليين الذي يثبت العموم؟ وإذا كان السؤال عن الأدلة على الخالق تكون الإجابة بنفي كون الإنسان خالقا! والجواب غير السؤال، السؤال عن إثبات صفة لله والجواب عن نفيها عن غيره! هذا بالإضافة إلى ما يمثل ذلك من تعذيب للذات واتهام النفس بالعجز وتعويض ذلك بإثبات القدرة للغير. كما يقوم الدليل على إثبات الصانع قبل إثبات الصنع، والأولى إثبات الصنع أولا حتى يسهل بعد ذلك طلب إقامة الدليل على الصانع. ولا يغني عن ذلك اعتماد الأشعرية على أن الجدل يقوم على التسليم بأحد الافتراضات جدلا. وفي كثير من الأحيان لا توجد حجج مقنعة عقلا، بل توجد أدلة خطابية تعتمد على استهجان العامة من تصور بناء من غير بان وكتابة من غير كاتب. وهو لجوء إلى البداهة الموجهة إلى الخصم الذي إن لم يعترف بها وصف نفسه بالجهل أمام استهزاء العامة وسخريتها من الحكيم. وهي في حقيقة الأمر تشخيص للأشياء وتركيز على الجهة الفاعلة دون العلل الصورية والمادية والغائية. والأخطر من ذلك كله انتقال الدليل من مستوى الطبيعة والكون إلى مستوى الإرادة الإنسانية وإنكار أن يكون الإنسان فاعلا كسبا أو اختراعا، وبالتالي هدم الأشعرية لذاتها. مع أنه ما لا يقدر عليه إنسان لا يعني العجز عنه على مبدأ الأشاعرة، فكيف التسليم بالعجز؟ ولا يجوز إثبات المحدث مع نفي الأحداث والإيجاد إثباتا للغائب على الشاهد على قصد وغاية. فمن أصول الأشاعرة لا يتعلق فعل المريد المختار بالقصد والغاية. والعجيب ألا يسلم الأشاعرة بالمنطق الأصولي ويعتبرون قياس الغائب على الشاهد عيبا، وهو أساس الفكر الديني كله.
94
ويظنون أن الدليل يقوم على ضرورات العقول وبدايتها مع أنه يقوم على فكر تجريدي يكشف عن إيمان ديني خالص وتصور عامي شائع.
95
هذا بالإضافة إلى أنه لا يمكن الاستدلال بالنقل والخصم ينكره. فالاستدلال بمعنى الآية قد يعارض بمعنى آخر أو بآية أخرى، فكلاهما - الحجة ونقيضها - حجة سلطة. وإذا كان الغرض من استعمال الآية التقريب إلى الأفهام، فيمكن للخصم استعمال الشعر والمثل والحكمة الشعبية لتقريب ما يريد إلى أفهام خصومه، وهذا إقلال من شأن النقل ومن قيمة استعماله.
96
وقد يجد البعض في دليل الحدوث دورا؛ إذ يقوم إثبات العرض على افتراض الجوهر، وإثبات الجوهر على افتراض العرض كما يقوم إثبات حدوث العالم على افتراض موجود قديم وإثبات الموجود القديم بحدوث العالم. والدور المنطقي هو في حقيقة الأمر موقف شعوري يقوم على عواطف التأليه وموجود في العالم. ليس المهم الأسبقية الزمنية للوجود في العالم أو لعواطف التأليه، بل المهم العملية الشعورية التي تحدث في شعور موجود في العالم وغارق في عواطف التأليه، وهي العملية التي تجعل من عواطف التأليه الأساس ومن العالم الفرع أو التي تجعل من العالم الفرع بناء على عواطف التأليه كأساس.
97
وتقوم الأدلة على خلط في الألفاظ والمعاني والمصطلحات بالرغم من التنبيه على أهمية التمييز بينها قبل صياغة كل دليل.
98
هناك خلط في الأدلة بين القدم بالزمان والقدم بالذات. فالقدم بالذات وليس في الزمان، أي أنه قدم بالرتبة والشرف وليس قدما في الزمان، قدم ميتافيزيقي وليس قدما فيزيقيا. القدم بالرتبة والشرف قدم إنساني؛ لأن الرتبة أو الشرف مقولات إنسانية.
99
ليس الجوهر سابقا على الأعراض بالزمان، بل هو سبق بالرتبة والشرف. فالقدم بالوجود الذي هو موضوع الأدلة هل هو مخالف للتقدم بالزمان أو الشرف أو الرتبة أو الطبع أو العلية؟ هل هناك تقدم بالوجود الخالص أم أن الوجود تجربة شعورية لا تنفصل عن القيمة وبالتالي فهو أيضا بالرتبة والشرف؟ وكلها مقولات إنسانية خالصة من الزمان مثل القدم والحدوث أو عن الوجود مثل الجوهر والعرض أو عن الحرية مثل القدرة والاختيار والترجيح أو عن العواطف الإنسانية مثل الحاجة والافتقار. وإن كثرة استعمال ألفاظ تأثير واحتياج تدل على أن الاستدلال استدلال إنساني وجداني عاطفي وليس استدلالا عقليا أو واقعيا. فالإنسان هو الذي يحتاج وليست الأشياء، وأن يكون المحتاج إليه له سبق الفضل على المحتاج.
100
والافتقار مثل الاحتياج، الإنسان هو الفقير إلى «الله»، و«الله» هو الغني. ويمكن أن تثار كثير من المشاكل الوهمية يمكن حلها بطريقة تثبت وجود ما يراد إثباته، وبالتالي يكون الموضوع كله أقرب إلى التمرين العقلي لموقف وجداني، واتساق الوجدان مع العقل، واتساق الذات مع العالم. بل إن موضوع التقدم بالزمان نتيجة للوهم والخيال وليس بناء على شهادة الحس أو أوائل العقل، تكشف عن البعد الوجداني الإنساني في الاستدلال.
إن أهمية هذه الأدلة في حقيقة الأمر ليست في أنها تثبت شيئا، بل لأنها تكشف عن عمليات شعورية، كيف يحاول العقل التعبير عن عواطف الإيمان. فالبراهين على وجود «الله» هي محاولات الشعور للاستدلال عقلا على وجود الذات المشخصة، محاولات عقلية خالصة يقوم بها الذهن لتبرير الموقف الشعوري وإعطاء أساس عقلي لعواطف التأليه، فالبراهين على وجود «الله» لا تثبت شيئا في الخارج، بل تكيف الشعور مع ذاته، ومحاولة الذهن إعطاء أساس نظري لعواطف التأليه. والاتجاه العقلي الخالص الذي استطاع أن يمتص كل عواطف التأليه في الصياغات العقلية لا يحتاج إلى صياغة أدلة لإثبات ذات مشخصة تكون بؤرة لعواطف التأليه تتجمع حولها الصفات في حين أن الاتجاه العقلي النسبي الذي لا يكون معادلا لعواطف التأليه يحتاج إلى مثل هذه الصياغات العقلية لصب ما تبقى من عواطف التأليه دون تصريف فعلي. الأول يمثله المعتزلة، لذلك لم يحتاجوا إلى صياغة براهين على وجود «الله»، والثاني يمثله الأشاعرة الذين كانوا بحاجة إلى صياغة مثل هذه البراهين. وكلما زادت العقلانية قد لا يحتاج الشعور إلى مثل هذه النقطة الثابتة، سواء كانت ذاتا أم فردا أو غيرا كي تتوقف حركة الشعور لديها، فالشعور في عملية التنزيه لا يتوقف مطلقا. حركة الشعور ذاتها هي الموضوع دون أي تدخل من العقل أو من الإرادة لتثبيت نقطة فيه. وفي هذه الحالة يكون موضوع التنزيه ماهية خالصة بلا ذات. وإذا أعطيت للماهية معنى الذات فإن موضوع التنزيه يكون بلا ماهية ولا ذات. بل إن حركة الشعور ذاتها وعملية التنزيه التي لا تتوقف رد فعل على التجسيم والتثبيت بالذهاب إلى الاتجاه المضاد. لقد استطاع الذهن صياغة عدة أدلة تقوم في الحقيقة على أساس انفعالي واحد وهو الانتقال من هذا العالم إلى عالم آخر، من الحس إلى العقل، من المادة إلى الصورة، من الحادث إلى القديم، من الممكن إلى الواجب، من المركب إلى البسيط ... إلخ. بناء على عاطفة التطهر، وأن الحق المطلق ليس من هذا العالم بل يسود عليه من فوقه، وهي لغة الجماعة المنتصرة أو الحاكم المتعالي. والباعث على هذه القسمة العقلية في الحقيقة تطهر ديني وليس نظرة علمية لظاهرة موجودة، أي أنها نوع من التعبير الإنشائي وليست فكرا خبريا، مهمتها تبخير العواطف والانفعالات وليس التحليل العلمي للواقع. وفي أسوأ الحالات، يعيش العقل على ذاته، ويتحول إلى ذات وموضوع في آن واحد حتى ينعدم الموضوع كتجربة حية في الشعور، وكأن الإنسان مع منطق خالص وينتهي الإحساس بالشيء. إن الاعتماد على القسمة العقلية والمحاجة بالأدلة تفقر الوجود، فالوجود أغنى بكثير من القسمة العقلية، وبالتالي يتحول الموضوع كله إلى مجرد جدل صوري فارغ يتبخر الموضوع فيه، فلا يوجد حينئذ إلا العقل الصوري، وكأننا بصدد موضوعات رياضية خالصة.
101
ويعترف المتكلم صراحة بأنه يستخدم الطبيعة من أجل إثبات وجود «الله» وليس لدراستها وتحليلها وفهمها على ما هي عليه من أجل السيطرة عليها واستخدامها والانتفاع بها في حياته العملية. الطبيعية لديه مجرد حامل لأفعال إرادة خارجية مشخصة، وتتلخص دراسة الطبيعة في البحث عن هذه الأفعال والاستدلال بها على فاعلها الأوحد. فهو استخدام رأسي للطبيعة، يذهب بها إلى ما بعد الطبيعة، وليس استخداما أفقيا للطبيعة يجعلها تاريخا حيا وعالما للإنسان يسكن فيه ويتصل مع الآخرين، ويحقق فيه رسالته. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أعلى كما أن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أسفل، فكل ما يصف به المتكلمون من حدوث للطبيعة إنما هو مقدمة للإلهيات الشائعة، وجود «الله»، الخلق من عدم. العالم حادث لأن «الله» قديم، والعرض في محل والجوهر في حيز لأن «الله» ليس في محل وغير متحيز. العالم فان لأن «الله» باق. العالم له أول لأن «الله» لا أول له. فكل ما يقال في وصف العالم إنما هي إلهيات مسبقة أو إلهيات مقلوبة بالرغم مما يبدو عليها من رؤى حية تعتمد على الحس والمشاهدة وأوليات العقل وبديهياته.
فإذا كان العقل قد انتهى إلى فراغ، والطبيعة إلى أنها إلهيات مقلوبة، يكون السؤال: هل هناك براهين نظرية على إثبات الذات أم أن البراهين عملية خالصة؟ إن براهين إثبات الذات إذا كان المقصود منها الذات الفردية فإنها ليست براهين نظرية بل تجارب وجدانية بديهية. الذات موجودة ومرادفة للشعور، والشعور هو الوعي بالذات، والوعي بالعالم، والوعي بالآخرين. وهذا هو الوعي الطبيعي الشرعي. أما إذا كان المقصود بالذات الذات الكلية، الحقيقة المطلقة، الوعي الشامل، فإن البراهين أيضا ليست براهين نظرية لإثبات حقائق شيئية، بل براهين عملية لتحقيق هذا الوعي المطلق في التاريخ والذي تحول على أيدي المتكلمين إلى وعي مشخص نتيجة لفقدان الوعي بالذات والوعي بالعالم، وحتى أصبح وعيا مزيفا. وهذا هو المقصود من ارتباط التوحيد عند القدماء بالمسائل العملية كالسياسة؛ لأن التوحيد مرتبط أشد الارتباط بمسائل تحقيق العقيدة والرسالة في التاريخ وليس بالموضوعات النظرية.
102 (7) هل يمكن العلم بالذات؟
قد يتصدر موضوع إمكانية العلم «بالله» مبحث الذات قبل الأدلة على وجود الصانع، وقد ينهي مبحث الذات. يمكن أن يأتي في البداية كسؤال عن إمكانية وصف الذات في ذاتها أو بالنسبة إلى غيرها في مظاهرها، وقد يأتي في النهاية كاستدراك.
103
وقد تظهر المسألة مع ذكر أوصاف الذات سواء قبل الحديث عنها أو بعدها. وقد تظهر أيضا كمسألة عن مبحث الماهية وإمكان معرفتها في نهاية مبحث الصفات والتساؤل عن عددها. وقد يتصدر مبحث الماهية مبحث الصفات بعد تقسيمها إلى سلبية وثبوتية، وتتصدر السلبية، فالصفات السلبية أول محاولة لإقامة بناء تصوري للذات عن طريق نفي صفات التشبيه مما يتضمن الإجابة من قبل باستحالة العلم بالذات.
104
وقد يلحق المبحث بالوجود كأول وصف للذات، وهو مبحث الماهية وإمكان معرفتها، وأنه ليس من البشر معرفة كنه «الله».
105
ولهذا السبب أيضا وضع في موضوع جواز الرؤية باعتبار أن الرؤية أحد مصادر العلم. فكلاهما مستحيل، الرؤية مستحيلة، والعلم بكنه «الله» مستحيل. ولكن لما كانت الرؤية أقرب إلى نفي المحل، فإنها وضعت في الاستحالة كأحد أحكام العقل الثلاثة. وكان يمكن أن يوضع إمكان العلم بالله أيضا في الاستحالة لولا أنه بدأ كمقدمة لوصف الذات أو كنهاية قد تدل على التقريب والمشاركة. والحقيقة أن هذا التساؤل الذي صدر به القدماء بحثهم عن الذات وأوصافها أو ختموا به بحثهم عن صفات الذات إنما يكشف عن رؤية علمية لجوهر الفكر الديني، وهو إلى أي حد يمكن اعتبار هذه الأوصاف والصفات تصف شيئا بالفعل في «الله»، أم أنها موقف إنساني خالص تقوم على قياس الغائب على الشاهد، وبالتالي قياس «الله» على الإنسان أوصافا وصفات؟ إلى أي حد يمكن اعتبار الإلهيات إلهيات بالفعل تصف موضوع «الله»، أم أنها إنسانيات مقلوبة تكشف عن ذات الإنسان؟ فإذا كان الاحتمال الأول هو الواقع يكون الفكر الديني قد أصاب موضوعه ورآه ووصل إليه وجودا ومعرفة. وإذا كان الاحتمال الثاني هو الواقع يكون الفكر الإنساني قد فرض نفسه وكشف عن جوهر الذات وهو أنها تخلق موضوعها عن ذاتها، فالموضوع هو الذات في مرحلة انعكاس الرؤية. وبالتالي يكون «الله» هو الذات التي تتحدث عن نفسها وتعلن عن وجودها للآخرين كمثال عندما يستحيل إثبات وجودها كواقع، فالاغتراب عن العالم هو بداية حديث الذات عن نفسها باعتبارها موضوعا، أي باعتبارها «إلها»، خارج العالم، ويكون الوعي بالعالم هو شرط حديث الذات عن نفسها باعتبارها ذاتا موجودا في العالم.
لذلك قسم القدماء الحديث إلى نوعين: الأول في وقوع العلم «بالله»، والثاني في جواز العلم «بالله»، والحديث عن وقوع سابق على الحديث عن الجواز، فحجة الواقع أبلغ من حجة الإمكان. وما دام الأمر أصبح واقعا، فإنه بالضرورة يصبح ممكنا. البداية هنا من الواقع إلى الفكر وليس من الفكر إلى الواقع، والبحث موجه نحو أشياء فعلية وليس عن افتراضات وهمية.
فمن حيث الوقوع يستحيل العلم «بإله»، وما قاله الفلاسفة أو المتكلمون أو الصوفية إنما هو نوع من التقريب، بلغة إنسانية، وبمفاهيم إنسانية، تعبيرا عن تجارب إنسانية في مواقف إنسانية.
106
وأن كل ما يقوله الإنسان عن «الله» إنما هو تقريب للأفهام، مرتبط باللغة وبالتجربة وبالموقف وبالعصر. وسيظل هناك باستمرار فارق بين الخطاب الديني والموضوع الديني لا يمكن عبوره بأي حال وإلا انتفى التعالي ذاته المعبر عنه بعبارة:
تعالى عما يصفون .
107
لا يمكن الحديث عن الله إذن إلا عن طريق التشبيه والتقريب، ولا يمكن الادعاء بأن الحديث عن الله مطابق لحقيقة الله. وقد استعمل القدماء في إثبات ذلك حججا نقلية عديدة مثل: «كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك»، وغيرها كثير من الكتاب والسنة والأثر، أو حججا عقلية تقوم على التفرقة بين الجوهر والأعراض. لا يمكن معرفة «الله» كجوهر، ولكن يمكن معرفة أعراض الجوهر أو تجلياته في العالم. وبلغة صوفية، لا يمكن معرفة «الله» بل يمكن فقط الاستدلال عليه من آياته في الكون.
108
ولا يقال إن «الله» ماهية لا يعلمها إلا هو، فذلك تحصيل حاصل؛ لأننا نتحدث هنا عن ماهية يمكن معرفتها، ونعلمها نحن.
109
فالوجود هو معرفتنا به، والشيء إدراكنا له، فالمعرفة شرط الوجود، والإدراك إثبات للشيء. ولا يعني ذلك أن «الله» سر لا يمكن معرفته كما هو الحال في المسيحية، سر لا حيلة للإنسان أمامه إلا الإيمان به؛ لأن «الله» مبدأ معرفي، ووظيفة ذهنية تجعل الإنسان قادرا على المعرفة وليس عاجزا عنها. «الله» باعتباره تعاليا يجعل الذهن في بحث مستمر عن الخالص والصوري، ويحميه من الوقوع في القطعية والمذهبية، أي في التوحيد بين اللفظ والمعنى، بين العبارة والدلالة، بين الصياغة والفكرة، بين الخطاب الديني والموضوع الديني. كما أنه مبدأ أنطولوجي يكشف عن الوجود كمطلب ويضع واجب الوجود كمقتضى في مقابل العدم، فالوجود هو الأساس والعدم طارئ عليه. وهو أيضا مبدأ أخلاقي يعبر عن تمثل الإنسان لمثل أعلى عاملا على تحقيقه، وكما عبر الأصوليون القدماء عن ذلك في وضع الشريعة للامتثال ووضعها للتكليف.
110
وهو مبدأ جمالي فني يجعل الإنسان قادرا بالصوت على إدراك العلم وجماليات اللغة التي تكشف عن المعاني وتحيل إلى الأشياء. وهو مبدأ اجتماعي يظهر في نظام اجتماعي وفي تكوين أمة. وهو قانون تاريخي يظهر من خلال مسار التاريخ وحركته. فبالرغم من أنه لا يمكن معرفته إلا أنه موجود كمبدأ عام، وظيفة معرفية، أو حقيقة أنطولوجية، أو قيمة أخلاقية، أو نظاما اجتماعيا أو قانونا تاريخيا. بالرغم من أنه لا يمكن معرفته ك «إله» إلا أنه يمكن التحقق من وجوده في الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية.
111
وهذا هو ما قصده القدماء بأن ما يعرف منه أعراض كالوجود أو سلوب بنفي التشبيه أو إضافات ونسبة. يعرف وجودا وليس كمعرفة، وهو خالص لا تشبيه فيه لأنه يعبر عن الوعي الخالص. ومع ذلك يشار إليه عن طريق التقريب واللغة والمشاركة، فلا يعرف إلا بالنسبة والإضافة ولا يعبر عنه إلا باستعارة الأسماء، ومن ثم يظهر قياس الغائب على الشاهد في التصور واللغة على السواء، كل الصفات إذن إما معلومة أو تقريبية. المعلوم هو الوجود وكيفياته، مثل الأزلية والأبدية، أي هناك واجب الوجود قديم وباق ثم صفات السلوب وهي نفي لا إثبات. أما صفات المعاني فهي إضافية أي بالنسبة إلى شيء آخر، تقريبية توضيحية. وبالتالي لا يكون عند البشر معرفة كنه «الله».
112
ويستشهد القدماء بالعلم الطبيعي في عدم معرفة كنه الضوء أو المغناطيس على استحالة معرفة كنه الذات وبعلم النفس على استحالة معرفة كنه النفس. أما معرفة الذات من الآثار فتلك هي الغاية من التوحيد بمعرفة الطبيعة. فالتوحيد توجه نحو الطبيعة أو فكرة موجهة للشعور نحو الطبيعة أو افتراض نظري تفسر على أساسه الظواهر الطبيعية. الوجود والكيفيات في «الله» تحيل إلى الجواهر والأعراض في الطبيعة، والسلوب والإضافة هما طريقا التنزيه والتشبيه في الحديث عن الوعي الخالص حرصا على التعالي والتقريب في نفس الوقت، وتمسكا بالمفارقة والحلول في آن واحد.
وقد أكد القدماء على ذلك أيضا لإثبات أن هذه المعارف كلها سواء الصفات السلبية (ما يستحيل على «الله») أو الصفات الإيجابية (ما يجب «لله») أو الصفات الجائزة (ما يجوز على «الله») كلها صفات تقريبية تكشف عن وقوع الشركة فيها بين الإنسان و«الله». هي كلها صفات إنسانية تقال على «الله» أو صفات «إلهية» تقال على الإنسان. ولما كان الإنسان على علم بنفسه دون غيره، فإنها تكون صفات إنسانية تقال على «الله» قياسا، عن طريق قياس الغائب على الشاهد أو إسقاطا عن طريق إسقاط ما في النفس على «الله» أو مجازا عن طريق اللغة. الإنسان عالم قادر حي، سميع بصير متكلم مريد بالحقيقة، و«الله» كذلك بالمجاز حرصا على التنزيه، وحفاظا على التعالي:
تعالى عما يصفون .
113 «الله» ليس موضوع إدراك حسي ولا إدراك شعوري نفسي ولا تصور عقلي، ومن ثم لا يمكن معرفته. ولا يمكن القول بأنها متصورة بدليل الحكم عليها بأنها غير متصورة؛ لأن الحكم بالنفي نفي للحكم وليس إثباتا له. وحتى ولو كانت متصورة نفيا فإن ذلك لا يعني أنها متصورة إيجابا. ويظل التصور الوحيد «لله» هو نفي التصور، وهو ما يعنيه التعالي أيضا في العبارة السابقة. وبالتالي يكون التصور الوحيد «لله» هو أنه غير قابل للتصور، سواء كان هذا النفي للتصور في عرف المناطقة تصورا أم غير تصور. إن معرفة وجوده شيء ومعرفة أوصافه وصفاته شيء آخر. إذ يمكن للإنسان أن يشعر بوجوده دون أن يتصوره، فالوجود سابق على المعرفة، والشيء سابق على تصوره.
114
وقد يذهب البعض درجة أكثر فينفي الوجود ذاته ويرفض اعتبار «الله» كائنا أو وجودا خالصا قائما بنفسه ويرده إلى مجرد إثبات لاسم لا إثباتا لواقع إمعانا في تحليل الشعور ومعرفة كيفية صياغات العبارات.
115
أما بالنسبة إلى جواز العلم «بالله»، فإن السؤال عن الإمكانية افتراض خالص لا يمكن الإجابة عليه إلا من خلال الواقع، والذي أعطى الإجابة بالاستحالة. ومع ذلك تستحيل إمكانية العلم «بالله» لأن «الله» لا يمكن أن يكون موضوعا في قضية حملية. «الله» طبقا للتعريف لا يحده حد، والحد لا بد له من جنس وفصل، والله ليس له جنس ولا فصل، وبالتالي استحال التعريف المنطقي.
116
لا يوجد إلا العلم عن طريق الرسم، أي التقريب والوصف الخارجي، وهو أقل يقينا من المعرفة عن طريق الحد. أما العلم الذي يقذفه «الله» تعالى في القلب فيتحول إلى علم ضروري وليس استدلاليا، فإنه علم ذاتي خالص، يحدث لفرد دون فرد. والعلم عن طريق الكشف والإلهام ليس من طرق العلم في أصول الدين التي أجمعت على النظر، ويخضع لنقد العلوم الكشفية مثل الفردية وغياب مقياس للصدق. ولا يمكن الحديث عن ذات «الله» مساوية لسائر الذوات أو مخالفة لها؛ لأنه لا يمكن معرفتها أصلا حتى يمكن الإجابة على السؤال.
117
وكل ما لدينا من أحوال أو صفات أو معان فكلها تقريبية مشتركة. ولا يمكن الحديث عن ماهية الله معراة عن الوجود أو عن الوجود معرى عن الصفات. فالقول بأن ماهية الله غير مركبة لأن التركيب يعني افتقارها إلى أجزائها وبالتالي تكون ممكنة أيضا هو قول تشبيهي يقوم على أن الكل أفضل من الجزء، وأن الجزء يقوم بالكل. والماهية المعراة عن الوجود والعدم لا يعقل إمكانها. لا يوصف «الله» بالماهية لأنها تعني المجانسة للأشياء؛ ولأنها توجب المجانسات بفصول مقدمة فيلزم التركيب. أما السؤال عن الحقيقة دون وصف، فإن أقصى ما يمكن معرفته هو بيان حدود اللغة، وأن الجنس هو الجنس اللغوي لا المنطقي، أي بيان أنه لا يمكن وصف ذات بشيء ذات، إنما كل شيء تقريب ومشاركة.
118
ولا يمكن أن تكون ماهية الله عين وجوده كما هو الحال عند الفلاسفة، فالوجود ليس الماهية، ولا يمكن وصفه بأنه متقيد بأنه غير عرض للماهية ف «الله» هو الوجود المطلق.
119
كما أن ذلك يتنافى مع قول الفلاسفة عامة بأن حقيقته غير معلومة للخلق. كما أن التعريف سلبي لأنه يقوم على غير التقيد أو على القيد السلبي، ولا يمكن تعريف الشيء سلبا فحسب، فذلك جمع بين المعرفة والجهل في آن واحد. وفي هذه الحالة لا يفترق عن باقي الوجود المجرد من الماهية. ولا يمكن تصوره بالبداهة، ولا يمكن حده لأن الحد يقتضي التركيب، و«الله» ليس مركبا. ولا يمكن معرفة الماهية إلا بذكر خواصها، ولا يمكن حصر الخواص. وكل الخواص تقريب من الإنسان وتقع فيها المشاركة. فإذا قيل الوجود كما تقول الفلاسفة فلا بد من معرفة صفاته، وبالتالي يكون الأسلم موقف المتكلمين، إذ لا يمكن معرفة شيء من وجوده، فالوجود أيضا اشتراك؛ لذلك فضل المعتزلة القول بأن «الله» لا ماهية له؛ إذ لا تخلو الماهية من أن تكون هي الله، أو تكون غيره. فإن كانت غيره والماهية لم تزل فلم يزل مع «الله» غيره وهذا شرك. وإن كانت هو هي وكنا لا نعلمها، فنحن لا نعلم «الله»، والجهل كفر. ولو كانت له ماهية لكانت له كيفية، وهذا تشبيه.
120
ويفضل الفقهاء القول بأن لله ماهية هي أنيته نفسها، وأنه لا جواب لمن سأل ما هو الباري إلا ما أجاب به موسى فرعون. الجواب ليس لدينا ولا عند «الله». ومع ذلك فمن أبطل الماهية فقد أبطل حقيقة الشيء. ولكن أولى مراتب الإثبات الأنية، إثبات جود الشيء فقط. وفي غير الله اختلفت الأنية عن الماهية لاختلاف الأعراض في المسئول عنه. ونحن لا نعلم عنه إلا ما أخبر به هو عن نفسه.
121
والحقيقة أن القول بأن له ماهية هي أنيته تحصيل حاصل، فالماهية هي الأنية والمطلوب معرفة ما الأنية. ولا يمكن أن تكون هي الماهية وإلا وقعنا في الدور. ولا يمكن القول بأن «الله» قد وصف نفسه بهذه الصفات في كلامه، في الوحي، وأن الإنسان إنما يصف الله بصفات وصف «الله» نفسه بها وبالتالي تستحيل وقوع الشركة؛ وذلك لأن كلام «الله» عن نفسه مختلف عن كلام الإنسان عن «الله» مستعملا كلامه عن نفسه. «الله» من حقه الحديث عن نفسه ولكن الإنسان ليس من حقه الحديث عن الله حتى ولو استعمل حديث «الله» عن نفسه، وإلا أخذ الإنسان موقف «الله». وفي هذا تجاوز لموقف الإنسان وزحزحة «لله» عن موقعه، كما أن كلام «الله» عن نفسه واصفا إياها إنما هو خطاب للإنسان، بصفات إنسانية على وجه التقريب، وبلغة إنسانية. لقد استعمل «الله» أيضا التقريب للأفهام، وبالتالي كان الوحي لغة إنسانية يتحدث بها «الله» لتفهيم الإنسان. فالشركة واقعة من داخل الوحي بغرض الإفهام والتقريب إلى الذهن، وما كان «الله» ليتحدث عن نفسه مباشرة كاشفا نفسه حتى يراها الإنسان مباشرة ودون لغة.
122
وما دام الإنسان قد أعاد قراءة حديث «الله» عن نفسه واصفا إياها، فإنه لا يوجد ضامن أنه يفهم هذا الوصف تماما كما قصده «الله». إذ يخضع استعماله لوصف الله لنفسه في الوحي لقواعد التفسير وأصول التأويل. وعادة ما يستعمله الإنسان لحسابه الخاص، بتجاربه وفهمه ومعانيه. ولا يوجد أي ضمان للتوحيد بين هذا الفهم وقصد «الله». إن الغاية من حديث «الله» في الوحي ليست وصف ذات «الله»، بل سعادة الإنسان ورفاهيته في هذه الدنيا، فإن قصد «الله» هو الإنسان، وبالتالي يكون حديث الإنسان عن «الله» ذاتا وصفات وأفعالا إنما هو قلب لقصد «الله» من الوحي، وتغيير لهذا القصد من الإنسان إلى «الله»، فإذا كان «الله» لم يأخذ ذاته موضوعا للحديث فكيف يأخذ الإنسان «الله» موضوعا لكلامه؟ إن وصف «الله» نفسه ذاتا وصفات وأفعالا إنما القصد منه إظهار البعد المبدئي المثالي في شعور الإنسان. فذات «الله» إنما هو الوعي الخالص، وصفاته إنما هي مجموعة المبادئ التي تنظمها الذات في إطار معرفي خالص. والأفعال إنما هي تحقق هذا الوعي المبدئي في التاريخ. وبالتالي لا تشير الذات والصفات والأفعال إلى كائن مشخص يعرف كل شيء، وقادر على كل شيء، بل تشير إلى هذا البعد النظري والعملي في الشعور الإنساني.
وفي الحركات الإصلاحية الحديثة بدأت الدعوة إلى العود إلى الأشياء من جديد، والتأمل في الآثار والآيات في العالم وليس في كنه الذات.
123
ولكن ليس السبب في ذلك قصور العقول عن معرفة كنه الأشياء، بل العود إلى العالم واكتشاف قوانينه والقضاء على الاغتراب، وتحويل النظرة إلى خارج العالم دون تشخيص للحقائق. فالحديث عن «الله» يبرز عندما يتوقف الحديث عن العالم، وتشخيص الحقائق يبدأ عندما يعجز الإنسان بعقله عن فهم معانيها المستقلة وبإرادته عن تغييرها وتنظيمها وتوجيهها والسيطرة عليها. السؤال عن ماهية «الله» إذن يدل على وعي مغترب في العالم، وهو الوعي المزيف، في حين أن العود إلى العالم يكشف عن الوعي بالعالم، وهو الوعي الصحيح. إنه لا يكفي إنكار الماهية كما تفعل المعتزلة أو تحريم النظر في ذات «الله» كما يفعل الفقهاء، بل لا بد من بيان سبب هذا الإنكار وعلة هذا التحريم. ومتى يظهر السؤال عن ذات «الله» وفي أي ظروف اجتماعية وسياسية يتم مثل هذا التساؤل النظري الخالص، خاصة وأن لفظ «ذات» في الوحي يشير إلى مضمون الوعي كما يعبر عن الاتجاه والحركة في المجتمع أو عن لب الأشياء وجوهرها الحسي بعيدا كل البعد عن السؤال النظري لوعي مغترب.
124
ثانيا: أوصاف الذات وصفاتها
وبعد إثبات الذات يبدأ وصفها، فيرتبط بسؤال إمكانية العلم بالذات سؤال آخر وهو أخص وصف تتميز به الذات، وهل هناك صفات أخرى لا نعلمها إذا ما تم حصر الصفات؟ فعلى فرض إمكانية العلم بالذات عن طريق آثارها التي تدل عليها فهل يمكن ابتداء من هذه الآثار وصف الذات في نفسها أو في غيرها أو في أفعالها؟ وهنا يظهر موضوع الصفات الذي أصبح لب التوحيد. ثم تمايزت الصفات عن الأوصاف بعد حصرها وتصنيفها إلى نفسية ومعنوية، سلبية وثبوتية. وعلى الرغم من أنها كلها تقريبا إنسانية وتشبيهات وقياس للغائب على الشاهد. ماذا تعني صفة؟ هل الصفة شيء؟ هنا يظهر الحس من جديد ويفرض نفسه على التنزيه. فإذا كان التنزيه قد استطاع أن يتخلى عن كل مظهر من مظاهر التشخيص حتى ولو كان ذاتا أو فردا أو غيرا، فإنه يضعف أمام الحس الذي يجعل الصفة شيئا.
1
أما إذا اجتمعت الصفات فقد لا تكون بالضرورة أشياء؛ لأن المجموع يعطي كلا جديدا يستطيع أن يتجاوز الصفة المفردة بصفته، وهي عملية شعورية ثانية يكون بها الكل أقوى من الجزء. ولا يمكن أن تكون الصفة إلا شيئا ما دامت تصف ذاتا موجودة. فالشيء موجود والموجود شيء. ولما كان وصف الصفة بالشيء يوحي بالشيئية المرفوضة في التجسيم فهل تكون الصفة معنى؟ المعنى أقرب التصورات إلى التنزيه لأن الشيء يوحي بالجسمية، فالأجسام وحدها هي الأشياء في حين أن المعنى مشخص بل دلالة خاصة.
2
ولما كان المعنى مجردا ذاتيا والذات حسية موضوعية لم يوف المعنى كل حق الصفة. فإذا لم تكن الصفة شيئا أو معنى فهل هي اسم؟ وماذا يعني اسم؟ الاسم هو اختيار إنساني للفظ من اللغة العادية للتعبير به عن مضمون شعوري أو للإشارة به إلى شيء موجود في الواقع إذا تم الاتفاق على ربط هذا الاسم بهذا المسمى. وعلى هذا النحو يكون التوحيد بين الأسماء والصفات انتقال من اللغة إلى الشيء بلا برهان أو من الذات إلى الموضوع دون اتفاق مسبق على تطابق هذه الأسماء مع تلك المسميات.
3
فليس كل عالم عالما بالضرورة لمجرد تسميته باسم عالم، وكل قادر لا يكون قادرا بالضرورة من مجرد تسميته قادرا. هذه المعاني الثلاث لكلمة صفة كأنما تكشف عن صعوبة وصف الذات التي لا يمكن العلم بها. وماذا يعني وصفها بصفات تقريبية؟ هل هذه الصفات تدل على أشياء بالفعل أم تشير إلى مجرد معاني ذهنية لا توجد في الأعيان أم هي مجرد أسماء وألفاظ من اللغة للتعبير بها عن مضمون شعوري وموقف إنساني خالص في ظرف اجتماعي وسياسي معين كنوع من الإبداع الشعري أو الفكري؟ (1) تداخل الأوصاف والصفات
ويميز القدماء بين الوصف والصفة. فالوصف للذات والصفة لآثارها ومتعلقاتها، الوصف لا لمعنى في حين أن الصفة لمعنى، الوصف للوجود والصفة نفي أو إثبات. الوصف للنفس والصفة للمعنى، ومع ذلك يصعب التمييز بين أوصاف الذات وصفاتها. بعض الأوصاف تدخل في الصفات، وبعض الصفات تدخل في الأوصاف، فيتداخلان معا مثل تداخل دليل الوجود (وصف الوجود) وانتفاء الجسمية (وصف القيام بالنفس) مع الصفات المعنوية السبعة.
4
وقد تتداخل بعض أوصاف الذات في مضمون الإيمان مع صفاتها (الواحد، الموجود، الأول، القديم) دون فصل بين أوصاف الذات وصفاتها، والتعرض لمسائل المشابهة والمماثلة والجهة دون التعبير عنها بمقولاتها الخاصة وهي المخالفة للحوادث والقيام بالنفس، بل الاكتفاء بالحديث عن الاستواء وسائر الصفات الحسية المتنازع عليها.
5
وقد تذكر أوصاف الذات مختلطة بالصفات دون وعي تصوري بالتمييز بينها (قديم، موجود، واحد، شيء، نفس)، ورفض التشبيه: (النور، اليد، الساق، الأصبع، المجيء، الذهاب، النزول، الجسم، الاستواء على العرش، المكان، الرؤية)، وعدم استقرار إحصاء الصفات بعد، وإدخال المتفق عليها (ست أوصاف للذات وسبع لصفاتها) مع المتنازع عليها.
6
وقد تدخل أوصاف الذات كجزء من إعلان النوايا والتعبير عن بناء الشعور الإيماني، وكأنها جزء من العقائد دون أية قسمة نظرية إلى أوصاف وصفات ودون أي بناء نظري للذات. وتعتمد هذه العواطف الإيمانية على الشواهد النقلية والآيات القرآنية.
7
وفي شرح أصل التوحيد، تذكر بعض أوصاف الذات دون ذكر لها مثل الوحدانية، والتنزيه، وإنكار الرؤية، والقدم، ودون إحصاء لها أو للصفات دون بناء عقلي محكم حتى عند النزعات العقلية.
8
وقد لا تذكر المسألة كلية، مسألة الذات والصفات ولكن تذكر النظريات العامة مثل التوحيد، ويذكر فيه وصف الواحد، وإبطال التشبيه، ورفض جميع صوره كإثبات الصور والجهة وجعل «الله» محلا للحوادث، والحديث عن الجهة والقيام بالنفس والدخول والخروج.
9
وقد تأتي الأوصاف والصفات في صيغة مسائل، فتظهر أوصاف الذات دون تمييز بينها وبين الصفات. وتظهر دون إحصاء (اثني عشر)، ولا يراعى الترتيب. فيأتي الوجود بعد القدم والبقاء. وتضاف أوصاف مثل إضافة الشيء إلى الوجود، ويفصل بين الحلول والاتحاد، الأول ضد النصارى والثاني ضد الصوفية. ويعاد القدم للذات وللصفات (ضد الكرامية). ثم تظهر نفس الصفات الحسية (الألوان والروائح والطعوم) والانفعالية (اللذة والألم) مما يكشف عن عنصر التشبيه الوجداني.
10
ويتم المزج بين أوصاف الذات وصفاتها عند المتقدمين والمتأخرين على حد سواء.
11
ففي مصنفات العقائد المتأخرة يخلط بين أوصاف الذات وصفاتها، ولا يتم حصرها أو إحصاؤها، ومع ذلك يمكن التمييز بينها. فتتداخل أوصاف الواحد والقديم مع الصفات المعنوية السبع على أنها صفات أفعال، ثم تتلوها صفات السلوب دون إحصاء أو عد مع أنها تبلغ الأربع عشرة صفة، تتلوها الصفات السبع من جديد، ثم يأتي جواز الرؤية في النهاية.
12
وقد تذكر الصفات بلا إحصاء أو تقنين، وأهمها القدم والوجود والكمال، تتخللها الصفات المعنوية السبعة، ثم تأتي أوصاف السلب وتنزيه الذات من النقائص كالشبه والمثل والشريك والظهير والحلول والحدوث والاتحاد والجوهر والعرض والجسم الحيز والجهة والحركة والانتقال. وتنتفي عنه أيضا مضادات الصفات المعنوية السبعة كالجهل والكذب، ثم تأتي الرؤية في النهاية. وبعد الأفعال تظهر أوصاف الذات من جديد على أنها واحدة. فالذات غير متبعض ولا متجزأ، ولا حد له، ولا نهاية له من أجل التركيز على وحدة الذات مع أوصافها وصفاتها.
13
كل ذلك يدل على أمرين: الأول أن التمايز بين الأوصاف والصفات إنما نشأ متأخرا. أما في البداية فقد كانت كلها محاولات لوصف الذات . ثانيا: أن التمييز بين أنواعها وتصنيفها ثم عدها وإحصاءها لم يستقر إلا متأخرا، مما يدل على أن البداية كانت مجرد محاولات واجتهادات صرفة قبل أن يظهر البناء العقلي المحكم نتيجة للتطور ولتعدد الاجتهادات. (2) تبادل الصدارة بين الأوصاف والصفات
ويصعب أيضا إيجاد علاقة متوازنة بين الأوصاف والصفات. فأحيانا تكون الصدارة للأوصاف على الصفات فتكون الأوصاف هي الغالبة، وأحيانا أخرى تكون الصدارة للصفات على الأوصاف فتكون الصفات هي الغالبة. ففي صدارة الأوصاف على الصفات تبدو الأوصاف أهم من الصفات بكثير، خاصة في مضادات الأوصاف من تشبيه وتجسيم وثنوية، وكأن الصفات مشكلة تالية للأوصاف وذلك لنقص النظريات المعارضة فيها.
14
ولأول مرة تذكر أوصاف الذات في معرض نفي التأليه والتجسيم والتشبيه دون ذكر براهين إيجابية عليها إلا من نهايات دليل الحدوث في أن الحوادث لا بد لها من محدث أو أن صانع الحوادث أحدثها من لا شيء وذلك في باب «معرفة الصانع ومعرفة نعوته الذاتية». فسميت أوصاف الذات النعوت الذاتية في مقابل الصفات المعنوية السبعة وهي الصفات القائمة بالإله. وتظهر أو صفات الذات بلا إحصاء أو ترتيب (القدم، الوجود، القيام بالنفس، الوحدانية، المخالفة للحوادث). لا يوجد عدد محدد لأوصاف الذات، ولكنها تتداخل مع صفاتها. فالبقاء مثلا يدخل مع الصفات المعنوية مع بقاء الصفات، ويشك في صفة القدم.
15
وقد يتركز الموضوع كله في تنزيه الله عن الجسمية بعد مقدمات ثلاث لإثبات الوجود ونفي الجسمية عنه، ويدخل فيها نفي الحيز والجهة، وفي تأويل المتشابهات لنفي الجسمية. وفي تقرير مذهب السلف أيضا تنفى الجسمية والتشبيه، ويدخل في ذلك نفي اليد والعين ... إلخ. أو الانفعالات كالفرح والحياء ... إلخ. ولا تظهر من أوصاف الذات إلا النفس على معنى التشبيه.
16
وفي معرض النظريات والتصورات المخالفة تظهر أوصاف الذات بطريق الضد. فبنفي التشبيه يذكر استحالة كونه جسما، وتقدسه عن الجهات والمحاذيات، واستحالة كونه عرضا، واستحالة كونه جوهرا، وتأويل آيات التشبيه والتجسيم، وإثبات الواحد، وإثبات القديم مع القدرة والعلم والحياة.
17
ويزداد ذكر أوصاف الذات في المؤلفات المتأخرة بعد القرن الخامس، وكأن مشكلة الصفات هي التي عمت التوحيد في القرون الأولى ردا للتشبيه والتجسيم، فلما انتصر التنزيه ظهرت أوصاف الذات. وقد تذكر أوصاف الذات، القدم، بعد تقسيم العالم إلى محدث وقديم ثم الوجود ثم الواحد، وأنه شيء، وأنه نفس، وأن له يدا وأصابع وساقا، ولا يجوز وصفه بالمجيء أو النزول. ويذكر الاستواء ونفي المكان وإثبات الرؤية، ويذكر كل ذلك دون بناء نظري أو تصوري.
18
وفي بعض الموسوعات المتأخرة لا تظهر مسألة الصفات على الإطلاق في حين تظهر الأوصاف. ولا تظهر إلا بعض المسائل النظرية من مقدمات الصفات كالصفة والموصوف والعلة والمعلول والوحدة والكثرة مما يوحي بأننا ما زلنا بصدد الأمور الاعتبارية، في عالم الأذهان، ولم نخرج بعد إلى عالم الأعيان.
19
وقد لا تظهر الصفات إلا مرة واحدة عرضا في نطاق ذكر صفات التشبيه إلا القرآن.
20
وفي صدارة الصفات على الأوصاف تذكر صفات الذات قبل أوصافها، مما يدل على تراجع أهمية الأوصاف وتصدر الصفات. وتغلب صفة الوحدانية على غيرها في باب مستقل، وتكون أول الأوصاف. ثم يأتي إبطال التشبيه تحت أحكام العقل الثلاثة، وفي إبطال التشبيه تدخل المخالفة للحوادث.
21
وعندما تتصدر مباحث التوحيد أدلة إثبات الصانع تأتي صفة الوحدانية وأدلتها ثم تأتي الصفات السبع دون إحصاء كذلك. تتصدر الصفات على الأوصاف، وتأتي الأوصاف بطريق إنشائي تعبر عن الكمال دون بناء نظري أو تصور محكم مثل الكمال وتنزهه عن النقص، وعدم كونه جسما وجوهرا وعرضا وفي مكان وفي جهة، وعدم اتصافه بالكيفيات المحسوسة، وتنزهه عن الاتحاد والحلول، وتنزهه عن الزمان وعن الحدوث وعن الأولية والآخرية. ويذكر البقاء والقدم من الصفات المختلف فيها مع التكوين وتنتهي بالرؤية. وعلى هذا النحو سارت الدراسات الثانوية للمعاصرين، فجاءت أوصاف الذات بعد صفاتها، وغلب عليها التقسيم حسب الفرق أو الأشخاص وليس حسب الموضوعات.
22
وفي المصنفات الاعتزالية تتصدر الصفات الأوصاف دون إحصاء لها. تشرح الأوصاف وتحلل دون عد وذلك يدخل في علوم التوحيد. يظهر الوجود مع الصفات الخمس «إذ إن الكلام والإرادة داخلان في العدل». وفي الأضداد يذكر العدم، وهو ما يستحيل عليه. ويذكر الواحد في فصل مستقل ويرد فيه على النصارى. كما تذكر صفات السلوب التي يجب نفيها عن الإله مثل نفي الحاجة والجسمية والعرض والرؤية. ويذكر البقاء مع القدم دون أن يكون صفة خاصة.
23
وقد لا تذكر أوصاف الذات لاعتراضات على وصف الوصف والنعت والصفة، ولكن ينفي التشبيه والجسمية والحركة والمكان والجوهر والعرض، ويوضح معاني المكان والاستواء، ونفي الأسماء والصفات غير التوقيفية كالقديم، والتوحيد بين النفس والذات على أنهما الأمر والخبر، وإثبات الماهية على أنها أنية، وإعادة تأويل الوجه واليد والعين والجنب والقدم والأصبع والنزول والرؤية، وإثبات الواحد إثباتا إنشائيا لا تصوريا.
24
والسؤال الآن: هل تكشف الاعتراضات على اللغة والمصطلحات والألفاظ عن اعتراضات جوهرية على تصورات التوحيد ووصف الذات على هذا النحو وعلى إمكانية العلم بها؟ هل اللغة موضوعة يمكن تغييرها؟ هل هي تقريبية ظنية لا تلغي المسافة بينها وبين المعاني والمدلولات؟ (3) تصنيف الأوصاف والصفات
ويبدو أن التمييز بين الأوصاف والصفات إنما كان في حد ذاته بداية لتصنيفها جميعا، فالأوصاف ليست لمعاني في حين أن الصفات لمعاني، وكأن الوصف هو الشيء والصفات هي مظاهره، أو أن الوصف هو الجوهر والصفات هي الأعراض، علاقة حامل بمحمول. والسؤال الآن: كيف يتخلى علم أصول الدين بعد تأسيسه لنظرية العلم التي تقوم على وجوب النظر وأوائل العقول عن المعنى ويجعل الأوصاف موضوعة لا لمعنى؟
ثم انتقل التصنيف إلى صفات نفسية وصفات معنوية، الأولى أوصاف والثانية صفات، وهي أولى المحاولات المستقرة لتصنيف الصفات. الصفات النفسية هي أوصاف الذات في نفسها، بينما الصفات المعنوية هي صفات الذات في علاقتها بالغير. الأولى صفات لازمة للنفس دون تعليل بعلل قائمة فيها، في حين أن الثانية أحكام ثابتة للذات المعلل بعلل قائمة بها.
25
وكلاهما يجب «لله»، الأولى مثل عدم التحيز، والثانية مثل العلم. وتسمى الصفات النفسية أحيانا الصفات الوجودية، أي المتعلقة بوجود الذات.
26
وقد كان إثبات الصفات المعنوية خطوة متوسطة بين الذات الخالية من الصفات وإثبات صفات التشبيه، وتسمى الصفات القائمة بالإله في مقابل أوصاف الصانع في ذاته .
27
والسؤال الآن: كيف يتم استبعاد مبحث العلة والمعلول من الصفات النفسية وتبقى غير معللة فيبطل التعليل؟ يبدو أن علم أصول الدين يبدأ في التنازل عن بعض مقدماته النظرية، سواء في نظرية العلم أم في نظرية الوجود، تاركا الأحكام النظرية إلى سيادة الإيمان التقليدي.
ثم يتحول التصنيف لأول مرة في القرن السادس إلى صفات سلبية وصفات ثبوتية. السلبية هي أوصاف الذات الست، والثبوتية هي صفاتها السبع. الصفات السلبية تنفي التشبيه والتجسيم، والصفات الثبوتية التنزيه. وقد يتم ضم التصنيفين السابقين معا وتسمى الصفة الأولى، وهي الوجود، نفسية، والصفات الخمس الأخرى سلبية، مما يدل على أن الوجود تجربة نفسية وأن الصفات الخمس الأخرى تتحدد سلبا وليس فقط المخالفة للحوادث، فالقدم ضد الحدوث، والبقاء ضد الفناء، والقيام بالنفس ضد ليس في محل، والوحدانية ضد الشرك والتعدد. بل إن الصفة النفسية الأولى وهي صفة الوجود هي أيضا نفي للضد وهو العدم.
28
وعلى هذا النحو يمكن الانتهاء إلى أن أوصاف الذات الست كلها سلبية، وأنه لا توجد أية صفة ثبوتية يمكن وصف الذات بها، وبالتالي لا يمكن الحديث عن «الله» إلا سلبا.
29
ويكون النفي أساس الإثبات، ليس فقط على مستوى الألفاظ والقضايا، أي على مستوى اللغة والخطاب، ولكن أيضا كموقف إنساني وكتجربة بشرية تعبر عن وضع الإنسان في العالم ووعيه به وفعله فيه نجاحا أم فشلا، وفي حقيقة الأمر أن هذه الصفات كلها بأنواعها الوجودية والثبوتية والسلبية النافية كلها تقريبية، محاولات للذهن الإنساني أن يصف ما لا يمكن العلم به وهو الذات، بل إن بعض الصفات السلبية تكشف الجانب الإنساني الإرادي الحسي الخالص، مثل استحالة اللذة والألم والطعوم والروائح. كل هذه الأوصاف من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج.
30
تعبر عن مواقف في اللغة، كما أنها تكشف عن وضع نفسي اجتماعي للوعي بالذات وبالعالم يقوم على التعظيم والتبجيل للحق الضائع وللإمام الغائب. (4) إحصاء الصفات
وتطلق الصفات أحيانا بالتغليب على الصفات والأوصاف معا، ولم يستقر إحصاء الأوصاف والصفات في ست إلا في مرحلة اكتمال بناء العلم في القرنين السابع والثامن، بل واستمر الخلاف في العد والإحصاء حتى العقائد المتأخرة التي انتظمت في أحكام العقل الثلاثة. فمع قسمة الصفات إلى نفسية ومعنوية، الأولى للذات والثانية للصفات لم يظهر إحصاء تام للأولى، ولكن يذكر الوجود باستحالة العدم، والقدم، والقيام بالنفس، والمخالفة للحوادث (ويدخل فيها ما يستحيل اتصاف الله به: في أنه ليس جسما، وعدم قبول الأعراض، واستحالة كونه جوهرا)، والوحدانية، وهي خمس صفات. أما البقاء وهي الصفة السادسة كما ظهرت عند المتأخرين فتدخل ضمن الصفات المعنوية.
31
وقد تظهر الصفات السلبية بلا عدد أو إحصاء ست صفات: نفي التحيز، والحلول، والجهة، وقيام الحوادث، واستحالة اللذة والألم، واستحالة الطعوم والروائح. وتأتي صفة البقاء بعد الصفات الثبوتية، وتأتي صفة الرؤية في نهاية المطاف وبعدها صفة الواحدية فيكون المجموع ثماني صفات.
32
ولم يبدأ الإحصاء إلا منذ القرن الخامس فتظهر الصفات على أنها عشرة، خمس إيجابية: الوجود، والقدم، والبقاء، والرؤية، والوحدانية، وخمس سلبية: ليس بجوهر، ليس بجسم، ليس بعرض، ليس له جهة مخصوصة، منزه عن العرش، ودون فصل نظري بين الإيجاب والسلب. وقد أبقى فيما بعد على الصفات الثلاث الأولى، الوجود والقدم والبقاء، وضمت الصفات الثلاث التالية: ليس بجوهر، وليس بجسم، وليس بعرض في صفة رابعة واحدة هي المخالفة للحوادث. كما ضمت الصفتان: ليس له جهة ومنزه عن الاستقرار على العرش في صفة واحدة خامسة، القيام بالنفس. وأبقى على الصفة السادسة، الوحدانية، بعد إدخال الرؤية في الجواز.
33
ويستمر الوضع كذلك في القرنين السادس والسابع فتجعل أوصاف الذات في التنزيهات في خمسة أوصاف: نفي المماثلة والجسمية مع الجهة والاتحاد مع الحلول والقيام بالحوادث والأعراض المحسوسة. ثم يظهر التوحيد في صفة مستقلة لأهميتها. ثم يظهر البقاء كوصف مختلف عليه، ويوضع مع صفات التشبيه كالسمع والبصر والكلام وغيرها مثل الاستواء واليد والوجه والعين، ثم تذكر الرؤية في هذا النطاق.
34
وفي القرن الثامن حيث يكتمل العلم تم قسمة الصفات إلى سلبية ووجودية. يدخل الوجود ضمن دليل الحدوث والإمكان، وتوضع صفتا القدم والبقاء مع الصفات المتنازع عليها كصفات التشبيه والاستواء واليد ... إلخ. وتذكر مقدمتان للذات عن مخالفتها لسائر الذوات وعن صلة الوجود بالماهية، ثم يأتي التنزيه في سبعة أوصاف: نفي الجهة والمكان ونفي الجسم، ونفي الجوهر والعرض، ونفي الزمان، ونفي الاتحاد للذات والحلول للصفات، ونفي الحدوث عن الذات، ونفي الأعراض المحسوسة. ثم تأتي صفة الوحدانية منفردة في باب مستقل. وبعد الصفات السبع التي تسمى وجودية تأتي الرؤية في موضوع آخر وبعدها العلم بحقيقة الله في الجواز.
35
وأخيرا ينتظم الوصف كله تصنيفا وإحصاء وعدا عندما تظهر أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والاستحالة، والإمكان، وبتعبير آخر الضرورة والامتناع والجواز. فكل الأوصاف المستحيلة مثل التجسيم والتشبيه والتعطيل تدخل في حكم الاستحالة، وكل الصفات مثل العلم والقدرة والحياة ... إلخ تدخل في حكم الوجوب. وكل الصفات مثل الرؤية والماهية تدخل في حكم الإمكان. وظل الأمر كذلك حتى العصر الحاضر.
36
فالواجب «لله» عشرون صفة. أوصاف الذات الست، هي: الوجود، القدم، البقاء، المخالفة للحوادث، القيام بالنفس، الوحدانية. وأوصاف الذات السبع مرة اسم فاعل (عالم، قادر، حي، سميع، بصير، متكلم، مريد)، ومرة كاسم فعل (علم، قدرة، حياة، سمع، بصر، كلام، إرادة). فهي سبعة مضروبة في اثنين (عالم يعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة).
37
وقد يكون الواجب «لله» ثلاث عشرة صفة، ستة أوصاف للذات وأضدادها وصفة الجواز، جواز الفعل والترك.
38
وقد تنقسم الواجبات العشرون إلى أربعة أنواع من الصفات: نفسية لأنها تدل على نفس الذات، وسلبية لأن كل واحدة دلت على سلب لا يليق بأمر «الله»، ومعان لأن كل واحدة لها معنى، وهو وجه قائم بذات الله، ومعنوية لأنها فرع من المعاني. الصفة النفسية واحدة وهي الوجود، والسلبية خمس: القدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، والقيام بالنفس، والوحدانية. والمعاني سبع: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. والمعنوية سبع: كونه قادرا، مريدا، عالما، حيا، سميعا، بصيرا، متكلما.
39
والمستحيل في «الله» عشرون صفة، هي أضداد صفات الوجوب بالرغم من وجود بعض أوصاف الذات سلبا من قبل مثل المخالفة للحوادث. ست منها لأوصاف الذات ، وهي: استحالة العدم، والحدوث، والفناء، والمشابهة للحوادث، والقيام في محل، والشرك والتعدد. وسبع منها للصفات كاسم فاعل، وهي استحالة أن يكون جاهلا، عاجزا، ميتا، أصم، أعمى، أبكم، مغرضا. وسبع منها للصفات كأسماء، وهي: استحالة الجهل، والعجز، والموت، والصمم، والعمى، والبكم، والهوى. فهي أيضا سبعة مضروبة في اثنين، فيستحيل أن يكون جاهلا بجهل، عاجزا بعجز، ميتا بموت، أصم بصمم، أعمى بعمى، أبكم ببكم، مغرضا بهوى.
40
والجواز «لله» أمر واحد هي الرؤية. ولما كان الجواز يعني الوجوب أو الاستحالة، فليس له ضد، ولا ينقسم إلى اسم فاعل وإلى اسم فعل.
41
وقد يأتي موضوع العدل مع الرؤية في الجواز.
42
ولكن في العقائد المتأخرة تسقط الرؤية ويوضع بدلها جواز الفعل والترك، وهو موضوع العدل أو ما تبقى من نظرية الأفعال، ولا تظهر إلا كمشكلة من مشاكل التوحيد الأربع أو كجزاء لأصحاب العقيدة.
43
ومع الجواز تظهر صفة العرش مع الأخرويات، لا لاحتياجها، بل للإيمان بها.
44
وقد طبقت أحكام العقل الثلاثة في العقائد المتأخرة، ليس فقط على قطبها الأول، وهو «الله»، بل أيضا على قطبها الثاني، وهو الرسول. فوجبت له أربع صفات، واستحالت عليه أربع صفات، وجازت له صفة واحدة. وبالتالي يكون على المسلم أن يؤمن بخمسين عقيدة، واحدا وأربعين في الله، وتسعا في الرسول.
45
وقد ينشأ الخلاف في العقائد حول الرسول، وتقل من تسع إلى سبع، ويكون المجموع ثمانيا وأربعين عقيدة تستنبط كلها من «لا إله إلا الله محمد رسول الله.» إذ تعني الألوهية استغناء الله عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه.
46
وقد يغيب البناء بعد ذلك وتنقطع مسائل التوحيد في مشكلات مثل الوجود بلا مكان والرؤية بلا جهة، والكلام بلا حرف وصوت وكأن الأمر موضع دهشة وعجب أو عجز وضعف، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام نحو العالم، ثم إحجام عنه.
47
وتنتهي صفات الذات كنظرية عقلية وتتحول إلى واجب يؤمن به أو عقيدة، ويفقد الوحي طابع النظرية الخالص، وتستسلم نظرية العلم الأولى.
وهكذا يتطور تصور الصفات من المتقدمين إلى المتأخرين . فإذا استطاع المتقدمون تصور الذات على أنها اسم لواجب الوجود وأوصافه، ما يجب له وما يستحيل عليه، وما يجوز له، فإنه أصبح عند المتأخرين «المستغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه»، مما يوحي بعلاقة الأدنى بالأعلى التي ورثناها حتى الآن. ولا مانع من أن يكون في الاستغناء والافتقار وجوب واستحالة.
48
تتحول أحكام العقل الثلاثة إلى علاقة الاستغناء بالافتقار، وهي علاقة عبادة، ويصبح واجب الوجود هو المستحق للعبادة، ثم يفسر التوحيد كله بتحليل «لا إله إلا الله»، وتحديد معنى الألوهية باستغناء الله عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه. وهذا استغناء طرف وافتقار طرف آخر مما أعطى عصرنا الاعتماد الكلي على المجهول واستغناء المجهول عن العالمين. يصاغ التوحيد كله في هذه العلاقة الآحادية الطرف. فأوصاف الذات الستة وهي أوصاف السلوب تعني استغناءه عن كل ما سواه. وتدخل كل الأوصاف في هذه العلاقة غير المتكافئة بين الأطراف بما في ذلك حدوث العالم الذي يعني أيضا استغناءه عن كل ما سواه. كانت الألوهية أولا واجب الوجود عندما كان العصر عصر قوة واستقرار، ثم أصبحت مصدرا للعون في عصر الاضمحلال والتخلف وفي مجتمع العوز والفقر والحاجة حتى أصبحت علاقة الاستغناء بالافتقار عند القدماء تمثل أكبر دعامة في عصرنا للعلاقة بين الأغنياء والفقراء.
وفي الحركات الإصلاحية الحديثة يتم تحويل التصور النظري للذات والصفات إلى جهد عملي وتحقيق وممارسة، فلا تظهر الأبنية أو التصنيفات أو العد والإحصاء للأوصاف والصفات. ويصبح التوحيد هو «حق الله على العبيد» وما يتطلبه من عمل، وهو نفس الوقت واجب العبيد. تظهر بعض المسائل القديمة كعقائد إيمان، وتصاغ بعض العبارات الإنشائية التي تمس الذات والصفات دون بناء مذهبي، مثل النهي عن الشرك. فالتوحيد عملية التوحيد إيقافا للشرك في السلوك العملي للأفراد. فكأن حركة الإصلاح تنشأ من صفة الوحدانية بنفي ضدها وهو الشرك. والشرك هو الشرك العملي وليس مجرد الرد على الثنوية. ولا يظهر إلا نادرا، مرتين أو ثلاثا، ذكر الصفات المعنوية الحسية كاليد والعرش في آخر «كتاب التوحيد».
49
والسؤال الآن: إذا كان التوحيد هو حق «الله» على العبيد فأين واجب العبيد بالنسبة إلى «الله»؟ وأين حق العبيد بالنسبة للأئمة والحكام وحق البشر على أولي الأمر؟ وأين واجب الأئمة والحكام بالنسبة للعبيد؟ نظرا لغياب هذا التساؤل تحولت الحركة الإصلاحية في الواقع إلى نظام تسلطي يقوم على حكم الفرد المطلق والذي يدين له الجميع بالطاعة والولاء. وفي حركة إصلاحية أخرى أكثر استنارة تسقط نظرية الذات والصفات والأفعال ويتم الانتقال من أحكام العقل الثلاثة - الواجب والممكن والمستحيل - إلى ذكر أوصاف الواجب في نفس الاتساق الوجودي. فلا يذكر إلا القدم والبقاء وهو التركيب. وتذكر صفات الذات قبل أوصافها. ومن الأوصاف لا تذكر إلا الوحدة. ثم ينتهي مبحث الصفات في بيان استحالة معرفة كنه الله. ثم يتوارى التوحيد كله أمام النبوة، وهي الرسالة العامة.
50
وفي حقيقة الأمر ليس للصفات بنية ولا إحصاء، بل تعبر عن أفضل ما لدى الإنسان من صفات تزيد أو تنقص. وقد عرض القدماء للمسألة دون تطويرها، وذلك بالسؤال عن أقصى وصف تتميز به الذات، وهل هناك صفات أخرى لا نعلمها إذا ما تم حصر الصفات السلبية والثبوتية.
51
لقد منعه البعض لأنها لو كانت صفة كمال فعدمها نقص، ولو كانت صفة نقص فثبوتها ممتنع. وقد فضل البعض الآخر التوقف عن الحصر.
52
والحقيقة أنها لا حصر لها لا صفات ولا أسماء. فالكل يتوقف على مدى قدرة الإنسان على التأليه، أي على تحويل ذاته إلى مثال ووصفها بأفضل ما لديه من مثل عليا يسعى إلى تحقيقها ولم تتحقق بعد. فالكمالات لا نهاية لها. وهذا هو السبب فيما توحي به الصفات من كونها إنسانية تقريبية. هي صفات واحدة، سواء أطلقت على «الله» أم على الإنسان. ولا توجد صفة واحدة يطلقها الإنسان على «الله» تكون خاصة به وحده، حتى القدم والبقاء والغنى وأوصاف الذات كلها، فالإنسان موجود قديم باق، مخالف للحوادث لأنه يتعالى ويفارق، لا في محل من حيث هو شعور واحد. أما إثبات الاشتراك ثم التمييز في كيفية الاستحقاق فهو عمل الشعور بالتنزيه.
53
يكون ذاته فيكون واقعا، ويتحول إلى غيره فيصير مثالا. وكان الفقهاء قد اعترضوا من قبل على استعمال لفظ «الصفة» للتعبير به عن محاولة وصف «الله» والتعرف عليه.
54
وبصرف النظر عن كون الرواية خبر آحاد أم لا والاعتماد على الأدلة النقلية أو الإجماع فإن استعمال الصفة لا بد وأن يوقع لا محالة في الشركة، وفي إطلاق صفات الإنسان من علم وقدرة وحياة وسمع وبصر وكلام وإرادة على «الله». لفظ الصفة لا يشير إلا إلى عرض في جوهر، أي إلى صفات حسية لأجسام، فكيف يطلق ذلك على «الله»؟ بل إن اللفظ لم يرد في أصل الوحي إلا كفعل، ومرة واحدة كاسم «وصف»، وكلها بمعاني سلبية. الوصف قد يكون كذبا، فكيف يوصف «الله»؟
55
ومع ذلك، الصفات عند القدماء أول أصل التوحيد.
56
وعلى هذا النحو يكون لدينا وصف للذات باعتبارها وعيا خالصا، ثم وصف للصفات باعتبارها مكونات للوعي الخالص في الشخصية الإنسانية أو في الإنسان الكامل. «الوعي الخالص» وصف الذات في نفسها، علاقتها بذاتها، الذات من حيث هي ذات. ولها أوصاف ستة: الوجود، القدم، البقاء، المخالفة للحوادث، القيام بالنفس، الوحدانية. و«الإنسان الكامل» يتضمن صفات الذات في علاقاتها بالغير، في تخارجها وفعلها ونشاطها. وهي الصفات السبع: العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الكلام، الإرادة. إذا كانت الذات هي الوعي الخالص الشامل وهو الذي يتم وصفه بطريق التنزيه، أي نفي المشابهة عنه فإن الصفات تكون صور تعبير الذات عن نفسها وتخارجها إلى العالم. علاقة الذات بالصفات إذن علاقة المركز بالمحيط، علاقة الخيط بحبات العقد طبقا للتصور الإنساني الشائع عن ضرورة الحامل للمحمول، والموصوف للصفة، والموضوع للمحمول، والفاعل للفعل، والمبتدأ للخبر. وفي هذه الحالة تسمى الذات أيضا ماهية وتسمى الصفة وجودا. إذا كانت الماهية يصعب معرفتها إلا عن طريق التقريب والمشاركة، فإن الوجود يمكن التحقق منه ببداهات الحس وشهادات الوجدان.
57
ثالثا: الوجود
(1) الوجود أول وصف للذات
الوجود هو أول وصف للذات. يظهر أولا متداخلا مع دليل الحدوث، إذ إن غاية الدليل هو إثبات واجب الوجود. وقد لا تدخل صفة الوجود أو واجب الوجود ضمن أوصاف الذات، بل تكون ختاما لدليل الحدوث.
1
وفي كلتا الحالتين يكون الانتقال من دليل الحدوث إلى الوجود انتقالا طبيعيا باستثناء الاعتراض المشهور وهو كيفية الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، ومن دليل إثبات الوجود إلى إثبات الوجود بالفعل. في هذه الحالة لا يظهر الوجود كوصف مستقل، ويكتفى بأن الحوادث لا بد لها من محدث وأن صانع الحوادث أحدثها من لا شيء. ويتداخل الوجود مع أبطال الدور والتسلسل كأول بحث في ذات «الله».
2
لذلك تسمى صفة الوجود أحيانا واجب الوجود كما هو الحال في العقائد المتأخرة إلا في بعض الحركات الإصلاحية الحديثة حين يكتفى بإثبات واجب الوجود.
3
وتتداخل صفة واجب الوجود وأحيانا بكليهما.
4
وفي العقائد المتأخرة يدخل الوجود ضمن دليلي الحدوث والإمكان معا مع أنه قد لا تكون هناك حاجة إلى إثبات وصف الوجود بعد إثبات الأدلة على وجود الصانع.
5
ينبثق وصف الوجود إذن من الطبيعة. والحقيقة أنه لا يوجد مبحث مستقل للطبيعة. فالطبيعيات تظهر في دليل الحدوث القائم على إثبات الأعراض وحدوثها، والتفرقة بين الجوهر والعرض، وإثبات موجود قديم لا أول له. فالطبيعة هو إثبات أول صفة للذات وهو الوجود.
6
ولا يظهر الوجود كأول وصف للذات إلا بعد اكتمال بناء علم أصول الدين. ففي البداية يكرر وصف الوجود والمخالفة للحوادث لسائر الموجودات، وكأنه شرح وتعبير أكثر منه عدا لصفة.
7
وفي المؤلفات المتقدمة يظهر دليل الحدوث على أنه أول موضوعات التوحيد دون ذكر وصف الوجود.
8
ثم يذكر وصف الوجود على أنه أول وصف للمحدث قبل القدم والواحد والأحد والباقي.
9
ويظهر على أنه أول وصف في إقرار التوحيد قبل الواحد وليس كمثله شيء.
10
وقد يظهر الوجود على أنه أول وصف للذات في
قل هو الله أحد ، فالأحد إشارة إلى الوجود.
11
وفي المقدمات والتسبيحات والتحميدات يظهر واجب الوجود على أنه أول تعبير إنشائي.
12
ويظهر الوجود كأول وصف للذات، وذلك في دلائل إثبات كونه واجب الوجود وإثبات كونه موجودا.
13
فالوجود هو وحده الصفة التي تدخل تحت الذات، وباقي الأوصاف والصفات تدخل تحت الصفات. وقد يضم الوجود الصفتين التاليتين مثل القدم والبقاء وكأنهما نتيجتان طبيعيتان للوجود، فالوجود هو البقاء الذي سبق المكونات ويبقى بعد جميع الفانيات، والتوحيد هو الإقرار بأنه ثابت الوجود. وموجود تعني أنه باق أي دوام الوجود.
14
وإلى وقت متأخر يتداخل وصف الوجود مع باقي الأوصاف والصفات ولا يكون بالضرورة أول أوصاف الذات. فأحيانا تظهر النفس بعد القدم والوجود والوحدانية والشيئية على أنها مرادفة للذات والوجود ورفضها من حيث هي جسم مركب قابل للعرض.
15
كما تثبت صفة الوجود في باب الصفات بعد أن تثبت المخالفة للحوادث والقيام بالنفس والوحدانية في باب التوحيد، وتستعمل الصفات كدليل لإثبات الوجود.
16
ثم يرتبط موضوع الوجود منذ القرن السادس بالماهية بعد توغل علوم الحكمة في علم التوحيد، فيبدو الوجود متصلا بالماهية كثامن وآخر وصف بعد نفي الجسمية والجوهر والمكان والاتحاد والمكان والحلول والقيام بالحوادث واللذة والألم، ونفي مشاركة الذات لغيرها.
17
فالوجود متصل بنفي المشاركة. وتنفى الماهية خوفا من المجانسة بعد إثبات الوحدانية والقدم وظهور الصفات السبع ونفي العرض والجسم والجوهر والصور والحد والعد والتبعيض والتجزيء والتركيب والتناهي.
18
وتبدو التنزيهات في أول بحث في نفي أن حقيقته تماثل غيره ونفي الاشتراك في الذات أو في الوجود.
19
وقد يذكر الوجود بعد القدم على أنه يجوز وصف الذات به، ويكون الوجود حالة من حالات القدم ومتضمنا فيه.
20
وقد يذكر الوجود كثالث صفة بعد القدم والبقاء مرة ضد الباطنية وقولهم لا موجود ولا معدوم ومرة ضد الحكماء في التوحيد بين الوجود والماهية.
21
فإذا كان الوجود قد دخل في البداية في أدلة إثبات الصانع خاصة دليل الحدوث فإنه في العقائد المتأخرة وبعد استقرار البناء النظري للعلم يظهر كأول وصف فيما يجب «لله» من عشرين صفة، ستا للذات، وسبعا للمعاني، وسبعا معنوية، ثم يظهر عكس الصفة وهو العدم في العشرين صفة التالية فيما يستحيل على «الله». ثم بعد ذلك في النهاية يظهر في تفسير معنى «لا إله إلا الله» على أنه المستغني عن كل ما سواه كأول وصف يدل على الاستغناء.
22
وقد يذكر الوجود كواجب الوجود في أول وصف فيما يجب «لله» يتلوه صفات المعاني السبع، ويذكر في أول إحصاء لأوصاف الذات في عشرة على أنه أول صفة. وحتى عندما تأتي الذات بعد الصفات يظهر الوجود كأول صفة.
23
وقد يذكر الوجود في أول موضوع للتوحيد دون فصل بين ذات وصفات، بل كحامل لنفي التشبيه والحيز والجهة.
24
ويحاول القدماء إيجاد أدلة لإثبات الوجود، فقد يثبت الوجود بدليل عن طريق القسمة بعد التسليم بأصل الوجود من دليل الحدوث. فكل موجود إما متحيز أو غير متحيز. وإن كل متحيز إن لم يكن فيه ائتلاف فهو جوهر فرد، وإن كان فيه فهو جسم، وغير المتحيز إما يستدعي جسما يقوم به وهي الأعراض أو لا يستدعي وهو «الله»!
25
وهو دليل يقوم على افتراض سابق وهو أن الوجود قد يكون غير متحيز وهو المطلوب إثباته. كما أن إثبات وجود غير متحيز لا يعني بالضرورة إثبات «الله»، بل يعني إثبات هذا الوجود غير المتحيز أي الوجود من حيث هو وجود دون تشخيص له في ذات. والقسمة ليست دليلا ولا برهانا بل مجرد تصنيف طبقا للأعلى والأدنى وهي التصور الديني للعلاقة بين المستويات. كما أنه لا ينزه «الله». وهل مكانة «الله» مساوية بالأجسام ما دام كلاهما جوهرا؟ ولا يمكن أن يكون الدليل على الوجود العلم والقدرة، فالعلم والقدرة مظهران للوجود تاليان عليه وليسا مقدمتين له: الوجود لا يستنبط من العلم والقدرة، بل العلم والقدرة يستنبطان من الوجود. إلا إذا كان المقصود أن وجودا بلا علم ولا قدرة ليس وجودا، وفي هذه الحالة يكون الوجود هو وجود العلم والقدرة. وقد يشجع ذلك الناس على العلم والقدرة دون الجهل والعجز، إذ إن الوجود الجاهل العاجز ليس وجودا.
26
ويمكن التوسع في الصفات وضم الحياة والإرادة، ولكن ذلك يتطلب دليلا أنطولوجيا يسمح بالانتقال من العلم والقدرة والحياة والإرادة إلى الوجود الفعلي دون أن يكون ذلك متعلقا بالإنسان وتشخيصا منه وقياسا للغائب على الشاهد، وبالتالي إثبات وجود الإنسان دون غيره. وهو أقرب إلى التمرينات العقلية التي يعيش فيها العقل على نفسه بعد أن يختفي موضوعه ويتبخر. وهناك بعض الأدلة الخطابية الأخرى القائمة على سؤال: هل هناك بناء من غير بان؟ وإذا كان الرد بالإيجاب عن طريق التوليد والكمون والظهور أمكن الإجابة بالنفي وبالتالي لا يثبت أي وجود صانع مغاير للشيء.
27 (2) ماهية الوجود
هل الوجود وصف للذات أم أنه معنى تؤدي إليه أحكام العقل؟ هل هو وصف للذات أم صفة لها؟ قد يدخل الوجود في مبحث الذات ليس كصفة بل كذات.
28
للوجود ماهيتان: الأولى أنها نفس الذات وليست صفة خارجة عنها، وليست بمثابة التحيز للجوهر لأن التحيز صفة زائدة على الجوهر. وعلى هذا النحو يكون واجبا لذاته ممتنعا عدمه بالنظر إلى ذاته.
29
لذلك يظهر الوجود على أنه من الصفات النفسية بل أولها.
30
الوجود هو القائم بالنفس أو لا يكون. فإن لم يكن قائما بماهيته فنفس الوجود جوهر قائم. الوجود عين الوجود، وبالتالي يكون وجود الله عين ذاته غير زائد عليه كما أن وجود الحادث عين ذاته. فالوجود ليس صفة لأنه عين الذات والصفة غير الذات. الوجود عين الذات وبالتالي تكون موجودة في الخارج دون ما حاجة إلى إثبات وبالتالي تنتفي الحاجة إلى أي دليل أنطولوجي.
31
وعيوب هذا التصور أن «الله» فيه كائن ثابت مشخص وليس حياة أو تجربة أو حركة.
32
والوجود بهذا المعنى المجرد وصفا أو صفة، ماهية أو وجودا عاما ليس الوجود كتجربة حقة بلحم وعظم ودم، بنفس وحرارة وحياة. وإن إثبات الذات أو النفس دون نفي الضد يدل على أن الإثبات هو الأساس وأن النفي مجرد تمرين عقلي زيادة في التنزيه، في حين أن النفي هو الأساس، نفي مظاهر النقص حتى تثبت صفات الكمال.
33
والثانية أنها ما يستحيل عليها العدم، إذ لا يحد الوجود إلا بالإشارة إلى المعدوم. والمعدوم ليس هو المنتفي؛ لأن المنتفي ما ليس بكائن ولا ثابت في حين أن المعدوم وجد مرة ثم عدم، أي أن العدم في أصله كان وجودا وليس نفيا أو انتفاء.
34
فالأولى أن يكون المعدوم هو المعلوم الذي ليس بموجود أي افتراض الوجود وإحالة العدم، ومن ثم يبرز الفرق بين مستوى المعرفة ومستوى الوجود، فلا يمكن أن يكون العدم موجودا (أنطولوجيا). وسواء كان العدم وجودا منفيا أم وجودا معدوما، فإن ما يجب له الوجود يستحيل عليه العدم، والنفي والإثبات يتمان لا في زمان.
35
الوجود إذن وصف سلبي أي أنه ما لا يجوز عليه العدم.
36
صانع العالم موجود؛ لأنه لو لم يكن موجودا لكان معدوما، والمعدوم نفي محض لا يصلح للإلهية دون أن تكون هناك واسطة بين الموجود والمعدوم.
37
ويقوم هذا التصور على إثبات الدعوى بإبطال نقيضها. وهو نقص في منطق الاستدلال، إذ إن الدليل هو المثبت. كما أنه يعتبر العدم نفيا محضا دون واسطة حال، مما يسبب في النفس الغثيان، وفي الوجود العدمية. وإذا كان الوجود والعدم ضدان وكان البارئ موجودا، فإنه يصبح من جنس الموجودات. وما كان من جنس الموجودات يمتنع أن يكون من جنس المعدومات. ولو كان موجودا لكان له من جنس الموجودات ند، ومن المعدومات التي ليست من جنسه ضد. والباري منزه عن الند والضد. ونفس الدليل إذا كان معدوما وبالتالي يثبت أن الباري لا موجودا ولا معدوما. فإن قيل: إن العدم نفي محض، ويمتنع أن يكون ضد الشيء، كان الرد بأن عدم الاشتراك في الاسم نظرا لا ينفي وقوعه عملا.
38 (3) معنى الوجود
تتراوح معاني الوجود عند القدماء بين الصورية والمادية والنفسية، أي بين أن يكون الوجود معنى وأن يكون شيئا وأن يكون حالا: (أ)
فقد يكون الوجود بمعنى معلوم، وأن الباري لم يزل واجدا للأشياء بمعنى لم يزل عالما بها، وأن المعلومات لم تزل موجودات بمعنى لم تزل معلومات، ومن ثم كان الدليل على الوجود هو العلم.
39
الله موجود لمعنى به، وأن ذلك المعنى لا موجود ولا معدوم.
40
واتفق باقي أئمة الأشاعرة على أنه من الصفات، والعلم به علم بالذات.
41
الوجود هنا أقرب إلى الحكم العقلي الأول في أحكام العقل الثلاثة. (ب)
والمعنى الثاني للوجود هو المعنى المادي الذي يتراوح بين الجسم والشيء. فالوجود جسم لأن الوجود شيء.
42
فبهذا المعنى لا يكون الباري كائنا مخالفا لسائر الحقائق، فوجوده مثلها.
43
وهنا يضطرب التنزيه ويهتز التصور فيصبح الباري لم يزل ثابت العين بذاته حماية له من الجسمية والشيئية.
44
أو أن يكون شيئا مخالفا لسائر الموجودات لما كان الشيء هو أنه محدود ووجوده مساو لسائر الموجودات.
ولكن هل البارئ شيء؟ إذا كان البارئ شيئا فإن الشيئية تكون أحد أوصاف الذات، سواء ذاتا لنفسه أو شيئا لا كالأشياء. قد يظهر الشيء بعد القدم والوجود والوحدانية على أنه اسم أكثر منه وصفا أو صفة. وقد يظهر الشيء بعد إثبات الوجود كثالث صفة بعد القدم والبقاء.
45
والعجيب أن يثبت الأشاعرة والمسلمون كلهم، وأكثر أهل الصلاة أن «الله» شيء سواء كان شيئا بمعنى جسم أو شيئا لا كالأشياء. ولما كان لا يوجد شيء إلا بمعنى جسم يكون موقف المجسمة أقرب إلى الاتساق مع النفس والمنطق وأقرب إلى الصراحة. أما إثبات شيء لا كالأشياء فهو مجرد تحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام وإحجام، شجاعة ثم خوف، إثبات ونفي، تشبيه وتنزيه، وجود وعدم، يلغي كل طرف الطرف الآخر. فليس هناك إنسان لا كالإنسان، وليس هناك ماء لا كالماء، وليس هناك هواء لا كالهواء أو أرض ليست كالأرض أو سماء لست كالسماء. فالعبارة تعبر عن موقف الشعور وحيرته وتردده بين نزوعين، الشاهد والغائب، الحس والعقل، الطبيعة وما بعد الطبيعة. حتى ولو لم يكن النزاع في اللفظ بل في المعنى، اتفاق اللفظ والاختلاف في المعنى، فإن ذلك لا يمنع حين الاستعمال من الوقوع في جدل اللفظ والمعنى واستعمال اللفظ بالمعنى الشائع للشيء وهو الجسم الحسي المرئي نظرا لقوة المعنى العرفي وانتشاره فوق المعنى الاصطلاحي.
46
وإذا كان المقصود أن شيئا تعني موجودا، وكان الاشتراك يقع في لفظ وجوده، فالأولى أن يقع الاشتراك في لفظ شيء. وإن خطورة الحجة النقلية والاعتماد عليها حتى على الرغم من دقة التفسير وإحكام التأويل لن تمنع من العارض العقلي الذي ينفي كون «الله» شيئا.
47
قد يكون «الله» شيئا بالمعنى الأنطولوجي للكلمة، أي الوجود القائم وليس بالجسم، وبمعنى الماهية المجردة،
48
ولكنه مزلق خطر خارج عن نطاق علم أصول الدين الغارق في التشخيص الإنساني والواقع في «الأنثروبولوجيا»، يصعب عليه الخروج منها إلى «الأنطولوجيا». لذلك توقف البعض. فلا يقولون إن الله شيء أو إنه ليس شيئا وهو أقرب إلى التنزيه الوجداني وعدم الدخول في المزالق التصورية.
49
فابتعادا عن التجسيم واقترابا من التنزيه يصبح «الله» ليس شيئا وليس لا شيئا. وبالرغم من أن أمثال هذه العبارات تحصيل حاصل، إلا أنها تحوم إقداما نحو التشبيه ثم إحجاما عنه اقترابا من التنزيه، وكأن الذهن البشري إذا ما أراد الحرص على التنزيه فليس أمامه إلا طريق النفي، وطريق النفي وحده. ولكن نظرا لمخاطر الصورية والفراغ في التنزيه، فإن التجسيم يعود ليفرض نفسه على التصور بالجسمية والشيئية، ويظل الشعور متوترا حائرا بين الصوري والمادي، بين المثال والواقع، بين الحس والعقل دونما استقرار. لقد كانت الحجة في إثبات الباري شيئا هو الخوف من التعطيل، ولكن ألا يوقع ذلك الخوف في التشبيه؟ ولماذا يكون الخوف من التعطيل مقدما على الخوف من التشبيه؟
50
وكما يقل التجسيم وينتقل من البدن المعين إلى الجسم، فإنه يقل أيضا درجة، وينتقل ارتفاعا من الجسم إلى الشيء، فالشيء مقولة تحتوي على عمومية أكثر من الجسم، كما أن الجسم مقولة تحتوي على عمومية أكثر من البدن. فإذا كان كل جسم شيئا، فليس كل شيء جسما. كما أن كل بدن جسم وليس كل جسم بدنا بالضرورة. ثم يخف التجسيم درجة ويصبح «الله» أيضا شيئا، ولكنه شيء لا كالأشياء، ولا يشابه الأشياء. فهو ليس شيئا وهو ليس لا شيئا، بين التشبيه والتنزيه، تشبيه لأنه شيء، وتنزيه لأنه لا كالأشياء. وهو مثل القول بأنه جسم لا كالأجسام. وصفة بالشيء لا تعني شيئا لا كالأشياء بصرف النظر عن كون العبارة من حيث بناء اللغة تحصيل حاصل.
وقد أفاض القدماء في الحديث عن الشيء وتفصيل معانيه المختلفة لدرجة الخروج من علم أصول الدين إلى علوم الحكمة الخالصة. فالشيء هو الجسم، أي أنه تحديد العام بالخاص، ورجوع إلى درجة أقوى من التجسيم في حين أن كل جسم شيء وليس كل شيء جسما.
51
والشيء هو الموجود، فلا شيء إلا موجود، وهو تحديد للخاص، وهو الشيء في هذه الحالة، بالموجود وهو العام. وإن شئنا تحديد العام بالعام لأن الشيء عام والموجود عام، ولكنها عمومية خاصة، فكل شيء موجود في حين أن كل موجود ليس شيئا.
52
والشيء هو المثبت، وهو تحديد للخاص، وهو الشيء، بالعام وهو المثبت، فالمثبت أعم بالنسبة للموجود، كما أن الموجود عامة بالنسبة إلى الشيء، والشيء عام بالنسبة إلى الجسم، والجسم عام بالنسبة إلى البدن. فإذا كان كل شيء موجود مثبتا، فإن كل مثبت ليس بالضرورة شيئا موجودا. يمكن أن يكون الشيء مثبتا قبل وجوده؛ لأن الشيء هو فعل الكون، أي مجرد الإثبات أو القرار. الصورة في ذهن الرسام شيء قبل أن يرسم اللوحة بالفعل. يمكن أن يقال إذن إن الشيء هو الممكن قبل أن يصير واقعا.
53
هذه المعاني الثلاثة السابقة تتداخل فيما بينها من حيث العموم والخصوص. ولكن هناك معاني أخرى خارج هذا النطاق، نطاق الكليات الخمس والتحديد المنطقي بالنسبة للعام والخاص، وأقرب إلى تحديد الشيء بالنسبة إلى الآخر وعلى نفس المستوى أفقيا وليس رأسيا كما هو الحال في الكليات الخمس. حينئذ يكون الشيء هو القديم، وهو تحديد للشيء من حيث الزمان، وأنه لا أول له. وهنا يقبل التجسيم درجات عدة، ويشارك في الصفة الثانية وهي القدم.
54
فالباري لم يزل قبل الأشياء وليس قبل الأشياء حتى لا يكون ظرفا. والشيء هو الغير. فلا شيء إلا غير، ولا غير إلا شيء. وهذا التحديد للشيء بالنسبة إلى الآخر واعتبار الشيء هو المتفرد أو الفريد، وهي صفة أخرى للذات الذي يتحدد كل شيء بالنسبة إليها والذي يتغاير هو بالنسبة إلى كل شيء.
55
لا يقال أول الأشياء أو إن الأشياء بعده، ولا يقال إن الله فرد. والشيء هو المعلوم، والمعلوم هو ما أمكن ذكره والإخبار عنه . وهنا يتم تحديد الشيء بالنسبة إلى المعرفة الإنسانية كما تعرف الذات وتكشف هي عن نفسها في الذهن الإنساني. ولا يقال لم يزل الباري ولا يزال دون أن يضاف عالم حتى يكون هناك خبر.
56
ولكن ماذا يعني أن الباري شيء في هذه الحالة إذا كان الشيء يعني الجسم أو الموجود أو المثبت أو القديم أو الغير أو المعلوم؟ يبدو أن الثلاثي الأول أكثر تجريدا من الثاني، وهو الذي استهوى القدماء لتطبيقه على «الله». يعني أن الباري جسم ويكون الباري هنا جسما متعينا. وقد يعني أن الباري موجودا إما بمعنى أنه جسم وهو إلحاق الوجود بأحد معاني الشيء، وهو أن الشيء جسم ويكون الموجود هنا هو الموجود الحسي المتعين،
57
وإما بمعنى أنه الشيء وهو استبدال موضوع بمحمول، فكما أن الشيء هو الموجود يكون الموجود هو الشيء،
58
إما بمعنى أن الموجود هو المحدود المتعين، أي أنه هو المتعين المتحدد، وهي صفة أعم من الشيء تدل على التعين وإن لم يكن محسوسا.
59
وقد يعني أن الباري مثبت، وقد يكون الثبات بالعين أو بغير العين، والإثبات أحد معاني الشيء، فإثبات الشيء يحدث قبل وجوده.
ومع ذلك فقد أحدث تصور الباري شيئا رد فعل عند دعاة التنزيه المعتزلة والجهمية. ف «الله» عند المعتزلة ليس شيئا وليس لا شيئا، وهو غير الأشياء على عدة معان، منها: أنه غير الأشياء بنفسه وليس لغيرية حتى لا يحدث التباين والتعدد والشرك،
60
أو أنه غير الأشياء لنفسه والأشياء غيره لأنفسها حتى يتم التمايز بين «الله» والأشياء،
61
أو أنه غير الأشياء لغيرية لا لنفسه، فالغيرية صفة للباري لا هي الباري ولا هي غيره، والجواهر متغايرة بغيرية يجوز ارتفاعها فلا تتغير، والأعراض لا تتغاير، وذلك حتى يحدث التمايز بين الله والأشياء بغيرية واضحة، واحدة مضروبة في اثنين، مرة من الله ومرة من الأشياء،
62
أو أن الباري غير الأشياء أي أنه ليس هو كالأشياء وهذا أقرب إلى التنزيه، هو غير الأشياء بنفسه؛ لأنه القبل وليس قبل الأشياء.
63
ويئول المعتزلة الألفاظ التي توحي بالجسمية. فجنب «الله» هو أمره، والصمد هو المقصود إليه في الحوائج.
64
وقد اقترب بعض فقهاء أهل السنة من تنزيه المعتزلة في اعتبارهم «الله» ليس كمثله شيء.
65
بل وعند أصحاب الحديث أن الباري ليس بجسم ولا يشبه الأشياء.
66
بل إن بعض الرافضة وهم الذين عرف عنهم التجسيم والتشبيه قد وصلوا إلى أعلى مراتب التنزيه بتصورهم أن «الله» ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس، وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج.
67
وتجنبا لكل ذلك آثر البعض إمعانا في التنزيه جعل الوجود من أسماء «الله»، أي مجرد لفظ لا معنى ولا شيئا.
68
حتى الباطنية المعروفة بالتشبيه والتجسيم بل والحلول أنكرت أن يقال إن الله موجود أو لا موجود، أو أن الباري ليس بمعدوم إمعانا في التنزيه. والدليل على ذلك أن الباري لو كان موجودا لكان مساويا لسائر الموجودات في الوجود. أما أن يكون مخالفا من وجه دون وجه، فإن خالفها من وجه لزم وقوع التركيب، وكل مركب ممكن الوجود وليس واجب الوجود. إن لم يكن مخالفا لزم أن يكون مساويا في الماهية، والمتساويات في الماهية حكمها حكم واحد. فكما أن الموجودات ليست واجبة فكذلك الباري. وإذا ثبت فساد القسمين ثبت أنه ليس بموجود. ونفس الدليل يثبت أنه ليس معدوما، فثبت أنه لا موجود ولا معدوم. ولا رد على ذلك إلا باعتبار الوجود عين حقيقته، وأن الاشتراك في اللفظ ليس اشتراكا في المسمى البديهي.
69
ولكن يرجع الفضل في النهاية إلى جهم وبعض الزيدية في نفي أن يسمى «الله» شيئا أو أن يطلق عليه لفظ شيء؛ لأن الشيء هو المخلوق الذي له مثل.
70
وبالتالي يكون جهم هو المدافع عن التنزيه في حين وقع الأشاعرة في التشبيه، بل وفي التجسيم بإثباتهم الشيئية «لله» بصرف النظر عن معانيها. وقد كانت كل العبارات المستعملة لإثبات التنزيه عبارات نافية؛ إذ إن النفي أكبر وسيلة للتعبير عن التنزيه. ومن ثم يمكن القول بأن «الله» ليس شيئا، ليس له طول ولا عرض ولا عمق، ليس له مقياس يقاس به، ليس له مادة أو موضوع في العالم الخارجي. بل إن اسم الفعل «الألوهية» لا يشخص ولا يعرف كما، فعل من أفعال الشعور الخالص، وموضوع من موضوعات الذهن. ويخف التجسيم على الإطلاق ويقترب نهائيا من التنزيه عندما يصبح الله ليس شيئا، وينتقل الشعور من الرغبة في الإطباق على الشيء والتشبث به إلى الاستنكاف من الشيء والبعد عنه إحساسا منه بالطهارة. وتبدأ الثنائية الفلسفية بين المادة والصورة، المحدث والقديم، الكثير والواحد، المتحرك والثابت، وهي الثنائية المتعارضة التي تعطي الطرف الأول كل ما تسلبه من الطرف الثاني. فإذا كان الشيء مادة ف «الله» ليس مادة، وإذا كان الشيء مرئيا ف «الله» ليس بمرئي، وإذا كان الشيء محدودا متعينا جسما، فهي كلها مظاهر نقص، «الله» خال منها. (ج)
والحقيقة أن الوجود تجربة وجودية. وهو ما عناه القدماء باسم الحال الواجبة للذات التي لا تعلل بعلة. والحال لا يرتقي إلى درجة الوجود حتى يشاهد ولا ينحط إلى درجة العدم حتى يعدم. الوجود حال بين الموجود والمعدوم. والحال صفة نفسية لا تعقل الذات بدونها. وعلى هذا النحو تكون ذات «الله» غير وجوده كما أن ذوات الحوادث غير وجودها.
71
وميزة هذا التصور هو اكتشاف الصيرورة من الوجود إلى العدم ومن العدم إلى الوجود من خلال الحال. فالحال وجود، والوجود حال، وهو تغير وحركة وإمكانية وتحقق، أي أنه تجربة وجود أو إيجاد. وهو خارج التعليل الخارجي فالحال من الذات، من الداخل، صفة نفسية. ولما كان وجود «الله» غير ذاته، فإن وصف «الله» بأنه موجود يكشف عن إسقاط الإنسان صفة وجوده على غيره على عكس الحكماء الذي جعلوا وجوده عين ذاته وعلى خلاف الأشاعرة الذين جعلوا الصفة زائدة على الذات.
72
الوجود إذن هو المشاهد لا الثبات أو المختص بصفة. الوجود هو الوجود الإنساني الحسي الملموس، هي الواقعة الإنسانية. وهو تجربة بديهية يشعر بها كل إنسان من نفسه، ولكن تختلف درجة الوعي بها. هناك وجود دون وعي وهناك وعي بالوجود.
73
وقد اعترف بعض علماء الأصول بأن الوجود من حيث هو وجود مفهوم واحد في كل الموجودات، لا فرق فيه بين واجب وممكن، قديم وحديث. والدليل على ذلك أن نقيض العدم شيء واحد هو الوجود، فلولا أن الوجود مفهوم واحد لما كان العدم مفهوما واحدا. وإذا أمكن تقسيم الوجود إلى واجب ممكن، فلو لم يكن المفهوم مشتركا لما أمكن التقسيم. وحقيقة الوجود في جميع الموجودات شيء واحد لا اختلاف فيها بالتعيين. ولما كانت حقيقة الباري مخالفة لسائر الحقائق، ثبت أن حقيقته ليست وجوده.
74
أما الوجود فهو الوجود المتعين الإنساني التجريبي المعروف، أي تجربة الوجود، ولا ينطبق منها شيء على «الله». الوجود إذن شعور إنساني بديهي، أخص ما يميز الإنسان. ولكن في اللحظة التي يقل فيها وعي الإنسان بوجوده ويغترب في العالم فإنه يشخص وجوده في وجود آخر متجاوزا به عن وجوده المأساوي في وجود آخر أرحب عن طريق الخيال، تعويضا عن وجوده الهش المتأزم، وجلبا للطمأنينة والسلام حتى يعيش في وفاق مع نفسه وفي وئام مع العالم من خلال الوعي الزائف. فلا غرابة إذن أن نصارع من أجل الوجود، من أجل الاستقلال الوطني، وتحرير الأرض، والتنمية من أجل الاستقلال الاقتصادي، والحرية من أجل الاستقلال في الرأي والمؤسسات الديمقراطية. ولا غرابة أن تكبو محاولاتنا، فيقضى على الاستقلال الوطني وننحو نحو التبعية، ويحتل مزيد من الأرض، ويتحول الاقتصاد الوطني إلى انفتاح اقتصادي تابع، وتسن القوانين المقيدة للحريات، وتصبح المؤسسات لا وجود لها ولا استقلال، تابعة للحكام، مهمتها الموافقة والتأييد. فإذا كان الوجود الإنساني هو هذه الإمكانية للإيجاد، فإن وجود المبادئ والقيم وجود ممكن أيضا يتحقق بالفعل من خلال النشاط فيصبح موجودا بالفعل. ويتحول واجب الوجود من مجرد أمر اعتباري في «ميتافيزيقا الوجود» إلى وجود إنساني اجتماعي وتاريخي طالما وجد الإنسان، فالحق قائم، وطالما وجدت الجماعة، فالقيم قائمة، وطالما وجد فعل الجماعة، فالتاريخ قائم. وإنها لمهمة الإنسان ومسئوليته إن شاء أن يسترد وجوده بعد أن أعاره لغيره في لحظة ضعف وهوان. وهذا ما يتفق مع أصل الوحي، فلفظ «الوجود» لم يرد فيه إلا في صيغة فعلية يشير إلى عملية «الإيجاد» وعلاقات الوجود الإنساني بالأشياء وبالطبيعة وبالأفراد والمجتمعات وبالتاريخ مركزا على البعد الشعوري في الوجود الحامل للمعاني والمحقق للأفعال. الأشياء للاستعمال، والطبيعة للتسخير من خلال السيطرة على قوانينها الثابتة، والأفراد والأقوام والمجتمعات ميدان للصراع، والتراث للتجديد وليس للتقليد، والشعور محقق للأفعال، وحامل للمعاني، وباق بالإرادة، ومستقل بالوعي، كل ذلك هو الإيجاد كفعل وليس الوجود كجوهر. ولم يصف «الله» نفسه في كلامه بأنه موجود كما فعل المتكلمون.
75
رابعا: القدم
(1) القدم ثاني وصف للذات
القدم ثاني وصف للذات. ويعني ما لا أول له ولا بداية. وقد يبدو وصف القدم في نظرية الوجود في قسمة الموجودات إلى قديم وحادث، والإشارة إلى القديم بأنه لم يزل وهو «الله»، وأنه وصف لذاته. ويظهر مرة أخرى بعد دليل الحدوث على أنه من صفات المحدث مع باقي أوصاف الذات وصفاتها. ويأتي القدم تاليا للوجود وسابقا على الواحد والأحد والباقي. بل ويعرف التوحيد بأنه إفراز القدم عن الحدوث. فكل مرة يذكر فيها الحدوث ينكر القدم أو العكس. فيذكر القديم مع قسمة الموجودات إلى محدث وقديم.
1
وقد يظهر القدم في عبارات إنشائية بعد الوحدانية دون عد إحصائي. ويظهر على أنه ثاني صفة بعد الواحد. ثم يظهر من جديد كصفة ضد في أنه لا يجري عليه زمان بعد إثبات الوحدانية والقدم ثم ظهور صفات المعاني السبع ثم نفي العرض والجسم والجوهر والصور والحد والعد والتبعض والتجزيء والتناهي والمائية والكيفية والمكان.
2
يبدو وصف الأول متميزا عن وصف القديم في مجموعة أخرى من الصفات في إقرار التوحيد بعد موجود، واحد، ليس كمثله شيء، وفي هذه الحالة يكون أزليا لا أول لوجوده.
3
وقد يذكر الأول مع الآخر والظاهر والباطن والقريب والبعيد في عبارات إنشائية دون صياغات عقلية. وقد يذكر نفي الزمان في المقدمات الخطابية.
4
وقد يذكر القدم واستحالة العدم في باب مستقل دون عد لأوصاف الذات، ويفصله عن الواحد الصفات السبع.
5
وقد يذكر القدم على أنه أول وصف للذات بعد الاستدلال على وصف الوجود بأن الحوادث لا بد لها من محدث وبأن صانع الحوادث أحدثها لا من شيء.
6
وأحيانا يذكر القدم في آخر نعوت الذات بعد القيام بالنفس والوجود والشيء، والغنى، والواحد، ومخالفته للخلق، وكأنه نعت متفق عليه.
7
كما يأتي القدم كآخر وصف للذات قبل كتاب العلل، وهو مقدمة مبحث الصفات، وبعد بداية التوحيد بالوحدانية ونفي الجسمية ونفي الجهة ونفي العرض ونفي الجوهر والرد على النصارى. ولا يذكر القدم لفظا بل مع الأولوية ضد الدهرية.
8
ثم يظهر مع السمع والبصر ويرفض باعتباره وصفا أو اسما، ويوضع مع صفات المخلوقين، ويفضل لفظ الأول مما يشير إلى اشتراك اللفظ بين الإنسان و«الله».
9
ويذكر أحيانا في مجال نفي ما يستحيل على «الله» كثاني وصف للصانع.
10
وقد لا يذكر إلا سلبه مثل أنه ليس في زمان كرابع وصف في التنزيهات بعد نفي الجهة مع المكان ونفي الجسم ونفي الجوهر والعرض.
11
كما يذكر مع الصفات المختلف عليها كالتكوين والبقاء واليد والوجه والاستواء وإدراك الشم والذوق واللمس.
12
ويذكر أيضا مع الصفات المختلف عليها في آخر الأوصاف والصفات مع البقاء والاستواء والوجه واليد والعينين والجنب والقدم والأصبع واليمين والتكوين،
13
ويضع في مكان آخر وهو: «في أن يمتنع أن يقوم بذاته حادث» على نحو سلبي. وأخيرا يستقر الأمر، ويظهر القدم في أول إحصاء لأوصاف الذات في عشرة كثاني وصف بعد الوجود. وفي آخر إحصاء لها في ست عندما يكتمل البناء العقلي ويستقر في أحكام العقل الثلاثة، ما يجب لله من عشرين صفة وما يستحيل عليه من عشرين، تكون استحالة الحدوث هي الصفة الثانية أيضا مع برهان القدم. وفي تفسير معنى «لا إله إلا الله» يظهر القدم أيضا كثاني صفة.
14
وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة يذكر القدم والبقاء ونفي التركيب مع أحكام الواجب.
15
وعندما تظهر الذات بعد الصفات يظهر القدم بعد الوجود.
16
والدليل على القدم هو أنه لو لم يكن موجودا ثم وجد لاحتاج إلى موجد وهو محال، وهو دليل يقوم على نفي نقيض الدعوى وليس على إثبات الدعوى ذاتها، أي أنه برهان خلف .
17
ولكن الدليل المثبت هو أيضا دليل الحدوث لإثبات الصانع القديم.
18
فمن صفات القديم أنه واحد لا يقبل الشركة مع حادث آخر. فهو القديم وحده، ولا قديم غيره.
19
وهو قديم بأسمائه وصفات ذاته وليس بذاته وحدها.
20
وهو أخص وصف لله عند الصوفية كما أن المحدث أخص وصف للإنسان.
21
وفي حقيقة الأمر، لا يستند الحادث إلى قديم واحد أو إلى قديم من ناحية التسلسل، بل إلى حادث مثله متحقق في المادة والزمان. وهذا ينفي ضرورة وجود قديم ليس بحادث تنتهي إليه سلسلة الحوادث ما دام الحادث لا يقوم إلا على حادث مثله. والحوادث تقوم على نفسها طبقا لقوانين الطبيعة العامة. ولماذا يكون الأساس أفضل من المؤسس، والمعتمد عليه أفضل من المعتمد؟ ألا تنشأ الوقائع كلها في الشعور ولا تعتمد إلا على هذه النشأة وعلى تعقيلها فيه؟ حتى ولو تم القفز من الحادث إلى القديم عن طريق الرجوع إلى الوراء والبحث عن العلة الأولى المختلفة في الطبيعة والجوهر عن هذا العالم فكيف يمكن الرجوع إلى هذا العالم المتغير من جديد؟ وكيف ينشأ فعل حادث عن علة قديمة؟ إن أفعال القديم لا تكون إلا قديمة، وأفعال الحادث لا تكون إلا حادثة. أما أن يكون وجود القديم لا يفسر نشأة الحادث منه ويظل الخلق بلا مبرر أو أن يكون الخلق قديما وهو أيضا قضاء على العالم الحادث الذي يود المتكلم إثبات القديم منه، أي أنه قضاء على الأساس والبداية. الحادث ينتج عن حادث، وبالتالي لا يثبت الحدوث أي قدم أو يثبت موجودا حادثا، وهو ما ترفضه عواطف التأليه. والقديم ينتج عن قديم، وهو لا يثبت شيئا لأن العالم حادث أو أن يثبت علما قديما وهو مضاد للبداية.
22
إن إثبات محدث للحادث لا يعني إثبات القديم. فالأولوية بالضرورة ليست أولوية زمانية. فقد يقدر الابن على ما لا يقدر عليه الأب. وقد تقدر الأجيال الحالية والمستقبلة على ما لا تقدر عليه الأجيال الماضية. إثبات القديم من المحدث هو إثبات أولوية وأفضلية عن طريق القلب النفسي واتهام الذات ، وتبرئة الغير. والدليل في نهاية الأمر لا يثبت إلا المحدث. وهناك قفزة من إثبات المحدث إلى إثبات أن هذا المحدث يستلزم بالضرورة أن يكون قديما. القديم من أسماء الإضافة، وكذلك الحادث، أي أنه اسم يقوم على الأضداد في اللغة. كل اسم يشير إلى ضده عن طريق القلب، وبالتالي فإن وصف القديم يتحقق بعد حدوث الحادثات. كما أن القديم وصف زماني، والله ليس بموجود زماني، وبالتالي ينكر البعض أن يوصف بالقديم، فالخالق غير المخلوق، والحادث غير المحدث. فلولا العالم لما كان «الله»، ولولا التشبيه ما كان التجسيم، ولولا النفي لما كان الإثبات.
23 (2) معنى القديم
قبل أن يجيب القدماء على سؤال ماذا يعني القديم، فإنهم يطرحون السؤال الأول التمهيدي، وهو: هل القدم صفة أو معنى قائم بالذات، أم أنه هو عين الذات؟ وهو نفس السؤال الذي طرح من قبل في بداية صفة الوجود عن ماهية الوجود قبل السؤال عن معنى الوجود. وهو السؤال الذي سيصبح المشكلة الرئيسية في موضوع الصفات فيما يتعلق بالصفات السبع التي هي صفات معان وليست قائمة بالذات مثل الصفات الست.
24
وبينما أثبت الأشاعرة قدما «لله» زائدا على الذات، أثبت المعتزلة قدما هو عين ذاته.
25
فالقدم ليس وصفا لصفة، بل وصف للذات؛ لأن القدم المستقل بذاته ليس شرفا، بل شرفه أنه للذات دون غيره. والواجب والقديم ليسا مترادفين. القديم أعم من الواجب، إذ لا استحالة في تعدد الصفات القديمة، ولكن الاستحالة في تعدد الذوات القديمة. كل ما هو قديم فهو واجب لذاته.
26
أما معاني القدمية فمتعددة، منها ما يبدأ بتعريف القديم، ومنها ما يبدأ بتعريف القديم ومنها ما يبدأ بتعريف شيء آخر على أنه القديم. فالشيء هو القديم، ولا يطلق على الشيء اسم الحادث إلا تجوزا وتوسعا. لذلك كان الله شيئا.
27
وقد يعني الله قديم عند البعض أنه إله لما كان الإله وحده هو القديم.
28
وقد يعني القديم أن وجوده غير مسبوق بعدم أي إثبات نفي عدم سابق، إذ إن الوجود مستمر منذ البداية.
29
والقديم في اللغة هو المتقدم على غيره في الوجود، وهذه في صفات البشر. أما في صفات الله فإنه يعني أنه لم يزل بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يزل ولا يزال، تقدم على غيره في الوجود، هو الأول والآخر، المتقدم على جميع المحدثات لا لغاية.
30
وأنكر البعض أن الله كائن متقدم على المحدثات، وأثبت معنى قديم أنه لم يزل ومعنى لم يزل أنه قديم.
31
القديم هو المتقدم في الوجود على شريط المبالغة ولا يتخصص بالذي لا أول لوجوده، أي أنه يطلق أيضا على التقدم المتقادم في الحوادث. فاللغة تسمي ما تقادم وعتق قديما.
32
وهنا يظهر مضمون القدم وهو الزمان. فالقديم ما لا يجري عليه زمان.
33
الزمان عرض متجدد. والتجدد لا يجوز على الله. والزمان عند الفلاسفة جوهر مجرد، واجب لذاته، لا يجوز عليه العدم أو حركة الفلك الأعظم، ولكن وجود «الله» منزه عن الزمانية. ولكن كيف يفعل «الله» ولا يتم فعله في أوقات ولا يلزم الزمان المتجدد؟
34
وماذا تعني إذن
كل يوم هو في شأن ؟ وأيهما أكثر إجلالا، الزمان الثابت الرتيب أم الزمان المتجدد الخلاق؟ ولا يعني أن الله قديم أنه لم يزل كائنا قبل أن يخلق الزمان وحده، بل وقبل أن يخلق المكان أيضا، فالقدم قدم في الزمان والمكان؛ لأن القدم مقولة في الزمان وليست في المكان.
35
وكما أنه ليس في مكانه، فإنه لا يكون أيضا في زمان؛ لأن نفي المكان يقتضي بالتبعية نفي الزمان. والمكان له أول وآخر، أي أنه يعرف بالزمان ويقرن به، بالبداية والنهاية، لم يزل ولا يزول، الزمان كله أو الأبدية.
36
لذلك يستعمل لفظ أزلي أيضا بمعنى قديم، الأزلي ما لا أول له، والأبدي ما لا نهاية له، والسرمدي ما لا أول له ولا نهاية. وهذا هو الإحساس الفلسفي التقليدي بالتأليه، الأول والتقدم، موجود قبل الخلق.
37
حتى ولو كانت هناك أولوية في الزمان، فالزمان لا يكون بالضرورة زمانا طبيعيا. الزمان إنساني خالص، وما الزمان الطبيعي إلا إسقاط من الزمان الإنساني: الأشياء لا تعيش في الزمان، الإنسان هو الموجود الزماني الوحيد. ويكاد يتفق المتكلمون والحكماء على معنى واحد وأخير للقديم، وهو الذي لا أول لوجوده،
38
والمتقدم على جميع المحدثات.
39
ولا يعني القول بأنه لا أول له أنه أزلي.
40
فالأزلية إطلاق ومنع لكل مظاهر النقص الإنساني.
41
على أية حال لفظ الأول لفظ شرفي
هو الأول والآخر
على عكس لفظ القديم الذي لا يطلق إلا إجماعا.
42
ولكن ماذا يعني الأول؟ يعني الأول أنه لم يزل كائنا ولا شيء سواه. ولا يصح الوصف بأنه موجود إلا وهو عالم بأشياء غير كائنة، أي أنه الأول نظرا وعملا، معرفة ووجودا، وهذا عند من يرى أنه لا شيء إلا وهو موجود.
43
وعند البعض الآخر الأول لم يزل موجودا ولا شيء سواه موجود، وإن كانت الأشياء يعلمها أشياء غير كائنة. وفي حقيقة الأمر أن الأول يطلق على عدة معان. فالأول هو الواحد الرياضي الذي منه تبدأ سلسلة الأعداد، وهو في الحقيقة ليس مطلقا لأن هناك −1، −2، وهي الأعداد السلبية. وهناك الأول المنطقي السابق على التجربة، الأول في نظرية المعرفة، ولكنه أول عقلي خالص مشروط بوجود الذهن. وهناك الأول الكوني الذي يمكن معرفته من دراسة نشأة الكون، وهو أول طبيعي نسبي وليس أولا صوريا مطلقا. وهناك الأول بالنسبة إلى الزمان بمعنى السبق، فالأب أول بالنسبة إلى الابن، ولكنه أول يحتاج إلى آخر وليس أولا مطلقا. وهناك الأول من حيث الجهد والمنافسة في السباق، وهو أيضا أول نسبي. وهناك الأول بالنسبة إلى الشعور وهو نشأة الشيء فيه، وأول ما يتبادر إليه، وهو أول نفسي خالص مشروط بحالة الشعور. لم يبق إذن إلا الأول من حيث الشرف والرتبة أو القيمة وهو «الله». فالذي لا أول له إذن ليس حكما على موضوع أو قياسا لشيء، بل تعبير عن مبالغة إنسانية عندما يوصف بحر بأنه لا أول له أو طابور أو شارع طويل بأنه لا أول له. فهو أسلوب إنشائي للتعبير عن صيغة المبالغة التي تستعمل أيضا للتعبير عن «الله» عندما يوصف بأنه لا أول له. والمبالغة وصف أدبي إنشائي وليست وصفا خبريا موضوعيا. الواقع له أول ونهاية، ومحدد ذو أطراف. لذلك كانت التعبيرات الدينية جزءا من التعبيرات الأدبية، والتجربة الدينية لون من ألوان التجارب الأدبية، فعلماء الكلام أدباء بلا أدب، وشعراء بلا شعر. والصوفية أنجح أسلوبا وأكثر توفيقا عندما عبروا عن مواجيدهم بالشعر، فهم أصحاب تجارب وأصحاب قريحة، والمتكلمون دعاة سلطة أو قادة معارضة، أهل جدل وخطابة وأقلهم أصحاب برهان.
والقدم ينافي تأثير المختار؛ لأنه مسبوق بالقصد المقارن لعدم الأثر، في حين أن الحدوث هو الذي يستند إلى المختار أو إلى قصد الإيجاد. وجود الحادث وجود قصدي، أي أن الوجود يوجد في لحظة الشعور به، فيخلق العالم في قصد الإيجاد. وهذا هو الحادث الذاتي أو الحادث القصدي. ولماذا يكون من خصائص نفي التأثير والاختيار وانعدام القصد والغائية؟ إذا كان الاختيار تعبيرا عن الحرية، والتأثير تعبيرا عن الفاعلية، والقصد والغائية تعبيرا عن الحياة، فلماذا يتصور القديم بلا حرية أو فاعلية أو غائية أو قصد؟ لماذا يكون القدم موتا وفراغا وسكونا وثبوتا وتوقفا؟
44
لذلك ارتبط القديم بموضوع الحسن والقبح والصلاح والأصلح والغائية، فالقديم عند المعتزلة يفعل ما يفعل لحسنه، وعند الأشاعرة من غير تقدير.
45
وكيف يمنع القديم الغائية، والغائية هي بناء الوحي، والوحي كلام، وهو صفة للقديم كما يتصور القدماء؟ كيف يكون إثبات القدم قضاء على الغائية، والقضاء على الغائية قضاء على استقلال الإنسان عقلا وشعورا وفعلا، هذا الاستقلال الذي هو غاية الوحي واكتماله فيه.
46
وتمثل الكرامية أكبر رد فعل على وصف الذات بالقدم، فالله لديهم ليس قديما بل محلا للحوادث، تقوم الحوادث به، والحوادث تحتاج إليه في الإيجاد إما بالإرادة أو بأمر كن، وهو ما يعطي الفاعلية لله، فيجعل الله هو التاريخ، والتاريخ هو الله.
47
فالاعتراضات على القدم قوية مثل أن القبلية ذاتية وفعل وحركة ونشاط وليس قبلية صورية فارغة، وأن صفات الكمال يمكن أن تتجدد وتتلاحق، وتنتقل من كمال إلى كمال، وأنه ما دام لكل صفة حادث ولهذا الحادث حادث، والذات لا تخلو عن الشيء وضده، فما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وهو باعتراف الأشاعرة الذين يتصورون أن الله شيء.
48
ويزيد الكرامية على هذه الاعتراضات اعتراضات أخرى، مثل أن الصفات لا تتصور إلا بالحوادث مثل السمع والمسموع، والبصر والمبصر ... إلخ. سمع الباري ما لم يسمع قبله ورأى ما لم ير قبله، فيجب أن يحدث له تسمع وتبصر. فلا ذات بلا موضوع ولا إله بلا عالم، وإن القدم بمعنى عدم سبقه بالعدم ليس تعريفا للقدم ومبررا له، وإن الله صار خالقا للعالم بعد أن لم يكن، وهي نفس الحجة لإثبات قدم العالم بقياس العالم على الله، ولكن هنا بقياس الله على العالم.
49
الصفات حادثة بذات «الله» لأنه خلق العالم، ومعنى ذلك أنه محل للحوادث، لم يكن فاعلا للعالم ثم صار فاعلا له. يمكن إذن تسميته حادثا أو حالا. وهو أقرب إلى معنى
كل يوم هو في شأن .
50
أقواله وإرادته وإدراكه للمرئيات والمسموعات، أعراض حادثة فيه. قوله للشيء «كن» خلق للمخلوق وإحداث للمحدث. وقوله للشيء «افن» إفناء للمخلوق. لا يموت شيء في العالم إلا بعد حدوث أعراض كثيرة في ذات «الله»، منها إرادته لحدوث ذلك الحادث، وقوله «كن»، وهو قول بألفاظ حادثة وأعراض، ورؤية تحدث فيه يرى بها الحادث. لا يعدم شيء من العالم إلا بعد حدوث أعراض كثيرة فيه، إرادته لعدمه أو قوله «افن». والحوادث الحادثة في ذلك الإله أضعاف أضعاف الحوادث من أجسام العالم وأعراضها.
51
في ذاته حوادث كثيرة مثل الأخبار عن الأمور الماضية والآتية والكتب المنزلة والقصص والوعد والوعيد والأحكام.
52
وما يحدث في ذاته يحدث بقدرته وما يحدث مباينا لذاته يحدث بواسطة الأحداث، أي الإيجاد والإعدام الواقعين في ذاته بقدرته من الأقوال والإرادات. والمحدث ما باين من الجواهر والأعراض، وهذا هو الفرق بين الخلق والمخلوق، والإيجاد والموجود. وهنا تبرز فاعلية الله ونشاطه في العالم، وتصبح حركة العالم جزءا من ألوهيته، وقوانين التاريخ صفاته، «الله» هنا بمثابة الوعي التاريخي. ولما ذاعت الكرامية كفرقة ضاع الوعي التاريخي من وجداننا القومي. ولما استقرت الأشعرية كفرقة رسمية للدولة استقرت السلطة وأصبح لها الأولوية على كل شيء بلا شعب ومؤسسات كما أن لله الأولوية على العالم بلا حوادث ولا تاريخ. تركز الكرامية إذن على الضد، ليس على القدم بل على الحدوث، وتقلب علاقة الواجب بالمستحيل، فالواجب هو الحدوث والمستحيل هو القدم.
53
وقد اختلفت الكرامية في تفصيل الخلق، فقال البعض لكل موجود إيجاد، ولكل عدم إعدام. وقال البعض الآخر إيجاد واحد يصلح لموجودين من جنس واحد، وجعلوا الأجناس خمسة. فالخلق إما أن يكون فرديا متجددا أو نوعيا عاما.
54
وما يحدث في ذاته ينقسم إلى أمر التكوين، وهو فعل يقع تحت المفعول، وما ليس أمر التكوين إما خبر أو تكليف، ونهي تكليف يدل على القدرة ولا يقع تحتها مفعولات.
55
ولا فرق بين «الله» والإنسان في القول والفعل، في الكلام والإرادة، في اللفظ والمعنى، في النظر والعمل،
56
فكلاهما حقيقة واحدة من حيث صلة الذات بالموضوع. وهناك فرق بين القول بأن «الله» محل للحوادث وبين التجسيم. فالحوادث تاريخ، أي حركة في الزمان، بينما التجسيم ثبوت في المكان ومادية في تصور الشيء.
57
وفي النهاية لا يتعلق الأمر بحجج عقلية وبراهين منطقية وإيقاع الخصم في التناقض، بل يتعلق الأمر بتجربة بشرية هي الوعي الكلي بالتاريخ الشامل، الله باعتباره تاريخا للعالم، والوحي باعتباره تجسيدا للبشرية. الوحي قول الله، وأفعال الأفراد والجماعات، الأنبياء والشعوب إرادته، وحركة الجماهير فعله ونشاطه، وهو ما يتفق مع كل فلسفات التاريخ التي ربطت بين «الله» والتقدم، بين صفات «الله» وحركة التاريخ وقوانين مساره.
ولم تقف الكرامية وحدها دفاعا عن الحدوث وجعل «الله» محلا للحوادث، بل شاركها الحكماء وبعض المعتزلة والباطنية وبعض الفرق الدينية الأخرى، وذلك يعني أنه اختيار عقلي وارد وليس «كفرا» محضا. فقالت الدهرية بقدم العالم، فالعالم قديم أي متقادم، وهذا متحقق في جواهر العالم.
58
ولقد أسند الحكماء العالم مع اعتقاد قدمه إلى الصانع لاعتقادهم أنه موجب بالذات، وأسندوه إلى الفاعل لأنه موجب بالذات. كما أثبتوا الإضافات مع عروض المعية والقبلية. أما المعتزلة فقد أنكروا قدم الصفات وأثبتها البعض أحوالا، والحال يتغير، واسطة بين الوجود والعدم.
59
وكذلك لا تلفظ الباطنية الحدوث من أجل القدم، بل ترد الاعتبار للمحدث فيكون القديم هو الأمر والكلمة، والمحدث الخلق والفطرة.
60
بل إن بعض الفرق الدينية الأخرى تقول بالحدوث، وهي فرق بينها وبين المسلمين عهود شرعية مثل المجوس.
61
وهناك فرق أخرى انتسب إليها علماء المسلمين تقول بالحدوث كذلك.
62
بل إن الأشاعرة أنفسهم وأهل السنة لا يستبعدون القول به، وذلك من خلال القول بتعدد القدماء، وهي الصفات الزائدة على الذات أو من خلال إثبات النسخ وهو رفع الحكم أو انتهاؤه، وهو إثبات عدم بعد وجود وقول بالتغير والتبدل والحدوث. إن عدم الاعتراف بالحدوث في رأي الكرامية جهل وغباء، بل جبن وخوف، فإن أكثر العالم يوافقون على حدوث الله وإن أنكروه باللسان خوفا من الشائع واتقاء لقهر السلطة التي تمثلت قدم «الله» دفاعا عن سلطة الحاكم وتفرده بالحكم دون مشاركة للعالم له فيه.
إن القدم من أكثر الصفات تنازعا عليها عند القدماء، ينكره بعض الأشاعرة لأنه إذا كان لا أول له فإنه تعريف سلبي أو أنه صفة، فذلك تصوير ثم تقرير، أي أنه أمر اعتباري لا وجود له في الواقع.
63
كما يدل من قال إن معنى القدم أنه إله أن الصفة المقصود بها التأليه ليس إلا،
64
أي أنها عملية شعورية المقصود بها تأليه كائن مشخص وليس وصفا لهذا الكائن بالفعل. القدم إذن ليس صفة موضوعية لشيء، بل هي مقولة إنسانية لإعلان مرتبة الشرف، ومن هنا أتت الأقدمية في الرتب والدرجات، والأقدمية في السن والعمر، والأقدمية في التعيينات والوظائف؛ لذلك لا يجوز أن يوصف «الله» بالقدم على الإطلاق أو أن تنسب إليه تجربة إنسانية.
65
كما أن الزمان ليس مقولة طبيعية، بل تجربة إنسانية. لا يوجد وجود سابق على الزمان وآخر لاحق عليه. الزمان الطبيعي إسقاط من الإنسان على الطبيعة. لا يوجد زمان في الطبيعة، بل الزمان تجربة حياة، تجربة نضج واكتمال. وقد ساعد على هذا الإسقاط تعاقب الليل والنهار، ودوران الأرض حول الشمس والفصول الأربعة. وكل ذلك يتم خارج الزمان أو بلا زمان، والإنسان هو الذي يزمن الظواهر الطبيعية. والقدم أيضا تجربة تاريخية تشير إلى جذور الوجود الإنساني في التاريخ، وتعطي الإنسان البعد التاريخي اللازم لرؤياه للواقع، وتمده بالعمق التاريخي وتراكم الخبرات ودروس الماضي وتجربة التاريخ. القدم إذن هو وعي الإنسان بالزمان باعتباره وعيا تاريخيا ظهر في الوعي المصري والوعي الصيني ووعي حضارات ما بين النهرين والوعي اليهودي، أي لدى الشعوب التاريخية، وغاب في الوعي الأمريكي، وهو الوعي الذي كان وراء نشأة علم فلسفة التاريخ في الغرب. وتنشأ حركات العودة إلى الأصول والبحث عن الجذور كحركات تحررية ضد تغريب العصر وتمييع الهوية، وتكون حركات نهضة وإحياء كما كان الحال في عصر الإصلاح الديني في الغرب، وفي الحركة السلفية المعاصرة؛ لذلك يخطئ من يظن أن القدم يعني العودة إلى الماضي والبحث عن القديم فحسب، إذ إن القدم من «التقدم» أي السبق واللحاق، الحركة إلى الأمام، وليس من التقادم أي الحركة إلى الوراء، وبالتالي تكشف صفة القدم ليس فقط عن الوعي التاريخي بل تضع أيضا قضية الوعي المستقبلي. فالمتقدم يعني السابق، والسابق يعني المتقدم، وبالتالي يكون الرجوع إلى الوراء أو التوجه إلى الأمام كلاهما حركة تقدم.
66
فإذا كان القدم قد يكون صفة مقبولة في بعض الأحيان كالجبن القديم والخمر المعتق والأثر القديم، فإنه يكون أيضا بمعنى سلبي بمعنى البلى كالمنزل القديم والحذاء القديم والنكتة القديمة. وهو ما يتضح في الأمثال العامية من ارتباط الوعي الشعبي بالقديم «من فات قديمه تاه» والتحسر على أيام زمان. ولكن خطورة ذلك قد تبدو في التأزم بأحوال العصر، ووقوف موقف العاجز منه، فتظهر الحركات السلفية كرد فعل على أزمة العصر، تجد في العودة إلى الماضي خلاصا وتعويضا، حلما وثورة دون أي تجاوز أو استبصار لعالم جديد. فالبدائي أفضل من العصري، والخلافة الراشدة أفضل من الملك العضوض.
67
كما تبدو خطورة القديم في أولويته المستمرة على الجديد، فله قيمة أعظم وشرف أكبر وبالتالي تستحيل الجدة، ويقل الخلق، وينتهي الإبداع، ويكون نمط الحضارة كله أقرب إلى الاتباع منه إلى الإبداع، وتكون الروح أقرب إلى التقليد منها إلى التجديد. وفي التجربة الإنسانية لا يكون للقديم الأولوية على الجديد باستمرار. ففي الخلق الفني يعبر الجديد عن الوجود أكثر من القديم الذي لا يكون إلا صوريا فارغا ساكنا عقليا جامدا. وفي الحياة، يعبر الشباب عن فورة الحياة أكثر من الشيوخ الذين يتحولون إلى جانب المحافظة والتقليد والإبقاء على الأوضاع القائمة. وفي مظاهر الحياة يكون للجديد الأولوية المستمرة على القديم، وإلا توقفت صور الحياة العامة. ولا يعني الجديد هنا الانقطاع عن القديم، ولكن تطويره واستمراره مع تغيير صوره وأشكاله. القديم والجديد كلاهما يعبر عن واقع، والواقع متغير، وبتغير الواقع تتغير الأشكال. القديم ما هو إلا شكل للواقع، والجديد ما هو إلا شكل آخر. الواقع المتغير حاليا لا يأخذ شكل مرحلة قديمة، بل يفرض شكله الجديد. علاقة القديم بالجديد إذن علاقة حركية زمانية تحدث في التاريخ وليست علاقة أولوية أو شرف. وصف «الله» بالقدم والإنسان بالحدوث نزعة تدميرية للعالم من أجل القضاء على الإنسان بلا ثمن.
68
وقد تنبه الفقهاء للأمر، ورأوا تحول صفة القدم من مجرد صفة لموصوف قديم إلى اسم فيصبح القديم اسما لا صفة، مما يدل على أن القضية قضية لغة، سواء كان القدم وصفا لذات أم صفة أم اسما أو مجرد لفظ دون أن يكون مصطلحا؛ لذلك تحرج البعض من إطلاق لفظ القديم لأن السمع القطعي لم يرد به ولا بألفاظ واجب الوجود، إنما الإطلاق للفظ بالإجماع.
69
الألفاظ نفسها مستحدثة، وبالتالي فهي من اختيار البشر يمكن تغييرها. لم يرد بها السمع ولكن أقرها الإجماع، والإجماع يتغير من عصر إلى عصر، والإجماع السابق غير ملزم للإجماع اللاحق نظرا لتغير الظروف والمصالح والحاجات. رفض الفقهاء استعمال اللفظ كمصطلح في علم أصول الدين أو اعتباره اسما من أسماء «الله»؛ لأنه وصف للمخلوق وليس للخالق. والحقيقة أن اللفظ الأصلي «قدم» ومشتقاته يعني التقدم أكثر مما يعني القدم، ويعني تقديم الأفعال أكثر مما يعني قدم الذات، والمرات القليلة التي يعني فيها القديم إنما كان يطلق بمعنى سلبي للإفك أو للضلال أو للتقليد أو للأشياء البالية.
70
فكيف يطلق على «الله» وصف القديم؟
خامسا: البقاء
(1) البقاء ثالث وصف للذات
البقاء هو ثالث وصف للذات بعد الوجود والقدم. فالوجود لا أول له ولا آخر، لا نهائي من البداية والنهاية، فإذا كان القدم يعني ما لا أول له، فإن البقاء يعني ما لا نهاية له. وقد لا يذكر البقاء ويكتفي بالوجود والقدم.
1
مما يدل على ظهور هذه الصفات تباعا بعد بناء نسق العقائد وتصورات الذات. وقد يظهر من الصفات المختلف عليها مع القدم والاستواء والوجه واليد والعينين والجنب والقدم والأصبع واليد والتكوين في نهاية الأوصاف الست مما يدل على بداية ظهوره وفرض نفسه في النسق.
2
وقد يذكر الآخر مع الأول في «الأول والآخر، الظاهر والباطن، القريب والبعيد» في عبارات إنشائية دون صياغات عقلية، مما يكشف عن بداية ظهور الصفة كنوع من المواجيد والعواطف والانفعالات حتى تستقر في النسق العقلي المتأخر.
3
وقد ارتبط في البداية بدليل الحدوث مثل صفتي الوجود والقدم. فيذكر البقاء بعد ذكر دليل الحدوث لأوصاف المحدث على أنها اسم فعل باق، أي كائن مشخص قبل أن تتحول إلى وصف مجرد، بعد موجود، قديم، واحد، أحد.
4
ويذكر في صيغة إنشائية بعد القدم والأول على أنه لا آخر لدوامه دون صفة البقاء، مما يدل على أن التجربة سابقة على المصطلح.
5
وقد يذكر في التمهيدات بعد واجب الوجود مع استحالة الفناء.
6
وقد يذكر في صيغة سلبية ضمن العشرين صفة على أنه استحالة طرد العدم أو إحالة العدم مما يدل على أنه وإن لم يكن وصفا سلبيا إلا أنه من الأضداد، وأن السلب أصل الإيجاب، والتنزيه سابق على التشبيه.
7
ثم يظهر البقاء كمسألة مستقلة تدل على أن الوصف بدأ يتموضع ويصاغ ويتفرد، ويتحول إلى وصف مستقل من مجرد تعبير إنشائي عن عواطف الإجلال والتعظيم.
8
وتتداخل صفة البقاء مع صفات المعاني السبع، وتظهر كصفة معنى وليس كصفة ذات بعد صفات المعاني السبع وقبل صفات التشبيه.
9
وقد يأتي بعد الصفات السبع ولا يذكر منها إلا الوجود، وكأنه نتيجة للقديم فيما وجب قدمه وجب بقاؤه.
10
ويثبت على أنه إثبات للمعاني وهو أن الذات باق ببقاء، وعلى أنه قول الأشعري، وليس مما اتفق عليه الجميع وأنها صفة ثبوتية مختلف عليها.
11
ويظهر البقاء بعد أوصاف الذات وبعد صفات المعاني السبع وقبل الرؤية،
12
وبعد صفات التنزيه والوحدانية. كما يظهر البقاء في مجموعة يدخل فيها قسم من الصفات السبع، وهي السمع والبصر والكلام والبقاء.
13
ويظهر وصف باق في مجموعة أخرى من الأوصاف في الإقرار بالتوحيد بعد أوصاف: موجود، واحد، ليس كمثله شيء.
14
وفي أول إحصاء لأوصاف الذات في عشر يظهر البقاء على أنه ثالث وصف بعد الوجود والقدم.
15
وقد يذكر البقاء بعد القدم بعد دخول الوجود في دليل الحدوث.
16
وعندما يستقر البقاء النظري للصفات في ست وفي أحكام العقل الثلاثة وجعل ما يجب لله عشرون صفة يظهر البقاء كثالث وصف فيما يجب لله كما يظهر في نفي طرد العدم كثالث وصف فيما يستحيل على الله من الصفات العشرين المضادة. كما يذكر البرهان على وجوب البقاء. كما يظهر كأحد الأضداد الخمسة والعشرين، الفناء ضد البقاء.
17
ويظهر أيضا كثالث وصف في تفسير لا إله إلا الله على أنه المستغني عن كل ما سواه.
18
وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة يظهر القدم والبقاء ونفي التركيب كأحكام الواجب.
19
والأدلة على إثبات البقاء ليست منفصلة عن الأدلة لإثبات الوجود والقدم، فهو ثلاثي واحد.
20
كما لا تنفصل أدلة إثبات البقاء كصفة عن أدلته لإثباته زائدا على الذات أو عين الذات، وهو السؤال الرئيسي في موضوع الصفات.
21
أثبته الأشاعرة لأن الواجب باق بالضرورة، فلا بد أن يقوم به معنى؛ لأن البقاء ليس من السلوب أو الإضافات، وليس الوجود بل زائد عليه، فالشيء قد يوجد ولا يبقى كالأعراض.
22
والحقيقة أن البقاء وإن لم يكن من السلوب وأن الصورة اللفظية له ليست منفية بلا أو ليس إلا أن البقاء من الأضداد عكس الفناء ويظل السلب أصل الإيجاب. وعند المعتزلة صفة ليست زائدة على الوجود لأنه استمرار للوجود، ولأنه لو كان باقيا بالبقاء لما كان واجب الوجود لذاته .
23
وهناك حجتان لنفي صفة البقاء زائدة على الذات، الأولى أنه لو احتاج إلى الذات لزم الدور وإلا لكان الذات محتاجا إليه وكان مستغنيا عن الذات فكان هو الواجب دون الذات.
24
وقد حاول البعض التوسط فأثبتوا البقاء في الممكنات ونفوه عن «الله».
25
والدليل على البقاء أنه لو لم يكن موجودا فيما لا يزال فهو أنه يستحق هذه الصفة لذات، والموصوف بصفة من صفات الذات لا يجوز الخروج عليها، وهذا هو تفسير الذات بالذات، وهو أقرب إلى التفسير بالطباع الذي ترفضه الأشاعرة.
26
وبصرف النظر عن إثبات البقاء كصفة زائدة على الذات أو هي عين الذات، فإن الذي يدل على البقاء عند جمهور المتكلمين هو أن كل واجب الوجود لذاته يستحيل عليه العدم؛ أي أن البقاء متضمن في مفهوم واجب الوجود، وبالتالي يكون تحصيل حاصل. ولو كان قابلا للعدم لاحتاج إلى معدم والمحتاج المفتقر يكون محدثا، وهذا في حقيقة الأمر هو إثبات الشيء عن طريق نفي الضد وهو برهان الخلف، ويظل دليلا سلبيا كما أنه قد ينعدم لذاته بطبيعته دون ما حاجة إلى تشخيص علة فاعلة. ولو انعدم لذاته أو لإعدام معدم أو لطريان ضد أو لزوال شروط وكلها باطلة.
27
والحقيقة أن إبطال الانعدام هو تكرار للحجة السابقة. وهو يكشف عن تشخيص الأفكار بألفاظ الحاجة والعوز والفقر. وقد تكون الأدلة لإثبات استحالة العدم على القديم، أي استحالة الضد وارتباط القدم بالبقاء. فلو عدم فإما أن يعدم لاستحالة بقائه، وهذا محال وإلا بطل القدم، أو أن يعدم لقطع أحداث البقاء فيه، وهو محال لأن «الله» ليس محلا للحوادث أو أن يعدم لطريان ضد عليه، وهو محال لأنه ليس أولى من عدمه في محله.
28
القديم إذن باق، والباقي ليس إلا الموجود، والبقاء لا ينتفي بالضد، فإذا انتفى كان عدم بقائه أولى، والقديم لا ضد له، وأنه لا يوجد معدوم لذاته.
29
واضح من هذه الحجج أن الوجود والقدم والبقاء صفات متلازمة يصدر كل منها من الآخر استنباطا كنسق عقلي محكم، يكشف عن أمور اعتبارية في الذهن أكثر مما يثبت موجودا في الواقع بالفعل. (2) معنى البقاء
يعني البقاء ما لا نهاية له ولا آخر، ويرتبط ارتباطا طبيعيا بالصفة الثانية. فالقديم ما لا أول له والباقي ما لا نهاية له.
30
والعجيب أن يخلط المتكلمون بين النهاية والغاية، فما لا نهاية عندهم يعني أنه ليس بذي غاية، فيتناهى ولا يجوز عليه الفناء، وكأن الغائية تعني التناهي في حين أن الغائية كقصد قد تكون لا متناهية. وعندما تتحقق الغاية قد يحدث التناهي وتقع النهاية، ولكن طالما أن الغاية لم تتحقق بعد فهي متصلة والبقاء مستمر، البقاء يسبق المكونات، ويبقى بعد جميع الفانيات، فهو الوجود المستمر الذي لا ينتهي ولا يتوقف، المستمر إلى ما لا نهاية، لا إلى غاية أو تحقق، الاستمرار المطلق.
31
كما يعرف البقاء بأنه دوام الوجود واستحالة العدم.
32
ولكن المعنى الشائع هو عدم الآخرية للوجود. فكما أن القدم عدم البداية، فإن البقاء عدم النهاية، وكما أن القدم يعني ما لا أول له فالبقاء يعني ما لا آخر له، فهو الأول والآخر، وما لا أول له لا آخر له بالضرورة.
33
ويعني الآخر أن يكون بعد فناء العالم، وأن يكون بعد فناء الدنيا وجميع العوالم الأخرى المستقبلة أو على الأقل بعد سكون الشيء، وأنه الباقي بعد أن يفنى كل شيء بلا تفضيل للعوالم. وهنا تظهر مشكلة فناء النعيم والعذاب وتشخيصهما في الجنة والنار. إن بقيا كما ينص على ذلك أصل الوحي فإنهما يشاركان «الله» في صفة البقاء، وإن فنيا عارض ذلك أصل الشرع. القول ببقائهما ضد تفرد الله بصفاته ومنها البقاء،
34
والقول بفنائهما ضد المنعم الذي يود النعيم الأبدي وفي صالح المعذب الذي سينقذ من العذاب.
35
ويصعب الجمع بين المحلين عن طريق المشاركة في الصفة وعدم المشاركة. أما كيفية الفناء بالقدرة أم بالطبيعة فذاك نقل لموضوع الطبيعيات من العلل المباشرة والعلة الأولى إلى مستوى الإلهيات.
36
وحرصا على التفرد بالبقاء رأى البعض أن الفناء يجوز على الله ذاته كله أو بعضه، فلا يبقى إلا الوجه،
37
وقد دفع ذلك الأشاعرة إلى إثبات البقاء. لما كان «الله» محلا للحوادث، فإن الحوادث التي يحدثها في ذاته تكون واجبة البقاء، يستحيل عدمها. فلو جاز عليه العدم لتعاقبت على ذاته الحوادث ولشارك في الجوهر. ولو قدر عدمها فإما أن يتم ذلك بالقدرة أو بإعدام يخلقه في ذاته. ولا يجوز بالقدرة لأنه يؤدي إلى إثبات المعدوم في ذاته وشرط الموجود المعدوم أن يكون متباينين لذاته، ولا يجوز بالقدرة من غير واسطة إعدام وإلا جاز حصول سائر المعدومات وجواز طرد ذلك في الموجد حتى يوجد موجد محدث في ذاته وهو محال. وكما كانت الكرامية أفضل رد فعل على وصف «الله» بالقدم فإنها أيضا أفضل رد فعل على وصفه بالبقاء، مما يدل على ارتباط الوصفين معا الثاني والثالث في نسق عقلي واحد. ولا يجوز بإعدام وإلا لجاز تقدير عدم ذلك الإعدام فيتسلسل.
38
فذات «الله» لا تخلو في المستقبل من حلول الحوادث فيه، وإن كان قد خلا منها في الأزل مثل قول أصحاب الهيولى كانت في الأزل جوهرا خاليا من الأعراض ثم حدثت فيها، فهي لا تخلو منها في المستقبل، وهذا يعني أن التاريخ مستمر، وأن الحوادث دائمة الوقوع، وأن «الله» هو الماضي والمستقبل في آن واحد، وأن تاريخ البشرية وحدة متصلة. وكما يحدث الماضي في «الله» كذلك يحدث في المستقبل ويصبح «الله» تاريخ البشرية وسجل تطورها، تقرأ فيه نفسها وتتعرف فيه على ذاتها. تاريخ تصورات الله هو تاريخ تدوين البشرية لذاتها.
وفي حقيقة الأمر أن البقاء من الأضداد، مرتبط بالفناء، ويعرف الضد بالضد كما يعرف الشبيه بالشبيه.
39
وأنها تجربة إنسانية معكوسة، فناء مقلوب. والبقاء أيضا تجربة في الشاهد، وما البقاء كوصف للذات إلا قياسا للغائب على الشاهد.
40
وكما يدل الأول على مرتبة الشرف والكمال فإن الآخر يدل أيضا على العظمة والجلال. فالشيخ الذي يعيش لآخر العمر مهاب، والذي يداوم ويصابر حتى النهاية عظيم. تعبيرات الأزلية والأبدية في الحديث عن صفات الله تعبيرات لا تدل على شيء موجود، ولا تشير إلى واقع فعلي، ولا تصدر حكما على موضوع، بل تعبر عن حالة الشعور وأماني الذات، أي أنها تعبيرات إنشائية أكثر منها خبرية، فلا يكفي الشعور أن يعزو إلى «الله» الصفات الأخلاقية، بل يعززها بصفات الأزلية والأبدية. لذلك رفض الفقهاء استعمال اللفظ كمصطلح في علم أصول الدين أو كاسم من أسماء الله لأنها مجرد تعبيرات لغوية للدلالة بها على انفعالات نفسية وشهادات وجدانية.
41
البقاء تجربة إنسانية، البقاء للفكر بعد الموت، والبقاء للذكريات بعد مغادرة العالم، بقاء الإنسان في شعور الآخرين. والبقاء للمعاني والأفكار، فالحقائق لا تموت، والحقائق الثابتة باقية لا تتغير. البقاء للأفراد والأبطال الذين يخلدون، يعبر عن رغبة في الخلود، وباعث على قهر الموت والفناء. البقاء للأعمال الصالحة التي تتولد في العالم، للأثر الطيب الفعال، للسنة الحسنة التي تبقى في التاريخ بقاء الآثار. وهي المعاني الموجودة في تحليل لفظ البقاء في أصل الوحي. فلا يبقى الباطل ولا الزيف، ولا يبقى إلا الحق والشرع. البقاء للخير والرزق والصلاح والذرية والشعوب التي تقاوم الفساد في الأرض، أكثر مما هو وصف لذات «الله».
42
سادسا: المخالفة للحوادث
(1) رابع وصف للذات
المخالفة للحوادث رابع وصف للذات يشمل عدة أوصاف أخرى، مثل: «ليس بجوهر، ليس بعرض، ليس بجسم، لا يحل في شيء، لا يتحد بشيء».
1
وهي في معظمها صفات نافية موجهة ضد عقائد العصر التي كانت منتشرة من الديانات المجاورة والتي كانت تمثل حينئذ خطرا على عقيدة التوحيد الجديدة. ويصعب التفرقة بين هذا الوصف الرابع والوصف الخامس، القيام بالنفس والذي يعني عدم وجوده في محل، في جوهر أو عرض أو إنسان أو جماد.
وهي أهم الصفات الست، وتكاد تبتلعها جميعا. فواجب الوجود مخالف للحوادث لأنها جميعا ممكنة الوجود. القديم مخالف للحوادث لأن الحوادث حادثة، والبقاء مخالفة للحوادث لأنها فانية، والقياس بالنفس مخالفة للتحيز والوجود في محل، والواحد مخالف للحوادث الكثيرة المتعددة. هذه الصفة هي التي تعبر بالأصالة عن التنزيه، وبالتالي فهي موجهة ضد كل صنوف التشبيه.
ولا يوجد اسم مكون من لفظ واحد مثل التنزيه أو مثل الصفات الثلاث الأولى الوجود والقدم والبقاء، بل هناك اسم مركب وهو المخالفة للحوادث مما يدل على الطابع السلبي للصفة، وأنها نفي للعالم أكثر منها إثبات لله، ورفض للحس أكثر منها قبول للتجريد، وأن النفي أساس الإثبات في قضايا التعبير عن «الله»، وأن قياس الغائب على الشاهد هو في حقيقة الأمر إسقاط الشاهد نفسه على الغائب ثم نفيه عنه. وقد يصبح التوحيد مرادفا لنفي التشبيه بكل صوره من جسمية وحيز. ويظهر نفي التشبيه على أنه باب التوحيد الأول والأخير. فمع أن «أساس التقديس» يدور حول أربعة أقسام إلا أن الأول في نفي الجسمية والثاني «تأويل المتشابهات»، والثالث والرابع «تقرير مذهب السلف»، وكلها تدور حول نفي التشبيه وإثبات التنزيه.
2
وفي الخطب والمقدمات يبدو نفي التشبيه على أنه الانفعال الثاني للتوحيد، قال لإثبات الوحدانية.
3
وفي إبطال التشبيه يتميز بين ما يجوز (الرؤية) وبين ما لا يجوز دون تفصيل لنفي الجسم والجوهر والعرض والحلول والاتحاد والزمان والمكان، أي كونه محلا للحوادث أو الجهة.
4
وفي المؤلفات الأولى يظهر نفي التشبيه مع إثبات الوحدانية على أنه من العقائد التي اختلفت عليها الفرق.
5
وقد يكون نفي النقائص الدالة على الحدوث وإثبات أوصاف الذات هو التوحيد، فالتوحيد أن تعلم أنه غير مشبه بالذوات ولا بالصفات.
6
وعند الفقهاء خاصة يظهر نفي التشبيه على أنه موضوع في التوحيد.
7
ويبدو نفي التشبيه في صيغ إنشائية وهو الحق بذاته تذكر مع الواحد والكمال ضمن الحياة.
8
كل ذلك يدل على أن بداية الصفة هي مجرد مواقف انفعالية وعبارات إنشائية قبل أن تتحول إلى مرحلة ثانية من التصور العقلي المحكم الداخل في نسق عقلي من الصفات التي تستنبط الواحدة تلو الأخرى.
ثم تظهر مخالفة ماهية الذات لسائر الماهيات على أنها أول صفة سلبية للذات بعد الوجود، وهو الوصف الوحيد للذات. وتظهر ماهية الذات غير مركبة على أنها صفة سلبية ثابتة.
9
ويظهر هذا الوصف الرابع، مخالفته لجميع الخلق بذاته بعد القيام بالذات والوجود بالذات، والشيء والغنى والواحد.
10
وفي المؤلفات المتقدمة يظهر نفي التشبيه على أنه أول وصف بعد دليل الحدوث وقبل الوحدانية.
11
ثم يظهر نفي الجسم بعد الوحدانية وجواز إعادة الخلق. ويظهر نفي التشبيه على أنه أول وصف للذات بعد صفات المعاني السبع، وقبلها إثبات القدم والوجود.
12
وقد يظهر نفي التشبيه في أواخر دليل الحدوث وكأنه نهايته وبداية التوحيد، وكأن هذا هو دفاع عن النفس أو الذات ونفي المشاركة فيها.
13
وفي المؤلفات السابقة على العد الإحصائي يظهر نفي التشبيه تاليا للوحدانية نفيا للتشبيه ومرة أخرى بعد الصفات في أنه شيء لا كالأشياء ونفي الجسم والجوهر والعرض والحد والضد والند والمثل.
14
كما يظهر نفي التشبيه في عبارة «ليس كمثله شيء» بعد الوجود والوحدانية.
15
ويأتي نفي الجسمية بعد التوحيد كثاني صفة في كتاب التوحيد، وذلك ضمن الحديث عن الجسم والتأليف والأكوان. أي أن الجسمية تنفى في معرض دليل الأكوان كما ينفى التشبيه في آخر دليل الحدوث.
16
وقد يظهر نفي التشبيه بعد الوحدانية والقدم في عبارات إنشائية دون إحصاء مع نفي الصورة والكيف.
17
ويظهر أيضا بعد إثبات الوجود والوحدانية في شرح «الصمد»، ويعقد فصل لإبطال التشبيه بعد الوحدانية.
18
وقد يظهر في التحميدات بعد الوجود والبقاء والوحدانية.
19
وقد يكون نفي التشبيه آخر صفة بعد ذكر جميع الصفات من وحدانية وقدم وصفات سبع ونفي العرض والجوهر والجسم والصور والحد والعد والتبعيض والتجزئة والتركيب والتناهي والمائية والكيفية والمكان والزمان.
20
ويظهر لأول مرة تعبير مخالفة الحوادث على أنه رابع وصف للذات بعد الوجود والقدم والقيام بالنفس.
21
وقد يدخل نفي التحيز والتخصص بالجهات.
22
ويظهر أيضا استحالة أن يكون الله جسما،
23
وعدم قبول الله للأعراض.
24
وفي استحالة كون الرب جوهرا والرد على النصارى،
25
دخل الرد على النصارى في المخالفة للحوادث وليس في الوحدانية. ويظهر معتقد اليهود والنصارى كرابع وصف بعد الوجود والوحدانية ونفي التشبيه وتفسير آية:
لم يلد ولم يولد .
26
وينفي التشبيه (النور) بعد إثبات القدم وجواز الوجود، وإثبات الوحدانية، وجواز التشبيه، وجواز النعت.
27
ويظهر عدم قيام الحوادث بالذات بعد نفي مشاركة الذات لغيرها ونفي تركيبها، ونفي التحيز، ونفي الاتحاد، ونفي الحلول، ونفي الجهة.
28
وتظهر استحالة قيام الحوادث بالذات على أنه خامس وصف للذات بعد نفي الجسمية، ونفي الجوهر وهو المكان، ونفي الحلول، ودخول الوجود في دليل الحدوث والإمكان.
29
ويظهر نفي قيام الحوادث كرابع وصف بعد نفي المشاركة والجسمية والاتحاد والحلول.
30
وقد يظهر نفي قيام الحوادث بالذات بعد نفي الاتحاد وقبل الحلول، وكلاهما يظهران بعد نفي التشبيه والشرك اللذين يظهران بدورهما بعد صفات المعاني السبع التي ظهرت هي الأخرى بعد إثبات القدم والوجود.
31
ويظهر وصف عدم قيام ذاته بالحوادث كسادس وصف في التنزيهات بعد نفي الجهة والمكان ونفي الجسمية ونفي الجوهر والعرض ونفي الزمان ونفي الاتحاد والحلول.
32
وأخيرا وبعد اكتمال البناء النظري للعقائد في أحكام العقل الثلاثة تظهر المخالفة للحوادث على أنها رابع وصف للذات فيما يجب لله من صفات عشرين، واستحالة المماثلة للحوادث وأن يكون جوهرا أو عرضا أو في جهة أو في مكان أو زمان مع البرهان على وجوب مخالفته للحوادث فيما يستحيل لله من صفات عشرين وأيضا كوصف رابع في تفسير «لا إله إلا الله» على أنه الغني عن كل ما سواه. وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة يظهر القدم والبقاء ونفي التركيب كأحكام الواجب.
33 (2) التأليه
ويتنازع هذا الوصف الرابع، المخالفة للحوادث، تياران: التشبيه والتنزيه. الأول يعطي صفات المخلوق للخالق، والثاني ينفي صفات المخلوق عن الخالق وينتهي بإعطاء صفات الخالق للمخلوق. والتشبيه على درجات. يبدأ من التأليه، تأليه الإمام وإعطائه وظائف كونية، وحلول الله في الأئمة ثم الحلول والاتحاد، حلوله في الصوفية واتحاده عند النصارى، ثم التجسيم، تجسيم الله في الإنسان الكلي أو في أبعاضه حتى تأليه الجسم واشكال الجسم ومادة الجسم وتأليه الجواهر وأنواع الجواهر، ثم التشبيه خضوعا للغة الحرفية مع نفي الكيفية، وأخيرا التنزيه ونفي الصفات إلى آخر ما هو معروف في عقائد الفرق ابتداء من الحس إلى العقل، من العياني إلى المجرد، من الخاص إلى العام، من الشخص إلى اللاشخص. وقد يعبر ذلك عن بعدي الشعور وتوتره بين هذين القطبين المادي الحسي والخالص العقلي في قالب ديني هو في الحقيقة وصف للوعي الخالص كمعرفة وكوجود. (2-1) تأليه الأئمة
وأول درجة من درجات الحس هو تأليه الشخص المتعين الموجود في الزمان والمكان، والمعروف باسمه ووصفه وعينه. هو الشخص التاريخي الذي ولد وعاش ومات، وله أثر وقبر، ومشهد وزيارة. تبدأ عملية التأليه إذن بوجود شخص تاريخي معين يكون مشجبا لتعليق الانفعالات الإنسانية، وبحركة صاعدة من الشخص المعين إلى الشخص المؤله، على ما هو معروف في تاريخ الأديان في تراثنا القديم وفي التراث الغربي بعد أن أصبح أحد روافد فكرنا المعاصر. فقد كان لاوتزي شيخا فاضلا في قريته قبل أن يصير إلها، وكان بوذا معلما فاضلا قبل أن يصبح إلها، وكان المسيح أيضا نبيا مرسلا قبل أن يتحول تدريجيا إلى إله في شعور الجماعة المسيحية الأولى، وهو ما حدث لعلي أو لبنيه أو لبعض الأئمة من بعدهم. فقد كانوا أشخاصا تاريخية موجودة بالفعل بدأت منهم عملية التأليه (فجأة وبلا مقدمات) نتيجة للصدمات النفسية التي حدثت في شعور الجماعة الأولى.
34
وتبدأ عملية التأليه ليس من أي شخص كان، بل من شخص تاريخي معين له بعض الأوصاف أو الشروط منها: (1)
الكمال الخلقي قولا وعملا: وذلك أنه من السهل الانتقال من الكمال الإنساني إلى الكمال المطلق. فغالبا ما كان الشخص المؤله متمتعا بصفات الكمال المادية والمعنوية، مثل الشجاعة والشهامة والقوة أو الحكمة والعلم والتقوى وحب الخير. وقد اجتمعت هذه الصفات في «علي» كما تروي النصوص وكما حفظ التراث المدون والشفاهي على السواء. بل إن هذه الصورة الكاملة للشخص التاريخي كانت باعثا على وضع كثير من النصوص المشابهة التي تذكر فضائله وآثاره وعلمه وحكمته. كما أن الكتب تؤلف باسمه وتنسب إليه.
35
ويساهم الخيال الشعبي في إحكام الصورة حتى تتحول إلى أسطورة خالصة.
36
والآثار المروية في فضائل «علي» لا تعد ولا تحصى. ويمكن تتبع نشأتها وتطورها ووصف عملية الخلق التي قام بها الخيال الشعبي. وتقوى الأسطورة وتتأصل إذا كان بعض هذه الآثار مذكورا في النصوص الدينية التي تؤمن بها الجماعة. تتأكد هذه الصفات وتتحقق في حياة الشخص كما يرويها التاريخ، ثم تتضخم في الأساطير الشعبية التي تحيل الشخص إلى بطل أسطوري يقوم بالمعجزات، ويقرأ الغيب، وينصر المظلوم، ويأتي في المنام متوشحا بالبياض. (2)
الحق الضائع: لما كان هذا الكمال الخلقي يعطي صاحبه نظرا وعملا الحق في الزعامة والأولوية في أخذ مكان الصدارة، فإن الذي يحدث بالفعل هو العكس، زحزحة هذا الشخص عن مكان الريادة فيصبح صاحب حق مهضوم. وبدافع إنساني خالص من نصرة المظلوم ورغبة في الحصول على الحق الضائع واسترداد الزعامة أو بدافع الرثاء والتعاطف والمشاركة الوجدانية يظهرها الأتقياء أو تعبر عنها العامة تنشأ حركة مناصرة واعية أو غير واعية للشخص صاحب الحق المهضوم، وتكون تيارا للمعارضة لها الحق نظرا وإن لم يكن لها الحكم عملا. وتأتي الصور والصيغ من التجارب المشابهة في البيئات الحضارية المجاورة، إما بطريق الأثر والتأثر أو بطريق الاستعارة اللاشعورية. وأحيانا تفرض التجارب الشعورية صورا وصيغا متشابهة دونما أثر أو تأثر أو استعارة.
37 (3)
الهزيمة: فإذا ما تشعبت المعركة بين دعاة الأمر الواقع وأصحاب الحق الضائع، ودارت الدائرة على المظلوم، واشتدت قوى الظلم، أصبح صاحب الحق المهضوم شهيدا لا يمكن مناصرته إلا بالانفعالات والنيات الحسنة أو باستمرار النضال مع بنيه وباقي الأئمة. فإذا ما توالت الهزائم على الأئمة ولم يحدث أن عاد الحق الضائع، ويئست الجماعة الناصرة له، واستحال النضال، تحولت المعركة إلى مجرد أماني وبكاء على الشهداء وتعظيما للأئمة وإكبارا للزعماء. وكلما ازداد الظلم اشتد التعظيم، وتحول الشخص التاريخي إلى شخص معنوي ثم تحول الشخص المعنوي إلى فكرة وحقيقة خالدة، فصار الشخص إلها، والأمير ربا. وهذا ما حدث لعلي وبنيه والأئمة من بعدهم. (4)
الاضطهاد: وبعد الهزيمة يتوالى الاضطهاد على أصحاب الحق الضائع. وتنشأ معظم الأفكار التي تنشأ غالبا من سيكلوجية الاضطهاد مثل الخلود والخلاص والعودة والاتجاهات الباطنية كما هو معروف من تاريخ اليهود القدماء أيام الأسر البابلي. وفي المسيحية نشأت عبادة القديسين واحترام رفات الأولياء والشهداء من اضطهاد المسالمين وقتل الأبرياء وظلم أصحاب الحقوق في عصر الشهداء. وقد عبرت رؤيا يوحنا عن هذا البناء النفسي القائم على الشعور بالاضطهاد، الصراع بين الخير والشر ، وانتصار الخير بالخيال في النهاية. فاضطهاد الأمويين للشيعة كاضطهاد الرومان للمسيحيين، وأسر نبوخذ نصر للعبرانيين.
وكما يحدث التأليه من الشعور الجماعي بالنسبة إلى الشخص الذي تجتمع فيه شروط التأليه يحدث أيضا من الشخص نفسه الذي تخلقه الجماعة كمخلص لها. ففي كل مجتمع مضطهد مغلوب على أمره، مستضعف يبغي الخلاص، تنشأ فيه أفكار الخلاص في المستقبل وتتشخص في صورة شخص المخلص الذي سيظهر عاجلا أم آجلا لتحقيق هذا الخلاص. فإذا ظهر الشخص ولم تؤلهه الجماعة أله هو نفسه إما فجأة من عنف الصدمة التي تلقاها المجتمع المهزوم فيؤله نفسه، وبالتالي يصبح نبيا وإماما، وإما تدريجيا عندما يصعب الخلاص ويصر على طلب النصر، فيحول نفسه من مجرد إمام إلى نبي ثم إلى إله ويكون التأليه هنا تعمية عما يحدث في الواقع وغطاء يستر الهزيمة، وأملا في سراب كتعويض عن مرارة الواقع واليأس من الخلاص. وهكذا ادعى صاحب كل فرقة من غلاة الشيعة الألوهية أو على أقل تقدير يبدأ بادعاء النبوة والرسالة. وما أن يفشل في تحقيقها أو بدلا من أن يحققها بالفعل حتى ينال الخلود يظن أنه قد حققها بالفعل، فيؤله نفسه ويخلدها ويعبدها نظرا بعد أن فشل أو عجز عن القيام بالرسالة عملا. فكل تأليه فشل وعجز. ويسهل تأليه الإنسان لأنه عندما يتأمل نفسه يجد أنه أشرف ما في الكون وأعظم آياته، فيؤله نفسه بالخيال بدلا من أن يعمل جاهدا فيخلد نفسه بالعمل. التأليه عملية يقوم بها العاجز أو معركة في الهواء يقوم بها الضعيف في حين أن تخليد الذات بالفعل عمل إيجابي ووجود موضوعي للخلود من خلال الفعل.
38 (2-2) درجات التأليه وطرقه
ويمكن التمييز بين ثلاث درجات في التأليه: الألوهية، والنبوة، والإمامة، تبعا لعنف الصدمة أو ضعفها. فإذا كانت صدمة الجماعة الأولى عادية نشأ التأليه متدرجا من الإمامة إلى النبوة ثم إلى الألوهية تبعا لإضافة كل جماعة من خيالها وخلقها. أما إذا كانت الصدمة عنيفة نشأ التأليه أولا في أعلى صورة له في الألوهية ثم انخفض تدريجيا من الألوهية إلى النبوة ويصل إلى أقل درجاته في الإمامة، وقد تجمع الدرجة القصوى بين الألوهية والنبوة والإمامة معا، فإذا خفت حدتها جمعت النبوة والإمامة فحسب.
39
تعني الألوهية إذن على هذا النحو الانتقال من العدم المطلق إلى الوجود المطلق، ومن الهزيمة الشاملة إلى الانتصار المحقق، ومن الضياع الكامل إلى الوجود الكلي، وفي كل مرة يتأكد الضياع يزداد التأليه. ومع الإحساس بالعجز عن استرداد الحق الضائع تشتد انفعالات التأليه كتعويض عن هذا الإحساس بالعجز، وكأن النصر لا بد وأن يحدث بهذه الصورة الانفعالية الفردية، وكأن غياب الواقع لا بد وأن يجد تعويضا له في متاهات الخيال. التأليه إذن غياب للموضوعية، وإغراق في الذاتية، ونقصان في العقل، وزيادة في الانفعالات، وانسياق وراء العاطفة، وكأن الطاقة الإنسانية لا بد وأن تتصرف على أي وجه حتى ولو كان غير طبيعي، وعلى هذا النحو ادعت كل الفرق من غلاة الشيعة ألوهية «علي».
40
وكما يحدث التأليه ابتداء من شخص تاريخي موجود بالفعل مستوف للشروط، ويتم رفعه حتى يصير إلها، يحدث أيضا بحلول الله في الشخص ونزوله إليه بدل أن يرتفع الشخص إليه ويصير في مقامه. يأخذ التأليه إذن إحدى طريقين: الأول تأليه الشخص ذاته وتصعيده من حيز الشخص إلى نطاق الإله، وهو نوع من الإجلال والتعظيم عن طريق التفخيم بالتصعيد، وهو ما حدث لعلي ولبنيه ولبعض الأئمة، وهو ما حدث أيضا للأوتزي وبوذا. والثاني حلول الله في الشخص ذاته، أي تنزيل الله من نطاق الألوهية إلى حيز الشخص، وهو أيضا نوع من الإجلال والتعظيم عن طريق نزول الله وحلوله فيه. وهو ما حدث أيضا لعلي وبنيه ولبعض الأئمة من بعده، وهو الطريق المفضل عند الصوفية أنصار الحلول، وفي المسيحية عند بعض الفرق القائلة بطبيعتين للمسيح.
41
والعجيب تأليه من قتل الإله!
42
هل لأنه هو الذي كشف عن ألوهيته، خالصة من جسده، من أجل إطلاق روحه وتناسخها في غير؟ هل لأن الإله لا بد أن يقتل كما هو الحال في المسيح وأن ذلك جزء من الخطة الإلهية للكون، وبالتالي تدخل كل عناصرها وتصبح كل مكوناتها إلهية؟
وغالبا ما يرفض الشخص التاريخي المؤله والذي وقع عليه التأليه إسقاط هذه العملية الشعورية عليه، مما يدل على أن التأليه من فعل الجماعة وليس من ادعاء المؤله إذا كان على قدر كبير من الوعي النظري دونما حاجة إلى اللجوء إلى عقيدة الألوهية تقوية للعزائم وشحذا للهمم كما هو الحال في المجتمعات المتخلفة وجماعات الاضطهاد.
43
ويبدو أن التأليه الديني القديم قد تحول إلى تأليه سياسي معاصر، وأن الإمام القديم أصبح هو سلطان العصر، وأن أئمة الأجداد أصبحوا هم حكام العصر، وأن أولاد الحسن والحسين هم أولاد الجيش، وضباط الجند، وسواري العسكر. وبالرغم من أن التأليه قد حدث لدى فرق الشيعة باعتبارها جماعات الاضطهاد قديما، إلا أنه استمر عند أهل السنة باعتبارها جماعة الاضطهاد حديثا بعد المد الاستعماري الأوروبي والقهر الداخلي. ومن الطبيعي أن يحدث تأليه قائد الجماعة المضطهدة بفعل شعور الجماعة تعبيرا عن تجاوزها لآلام الهزيمة وانتصارها المعنوي، وتحويلها من الواقع إلى الخيال، ومن المشاهدة إلى الحلم، ومن الزمن إلى الخلود. ولكن العجيب أن يحدث ذلك من قواد الثورة، وعسكر الانتصار، وأن يدعى كل قائد اليوم الإله الفرد، والحاكم الأوحد، والسلطان المطلق. وهنا يبدو أثر التراث كمخزون نفسي عند الجماهير.
44
الجماهير ما زالت مطحونة، مضطهدة، يقوم شعورها على سيكلوجية الاضطهاد، وبالتالي فهي مستعدة بهذا التكوين لتأليه الحكام. فيدرك الحكام ذلك أن الدين أنجع وسيلة للسيطرة على الشعوب، سواء طبقا لنصائح الاستعمار وخبرائه أو بدونها، ومع ذلك فهي سيطرة موقوتة لأن وعي الجماهير بمصالحها يستطيع أن يفك الإسار التاريخي، فيقضي ثقل الحاضر على قيود الماضي، وهو ما حدث في الثورة الإسلامية في إيران. لم تمنع عقيدة التأليه من ثورة الجماهير، وأصبحت قيادة الإمام سياسية خالصة تقود الجماهير، فانقلبت الشيعة سنة، والسنة شيعة.
45 (2-3) وظائف الإمام الكونية
والإمام المؤله يشارك الله في وظائفه. بل إنه يقوم بها كلية بمفرده وعلى رأسها وظائف الخلق وإحياء الموتى، وإجراء المعجزات في الدنيا، وحساب الخلق، وعقابهم في الآخرة. وبتحليل إحدى أساطير الخلق نجد الآتي :
46 (1)
يتم الخلق بطريقة كونية خالصة دون أي تمييز بين خالق ومخلوق. فالإمام الإله والكون شيء واحد، خالق ومخلوق معا. الله لا ينفصل عن الأكوان والأشخاص، بل يتجلى فيها كما هو معروف في الديانات البدائية في أساطير الخلق وتفسير نشأة الطبيعة من ذاتها ما دامت الطبيعة هي الله. يبدأ العالم من وحدة واحدة هو الله. كان الله ولا شيء معه، وحدة مجردة خالصة لا انفصام فيها ولا تعدد أو تكثر، خالصة بلا مادة أو تعين. ولما كان على صورة بدن له رأس، يطير ويحط، له ملبس وعلى رأسه تاج، فإن الخلق يحدث بانفصال جزء خارجي عنه وهو التاج، ولكنه جزء فاضل عزيز طبقا لتفاضل الأعضاء، فالوجه أفضل من اليدين، واليدان أفضل من الأرجل، يبصر ظله في البحر فهو والعالم وجهان لشيء واحد، يخرج الكون من بدنه طبقا للصلة الكونية بين بدن الله وبدن الطبيعة. البحران من عرق الله، ومعروف في تاريخ الأديان أن النيل من دموع إيزيس، والعالم جسد المسيح، والكنيسة رأسه. الشمس من ظل بدن الله في البحر، والعالم كله صورة لله أو انعكاس له في الماء. وقد تم الخلق بالكلام لا بالإرادة بمجرد أن تحدث الله باسمه. فالعالم صدى لكلامه ورنين لصوته. وعلى هذا النحو يفسر التجسيم نشأة الطبيعة نشأة أسطورية عندما يتم الخلط بين النفس والبدن، بين الروح والطبيعة، وتتوحد الثنائيات من خلال الإشراقيات، وفي هذه الأحوال تسبق الطبيعة الإنسان، ويخرج الإنسان من الطبيعة، وتكون الطبيعة هي الكون كله علوه وسفليه، ويخرج الجماد من السائل، والسائل من الجماد، الحي من الميت والميت من الحي. الدورة أساس الطبيعة. تتشخص الطبيعة، ويحيا الجماد، وتظهر للأشياء إرادة وعقل، وتتحدث الموجودات، تأبى وترفض، تجادل وتقترح حتى يمحى الفرق بين «الله» والطبيعة والإنسان. (2)
يكشف الخلق الكوني في حقيقة الأمر عن سيكلوجية الاضطهاد. فقد كان الله وحده أي تدمير العالم الظالم باستثناء الله العادل. وتم الخلق بالكلمة، فالكلمة سبب الشهادة. وقد ركز شعراء الجماعات المضطهدة على أهمية الكلمة، وكذلك في تاريخ الأديان، في البدء كانت الكلمة. ويرمز التاج الواقع إلى السلطة السياسية المنهارة، واقعا أو بالتمني، كرغبة مكبوتة، كما تعبر الأسطورة عن قدرية الأفعال، وجبرية المصائر، والقدر المحتوم في مسار التاريخ ليس فقط في الظلم بل أيضا في العدل، أو في الهزيمة وحدها بل أيضا في الانتصار. وقد كانت كثير من الحركات الثورية جبرية بمعنى اتحادها مع حتمية قوانين التاريخ، طبقا لجدل السيد والعبد. كما تبين الأسطورة رفض المعاصي والظلم والغضب من الشرور والآثام، فالوعي ما زال خالصا لم يتزيف بعد بفعل الدولة والنظام القائم. ويشير التعارض بين العذب والمالح، بين النور والظلمة، إلى الصراع بين الحق والباطل، بين العدل والظلم على ما هو معروف في الجماعات الإسلامية المعاصرة التي تمثل جماعات الاضطهاد اليوم.
47
وتكشف الأسطورة في ظل «الله» عن التمايز بين الوجود والظهر، بين الباطن والظاهر، بين الحق والباطل. بين الحقيقة والوهم. أما فردية الإله ووجوده ولا شيء معه فإنها تعبر عن الحكم المطلق والرغبة في التسلط: «لا ينبغي أن يكون معي إله غيري». أما عدم تحمل الأمانة وتخلي الناس عن مناصرة الحق، فإنه وصف لواقع جماعات الاضطهاد. ومن ثم تعبر الأسطورة مرة عن الواقع ومرة عن الحلم، مرة عن مرارة الألم والاضطهاد والهزيمة، ومرة أخرى عن قرب الفرج والفرح والانتصار. وبالرغم من هذه الوحدة الأولى في الخلق، فإنه يمكن التمييز في عملية الانفصال بين طرفين يمثلان الثنائية الخالدة المعروفة في تاريخ الأديان بين الخير والشر، وتشخيصهما في الطبيعة أو في الألوهية. هناك بحر مظلم، والآخر نير عذب، الأول يمثل الشر والثاني يمثل الخير، الأول خلق منه الكفار والثاني خلق منه المؤمنين.
48
وبالتالي يتحول البشر الفانون إلى أنماط أبدية للسلوك البشري تجسيدا للخير المطلق والشر المطلق. (3)
بعد الخلق الكوني يأتي الخلق الشخصي، ويبرز من الكون الشخص الأول كما هو الحال في حكايات الخلق والنصوص الدينية من خلق آدم بعد خلق الكون. ولكن الشخص الأول هنا هو محمد، وهو ظل، أي وهو صورة مجردة قبل أن تتمثل في مادة، وحقيقة خالصة أبدية قبل أن تتعين وتتزمن ثم إرسال هذا الظل إلى الناس قبل إرساله وهو رسول بشري. وهو ما قاله الصوفية فيما بعد عن «الحقيقة المحمدية» التي تشارك في صفاته ووظائفه، محمد الخالد الأزلي السابق على الخلق والتكوين الذي يوجه ظواهر الطبيعة، والذي تنبع منه العلوم والمعارف.
49
وفي أسطورة أخرى يأخذ على الدرجة الثانية بعد آدم. وفي أسطورة ثالثة أن الله لم يخلق شيئا، بل فوض كل ما فعله إلى محمد أو إلى علي، وهو الذي قام بهذه الوظيفة الكونية.
50
ويلاحظ في أسطورة التدبير عن طريق التفويض تضخم محمد وتحوله إلى كون ومدبر أول للعالم وواسطة بين الله والخلق. والإمام وريث لمحمد، لإرادته وتفويضه، مما يعطي إمام الجماعة المضطهدة قدرة إلهية، وتمثيلا للحق من خلال النبي. تضخم النبي ناتج من أنه في علاقة قرابة مع إمام الجماعة المضطهدة فقرابة الدم حامل لتفويض الرسالة. ومعروف في تاريخ الأديان أن بولص قال مثل ذلك في المسيح الأزلي الخالد السابق على الكون والخليقة المتحد بالله قبل المسيح عيسى ابن مريم.
51
وهو ما يحدث في كل بيئة يقع الاضطهاد على قائدها، فترفعه وتجعله يند عن كل اضطهاد ويتجاوز كل هزيمة، ويتغلب على كل ظلم. وأقصى درجات الرفع هي الألوهية بما تتصف به من خلود وأولوية على كل شيء، وعزاء وتعويض من كل شيء. ويتضخم الإمام حتى يبتلع الكون كله فيكون الكون هو الشخص، والشخص هو الكون، ويصبح الرسول وأهله السماء، وعلي وأهله الأرض.
52
وكأن التأليه الذاتي للعقائد وحده لا يكفي للتعبير عن العظمة والجلال، فيتحول إلى تأليه موضوعي ولأهله وللكون. وتتضخم ذات العقائد، إماما أو رسولا، وتتجه نحو الموضوع وتتحد به وتتمثله وتحتويه في باطنها. وكلما قوي الإحساس بالهزيمة والضياع اشتد التأليه للشخص حتى يحوي الكون كله. وقد يحدث هذا التشخيص للطبيعة كنوع من إسقاط العواطف الإنسانية على الطبيعة في حالات الهستيريا. فالمجنون يخاطب الأشياء، ويتحدث مع الموضوعات، ويوجه الحديث إلى الكون. قد يكون تشخيص الطبيعة نوعا من آثار الصدمة الأولى التي تلقاها الشعور الجماعي فأفقدته صوابه وأصبح لا يتحدث إلا مع الأشياء كما هو الحال في الديانات البدائية وفي المسرح اليوناني القديم عندما يخاطب البطل الموتور أو الكورس أو الأشياء المحيطة به. (4)
هذه الأولوية للشخص، سواء كان آدما أو محمدا أو عليا أو عيسى، ليست أولوية مادية كونية فحسب، بل هي أيضا أولوية معنوية خلقية. فالشخص هو الإنسان الذي رضي بحمل الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال وعلى الناس كلهم أن يمنعن عليا فأبين جميعا ولم يقبل إلا أبو بكره فأمره أن يتحمل منعه. وأعانه عمر غدرا كي يأخذ الخلافة من بعده. وهنا نجد تحويرا للأفكار الدينية وتوفيقا لها مع الظروف النفسية للجماعة. أولا، لم تعد الأمانة كما هو الحال في النصوص الدينية تطبيق الوحي، أي الإيمان بالله وفعل الخير، بل منع علي من القيام بالرسالة. وقد حدث هذا التحوير بالقلب من الضد إلى الضد، من القيام بالرسالة إلى منع القيام بها. ثانيا، بدل أن تعرض الأمانة على الطبيعة وحدها، كما هو الحال في أصل الوحي، عرضت على الطبيعة والبشر معا. فالبشر جزء من الطبيعة، والطبيعة مشخصة. ثالثا، بدل أن يكون الإنسان العام هو الذي يقبل الأمانة أصبح الإنسان الخاص هو الذي يقبلها وهو أبو بكر. فالظروف النفسية للجماعة حولت الأفكار الدينية إلى أسطورة بطريق القلب والتخصيص. (5)
هذا الإمام الكوني تسوده الأهواء والانفعالات، يسر ويغضب، ينافس ويصارع، يمحق ظله في البحر لأنه لا يريد إلها غيره، فهو ليس إلها عاقلا حكيما خلق الكون بناء على نظام وقانون، بل إله منفعل، وكل شيء خاضع لهواه. بل إن انفعالاته النفسية يصاحبها ظواهر جسمية. فهو يغضب ومن شدة غضبه يعرق بدنه. وهذا طبيعي بما أن هذه الصورة من خلق الشعور الانفعالي الذي هزته الصدمة وأفقدته الهزيمة التوازن النفسي. غاضب لما ألم به من ظلم وعدوان، يصارع الأعداء، ولا يقبل أحدا بجواره؛ لأنه لم يعد يثق بأحد، وهي الصورة التي أصبحت فيما بعد صورة المتسلط القاهر. (6)
والإمام المؤله لا يموت. فكما أنه أزلي لا أول له فهو أيضا أبدي لا نهاية له. وهو ليس وحده خالد، بل يكون أيضا كل من اتصل به أو عبده أو على الأقل البعض منهم، فالخلود يسري بالاتصال وينتشر بالتبعية. كل من اتصل بالخلد فهو خالد، وكأن الإمام يشع خلوده على الآخرين، وتسري عدوى خلوده في جماعته. ليس الخلود صفة خاصة ثابتة، بل هي صفة مشعة. وقد يكون الخلود لأبدان الآلهة، ففي لحظة الموت يرفع الإمام ببدنه إلى السماء، وتحل روحه في بدن إمام آخر. فالإمام خالد بدنا وروحا.
53 (7)
والإمام المؤله قادر على إحياء الأموات وإجراء المعجزات، سواء بفعله أو باسم الإله الأعظم تبعا لدرجة التأليه، فهو يفعل باسمه لو وصل إلى أقصى درجات الألوهية. ويفعل باسم الله الأعظم لو كان يحفظ بينه وبين الله درجة. وإجراء المعجزات رد فعل على العجز في الطبيعة، والسيطرة المطلقة عليها رد فعل فقدان السيطرة الكلية عليها. ويتدخل الخيال للتعبير عن طريق إجراء المعجزات مستعينا بالصور الدينية مثل انشقاق الأرض. فبدل أن تنشق الأرض في نهاية الزمان تنشق الآن، ويرجع الموتى أحياء إلى الدنيا. وهو قادر على إحياء الموتى وإعطاء الخلود كقدرة عيسى، وكأن قدرة الإنسان الإله على السيطرة على الطبيعة العلوية تعوضه عن خسائره في الدنيا في عالم البشر، وتعطيه من جديد الثقة بالنفس والأمل بالانتصار.
54 (8)
ويأخذ الإمام المؤله وظائف الإله في حساب وعقاب المؤمنين. فهو الذي يحاسب ويعاقب، يرحم ويشفع، يقف الجميع بين يديه كما هو معروف في تاريخ الأديان من معاقبة المسيح وإثابته للناس.
55
ويكون الحساب هذه المرة أكثر عدلا من حساب البشر الذي يقوم على الظلم، والعدل الإلهي في النهاية هو القاضي على الظلم الإنساني في البداية.
ومن التأليه يمكن استخلاص النتائج الآتية: (1)
الإنسان إله، أو على الأقل يمكن أن يؤله. فهو الموجود الوحيد الذي يمكن أن تبدأ منه عملية التأليه، ويكون الإنسان إلها ليس فقط عن طريق الاتحاد بالمؤله كما هو الحال عند الصوفية، بل كبديل عن المؤله ذاته. الإنسان ليس نبيا ملهما كما هو الحال عند الفلاسفة وليس وليا ملهما كما هو الحال عند الصوفية، بل هو نفسه إله. وهذا يجعل الإنسان في أعلى مستوى من الشرف بالنسبة للموجودات الطبيعية. (2)
لا يسقط الإنسان من ذاته تصوراته وصوره وعباراته على المؤله فحسب، ولا يسقط عليه آماله وأحلامه ورغباته وأشواقه فحسب، بل يؤله ذاته مشخصا، أي يتجاوز الإسقاط النفسي واللغوي إلى الاعتقاد الشخصي. فالإنسان يؤله ذاته، ويعبد نفسه، ويقدس شخصه، وهو موقف نرجسي خالص، تتضخم فيه الذات حتى تمحى من أمامه كل الموضوعات. (3)
الله هو في الحقيقة عملية تأليه، ابتداء من شخص فاضل يتم تعظيمه وهو الله. وهو في الحقيقة في نشأته إنسان فاضل. وهذا ما حدث في عديد من الديانات الأخرى، فقد كان بوذا معلما فاضلا في مدينته، وكان تاو شيخا فاضلا في قريته كذلك. (4)
تحدث عملية التأليه هذه في جماعة وقع على قائدها الظلم، وعجزت عن الانتصار له بعد أن حاولت مرات عديدة. ومن ثم تتحول الهزيمة في الواقع إلى انتصار في الخيال، ويتحول الموت في الواقع إلى خلود في الخيال، ويصير عجز البطل في الواقع تأليها في الخيال، وإعطاءه قوة خارقة للعادة تجعله قادرا على إجراء المعجزات. (3) الحلول والاتحاد: الحلول في الأئمة والصوفية والاتحاد عند النصارى (3-1) الحلول في الأئمة
فكما يكون الحلول كليا بحلول ذات الله في الإمام يكون أيضا جزئيا بحلول روح الإله في الشخص إن لم تحل ذاته في ذاته، وذلك إبقاء لبعض الفرق بين المستويين، بين المطلق اللامحدود والنسبي المحدود، وجعل العلاقة على مستوى الروح إن لم تكن على مستوى الطبيعة.
56
وينتقل هذا الروح الإلهي من إمام إلى إمام عن طريق التوارث. فلا يتوارث العلم وحده، بل أيضا الشيء وهو الروح الإلهي. المعرفة والوجود كلاهما متوارثان. تنتقل الروح من النبي إلى آخر، أو من إمام إلى آخر حتى تصل إلى آخر الأئمة. فلا حديث هنا عن ذات الله، بل عن روح الله، وهو الروح القدس الذي يحل في الأنبياء ثم في الأئمة، ويكون الحلول هنا حلولا روحيا خالصا. الذي يهم هو روح الله وروح الإمام، لا شخص الله وشخص الإمام. الروح باقية، وبين الله والأئمة حبل لا ينقطع واستمرار دائم بفعل الروح. إذا توفي الإمام حل الروح في إمام آخر.
57
ويمكن وصف الحلول من أوله إلى آخره، من روح الله إلى آخر الأئمة. تحل روح الله في آدم ثم في الأئمة من بعده حتى الإمام الأخير، قد يكون السابع أو الثاني عشر أو الغائب الذي يظهر في آخر الزمان.
58
وانتساب الأئمة الآلهة إلى آدم أول الخلق يعطيهم أولوية في القدم. فالقدم أكثر تعبيرا عن الإجلال والتعظيم من الحدوث، والسابق أكثر عراقة من اللاحق، والآباء أكثر مدعاة إلى الاحترام من الأبناء على الأقل في النظرة المحافظة. وقد حدث نفس الشيء في تاريخ الأديان عندما ألحق بولص المسيح بآدم وألحق الصوفية محمدا بآدم، وقص كتاب التوراة حياة موسى ابتداء من آدم. وهذا إحساس وجداني أكثر منه حقيقة موضوعية ظهر في كل قيادات الجماعات المضطهدة التي نالت الشهادة، تعظيما وإجلالا.
وقد تكون علاقة الأئمة بالإله علاقة توالد، ويكون الأئمة الآلهة أبناء الله، أبناء آلهة كالأب الإله.
59
فعلاقة الأبوة والبنوة أفضل ما لدى الإنسان من تعبير عن الاتصال والاستمرار والقرب والاتحاد على ما هو معروف في تاريخ الأديان في المسيحية خاصة، وفي الدين المصري القديم والدين اليوناني عامة. فالمسيح وفرعون أبناء الله، وآلهة اليونان صدرت عن زيوس، وهي صورة شعبية تدل على وجوب القرب بين الشخص المبجل المعظم وبين الله، فيصبح ابن الله وحبيبه. وكثيرا ما يعظم الابن الأب وينده أو على أقل تقدير يكون مثله في العظمة، فيصير الابن إلها كالأب كما هو معروف في حالة المسيح وفرعون: فالمسيح إله، وفرعون إله.
وفي التأليه تتعدد الآلهة وتتعدد الأئمة، ويتفاضلون فيما بينهم. هناك إله أعظم من إله، وإمام أفضل من إله.
60
صحيح أنهم كلهم يعيشون في مدينة الآلهة كآلهة الأولمب أو كمدينة الصوفية كأقطاب وأبدال تجمع بينهم علاقة الأبوة والبنوة، أي علاقة التوالد والأنساب، علاقة الأصل بالفرع ولكن ذلك يقتضي أيضا ترتيب الأئمة الآلهة أو الآلهة الأئمة في سلم قيم حسب قدرهم من العظمة والجلال. هناك الإله العظيم، وهناك الإله الأقل عظمة. هناك إله الآلهة، وهناك صغار الآلهة على ما هو معروف في تاريخ الأديان، خاصة في الديانتين اليونانية والرومانية.
وقد يكون الحلول مجرد تشكل الروح في عديد من الصور وتقلبه عليها، وهو المعروف بعقيدة التناسخ.
61
إما لأن الروح لا ترى إلا في صورة حسية ولا ترى مجردة بلا صورة، وإما لتفسير تعدد الآلهة والأئمة وصدورهم من مصدر واحد، ورد التعدد إلى الوحدة. والتناسخ نوع من الخلود لأن الروح تبقى والأجساد تفنى، الروح واحدة تتوالى على أجسام كثيرة.
62
وهناك عدة فروق بين الحلول والتناسخ. منها أن الحلول يبدأ من روح المعبود ثم ينتقل في الإنسان ثم في إنسان آخر بالوراثة حتى آخر الأئمة. الإمام من حيث المبدأ وإنسان من حيث النهاية. فهو إله وإنسان معا. أما التناسخ فقد لا يبدأ من روح المعبود ضرورة، ويكون بحلول الروح أيا كانت سواء إلهية أم إنسانية في بدن آخر، وبالتالي فهو أقل درجة من الحلول. ولا يتم الحلول إلا في بدن إنساني في حين أن التناسخ قد يحدث في بدن الإنسان وجسم الحيوان. وإذا كان الحلول نوعا من الفضل، فإن التناسخ نوع من العقاب إذا حل في بدن أو في جسم أقل درجة من البدن الأول أو من الجسم الأول. والحلول للروح في حين أن التناسخ للعقل. فالإنسان مكلف بالعقل قبل الرسالة وقبل الخلق. وفي الحلول إسقاط للتكاليف على الإطلاق في حين أن في التناسخ فرضا للتكاليف على الإطلاق.
63
وفي عملية التأليه تظهر الأضداد. فلكل إله أو إمام ضد. والأضداد معروفة في تاريخ الأديان. هناك إله للنور وإله للظلمة، إله للخير وإله للشر، أهرمان وأرمزدا، خاصة في الديانات المثنوية كالمانوية والمزدكية والزرادشتية. النبي ضده أبو بكر، وعلي ضده عمر، والحسن ضده عثمان، والحسين ضده معاوية، وفاطمة ضدها عمرو بن العاص.
64
وقد لا تكون الأضداد بالضرورة مرذولة لأن بفضلها أمكن معرفة أضدادها الخيرة، فالنقيض هو الذي يوجد الموضوع ويظهره، والحقيقة لا تظهر إلا بنقيضها. والأضداد حقيقة إنسانية شخصها اللاهوت في عملية التأليه، ولكن أساسها الانفعالات. هناك المحبة والكراهية، الولاية والعداوة، التواضع والغرور، الأمل واليأس، الفرح والحزن إلى آخر ما هو معروف من تحليل الصوفية أو علماء النفس للانفعالات الإنسانية وتثبيتها بين النقيضين، سماها الصوفية أحوالا وعلماء النفس انفعالات موجبة وسالبة. وقد تتحول هذه الأضداد من مستوى الانفعال إلى مستوى العقل، فتظهر ثنائيات الأخلاق المثالية بين الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، الأنانية والغيرية أو ثنائيات التشريع المثالي من حلال أو حرام، وإيمان وكفر، وثواب وعقاب، وأمر ونهي. وقد تتشخص الأضداد في التشبيه فيما يتعلق بالأخرويات من جنة ونار، وملاك وشيطان، ونور وظلمة، ويمين ويسار، وحلو ومر، وإشباع وحرمان.
وكثيرا ما تساعد العامة على التأليه. فالعامة بتكوينها النفسي البدائي، وضعفها العقلي الثقافي تحتاج إلى وظيفة جماعية أو إلى فرد تصب عليه انفعالاتها وعواطفها، ترى فيه المحقق لأمانيها والملبي لرغباتها، والمدافع عنها في ساعة الخطر؛ لذلك تحتاج المجتمعات البدائية أو المتخلفة للزعامة، وتأليه الأفراد، وعبادة الأشخاص بخلاف الجماعة الواعية التي إن ادعى فيها أحد الأشخاص الألوهيات لأخمدت الدعوة في مهدها لمعارضة الجماعة لها. فألوهية الأشخاص لا تسري في الجماعة الواعية. وقد تستعمل الخرافة والخزعبلات ووسائل السحر المختلفة لإيهام العامة بألوهية الأشخاص كما هو معروف من وظيفة السحر في الديانات البدائية.
65
فإذا وعت الجماعة اكتشفت كذب الإمام ولكن ألهت غيره، وذلك لاستمرار وظيفة التأليه في شعور الجماعة.
66
فإذا ما وعت الجماعة فإنها قد تتبرأ من الإمام. فبالرغم من تسلسل الأئمة من نفس المصدر وارتباطهم بنفس الروح وتعبيرهم عن نفس الحقيقة قد تظهر العداوة بينهم، فيكفر بعضهم بعضا على لسانهم أو على لسان جماعتهم مما يدل على أن ظروفا اجتماعية أخرى أقوى كانت مدعاة للتفرقة بينهم استطاعت أن تحتوي الظروف الاجتماعية الأولى التي كانت سببا في نشأة التأليه.
67 (3-2) الحلول في الصوفية
وقد يكون الحلول جماليا خالصا كما هو الحال في حلول الصوفية. وهنا يظهر ارتباط الألوهية بالجمال كما هو معروف في علم الجمال الديني وفي الحركات الرومانسية وفي الشعر الصوفي. جمال الطبيعة تجربة دينية، «فالله» جميل يحب الجمال، كما عبر عن ذلك الصوفية أصدق تعبير. ولا يمكن الرد على ذلك بعدم جواز حلول الجوهر في الأعراض، فالتجربة الصوفية الجمالية ليست تجربة عقلية منطقية.
68
وقد يكون الحلول نفسيا خالصا نتيجة لإحساس الفرد بالرسالة ووهب حياته لها والتزامه بمبادئها حتى ليشعر أنه قد اتحد بالغاية فيقول الوطني «أنا مصر» أو الفنان «أنا الفن» أو الشاعر «أنا الشعر» أو الصوفي «أنا الحق».
69
وذلك يتم عن طريق الإخلاص التام والتطهر المطلق والتضحية حتى تظهر شفافية النفس ويسقط بينها وبين موضوعها أي حجاب.
70
والطريق إلى ذلك محبة الله وإسقاط الشرائع؛ لذلك سمى الصوفية «أهل الإباحة» كرد فعل على كراهية العالم وظلم قوانين البشر ونفاق الشعائر والعبادات المظهرية. وفي حقيقة الأمر قد يؤدي الإحساس بالعجز وحده دون الإحساس بالاضطهاد إلى عملية التأليه كما حدث في التصوف الذي نشأ في ظروف مشابهة تقريبا لنشأة التشيع، مما يجعل البعض يوحد بين التشيع والتصوف. كلاهما انتهى إلى أن يصبح حركة مقاومة سلبية ضد النظام القائم وانقلابا روحيا فرديا إلى الداخل بعد أن استعصى مقاومة الخارج بالفعل، بعد أن استشهد أئمة آل البيت كما استشهد كبار الصحابة في مقاومة الظلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. التشيع حركة مقاومة شيعية والتصوف حركة مقاومة سنية. فكل من الإمام والصوفي لديه إحساس بالرسالة والدعوة لتحقيق الوعي من جديد كنظام مثالي للعالم بعد أن ضاعت فيه الرسالة، وأصبح العالم مسيرا بطبيعة أحادية الطرف. فالصوفي هو الإنسان الذين ما زالت الرسالة ظاهرة فيه وإن انحسرت عن العالم وضاعت من مجتمعه، وهو نفس الإحساس الذي لدى الإمام. وعند الصوفي إحساس بالعجز أمام القوى المادية وأنظمة الحكم. ونظرا لغياب أية محاولة لتحقيق الرسالة علميا بمعنى تكوين حزب أو جماعة سرية لمناهضة هذه القوى المادية ونظم الحكم القائمة وتجنيد الجماهير من أجل تمثل الأفكار الجديدة والعمل على تحقيقها اقتصر جهد الصوفي على الدعوة الفردية لبعض الأفراد وتكوين جماعات صغيرة منعزلة تقتصر على التربية الروحية، وتحول الدعوة شيئا فشيئا من دعوة عامة إلى دعوة خاصة ومن دعوة سياسية إلى دعوة أخلاقية، ومن العمل في العالم إلى الخروج منه. وهو ما حدث للتشيع أيضا من انغلاقه على نفسه، وتكوين جماعات سرية تعبر عن نفسها في التأويلات الباطنية والإغراق في الروحانيات. ولما كان الإحساس بالرسالة قويا، يزداد يوما بعد يوم بفضل التربية، ولما كان الإحساس أيضا بالعجز قويا يزداد يوما بعد يوم بفضل العزلة، تحولت الطاقة الإنسانية لها إلى أعلى وليس إلى الأمام، فصعدت الروح إلى أعلى بدل أن تسير في التاريخ إلى الأمام، فيشعر الصوفي أنه قد اتحد بغايته القصوى وأن رسالته قد تحققت بالفعل، في حين أن هذا التحقق قد حدث بطرقة منحرفة، إذ إنها تتحقق في الخيال وفي الشعور وليس في الواقع وفي العالم الخارجي، وهو وقوع في النرجسية الخالصة كنوع من الاكتفاء الذاتي والرضا عن النفس. كما أنها تتحقق بطريقة فردية في شخص الصوفي وليس على نحو جماعي في التاريخ، في جماعة وفي حركة تاريخية عامة. وهي تحقق إلى أعلى وليس إلى الأمام، فقد أصبحت الغاية متعالية وليست غاية في التاريخ، وما أسهل من تحقيق الفكر الطوباوي في الأذهان. (3-3) الاتحاد عند النصارى
ومع رفض الحلول يرفض الجوهر ومعه أقانيم النصارى بعد رفض الثنوية وذكر الأوصاف والصفات.
71
ثم يفصل التنزيه عن الاتحاد والحلول بعد إثبات القدم والبقاء والوجود والشيء ونفي الجسم والجوهر والتنزيه عن المكان والجهة والحيز.
72
كما يظهر نفي الحلول بعد نفي الجسمية وإثبات مخالفة ماهية الذات وعدم مشاركتها للذوات الأخرى ونفي تركيبها.
73
وينفى الحلول كرابع وصف بعد نفي الجسمية، ونفي الجوهر، ونفي المكان بعد دخول الوجود في دليل الحدوث والإمكان.
74
وينفى الاتحاد كسادس وصف بعد نفي الجسمية ونفي الجوهر ونفي المكان ونفي الحلول ونفي قيام الحوادث به.
75
وقد ينفى الاتحاد والحلول كثالث صفة بعد نفي المشاركة والجسمية.
76
وقد ينفي الحلول بعد نفي الشبه والشرك بعد صفات المعاني السبع وقبلها بعد إثبات القدم والوجود، ثم ينفى الاتحاد بعد نفي القيام بالحوادث.
77
وقد يظهر نفي الاتحاد والحلول على أنه خامس وصف في التنزيه بعد نفي الجهة مع المكان ونفي الجسمية ونفي الجوهر مع العرض ونفي الزمان.
78
وقد ينفى الجوهر ويرد على النصارى بعد مبدأ التوحيد بإثبات الوحدانية ثم نفي الجسمية ونفي الجهات والمحاذيات.
79
وفي المؤلفات المتأخرة يقل الهجوم على الحلول والاتحاد، فالنصرانية لم تعد خطرا، والتصوف تحول إلى أخلاق سلبية دون نظريات ميتافيزيقية صريحة كما كان الحال من قبل مع أنه كان من الموضوعات البارزة في المؤلفات الأولى لدرجة أنه كاد أن يصبح موضوعا مستقلا في التوحيد.
وبالرغم من أن الحلول عند أئمة الشيعة والصوفية والاتحاد عند النصارى إلا أنهما يوضعان معا في نطاق واحد وبمعنى واحد تقريبا، خاصة فيما يتعلق بالصوفية الذين يصعب لديهم التمييز بين الحلول والاتحاد. ويرد على الاتحاد والحلول معا بأدلة عقلية منطقية تسترجع من جديد دليل الحدوث ومباحث الجوهر والأعراض وأدلة إثبات القديم واستحالة الحدوث على الله، وإثبات البقاء واستحالة العدم. يستحيل الحلول لأن القديم لا يحل في الحادث (حلول الذات) كما يستحيل حلول الصفات لأنها قائمة بالذات.
80
ينافي الحلول واجب الوجود وصفاته مثل القدم والبقاء والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والوحدانية. كما أن الصورة ليست فكرة، والتشبيه ليس تصورا. وكل تقريب لمعنى في النفس، وهو معنى الاتصال والفاعلية والتوحيد لا يكون جوهرا. أما تشعيب طرق الاتحاد ومعاني الاتحاد، فهي أدخل في علم تاريخ الأديان المقارن الذي أصبح فرعا من علم أصول الدين.
81
وقد يقال إن النظرة الحلولية كانت باستمرار حركة تقدم في التاريخ أدت إلى ثورات شعوب وحركات نهضة، واستعادت فعالية الله، وأنهت عزلة العالم وسكونه. وهذا صحيح. ولكن هناك فرق بين حلول الإله أو روحه في الأئمة أو الصوفية وبين الحلول العام للفكر في التاريخ. فحلول الأئمة حلول شيئي، حلول شيء في شيء، في حين أن الحلول العام في التاريخ حلول معنوي، وأقرب إلى الصورة الفنية منها إلى الاتحاد الفعلي للروح في المادة. حلول الأئمة حلول حقيقي في حين أن الحلول العام في التاريخ حلول مجازي لا يعني أكثر من توجيه الفكر للتاريخ، وفاعلية الروح في الطبيعة. فالفكر لا وجود له إلا بفعل التوجيه والروح لا وجود لها إلا في فاعليتها. حلول الأئمة حلول فردي شخصي، حلول فرد في فرد أو شخص في شخص، في حين أن الحلول العام في التاريخ حلول عام، وتوجيه عام للفكر لمجرى التاريخ، وأنظمة لحكم، وأبنية المجتمعات، وعلاقات الأفراد بما في ذلك بناء الأفراد. حلول الأئمة حلول أسطوري يتم في شعور الأئمة بالخيال، في حين أن الحلول العام في التاريخ حلول ملحمي، عملي علمي، يتم في التاريخ بفعل الجماهير. فهو ليس مجرد افتراض حلول نظري، بل تحقيق الحلول العملي بالفعل. حلول الأئمة عجز عن تغيير الواقع، ورغبة في الحصول على نصر بأي ثمن، وعلى أي نحو، في حين أن الحلول العام في التاريخ تعبير عن قدرة الجماهير على التغيير والحركة، وليس تعويضا عن عجز أو رد فعل على هزيمة. فهو ليس عكوفا على الذات، بل انفتاح للذات على الخارج والاتحاد به. وبهذا المعنى قد يؤدي التنزيه من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نفس الدور الذي يقوم به الحلول في تثوير الجماهير وفي تحقيق الثورات في التاريخ. (4) التجسيم
والحقيقة أن تأليه الأئمة والصوفية والحلول والاتحاد عند النصارى، وكذلك التجسيم، كل ذلك استطراد للوصف الرابع، وهو المخالفة للحوادث، الذي يبدأ بنفي هذه النظريات التي امتلأت بها كتب الفرق، وإن لم تذكر بهذا التفصيل في كتب العقائد.
ويظهر هذا الوصف في أول إحصاء لأوصاف الذات في عشر على أنه نفي الجوهر، كرابع صفة بعد الوجود والقدم والبقاء،
82
أو كخامس صفة بعد إثبات القدم والبقاء والوجود ونفي الجسم.
83
كما يظهر نفي الجوهر على أنه ثاني وصف بعد نفي الجسم بعد أوصاف الوجود في دليلي الإحداث والإمكان.
84
كما يظهر نفي الجوهر بعد إثبات الوحدانية والقدم ثم ظهور الصفات السبع ثم نفي العرض والجسم.
85
وينفى الجوهر على أنه ثالث نفي في التنزيه بعد الجهة والمكان والجسم، وتنفى الجسمية في معرض الجدل حول الذات.
86
وفي أحد الإحصاءات للأوصاف يظهر نفي الجسمية على أنه خامس وصف للذات بعد الوجود والقدم والبقاء ونفي الجوهر.
87
وقد ينتفي الجسم في معرض نفي التشبيه.
88
ويبدو نفي الجسم كرابع وصف بعد إثبات القدم والبقاء والوجود مرتين ضد الباطنية والفلاسفة.
89
وينفى الجسم بعد إثبات صفة الوحدانية والقدم وظهور الصفات السبع ونفي العرض.
90
وينفى الجوهر والعرض والجسم بعد نفي الاتحاد والحلول وقيام الحوادث بالذات بعد نفي الشبه والشريك، والكل بعد صفات المعاني السبع التي ظهرت بعد القدم والوجود.
91
كما ينفى التحيز بعد إثبات أن ماهية الذات مخالفة لسائر الذوات وغير مشتركة وأنها مركبة رفضا للجسمية.
92
وتنفى الجسمية كأول وصف للذات بعد إدخال الوجود في دليل الحدوث والإمكان.
93
وتنفى الجسمية والجهة كثاني وصف في التنزيهات بعد نفي المشاركة في الذات أو الوجود. فنفي الجسمية هو في نفس الوقت نفي للجهة.
94
وينفى الجسم على أنه ثاني وصف في التنزيهات بعد نفي الجهة والمكان.
95
وينفى الجسم كرابع وصف للذات بعد إثبات الوجود والقدم ونفي الحاجة،
96
أو بعد إثبات الوجود والقدم فقط.
97
وقد ينفى الجسم مع رفض الثنوية والجوهر والرد على إنكار النبوة وإثباتها والرد على إنكار النسخ وإثباته.
98
وتظهر لأول مرة صفة نفي الحد والنهاية على الصانع ضد الحسم الطبيعي ثم ينفى الحد في صفة لا محدود بعد إثبات الوحدانية والقدم وظهور الصفات السبع ثم نفي العرض والجسم والجوهر.
99
وقد يظهر نفي التبعيض والتجزيء والحد والنهاية حتى بعد نهاية موضوعات التوحيد وظهور موضوعات العدل.
100
ويلحق بنفي الجوهر نفي العرض لما كانت الجواهر لا تتعرى عن الأعراض، ولما كانت الأعراض لا توجد إلا في الجواهر. ويبدو نفي العرض على أنه ثالث وصف لله بعد الوحدانية والقديم، وبعد ظهور الصفات السبع بعد القديم وقبل نفي العرض.
101
كما يذكر استحالة كونه عرضا في معرض نفي الجهات والمحاذيات بعد بدء التوحيد بإثبات الوحدانية ونفي الجسم.
102
ويظهر نفي العرض مع نفي الجوهر والجسم والجهة بعد نفي الشبه والشرك (الحلول والاتحاد)، والكل بعد صفات المعاني السبع التي ظهرت بعد إثبات القدم والوجود.
103
ونفي الجسم.
104
وفي أول إحصاء لأوصاف الذات في عشرة يظهر نفي العرض على أنه سادس وصف بعد الوجود والقدم والبقاء ونفي الجوهر ونفي الجسم. ويظهر نفي العرض على أنه خامس وصف بعد إثبات الوجود والقديم ونفي الحاجة ونفي العرض.
105
وقد تتخصص الصفة أكثر من الجسم. فكما أنه ليس جسما، فإنه أيضا ليس بدنا أي جسما حيا من لحم ودم؛ لأن البدن موضوع للفناء، و«الله» أعظم من كل البناء الإنساني وأجل منه ولا يوصف بالصورة أو الأعضاء وليس فيه تركيب أو تحيز وكل أمارات الحدوث، وليس محدودا أو له نهاية، ولا يعد ولا يحصى لأنه خال من أية كميات متصلة أو مقادير منفصلة. وليس متبعضا ولا متجزئا وليس متناهيا.
106
ولما لم يكن جسما فإنه لا يكون مدركا بالحواس، فلا يكون حارا أو رطبا أو يابسا أو طريا لأنه ليس جسما تحول إلى جسم أو إلى الشعور أو مادة مصمتة تحولت إلى مادة حية في الشعور الخالص.
107
وهو غير محدود لا متناه، فالتحدد والتناهي من صفات النقص ولا يتصل بالمحدود المتناهي. وهنا يبدو أن التنزيه هو الجامع لكل الاتجاهات: التأليه والحلول والاتحاد والتجسيم والتشبيه.
108
التنزيه هنا يتعدى الحدود ويرفض التقسيم، ويكسر القيود، ويتحرر من كل قيد. يقوم الشعور فيه بعملية التحرر هذه عن طريق التعالي المستمر.
109
وليس المهم في كل ذلك هو الحجج العقلية التي تكرر أدلة الحدوث، بل المهم هو الانتهاء إلى نقطة اتفاق وهي رفض التجسيم والتشبيه على أنها مواقف يرفضها الشعور ويقف منها موقف السلب. (4-1) البدن
إذا قل التأليه درجة، وإذا غاب الشخص التاريخي الذي يستخدم كنقطة بداية للتأليه أو كمشجب تعلق عليه العواطف والانفعالات الإنسانية، حدث التجسيم، أي تصوير الله في صورة بدن أو جسم أو شيء، لا بدنا بعينه، بدن علي أو أبدان بنيه أو بدن الإمام، بل أي بدن يكفي أنه بدن الإنسان، فالله لا يمكن تصويره إلا على صورة إنسان، أي إنسان، الإنسان العام دون أي تعيين للأطراف. وهنا لا يكون الحديث عن الإمام بالذات، بل عن أي بدن. وقد يكون إنسانا بلا جسم ، تكفي صورة الإنسان.
110
فلا يحتم القول بالبدن القول بالتجسيم، فقد يحدث التشبيه دون التجسيم، حينئذ يكون المعبود إنسانا دون تعيين أو تجسيم، يكون «الله» على صورة إنسان دون أن يكون له لحم ودم. الإنسان هنا هو الإنسان من حيث هو إنسان، الإنسان الأنطولوجي الخالص. وقد يظهر التجسيم في صورة المجوف والمصمت. فالمصمت صورة للملاء والرزانة والثقل والعظمة كالجبل وكرة الحديد، وهي إحدى الصور الدينية «الله الصمد»، والأجوف صورة للخلاء والشفافية والخفة والطهارة والعلو والصعود، وهو تجسيم للتنزيه أو تنزيه للتجسيم، صورة إنسانية خالصة. الجزء الأسفل محل للشهوات والغرائز، والجزء الأعلى مجوف محل للحكمة والمعارف العقلية، سواء كان البدن حيا أم ميتا، له أعضاء أم ليس له أعضاء.
111
ولكن الغالب أن الجسم بدن، ذو أعضاء، أطراف وحواس مثل أطراف وحواس الإنسان، مثل اليد والرجل والأنف والأذن والعين والفم. وقد يزيد البعض كل شيء إلا اللحية والفرج.
112 «الله» بدت له أطراف ووجه وعينان ويدان ورجلان وجوارح وأعضاء، وله حواس خمس.
113
وتتفاضل أجزاء البدن، فالوجه أفضل ما في البدن، وإذا هلك البدن فإن الوجه يظل خالدا.
114
فالوجه هو الذي يحمل العلامات المميزة للإنسان، وهو الذي يؤخذ كعلاقة له في الصورة للتعرف على الشخص، وهو الذي يتغنى به المحبوب، ويصف به وجه الحبيب، حسنه وجماله، ويتمنى رؤياه. وفي بعض الأحيان يكون أفضل ما في البدن هو الرأس، أي المكان الذي به الوجه؛ لأن الرأس به حياة البدن، بها الوجه المعنوي، وبها مراكز الحس والحياة، بل هو شرط الحياة.
115
فالحياة بلا أطراف ممكنة، ولكن الحياة بلا رأس مستحيلة. الحياة بأطراف صناعية ممكنة، ولكن الرأس لا يمكن استبداله. وصورة الرأس معروفة في تاريخ الأديان، فرأس المسيح يمثله البابا، ورأس بولص تدحرج ثلاث مرات إثباتا للتثليث، وفي الأمثلة الشعبية القسم بالرأس. وفي الصور اللغوية رأس الشيء قمته وأساسه وصلبه. وفي التصور الشعبي قيمة العضو الجنسي للذكر ليس فقط في الطول بل في الرأس. وفي بعض الأحيان يكون أفضل ما في البدن هو الجوف إشارة إلى القلب أو الروح.
116
فالجوف يرمز إلى الداخل، الداخل أكثر قيمة من الخارج، وهو صورة للسر والباطن والمختبئ. الجوف مصدر للحكمة، وهو منبع العلن. وقد يكون الحديث عن البدن بلغة مكشوفة. فلا حرج في الحديث عن العورة والاستدارة، ولا حياء في البدن.
117
وهنا يلتقي التجسيم مع الأدب الصوفي في استعمال الأسلوب المكشوف أحيانا في التعبير عن الله ذاتا وصفات وأفعالا. ولو كان المجسمة فنانين لأعطونا لوحات عديدة أو تماثيل عدة تمثل جمال البدن بجميع أعضائه، ولو كانوا أدباء لأعطونا نماذج رائعة من الأدب المكشوف في المسرح أو السينما أو الرواية. وأحيانا لا يوصف البدن وحده عاريا، بل يوصف بلباسه، فيكون المعبود إنسانا في أبهى حلة وأروع زينة. وأحلى الأبدان هو البدن الملوكي، وأحلى ما يزينه هو التاج.
118
فالتاج كمال للرأس وزينة لها، وتأكيد لأهمية صاحبها ودور شخصها في الرئاسة. وقديما طالما تقاتلت المجتمعات والأسر من أجل التاج، وطالما كان التاج مطمعا للطامعين وسببا لاغتيال الآباء والأبناء وذوي الأرحام، وموضوعا خصبا للأدباء عامة ولكتاب المسرح خاصة «في سبيل التاج».
وقد يكون الجسم بلا حياة، جثة هامدة، جثة إنسان من لحم ودم وشعر وعظم.
119
ويبدو هنا أن التجسيم مجرد صورة فنية من صنع الشعور أو الخيال دون تطبيق لقواعد المنطق أو لقوانين العقل. كيف يكون المعبود جثة بلا حياة وهو رمز الحياة؟ وكيف تكون الجثة بلا حياة ولها في نفس الوقت أعضاء؛ لأن انعدام الحياة يؤدي إلى تحلل الجسم وتآكل الأعضاء؟ كيف تتقلب صورة الثبات على صورة الحركة؟ هل هذه صورة الزعيم القتيل المسجى تعبر عن رعب الجماعة؟ أم أنها صورة الزعيم القوي نظرا، الميت عملا، القادر على العمل بالأطراف، والكلام باللسان؟ قد يشير ذلك إلى مبلغ الحب الذي توليه الجماعة للزعيم الشهيد أو الصوفي لله فيتمثله إما بشرا سويا، جسدا للعناق والملامسة والمجاورة في الدنيا أو للتأمل والبكاء والنواح والتحنيط والتخليد ثم العبادة والتأليه. وقد تعقد التشبيهات للإنسان ككل فإما أن يكون المعبود شابا أمرد جعدا قططا أو شيخا أشمط الرأس.
120
وأحيانا يكون البدن بلا لحم أو دم أو عظم. وفي هذه الحالة يكون من نور ساطع بياضا. ثم يتجسم النور درجة ويصبح للمعبود وفرة سوداء وقلبا تنبع منه الحكمة حتى تكتمل الألوان ويظهر التقابل بين الأبيض والأسود
121
تجسيما للنور والظلمة. وهذه الشعرة السوداء نور أسود. والنور مادة أشرف من الشعر، وأكثر شفافية وإثارة للخيال. ومع ذلك لا تجوز عليه الحركة والانتقال لأن الثبات أكثر عظمة من الحركة. النور هو التأليه من خلال الضوء، فالضوء أكثر الأجسام الطبيعية شفافية وأسهلها في الرؤية. النور مادة ولا مادة، يجمع بين التجسيم والتشبيه والتنزيه. وهي المادة المختارة لتشخيص الآلهة ولتصوير الله كما هو حادث عند الصوفية. ولغة النور والظلمة موجودة في كل دين، ترمز إلى الخير والشر، ويتجسدان في إلهين كما هو الحال في المانوية والزرادشتية. والنور في الصور الدينية شائع في الفن الديني، فيرسم المسيح أو أمه يحيط برأسه هالة من نور. وفي الفن المصري القديم ترمز أشعة الشمس ونورها للوجود الإلهي. وفي المأثورات الشعبية يحيط النور بالملاك وبالقديس، ويستعمل في لغة الترحاب، ويحل بقدوم القريب أو الصديق، ويهل بدنو الحبيب، ويقترب مع شهر الصيام. وكما يكون النور خالصا بلا أجسام ولا أبدان، فإنه قد يتجسم ويصبح نارا تعبد.
122
وقد يقوى النور فيصبح نارا، منها مادة الخلق، وتنسج حولها أسطورة من أساطير الخلق قائمة على تعارض النور والظلمة وعلى درجاتها المتفاوتة، ويصبح المعبود أكثر درجات النور شفافية تعظيما له وإجلالا، وذلك في مقابل الظلمة التي تطرأ عليها الآفات. الحق في مواجهة الباطل، والعدل ضد الظلم، وهو الموقف السياسي الذي توجد فيه جماعة الاضطهاد.
وقد يكون السبب في التجسيم الرغبة العارمة في الحصول على الشيء الضائع، والانكباب على الحس، ومد اليد للقبض على الموجود. فمن يضيع منه الإمام ينكب على بدنه كبكاء الإنسان على فقد عزيز وارتمائه على جثته، وتشبثه بنعشه، وكتمسك الأم بثياب الابن، وكتشبث امرأة العزيز بثياب يوسف. والضائع يذهب يمينا ويسارا، ويمسك بأي شيء رغبة في الاستقرار والهدوء. وفي الحضارات المجاورة لنا الآن التي بدأت برفض كل الموروث لجأت إلى الحس والتجربة من أجل تجسيم الحقيقة الضائعة أو المرفوضة.
123
ومن الطبيعي أن تكون الصورة المثلى للتشبيه هي صورة الإنسان لطبيعة الصلة بين الإنسان والله. فالإنسان بطبيعته لا يدرك الأشياء إلا طبقا لتكوينه، ولا يدرك العالم إلا عالما إنسانيا، فإذا عظم عظم الإنسان مضخما إلى الحد الأقصى. وقد ساعد الخبر على ذلك. إذ إن الخبر يؤكد نفس المعنى وهو «أن الله خلق آدم على صورته ومثاله». لذلك لا يفترق الشيعة عن أهل السنة في إثبات التجسيم بالرغم من اختلاف الدوافع، جماعة الاضطهاد عند الشيعة والخبر الحرفي عند أهل السنة، والخلاف بينهما هو في الدرجة لا في النوع. وبالرغم من التجسيم إلا أنه يبدو أحيانا أن المعبود جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء، وكذلك في سائر الصفات لا يشبه شيئا من المخلوقات ولا يشبهه شيء،
124
مما يدل على أن التجسيم هو البداية، ولكن قد يكون التنزيه هو النهاية، وأن التجسيم هو الموقف العارض وأن التنزيه هو الموقف الدائم بصرف النظر عما إذا كانت أمثال هذه العبارات المثبتة والمنفية لنفس الشيء تدل على شيء. (4-2) الجسم
ويتدرج التجسيم من صورة البدن ذي الجوارح والأطراف إلى صورة الجسم، أي جسم، ثم إلى صورة الشيء، أي شيء. تكبر صورة البدن وتصبح جسما مجسما، وتختلف تصورات الجسم. فمرة يكون جسما ذا أبعاد ثلاثة، ومرة يكون جسما قابلا للقسمة وللاجتماع والافتراق، ومرة جوهرا قابلا للأعراض. ولكن التصور الذي استقر هو الجسم ذو الأبعاد الثلاثة فهو الأقدر على التصوير في حين أن القسمة تفتيت وتصغير، والجوهر القابل للأعراض تصور طبيعي، وكلاهما دخل من قبل في أدلة إثبات الصانع.
125
الجسم له أبعاد ثلاثة: الطول والعرض والعمق، انتقالا من بدن الإنسان إلى جسم الطبيعة، ومن الجسم البشري إلى الجسم الكوني.
126
المجسم أكثر عظمة من المسطح. وفي الحياة اليومية يوصف الغبي بالسطحية والذكي بالعمق. وفي حضارات أخرى مجاورة أمكن تجاوز المسطح في الرسم والسينما إلى التكعيبية والسينما المجسمة. كما أمكن في الرياضيات صياغة هندسة أخرى غير مسطحة وهي الهندسة اللاإقليدية. وفي الحساب يكون حساب الأحجام أكثر تعقيدا من حساب المسطحات. وفي الطبيعيات أمكن إدخال الزمان كبعد ثالث للظاهرة الطبيعية. الأبعاد الثلاثة إذن أكثر تجسيدا للروح من الأجسام ذات البعدين، فالأجسام أعمق من المسطحات. والأبعاد الثلاثة متساوية. فالتساوي أكثر اتساقا من الاختلاف، وأكثر رونقا من اللاتساوي. لذلك كان المعبود عند البعض رياضيا، علة الاتساق في الطبيعة. الأبعاد المتساوية تعبير عن التآلف والانسجام وهما من مقولات الروح. التساوي هو الصورة المثلى في الرياضة. فالمثلث المتساوي الأضلاع رمز للتجانس الرياضي. هذا التآلف والانسجام، كما هو معروف في تاريخ الرياضة عند القدماء، الهنود واليونان وعند بعض الفلاسفة المحدثين، تعبير عن المعاني الروحية والأذواق الدينية والعواطف الإلهية.
127
كذلك يرى البعض أن هذا التصور مجرد صورة فنية للتعبير عن عواطف التأليه دون أن تصف شيئا في الواقع.
128
وأحيانا يدخل المقدار لقياس الجسم فيكون المعبود سبعة أشبار بشبر نفسه، له قدر من الأقدار في طوله وعرضه وعمقه لا يتجاوزه.
129
والمقدار مقولة كمية تتفق مع الجسم. وقد اختير المقياس سبعة لما في العدد من رمز معروف في الاتجاهات الغنوصية، سواء في حضارتنا القديمة عند الإسماعيلية والباطنية والصوفية بوجه عام أو في الحضارة اليونانية عند الفيثاغورية أو في الفكر المسيحي في رؤيا يوحنا وفي الاتجاهات الإشراقية. ولكن ما هو شبر النفس؟ يبدو في المقدار تداخل المقياس الإنساني «سبعة» مع المقياس الإلهي «شبر نفسه» حتى يظل التجسيم مفتوحا على التنزيه، والمحدود متصلا باللامحدود. قد يكون ذراعا أو ميلا،
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون (22: 47). وقد يكون المعبود عند البعض الآخر أحسن الأقدار، فهو ليس بالعظيم الجافي أو القليل القميء.
130
فالذي يحدد مقدار الجسم هنا هو الكمال الذي يفرض على الجسم مقداره كما أن الذي يحدد عدد التواتر عند الأصوليين هو اليقين الحاصل منه والذي يسببه الخبر. وكما أن الذي يحدد الاستقراء التام عندهم هو المعنى في الاستقراء المعنوي. فالكمال الحسي بدليل عن الكمال المعنوي. والإحساس بالكمال هو أيضا إحساس بالوسط المتناسب ، وهو إحساس رياضي عبر عنه قدماء اليونان بالوسط الذهبي، وسموه فضيلة الاعتدال.
131
وقد يكون للمعبود جسم له مقدار في المساحة دون أن ندري ذلك القدر، وذلك لأن التعين تورط في التجسيم في حين أن مجرد التشبيه أو الاتجاه نحو التعين يحفظ التوازن بين التشبيه والتنزيه.
132
ويحدد البعض الآخر المساحة بالاتجاه فيجعلها بلا نهاية ولا غاية ولكنها ممتدة في الجهات الست، أو مماثلا للفضاء.
133
حينئذ يقترب التجسيم من التشبيه درجة، ومن ثم لا يقع عليه اسم جسم أو طول أو عرض أو عمق أو هيئة أو قطب. وأحيانا يؤخذ العالم كله كمقياس، ويكون المعبود مساحته قدر مساحة العالم، وهو تورط كلي في الكم. لذلك يستدرك البعض ويجعل مساحته أكثر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء حفاظا على التوازن بين التشبيه والتنزيه. وقد ينازع التنزيه تصور الجسم فيصبح موجودا في كل مكان. ويبدأ تحديد الجسم خارج الأشبار السبعة والوسط المتناسب ومساحة العالم إلى كونه أكبر من العالم أو موجودا في كل مكان.
134
ولما كانت الاستدارة إحدى صور الخلود كان المعبود كاللؤلؤة المستديرة. فالدائرة تحتوي على التناهي واللاتناهي معا. وهي أنسب صورة للجمع بين المادة والصورة. فهي متناهية لأنها محدودة داخل المحيط ولا متناهية لأنه يمكن تتبع المحيط إلى ما لا نهاية، إذ إنه لا أول له ولا آخر. وتتجسم الدائرة في العجلة. فهي متناهية لأنها محدودة بالمحيط ولا متناهية في اللف والدوران، إذ إنها تتحرك وتدور إلى ما لا نهاية. الدائرة هنا تفضل الخط؛ لأن الخط يمكن أن يكون صورة للاتناهي، إذ يمكن مده من الطرفين إلى ما لا نهاية، ولكنه أيضا يكون صورة للتناهي لأنه يضم مساحة. وقد أخذت صورة الدائرة عند الفلاسفة كأفضل صورة تعبر عن صلة الله بالعالم ولحل مشكلة قدم العالم وحدوثه، فجعلوا «الله» مماسا والعالم دائرة حتى يكون الله منفصلا عن العالم ومتصلا به في آن واحد. فالخط لا نهائي في حين أن محيط الدائرة متناه. وحتى يشارك العالم «الله» على الأقل في صفة واحدة هي أزلية الحركة. كان التصور الدائري في التاريخ القديم عند قدماء الشرقيين وقدماء اليونان وحتى عند ابن خلدون في حضارتنا القديمة وعند بعض الفلاسفة المعاصرين في الحضارة المجاورة
135
هو أفضل تصور يمكن التعبير به عن البدء ثم العود على البداء وتفسير التاريخ في حلقات متصلة تبدأ وتعود سواء كانت تبدأ من الصفر أو تحتوي بداخلها على عنصر تقدم في صورة حركة لولبية، وفي الأمثلة الشعبية «تدور الدائرة» أو «تدور عليه الدوائر» أو «دارت الأيام» تمثل صورة القدر الذي لا مفر منه، وبالتالي تكون الحقيقة في الحس الشعبي أيضا دائرية.
ولما كانت الأجسام المشعة أكثر شفافية من الأجسام المعتمة كانت الروح أقرب إلى النور منها إلى الظلام، ولكنه نور السبائك حتى لا يضحى بالجسم في سبيل الأشعة. وبالتالي تتحد لغة النور ولغة الجسم باتحاد الشيء والشعور، الشيء المعتم والشعور المضيء، فيصبح المعبود جسما شفافا أو سبيكة صافية أو جسما نورانيا أو لؤلؤة مضيئة. قد تتغلب لغة النور على لغة الجسم فيكون المعبود نورا خالصا من غير بدن ولا جسم، نورا ساطعا ليس على أية صورة.
136
ولغة النور الخالص هي اللغة المفضلة عند الصوفية، وهي لغة تجمع بين التجسيم والتنزيه. فالنور جسم شفاف. وبالتالي فلغة النور ليست لغة خارجية أو أثرا أجنبيا، بل لغة موجودة في كل نزعة صوفية تعبر عن ماهية التجربة الروحية وبنائها المزدوج وتحويلا للصراع السلبي في الواقع إلى صراع إيجابي في العواطف والقيم وتعبيرا مجسما عن هذا الصراع بلغة النور والظلمة. وصور النور والنار صور ملائمة للمعبود الجسم الذي هو في نفس الوقت أكثر من جسم؛ لأنه يسمع أو يضيء.
137
وقد يكون المعبود هو الفضاء، أي جسم تحل الأشياء فيه، ليس بذي غاية ولا نهاية.
138
فالفضاء صورة الاتساع، وهو ليس بجسم ولكن الأشياء قائمة به. فصورة الفضاء تجمع بين الصورة والجسم، فلا هو صورة لأن الفضاء جسم ولا هو جسم محدد معين، فيكون حينئذ صورة. هو إثبات للمكان ونفي له، في كل مكان وفي مكان، في السماء وفي الأفق، وسط في كل الاتجاهات، الأمام والخلف، الأعلى والأسفل، اليمين واليسار، محيط بالإنسان من جميع جوانبه، وسط بين الحركة والثبات، لا يتحرك لأنه ثابت، وليس بثابت لأنه يتحرك، فالريح والكواكب والطيور تتحرك فيه. وهو وسط بين النور والظلمة، مرة مظلم بالليل ومرة منير بالنهار وفي ضوء القمر، وسط بين السماء والأرض يجمع بينهما بل ويوجد بينهما في الأفق، وسط بين العتمة والشفافية، فالفضاء ليس شفافا لأنه محمل بجسيمات الأتربة وليس معتما لأنه يسمح بالرؤية. صورة الفضاء إذن أفضل صورة تعبر عن مقتضيات التشبيه والتنزيه فهو جسم، ولكن لا حدود له، كما يجمع بين الحس والعقل، فهو مرئي بالحس ومعقول بالذهن.
وقد يكون المعبود أحد مظاهر الطبيعة أو مشابها لها أو أقل منها. فمثلا يكون الجبل أعظم منه لأن الجبل شاهق عظيم جليل،
139
مما يدل على أن المعبود افتراض محض، وأن المجسم باحث عن الطبيعة لا عن الجسم. التجسيم إحساس بالطبيعة مختلط بعواطف التأليه الناشئة عن ظروف نفسية واجتماعية، لكن الإحساس بالطبيعة هو الغالب. وقد عينت عواطف التأليه المعبود وحددته رغبة في الإمساك بشيء لا يضيع تعويضا عن الحق الضائع.
وأحيانا يخف التجسيم للغاية ويقترب من التنزيه، بل وتستعمل عباراته وصوره. حينئذ يكون المعبود مشابها للأجسام من جهة وإن لم يكن جسما، فما بين المعبود وبين الأجسام مجرد تشابه.
140
هو جسم لا كالأجسام أو جسم خارج عن جميع صفات الجسم، ليس بطويل ولا عريض ولا عميق، لا يوصف بلون ولا طعم ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام. هو موجود فقط، ويقتصر على هذه الصفة دون غيرها من الصفات. يقل التعيين بالصورة، ويصبح جسما دون صورة لا كالأجسام. تعني جسم أنه موجود دون أن تكون له أجزاء مؤلفة وأبعاض ملتصقة. وهي في حقيقة الأمر عبارات لا تدل على شيء لأنها تنفي ما تثبت. هي مجرد صورة ورغبة في الإبقاء على توازن الشعور بين الحس والعقل، وهو أقرب إلى تصور بعض المنزهة.
141
في هذه الحالة يطغى التنزيه على التجسيم ويتحول المعبود إلى جسم لا كالأجسام، وشيء لا كالأشياء.
142
وقد يكون التشبيه مطلقا بلا تعين فيكون المعبود شبيها بخلقه وهو ما يعنيه البعض بدلالة المخلوق على الخالق. فهناك شيء واحد ذو طرفين. فإذا كان الخلق يعني حركة الخالق للمخلوق، فإن المعرفة تعني الحركة المقابلة من المخلوق إلى الخالق كما تقول الصوفية الذين يشاركون أيضا في التشبيه.
143 (4-3) الجوهر
لما فرضت الطبيعة نفسها على التوحيد في التجسيم والتشبيه على حد سواء في تصور المعبود على أنه جسم طبيعي له حد ولون وطعم ورائحة، ويمكن رؤيته كان الجسم أكثر تعبيرا عن الروح من المجرد، الجسم الميتافيزيقي، الأنطولوجي، الوجود، الشيء ضد المبدأ الفارغ، الهوية الصورية الذي يخاطر التنزيه بإثباته. لذلك يفصل التعبير بالجوهر، فيكون المعبود جوهرا أي جسما لكن أكثر عظمة وجلالا. كل الأجسام جواهر ولكن ليست كل الجواهر أجساما. هناك الجواهر الخالصة والمفارقة كما يتصورها الفكر الديني. فاعتبار المعبود جوهرا لا جسما ابتعاد عن التجسيم في الطبيعة واقتراب من التنزيه في العقل في محاولة الشعور إيجاد التوازن بين قطبيه: الحس والعقل.
144
وليس في ذلك أي أثر خارجي.
145
فالجوهر هو الجسم حسب الثقافة المعاصرة في ذلك الوقت عند القدماء، وهو يسمح بالتعبير عن الجسم الفريد وهو المعبود، بل إنه أكثر ملاءمة في التعبير عن مضمونه من لفظ الجسم. هي إذن عملية استعارة لغوية لا أكثر، بل إنها ليست استعارة لأن لفظ الجوهر أصبح شائعا في ثقافة العصر عند القدماء ومتداولا بينهم، على حين أصبح لفظ «الجسم» قديما لا يستطيع أن يعبر عن كل مضمونه.
146
ويرفض أهل السنة إثبات هذا الجوهر الذي ليس هو جسم أو عرض، واحد بالذات، قابل للمتضادات، قائم بنفسه، لا يتحرك، لا مكان له ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا يتجزأ أو يحمل من كل عرض عرضا واحدا فقط كاللون والطعم والرائحة والمجسة لأن البرهان العقلي والدليل الحسي ينفيانه. فالحس لا يشاهد إلا الجوهر الحسي، والعقل لا يعرف إلا واجب الوجود، وهو الخالق.
147
ويذكر القدماء مثالا للجوهر البارئ، والنفس، والهيولى، والعقل، والصورة. والهيولى هي لطيفة أو الخميرة أو الجسم العاري عن الأعراض والأبعاد. وزاد البعض الخلاء والمدة، أي المكان والزمان ثم الجوهر الفرد. ويرفض الفقهاء اللفظ لأنه لا يستمد شرعيته من اللغة أو من الشرع حتى ولو كان بمعنى يتفق مع صفات الله.
148
والحقيقة أن لفظ الجوهر لفظ مشتبه؛ لأنه يشير إلى الجوهر الطبيعي أي الجسم المتحيز القابل للأعراض والجوهر الميتافيزيقي أي الجسم اللامتحيز غير القابل للأعراض. فقد لا يعني الجوهر بالضرورة الجوهر الإلهي كما هو الحال عند النصارى، بل قد يعني الجوهر الطبيعي أي الجسم، ويكون نفي الجوهر ليس نفيا للجسم الطبيعي بل نفي للجسم الإلهي أي للجوهر المفارق؛ لأن الله لا يتحيز وليس بجسم ولا تطرأ عليه الأعراض وليس حادثا.
149
ويحاول أهل السنة تفنيد التجسيم بحجج منطقية إجمالية أو تفصيلية مع أن التجسيم موقف نفسي اجتماعي خالص ينشأ منه تصور عقلي. ولا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى هذا الموقف الأول الذي منه نشأ. لذلك جاءت حججا باردة في معظمها تقنع العقل ولكن لا تشفي غليل جماعات الاضطهاد التي تبحث عن الحق الضائع وتريد أن تمسكه باليد وتراه بالعين. مثلا لو كان جسما للزم التحيز والتركيب والحدوث والأضداد والمقدار والأعراض والقسمة والتجزئة والجهة والمكان والزمان والأبعاد، والطول والعرض والعمق، والاجتماع والافتراق، والكيف والكم. ويسهل الرد عليها بأنه جسم لا كالأجسام بلا كيف، أي بمفهوم الأشاعرة نفسه. أو: لو كان جسما للزم الترجيح والاحتياج والاختصاص والافتقار. والرد عليها أنها مفاهيم إنسانية خالصة وليست حجة عقلية. مما يدل على أن «الله جسم» عبارة تعبر عن موقف نفسي اجتماعي وليس لها معنى ذهني. وعبارة قد لا تثبت شيئا مثل جسم لا كالأجسام، بل تنفي ما تثبت، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، تعبر عن توتر الشعور بين التشبيه والتنزيه. ولا مشاحة في الألفاظ لأن أسماء الله توقيفية ولا يليق قياسها بما لا يليق.
150
وتكشف حجج التجسيم عن التشبيه واستحالة تصور الله إلا في مقولات إنسانية خالصة فمثلا: كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما ساريا في الآخر كالجوهر والعرض أو مباينا في الجهة كالسماء والأرض أو أن الجسم يقتضي الحيز والجهة لكونه قائما بالنفس والله لا يشارك في ذلك، كلاهما قياس للغائب على الشاهد، وهو قياس إنساني خالص.
151
كما يصعب إثبات التجسيم بحجج عقلية منطقية صرفة إذ يسهل نقدها. فالقول مثلا بأنه لا يوجد في العقول إلا جسم أو عرض فلما بطل أن يكون الباري عرضا كان جسما هو قسمة ناقصة. والقول بأنه لا يصح الفعل إلا من جسم مغلوط لأن الجسم ما له أبعاد ثلاثة ويستحيل أن يطلق على الله.
152
وهناك أدلة تفصيلية أخرى تقوم على الجدل المنطقي أو على الحجج اللغوية والشواهد النقلية لا تنفي التجسيم بقدر ما تكشف عن التشبيه. يحاول أحدها إثبات أن المؤله ليس جسما بناء على تفنيد العكس في قضية شرطية منفصلة وإبطال الاحتمالين الضدين معا. فالجسم كثرة والمؤله واحد، والجسم لفظ متواضع عليه في دلالته على الموصوف. والحقيقة أن كلا الاحتمالين يقومان على عواطف التأليه بالنسبة للجسم وبالنسبة إلى اللغة. فالجسم لا يعني بالضرورة التكثر، وأبعاد الجسم لا تعني بالضرورة التركيب. فالجسم يكون واحدا أيضا بالرغم من أن له أبعادا ثلاثة. ولكن عواطف التأليه فرضت على العالم التكثر من أجل إبقاء الوحدة للمؤله. كما فرضت على اللغة تطابق الاسم مع المسمى والصفة مع الموصوف، لا من أجل نظرة اجتماعية للغة ولكن من أجل تخصيص التسمية بالاسم دون الصفة للمؤله وحده. فهو راء دون أن يكون له عين، وسامع دون أن يكون له أذن.
153
ولما كان نفي الجسم قد تم، فإن نفي كون «الله» عرضا يكون أسهل لأن العرض لا يقوم بذاته، ويعتمد في وجوده على غيره. وهو صفة زائدة على الذات، أي الجوهر. العرض في اللغة ما يعرض في الوجود، ولهذا يقال للسحاب عارض
هذا عارض ممطرنا .
154
والحجج النقلية مسئولة عن التجسيم، والجهة مسئوليتها عن التشبيه. وقد لا يكون هناك فرق بين التجسيم والتشبيه إلا في الدرجة لا في النوع. الفرق الوحيد بين التجسيم والتشبيه هو أن الأول تشبيه المخلوق بالخالق بينما الثاني تشبيه الخالق بالمخلوق.
155 (5) التشبيه
وهي النزعة الناشئة من التفسير الحرفي للآيات والأحاديث أكثر من نشأتها من موقف نفسي بناء على موقف اجتماعي. فالتشبيه نظريا نتيجة المنهج الحرفي في التفسير لآيات تذكر الرأس والوجه والعين واليد واليمين والأصبع والجنب والساق والقدم والنزول والصعود والمجيء والذهاب. ولا دليل على ثبوته إلا المنقول، وبالتالي يكون خارجا عن علم أصول الدين الذي يعتمد على أوائل العقول وشهادات الحس ومعطيات الوجدان، والنقل فيه لا يعطي إلا الظن كما ورد في نظرية العلم.
156
لذلك لا تظهر هذه الصفات في بعض المؤلفات المتقدمة.
157
وإذا ظهرت فإنها تكون مع صفات التشبيه مثل الاستواء والعين والوجه واليد والجنب واليمين والساق والمجيء على أنها دلائل سمعية لإثبات كون الإله جسما، وليست كصفات مستقلة زائدة على الصفات السبع أو داخلة فيها.
158
ولا يوجد إحصاء دقيق لها أو ترتيب معين أو مكان خاص. فقد يأتي إثبات اليد والوجه والنفس بعد إثبات الصفات السبع ورفض تفسيراتها المجازية بالمعاني.
159
وقد تأتي صفات الوجه واليدين والعين بعد ذكر الصفات.
160
وقد تذكر مع الاستواء.
161
وتثبت صفات السلوب (للذات) وصفات الثبوت السبع على أنها صفات مختلف عليها مثل البقاء والتكوين عما يثبته الأشعري من صفة اليد وراء القدرة، وصفة الوجه وراء الوجود، والاستواء كصفة.
162
وكذلك تذكر صفات الاستواء والعينين والجنب والقدم والأصبع والتكوين من الصفات المختلف عليها مع البقاء والقدم في آخر الصفات والأوصاف.
163
وهكذا تظهر صفات التشبيه مرة مع أوصاف الذات ومرة مع صفاتها، مرة كصفات مستقلة ومرة كتشبيهات لصفات موجودة بالفعل، وقد تطغى حتى على بعض أوصاف الذات وتحيلها إلى تنبيهات مثل الوجود والقدم والبقاء. ولكن مكانها الطبيعي في الغالب هو في التوحيد ونفي التشبيه، سواء كان ذلك في الذات أو الصفات أو الأسماء. فيذكر أحيانا الوجه واليد والعين والجنب والقدم والأصابع والتنزل وصفات المكان ومعها بعض صفات الأسماء كالعزة والرحمة والأمر والقدرة وبعد أوصاف الذات مثل النفس والذات.
164
ويجوز اليد والساق والأصبع والقدم بعد إثبات القدم وتجويز الوجود وإثبات الوحدانية وتجويز الشيئية والنفس ونفي الشبه (النور).
165
ويستمر الاضطراب في إيجاد مكان لصفات التشبيه وترددها بين الذات والصفات والأسماء. فتأتي اليدان والعينان والوجه والجنب والساق والمجيء والنزول والنور مع الأسماء بعد أوصاف الذات وصفات المعاني السبع.
166
وقد تأتي مع الصفات السبع ومن خلالها بعد الكلام والاستواء وقبل الإرادة وإثباته مع السمع والبصر.
167
وتأتي بعد الصفات كجزء من مسألة إثبات الصفات أو نفيها. وقد لا تظهر مسائل اليدين أو الكرسي أو العرش إلا في نهاية التوحيد العملي بعد أن تحول التوحيد إلى عمل وكأن التشبيه كتصور ضروري في التوحيد كعمل.
168
ونظرا لارتباط التشبيه بالتجسيم وتمايزه عنه يظهر نفي الأبعاض عن الصانع ضد جسم الإنسان وصورته والوجه واليد، ونفي التبعض والتجزيء والتركيب والتناهي بعد إثبات صفات الوحدانية والقدم وظهور الصفات السبع ونفي العرض والجسم والجوهر والصور (الأعضاء) والحد والعد.
169
وقد تدخل في صفات التشبيه صفات أخرى مثل الاستواء أقرب إلى الوصف الخامس للذات، وهو القيام بالنفس واستحالة الجهة والمكان.
170
وقد تدخل صفات أخرى لا تشير إلى جسم الإنسان، بل إلى أفعاله مثل التكوين.
171
وقد تأتي صفات أخرى مثل إدراك الشم والذوق واللمس،
172
أو صفات أقرب إلى الانفعالات أو الأسماء أو الإرادات مثل الرحمة والكرم والرضا والسخط.
173
وقد تظهر أوصاف الذات السابقة مثل الوجود والقدم والبقاء، وكأنها صفات تشبيه.
174
ويمتد الأمر إلى إثبات الصفات، العلم وراء المعلوم، والعالمية وراء العالم عند مثبتي الأحوال.
175
أو عند الصفاتية إثباتا لليد وراء القدرة والوجه وراء الوجود.
176
يقع التشبيه إذن في الذات كما يقع في الصفات.
177
وبعد إثبات الصفات من السهل الوقوع في التشبيه باعتبارها أعضاء «الله»، ومن ثم ينتهي إثبات الصفات إلى التشبيه وأحيانا إلى التجسيم، في حين ينتهي نفي الصفات إلى التنزيه. إثبات الصفات زائدة على الذات يؤدي إلى التشبيه غالبا وإلى التجسيم أحيانا، في حين أن اعتبار الصفات عين الذات يؤدي إلى التنزيه.
178
والكل لا يجب التوقف فيه إثباتا للصفات وبالتالي التشبيه أو يجب تأويله بحيث لا يخرج عن الأوصاف والصفات.
179
ولا يوجد ترتيب معين لصفات التشبيه. ولكن إبقاء على بناء الصورة تشمل كل جوانب الإنسان: الرأس والجسم والأطراف. وفي الرأس الوجه والعينان، وفي الجسم الجنب، وفي الأطراف اليد واليمين والأصبع والساق والقدم. لذلك يمكن تقسيم آيات التشبيه إلى أربع مجموعات رئيسية: (5-1) آيات الرأس والوجه والعينين
ويرجع إثبات صفاتها إلى التفسير الحرفي للآيات ورفض نفيها خوفا من التعطيل. والقول بصفة بلا كيف هو مثل القول بجسم لا كالأجسام، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، إقدام ثم إحجام، تشبيه ثم تنزيه، فالصفة لا يدركها الإنسان إلا على نحو معين، ولا توجد صفة تشبيه بلا إحالة إلى شيء.
وللرأس أولوية على البدن نظرا لأنها تحتوي على مراكز السمع والبصر.
180
ولكن لا تظهر إشارة إلى الرأس بقدر ما تظهر صفات الوجه والعينين. ولا يعني الوجه العضو أي واجهة الرأس، ولا يعني حتى الجهة إلى الأمام والصدارة، بل الذات والوجود والحقيقة، وبالتالي فإن ضرورة المجاز والتأويل ليس خروجا على النص بل التزام بقواعد اللغة.
181
وإثبات أن أوجه الله هو الله إثبات الأعضاء منفصلة عن الذات، بل تكون هي والذات شيئا واحدا حتى تقل حدة التشبيه، ذات مجردة من ناحية وصفات مشبهة من ناحية أخرى، فالذات المتوحدة مع الصفات يمكن أن ترفع التشبيه. الوجه صورة فنية تعني ذات الله أو الفعل الخالص الذي لا يهدف إلى شيء خارجه أو إلى بقاء الحق. وإذا أمكن لأحد إنكار الأعضاء فلا يمكنه إنكار الوجه، فالوجه له دلالة خاصة لأنه المميز لفرد عن آخر. أما العين فهي ليست عضو الرؤية الذي بالرأس في أعلى الوجه، فهي إما عين الماء، وفي هذه الحالة تكون في حاجة إلى تأويل ثان، وإما العلم لما كانت العين أداة للبصر والرؤية ومصدرا للمعرفة الحسية، وإما الحفظ والرقابة والعناية وهو العلم العملي، وكما هو واضح في الأمثال العامية. وهي كلها تعبيرات إنسانية كما يدل على ذلك العرف في الحلف بالرأس والتغني بالوجه والحفظ في العين. (5-2) آيات اليد واليمين والأصبع
وهي آيات الأطراف بعد الرأس وقبل الجسم. ولا تعني اليد عضو الجسم، بل القدرة والقوة، وهي من الصفات التي أفاض فيها القدماء.
182
اليد مجرد صورة فنية تعبر عن الإرادة ومعاني القوة والقدرة والعلو والقهر والاستيلاء والاحتواء والتنزيه. أما اليمين فلا تعني أيضا طرف الجسم، بل القدرة والإتقان في العمل والحفظ للأفضل والإمساك. فاليمين أفضل في العمل من الشمال على ما هو وارد في الشعر العربي.
183
أما الأصبع فإنه ليس لفظا شرعيا يضاف إلى الله.
184
أما ألفاظ الكف والأنامل فهي ليست ألفاظا شرعية في أصل الوحي، وأقصاها روايات تقوى وتضعف، وأصل العقائد في الوحي، إذ إن السنة تبيين عملي لأوجه التطبيق وليست مصدرا لعقائد نظرية.
185 (5-3) آيات الجنب والساق والقدم
وهي الآيات التي تشير إلى جذع البدن والأطراف السفلى. ولا يعني الجنب جنب البدن، بل أمر الله ونهيه، فالجنب صلب البدن والذي عليه يرتكن.
186
أما الساق والقدم فإنهما ليسا لفظين شرعيين في أصل الوحي يطلقان على «الله».
187
وغالبها ألفاظ رواية لا تكون أصلا في العقائد نظرا لضعف الرواية، ومهمتها العملية لا النظرية. وقد انتشرت هذه الروايات في الدين الشعبي لما فيها من خيال فني خصب يؤثر على العامة في تصوراتها لله.
188 (5-4) آيات النفس
ولو أن النفس ليست من صفات التشبيه إلا أنها تشير أيضا إلى أبعاض الإنسان، تخبر عنه لا عن شيء غيره، تشير إلى الذات، وتميل إلى الهوية. بل إن نسبة الحواس الخمس له وجعله مدركا للعالم إنما كان القصد منها الإشارة إلى وعيه بالأشياء في مقابل ذكر الأشياء له، فيكون شعورا في مقابل الأشياء وتكون أشياء في مقابل الشعور.
189
لا سبيل إذن لتجاوز التشبيه إلا بالتنزيه والتخلي عن التفسير الحرفي للنصوص إلى التفسير المجازي لها وهو أقرب إلى قواعد اللغة. ليس التشبيه هو الحق والتنزيه هو الضلال، فسلاح التكفير هو سلاح ضد الخصوم.
190
ويتم تجاوز التشبيه إلى التنزيه عن طريق إبطال التشبيه لغويا وفهم دوافعه نفسيا واجتماعيا وسياسيا، وهي الدوافع التي يشارك فيها التشبيه التجسيم. فالفرق بينهما في الدرجة لا في النوع. والتنزيه هو القادر على جذب التشبيه إليه بعيدا عن التجسيم عن طريق النفي، إذ لا يكفي إطلاق القرآن أو التوقف أو نفي الكيفية.
191
وفي هذه الحالة قد لا يفترق التشبيه عن التنزيه إلا قليلا نظرا لحرص التشبيه على التفسير الحرفي للنصوص دون الوقوع في التجسيم، كذلك كانت فرق أهل السنة بين التشبيه والتنزيه.
192
ولا يرجع التشبيه إلى أثر خارجي في دوافعه، بل قد ترجع بعض صوره الفنية إلى البيئة الشعبية في خيالها وأساطيرها. وفي الخيال الشعبي يصعب التمييز بين ما هو محلي وما هو وارد؛ لأنه مصب لكل شيء بإبداع ذاتي خاص.
193
إنما التشبيه خطأ في تفسير النصوص، ووقوع في التفسير الحرفي حيث يصح المجاز. التشبيه تجاوز الحرف إلى الشيء، وانتقاله من مستوى اللغة إلى مستوى الطبيعة، ومرور من المعرفة إلى الوجود. فالمؤله ليس مجرد حالة شعورية يمكن التعبير عنها على درجات متفاوتة من التنزيه بالقوالب العقلية، بل هو جسم وإن لم يكن بذي جسم، وصورة وإن لم يكن بذي صورة. فالحروف الأربعة مثلا «ا، ل، ل، ه» ليست مجرد كلمة بل هو شيء حي. الألف موضع القدم، والهاء العورة.
194
ومعروف في تاريخ الأديان تشخيص الكلمة، فالمسيح ليس كلمة
Logos
بل هو كلمة مشخصة في بدن. التشبيه إذن بهذا المعنى عود إلى التجسيم الأول، ولكن كرد فعل متأخر على التنزيه وإنكار الصفات تجنبا لأي تشابه بين المؤله والإنسان أو كإقلال من التجسيم الذي كان أقرب إلى التأليه.
195
لذلك لا يلغي التوقف في التأويل المشكلة ولا يحلها أساسا. التوقف موقف تكتيكي عملي حذر وليس طرحا نظريا. أما التفويض وقول «الله أعلم» فإنه معارض بقراءة:
والراسخون في العلم
إذا كانت الفصلة بعدها. كما أنه خوف وجبن وإرجاء. وهو اتباع لسلف الأمة ينتهي إلى التقليد، وإيمان المقلد لا يجوز طبقا لنظرية العلم،
196
ولا يمكن الاعتماد على سلطة النقل وسلطة الإجماع، فذلك أيضا تقليد بدعوى الاتباع دون الابتداع. وترك التعرض أسوة بالرسول ينفي حاجات العصر المتجددة ويغفل مقاصده النظرية واتجاهاته في الفهم. فحل القضية في التأويل، فإنها تدخل أيضا في موضوع النقل والعقل لأنها أخبار لا تثبت إلا بالسمع دون العقل.
197
هي مجموع الصفات الخبرية التي يؤدي إثباتها إلى الوقوع في التشبيه.
198
لا يوجد دليل على صفات التشبيه إلا من المنقول، ولا يوجد عليها دليل من المعقول، وبالتالي لا يمكن أن تكون أصلا من أصول الدين طبقا لنظرية العلم. فالحجج النقلية مهما تضافرت على شيء فإنها تظل ظنية ولا تتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة. فمدلولات النقل مرتبطة بالوضع اللغوي والعرف الاصطلاحي والصحة التاريخية إذا كان النص رواية. لا سبيل إلى الاحتراز من التشبيه إذن إلا بآيات السلوب وفي مقدمتها:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . النفي قبل الإثبات، النفي للتنزيه والإثبات للتقريب إلى الأفهام وليس لإثبات الصفات وإلا وقعنا من جديد في مخاطر التشبيه وربما التجسيم.
وإذا كان التجسيم الأول قد نشأ رد فعل على الهزيمة وكرغبة في تخليد الزعيم لدرجة التأليه حرصا على الحق الضائع وإثباته على الأقل في الخيال كامتداد طبيعي للعقل، فإن التشبيه هذه المرة يحدث نتيجة للرغبة في المحافظة على المعاني الحرفية للنصوص وتفسيرها تفسيرا ماديا شخصيا وعدم معرفة بدور الصورة الذهنية كأحد وسائل التعبير.
199
فإذا كان التجسيم نتيجة لوضع سياسي ورد فعل على الهزيمة، فإن التشبيه خطأ في نظرية التفسير وفي فهم طبيعة اللغة ورفض أي عمل عقلي أو حضاري على النص.
200
لذلك كانت الحجج المقدمة حججا نقلية خالصة مفسرة تفسيرا حرفيا دون أي تدخل من جانب العقل. وقد يكون الدافع على ترك السلف للتأويل ليس استبعادا للسؤال النظري، بل لأنهم كانوا مشغولين بالفتوح وتحرير البشر، والدعوة للدين الجديد، وتحقيق الرسالة، أي إثبات الصفات عمليا عن طريق تحقيقها بالفعل. لم يكن السؤال النظري مطروحا ثم استبعدوه. لم يطرح السؤال نظريا إلا بعد توقف الفتوح، فالنظر تعويض عن العمل. وإذا كنا الآن في ظرف مشابه لتحرير الأرض، فهل يظل السؤال مطروحا نظريا أم يتحقق عمليا؟
201 (5-5) إيجابيات التشبيه
وبالرغم من التشبيه وجزع النفس منه، وصدمه للعقل، واستنكاف الشعور منه، إلا أنه يكشف عن عدة حقائق، منها: (1)
يستحيل التعبير عن عواطف التأليه إلا باللغة الإنسانية. ولما كانت اللغة الإنسانية بطبيعتها مستقاة من حياة الإنسان، فاستعمالها يؤدي حتما إلى التشبيه، والتعبير عن كل شيء بلغة الإنسان. ومن ثم لا يمكن الحديث عن المؤله إلا بالحديث عن الإنسان المؤله المدفوع إلى أقصى حد له، وكأنه لا يمكن الحديث عن الموضوع دون الحديث عن الذات، فموضوع التأليه والذات المؤلهة واحد. (2)
لا يمكن التعبير عن المؤله بأسلوب مجرد خالص كما هو الحال في الرياضيات، بل بأسلوب التشبيه والاستعارة والكناية، أي بلغة الصورة الفنية. وبالرغم من تجاوز التشبيه، خاصة في التجسيم، من اللغة إلى الشيء، إلا أن الصورة هي الأسلوب المعبر عن عواطف التأليه، لا لأن الصورة أقرب إلى العامة وأسهل على فهمها بل لأنها حقيقة تعبر عن وجود حقيقي، فاللغة تحيل إلى الشيء، والتصور إلى الوجود، وهو نوع من الأنطولوجيا الشعبية البدائية قبل الإحكام النظري المتقدم لحضارات الذهن. (3)
ليس التأليه موضوعا مجردا خالصا، بل هو شيء يوصف ويلمس، شيء موجود بالفعل وليس مجرد موضوع عقلي. لا يوجد في التشبيه مشكلة كيفية الخروج من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان كما هو الحال في التنزيه؛ لأن المؤله موجود من قبل في العالم في صورة حسية مرئية. لا يوجد المؤله كلما بعدنا عن العالم، بل يوجد كلما قربنا منه. فالمؤله هو العالم الضائع والتعويض عنه بالعالم الممسوك. (5-6) مخاطر التشبيه
ولكن من ناحية أخرى يمثل التشبيه عدة مخاطر، أهمها: (1)
التشبيه إسقاط من الذات على الموضوع، ولكنه إسقاط من أسفل إلى أعلى. يرى الإنسان في موضوعه التأليه ذاتا تشبه ذاته، ويرى فيها صورته الخالصة، ظانا أنها صورة موضوعية لوجود موضوعي. يرى فيها مشاكله الخاصة ظانا أنها مشاكل موضوعية كمن ينظر إلى السحب فيجد فيها صورا وأشكالا لما تعود أن يراه في حياته على ما هو معروف في التجارب النفسية للكشف عن مكونات الشخصية وسماتها. وبالتالي يمكن القول: «إن الذات خلق الموضوع على صورته ومثاله.» التشبيه إعدام للموضوع وتحويل الذات نفسها وقسمتها إلى ذات وموضوع، وبالتالي خروج الموضوع من الذات. (2)
في التشبيه يتحول الكلام إلى شخص، وتتحول اللغة من نطاق الفكر إلى نطاق الشخص، في حين أن اللغة حامل للفكر، والفكر مستقل عن الأشخاص. التشبيه خطأ في استعمال اللغة وفي معرفة وظيفتها، وخلط بين مستويات اللفظ والمعنى والشيء. وبالرغم من أهمية ظهور المادة في التشبيه إلا أنها تظهر في غير موضعها. فموضع المادة في اللغة وفي الصورة وفي الشخص وفي الشعور وفي الفكر مع أن المادة صورة مصغرة ومحدودة للواقع العريض، مادة من خلال تجربة معاشة تكشف عن العالم وتحيل إليه. التشبيه خطأ في نظرية اللغة وعدم دراية بوظيفتها في التعبير، وخلط بين أنواع الخطاب التقريري منه والإنشائي، فأسلوب الوحي لا يهدف إلى إثبات شيء مادي، بل يستعمل الصورة الفنية للتأثير النفسي من أجل إعطاء تصورات للعالم وبواعث للسلوك. (3)
يؤدي التشبيه إلى الوقوع في الخرافة بعد زحزحة العقل وفقدان سلطانه، والاعتماد على الخيال، وتحويل الموضوعات من الوضوح والبداهة إلى نطاق السر والمجهول. وأسلوب التشبيه ليس أسلوبا علميا للتعبير عن مضمون العلم. استعمله القدماء لأنه متفق مع منهج العلم في عصرهم، وهو التأمل أو السحر، ومع موضوعات العلم حينذاك مثل العالم والكون وغيرها من الموضوعات الكونية العامة. ويمكن وصف أسلوب التشبيه على النحو الآتي: (أ)
يستبدل التشبيه بالشيء غيره. فبدلا من الحديث عن الشيء يتحدث عن الصورة، ويغرق في وصف الصورة، ويناضل من أجل الصورة. والصورة شيء، والشيء شيء آخر. التشبيه معركة في الهواء تحدث في الخيال مع طواحين الهواء. (ب)
التشبيه فكر وصفي خالص، يصف الشيء من الخارج، وليس فكرا تحليليا أو يقوم على التجريب لكشف جديد. هو أقرب إلى تحصيل الحاصل وتكرار الذات لما تعرف على نحو آخر، من الإحساس الذاتي إلى الرؤية الموضوعية للذات. (ج)
التشبيه يتناول الشيء ككل، ويعطي أحكاما كلية عليه، ولا يقوم بتحليل الأجزاء بغية الدقة والموضوعية من أجل إصدار حكم. (د)
أقصى ما يصل إليه التشبيه هي النتائج العامة التقريبية وليست النتائج المحددة التي يصل إليها الباحث عن طريق التعريف الجامع المانع أو القياس الدقيق. يقينه ذاتي يعتمد على دقة الصور والقياس بين الدلالة والشيء، وهو ما يستحيل عملا نظرا للفرق بين الدلالة والدال في الرؤية والإيحاءات. (ه)
يقوم التشبيه على الخيال دون العقل، وهو أقرب إلى أسلوب الفن منه إلى أسلوب العلم. غايته التأثير في النفس كالخطابة وليس إعطاء وصف علمي للواقع بالبرهان. فالتشبيه أقرب إلى تاريخ الفن منه إلى تاريخ العلم، والمشبهة فنانون دون أعمال فنية، شعراء دون نظم، ورسامون دون لوحات. (و)
يعبر التشبيه عن انفعالات نفسية نحو الشيء، ولا يعطي قوانين عقلية لضبط الواقع والتحكم في مساره. يعطي وسيلة لضبط النفس وإعادة تصحيح موقفها، ولكن ليس للسيطرة على قوانين الطبيعة. التشبيه ليس فكرا، بل مجرد التعبير عن عواطف الإجلال والتعظيم بصورة فنية. لا يصدر أحكام واقع بل أحكام قيمة تعبر عن مزاج قائلها ودرجة حدة الانفعالات. يمكن إرجاعها إلى أسسها النفسية التي ترجع بدورها إلى الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها الموقف كله. (4)
التشبيه، بالرغم من تميزه عن التجسيم، إلا أنه عود إلى الوثنية القديمة التي طالما حاربها الوحي، وخلق وثنية جديدة أخطر وأعظم؛ لأنها وثنية يدعمها الوحي ذاته بالتفسير الحرفي لنصوصه، وبالتالي بوجودها الشرعي منه. التشبيه تجريد للوحي وتفريغ له من مضمونه الاجتماعي ثم تجسيد له وغلقه على ذاته وخلق جسم من داخله، ونقله من مستوى الفكر والنظام إلى مستوى الشيء والمادة. التشبيه خطأ في اتجاه الوحي ومقصده، تجسيم له من ذاته وتفريغ العالم منه. وقد أدى ذلك إلى السماح بدخول كثير من الأبنية الأسطورية القديمة من البيئات الثقافية المجاورة نظرا لتشابه المواقف النفسية والاجتماعية مما أفقد الفكر الديني أصالته وهويته واستقلاله عن الفكر الديني القديم في الحضارات والبيئات الثقافية المعاصرة له، وأصبح جزءا من تاريخ الأديان. (5)
وللتشبيه كما للتأليه وللتجسيم وللتنزيه استخدام سياسي، عن طريق تصوير الله الحاضر الذي يرى بالعين ويسمع بالأذن ويتكلم باللسان ويبطش باليد ويحرك بالأصبع ويدوس بالأقدام. يتحول الشخص باعتباره قمة عواطف التأليه المشخصة إلى سلطة مركزية تجمع في يديها كل مظاهر السلطة من قوة وسيطرة، تجب لها الطاعة المطلقة وتستحيل معارضة أوامرها. فالتشبيه أساس السلطة، وركيزة التسلط، وقوام القهر والطغيان، تستعمله الدولة لإبراز حضورها في كل مكان. لذلك قام التأليه بدور المعارضة السرية النشطة، تأليه الإمام الغائب الذي سيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. كما قام التجسيم بدور المعارضة السرية الكامنة غير المنظمة في حزب. وكما سيقوم التنزيه بدور المعارضة العلنية من الداخل (المعتزلة) أو من الخارج (الخوارج) باسم المبدأ غير المشخص، وتمثل الذات له، والتوحيد بين المبدأ والذات. فالتأليه والحلول والاتحاد والتجسيم والتشبيه ليست فقط تصورات للألوهية، بل هي أنظمة دفاعية للذات عن نفسها، إما في موقع السلطة كالتشبيه، أو في موقع المعارضة كالتأليه والتجسيم والتنزيه. وأن تصورات الألوهية لتكشف عن أوضاع اجتماعية من خلال أبنية نفسية دون أن تكون وصفا لأي موضوع إلهي. وهي في واقع الأمر أيديولوجيات سياسية في مجتمعات دينية. (6) التنزيه
لم يبق إذن بعد تأليه الأئمة وحلول الصوفية واتحاد النصارى وتجسيم الكرامية وتشبيه أهل السنة إلا التنزيه عند المعتزلة، أي محاولة الحديث عن الذات بأقصى درجة ممكنة من التجريد دون الوقوع في التجسيم أو في التشبيه. (6-1) أدلة التنزيه
ولما كان التشبيه في حقيقة الأمر بناء على نفي الكيفية هو أحد درجات التنزيه، فقد حاول الأشعري صياغة أدلة عقلية لنفي التشبيه وفي مقدمتها دليل نفي الشبه. وهو دليل يلحق بدليل الحدوث، مهمته نفي الشبه بين الحادث والقديم، أي أنه دليل على التنزيه أكثر منه دليلا على وجوه المؤله. ويقوم دليل نفي الشبه على قسمة بديهية، قسمة الأشياء إلى كل وجزء واستحالة التشابه بينهما. وهي في واقع الأمر قسمة لا تثبت شيئا ولا تزيد عن كونها عملا عقليا زائدا يقوم العقل به للتنفيس عن عواطف التأليه والتقليل من حدتها. ويقوم الدليل أيضا على رفض أي تشابه بين هذا العالم وبين الذات المشخصة من عواطف التأليه، لا كلا ولا جزءا، حتى ولو كان التشابه جزئيا. يظل جزء آخر لا تشابه فيه إبقاء على بعض عواطف التأليه خالصة من كل شائبة من هذا العالم. وهو موقف تطهري خالص يقوم على البحث عن الخالص واعتبار المادي الحسي المرئي الملموس عيبا ونقصا ورذيلة. كما أنه لا يقضي على كل أنواع التشابه بين العالم والذات، يكفي نسبتهما وإضافتهما وإدراكهما المزدوج بالهوية أو بالاختلاف أو الحديث عنهما.
202
ويقوم دليل الشبه على القياس المعكوس، أي على نفي القياس كتشابه بين شيئين. والقياس يكمن في الطبيعة نظرا للاطراد. وبما أن الأشياء توجد على نفس المستوى الطبيعي، فإذا تغير المستوى بطل القياس ولا يوجد قياس بين الأقل شرفا والأعظم شرفا، بل القياس هنا من أجل إبطال القياس، أي أنه يستعمل ضد استعماله.
203
هذا بالإضافة إلى أن قياس الشبه أضعف أنواع القياس عند الأصوليين. ويأتي في ثالث مرتبة بعد قياس العلة وقياس الدلالة. كما أن التمثيل في المنطق الصوري أضعف من الاستنباط والاستقراء، وعلى التمثيل يقوم دليل الشبه. وفي نهاية الأمر يتغلب قياس الغائب على الشاهد، وهو أساس الفكر الديني كله على دليل نفي الشبه، ويثبت الشبه بالرغم من دليل نفيه. وأن كل ما قيل عن التأليه هو في الحقيقة عمليات شعورية قائمة على موقف الشعور في العالم، يستعمله التشبيه لرفض التجسيم ويستعمله التنزيه لرفض التشبيه.
204
ويؤدي دليل نفي التشابه إلى دليل الكمال، وهو أيضا أحد نتائج دليل الحدوث. ويقوم نفي التشابه عن العالم والمؤله أيضا على أساس من عواطف التأليه التي تتحول باطنيا ثم ذهنيا إلى حكم قيمة وشرف. فالعالم أقل شرفا وكمالا من المؤله، والمؤله أعظم شرفا وكمالا من العالم. ليس العالم فاعلا لنفسه لأن الفاعل لا بد وأن يكون حيا قادرا غير مشابه.
205
وقد حاول متأخرو الأشاعرة صياغة أدلة أخرى لا تخرج عن هذين الدليلين المستقين من دليل الحدوث والمعبرين عن عواطف التأليه على درجات متفاوتة من التعقيل.
206
كما حاول المعتزلة صياغة أدلة لنفي الشبه وإثبات المخالفة للحوادث، ولكنها مثل أدلة الأشاعرة وأضعف بكثير من طريق النفي والسلب، ويمكن الرد عليها وتجريحها.
207
وقد لجأ أهل السنة إلى طريق التنزيه عن طريق النفي والسلب. فهو ليس كالخلق ، ولا يشابهه أحد من مخلوقاته، وهي الثنائية الفلسفية المشهورة بين عالمين، الأول الثابت الأزلي الكامل المطلق، والثاني المتحرك الفاني الناقص النسبي، هذه الثنائية التي تقوم على استقلال الأول وتبعية الثاني، وتجعل علاقة الطرفين علاقة الشارط بالمشروط.
208
واستمر طريق النفي حتى في كتب العقائد المتأخرة.
209
وقد عرف المعتزلة بهذه الطريقة وأصبح نفي الجسمية عن التوحيد هو أكبر رد فعل على التجسيم والتشبيه إبقاء على التنزيه المطلق.
210
وهي أيضا طريقة الباطنية في إحدى لحظاتها الفكرية وتجاربها النفسية بحثا عن الحد الأقصى في التصور والأبعد في القصد والغاية.
211
والحقيقة أن الطريقة المثلى لإثبات التنزيه هي طريقة النفي، نفي كل الصفات تحاشيا للتشبيه، وهي طريقة المعتزلة وقد أثبتها أيضا أهل السنة. ويأتي النفي بلا أو بليس تحاشيا لمشاكل اللغة والتشابه في الألفاظ.
212
وقد تأتي أوصاف الذات كلها كنفي لنقص وإثبات لكمال.
213
كان التنزيه أكبر رد فعل على التجسيم. واستطاع أن يقضي على التشخص والتعين والتحدد وأن يتخلى عن الجسمية والشيئية والمادية والحسية في عملية التأليه. وأطلق ذلك كله، وجعل عملية التأليه عملية شعورية خالصة يتجه فيها الشعور نحو المطلق بلا تعين أو تحدد أو تشيؤ. ثم واجه الشعور شيء آخر، هل التنزيه المطلق مجرد عملية شعورية خالصة يحدد فيها الشعور اتجاهه في العالم أمام لا شيء أم أنه اتجاه نحو شيء وإن كان منزها؟ ما هو الموضوع الذي يتجه الشعور نحوه في حالة التنزيه؟ هل التنزيه وصف لحالة شعورية خالصة أم أنه أيضا وصف لموضوع يتجه الشعور نحوه؟ هنا يظهر فرضان: الأول ضرورة إثبات موضوع يتجه الشعور نحوه ويكون مطلبه في التأليه بعد أن تم القضاء على الشخص الذي بدأ منه التأليه وعلى البدن والجسم والشيء في التجسيم. فالشعور لا يكون إلا شعورا بشيء، والتنزيه كعملية شعورية لا بد وأن يكون لها موضوع، هو الموضوع المنزه.
214
والثاني أن الشعور ليس بحاجة إلى مشجب لتعليق الصفات عليه، ولا يستطيع أن يتجوهر في موضوع ويثبت حياته لتعليق الصفات عليه، ولا يستطيع أن يتجوهر في موضوع ويثبت حياته في نقطة ارتكاز، ويظل في حركة وحياة دائمتين، ويكون مجموعة من الصفات بلا موصوف، ويكون موضوع التنزيه مجرد صفة. ولا يحتاج الشعور هنا إلى ذات تتعلق حولها الصفات، بل توجد الصفات بلا ذات، وتكون مجموعة من الأقوال تختلف درجاتها في التشخيص. تكون الذات في هذه الحالة افتراضا وهميا خالصا ينشأ بفعل عاطفة التنزيه كما هو الحال عند الصوفية عندما يخلق تركيز القلب موضوعه أو عند الحكماء عند يخلق التأمل موضوعه. وبالتالي يكون العالم أو الذات تعبيرا عن إيمان ديني بالصفة التي تعبر بدورها عن أماني الإنسان، هذا الإيمان الذي يخلق موضوعه كما هو الحال في الدليل الأنطولوجي الذي يخلق فيه الفكر موضوعه والكمال وجوده. ولكن هذه المرة ليس دليلا عقليا أو بداهة، بل تجربة شعورية وموقف إنساني. ولما كانت الماهية لا وجود لها، فهي ليست موضوعا للإدراك بحاسة من الحواس الخمس أو بحاسة سادسة في هذا العالم أو في عالم آخر. وافتراض ماهية معلومة قول بلا برهان، وإثبات وجود بلا معرفة كما يثبت الموقف الإنساني معرفة بلا وجود. إنما إثبات الماهية هو تشخيص لعملية شعورية وخلق لموضوع ذاتي خالص وتوهم له في الخارج ثم وضع ذلك على حساب الإدراك حين يستمر التشخيص فتتحول الآخرة إلى مكان ويتم افتراض حاسة سادسة تدرك بها الماهية المتوهمة. هنا يتوقف العقل، وينتهي الواقع، ويبدأ الخيال وتدخل الأسطورة. أما افتراض ماهية لا يعلمها الناس فهو تحصيل حاصل؛ لأنه إثبات وجود بلا معرفة أو إثبات علم وجهل في آن واحد، والحقيقة أنه من صنع الوهم.
215
ومع ذلك يبقى علم الصفات، كعلم للمبادئ والأفكار أو النظريات، وهو ما يسمى في لغة العصر بالأيديولوجية. ومن ثم يكون علم التوحيد والصفات هو عملية صياغة الأيديولوجية ثم تحقيقها.
التنزيه هو أكبر رد فعل على التأليه في كل درجاته وعلى التجسيم بكل صوره. وهو رد فعل تاريخي وشعوري معا، تاريخي لأن التنزيه الذي ساد القرن الثاني عند المعتزلة الأوائل
216
تلا التأليه والتجسيم اللذين سادا القرن الأول عند الشيعة الأوائل، وشعوري لأنه تحول للشعور من الحس إلى العقل، ومن المادة إلى الصورة، ومن المتعين إلى اللامتعين، ومن المتناهي إلى اللامتناهي. وقد تظهر هذا القلب الشعوري في صياغة العبارات نفسها. فبدلا من العبارات التقريرية المثبتة التي تعزو للمعبود صورا وأشكالا ظهرت العبارات التقريرية النافية التي تنفي عن الله كل الصور والأشكال حتى أصبح التنزيه مرادفا لنفي الصفات بوجه خاص وللسلب بوجه عام.
ويكشف تاريخ الفرق تطور الوعي الخالص أو الذات كما يكشف عن بنيته. فإن وصف التطور التاريخي لها مطابق لبنيته. والمعروف أن مادة علم أصول الدين في جميع موضوعاته بلا استثناء قد تطورت تطورا جدليا من الموضوع إلى نقيضه ثم إلى مركب الموضوع ونقيضه. فقد بدأ التوحيد بالتجسيم على اختلاف درجاته من تأليه وتجسيم وتشبيه وتشيؤ، ثم ثنى بالتنزيه ونفي الصفات كنقيض للتجسيم، ثم ثلث بإثبات الصفات الذي يجمع بين التشبيه والتنزيه في آن واحد. وكأن الوعي الخالص باعتباره وعيا تاريخيا قد بدأ بالحس، ثم ثنى بالعقل، ثم ثلث بالجمع بين الحس والعقل.
217
كما تعطي بنية المادة ذاتها بصرف النظر عن تطورها التاريخي وصفا لبناء الوعي الخالص ودرجات أبعاده بين الحس والعقل ابتداء من المتعين، هذا الوعي بالذات، إلى اللامتعين، الوعي الخالص. وفي هذه الحالة يكون التشبيه بعد التجسيم لأنه قريب من الحس وإن لم كن حسا متعينا. ثم يأتي التنزيه في النهاية يمثل قطب الشعور الثاني وهو العقل. وإذا أردنا القسمة فإنه يمكن وضع التأليه والتجسيم والتشبيه معا في طرف الحس، ووضع التنزيه في طرف العقل، إذ إن التأليه والتجسيم تشبيه الذات، والتشبيه تجسيم للصفات.
218
ولما كان الحس والعقل معا قطبين للشعور، فإن مادتي علم أصول الدين الحسية والعقلية يمكن إعادة عرضهما على أنهما مادتان شعوريتان وتكملتهما معا بمادة أصولية شعورية أخرى حتى يكتمل الموضوع في الشعور. وفي كلتا الحالتين تكون مادة القدماء وصفا للشعور؛ لأنها مادة للشعور. ولما كان الشعور يجمع بين الحس والعقل، أو إن شئنا بين المادة والصورة فيما يسمى بين التشبيه والتنزيه، فالتشبيه مادة للتوحيد أتت من الحس، والتنزيه مادة أخرى أتت من العقل. (6-2) إيجابيات التنزيه
والتنزيه بالرغم من كل ما يقال عليه من خصومه أقرب إلى روح الوحي وروح العلم على حد سواء من التجسيم والتشبيه للآتي: (1)
التنزيه أكبر معبر عن التوحيد؛ لأنه ينفي أي تشابه بين الله والإنسان. فالله في التنزيه يند عن كل تصور أو تصوير إنساني. وهو بهذا يتفق مع المعنى التقليدي للتوحيد. وبهذا يمتاز التنزيه عن التشبيه الذي يقترب من الوثنية الحسية المباشرة.
219
كما أنه يحمي من الوقوع في التشخيص، والحديث عن المؤله كمشجب تعلق عليه الصفات كما حدث بعد ذلك في التشبيه. فالمؤله حالة شعورية خالصة يعبر عنها العقل بأكثر الوسائل إمعانا في التجريد. (2)
لما كان التنزيه مجرد حالة شعورية، فإنه يعني التعالي المستمر ورفض التشبيه والمماثلة، ويعني التعالي إمكانية التقدم المستمر ورفض أي تحول للذات إلى موضوع، والاستبعاد المستمر للصيغ الجاهزة التي تريد إيقاف العلم إلى الأبد في صيغ ثابتة دون البحث عن صيغ أخرى. التعالي صورة للتقدم البشري، وهو بناء نفسي وحركة شعورية أكثر منه عقيدة.
220
والعجب أن أحدا من القدماء لم يذكر صفة «التعالي»، في حين أنها مذكورة كمديح وثناء. ففي كل مرة يذكر فيها اسم الله يردف بعبارة «سبحانه وتعالى» أو «تعالى عما يصفون» أو «سبحان ربك رب العزة عما يصفون».
221
فالتسبيح علاقة الإنسان به، وهو موقف ذاتي تعبيري. التعالي وصف من أوصاف الذات أو وظيفة الذات في الشعور بها يتم نقد الصياغات القائمة لبيان المسافة بينها وبين الماهية، ورفض القطعية والمذهبية والتوقف والخلط بين الصياغة والموضوع. وبها يتجه الشعور باستمرار نحو المجرد والصوري والخالص حفاظا على الشعور من المادية والشيئية وحفظا له من الوقوع في الثقل الطبيعي للبدن. يعني التعالي كسر نطاق الوضعية والثقة بنطقية الإنسان وروح النقد لما هو موجود والتقدم المستمر، وهو روح العلم. (3)
يعني التنزيه أيضا الرغبة في الحصول على الخالص
Le Pure
دون الوقوع في التطهر، أي الخالص المنفصل عن المادي المعارض له كما هو الحال في كل العقائد الثنوية. الحقيقة في التنزيه من جانب الصورة التي يقوم التنظير بالبحث عنها. التنزيه هو عالم الصورة الخالصة أو الأنطولوجيا العامة أو الرياضيات الشاملة.
222
هو اتجاه نحو الصوري الخالص، وتأسيس للعلم تأسيسا صوريا خالصا. والصورية مقياس لتقدم العلم، ومصير كل فكر ينمو باطراد. لذلك اقترب تشبيه كثير من المتأخرين من التنزيه بعد أن اختفت الظروف النفسية والاجتماعية التي أدت إليه. بل لقد استعمل المشبهة نفس الخطاب الذي يستعمله المنزهة والفلاسفة في نفي الصفات الحسية بحرف النفي لا.
223
ثم عاد التشبيه في عصرنا الحالي لعودة نفس الظروف النفسية والاجتماعية القديمة كالاضطهاد، والهزيمة، والضعف، والتعويض ... إلخ. التنزيه كعملية شعورية مهمتها البحث المستمر عن الحقيقة، وتقدم العلم. ومع ذلك «الله» كفكرة محددة مهمتها المحافظة على المستويات وعدم الخلط بين الصوري والمادي، بين الدلالة والدال، بين المعنى والشيء؛ لأنه يجعل الشعور توترا بين قطبي الحس والعقل. (4)
استطاع التنزيه التعبير عن العواطف البشرية وعلى رأسها التأليه في صورة عقلية خالصة، وبالتالي أمكن إخضاع التجارب الشعورية إلى التحليل العقلي الخالص، وهو ما لم يحدث في التأليه والتجسيم والتشبيه. فالتنزيه يعبر عن سلطة العقل المطلقة على الانفعالات والأهواء، بينما يعبر التشبيه عن الإدراك الحسي، وكما يعبر التجسيم عن الرؤية الموضوعية. هذا التنزيه العقلي الخالص هو السبب في تحريم التصوير في الشرع من أجل إبعاد أي احتمال للوقوع في التشبيه أو التجسيم. ولذلك خرج الفن صوريا خالصا يقوم على الأشكال الهندسية وتكرارها في كل الاتجاهات المتقابلة والمتماثلة من أجل خلق الجمال الصوري الخالص. (5)
يؤدي التنزيه إلى القضاء على أية فاعلية متوهمة للمؤله المشخص، ويعطي الاستقلال التام للعالم. فشبهة التعطيل إذن لا تمثل نقدا للفكر، بل هي ضرورة تمليها الروح العلمية واستقلال ظواهر الطبيعة. يمنع التنزيه كل مظاهر التسلط والقهر والطغيان باسم الإله المشبه الذي يسمع ويرى كل شيء، ولا تخفى عليه خائنة الأعين وما تكن الصدور، كما هو الحال في أجهزة المخابرات في نظم القهر والتسلط، فعين الله الساهرة هي عين المباحث الساهرة.
224
بل يجعل التنزيه العقل قادرا على تمثل الصفات كمبادئ عامة مطلقة وشاملة غير مشخصة في إرادة والجميع قادر على إدراكها وتمثلها، وهي المبادئ الإنسانية العامة التي طالما ضحى الأفراد والشعوب في سبيلها. (6-3) سلبيات التنزيه
ولكن من ناحية أخرى، وبالرغم من كل هذه المزايا في التنزيه كتعبير صادق عن الوعي الخالص أو الذات، وبالرغم من كونه رد فعل تاريخيا مشروعا على التأليه والتجسيم والتشبيه، أدى دوره في المحافظة على التوحيد الخالص وفي إعلان سلطان العقل على الانفعال واستقلال قوانين الطبيعة وحرية الإنسان والمجتمع، بالرغم من هذا كله فقد يثير التنزيه عدة تساؤلات تدفع المتكلم الأصولي الجديد إلى مزيد من التأمل والبحث عن كيفية الحرص على الوعي الخالص دون أن يرتد إلى بعض عناصر التشبيه، ومنها: (1)
بالرغم من كل ما حاوله التنزيه من بعد عن التشبيه وتخليص المؤله من كل شبهة إنسانية، إلا أنه ما زال أيضا مشابا بالتماثل من مجرد استعمال اللغة بألفاظها وتصوراتها. وبالرغم من استعمال أسلوب النفي وهو أسلوب التطهير، إلا أنه يستعمل أيضا اللغة حتى ولو كانت تنفي ألفاظها وتصوراتها. فما دامت عواطف التنزيه قد تمت صياغتها في لغة، فإنها لم تعد تنزيها. لذلك فضل الصوفية الصمت أو على أكثر تقدير استعمال الرمز الذي يتجاوز حدود اللغة الإنسانية. فالتنزيه مهما بلغت درجة صوريته وتجريده مرتبط باللغة والتصورات الإنسانية لأنه يستحيل تجريد الإنسان من مواقفه الحياتية وتجاربه الاجتماعية، وضعا وهدفا. ولما كانت الناس مختلفة فيما بينها في المجتمعات والعصور والبيئات الثقافية واللغات، فقد اختلفت بينها في درجات التنزيه. وزيادة في التنزيه يمكن أن يقال إنه لا يمكن التعبير عنه على الإطلاق بالمقولات الإنسانية حتى تلك التي تقوم على أقصى درجة في التجريد مثل الجوهر والعرض أو الممكن والواجب؛ لأن هذه التصورات الثقافية لا تتعدى كونها في الحقيقة تعبيرا عن عواطف التأليه التي هي أيضا تعبير عن عواطف التطهر والتقوى والترفع والعلو. ويكون الخطاب حينئذ نوعا من التمرينات الذهنية التي تعبر عن مضمون الشعور وتحليل العقل لها. فإذا كان في التجسيم قد أضيف المكان كبعد للتأليه يتحدد فيه المؤله ففي التنزيه يضاف الزمان ويطلق. وإذا كان التجسيم تصورا للتأليه في المكان، فإن التنزيه تصور التأليه مثل باقي القسمات كالجوهر والعرض، والواحد والكثير، والنفس يقوم بها الذهن البشري للتعبير بها عن عاطفة الطهارة التي هي أساس التأليه مثل باقي القسمات كالجوهر والعرض، والواحد والكثير، والنفس والبدن، وهي القسمة التي فضلها الحكماء فيما بعد للتعبير بها عن التأليه في الوجود. فكما أن الجوهر أشرف من العرض، والكيف أشرف من الكم، والصورة أشرف من المادة، والنفس أشرف من البدن، فإن القديم أشرف من الحادث. وبإضافة التشخيص للتأليه يكون الله هو القديم وما سواه هو الحادث. إن كل صور التوحيد القديمة ظواهر إنسانية خالصة، نجد نظائرها في العلوم الإنسانية كعلوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد. فقد ظهر التأليه على أنه تعويض مطلق عن العجز والضياع والهزيمة، ونتيجة للرغبة في الحصول على انتصار كامل ودائم تعويضا عن الهزيمة الشاملة. ونشأ التجسيم أيضا لنفس السبب، وهي الرغبة في الحصول على انتصار واسترداد للحق الضائع. فبدل رفع المظلوم إلى العدل المطلق كما هو الحال في التأليه، يأتي العدل المطلق في الظلم ويتجسم الحق ويصبح البعيد قريب المنال. (2)
بالرغم من استطاعة التنزيه القضاء على كل وثنية حسية، إلا أنه انتهى إلى نوع من وثنية مضادة هي الوثنية العقلية. يتحول التأليه إلى موضوع عقلي خالص، وتتوقف حركة الشعور لديه، ويصبح مشجبا سهلا تعلق عليه الأماني الإنسانية مدفوعة إلى حد الإطلاق، ومن هذه الناحية قد لا يكون هناك فرق بين التنزيه والتشبيه، وأن الفرق هو في الدرجة لا في النوع. كلاهما إثبات لمؤله مشخص، ولكن التشخيص في التنزيه عقلي خالص، مجرد صوري، وفي التشبيه حسي مادي، عياني شيئي، كلاهما وثنية. الأول عقلي غير مرئي والثاني حسي مرئي. كلاهما تجسيم، الأول تجسيم ناعم مرهف، والثاني تجسيم فظ غليظ. فاتهام أهل السنة المعتزلة بأنهم مشبهة الصفات عندما جعلوها حادثة لا يدل على التشبيه لأن إثبات حدوث الصفات تنزيه للذات عن كل تشبيه. وقد يكون الاتهام موجها لأهل السنة أصدق لرفضهم التأويل والمجاز. ومع ذلك فقد وقع كلا الفريقين في التشبيه إما الحسي أو المعنوي، والخلاف بينهما فقط في درجة التجريد. التنزيه والتشبيه كلاهما من خلق الذات، وإسقاط من الشعور إلى أعلى، وتأليه صور إنسانية خالصة مهما تفاوتت مستويات التجريد. وفي كلتا الحالتين يؤله الإنسان ذاته دون أن يدري، يؤله الأنا ثم يعزو إليها الآخرية كما حدث من قبل في التأليه والتجسيم عندما أله الآخر ثم نسبت إليه الأنية. (3)
يوحي التنزيه بالخارجية، وبأن قمة عواطف التأليه خارج العالم وليست بداخله، وأنه كلما بعدنا عن العالم وصلنا إلى تنزيه أعظم، وكلما أغرقنا في الصورية والنظر استل منا الواقع والعمل. ومن ثم يوحي التنزيه بأن المؤله المنزه في جانب وأن العالم الإنساني في جانب آخر، وبأنه لا صلة له بهذا العالم على الإطلاق، وهو ما ظهر فيما بعد في إعلان الحرية الإنسانية والإرادة الإنسانية المستقلة وفي حتمية قوانين الطبيعة واطرادها. وكلما تم الإيغال في الصورية ظهر العالم بعيدا عن الذات، ماديا طبيعيا، لا تشخيص فيه ولا ألوهية، ونشأ العلم العقلي التحليلي الطبيعي الصرف. وكأن التنزيه قد دعا إلى حركتين متناقضتين، أقصى درجة في التعالي بالنسبة للذات وأقصى درجة في المادية بالنسبة للعالم. فإذا كان التنزيه قد استطاع إلى حد كبير إنقاذ عواطف التأليه من كل أثر للتشبيه، فإنه ترك العالم المادي ذاته دون أي أساس تصوري أو تبرير أنطولوجي، ولم يبق إلا تحليل العقل للطبيعة، وبالتالي نشأ العلم. (4)
يؤدي التنزيه بالرغم من كل محاولاته من أجل الحصول على الوحدة إلى التصور الثنائي للعالم. فهناك عالمان، عالم الصورة الخالصة الذي يعبر بصدق عن عواطف التأليه، وعالم مادي يمثل خطورة التشبيه والتجسيم. فالتنزيه تبرير أنطولوجي لوجود الصورة على حساب المادة. وتكون علاقة العالمين، عالم الصورة وعالم المادة، علاقة تعارض مستمر. كلما أعطينا الأول شيئا سلبناه عن الثاني. وهو ما ظهر بوضوح أكثر عند الحكماء عندما تحول التنزيه لديهم إلى تصور عام للوجود وقسمته إلى وجودين، الوجود الصوري والوجود المادي. وقد تتعدد هذه القسمة وتتداخل وبالتالي تتحول إلى طبقات متعددة وإلى مستويات عديدة متداخلة. عندئذ يوحي التنزيه بأن الكمال في البعد الرأسي وليس في البعد الأفقي، وبأن السماء أشرف من الأرض، مما قد يؤدي إلى نوع من الرضا الذاتي عن النفس ما دام الشعور قد وصل إلى قبة السماء «فكان قاب قوسين أو أدنى» في عملية التنزيه. ثم يؤدي الرضا إلى الاكتفاء الذاتي بالتنزيه ورغبة في التأمل، مما يؤدي بدوره إلى ضمور في الفعل وقصور في التوجه نحو العالم. (5)
وهنا تبدأ المشكلة الحقيقية في التنزيه، وهو كيف يتم الخروج من هذا التصور العقلي الخالص إلى الواقع؟ كيف يتم الانتقال من الفكر إلى الوجود؟ ومن ثم يحتاج التنزيه إلى دليل أنطولوجي يجعل المؤله هو الوحيد الذي يجمع بين الفكر والوجود، يحتوي تصوره على وجوده. ولكن حتى هذا الدليل الأنطولوجي افتراض عقلي خالص يعبر عن أماني الذات في الحصول على الوجود من مجرد الحصول على فكرته بلا حركة أو جهد أو مقاومة. ولما كان التنزيه صوريا فارغا، فقد استطاعت السلطة أن تكون مضمونا له، وبالتالي لعبت دوره، ومارست وظائفه في العالم بكل شيء (أجهزة الأمن) والسيطرة على كل شيء (أجهزة القمع)، وأصبح التعالي رمزا للجبروت السياسي بالنسبة للحاكم الذي لا يجوز الاقتراب منه. ولكنه في نفس الوقت قد يتحول في وعي المعارضة إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر في صيغة «الله أكبر» ضد الحاكم المتعالي ردا له إلى وضعه الإنساني حتى يظل الوعي الخالص متفردا بصفاته المجردة.
كان التنزيه هو اختيار القدماء ضد مخاطر التأليه والاتحاد والحلول والتجسيم والتشبيه، وهي العقائد السائدة في الديانات القديمة. وقد تغيرت الظروف الآن، ولم تعد المخاطر آتية من العقائد، بل محيطة بالأرض والثروات واستقلال الشعوب. فأي التصورات للذات الخالص أقدر على الدفاع عن مصالح الأمة؟ تأليه الأرض؟ تجسيم الشعب؟ تنزيه الحكام من الأغراض والأهواء وكراسي الحكم؟ تمثل المبدأ والتمسك به لدرجة التضحية والشهادة حتى ولو ظهر ذلك بلغة الاتحاد والحلول وأن يقول المواطن أنا الحرية والاستقلال؟ إن البدائل القديمة كلها على مستوى واحد من القيمة ، والاختيار بينها حر دون تكفير أحد منها. ولجيلنا أن يقول هل هو راغب في اختيار تصورات جماعات الاضطهاد أم تصورات جماعات السلطة.
225
سابعا: القيام بالنفس
(1) خامس وصف للذات
وهو موجه ضد بقايا التجسيم والوجود في المكان وضد التفسير الحرفي لآيات الحركة مثل النزول والصعود والمجيء والاستواء والقيام والقعود، ويشمل ثلاثة موضوعات رئيسية: نفي المكان أو الجهة، خاصة فيما يتعلق بالاستواء، ثم نفي الحركة فيما يتعلق بالنزول والصعود والإتيان والمجيء، وأخيرا نفي الرؤية.
ويظهر هذا الوصف في مصنفات القدماء في أماكن عدة. ففي معرض نفي النقص وإثبات الكمال في مسألة خاصة يضرب المثل بنفي الجهة ومكان الاستواء.
1
وقد يظهر ذلك في المقدمات الخطابية في معرض تنزيه الله عن المكان.
2
وقد يذكر عدم الاختصاص ونفي الجهة في معرض ما يستحيل على الله دون عد أو إحصاء لصفة أو لوصف.
3
ولكنه يذكر أيضا كثالث وصف للصانع بعد الوجود والقدم.
4
ويذكر الاستواء مع نفي التخصص والتحيز والجهة. ويذكر نفي المكان كثالث وصف بعد الجسمية ونفي الجوهر وإدخال الوجود في دليل الحدوث والإمكان.
5
ويظهر نفي الجهة بعد نفي الشبه والشرك والاتحاد والحلول والشبه والجوهر والعرض والجسم، والكل بعد إثبات الصفات السبع التي ظهرت بعد إثبات القدم والوجود.
6
ولأول مرة يذكر القيام بالنفس ثاني وصف للذات بعد القديم، خاصة وأن الوجود قد استبدل بأن الحوادث لا بد لها من محدث وأن صانع الحوادث أحدثها من لا شيء.
7
ويذكر على أنه أول وصف للذات والوجود على أنه ثاني وصف مرة أخرى.
8
وفي «كتاب التوحيد» تنفى الجهات والمحاذيات بعد الوحدانية ونفي الجسمية، إذ قد نفى التشبيه في آخر دليل الحدوث، وينفي معه قيام الحوادث بالذات، وتأويل جميع آيات الجهة والمكان.
9
وفي أول إحصاء لأوصاف الذات في عشر يظهر نفي الجهة على أنه سابع وصف بعد الوجود والقدم والبقاء والوجود ونفي الجسم ونفي الجوهر ونفي العرض.
10
وينفى المكان والجهة والحيز كسادس صفة بعد إثبات القدم والبقاء والوجود ونفي الجسم ونفي الجوهر، ومعه يدخل الاستواء.
11
وتنفى الجهة بعد نفي مشاركة الذات لغيرها ونفي تركيبها ونفي التحيز ونفي الاتحاد ونفي الحلول.
12
ويظهر نفي الجهة والمكان على أنه أول صفة في التنزيهات.
13
وقد ينفى التحيز والجهة في معرض نفي التشبيه.
14
وفي أول إحصاء لأوصاف الذات في عشر يظهر التنزيه عن الاستقرار على العرش على أنه ثامن وصف بعد الوجود والقدم والبقاء ونفي الجسمية ونفي الجوهر، ونفي الجهة، ومع الاستواء يظهر النزول والمعية والأصبع واليمين.
15
وينفى المكان بعد إثبات الوحدانية والقدم وظهور صفات المعاني السبع، ونفي العرض والجسم والجوهر والصور والحد والعد والتبعض والتجزيء والتركيب والتناهي والماهية والكيفية.
16
وتنفى الجهة مع الجسمية كثاني وصف للتنزيهات.
17
وبعد استمرار البناء النظري في أحكام العقل الثلاثة وما يجب لله من صفات عشرين يظهر القيام بالنفس وعدم افتقاره إلى محل ولا مخصص كخامس وصف للذات، ويظهر أيضا ضدها مما يستحيل عليه من عشرين صفة أخرى كخامس وصف وهو استحالة ألا يكون قائما بنفسه بأن يكون صفة أو يقوم أو يحمل أو يحتاج إلى مخصص مع البرهان. وأيضا يظهر كخامس صفة في تفسير «لا إله إلا الله» بالاستغناء.
18
ومن الخمس وعشرين صفة هذه العشرون منها الاحتياج إلى محل، أي ذات يقوم أو إلى مخصص أي موجد وهي صفة القيام بالنفس.
19
وتدخل جميع صفات التشبيه في معرض نفي التشبيه في نفي الجسمية والحيز وتأويل الأخبار دون ذكر لأوصاف الذات أو صفاتها.
20
ويسقط الوصف ونفي الجهة في بعض الحركات الإصلاحية الحديثة بعد أن يذكر القدم والبقاء ونفي التركيب كأحكام الواجب.
21
ونظرا لأهمية الاستواء كموضوع رئيسي في هذا الوصف فإنه يظهر أكثر من غيره مثل المكان والجهة والحركة. ففي بعض المؤلفات المتقدمة يثبت الاستواء والوجه والعينان والبصر واليدان حتى قبل ذكر أوصاف الذات أو صفاتها، بل بعد إثبات الرؤية والكلام القديم نظرا لأهميتها من حيث إثباتها ضد نفاتها.
22
كما تبدو أنها من أوائل الموضوعات التي اختلفت عليها الفرق.
23
ويظهر الاستواء على العرض بعد الأوصاف والصفات وصفات التشبيه من وجه وعين ويد ونفس وبعد صفات الانفعالات من حقد وحنق وميل ونفور.
24
ويظهر لأول مرة استحالة المكان وبها يذكر الاستواء والحلول.
25
ويذكر الاستواء مع المكان في معرض الكلام في التوحيد ونفي التشبيه.
26
ويظهر إثبات الاستواء في عبارات إنشائية دون إحصاء بعد الوحدانية والقدم ونفي الشبه وإثبات الكمال ونفي النقصان.
27
وينفى المكان مع الاستقرار على العرش بعد إثبات القدم وتجويز الوجود وإثبات الوحدانية وتجويز النفس ونفي الشبه (النور) وإثبات اليد والساق والأصبع والقدم وعدم تجويز المجيء والذهاب ونفي الرؤية بالأبصار.
28
وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة يذكر الاستواء والعرش والكرسي والماء دون تأويل أو دلالة.
29
وتظهر صفات العرش والكرسي مع الأخرويات في العقائد المتأخرة.
30
أما النزول فإنه يذكر مع باقي صفات التشبيه وغيرها من صفات الذات.
31
ويذكر المجيء والذهاب والنزول بعد إثبات القدم وتجويز الوجود وإثبات الوحدانية وتجويز الشيئية وتجويز النفس ونفي الشبه وإثبات اليد والساق والأصبع والقدم.
32 (2) الاستواء والعرش
لما كان الوصف الخامس هو القيام بالنفس، أي أنه ليس في محل، بدأت أيضا مسألة الآيات التي توحي بالمكان والجهة وضرورة تأويلها. انقسم الناس فريقين: الأول يثبت المكان والجهة، إما خضوعا للتجسيم أو استعمالا لمنهج التأويل الحرفي، فيصبح الله في مكان، وهو العرش، يستوي عليه جلوسا، ومن ثم لا يفترق أهل السنة عن المشبهة والمجسمة في شيء. والثاني ينفي المكان والجهة اتباعا للتنزيه واستعمالا لمنهج التأويل.
يظهر افتراض التجسيم ويتحدد المكان والجهة ويصبح الله مستويا على العرش. فإذا كان المكان تجسيما للمعبود، فإن العرش تجسيم للمكان.
33
ثم تبرز المشكلة الرئيسية في هذه الصورة وهي ما صلة المعبود بالعرش؟ هل هو متحد به أو مماس له أو منفصل عنه؟ فإذا كان متحدا به كيف يتحد المعبود بشيء سواه؟ وإذا كان المعبود مماسا له فكيف يكون التماس؟ هل هو وسط بين الاتحاد والانفصال؟ وإذا كان منفصلا عنه، فكيف يتصور تركيب ثنائي في «الله» يمنعه التوحيد؟ والانفصال تأكيد صريح للثنائية فضلا عن كونه مستحيلا عمليا، إذ كيف يكون المعبود مستويا على العرش منفصلا منه دون اتحاد؟
34
في هذه الحالة قد يؤول العرش إلى صفة. حينئذ يعني الاستواء صفة البينونة عندما يكون المؤله مستويا على العرش بائنا منه. لا تعني البينونة العزلة، بل هي صفة من صفات الذات. وقد يفضل العرش ثم يقاس مقدار الزيادة إمعانا في العظمة. كيف يتسع العرش للإله ويكون قدره؟ فإذا كانت المسافة متناهية، فكيف يجلس الإنسان على كرسي ضيق ولا يستوفيه؟
35
وقد تصاحب صورة الحمل المرئية صورة صوتية، فيصاحب الجلوس على العرش أطيط، أي أصوات صادرة عن العرش من فعل الجلوس على كرسي عتيق من شخص متزن رزين يهبط عليه في هدوء وتؤدة، وأمن واطمئنان، وهو إعلان سمعي عن الجلوس.
36
وأحيانا يوضع النبي على العرش بجوار المعبود تعظيما وإجلالا له كما يحدث عادة في تاريخ الأديان. فالمسيح يقعد على يمين الله يشاركه في الحساب. وإجلال الأشخاص تابع لعواطف التأليه ورفع الحد الأدنى إلى الحد الأعلى بالنسبة إلى الشخص، وإنزال الحد الأعلى إلى الحد الأدنى بالنسبة إلى المعبود.
37
والحقيقة أن العرش صورة شعبية للتعظيم والإجلال. فهناك عرش الملك، وعرش العروس، ومجلس الصدارة للضيف، وغير ذلك من الصور الملكية وما تحتوي من عرش وتاج وبلاط وما تعبر عنه من إرادة مطلقة ينفذها الرسل الرعية، ويتلوها ثواب وعقاب طبقا للطاعة أو للعصيان.
ثم يتضاعف المكان، ويزداد في التعيين، فيصبح للعرش حملة إن لم يكن الحملة مثل العرش.
38
وذلك زيادة في التعظيم والإجلال كما هو واضح في الفن الديني. فبعد بناء مظلة موسى كما يرويها سفر الخروج، يحملها الكروبيون. وفي العادات الدينية يجلس البابا على العرش، يحمله القساوسة. كما يجلس رئيس القبيلة على المحفة يحمله أفراد القبيلة. وكما اعتاد فرعون أن يجلس محمولا على عرشه، وعرشه محمول على الأعناق. الحمل تعبير عن العظمة والجلال، إما في الحياة أو في الممات عندما يحمل الأصدقاء نعوش الأصدقاء وعندما تحمل الشعوب قادتها العظام في الوداع الأخير، فالمحمول شريف، والمحمل شريف. وقد تحمل الحملة الله مباشرة دون توسط العرش، وهي صورة للتعظيم المباشر كما يحمل الزعماء على الأعناق بلا محفة. وعددهم ثمانية، ربما لأن العرش ذو أربعة أركان، ويحتاج كل ركن إلى حاملين وليس إلى حامل واحد زيادة في التعظيم. والحملة ملائكة؛ لأنه لا يتعامل مع المعبود إلا الملائكة الذين هم حاشية الملك وبطانته وخدامه وسدنته، ورسله ووزراؤه، يعلنون أوامره للرعية، ومن طبقته، ويشاركونه في بعض الصفات الملوكية. وقد يبالغ في التعظيم، فيكون كل ملاك من الملائكة الثمانية من صنف آخر، فيصبح لدينا أصناف، زيادة في التنوع؛ لأن وحدة الصنف تكرار ممل.
39
وقد يكون المقياس من الأوزان لا من المساحات، فيكون المعبود ذا مقدار وكيل أكثر منه ذا مساحة واتساع. ويعبر الوزن عن حالات المعبود النفسية. فعندما يغضب يثقل على العرش فتعلم الحملة أنه غاضب، وإذا سر خف عن العرش فتعلم الحملة أنه مسرور. فالغضب يعبر عنه بلغة الأوزان بالثقل، والسرور بالخفة. وهما حالتان نفسيتان. إذا حزن الإنسان شعر أنه ثقيل ويقول «قلبي ثقيل»، وأنه يحمل الأرض كلها على كتفيه، وإذا سر شعر أنه طائر لا تسعه الأرض فرحا ويقول: «أشعر أني طائر في الهواء».
40
ولا يفترق أهل السنة عن الكرامية والهشامية في التشبيه المقارب للتجسيم، فإثبات الصفات مع التفسير الحرفي للآيات يؤدي في نهاية الأمر إلى التشبيه، فالله يستوي على العرش.
41
ومع ذلك فتحرزا من الوقوع في التجسيم الفظ والتشبيه الممقوت جعلت الصفات بلا كيف، إثباتا للصفات ونفيا للكيفية، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، وبالتالي تكون عبارة مالك المشهورة «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» تحتوي على ثلاثة أخطاء أولى وموقف صحيح رابع: (1)
ليس الاستواء معلوما، وإلا لما اختلفت الفرق فيه، ولا يكون معلوما إلا عن طريق التنزيه والصور الفنية والتأويل المجازي للاستواء بمعنى الاستيلاء أو القدرة أو العظمة ... إلخ. (2)
الإيمان به واجب مضاد لنظرية العلم التي تقوم على النظر والاستدلال دون التقليد والتسليم والإذعان. (3)
ما دام الاستواء معلوما، فلا يكون الكيف مجهولا، لأننا لم نعد بصدد التشبيه الحسي بل أمام المعنى والدلالة، ووظيفة العلم المعرفة. وليس الجهل أحد أركان نظرية العلم، بل من مضادات العلم كالشك والتقليد والظن والوهم. (4)
أما الصحيح فهو أن السؤال عنه بدعة؛ لأنها إثارة مشكلة إغفالا لقواعد اللغة وللمعاني المجازية. كما أنها قضية لا تعم بها البلوى، ولا تمس صالح المسلمين، ويستطيع الإنسان أن يموت دون أن يعرف الاستواء أو الأب في:
وفاكهة وأبا
أو الموريات والمغيرات في:
والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا ، مع أنه يعلم جيدا
إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد .
42
لا سبيل إذن إلا التأويل المجازي لآيات الاستواء من أجل التنزيه.
43
فالمكان هو التدبير، والاستواء هو الاستيلاء أو الاحتواء والتسخير والوقوع في قبضة القدرة كما تقول العرب: «استولى الأمير على مملكته» عند دخول العباد تحت طوعه.
44
قد يعني المكان الحضور والمعية.
45
قد يعني العرش الملك، والكرسي العلم، وهو الأقرب إلى التقوى. فالتنزيه موقف تقي عقلي. وإمعانا في التقوى قد يتم نفي كل شيء، نفي الصفات تجنبا للتجسيم والتشبيه وحلا للقضية من الأساس.
46 (3) المكان والحركة
وقد يخف التشبيه ويصبح العرش مجرد مكان يقوم مقام ظرف المكان في اللغة. فالاستواء يعني الفوق لما كان الفوق أشرف من التحت.
47
ثم يدخل المكان كعالم في تحديد الجسم فيكون المعبود في مكان دون مكان، في مكان لأنه جسم محدود دون مكان لأنه خالد أبدي. ويمكن تفسير ذلك تفسيرا نشوئيا فيقال إنه كان لا في مكان ثم حدث المكان بحركته لأن الحركة لا تكون إلا في مكان طبقا لثقافة العصر من ارتباط المكان بالحركة واعتبار المكان عدد الحركة.
48
وقد يطلق المكان فيصبح المؤله في كل مكان. ثم يتضخم المؤله أكثر فأكثر، زيادة في التعظيم، فيصبح فائضا عن جميع الأماكن، في حين أن «في كل مكان» تعني في التنزيه حفظ الأماكن.
49
وقد يطلق المكان سلبا فيقال إن الله ليس في مكان دون مكان وليس في أي مكان على الإطلاق، فالمكان يوحي بالتجسيم والمماسة والمجاورة والحد والله ليس كذلك.
50
فلا مكان ولا زمان قبل الخلق.
51
وكما أنه ليس جسما فإنه لا يرى، فإنه أيضا ليس في مكان ولا في جهة ولا يحل في شيء ولا يماس شيئا. فالمكان يوحي بالتحديد والحركة والمماسة ويفترض الشيئية والجسمية. ومن ثم استطاع التنزيه نقل الشعور من المكان إلى خارج المكان وإعادة التوازن له. ونفي المكانية على الإطلاق أقصى درجة من درجات التنزيه قائمة على عاطفة خالصة وباعث صوفي عقلي أو نظرة قائمة على التطهير. المكان نقص، والله خال من كل نقص. ما أسهل تحويل المكان إلى الزمان، فيكون الله أزليا أبديا، لا أول له ولا نهاية، نظرا لارتباط الزمان بالمكان.
52
ويظل أفضل طريق عند المعتزلة هو طريق التنزيه، أي طريق النفي، ويشاركهم فيه أهل السنة نظرا لارتباط المكان بالزمان.
53
وهو نفس الطريق الذي يتبعه الصوفية في تنزيه الله عن المكان.
54
ليس في مكان دون مكان لأن ذلك يوحي بالتجزئة والكائنية معا. ويظل التأليه مرتبطا بالعام يجمع بين الطرفين، الغائب والحاضر، العقل والواقع، المادة والصورة.
55
وهو ليس في مكان لأن ذلك يوحي بالتجسيم والحلول من ناحية والمكانية العامة من ناحية أخرى. والقول بأنه لا في مكان أو في كل مكان يرجع إلى أصل شعوري واحد، وهو رفض ثنائية الوجود بين المكان واللامكان. فالقول بأنه لا في مكان محو له من المكان والقول بأنه في كل مكان محو لذاته. وفي كلتا الحالتين يكون المحو.
ويورد أهل السنة أدلة لنفي الجهة مثل الأدلة على نفي الحدوث والمشابهة للحوادث، وهي حاجة القائم في المحل للاختصاص والافتقار والاحتياج، وهي كلها حجج عقلية لا تحل الموضوع في مستواه الشعوري مثل: لو كان في مكان للزم قدم المكان، التمكن محتاج إلى مكان والمكان مستغن عن التمكن، لو كان في مكان لكان إما في بعضه أو في كله وكلاهما باطل، لو كان جوهرا فإما ينقسم أو لا ينقسم وكلاهما باطل.
56
ويمكن تأويل آيات المكان كما فعل المعتزلة إما بمعنى أن كل مكان تعني أنه مدبر أو بمعنى حافظ للأماكن وذاته في كل مكان.
57
وكذلك تأويل لا في مكان بمعنى لم يزل عليه. ولما كان المكان هي الجهة، والأعلى أشرف من الأدنى، يرفع الإنسان يديه إلى السماء نظرا إلى الله طلبا ودعاء.
58
فالسماء رمز العلو والأرض السفل في المجتمعات السيطرة أو المغلوب على أمرها. وقد تتغير الصورة الآن بنظر المحتلين إلى الأرض وليس إلى السماء، وتقبيل الأرض، وأخذ حفنة من التراب تقديسا للأرض. والحقيقة أنه في مبحث المكان يتصارع الفكر العلمي مع الفكر الديني. يريده الفكر العلمي موضوعا طبيعيا، ويريده الفكر الديني موضوعا إلهيا لا حل لمسائله مثل هل المعبود في مكان أم في كل مكان أم لا في مكان إلا طبقا لعواطف التأليه واختلافها بين التشبيه والتنزيه. وهي مجرد تمرينات عقلية لا حل لها ولا هدف إلا إظهار قطبي الشعور بين التشبيه والتنزيه. وبالمثل لا تحل مسألة الجهة إلا بالانتقال من الطبيعيات إلى التصوف أو من المكان إلى الزمان أو من الموضوع إلى الذات أو من الخارج إلى الداخل. فقد يكون المكان في الشعور على ما يقول الصوفية. ومن ثم تعود المكانية إلى أصلها في الشعور، ويصبح المعبود تجربة شعورية خالصة. فمقولة المكان لا تدل على عالم خارجي توجد الموضوعات به، بل تدل على تواجد الشعور في العالم. المكان تجسيم للعالم وتحديد وتعين له، في حين أن العالم مكان النشاط ومحل للفعل.
59
ثم يدخل عامل الحركة وحده في الجسم دون أن يرتبط بالمكان. حينئذ يكون المعبود جسما يذهب ويجيء، يتحرك ويسكن، يقوم ويقعد.
60
فالحركة في التجسيم لا تعني الزوال والتغير، بل هي تعبير عن الإرادة. وقد تم الخلق بالإرادة، والإرادة حركة، وعلى عكس الحكماء الذين تصوروا خلود الله وعظمته في السكون لا في الحركة وفي الثبات لا في التغير. هناك إذن تصوران للحركة في علاقتها بالألوهية: الأول أنها مظهر من مظاهر النقص، وأنها تعني الزوال، وأن الثبات أشرف منها، وهو تصور الحكماء. والآخر أن الحركة مظهر من مظاهر الكمال، لا تعني الزوال، وأنها أشرف من الثبات، وهو تصور المجسمة. وقد يجمع معبود المجسمة بين الأضداد، بين الحركة والسكون، بين القيام والقعود، بين المجيء والذهاب. فالتضاد هو منشأ الحركة، والحركة تنشأ بين الأضداد على عكس الحكماء الذين تصوروا الله لا ضد له. هناك إذن أيضا تصوران للأضداد، الأول أنها مظهر من مظاهر النقص وأن التطابق أشرف من التضاد وهو تصور الحكماء، والثاني أنه مظهر من مظاهر الكمال وأنه أشرف من التطابق وهو تصور المجسمة، فالحركة تدل على حياة الروح أكثر مما يدل عليها السكون.
وتفصل الحركة، فإذا تحرك المعبود فإنه يتحرك تدريجيا لا بالطفر. فالبطيء تعبير عن الجلال والعظمة في حين أن الطفر تعبير عن الطفولة والخفة. يسير الملك والقائد العظيم ببطء، في حين يسير الطفل أو الشاب أو المجنون قفزا. قد يقال إن القفز تعبير عن قدرة أعظم كما هو الحال في عقل الذكي الذي يقفز المتوسطات أو عند الرياضي الذي يعدو قفزا أو لدى أشيل بالنسبة إلى السلحفاة في أساطير اليونان.
61
ولكن الصورة الفنية تقبل كل شيء طبقا لعواطف الخالق لها، ولا تعبر عن واقع بل تعبر عن إحساسات الفنان. والمجسم فنان يستعمل العبارة والصورة وإن لم يقل شعرا أو يرسم صورة.
62
ويتأكد المكان والحركة كصفات للذات بعد إثبات الصفات زائدة على الذات، كما هو الحال عند الأشاعرة.
63
ويثبت أهل السنة النزول والصعود والإتيان والمجيء اتباعا لظواهر النصوص وليس قولا بالتجسيم. وهو ناتج عن إثبات الصفات زائدة على الذات وإيمانا بنصوص النزول وتصديقا لها تصديقا حرفيا. فالمؤله يصعد ويهبط، يجيء ويذهب، يسكن ويتحرك، ينزل إلى السماء الدنيا، ويجيء يوم القيامة ويقرب من خلقه. ويؤول المعتزلة النزول بمعنى اللطف والرحمة مما يدل على علو الشأن والمرتبة والاستغناء الكامل المطلق على ما هو معروف في استعمال اللغة. فهو مجاز، وأصل الوحي مملوء بالمجاز. كما يعني التلطف في حق الخلق والترفع للتكبر، ويستحيل النزول بمعنى الانتقال. كما يعني
وجاء ربك
أي جاء أمر الله وقضاؤه الفصل وحكم العدل وليس بمعنى الانتقال. ويعني
فأتى الله بنيانهم من القواعد
أي استهلكها واستأصلهم. وقد يعني التهكم على أقوال المجسمة أو الإقبال على العباد،
64
وكأن هناك مؤامرة مقصودة لتحويل أفعال الله إلى ذاته، وأثره في العالم إلى أثره على نفسه وعكس أفعاله على ذاته، حتى يغترب الإنسان عن العالم ويتوقف نظره فيه تاركا العالم للمسيطر والقاهر والناهب والسالب، وهي مؤامرة تحويل «الأنثروبولوجيا» إلى «ثيولوجيا».
65 (4) الرؤية
تبدو الرؤية عند القدماء على أنها أول وصف بل الوصف الوحيد للذات وقبل الصفات نظرا لأهميتها. وتبدو وكأنها الموضوع الأوحد في الذات نظرا لأهميتها وحمية النقاش حولها.
66
كما تبدو وكأنها أول المسائل المختلف عليها في العقائد. وأحيانا تبدو في المقدمات الخطابية إثباتا لها في إعلان العواطف الأولى مع التسبيحات والتحميدات.
67
وفي المؤلفات المتقدمة تذكر الرؤية بلا عد أو إحصاء في نهاية الأوصاف والصفات وبعد موضوع العدل بلا ترتيب.
68
وتذكر بعض أوصاف الذات وصفاتها وبعد صفات التشبيه من وجه وعين ويد واستواء وصفات الانفعال من حقد وحنق وميل ونفور.
69
وكثيرا ما تظهر كعبارات إنشائية ودون صياغة عقلية أو ذكر لوصف أو لصفة.
70
وتنفى من حيث هي متصلة بنفي الشبه.
71
وتذكر الرؤية في معرض نفي الصورة في نهاية الأوصاف بعد إثبات القدم وتجويز الوجود وإثبات الوحدانية وتجويز الشيء وتجويز النفس ونفي الشبه (النور) وإثبات اليد والساق والأصبع والقدم وعدم تجويز المجيء والذهاب والتدليل على الوحدانية.
72
ثم تذكر الرؤية في النهاية أيضا وقبل نفي المكانية والاستواء.
73
وقد تذكر الرؤية كأحد أبواب إبطال التشبيه.
74
وحتى بعد ظهور أبواب التوحيد تظهر الرؤية في النهاية وتظهر في نهاية أوصاف الثبوت السبعة وبعد الصفات المختلف عليها
75
كاليد والوجه والاستواء والبقاء والقدم وصفات الإرادة، وقبل الوحدانية والعدل. ونظرا لأهمية صفة الرؤية قد تنتهي بها الصفات في بحث خاص،
76
وقد يعاد ذكر الرؤية ونفي كيفيتها الحسية في النهاية في تعبيرات إنشائية دون صياغات عقلية أو ذكر لصفة. ويظهر موضوع الرؤية في نهاية التوحيد قبل موضوع الكلام وما يتصل به.
77
وفي أول إحصاء لأوصاف الذات في عشرة يظهر إثبات الرؤية كوصف تاسع بعد الوجود والقدم والبقاء ونفي الجسمية ونفي الجوهر ونفي العرض ونفني الجهة والتنزيه عن الاستقرار على العرش.
78
وتنفى الرؤية كسادس وصف للذات بعد إثبات الوجود والقدم ونفي الحاجة ونفي الجسم ونفي العرض،
79
وقبل الوحدانية أو قبل الوحدانية ونفي الحاجة.
80
وهنا يكون نفي الرؤية من باب نفي التجسيم والتشبيه ومخالفة الحوادث، أي من باب ما يستحيل على الله وليس من باب الجواز،
81
وتظهر عرضا مع نفي التجسيم وأبعاض الإنسان أو كله.
82
وعادة ما يظهر هذا الوصف في نهاية أوصاف الذات بعد القدم والبقاء والوجود والشيء، ونفي الجسم ونفي الجهة والحيز ونفي الجوهر، ونفي الاتحاد والحلول.
83
تظهر في نهاية صفات السلوب وقبل صفات الثبوت، صفات المعاني السبع، وذلك لأن صفات السلوب نفي لمشاركة الذات لغيرها ونفي تركيبها، ونفي التحيز، ونفي الاتحاد، ونفي الحلول، ونفي الجهة، ونفي المخالفة للحوادث، ونفي اللذة والألم، وهي صفات ثمان للسلوب.
84
وتظهر على أنها خامس وصف في التنزيه بعد نفي المشاركة والجسمية والحلول والاتحاد وقيام الحوادث بالذات.
85
كما تظهر على أنها سابع وصف في التنزيهات بعد نفي الجهة والمكان ونفي الجسمية ونفي الجوهر والعرض ونفي الزمان ونفي الاتحاد والحلول ونفي قيام الحوادث بذاته.
86
وتنفى الكيفية بعد إثبات الوحدانية والقدم وظهور الصفات السبع ثم نفي العرض والجسم والجوهر والصور والحد والعد والتبعيض والتجزيء والتركيب والتناهي والماهية. والكيفية هي اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وغيرها من صفات الأجسام وتوابع المزاج والتركيب.
87
ثم انتقل الموضوع مما يستحيل على الله وصفات التنزيه إلى ما يجب لله وصفات التشبيه، أي من صفات السلوب إلى صفات الثبوت، فظهر موضوع الرؤية في آخر التوحيد بعد إثبات الوحدانية، الصفات السبع، قبل الانتقال إلى العدل.
88
وتظهر بعد جميع أبواب التوحيد وقبل العدل.
89
وقد تظهر بعد الصفات السبع وقبل الوحدانية وبعدها يأتي العدل.
90
ويظهر نفي الألوان والطعوم والروائح ليس مع نفي الرؤية، ولكن لأنها صفات لا مبرر لها في حين أن الصفات السبع لها ما يبررها، وهو إثبات الكمال في الذات أو في الصفات أو في الأفعال.
91
وقد تظهر الرؤية في معرض الحديث عن صفة السمع، وهي الصفة الثانية من الرباعي (السمع - البصر - الكلام - الإرادة) والخامسة من السباعي (العلم - القدرة - الحياة - السمع - البصر - الكلام - الإرادة).
92
وقد تذكر الرؤية عند المتقدمين في مسألة مستقلة، ليس فقط في التوحيد، بل أيضا في العدل، ثم يعقد لها فصل خاص مستقل في النهاية.
93
وترتبط الرؤية بالعدل وذلك لأن نفي الرؤية مبدأ وليس عادة حتى لا يطعن في العدل. فلماذا يمنع الله نفسه عن البعض ويكشف عن نفسه للبعض الآخر؟
94
وقد لا تذكر الرؤية مطلقا في بعض المؤلفات المتقدمة، ويحل العمل في الجواز محل الرؤية في العقائد المتأخرة عند اكتمال البناء النظري للصفات في أحكام العقل الثلاثة.
95
ولما تحول مبحث العدل كله عند المتأخرين إلى مبحث التوحيد فيما يجوز على الله في أحكام العقل الثلاثة، انتقل موضوع الرؤية من العدل إلى التوحيد من جديد.
96
فدخل فيما يجوز على الله، سواء في الصفات أو في الأفعال.
97
وبالتالي تدخل الرؤية ضمن أحكام الجواز.
98
وبالتالي يرجع الفضل للمتأخرين في نقلها من الاستحالة والوجوب كما هو الحال عند المتقدمين إلى الجواز أو الإمكان، أي أنها مسألة فرعية لا تخص جوهر الذات وصفاتها، ليست في لب التوحيد. وقد يترك الجواز عامة دون إعطاء مثل الرؤية مما يدل على تناقض أهميتها تبعا لاختلاف الظروف والدوافع.
99
وقد تأتي في آخر مبحث الذات والصفات معا.
100
وقد أعدنا نحن نقل الرؤية من حكم الجواز إلى حكم الاستحالة، كما نقلنا العدل من حكم الجواز إلى حكم الوجوب. فالرؤية مستحيلة، وكان بالفعل أنسب وصف توضع فيه استحالة الرؤية هو القيام بالنفس؛ لأن الرؤية تتطلب المحل، والقيام بالنفس ينفي المحل. وهي ليست من الأصول، ويمكن استغناء التوحيد عنها كأحد مكوناته. فنفي الرؤية في النهاية من الأوصاف السلبية ومن صفات التنزيه، أي أنها من تحديدات النفي.
وهناك ثلاثة مواقف في موضوع الرؤية: الأول إثبات الرؤية الموضوعية إما مع المقابلة أو بلا كيف، وهما موقفا التجسيم والتشبيه، والثاني إثبات الرؤية الذاتية طبقا لحالات الأفراد وقواهم النظرية والعملية، والثالث نفي الرؤية الموضوعية كلية وهو موقف التنزيه.
101
وكل موقف يعتمد على حجج نقلية وعقلية، ولكن الغالب هي الحجج النقلية مما يدل على أن موضوع الرؤية سمعي خالص، وبالتالي يجب استبعاده من موضوع العلم طبقا لنظرية العلم التي تكون فيها الحجج النقلية ظنية خالصة.
102
لا تثبت الرؤية سمعا فحسب، فالعقل أساس النقل، وبالتالي يظل الموضوع كله ظنيا ولا يتحول إلى موضوع يقيني إلا بحكم العقل.
103
بل إن إثباتها في الدنيا شرعا عليه خلاف وبالتالي ينتفي عنها الإجماع الشرعي والإجماع نفسه يحتاج إلى إثبات صحة تفسير وإبطال آخر. الإجماع ذاته خاضع للتفسير والفهم، متغير وخاضع لتطور فهم اللغة ومتغير بتغير الظروف وباجتهاد كل جيل، ويمكن خرقه بإجماع آخر أو باجتهاد. لا يثبت الإجماع إلا أمورا عملية وليست أمورا نظرية. والدليل النقلي حتى ولو كان إجماعا متواترا لا يقطع في مسألة نظرية أصولية.
104
ومهما كان العقل قادرا على إيراد حجج، فإنه لا يستطيع في أمر متعال كهذا باعتراف الأصوليين،
105
فليس أمامهم إلا السمع، والسمع ليس حجة عقلية بل ظنية. ولما كانت الرؤية لا تثبت إلا سمعا، والإلهيات تقوم على العقل، كان موضوع الرؤية خاصة الرؤية في الآخرة أقرب إلى السمعيات وأدخل في المعاد خارج نظرية الذات والصفات والأفعال التي تقوم على أحكام العقل الثلاثة. فالموضوع متعال وحجته ظنية، وبالتالي فهو خارج الإلهيات والعقليات طبقا لمقاييس القدماء. ولا يصبح موضوعا لعلم أصول الدين إلا إذا كان موضوعا عينيا من خلال التجربة الإنسانية الخاضعة لتحليل العقل. وقد تكون في نهاية الأمر مسألة معرفية خالصة، رؤية المعاني وإدراكها وبالتالي فهي جزء من نظرية العلم.
106 (4-1) هل يمكن إثبات الرؤية الموضوعية؟
وتعني الرؤية حينئذ رؤية الله بالعين كرؤيتها للأشياء مع المقابلة وبشرط الضوء والأشعة والملامسة والجهة والملاقاة والمداخلة. فإذا كانت الرؤية من جهة الفوق فذلك لأن الفوق أشرف من التحت، والرؤية من عل تكشف أكثر من الرؤية من أسفل، أكثر شمولا واتساعا واكتمالا من الرؤية الجزئية الحسية الجانبية. الأولى رؤية العقل والثانية رؤية الحس.
107
وقد تكون هذه الرؤية وما يصاحبها من حركات الملاطفة والمعانقة والمجالسة والملامسة تعبيرا عن كبت جنسي وحرمان دنيوي أو عجز فعلي. فالصوفي محروم جنسيا، فيتخيل أنه يعانق الحور العين، ومحروم دنيويا فيتوهم أنه يأكل من ثمار الجنة، وعاجز عن محاربة الظلم فيتصور محاربة الشيطان، الشر المجسم. والمضطهد قد ضاع منه الله، واهتزت من تحت أقدامه الأرض، فيتوهم أنه ممسك به معانقا إياه، وأنه وحده المدافع عنه ضد الظلم، أو أنه يعانق الزعيم الشهيد ويتشبث به ويتمسك بمبادئه. أما جواز الرؤية دون اشتراط الجسمية فإنه تحصيل حاصل، فلا رؤية حسية عينية في الخارج لشيء موجود في الخارج إلا إذا كان جسما. ولا يكمن قياس الله على الملائكة في جواز رؤيتهم دون أن تكون أجساما، فالله ليس من جنس الملائكة، كما أن الملائكة يمكن للبعض رؤيتها كما تروي الأخبار والآثار والتجارب الروحية للأولياء والصوفية. كما يستحيل إثبات الرؤية بلا كيف لأن الرؤية لا تكون إلا كيفا، كمن يقوم بخطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف أو من يثبت قضية ثم ينفيها والموضوع واحد. لا يمكن أن تتم الرؤية بعين البصر إلا بالملاقاة وبالشعاع.
108
والحقيقة أن الأدلة النقلية لا تثبت الرؤية بقدر ما تنفيها.
109
فسؤال موسى «رب أرني» لا يدل على إمكان الرؤية؛ لأن العاقل لا يطلب المحال لأن السؤال قد يكون طلبا للمحال بغية التعليم. سؤال موسى إذن لا يعني الإمكان، بل يهدف إلى رد الإنسان إلى حدوده الطبيعية مانعا له من أي اغتراب في العالم، تاركا رؤية الأشياء إلى رؤية وهمية مشخصة للمعاني. كما أن الرؤية هنا تعني البيان والإظهار والكشف ولا تعني الرؤية بالعين. وكلمة «لن» للتأبيد وليس للتوقيت، للتأييد وليس للتأكيد. ولماذا يكون النفي للمستقبل؟ وكيف لا يدل على منع الجواز ويدل على منع وقوع الجائز، إذ إن معنى الجائز أنه لم يكن واقعا؟ وتعني الإجابة بالنفي الاستحالة لا الجواز. وهي آية مطلقة يرى الأشاعرة أنها لا تمنع من الخصوص في بعض الأوقات في حين أن الحكم العام في كل الأوقات، والاستثناء لا يكون قاعدة. ولا يقاس ذلك على أن اليهود لن يتمنوا الموت لأن الموت واقع والرؤية ليست كذلك. ولا يعني الاستقرار في المكان إثبات الرؤية نظرا لاستقرار الجبل، بل يعني العود إلى العالم ، وأن من يريد رؤية الله الثابت العظيم الشامخ الجليل فلير الجبل آية منه أو يكون استقرار الجبل محالا لأنه متحرك إما بدوران الأرض أو بدكه، وبالتالي تعليق الرؤية على شرط محال فتكون محالة. ثم إن موسى قد تاب عن سؤاله بقول: «تبت إليك.» والتوبة لا تكون إلا من الذنب وهو طلب رؤية الله. كما أن اليهود «أخذتهم الصاعقة» جزاء على طلب الرؤية، وكأن اليهود هم الذين استدرجوا موسى للطلب، وموسى رغبة في إيمانهم وجه الطلب بدوره إلى الله دون أن يمعن أو يفكر فيه، كما طلب مائدة من السماء من قبل فنزلت لهم. فالرؤية هنا ليست معجزة أو آية أو دليلا، بل استحالة وذنب وطلب من وعي مجسم مشبه وشعور مادي قاصر عن التنزيه وإدراك المعاني المستقلة. فهو سؤال القوم على لسان موسى وليس سؤال موسى. موسى مجرد مبلغ حتى لا تأتي الإجابة من السلطة مباشرة وليس من موسى حتى يخف الاعتراض وتزداد درجة القبول، وحتى يثبت لهم بالتجربة استحالة الرؤية بدخول طرف ثالث وليس مجرد بسؤال وإجابة بين طرفين. وقد تخيل القدماء احتمالات أربعة لموسى: الأول هو السؤال عنها بعد العلم بجوازها، وهذا تحصيل حاصل، فمن أين يأتيه العلم قبل السؤال؟ ولا يمكن السؤال إلا عن مجهول. والثاني هو السؤال عنها مع العلم باستحالتها وهو أيضا تحصيل حاصل، فمن أين يأتيه العلم بالاستحالة؟ وإذا كان يعلم بالجواز أو الاستحالة فلم السؤال عنه؟ والثالث هو السؤال عنها وهو شاك فيها كما شك إبراهيم، ويريد موسى إجابة كي يطمئن قلبه، وهو احتمال وارد، وكانت الإجابة بالاستحالة. والاحتمال الرابع هو السؤال عنها وهو ذاهل العقل لا يفهم شيئا، وهو متأزم من تعنت قومه، وهذا هو الاغتراب في صورة التجربة الدينية عند موسى وقومه، فكانت لإجابة تصحيح الاغتراب. لم يشأ موسى أن يرد الاغتراب بنفسه حتى يأتي التصحيح من الرب أقوى وأفعل. بالإضافة إلى أن موسى نفسه كان مغتربا صوفيا متأزما يود رؤية الله تعويضا له عن مآسي قومه وعصيانهم له.
110
كما أن قصة موسى في مراحل الوحي السابقة وفي ظرف تاريخي خاص لشعب معين، في مرحلة اليهودية والشخصية اليهودية والوعي الحسي اليهودي الذي يطلب الرؤية الحسية والإله الحسي والنعيم الحسي والبرهان الحسي. وهي تورد في مورد التهكم عليهم في إطار تطور مراحل الوحي، ولكن في نهاية الوحي وبعد اكتماله لا يعود الموضوع مطروحا. فالله لم يعد شخصه بل كلامه، وكلامه لا يرى بل يسمع ويطبق كنظام للعالم.
وهناك حجج نقلية أخرى بعيدة وغير مباشرة تتحدث عن الرؤية في الآخرة لا في الدنيا، وهي لغة مجازية صرفة تعني الرؤية، فيها الرحمة والثواب.
111
وأي تأويل آخر يحتاج إلى إثبات بدليل أو قرينة.
112
أما الأحاديث فإنها روايات يمكن الشك في صحة سندها كما يمكن تأويل متنها. معظمها أخبار آحاد معارضة بغيرها، توجب التشبيه وتعارض الحسي. وهي تورد في مورد التهكم عليهم في إطار تطور مراحل الوحي، ومجرى العادات. كما أنها تتضمن الجبر بالإضافة إلى التشبيه وبالتالي تعارض مبدأي التوحيد والعدل. رواتها من فرق المعارضة أو من جماعات الاضطهاد (الخوارج، الشيعة) من أجل تقريب الله لصفوفها في مواجهة تمثل السلطة القائمة لله وتمثيلها له، وبالتالي يكون القصد منها نزع السلاح من أيدي الخصوم، ودخول الرؤية في معارك السلطة والمعارضة.
113
تقع الأدلة النقلية كلها إذن في معارك تفسير النصوص، ولا يكون الحل هو حل التعارض بين النصوص، بل إرجاعها إلى مواقفها الاجتماعية والسياسية واستخداماتها في معارك السلطة والمعارضة. وما أسهل الاعتماد على الدليل الشرعي في مجتمع الشرع فيه سلطة وعلى النقل والرواية وأهل السنة هم الرواة، والفرق هم أهل الأهواء الذين لا تقبل رواياتهم ولا شهاداتهم، وعلى الإجماع على لذة النظر وهم أهل السنة والجماعة، والفرق أهل الكفر والضلال، وعلى قرائن أحوال الرسول، وكلهم إلى رسول الله منتسب، وعلى قول الصحابي وهو صاحب السلطة وقريب السلطان، مع أن قوله ليس مصدرا للتشريع، والأولى ألا يكون مصدرا للعقيدة.
114
والحقيقة أن آيات الرؤية في أصل الوحي لا تشير إلا إلى رؤية الأشياء الحسية أو رؤية ظواهر الطبيعة كآيات الله ، وتبين حدود الرؤية الإنسانية وخداع الحواس وأن الله لا يكون موضوعا للرؤية بل هو شرط الرؤية للأشياء. فهو ذات وليس موضوعا، شرط وليس مشروطا، يرى ولا يرى.
115
أما الحجج العقلية، فمنها حجج جدلية، مثلا: إذا كان الله يجعل الأشياء لنا مرئية، فليس من المعقول ألا يكون هو مرئيا من نفسه أو منا.
116
وتعتمد الحجة على أن الله شرط الرؤية كما يبدو ذلك من بعض الآيات. والحقيقة أن هذه الحجة تخلط بين الذات والموضوع. فالله ذات رائية وليس موضوعا مرئيا، ويتعامل مع ذات رائية، ممكنا إياها من الرؤية، فلا يتحول إلى موضوع لرؤيتها. كما أنها ليست الرؤية الغالبة. فالغالب أنا نرى الأشياء بأنفسنا. والله ليس موضوعا منقسما على نفسه، مرة ذاتا ومرة موضوعا. وقد تصاغ هذه الحجة الأولى بطريقة أخرى فيقال: إذا كان الباري رائيا لذاته وجب أن يراه غيره، وهذا في الحقيقة تصور للقسمة في الله وتحويله إلى ذات وموضوع، والله لا قسمة فيه. كما أن رؤية الذات لذاتها لا تعني بالضرورة رؤية الغير لها. فالإنسان لا يرى ذاته ولا ذات غيره، فالأولى ألا يرى ذات الله. الذات الخالصة لا ترى إلا من خلال الجسم، والله لا جسم له. والله ليس رائيا لذاته؛ لأن ذاك يحتاج إلى أن ينقسم إلى ذات وموضوع كما قال الحكماء: عقل، وعاقل، ومعقول. على أقصى تقدير يمكن رؤية ذات لذات أخرى عن طريق الغوص في شعور الآخر كما هو الحال بين الصديقين أو الحبيبين، أو بين الصوفي والله. ولكن الرؤية في هذه الحالة عن طريق الاتحاد وليس عن طريق المقابلة، كما أنها ليست رؤية بصرية بل اتحاد بالشعور. وقد تصاغ الحجة على نحو ثالث فيقال: إذا كان الله رائيا لغيره، فيجب أن يرى نفسه. والحقيقة أن رؤية الذات للغير لا تعني بالضرورة رؤية الغير للذات. وحتى إذا كان الله رائيا لنفسه، فإنه لا يمكن للغير أن يراه، إذ إن الشعور الجسمي غير قادر على رؤية الشعور الخالص نظرا لاختلاف مستويات الخالص. وهي في النهاية حجة قائمة على التمثيل. وهي مجرد افتراض نظري راجع إلى عمليات الشعور. فتصور الله رائيا للأشياء ولنفسه تشخيص لعمليات التأليه. وإعطاء المؤله القدرة على أن يرينا الأشياء تفخيم وتعظيم. والقياس باطل، «ما دام الله رائيا للأشياء فالأولى أن يكون موضوعا للرؤية»؛ لأن الذات لا تتحول إلى موضوع. وإحالة موضوع الرؤية إلى موضوع القدرة هو إحالة العقل إلى السلطة.
والحجة الثانية أننا ما دمنا نرى الأعراض، فإننا نرى الجواهر بالضرورة.
117
والحقيقة أن هذه الحجة ترى أن صلة العالم بالله صلة الأعراض بالجواهر، في حين أن الله جوهر مفارق على ما يقول الحكماء والأصوليون المتأخرون طبقا لنظرية الوجود.
118
والأقرب أن تكون الصلة هي صلة الدال بالدلالة أو بالآية المدلول حيث يكون التمييز بين المستويين قائما. وطبقا للشاهد لا ترى إلا الأعراض، والجوهر مجرد افتراض يفسر تكثر الأعراض بافتراض وحدة الجوهر. الجسم لا يرى. وما يرى هو الامتداد أو الثقل، وكلاهما عرض. الجسم امتداد وحركة، وهما موضوعان عقليان خالصان كما هو الحال عند الحكماء.
والحجة الثالثة أن كل موجود يرى، وما دام الله موجودا فإنه يرى. والحقيقة أن الوجود ليس هي الواقعة الحسية حتى تكون مرئية، بل قد يكون الموجود هو المعنى أو الماهية أو الشعور الخالص. ولماذا يكون القياس عاما وشاملا؟ وما العلة في التخصيص بالرؤية؟ وقد تأخذ الحجة صورة لاهوتية منطقية لإثبات الرؤية، ولكن العقل الصريح وتحليل عمليات الشعور يكفيان لبيان نشأة المشكلة في الشعور. فالمقدمة الأولى «لا يوجد موجود إلا وجائز أن يرينا الله» غير صحيحة؛ لأن الله لا يرينا ذاته. وهناك كثير من الموجودات لا يرينا الله إياها. كما أن الرؤية في الغالب لا تتم بفعل إلهي، بل بحاسة بشرية أو بحدس إنساني أي بوسائل المعرفة الحسية دون إحالتها إلى القدرة الإلهية. والله موجود، ولا يعني ذلك أنه موضوع للرؤية، فلفظ موجود لفظ اشتباهي يعني الوجود الحسي كما يعني الوجود العقلي. كما أن المقدمة الكبرى تتضمن النتيجة سلفا، وبالتالي فالحجة لا تتجاوز الجدل العقيم.
119
تتضمن الحجة، وهي حجة الأشعري، خلطا في معنى الوجود، فليس كل وجود يرى. هناك وجود الأفكار والمثل والغايات والأهداف، وهناك وجود الروح، ومنها وجود الله غير المتعين. وهو ما يقوله الأشاعرة أنفسهم في أن واجب الوجود غير ممكن الوجود، وأن وجود القديم غير وجود الحادث مما يدل على غياب اتساق مذهب الأشعرية مع نفسه. لذلك يثبت الأشعري الرؤية عن طريق القياس ومع ذلك ينفي أوجه التشابه بين الله موضوع الرؤية والشيء الموجود والحادث. فما المقياس؟ وفيم يقع القياس وفيم لا يقع؟ وبالتالي يكون اعتراض المعتزلة قائما، وهو: ما السبب إذن في الاختلاف بين الذوات؟
120
والحجة الرابعة جدلية خالصة تقوم على أن النفي إثبات؛ لأن كل نفي نفي لشيء، ولا يمكن نفي شيء إلا إذا كان موجودا ومثبتا من قبل. وبالتالي فإن نفي الرؤية يعني إثباتها. فنفي الشيء يعني أنه موجود أولا ومنفي ثانيا.
121
والحقيقة أن النفي يمكن أن يكون للمعدوم وليس فقط للموجود. كما أن النفي ليس إثباتا، بل إن الإثبات هو نفي النفي.
وهناك حجج أخرى خطابية عامة، مثل أن الرؤية لا تؤدي إلى حدوث أو تشبيه بالضرورة، وهذا نقل الفرع إلى الأصل، فالرؤية فرع التشبيه. والحقيقة أن إثبات الرؤية إثبات للتشبيه، فلا وجود لشيء اسمه رؤية بلا كيف؛ لأن الرؤية بالضرورة كيف، والكيف بالضرورة وقوع في التشبيه. أو أن يقال: كان الرسول ينظر إلى جبريل ويسمع كلامه، ومحل الله مثل جبريل. ويبدو أن الأدلة كلها هي قياس الغائب على الشاهد. تتراوح بين الجدل والخطابة وينقصها البرهان.
122
ولا يعني بالضرورة افتراض الإدراك بالبصر الرؤية، فقد تعين العين على الجسم المرئي ولا تتم الرؤية. وقد يتجه الحدس إلى المعنى وتتم الرؤية. فالرؤية لا تعني بالضرورة وجود العين والجسم. وقد توجد العين ويوجد الجسم ولا تتم الرؤية، بل يحدث مجرد انطباع حسي غير مدرك وانتقال صورة الجسم في العين إذا لم يكن الوعي منتبها حتى يتم الإدراك. وهذا هو معنى
لا تدركه الأبصار . ولا يمكن أن يكون المعنى جسما، بل يظهر المعنى في تجربة حية في الشعور . قد تكون له حوامل واقعية، وهي التجارب والمواقف، ولكن يظل المعنى مستقلا عنها، أشبه بدلالة مستقلة أو ماهية، وهي تعادل الواقع الشعوري. ومن ثم ليس التنزيه شيئا مرئيا، بل هو معنى أو عملية إدراك المعاني واستبصارها والبحث عن الدلالات الأخيرة. ووجه التمدح هو كون المعاني دلالات وليست وقائع محسوسة؛ لأن الوقائع المحسوسة ثبوت وسكون، والتنزيه تعال ومفارقة مستمرة، والتوجه إلى ما هو أبعد. ولما كانت المرئيات ليست وقائع، فكل براهين إثبات الرؤية القائمة على إثبات وجود المرئي لا تؤدي إلى إثبات شيء. ولما كان وجود الإله ليس وجودا حسيا ماديا معينا في المكان والزمان، ولكنه وجود معنوي، كان الخطأ في التفسير أساسا أن تتحول النصوص إلى أحكام وقائع وليس إلى أحكام ماهيات. ولو كان الإله مرئيا لما اختلفت آخر مراحل التوحيد عن أوائله، ولأعلن التوحيد فشله أمام المساواة بين الوجود والرؤية أو الوجود والحسية المادية كما كان الحال في مراحل التوحيد السابقة. فقد كان صراع التوحيد مع إثبات وجود المعاني، والكشف عن بناء الشعور، وإعطائه القدرة على التنزيه، أي التعالي المستمر. كان السؤال ممكنا في مراحل الوحي السابقة، ولكن بعد اكتمال الوحي واستقلال الشعور يصبح مستحيلا. بل إنه في مراحل الوحي الأولى كانت الرؤية مستحيلة، وكان الممكن هو التجلي أو الظهور كما تجلى الله للجبل كأحد المعجزات، تجلي الذات، بالإضافة إلى ظهور الأفعال فيصعق الجبل. هذا في الوقت الذي كانت فيه المعجزة برهانا على صدق النبي وعلى وجود الله. أما في آخر مراحل الوحي، فلم تعد المعجزة برهانا:
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون (17: 59). وأصبح العقل قادرا على الوصول إلى الحق، والإرادة قادرة على تحقيق الفعل. (4-2) هل يمكن إثبات الرؤية الذاتية؟
وهي محاولة لإثبات الرؤية دون وقوع في التجسيم أو التشبيه بالتجاوز عن شروط الرؤية من مسافة ومقابلة وشعاع وملامسة، ومن ثم تنتفي الرؤية الموضوعية، وينتفي خطر تحويل الله من ذات إلى موضوع.
فالرؤية باطنية كشفية داخلية ينعم بها المؤمنون وحدهم دون الكافرين في هذه الدنيا . والحقيقة أن هذا هروب من الموضوعية إلى الذاتية وترك الذاتية بلا أحكام أو منطق، فتصبح ذاتية فارغة. كما أن هذه القسمة أمر سابق لأوانه، إذ إنها لا تتحدد إلا في الحكم النهائي في اليوم الآخر. كما تفسح المجال للأنانية والغرور، إذ قد يدعي كل فرد لنفسه الإيمان ويتهم الآخرين بالكفر. وما دامت الرؤية ذاتية ينتفي منها صفة الموضوعية، وبالتالي يمكن للمسيحي أن يرى مريم العذراء والسيد المسيح طبقا لإيمانه ولا يراها سواه، مما يطلق العنان للخيالات والأوهام. كما ينتفي منها الشمول والموضوعية وأي مقياس للصدق أو اليقين.
123
ولما كان الأنبياء نموذج المؤمنين، كانوا أقدر الناس على رؤية الله. والحقيقة أن هذا إعطاء للأنبياء دورا أكثر مما لهم. فالنبي ما هو إلا رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، يوحى إليه ليبلغ الرسالة وليس له أية درجة فوق درجة البشر.
124
وقد تكون الرؤية على قدر الأعمال. فالعمل الصالح يساعد الشعور في الرؤية، والممارسة نوع من العلم.
125
والحقيقة أنه حتى في هذه الحالة تختلف الرؤية من فرد إلى فرد باختلاف درجات الأعمال، وتكون رؤية ذاتية خالصة. وكيف يكون موضوع الرؤية متفاوتا في الدرجة طبقا للأعمال؟ ماذا يساوي نصف عمل أو عمل كامل في الرؤية؟ هل تنقسم الرؤية إلى درجات طبقا للأعمال، رؤية قوية وأخرى ضعيفة، وبالتالي لا يكون للكافرين رؤية؟ وماذا عن صاحب الأعمال الصالحة دون إيمان أو إقرار؟ وهذا في الحقيقة إحالة لموضوع الرؤية إلى موضوع النظر والعمل.
126
وهل ما يرى هو ذات الله أم القدرة على الثقة بالنفس والعلم والبصيرة بالأشياء والوعي بالعالم والدراية بالكون؟ وماذا عن المغفرة؟ أليس هذا ادعاء وغرور من المؤمنين؟ كل منا يدعي الإيمان ويتهم الآخر بالكفر. أليس الإيمان والكفر نتيجة للعمل الصالح ومشروطين به؟ فالرؤية بهذا المعنى تتم للشعور اليقظ وليس الغافل، وللشعور الباطن بالتقوى وليس بالمظاهر الخارجية. ليس المفر إذن من افتراض الرؤية في الآخرة بعد أن ينكشف كل شيء ويعلم حقيقة المؤمن من الكافر.
فإن لم تتم الرؤية للجميع دون التمييز بين مؤمن وكافر ، فإنها تتم للأخيار وحدهم في الدنيا والآخرة. فالرؤية على قدر الأعمال، العمل الصالح يساعد الشعور على الرؤية، والعلم يأتي من الممارسة. وهنا تكون الرؤية ذاتية خالصة، تحدث للبعض دون البعض الآخر. والرؤية الذاتية قد تكون مجرد إسقاط نفسي أو تركيز القلب كي يخلق موضوعه أو نوعا من الهلوسة. في حين أن غير المؤمنين قد يكون لهم شعور محايد لا يرون المعبود لحياد شعورهم وسلامته من كل انفعالات، وهو الشعور الذي لا يرى إلا ما هو موجود في الواقع. لذلك جعل الأصوليون وعلماء الحديث حياد الشعور من شروط موضوعية الرواية التي من أجلها تم استبعاد رواية أهل الأهواء ومنهم المتكلمون. وكان الإسلام أحد شروط حياد الراوي في أخبار الآحاد لأنه مضاد للهوى.
وقد تحدث الرؤية في وقت معين دون وقت طبقا لحالات الفرد النفسية ودرجة تقواه ولحظته الصادقة المتميزة. وهي في الحقيقة لحظات الإبداع ورؤية الحقائق وليس رؤية الله كموضوع.
127
وقد تحدث الرؤية في حالة النوم دون اليقظة، إذ يستحيل في اليقظة بمعنى مواجهة الحس لموضوع الرؤية.
128
والحقيقة أن ما يحدث في النوم هو رؤيا وليس رؤية، وحلم وليس إبصارا، وأدخل في تحليل مضمون الوعي والحالات النفسية منه في تحليل الحواس وموضوع الإدراك. تستحيل الرؤية الحسية في النوم نظرا لعدم توفر شروط الإدراك من وجود حاسة على صلة بموضوع وتوفر وعي يجعل الإدراك الحسي ممكنا. قد تكون الرؤية في هذه الحالة هي الحدس الذي يرى مضمون الشعور في حالة اليقظة وليست رؤية العين لموضوع مادي. وتكون اليقظة عند الصحو وليس عند النوم وإلا كانت الأحلام رؤية. والفرق بين الرؤية والحلم هو الفرق بين اليقين والظن، بين الإدراك المباشر وبين التأويل. بل إن الحلم منه ما قد يكون صادقا، ومنه ما قد يكون أضغاث أحلام. وكيف يمكن تفسير الأحلام وتأويلها؟ إن لم تتم الرؤية في حال اليقظة فإنها لا تتم في حال النوم حيث تغيب الرقابة. أما تفسير الأحلام فموضوعه تحليل اللاشعور ومعرفة الرغبات المكبوتة والمتمناة التي لم تتحقق بعد.
وقد يتم التحايل لإثبات الرؤية بعدة افتراضات حول كيفية الرؤية. مثلا: لا تكون الرؤية بالتحديق وإمعان النظر، بل رؤية عادية على نحو معين.
129
وهو افتراض يقوم على نفي المشابهة بين رؤية الله ورؤية أي موضوع آخر، مجرد نفي دون إثبات. قد تكون الرؤية بالتحديق وإمعان النظر، وقد لا تحتاج إلى تحديق وتكون مجرد رؤية عادية. والتحديق مغالاة في الرؤية وتعبير عن الدهشة كما يحدث في العالم من اتساع الحدقة حين رؤية الموضوع غير العادي. وقد تتم الرؤية بعد تهيؤ العين للإدراك، فالحواس لا تعمل إلا من خلال الشعور. وقبل هذا الإعداد لا تحدث الرؤية، فالرؤية البصرية بلا إدراك مجرد انطباع حسي ينقصه الوعي حتى يتحول إلى إدراك. وهذا هو سبب التفرقة بين الإبصار والإدراك. فإذا كانت الرؤية بالإبصار ممكنة، فإن الإدراك بالإبصار غير ممكن. الإبصار حس في حين أن الإدراك يتجاوز الحس إلى شرطه وهو الوعي أو الانتباه أو اليقظة. وهي التفرقة التي تحاول الجمع بين الحواس الظاهرة والباطنة، فالرؤية تتم بالعين ولكن الإدراك أي الوعي بالشيء يتم برؤية الشعور للماهيات وإدراكه للمعاني.
130
وقد تتم الرؤية بتغير في موضوع الرؤية ذاته وتشكله في صورة أخرى حتى يمكن للعين رؤيته. وهذا في الحقيقة احتيال من الله وإظهار نفسه على غير صورته أو تقلب وتغير، وهو ما يستحيل على الله. كما أن رؤية صورة الله ليست رؤية لذاته. وهو أقرب إلى القول المسيحي، وكما هو معروف في تاريخ الأديان، أديان الوحي أو ديانات الطبيعة بأسماء التجلي والتشكل والتناسخ وظهور الله في صور شتى على ما يقول أصحاب التناسخ والحلول والمجسمة بوجه عام.
131
فإذا ما استعصى التحايل على وظيفة العين أو على موضوع الرؤية يفترض وجود حاسة خاصة تتم بها وهي الحاسة السادسة! وهي ليست العين المجردة، بل أقرب إلى القلب أو الشعور. وقد تكون إحدى وظائف الشعور الباطنة. وليس السؤال كما وضعه القدماء هو قدرة الله على خلق حاسة سادسة، فذلك تحويل لموضوع الرؤية إلى موضوع القدرة، إنما عن كيفية الرؤية. فكون المؤله قادرا على أن يرى نفسه لعباده لجوء إلى افتراض القدرة، واعتماد على برهان السلطة والعظمة وليس افتراضا عقليا. إنه افتراض شعوري خالص ناتج عن عواطف التأليه للإجابة على مشكلة واقعية هي موضوع الرؤية. وفي الحقيقة أن الحاسة السادسة هي الحدس الذي به تتم رؤية الماهيات في الشعور. فالشعور ليس مجموعة من الحدوس الظاهرة والباطنة، بل هو موطن الحدس، هو الذات العارفة أو الوجود الإنساني من حيث هو ذات عارفة، وهو ليس حاسة سادسة لها مركز ووظيفة ومحل، بل هو الشعور الواعي اليقظ. ويقترب هذا الحديث مما يقوله الصوفية عن العين الباطنة. ويكون السؤال: ما الدليل على وجودها؟ ما مقياس صدقها ومعيار صحتها؟ وكيف تتم بها الرؤية في الآخرة ولم تتم بها في الدنيا؟ إنها مجرد حاسة فاضلة شريفة تتفق مع جلال الموضوع وشرفه. الحاسة السادسة أفضل وأعلى من الحواس الخمس العادية، ومتسقة مع علو الموضوع وشرفه. هو مجرد افتراض محض عن طريق التمني والحصول على مكاسب بمجرد تخيل الوسائل.
132
فإذا كانت رؤية الله في الدنيا عليها خلاف بين أهل السنة، فإن رؤيته في الآخرة عليها اتفاق نظرا لسهولة الإجماع عليها نظرا لغياب الدليل، ولأن الآخرة طبقا للشعور تسمح بإمكانيات أكثر مما تسمح به الدنيا، فالعلاقة بينهما علاقة اللانهائي بالنهائي. فهو مرئي يوم القيامة من غير موازاة ومقابلة ومواجهة ودون شعاع خارج أو داخل. رؤية قلبية أكثر منها عينية. وقد تحدث الرؤية من جانب الموضوع، أي الله عندما ينكشف لعباده المؤمنين في الآخرة انكشافا تاما من غير ارتسام صورة المرئي في العين أو اتصال شعاع خارج من العين إلى المرئي. فالرؤية لا تكون بالعين إطلاقا لما كانت العين لا تقوى على النظر إلى الشمس في الدنيا، ولكنها قادرة على ذلك في الآخرة.
133
والحقيقة أن هذا تحايل على الموضوع وإدراك لصعوبة الرؤية في الدنيا وخوف من نفيها، وبالتالي لا يبقى إلا إثباتها في الآخرة التي يسهل افتراض كل شيء فيها، إذ لا يعلم أحد عنها شيئا، وليست موضوعا للحس أو العقل، ولا نعلم عنها شيئا إلا بالخبر، والخبر دليل ظني طبقا لنظرية العلم. ومع ذلك فالآخرة شعوريا تعويض عن الدنيا، ورغبة في الاستمرار في الحياة بعد الانقطاع بالموت، وكشف العالم طبقا لقوانين العدل. فالآخرة ليست مكانا أو زمانا موضوعيا بل عالم التمني عندما لا يتحقق بالفعل. يختلط فيها المكان بالزمان، فيتصور المكان خارج العالم ثم يوضع في الزمان. وهو عالم شعوري كما لاحظ الحكماء والصوفية يعبر عن حالات ذهنية أو نفسية تهدف إلى التأثير في سلوك الناس وليس عالما ماديا موجودا بالفعل. ويبدو هذا الخلط في إثبات الرؤية في الآخرة ليلة الإسراء والمعراج، مع أنها ليلة في الدنيا مما ينفي الرؤية في الدنيا. وإذا كان لا بد من إثبات الرؤية فأيهما أفضل، إثباتها في الدنيا أم في الآخرة؟ إثباتها في الدنيا قد يعلم عنها ويخبر بها ويستفاد منها في حياة الناس، أما إثباتها في الآخرة بعد انتهاء الوقت وبعد الامتحان فلا يفيد أحدا. اللهم إلا إذا كان جزاء للمؤمنين، نعيما ولذة، مكافأة لأهل الجنة، وبالتالي تثبيت الرؤية بناء على أخلاق الثواب والعقاب، ومكافأة حسية تدل على حرمان وكبت وتعويض واهم عن مساوئ النظر في الدنيا. والرؤية القلبية في النهاية هي تأويل يتحاشى كيفية الرؤية كما يتحاشى إثبات الرؤية ونفي الكيفية حتى لا يثبت الشيء وينفى في وقت واحد، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، مثل جسم لا كالأجسام، وشيء لا كالأشياء، تحصيل حاصل، إقدام وإحجام، «محلك سر»، مثل عبارات السياسيين والقادة التي لا تقول شيئا: «نحن لم ننتصر ولم ننهزم.»
والأدلة النقلية لإثبات الرؤية في الآخرة هي نفس الأدلة على إثبات الرؤية بوجه عام، سواء من القرآن أو من الحديث أو الإجماع.
134
فآيات القرآن لا تعني الرؤية بل النظر والاعتبار والتفكر أو تحقيق الغاية. والأحاديث آحاد معارضة بأحاديث أخرى. والإجماع له حدود في علم الأصول.
أما الأدلة العقلية فهي معتمدة أيضا على الأدلة النقلية تفسيرا وتأويلا واستنباطا. فسؤال موسى لا يعني فقط إمكانية الرؤية، ولكنه أيضا يفيد الاستحالة بدليل الرد الحاسم بالنفي. والسؤال وإن بدا في ظاهره شرعيا إلا أنه في الحقيقة لا شرعي يدل على اغتراب الإنسان، والقصد منه أن يرد الإنسان إلى وضعه الطبيعي كموجود في العالم، ويكشف إمكانياته وموضوعاته ووجوده وسط الأشياء. كما أن تعليق الرؤية باستقرار الجبل، والجبل مستقر، إحالة إلى الجبل، أي إلى العالم الطبيعي وإلى الكون بدلا من الخروج عنه والذهاب إلى ما ورائه. كما أنه إثبات للسكون والثبات وأن تتحول النظرة من خارج العالم إلى داخله. وتستحيل الرؤية الحسية نظرا لحاجتها إلى المكان والجهة والطول والعرض والعمق، وهي كلها من صفات الحدوث. كما أن الهدف من الاستحقاق ليس هو الجنة بالضرورة ونعيمها ولذة الرؤية إلى الله، وإلا كانت رؤية الله مثل نكاح الحور العين والأنهار التي من عسل مصفى والتين والزيتون والرمان. تعالى الله عن هذا الوصف وعن هذا المستوى من الموضوعات. وقد تكون رؤية الأنبياء، لو صحت، حالة خاصة، وليست حالة عامة، ومع ذلك فالأنبياء بشر، والله واحد، وما ينطبق على البشر في الرؤية ينطبق على الأنبياء. واختصاص الأنبياء في الوحي في التشريع وحده (تحريم الزواج من زوجات النبي) وليس في أمور العقائد. والصديقيون مثل الصوفية، ينطبق عليهم ما ينطبق على الأنبياء وعامة الناس في الرؤية، أي لا اختصاص لهم في ولاية أو كشف أو رؤية. وكيف تكون الرؤية جائزة في الجنان عقلا وموضوع المعاد نفسه موضوع سمعي؟ وكيف تكون جائزة عقلا تحقيقا لوعد الله، والوعد والوعيد أيضا من أمور المعاد وهي من الأمور السمعية؟
135
ولا يمكن القطع في موضوع سمعي. كما أن اعتبار الرؤية مكافأة يقوم على أخلاق الثواب والعقاب وليس على أخلاق الحسن والقبح لذاتهما. ومن ثم يكون موضوع الرؤية أدخل في الأخلاق التجارية المادية الحسية.
وقد اتفق الصوفية مع الأشعرية على إثبات هذه الرؤية الذاتية مما يدل على أن الموضوع أيضا موضوع صوفي وليس فقط موضوعا عقائديا.
136
فالرؤية بمعنى الانكشاف يوم القيامة علم ضروري، وكل من ينكره ينكر الرؤية. الرؤية بالقلب تبدأ بالحس ويحفظها التخيل ثم تنتقل إلى التصور. التخيل والتصور إدراك ورتبة أعلى من الحس في الوضوح والكشف وكمال النفس. ولما كان ذات الله وصفاته لا يدرك بالحس فإنه يدرك بالخيال والتصور مباشرة. ولا يتم ذلك والنفس في شغل البدن وكدورة صفاته محجوبة عنه. الشاغل والكدر مانعان للرؤية، والتصفية والتنقية شرط لها. يتم إثبات الرؤية إذن إما بإثبات الصفات كما هو الحال عند الأشاعرة أو بالتأويل الحرفي للنصوص كما هو الحال عند المشبهة والحشوية وبعض الفقهاء أو بالتجسيم كما هو الحال عند المجسمة، أو بالرؤية الباطنية كما هو الحال عند الصوفية.
إثبات الرؤية في الآخرة إذن تركيب خطأين أحدهما على الآخر. فالرؤية ليست الإدراك الحسي والموضوع ليس الموضوع الحسي. والرؤية تتم في هذا العالم وليس في عالم آخر لا ندري عنه شيئا إلا عن طريق النقل، والنقل ظن. الخطأ الأول تأكيد مادي، والثاني افتراض وهمي. والمادة والوهم نقيضان يلتقي أحدهما بالآخر كما يلتقي كل طرفين. (4-3) نفي الرؤية الموضوعية
لما كان إثبات الرؤية الذاتية خطوة نحو نفي الرؤية الموضوعية عن طريق قلب النظرة من الخارج إلى الداخل، ومن الإبصار إلى الإدراك، ومن رؤية العين إلى رؤية القلب، فإن نفي الرؤية الموضوعية هو الخطوة النهائية للقضاء على جسمية الله وتصوره كموضوع حسي للرؤية. في حين أن الجدل يجعل نفي الرؤية الموضوعية نقيض إثباتها وأن إثبات الرؤية الذاتية هو مركب الدعوى ونقيضها.
137
ويقوم نفي الرؤية الموضوعية كذلك على السمع والعقل، وبالتالي لا يصبح إثباتها أولى من نفيها وتتعادل القضية.
138
وبقدر اعتماد الإثبات على الحجج النقلية يعتمد النفي على الحجج العقلية. وإذا كان الإثبات يعتمد على الحجج النقلية أكثر من اعتماده على الحجج العقلية، فإن النفي يعتمد على الحجج العقلية أكثر من اعتماده على الحجج النقلية. وكل فريق أقرب إلى نسقه العام من حيث أولوية النقل على العقل أو أولوية العقل على النقل. فالله عند الفريق الأول يفعل ما يشاء، ورؤيته إرادته، وبالتالي تثبت الرؤية. والله عند الفريق الثاني لا يفعل القبيح، ورؤيته قبح، وبالتالي تستحيل الرؤية.
والحجج النقلية على نفي الرؤية كثيرة، أشهرها:
لا تدركه الأبصار
إشارة إلى حدود الرؤية وإمكانياتها واستحالة إدراك النسبي للمطلق إدراكا عينيا مباشرا على الإطلاق دون استثناء، سواء من حيث وسيلة الرؤية بالقلب أو العين الباطنة مثلا، أو مكان الرؤية وزمانها (في الدنيا فقط دون الآخرة).
139
وكذلك
لن تراني
حتى يرد الإنسان إلى العالم ويقضي على اغترابه. وقد كان موسى مغتربا، تاركا العالم، باحثا عن شيء آخر، مشمئزا من عصيان قومه، باحثا عن الله فوق الجبل وخلف النار، لا فرق في ذلك بين الإبصار والإدراك أو بين الإدراك والرؤية. وكذلك
وهو يدرك الأبصار ، أي أنه ذات وليس موضوعا، يرى ولا يرى، يدرك ولا يدرك، فهو ذات خالص لا ينقسم على نفسه إلى ذات وموضوع، ولا يتحول إلى موضوع.
140
وأيضا:
وما كان لبشر أن يكلمه الله ...
أي استحالة الرؤية، ليس فقط في وقت الكلام، بل في كل وقت. وكذلك:
فقد سألوا موسى أكبر من ذلك
أي استعظام واستنكار طلب الرؤية. وأيضا:
وقال الذين لا يرجون لقاءنا
واللقاء ليس الرؤية. وهناك روايات أخرى من الحديث ليس نفيها بأفضل من إثباتها، ورواية برواية، ليس أحدهما بأولى من الآخر.
141
ولا سبيل لتجنب التجسيم والتشبيه ومواجهة الروايات وحل تعارضها إلا بالتأويل. فقد تعني آيات الرؤية الاعتبار، ولكن الآخرة ليست دار اعتبار. وقد تعني الانتظار، ولكن النظر من الوجه. وقد يعني نظر القلب، ولكنه لا يكون في الجنة. وقد يعني النظر إلى الثواب، والثواب لا يكون إنعاما بل استحقاقا. وقد يعني التعاطف والتراحم، وهو ما يستدعي مقابلته بتعاطف وتراحم من الباري. وقد يعني الإنعام إذا كان الوصل باللام (الفرق بين اللام وإلى). والحرف إلى ليس حرف جر بل مفرد وجمعه آلاء وهي النعم، ومن ثم تكون الرؤية انتظار النعم بالرغم مما يتطلب ذلك من تقليب الحدقة. وقد تعني التفكر والاستدلال إذا كان الوصل بحرف الجر في. وقد تعني أخيرا العلم. فالرؤية لا تزيد على مجرد العلم، وتعبير آخر عن الفكرة. وفي معظم اللغات تشتق الفكرة من الرؤية.
142
أما الحجج العقلية فإنها تقوم كلها على أن الله مقدس عن الجهة ومقدس عن المكان ومتعال عن المواجهة، وهو أقرب إلى الاتساق من القول بالرؤية دون اشتراط الجسم والتقابل والشعاع والمماسة والمحاذاة على ما تقول الأشاعرة وهو أقرب إلى تحصيل الحاصل وإثبات الشيء ونفيه في نفس الوقت. ومن ثم تنتفي الرؤية في كل الأمكنة وفي كل الأوقات، في الدنيا والآخرة؛ لأن النفي حكم عام لا يمكن تخصيصه. تتطلب الرؤية المكان والحيز والجسمية، والله ليس في مكان وغير متحيز وليس جسما.
143
لا تجوز عليه الرؤية لأن الرؤية لا تكون إلا للأجسام، وهو ليس بذي جسم. ولا تجوز عليه الرؤية في جميع الأحوال سواء في هذه الدنيا أم في دنيا غيرها، سواء بالعين أم بحاسة سادسة ظاهرة أو باطنية. ولو كان مرئيا لرأينا الآن بل وفي الحال، فحجة الواقع أبلغ من أية حجة نظرية.
144
وقد صاغ المعتزلة ذلك كله في عدة أدلة لنفي الرؤية وفي مقدمتها دليلان: دليل المقابلة ودليل الموانع. فدليل المقابلة ينفي كون الرؤية قائمة على عين كعضو وموضوع مادي ومقابلة العين للموضوع. ويقوم الدليل على ثلاث مقدمات: الأولى أن الرؤية بالحواس، والثاني أن الرؤية لا تتم إلا بالمقابلة، والثالثة أن القديم ليس مقابلا. والمقابلة والانطباع يستلزمان الجسمية. ومن ثم يؤدي إثبات الرؤية بالضرورة إلى إثبات الجسمية، كما يؤدي نفيها إلى نفي الجسمية؛ لأن الرؤية للعين والمرئي هو المحسوس. فالبصر لا يرى إلا ما كان مقابلا لأن الإبصار في الشاهد حواس مقابلة وانطباع. فلو كان الله مرئيا لكان مقابلا. ويتضمن دليل المقابلة نفي الجهة والمحاذاة، وهو ما لا يمكن للذات ولا للصفات التي هي عين الذات. يمكن فقط رؤية الأفعال وهي الآيات الكونية ومظاهر الطبيعة من جانب العالم وليس من جانب الذات.
145
أما دليل الموانع فهو الرد على الحجة القائلة بأن الشيء إنما يرى لما هو عليه في ذاته، والله حاصل لما هو عليه في ذاته، فما المانع أن يرى؟ والرد على ذلك بأن ما لا يرى ينقسم إلى ما لا يرى لمنع أو لاستحالة، والقديم لا يرى لاستحالة لا لمنع لأنه ليس بمرئي في نفسه وإلا لأمكن رؤية صفاته مثل الحياة والعلم والقدرة. ومع ذلك فإن موانع الرؤية في دليل الموانع عديدة، قد تكون ستة وقد تكون ثمانية، وهي: الحجاب، الرقة، الكثافة، البعد المفرط، كون الرائي من غير جهة محاذاة الرائي وكون محله ينقصه شيء من هذه الأوصاف، سلامة الحاسة، الصغر، القرب المفرط. وكل ذلك يستحيل على الله.
146
والحقيقة أن نفي الرؤية لا يرجع لأمور ترجع إلينا مثل الحواس أو الموانع، بل إلى طبيعة الموضوع، فالذات ليس موضوعا، ولا يرى من الإنسان شعوره. فأنا لا أرى شعوري وذاتي، بل أرى جسمي، ولكن أشعر بذاتي كما أشعر بالآخر أو أشعر بالماهية ولا أراها ولكن أوجد في الموقف وأشعر بالتجربة الحاملة للماهيات.
147
وكذلك الله لا يمكن القول إنه يرى ذاته؛ لأنه لا ينقسم على نفسه. تثبت رؤية العين وتنكر رؤية الذات؛ لأن الأولى إثبات لرؤية الأشياء، في حين أن الثانية نفي لتجسيم الذات.
148
ويبدو من تحليل الرؤية أنها الرؤية المحدقية، وصلتها بالعلم وتحليل العين والأشعة، أي أنها إما جزء من تحليل عمل الحواس أو جزء من نظرية الإدراك، وفي النهاية جزء من نظرية المعرفة وليست من الإلهيات، وكأن رؤية الباري هي إحدى نقاط التطبيق من نظرية المعرفة ككل.
149
والخلاف بين إثبات الرؤية ونفيها هو الخلاف أساسا في المعرفة الحسية، هل هو مجرد انطباع حسي من الخارج إلى الداخل أم أنها مشروطة بالوعي أو الانتباه الداخلي، أي بشعاع مقابل من الداخل إلى الخارج. وقد توصل الفريقان إلى هذه التفرقة بين الإبصار والإدراك أو بين الرؤية والمعرفة. فالرؤية غير الإدراك. قد تكون هناك رؤية دون إدراك، وقد يحدث إدراك دون رؤية. والإدراك غير العلم. قد يكون هناك إدراك دون علم، وقد يقع علم دون إدراك. العلم ليس مرتبطا بالإدراك بالحاسة بل بالحياة، فالحياة شرط العلم وليست الحاسة. وقد يكون الإدراك بحاسة وقد لا يكون. فالحدس لا حاسة له، والشعور ليس له حاسة ولا آلة ولا حالا بآلة.
150
لا يتولد الإدراك من فعل خارجي فحسب، بل قد يتولد من أفعال الشعور الداخلية، مثل رؤية ترابط المعاني واستنباط معان جديدة.
151
لا يتم الإدراك إلا بشعاع من المرئي إلى العين يقابله شعاع آخر من العين إلى المرئي وهو الانتباه والوعي أو الاهتمام أو القصد. الأول انطباع حسي خالص والثاني إدراك ورؤية.
152
فالوجود ليس هو شرط الرؤية الوحيد، بل وجود الرائي الذي ترجع له اختلافات الرؤية.
153
وتعليق الرؤية بآلة تأكيد على نفي رؤية العين، ولكنه ليس نفيا لرؤية الماهيات، ليس فقط إحاطة بها، بل إدراكا لها. فالماهيات ليست امتدادا حتى يمكن الإحاطة بها، بل تقوم بتوجيه الشعور إلى منطقة حقيقية وإلى لب الأشياء. الخطأ هو وضع المعاني على مستوى الأشياء وتحويل الماهيات إلى وقائع، وفقد الشعور لموضوعه وتحويله من شعور مليء إلى شعور خاو. الخطأ هو قلب الماهيات والقضاء على كل صفات الماهية من شمول وعموم ومعيارية. لا تعني الرؤية تقليب الحدقة طبقا لبعد العين عن الموضوع، بل تعني إعمال الشعور أو النظر في مضمونه، أي محاولة الإيضاح والاستبصار. فالرؤية ليست معطاة سلفا، بل هي عملية توضيح.
154
ولا ينفي خداع الحواس المعرفة الحسية، فالشعور قادر على تجاوز هذا الخداع، ويمكن تفسيره عمليا بتحليل عمل الحواس وشروطها وموانعها.
155
فالحس ذاته مشروط بعوامل لا حسية مثل وعي الشعور ويقظته وانتباهه واهتمامه تأكيدا للفرق بين الانطباع الحسي والإدراك الحسي. فقد يحدث الانطباع دون الإدراك، وقد يحدث الإدراك دون الانطباع عن طريق الحدس العقلي.
156
إن الحس والمشاهدة قادران على إعطاء تجارب حية تكشف عن المعنى والقانون والماهية. وتتم الرؤية في الزمان الشعوري وليس في الزمان المكاني، وليس بالضرورة في الآن دون استرجاع الماضي أو استباق المستقبل، وما دامت الرؤية ممكنة بعد أن توفرت شروطها في الرائي لعدم استمرارها.
157
الرؤية إذن اقرب إلى رؤية العلم، أي رؤية الشيء في الشعور بعد العلم به دون ما حس أو شعاع أو عين أو موضوع، رؤية يشعر بها الإنسان في قلبه كحالة شعورية لموضوع شعوري، هي رؤية الكشف العلمي، رؤية الموضوع في الشعور أو حدس الماهيات.
موضوع الرؤية إذن مرتبط بنظرية العلم ووسائل المعرفة: هل تتم معرفة الشيء بآثاره أم بذاته أم برؤيته رؤية العين؟ وهو ما يماثل درجات المعرفة عند الصوفية، المعرفة الحسية والمعرفة العقلية والمعرفة القلبية، علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين، وهي المعرفة التي استمد منها الفلاسفة أيضا أنواع المعارف العقلية.
158
ومما لا شك فيه أن المعرفة من النوع الأول يتفق عليها الناس جميعا. أما المعرفة من النوع الثاني فعليها خلاف، وهو العلم بذات الله، والعلم بذات الله مستحيل، والعلم بآثاره هو الممكن. أما النوع الثالث، رؤية الله، فهو مستحيل أيضا لأن الله ليس موضوعا للرؤية كما أنه ليس موضوعا للعلم. إنما العلم موضوعه كلام الله، أي الوحي كقصد نحو العالم وكنظام له، فإذا كان النوع الثاني مستحيلا فالأول والثالث ممكن. العلم بذات الله مستحيل، ومعرفة آثاره الطبيعية ونظمه الاجتماعية والسياسية ممكنة. ليس في إثبات الرؤية كموضوع أي مدح أو تعظيم أو ثناء عليه، بل يعني مجرد الكشف عن الذات الخالص وأخص ما يميزه وهو التعالي، وأنه من عالم المعاني وليس من عالم الأشياء. المدح ليس للذات أو لأفعالها، بل هو تمثل قيمة التعالي في الشعور.
159
وتحليل الرؤية تحليلا علميا يمنع من خلق الأوهام وبناء الأساطير، وهو كله مخالف للواقع، ولا يوجد حل وسط بين الواقع والوهم. فإما أن يرى الإنسان أو لا يرى، وليس هناك شيء لا يراه الإنسان أو أن يرى الإنسان لا شيء. ذلك هو كمال العقل، أما العلم فإنه يجوز فيه الخفي والجلي وتلك مهمة الإيضاح. يزداد يقين الإدراك بالجماعة، أي بالإدراك الجماعي والاتفاق في الرؤية، وذلك هو أحد مقاييس موضوعيتها. وكل حكم على الغائب فإنه يقوم بالضرورة على قياس الغائب على الشاهد والتعميم بالقياس وهو أساس الفكر الديني.
160
ولما كانت اللغة أساسا هي المعنى، فإذا تعارضت مع المعنى فالأولوية للمعنى. ولكن نظرا لا تعارض اللغة المعنى، وأن التحليل اللغوي لا يعارض التحليل العقلي. فإذا أعطت اللغة معنيين وأعطى العقل معنى واحدا، فإنه يؤخذ من معنى اللغة المعنى المتفق مع ما أعطاه العقل. وإذا استحال اتفاق اللغة مع المعنى أصبحت اللغة مجازا. والمجاز ليس خروجا على اللغة، بل هو من طبيعتها. المجاز حلقة الاتصال بين اللغة والعقل. إن وسيلة التعرف على الله العقل والوجدان وليس العين والمشاهدة؛ لأن الله لا يرى إلا بوسائل المعرفة على ما هو معروف في نظرية العلم، والمحسوسات أولى مراحل المعرفة بالإضافة إلى الوجدانيات والمعقولات والمتواترات. والله ليس شخصا أو ذاتا أو موضوعا ثابتا، بل حياة وحركة ونشاط. وإذا قيل إن النظر هو الانتظار، فمعناه توجه الشعور نحو شيء دون تحديد للشيء. كل شعور يتجه نحو شيء. بنية الشعور أنها تؤشر نحو شيء وتنطلق نحو شيء دون أن يكون هذا الشيء واقعة حسية في العالم الخارجي. ولا فرق بين المجسمة وأهل السنة وأصحاب الحديث ما دام المعبود مشابها للجسم، فإنه يكون مثله مرئيا بالإبصار بناء على الخبر وإن لم يكن بناء على تحليل الواقع أو اعتمادا على سلطة العقل أو على دوافع نفسية حددتها الظروف الاجتماعية للجماعة كما هو الحال في التجسيم. فلولا الخبر لما قيل بالتشبيه؛ لأن التشبيه تفسير خاطئ للخبر وعدم دراية بطبيعة اللغة وبوظيفة الصورة الفنية وبتعدد وسائل التعبير. لا يثبت الخبر شيئا، بل يعطي صورة فنية للإيحاء للجماهير بمعان نفسية ويوجهها نحو مقاصد واتجاهات في العالم. المقصود هو الأثر النفسي وليس إثبات الشيء المادي. التشبيه خطأ لغوي في الحقيقة والمجاز يصبح فيه المجاز حقيقة، وتتحول فيه الصورة الفنية إلى شيء مادي. لذلك يحيل البعض الإشكال كله إلى النصوص لحل التعارض بين الحجج النقلية وإلا فلا حيلة إلا التأويل.
161
الرؤية مطلب إنساني خالص يعبر عنه السؤال عنها وطلبها، ولكن لا يعني ذلك أنها ممكنة. وبهذا المعنى كل ما يطلبه الإنسان يكون موجودا كمطلب وحاجة. ويظل الفرق قائما بين عالم التمني وعالم الواقع، وعالم التمني أوسع نطاقا من عالم الموضوعات. ليس كل ما يطلبه الشعور يكون له وجود في الخارج وهو ما قاله القدماء من الفصل بين الوجود في الأذهان والوجود في الأعيان. إثبات الرؤية الموضوعية وقوع في النظرة الحسية الخالصة وبحث عن النعم والملذات، لا فرق في ذلك بين حسية ومعنوية. وهو نسيان للمجاز. الله حقيقة والرؤية معرفتها ومشاهداتها عن طريق التجربة. فالمعرفة الحسية يقين مثل المعرفة العقلية. موضوع الرؤية موضوع وجداني خالص شريف، يكشف عن شرف الموضوع أكثر من الموضوع بالفعل. ولما كان أشرف موضوع لا يرى إلا من أشرف ذات، فالله يرى نفسه ولا يراه غيره مما يدل على أن الموضوع كله إجلال وتعظيم وتمرين نفسي على مقتضى التأليه، تشريف وتعظيم وإحسان وتحقيق وعد ومكافأة.
162
وقياسا على الرؤية، لماذا لا يكون الله موضوعا للذوق أو الشم أو اللمس أو السمع؟ أليس صوت الله أقرب إلى صوت الضمير؟ ألم يأت الوحي، وهو كلام الله عن طريق السمع؟ هل تعشق العين قبل الأذن أم تعشق الأذن قبل العين؟ أليست الموسيقى أكثر الفنون قدرة على التعبير من الرسم والتصوير والنحت والعمارة؟ أليست الفنون الصوتية أقرب إلى القلب من الفنون التشكيلية؟ وقد تعرضت نظرية الوجود في مبحث الأعراض عن تفاضل البصر والسمع. لماذا يكون الله موضوع الرؤية وحدها؟ لماذا لا يكون موضوع اللمس أو الذوق أو الشم أو السمع؟ مما لا شك فيه أن الله موضوع للسمع من خلال الوحي عن طريق الكلام؟ ولكن ماذا عن اللمس والذوق والشم؟ ومن يجيز أن يكون الله موضوعا للرؤية لا بد أن يجيز أيضا أن يكون موضوعا للحواس الأخرى أو أن يصوغ نظرية لتفرد البصر على غيره من الحواس لرؤية الله، وأن يكون الله موضوعا للرؤية وحدها. صحيح أن البصر في سباق مع السمع من حيث دقة الإدراك وعمقه، ومع ذلك فاللمس والذوق والشم من لذات الجنان، لمس الحرير، وذوق العسل، وشم الروح والريحان. فلماذا تخصيص الرؤية دون الذوق والشم واللمس والسمع؟
إذا كان بعض المجسمة يتصور المعبود جسما دون أن يصفه باللون أو الطعم أو الرائحة أو المجسة، فإن البعض يضع الجسم في اتجاه الشعور فيصبح ذا لون وطعم ورائحة ومجسة، وكل ذلك بالتساوي. فاللون هي الرائحة وهما المجسة، والثلاثة هو الطعم، والأربعة هو نفسه. لا يوجد تغاير أو اختلاف أو تنوع بين الصفات والذات.
163
وقد يؤثر البعض جعل المعبود ذا لون فحسب دون الطعم أو الرائحة أو المجسة أو الطول والعرض والعمق، وإن كان في مكان دون مكان ومتحركا من وقت الخلق. فالصفات المفضلة ما اللون والحركة، وهما الصفتان المطلوبتان في الرسم. ويكون المعبود هنا مدركا بالعين وحدها لا بالأذن أو باللسان أو باليد أو بالأنف. ويكون الفنان هنا تشكيليا يؤثر الفنون المرئية على الفنون السمعية. وقد يطغى اللون على سائر المحسوسات ويكون المعبود ذات لون فقط. فالبصر أكبر من اللمس والذوق والشم. والتوحيد بين الكيفيات المحسوسة يدل على وحدة الروح أكثر مما يدل على اختلاف الأجسام وتعددها.
164
ويقع نفي الإدراكات الأربعة الأخرى على مثبتي الرؤية أكثر مما يقع على نفاتها. فنفاة الرؤية بالضرورة ينفون باقي الإدراكات بطريق الأولى. أما مثبتو الرؤية فإنهم في حاجة إلى تبرير إثبات الرؤية ونفي باقي الإدراكات؛ لأن القياس يعمم عليهم.
وينفي أهل السنة الكيفيات المحسوسة كأوصاف للذات بالرغم من إثبات الصفات، وذلك لاعتبار هذه الصفات أقل كمالا من صفات العلم والقدرة والحياة. فهي توابع للمزاج والتركيب. أما اللذة والألم فهما حسيان. واللذة العقلية نفاها المليون وأثبتها الفلاسفة، فالله كمال في ذاته متجرد عن اللذة. فما دام الله كمالا في ذاته، واللذة إدراك الملائم، التذ الله ضرورة. ولما كانت كلها كمالات فلذته كمال. أما السمع فإن موسى سمع كلام الله وليس ذات الله. أما اللمس والشم فلم يقل بهما إلا المجسمة. وتدل الإدراكات الخمسة على أن تصور الله ناتج عن وضع الإنسان وحياته وحواسه ثم إسقاط ذلك كله على الله، كل يتصور الله على شاكلته ومثاله. يتصوره المتكلم عالما قادرا؛ لأن الدولة تعرف كل شيء وتسيطر على كل شيء، ويتصوره الفيلسوف يلتذ عقلا؛ لأنه حكيم عاقل.
165
لا يعني نفي الرؤية الموضوعية لله كموضوع أي تعطيل أو جحود على ما تقول الأشاعرة، بل يعني التنزيه وإعطاء الله حقه في تحقيق مقصده في العودة إلى العالم والاتجاه من الله إلى العالم، ومن شخص الله إلى البناء الاجتماعي. الرؤية مطلب إنساني نتيجة الاغتراب في العالم والإشاحة بالوجه عنه، وقلب القصد. الرؤية سؤال ومطلب إنساني ممكن، ولكنه يعبر عن وضع غير طبيعي أو غير شرعي، عندما يسقط العالم من الحساب، ويضيع العقل، ويغيب المنطق، ويخرج الإنسان خارج العالم فيظهر السؤال. هناك فرق بين الخيال والواقع، فالخيال أوسع نطاقا من عالم الأشياء، وليس كل ما يطلبه الوهم يكون له وجود في الخارج، وليس كل ما في العالم الداخلي له مقابل في العالم الخارجي. إذا تمت الرؤية فإن الجبال تدك، وتطبق السموات على الأرض، أي تدمير العالم وانتهاء الكون، وخرق قوانين الطبيعة، وبالتالي يعيش الإنسان في عالم مستحيل لأنه أصبح له موقف غير شرعي. تعليق الرؤية على استقرار الجبل لا يثبت الرؤية لأن تحقيق الرؤية يستلزم تدمير الجبال وبالتالي تعليق الجواز على شرط مستحيل يكون أقرب إلى الاستحالة والامتناع.
166
الرؤية اغتراب عن العالم وخروج بالوعي إلى خارج العالم، خارج الزمان، وخارج التاريخ تحت أثر الأشعرية والصوفية. إن الله ليس هدفا، بل الهدف هو العالم والإنسان، وبالتالي تكون رؤية الله تحويل الإنسان عن موقفه الطبيعي واغتراب له، وتحويل للوحي عن مقصده الشرعي. في الرؤية يتحول الوحي إلى شخص، وتتحول عواطف التأليه إلى تشخيص، والتشخيص داء العصر، وتصور كل شيء على أنه مادي محسوس بطريقة غيبية لا علمية. رؤية الغير ممكنة أما رؤية الذات فمستحيلة. ليس المقصود بالرؤية رؤية شخص واحد إله مشخص أو نبي، بل الرؤية ذاتها كحقيقة مستقلة، كأحد جوانب نظرية العلم. الله ليس موضوعا بل ذات، وليس مشخصا بل مقصد، وليس جسما بل معنى. هناك إذن ضرورة للانتقال من رؤية الله إلى رؤية العالم، فالله ليس موضوعا للرؤية، بل موضوع للتحقيق، وليس من ناحية المعرفة بل من ناحية الوجود، وليس من جانب النظر بل من جانب العمل. هناك ضرورة للانتقال من رؤية الذات إلى رؤية الموضوع، فالله ذات تتحقق في العالم. رؤيته تحيله إلى موضوع وبالتالي يكون أقل قيمة من الذات الإنسانية. الله وعي خالص مثل وعي الإنسان الخالص، ولا غرابة في ثورة الإنسان وغضبه إذا ما تحول إلى موضوع عن طريق نظرة الآخر إليه أو عن طريق تحويله إلى موضوع طبيعي من العلوم الإنسانية. وهناك ضرورة العودة إلى العالم والقضاء على الاغتراب، فالرؤية للعالم، لمشاكله وقضاياه، للبشر ولأوضاعهم. لا تتم الرؤية إلا للجسم والمادة والموضوع والشيء. الرؤية خارج العالم تعمية وتغطية وتستر وتسكين وتخدير وإيهام. الرؤية ليست نعيما ولا لذة، بل ألم وحسرة وغضب مما يحدث الفعل من مأس للبشر، من فقر وجهل ومرض وتخلف وضياع وتشرذم وقهر وتعذيب. هي الرؤية التي تبعث في النفس الغثيان من العجز عن المقاومة للعدو الخارجي. ومن النفاق والمداهنة للحكام، ومن اللهث وراء لقمة العيش بأبخس الأثمان.
ما دام وجود الشيء هو الحاجة إليه، والشيء الذي لا حاجة إليه لا يكون موجودا، فإن رؤية الله موضوع من هذا النوع، لا يحتاج إليه العصر في هذه الصورة المغتربة المقلوبة. يحتاج العصر إلى رؤية العالم وإلى معرفة المعاني وإدراك الماهيات. إن وجود الشيء هو قصده، وقصده شرعيته. وبالتالي لا وجود للرؤية كقصد وكوجود شرعي. لقد حاولت الحركات الإصلاحية من قبل إلغاء الموضوع والعودة إلى بساطة الموضوع.
167
فما أهميته حاليا؟ هل هي مشكلة؟ هل أنكرت إسرائيل رؤية الله ونحاربها نحن لإثبات الرؤية أم احتلت الأرض وتركناها تحتل ما تشاء في عصر الهيمنة الإسرائيلية؟ ومهما قال المتكلمون وفصلوا وصاغوا وبرهنوا فإنها كلها مسالك مردود عليها باعترافهم أنفسهم ولم يزيدوا على الواقع شيئا إلا تأكيدا للاغتراب واستمرارا فيه.
168
وقد بلغ القدماء حد تكفير مثبت الرؤية وتكفير نافيها وتكفير من شك في إثبات الرؤية أو نفيها أو في نفيها إلى ما لا نهاية، وكأن رؤية الله معركة وطنية تتحرر بها أراضي المسلمين من الاحتلال، وبها تقام مجتمعات حرة دون قهر، تعمها العدالة والمساواة دون استغلال وتفاوت طبقي، وبها تتوحد الكلمة بدل التشرذم والتفتت والتجزئة.
169
يعني هذا الوصف الخامس «الوعي الخالص» الشعور الخالص الذي لا تخالطه شائبة المادة، فالوعي ليس في محل، والفكر ليس في الدماغ، والإحساس ليس من الحواس. لا يوجد الوعي الخالص في محل لأنه غير متحيز، وهذا ما عبر عنه القدماء بالاستغناء وعدم الافتقار والاحتياج. لا يرى، وليس موضوعا للرؤية، بل راء ومدرك وعالم، شرط القيام بالنفس هو بقاء الذاتية دون أن تتحول إلى موضوع من خلال الرؤية.
ثامنا: الوحدانية
(1) سادس وصف للذات
الوحدانية هو الوصف السادس والأخير للذات، والتي من خلالها يظهر علم أصول الدين باعتباره علما لتاريخ الأديان. وفي المؤلفات الأولى السابقة على العد الإحصائي لأوصاف الذات يظهر وصف الوحدانية على أنه أول وصف وأهمه. كما تظهر الوحدانية مع نفي التشبيه على أنها من أوائل العقائد التي تختلف عليها الفرق.
1
وتعود الوحدانية للظهور بعد القدم ومرة أخرى بعد نفي التشبيه.
2
وقد يشار إلى آية
قل هو الله أحد
إلى وصف الوجود وليس إلى الوحدانية على أنها أول وصف للذات. وتظهر الوحدانية حينئذ على أنها ثاني وصف بعد الوجود.
3
ثم تثبت الوحدانية من جديد ويتم التدليل بها لإثبات القدم وتجويز الوجود وإثبات الوحدانية وتجويز الشيئية وتجويز النفس ونفي الشبه (النور) إثبات اليد والأصبع والقدم والساق وعدم تجويز المجيء والذهاب.
4
وتظهر الوحدانية في المقدمات الخطابية للإعلان عن شهادة الوجدان بها.
5
وتظهر في الخطب والمقدمات على أنها الانفعال الأول الذي يليه نفي التشبيه في جميع صوره.
6
ويظهر الواحد على أنه أول وصف لله بعد دليل الحدوث.
7
كما تظهر الوحدانية على أنها الصفة الوحيدة للذات الجديرة بالذكر عن غيرها من الأوصاف وباقي الصفات كالقديم والغفور والجواد كأسماء.
8
وتظهر في باب تعريف الإيمان والإسلام والدين على أنها عقيدة التوحيد.
9
وتبدو وكأنها ثالث وصف للذات بعد القدم والوجود كصفة جائزة.
10
وفي بعض المؤلفات المتقدمة الأخرى تظهر صفة الوحدانية تالية لنفي التشبيه.
11
وبعد دليل الحدوث، وفي ذكر صفات المحدث تظهر صفة الواحد مع الأحد بعد موجود وقديم وقبل باق.
12
وفي الإقرار بالتوحيد يظهر الإقرار بالواحد الفرد بعد الموجود.
13
وكثيرا ما يظهر وصف الواحد في عبارات إنشائية وفي صياغات عقلية متعددة دون عد أو وصف.
14
ويظهر وصف الواحد مستقلا بذاته منفردا في مسألة مستقلة. فهو وإن لم يكن وصفا عقليا مصاغا إلا أنه موضوع يحلل، وقد يدخل نفي الشبه والنظير معا.
15
ولأول مرة يظهر الواحد في باب مستقل كأول وصف للذات وسابقا على صفاتها.
16
ويذكر معه الصفات العشر مما يدل على أهميته. كما يظهر كوصف ثالث في باب مستقل بذاته بعد إثبات واجب الوجود وإثبات التنزيهات الخمسة، ونفي المشاركة والجسمية والاتحاد والحلول وقيام الذات بالحوادث ونفي الأعراض المحسوسة.
17
وتظهر الوحدانية بعد القيام بالذات والوجود والشيء والغنى. وتظهر أيضا بعد مخالفته للخلق ووصفه بالعظيم والجميل لذاته بأنه وتر لذاته مما يدل على أن الوصف تعبير عن تعظيم وتبجيل وإجلال وتقدير.
18
ويظهر الواحد عرضا في معرض الحياة ودون التأكيد على أهميته، ليس من حيث المعنى، بل من حيث اللفظ وجواز التسمية.
19
وتظهر الوحدانية بعد الوجود وصفات المعاني السبع فيما يجب على الله وبعد الرؤية والأفعال فيما يجوز عليه، وكأن الوحدانية مجرد جواز وليست وجوبا.
20
وقد توضع في أي من الأقسام الثلاثة، فالواحد ما يجب لله يغني نفي الاثنينية، وهذا ما يستحيل على الله، وبالتالي فهي بين الوجوب والاستحالة.
21
وقد تظهر أيضا آخر وصف للذات قبل صفات المعاني
22
أو كآخر فصل في التوحيد بعد أوصاف الذات وصفات المعاني والرؤية وقبل العدل.
23
وتظهر آخر موضوع في التوحيد بعد صفات الثبوت والصفات المختلف عليها وإثبات الرؤية وقبل العدل.
24
كما تظهر بعد نفي التشبيه وكلاهما بعد صفات المعاني السبع بعد إثبات القدم والوجود.
25
وقبل الصفات السمعية الثلاث ولأول مرة يتصدر التوحيد «كتاب التوحيد» بعد إدخال نفي التشبيه في آخر دليل الحدوث.
26
وفي أول إحصاء لأوصاف الذات في عشر يظهر واحد على أنه الوصف العاشر والأخير بعد الوجود والقدم والبقاء ونفي الجسمية ونفي الجوهر ونفي العرض ونفي الجهة والتنزيه عن الاستقرار وإثبات الرؤية.
27
وتظهر الوحدانية كآخر وصف للذات بعد الوجود والقدم ونفي الحاجة ونفي الجسم ونفي العرض ونفي الرؤية على أنه نفي الثاني ويدخل فيه الكلام على النصارى.
28
وبعد استقرار البناء النظري في أحكام العقل الثلاثة وما يجب لله من عشرين صفة تظهر الوحدانية على أنها سادس صفة، وما يستحيل عشرون صفة تظهر على أنه من المستحيل ألا يكون واحدا أو بأن يكون مركبا في ذاته أو يكون له مماثل في ذاته أو في صفاته أو يكون معه في الوجود مؤثر في فعل من الأفعال. كما يذكر البرهان على الوحدانية. وهو ما يسمى في العقائد المتأخرة واحد في ذاته وصفاته وأفعاله.
29
وتظهر أيضا على أنها سادس صفة في تفسير «لا إله إلا الله» بالاستغناء عن كل ما سواه.
30
ولأول مرة بعد ذكر وصف الواحد ترفض جميع صور التثنية. ويذكر نقض المجوس في تفسير «ولم يكن له كفوا أحد» مع إثبات الوجود والوحدانية ونفي الشبه ونقض اليهود والنصارى.
31
وقد يرد على المذاهب المعارضة في معرض رفض العقائد دون إثبات وصف مقابل وهو الوحدانية.
32
وقد ترفض الثنوية في معرض رفض قدم العالم مع الدهرية وليس في معرض إثبات الوحدانية.
33
وقد ترفض الثنوية أيضا في العدل في نفي مسئولية الظلام عن الشر ونسبته إما إلى الله أو إلى حرية الإنسان. وبعد الوحدانية كآخر فصل في التوحيد قبل العدل تنتهي الوحدانية بتحليل أنواع الشرك، عبادة الأوثان والأصنام وعبادة الملائكة وعبادة الكواكب.
34
وفي بعض المؤلفات الموسوعية المتأخرة يظهر وصف الواحد على أنه الأهم للذات بعد ذكر الصفات المعنوية السبع.
35
وفي بعض الحركات الإصلاحية التي اقتصرت على إثبات القدم والبقاء كأحكام الواجب تظهر الوحدة بعد صفات المعاني وبعد الاختيار.
36
وفي إصلاح العقائد وإعادة بنائها يظهر أخيرا التوحيد العلمي ونفي الشرك.
37
كل ذلك يدل على أنه بالرغم من أن صفة الواحد واضحة في أصل الوحي، سواء كتصور أو كوضع عملي، إلا أنه أخذ وقتا طويلا حتى استقر في علم العقائد كوصف سادس للذات. (2) نقد الثنوية
بالرغم من أن الوحدانية، أي أنه واحد، تبدو وصفا ثبوتيا إلا أنها في الحقيقة وصف سلبي مثل باقي الصفات: المخالفة للحوادث، وليس في محل ، ومثل الوجود الذي يعني أنه ليس عدما، والقدم الذي يعني أنه ليس حادثا، والبقاء الذي يعني أنه ليس فانيا. فالواحد يعني أنه لا ثاني له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. ويستحيل أن يكون مركبا في ذاته أو له مماثل في ذاته أو صفاته أو يكون معه في الوجود مؤثر في الأفعال. وبالتالي ترتبط الوحدانية بالعدل فيما لا يتعلق بالتأثير وهو الشرك العملي.
38
ووصف الوحدانية موجه إلى الثنوية وإلى التثليث وإلى تعدد الآلهة، وكلها مظاهر للشرك. وهو موجه أساسا ضد الثنوية دون التثليث أو تعدد الآلهة لما دخلت عقائد النصارى في المخالفة في الحوادث ونفي الشبه. أما تعدد الآلهة فلم يكن عند القدماء في الحضارات القديمة المعروفة في الوعي الحضاري التاريخي إلا عبادة الأصنام والأوثان والشرك بوجه عام. كما أن التثليث وتعدد الآلهة يردان إلى الثنوية، وهي أولى مظاهر التعدد. كان ممثل الوثنية في الديانات القديمة الثنوية والمجوسية، ولكن الخطر الأعظم كان من الثنوية، فالمجوسية نوع من الثنوية. لذلك كان النقد كله موجها إلى الثنوية على أنها عقيدة مضادة للوحدانية.
ويغلب على هذا الوصف السادس: الوحدانية، تاريخ الفرق والديانات التي تقوم على الثنوية مما جعل علم أصول الدين يبدو وكأنه علم تاريخ أديان أو علم مقارن للديانات.
39
وتجمع فرق الثنوية كلها بنية واحدة تقوم على القول بصانعين قديمين، أحدهما نور والآخر ظلمة، الأول فاعل للخير والمنافع والثاني فاعل للشرور والمضار، وأن الأجسام ممتزجة من النور والظلمة. النور والظلمة متنافران صعودا وهبوطا ثم يتم مزج العالم منهما، وكل واحد منهما مشتمل على أربعة طبائع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأولان منهما مدبران، والامتزاج والخلط غير واع كأن المبدأين مجرد قوتين عمياوين.
40
وفي حقيقة الأمر أن هذه الديانة التي تقوم على ثنائية مادية متعارضة الطرفين إنما هي صورة فنية تعبر عن ظروف سياسية واجتماعية، الصراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين العدل والظلم، وتظهر عند الجماعات المضطهدة، وتنتشر بينها. هذه كلها صورة وجدانية صرفة تعبر عما يكمن في وعي الأفراد والجماعات من معارك مكبوتة وآلام صارخة. فصورة الأخف والثقل تعبيرات وجدانية ومقامات صوفية. والامتزاج غير الواعي تعبير عن قوى الظلم والقهر اللاعاقلة.
41
والتفسير الوحيد الممكن لكل هذه المذاهب والعقائد هو ردها إلى بيئتها الاجتماعية التي منها نشأت وليس مواجهتها بالحجة والبرهان؛ لأنها موقف نفسي وليست موقفا عقليا. فسواء كان الامتزاج لا واعيا أم واعيا، أو كان أصلا ثالثا أم لم يكن، أو كان الأصلان جسمين قديمين فاعلين بالطبع أو بالاختيار لا يغير من فاعلية الثنوية كدين للمضطهدين وانتشاره بين جماعات الاضطهاد. وما أسهل على المنتصر من الرد عقلا على المهزوم، وما أسهل أن تحاور السلطة معارضيها داخل جدران السجون. إن الحوار الوحيد الممكن في هذه الحالة هو تغيير وضع الاضطهاد ورفع الظلم عن الجماعات المضطهدة، وبالتالي تختفي الثنوية عمليا دون الرد عليها نظريا. وما أسهل من إثبات عدم وجود الشر وأنه مجرد نقص أو درجة كمال أقل للذي لم يعان مرارة الاضطهاد وأهوال التعذيب داخل جدران السجون.
42
ومع ذلك يتأثر المنتصر بدين المهزوم احتواء لدين المعارضة وتصفية له من فاعليته وإعادة تفسيره لحساب السلطة فيصبح مبدأ الخير هو عالم الملائكة، ومبدأ الشر عالم الشياطين، ومبدأ الاختلاط عالم البشر.
43
وتبدو أحيانا الباطنية على أنها اسم للثنوية، وأن الثنوية إحدى فرق الباطنية. فالله خالق النفس، فهو الأول وهي الثاني، كلاهما مدبران للعالم. وقد يشار إليهما أيضا بالعقل والنفس يقومان بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأول.
44
والمرقونية إحدى فرق الثنوية تثبت معدلا بين النور والظلمة. فالنور والظلمة عند الامتزاج يفعلان العالم قصدا أو طبعا. لو تفرد النور مزاجه لم يقصد إلا الخير، ولو تفرد الظلام لم يقصد إلا الشر.
45
والحقيقة أن القصد والطبع شيء واحد، فالقصد تعبير عن الطبع والطبع قصد نظرا للوعي. وقد رد أهل السنة برفض العنصر الثالث مع أنه أقرب إلى الوعي والقصد. ورده إلى النور فيكون نورا أو إلى الظلمة فيكون ظلمة إنكار للمتوسطات، وبالتالي يكونون أقرب إلى الثنوية منهم إلى التوحيد. ولا يمكن الاتحاد بين النور والظلمة في شيء لتنافرهما. وقد بقي فكر السلطة ثنائيا أيضا لرفض عقائد المعارضة وإبقاء على الصراع بين الحق والباطل، حق السلطة وباطل المعارضة، ورفضا لأي محاولة للمصالحة أو للوحدة الوطنية.
والإشغانية إحدى فرق الثنوية ترى أن الظلام موات يقتضي الشر بطبعه، والنور حي يقع منه الخير قصدا. فالحياة والموت عنصران مثل النور والظلمة أو الخير والشر. ولكن الطبع أقل من القصد، فالحتمية أقل من الحرية. فإذا كان الخير يفعل قصدا فإن الشر يفعل طبعا.
46
في حين أنه عند فرق الثنوية كلها النور مطبوع على الخير لا يقدر على خلافه، والظلمة مطبوعة على الشر لا تقدر إلا عليه؛ وذلك لأن الآلام قبيحة لذاتها والملاذ حسنة لذاتها، وأن الفاعل الواحد يستطيع أن يكون لكليهما، فأثبتوا فاعلين. ونظرا لرد أهل السنة على الثنوية من منظور عقائد أهل السنة، فإنه صعب تفنيد نظرية الحسن والقبح العقليين التي يخاصمها أهل السنة مع أنه يسهل الرد عليها من منظور عقائد المعتزلة. فالحسن والقبح العقليان لا يتطلبان بالضرورة فاعلين. الطبع يثير المشكلة والاختيار يحلها.
والديصانية اسم آخر للإشغانية ترى أن الظلام موات فعال للشر بطبعه دون النور. ويرد أهل السنة بأنه إذا كان النور أشرف من الظلمة، إذ إنه حياة وقصد والثاني موات وطبع، فهو الأجدر بوصف الله. ولما ظهر بعد الخير والشر فأصبح المبحث أدخل في التعديل والتجوير، أي في نظرية العدل منه في التوحيد. ويبدو رد أهل السنة وجدانيا خالصا، إذ يكفي إعطاء الله أفضل طرف في القسمة وهو النور، وبالتالي تكون عقائدهم أحد ضحايا عقائد الثنوية.
47
وتقول المنانية (المانوية) بوجود إلهين خالقين حسيين، خالق للخير والنور والضياء، وخالق للشر والظلمة والبلاء. وكانت أقرب إلى التنزيه وذلك بتنزيه الله عن خلق الظلمة والبلاء والهوام والسباع بناء على نظرة متطهرة تبرئ الله من فعل الشر. فالنور يصعد إلى أعلى والظلمة تهبط إلى أسفل. ومع أن المزاج القديم لعلته إلا أن النور والظلمة متناهيان من بعض أجزائهما لذرع الأرواح لها. أما بلاد الهمامة فإنها لا تتناهى في الذرع والمساحة ومن ثم تذرعها الأرواح اللامتناهية. وتفعل الأرواح الصدق والكذب والذنب والاعتذار والإساءة، جنسين مختلفين، خيرا وشرا. وقد شارك المعتزلة في الرد عليهم بأن ذلك نسق متناقض بين التناهي واللاتناهي واستحالة قطع ما لا يتناهى. والحقيقة أن الأسطورة لا يحكم عليها بالاتساق أو بالتناقض، بل بكشفها وتصويرها لموقف نفسي اجتماعي لجماعة معينة. اللاتناهي يعبر عن التمني، والمتناهي يعبر عن الواقع. كما تكشف عن الأساس الأخلاقي في السلوك وبتداخل الشر مع الخير ومزاحمته له، وهي التجربة الحية لجماعات الاضطهاد.
والمجوسية نوع من الثنوية مع تغيير العبارة واللفظ وبقاء الأساس النفسي والبناء النظري. ولا يتحدث القدماء عن «المجوسية» كمذهب وعقيدة، بل عن المجوس كفرقة وطائفة. تقول أيضا بصانعين: إله قديم وهو يزدان والآخر شيطان رجيم وهو أهرمن، الأول نور والثاني ظلمة. فإن لم يكن الإلهان قديمين فالأول قديم وهو الإله الفاعل للخيرات والثاني شيطان محدث وهو الإله الفاعل للشرور. النور قديم، والظلمة حادثة. وهذا أول انكسار للثنائية كعقيدة نظرية بإعطاء الأولوية لأحد الإلهين، وهو إله الخير، على الإله الآخر، وهو إله الشر، وبالتالي الاقتراب من التوحيد، ووحدانية الإله. الأصل هو النور، والظلمة سقوط بعض أجزائه. وقد نشأ الثاني من الأول لشكة ظهرت لبعض الأشخاص النور، وكانت فكرة ردية في الصلاة، فولدت الظلام ثم تركب الظلام شيطانا. وقد تكون نشأته من فكرة متعقبة لبعض أشخاص النور، فكرة ردية أيضا، عبروا عنها بالعقوبة. فقد خطر لأحد أشخاص النور أنه لو حدث ظلام شرير يناوئه وينازعه ليرى كيف يكون فتولدت الظلمة.
48
وقد يحدث بإحداث بعض أشخاص النور معاقبة لما فرطت منهم مفارقة لما يخالف الحكمة. وقد يموت من عفونات الأرض. وما يهم في النشأة هو أن الإله الثاني ساقط عن الأول وبالتالي أقل منه، بناء على فكرة ردية وليس على فعل خاطئ (سقوط آدم) أو بناء على عقوبة لشخص، أو من مادة، وكأن مصادر الشر ثلاثة صورية ومادية وإنسانية. الشيطان جزء من الإله والشر متولد عن الخير. فهل يجعل ذلك الشيطان أقوى من الله والشر أقوى من الخير؛ لأنه تولد عن فكرة، وجزء من الخطة الإلهية إن لم يكن جزءا من الألوهية التي لا تكتمل إلا بوجوب الضد؟ وهل يجوز أن يخلق الله وهو الخير من بطنه شرا وهو الشيطان؟ هل يولد الضد الضد؟ ألا ينتهي إلى إثبات فاعلين، واحد للخير وواحد للشر، في حين أن الإنسان فاعل واحد؟ أي أنه ينتهي إلى إثبات الحتمية والتناقض وتكليف ما لا يطاق، أمر الكافر بالإيمان وهو ما لا يستطيع الفكاك منه.
49
وقد نقد القدماء من أهل السنة المجوس اعتمادا على آية:
ولم يكن له كفوا أحد
إفرادا لله بالوحدانية والألوهية. كما أن الامتزاج لا يكون بين البسائط، ولا يمكن الجمع بين المتنافرين. كما يستحيل الشك على القديم فيتولد من هذا الشك الموت والقتال واحتيال. كما نقد قدماء المعتزلة المجوس في الحسن والقبح دفاعا عن الحرية والمسئولية والعقل والتوحيد واستحالة أن يكون الإلهان سببا لتفسير أفعال الإنسان الحسنة أو القبيحة.
50
والحقيقة أن نقد المجوس عند القدماء يتوجه إما لمشكلة الشر وتجسيمه، أي كجزء من العدل أو يتوجه إلى التوحيد في رفض الاثنينية مع الثنوية أو يتوجه إلى الأخرويات في موضوع الشيطان الذي يتجسد الشر أو الوعد والوعيد والإيمان والكفر. تدخل المجوسية في ثنائية التأليه ضد الواحدية كما تدخل في حتمية الخلق ضد حرية العباد. وتدخل كذلك في إثبات أنطولوجيا ضد مسئولية الإنسان عنه فعلا وتصورا. والمجوسية مثل عقائد الثنوية، إنما هي تعبير عن حركة باطنية مكبوتة بين الخير والشر، ثم مهادنة ومصالحة مؤقتة اعترافا بميزان القوى ثم أملا في انتصار الخير على الشر في النهاية تأكيدا على ثقة الإنسان بنفسه ودفعا لأعذاره. فالزمان عامل إيجابي، والانتظار إعداد، ونهاية الزمان إعلان لانتصار الخير على الشر وقتل الشيطان، وهو ما يشبه عقائد السنة في علامات الساعة وقتل المسيح الدجال.
51
وتقول الخابطية نفس الشيء في عيسى. فالله عوض تدبير العالم إلى عيسى فهو الخالق الثاني. للخلق إذن ربان، قديم وهو الله ومخلوق وهو عيسى. المسيح ابن الله من غير ولادة، وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة، وهو مذكور في آيات الوحي.
52
تدرع المسيح جسدا بعد أن كان عقلا، فهو الكلمة. ويتضح من ذلك أثر البنية الدينية القديمة التي دخلت في الجزيرة العربية مثل المسيحية وتكرار العقائد المسيحية التي لها نفس البنية التي للثنوية، والتي خرجت أيضا من جماعات الاضطهاد الأولى في نشأة المسيحية. ولا يوجد نماذج للثنوية في اليهودية للرد عليها كما هو الحال في التجسيم. الرد عليها في النبوة في إنكار النسخ ونبوة الرسول أو قصر آخر مرحلة من مراحل الوحي على العرب وحدهم.
53
ولكن وضع المسيح مثل وضع علي، كلاهما مغبون، مظلوم بريء، كل على طريقته، مما أدى إلى تضخيمهما إلى حد التأليه.
وأخيرا تقول المفوضية (من غلاة الروافض) إن الله فوض تدبير العالم إلى علي، فهو الخالق الثاني، وذلك تأليها لعلي نظرا لما ألم به من ظلم واضطهاد، فالفعل يولد رد الفعل، والغبن يولد العظمة، والفناء يولد البقاء.
54
وواضح من ديانات الثنوية صعوبة التفرقة بين الفرق الداخلية مثل الباطنية والمفوضية والفرق الخارجية مثل الديصانية والمجوسية، فقد أصبح كلاهما جزءا من الحضارة وأحد روافدها نظرا لتشابه البنية العقلية التي تعبر عن ظروف نفسية واجتماعية متشابهة.
ولم يتصد القدماء للشرك بمعنى التثليث أو تعدد الآلهة، فقد كان الخطر واردا من الثنوية وتفسير التوحيد على بنية ثنوية. ومع ذلك فقد تعرضوا للقائلين بالشرك، خاصة لعبادة الأوثان المذكورة في أصل الوحي. ولها تأويلات عديدة منها عبادة الكواكب، وأخذ صنم لكل منها، فالأصل دين الطبيعة والفرع عبادة الأصنام، ويتضح ذلك من دين قوم إبراهيم الخليل. ومنها التجسيم والتشبيه. فالله والملائكة نور، والأصنام صور له ولها. الأصل أيضا دين الطبيعة، أي النور، والفرع هو صناعة الإنسان. ومنها أنه ليس للبشر أهلية لعبادة الله. إنما أقصى شيء باستطاعتهم هو عبادة الملائكة ثم صنع الأصنام لها وتخصيص وظائف لها كالملوك، كل منها يدبر دولته. أي أن الله منزه عن العبادة، ولا يعبد إلا رسله تعبيرا عن حاجة إنسانية في التدبير والسياسة. ومنها رصد المنجمين الأوقات الصالحة للطلسمات النافعة في الأفعال المخصوصة ثم عمل الأصنام لها للرجوع إليها طلبا للمنافع. وهنا يبدو الدين الطبيعي قائما أساسا على تحقيق مصالح الناس وتلبية حاجاتهم، وأن نشأة الدين للمنفعة.
55 (3) دليل التمانع
صاغ القدماء أشهر دليل لإثبات الوحدانية، وهو دليل التمانع. فماذا تعني الوحدانية المراد إثباتها؟ تعني كونه واحدا. ويرجع ذلك إلى ثبوت ذاته ونفي غيره. فهو واحد لذاته، وتر لذاته، أحد لذاته، واحد فرد. وهي الصفة الوحيدة التي لا تكون زائدة على الذات، مع أن رأي الأشعرية إثبات الصفات زائدة على الذات عن طريق نفي القسمة والتركيب. تثبت صفة الوحدانية عن طريق نفي التغاير والشرك في الخلق، أي عن طريق التوحيد في الأفعال. يعني الواحد أنه غير قابل للقسمة في ذاته وغير قابل للشركة. فالباري واحد في ذاته لا قسمة له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له.
56
الله واحد ليس بالعد أو الإحصاء، فهو ليس ثالث كل اثنين أو رابع كل ثلاثة. وهو واحد لأنه متفرد بالوحدانية ولا يوصف غيره بها.
57
الله واحد لا عن طريق العد بل عن طريق أنه لا شريك له، واحد أحد متفرد بالتوحيد. والوحدانية تنفي الصاحبة والولد، وهي العبارة الأكثر شيوعا في التحميدات والبسملات، تدخل ضمن إعلان النيات وصياغة قواعد الإيمان. كما تعني الوحدانية نفي التشبيه والتفرد بالتنزيه، ليس واحدا من جهة العدد، بل واحد لا شبيه له ولا نظير، وصفه بصفات الكمال ونفي صفات النقص عنه، ليس كمثله شيء. لا مثيل له، لا ضد له، لا ند له، لم يزل أحدا، لا شريك له، لا انقسام فيه، ولا تبعيض، وإلا كان جزءا مقدورا مخترعا.
58
الواحد لا يجتمع ولا يفترق، ولا يتجزأ ولا يتبعض، لا يتركب ولا يختلط. الله باعتباره موضوعا للشعور فرد. وقد يكون هو الوصف المثبت الوحيد في التنزيه، يتحدد باستبعاد أي تشابه بينه وبين الغير، هو غير لا كالأغيار، وإثباته على أنه غير رغبة في إثبات الشيء وعدم الاكتفاء بالتنزيه كعملية شعورية خالصة. فالتجاوز المستمر للحس يحتاج إلى نقطة ثابتة يصل إليها، وهنا يبدأ تجوهر الوعي الخالص في التنزيه كما بدأ تشخيصه في التشبيه.
59
وإذا كان لا يقبل القسمة فإنه لا يمكن البرهنة عليه بدليل الجوهر الفرد الذي يقوم على افتراض القسمة. ولا يمكن عمل مقدمات من طبيعة مخالفة لطبيعة النتائج وإلا بطل القياس. وهنا تأتي أهمية دليل التمانع لرفض قول الثنوية. يسمى أحيانا دليلا وأحيانا أخرى دلالة؛ نظرا لأن له صياغات عدة تقوم كلها على منع الاشتراك مرة في الوجود، ومرة ثانية في الكمال، ومرة ثالثة في القدرة، ومرة رابعة في الإرادة والمراد.
60
فلو قدر إلهان لا يخلو إما أن يشتركا من كل وجه أو يختلفا من كل وجه أو أن يشتركا من وجه دون وجه. فالحالة الأولى لا تعدد فيها، والحالة الثانية أحدهما حتما ليس إلها وهو ما لم يكن واجب الوجود كامل الصفات، وفي الحالة الثالثة يكون تخصيص الاشتراك أو الاتفاق مستندا إليه أو خارجا عنه، فإن استند إليه إما أن يكون بالذات أو بإرادة ولا يجوز لذاته وإلا كان الاشتراك ضرورة، وإن كان بالإرادة فهو متحقق دون تخصص وهو محال، وإن كان خارجا عنه إما باستناد كل واحد إلى صاحبه وهو ممتنع أو أن يكون كل منهما ممكنا وجوده وهو محال.
61
فإذا بطلت الاحتمالات كلها في افتراض العكس وهو وجود أكثر من إله يثبت الافتراض الضمني وهو أن الله واحد. وواضح أن الدليل يقوم على برهان الخلف وهو إثبات استحالة الضد وبالتالي يثبت الافتراض. فهو برهان بالعكس وليس برهانا بالأصالة. كما أنه يقوم على افتراض إلهين اثنين ولا يستبعد وجود أكثر من إلهين، فهو إذن برهان ينفي الاثنينية وقد لا ينفي التعددية.
وهناك صيغة أخرى للدليل تقوم على الوجود وليس على مجرد الاشتراك العام. فلو قدر وجود إلهين ووجود حادث، فإما أن يستند إليهما أو إلى أحدهما. ولا يمكن الاستناد إليهما معا؛ لأنه إما يضاف بجهة الاستقلال أو يضاف إليهما على وجه لو قدر الأول عدم موجود. الأول مستحيل، وإسقاط تأثير واحد ليس أولى من إسقاط الآخر، وذلك يؤدي إلى إسقاطهما معا. والثاني محال لأن إيجاد كل واحد منهما بالإرادة والقصد لا بالطبع والذات. فيمتنع قصد كل واحد منهما إلى الإيجاد، وبالتالي يستحيل وجود إلهين يستند إليهما موجود واحد حادث، ولا يبقى إلا افتراض وجود إله واحد. والدليل على هذا النحو يستبعد افتراض الاثنينية، ولكنه لا يحول افتراض الوحدانية إلى حقيقة، وتبقى الوحدانية افتراضا بلا إثبات. كما أنه لا يستبعد إمكانية المشاركة والتسلسل إلى ما لا نهاية. ويقوم على افتراض اختلاف المرادات وليس على الاتفاق وهو أليق بالآلهة. واختلاف المرادات يدل على اختلاف المريدين إرادة وليس وجودا.
62
وقد تكون الصياغة صراحة من حيث المراد، فلو وجد إلهان لاختلفا. فإذا حقق أحدهما مراده لكان الآخر عاجزا. فمحال أن يتم مرادهما معا وألا يتم مرادهما معا، والعجز من سمات الحدوث. وهو الدليل الذي يثبت الله من حيث القدرة والعلم والاختيار.
63
والحقيقة أنه دليل يثبت القدرة ولا يثبت الوحدانية. ويتعلق بالمراد، أي بالأحكام والنظام واتساق الكون، بالصفات وليس بالذات، ولهذا قد تعاد صياغة الدليل على التحيز لا على الإرادة، وبالتالي يقع بين دليل الحدوث ودلالة التمانع. وتدخل الحركة والسكون مع الإرادة. ويأتي ترجيح الإرادات وشرط الاستغناء.
64
ويأخذ دليل التمانع صيغة عملية وتظهر صفة القدرة. فلو لم يكن الله واحدا لزم أن لا يوجد شيء من العالم للزوم عجزه. الوحدانية هنا تعني القدرة ونفي الشرك العملي واشتراك مؤثر أو مرجح آخر. البرهان على الوحدانية في الخلق. كل شيء فيه يدل على أنه الواحد ولا يخلق الله شيئا إلا كان دليلا على وحدانيته. وبالتالي يقترب البرهان الطبيعي من البرهان العقلي. وهذا الدليل أقرب إلى إثبات الصانع قادرا أكثر منه واحدا. يثبت صفة القدرة أكثر من إثباته وصف الوحدانية.
65
وقد يأخذ الدليل صفة الكمال، فالله واحد تعني أن الله كامل، فالوصف يثبت بالصفة، والأوصاف تستنبط من الصفات. ويقتضي الكمال نفي التبعيض والتجزئة، أي المعاني المضادة للوحدانية. كما يتضمن إثبات العلم والقدرة والحياة كصفات متضمنة في صفة الوحدانية مع أن الأولى مجرد تعريفات عن طريق النفي الأصلي والثانية ليست من مستلزمات الوحدانية كتصور مجرد.
66
والحقيقة أن هذه الصياغات المتعددة لدلالة التمانع أقرب إلى الأقاويل الخطابية منها إلى البرهان، لذلك سميت دلالة وليست دليلا، أي مجرد فكرة وإحساس وجداني وليست برهانا. وهي أقرب إلى الخطابة الإقناعية، تقوم على العادات والمشاهدات ومجريات الأمور. كما أنه أقرب إلى التمرين العقلي المنطقي الذي يقوم على عواطف التأليه. فالقسمة العقلية الجامعة تستبعد من الأساس كل الاحتمالات المضادة ولا تبقى إلا على ما تقتضيه عاطفة التأليه وهو المؤله الشخص القادر. كما أنه يقوم في النهاية على تجريد للأدلة النقلية ومعان عامة للآيات دون صياغات منطقية محكمة.
67
وقد اتفق جميع الموحدين على دليل التمانع، أي استحالة وجود إلهين لكل منهما خصائص الألوهية. حتى الثنوية التي أثبتت إلهين قديمين، فإنها تثبت لأحدهما ما لا تثبت للآخر من كل وجه. وحتى الفلاسفة الذين قالوا بأزلية العقل والنفس وسرمدية الحركة لم يثبتوا للمعلول خصائص العلة. وواجب الوجود لذاته لا يجوز أن يكون أجزاء كمية ولا أجزاء ذات قول ولا أجزاء ذات فعل ووجود. فهو واحد من كل وجه. لذلك نفوا الصفات، وإن أثبتوها فبمعنى آخر ينفي التعدد والشركة والتركيب. منع الحكماء وجود إلهين لاستحالة وجود واجبي الوجود، كما أن الوجوب هو المقتضي للتعين، فيمتنع التعدد.
68
والصابئة أثبتت الروحانيين والهياكل أزلية مدبرة للعالم وسموها أربابا إلا أنهم لم يصفوها بخصائص رب الأرباب. يتوجه دليل التمانع فقط على من يثبت خالقا دون الله، أي صفة الخلق وحدها، إذ إن أخص وصف لله الواحد هي القدرة على الاختراع دون أن يشاركه فيها غيره، ومن أثبت الشركة فقد أثبت إلهين.
69
ومع ذلك فدليل التمانع وصياغاته العديدة لم تقنع المتكلمين ولا الفقهاء، ولخصوها في مسلكين ضعيفين للإثبات: الأول أنه بفرض إلهين تستوي الممكنات ويستحيل الترجيح بلا مرجح، ويمتنع وجود مؤثرين على أثر واحد، فلو أراد أحدهما الحركة لأراد الآخر السكون. فإما أن يحصل مرادهما أو لا يحصل، وكلاهما محال. وإما يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيلزم عجزه وبالتالي يكون الأول إلها. ومنشأ الخلط والغلط هو القول بتصور اجتماع إرادتيهما. والثاني أن الطريق الموصل إلى معرفة الباري ليس إلا وجود الحادثات لضرورة افتقارها إلى مرجح ينتهي الأمر عنده وهي لا تدل على أكثر من واحد. وهو أيضا ضعيف لأنه ينفي وجود الاثنين لا وجود الواحد، وضعفه في الحقيقة أنه راجع إلى دليل الحدوث، أي إثبات وجود الله وليس إثبات وحدانية الله.
70
وعند الأشاعرة لا يستقيم دليل التمانع مع أصول القدرية؛ لأن البغداديين منهم يرون أن الصانع ليس بمريد على الحقيقة، وأنه يفعل الفعل لا بإرادة، فكانوا أقرب إلى الثنوية. وأما البصريون فمنهم من يرى أن الله مريد بإرادة حادثة لا في محل وهم بذلك لا ينفصلون عن الثنوية أيضا.
71
لا يستقيم الدليل مع أصول المعتزلة لأن لديهم يقع من العباد ما لا يقع من الرب دون أن يتضمن ذلك الحكم بقصوره نظرا لحرية الأفعال. لذلك رفض شيوخ المعتزلة التمانع في آية:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
نظرا لارتباط الموضوع بخلق الأفعال. وقد حرصت الحركات الإصلاحية الأشعرية في التوحيد والاعتزالية في العدل على تبني دلالة التمانع دون التضحية بخلق الأفعال. فالوحدانية لا تقضي على الفعل الإنساني الحر، بل هي تأكيد له عندما يصبح الشعور واحدا. وإثبات الوحدانية الفردية لا يحيل الحرية الإنسانية، فالوحدانية صفة للذات أكثر منها صفة للفعل واستعمال الإرادتين الإلهية والإنسانية ليس نقصا للوحدانية.
72
والوحدة ثلاثة مستويات: وحدة الذات بنفي التركيب، ووحدة الصفات بنفي التشبيه، ثم وحدة الأفعال، أي أن الله هو الفاعل الحق. وهنا يأتي الصدام مع خلق الأفعال وحرية الإرادة عند المعتزلة. وقد نبهت الحركات الإصلاحية الأخيرة على أهمية التوحيد العملي دون النظري الذي هو «بحث فلسفي في الوحدة قلما يحتاج إليه أحد في هذا العصر» ردا على بحوث القدماء في الثنوية، في حين أن الآن لا يوجد إلا تثليث النصارى وعقائد الهندوس. وقد غلب التوحيد العملي على الأشاعرة في خلق الأفعال وإثبات عبادة الله وحده.
73
ظهر الطابع العملي للتوحيد في العقائد المتأخرة، إما عن ابتلاع للعدل في بطن التوحيد، أي ابتلاع الله لكل شيء للعالم وللإنسان أو رغبة في إعادة الحياة لعقيدة التوحيد، أي التوحيد في العالم ونفي الشرك العملي فيه. فقد سمى المتأخرون توحيد الذات والصفات والأفعال توحيدا بحصر وجوب الوجود أو بحصر الخالقية أو بحصر العبودية، وركزوا على التوحيد الثالث، أي توحيد الأفعال ونفي الاشتراك في التأثير والفاعلية وبالتالي تتحول عقيدة الجبر إلى عقيدة للتحرر.
74
كما يظهر الجانب العملي في عقائد المتأخرين في نظرية الاستغناء والافتقار، استغناء الله عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه، الله وحده هو الجدير بالعبادة، لا يستحق أحد الألوهية سواه. وهو نفي كل مظاهر الشرك العملي، وهو معنى «لا إله إلا الله».
75 (4) عملية التوحيد
والحقيقة أن التوحيد ليس وصفا أو صفة أو معنى أو شيئا، بل هو عملية، اسم فعل من «وحد» «يوحد» «توحيدا». التوحيد ليس مجرد لفظ أو قضية عددية أو حتى فكرة أو عقيدة، بل عملية. اللفظ نفسه «توحيد» يدل على عملية التوحيد، وليس على شيء واحد. الواحد ليس وصفا للشيء بل عملية توحيد. «الله واحد» تعني أن الله توحيد، واسم الفعل يدل على العملية وليس اسم علم يشير إلى كائن مشخص.
76
فإذا كان التوحيد عند القدماء هو الخبر الصادق أي إثبات شيء وإيجاده، فهو إذن إثبات خبر أن الله واحد، أي أنه عملية برهان عملي وتحقيق الوحدانية في النفس، وحدة الشعور ووحدة الشخصية، والوحدانية في المجتمع، مجتمع بلا طبقات أو الوحدانية في الإنسانية، مجتمعات بلا قهر أو تسلط أو استغلال بعضها للبعض. لذلك اشتمل التوحيد عند الأصوليين على قسمين: العلم والإقرار، النظر والعمل، البرهان والتحقيق. فالعلم بالله واحدا دون تحقيق الوحدانية بالفعل، علم بلا إقرار. كما فرق الفقهاء بين التوحيد النظري والتوحيد العملي.
77
وهنا تمحى التفرقة التقليدية بين التوحيد كعلم للاعتقاديات وعلم الفقه كعلم للعمليات. علم التوحيد هو عملية التوحيد أو عمل التوحيد. التوحيد إذن علم وعمل. علم التوحيد هو الأساس النظري للعمل، وعمل التوحيد هو توحيد الشعور ثم توحيد العالم في نظام واحد يكون هو نظام الوحي، فالأشياء هي نظم الأشياء. التوحيد فعل من أفعال الشعور يظهر فيها الشعور ذاته من حيث هو شعور متوحد، ومهيئ لتصور واحدي للعالم. التوحيد إذن ليس عقيدة فقط بل عملية توحيد، وليس تصورا فقط بل نظام وليس عقيدة فحسب بل شريعة. والاسم «توحيد» من «تفعيل» يدل على عملية ولا يشير إلى جوهر ثابت كما هو الحال في واحد على وزن فاعل. التوحيد فعل من أفعال الشعور، تتوحد فيه قواه وأبعاده نحو ماهية واحدة مطلقة وشاملة، عامة ومجردة، خالصة ومنزهة. وقد حاولت معظم الحركات الإصلاحية الحديثة إعطاء الأولوية للتوحيد العملي على التوحيد النظري، وتوجيه النصوص نحو سلبيات الواقع، فخرج التفسير مرآة يعكس فيها الواقع نفسه حتى ولو ظلت النصوص متفرقة لا يجمعها جامع واحد ولا تخضع لنظرية واحدة تعطيها أساسها النظري بسلطتها. وفاعلية الإيمان التلقائية كافية للتعبير.
وفعل التوحيد فعلان: فعل سلبي ينفى به ما ليس هو التوحيد، وفعل إيجابي يثبت به ما هو التوحيد. الأول فعل من أفعال الشعور من أجل البحث عن الخالص، المجرد من الشوائب النفسية والجسمية، الحسية والعقلية، التصورية والوجدانية. ومهمة هذا الفعل التفرقة المستمرة بين موضوع العلم وصياغات العلم. موضوع العلم واحد وصياغاتنا للعلم متغيرة طبقا لتغير تصوراتنا عن موضوع العلم من عصر إلى عصر حتى لا يتوقف تقدم العلم ونقع في الدجماطيقية. لا توجد صيغة نهائية لموضوع العلم، بل يتقبل الموضوع صياغات متجددة إلى ما لا نهاية. وفي الوقت الذي يتم فيه التوحيد بين موضوع العلم وإحدى صياغاته يتوقف العلم ويتحول إلى جهل. وهذا يتطلب البحث المستمر عن الخالص، والذهاب باستمرار إلى ما هو أعمق وإلى ما وراء الظواهر، حيث يكمن أساس الظاهرة، وهو الظاهرة الحقيقية وليس مظهرها الجسمي المادي المرئي. إن الحقيقة خالصة، وهي في نفس الوقت فاعلة وموجودة ومحركة للعالم. لا يعني الخالص عدم الحركة وعدم التأثير، بل يعني الوجود والباعث وإمكانية التحقيق. ولو اختلطت الحقيقة الخالصة لأصبحت مجرد معلولات أو على أكثر تقدير مجرد علل ثانية. أما الفعل الإيجابي فهو الصياغة المقترحة كبديل عن الصياغات القديمة التي تخلفت عن تقدم الواقع والتي سبقها الواقع بمراحل. وهي أيضا ليست صيغة نهائية لأنها ستترك بعد حين إلى صياغة أخرى. ولكن الفعل السلبي هو الأساس، هو محرك التاريخ والباعث على التقدم المستمر، هو المغير والرافض والمحرك في حين أن الفعل الإيجابي هو الحاضر والثابت والساكن. وهذا هو المعنى المعرفي النظري لشعار «لا إله إلا الله» فالقضية تتكون من قضيتين: سالبة «لا إله» وموجبة «إلا الله». تظهر السالبة الخالص من الشوائب وتخلص الموضوع من صياغاته، وتغطي الموجبة آخر صياغة يقبلها العصر إلى حين. وكلاهما تعبيران لغويان عن فعلي الشعور، السالب والموجب.
78
وهذا هو معنى التنزيه والتشبيه. التنزيه نتيجة لفعل الشعور السالب من أجل تطهير الموضوع من صياغاته الزمانية والمكانية، والتشبيه هو الوقوف عند إحدى هذه الصياغات باعتبارها تعبيرا عن فعل الشعور الموجب. فالتنزيه والتشبيه لا يعنيان وجود موضع مشخص، بل هما فعلان للشعور دون أن يكون لهما أي مضمون.
أما المعنى العملي للشعار فهو تحرر الشعور الإنساني من كل القيود الاجتماعية والسياسية والمادية. فالفعل السالب يحرر الشعور من كل صور القهر، والفعل الموجب يدع الشعور حرا خالقا مبدعا. الأول يحرر الإنسان من التبعية للقيم السائدة في عصره وما به من تعلقات، والثاني يجعل الإنسان متمثلا لقيم جديدة ومرتبطا بمبدأ عام. التوحيد هو بناء الشعور الفردي، طبيعته وحركته. التوحيد كمعرفة وكوجود، كنظر وعمل، يبدأ من الشعور. التوحيد معرفة فعل نفي الشريك والضد والمثل ولكنه أيضا إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان.
79
وعبارة التوحيد هي الشهادة «لا إله إلا الله». وهي من حيث البناء اللغوي لا تعني شيئا؛ لأننا لو استبعدنا النفي «لا» والاستثناء «إلا» لبقي إله الله، وهو تعريف الشيء بمثله كمن يقول الله الله، أو إله إله، تحصيل حاصل، الموضوع هو المحمول والمحمول هو الموضوع، المبتدأ هو الخبر، والخبر هو المبتدأ. ومع ذلك فإن الشعار ينقسم إلى فعل «أشهد» ثم «لا إله إلا الله»، أي فعل الشهادة وموضوع الشهادة. لا تعني الشهادة مجرد اعتراف بعدد، ولا تعني مجرد إقرار وموافقة وأن تكرارها يكشف الأسرار والعجائب كما تقول الأشعرية المزدوجة بالتصوف. تعني الشهادة شهادة على العصر، والشهادة على العصر تضحية بالشاهد بنفسه وتحويله إلى شهيد.
80
الشاهد على عصره هو الشهيد، والشهداء على عصورهم شهداؤه. الشهادة قول الحق وإعلانه حين يصمت الناس، قول حق في وجه حاكم ظالم، فيسقطون شهداء وينالون الشهادة. الشهادة هنا قول وعمل، إيمان قلبي وإقرار فعلي.
لا يظهر التوحيد إذن إلا في الشهادة، والشهادة إعلان التوحيد، والموحد هو الشاهد على عملية التوحيد أو شهيدها. الشهادة هي التضحية بالنفس والتحول من حياة الفرد الزمنية إلى حياة الجماعة الأبدية.
81
وتبدأ الشهادة بعملية الرفض المعبر عنه بحرف النفي «لا». الشاهد هو الرافض، الرافض لجميع آلهة العصر، جميع أنواع الطاغوت، وشتى مظاهر السيطرة وصنوف القهر والغرور. الشاهد هو الرافض وليس الموافق أو الراضي أو القانع أو القابع أو الخانع أو المستسلم. ولما كانت الشهادة ليست قولا بل عمل، فإن حياة الإنسان كلها قد تنتهي قبل أن يرفض المتوحد آلهة العصر. ومعنى التشهد إذن صراع الإنسان مع الآلهة. آلهة العصر، دون إثبات شيء، الإله المنفي هو إله العصر. وقد تنقضي الحياة قبل إثبات «الله». وهنا يأخذ التنزيه والتشبيه معنى عمليا، التنزيه هو النفي والتشبيه هو الإثبات. يتحول فعلا النفي والإثبات من مستوى التوحيد النظري إلى مستوى التوحيد العملي، ويصبح التوحيد فعلا مزدوجا للشعور، فعل النفي المعبر عنه بحرف النفي «لا»، نفي آلهة العصر، وكل ما يكبل حرية الإنسان، ونقاء ضميره، وصحوة قلبه، وحرية إيمانه، وفعل الإثبات المعبر عنه بالاستثناء «إلا»، إثبات الإله الواحد القهار الذي يتساوى أمامه الجميع. التوحيد حرية الشعور التي تمتد إلى حرية العالم. «لا إله إلا الله» إذن منهج حياة، حرية البشر، حرية الضمير البشري، دفع الإكراه عن الناس في الإيمان وفي الفعل.
82
والوحدانية تجربة نفسية واجتماعية وسياسية وتاريخية وفنية، أي تجربة إنسانية عامة في الوحدة، وأفضليتها على التعدد والكثرة، وحدة الهدف، وحدة الصف، وحدة المصير، وحدة الوطن ، وحدة الشعب، وحدة الثقافة، وحدة البشرية. لا يثبت هذا الوصف موضوعا في الخارج بقدر ما يعبر عن مطلب إنساني. ففي التجربة، الوحدانية أكثر قيمة من الثنائية والتعدد. الحب واحد، والأب واحد، والأم واحدة، والنفس واحدة، والحقيقة واحدة، والأول واحد، لذلك كان الرب واحدا. الوحدة أكثر حقيقة من الاثنينية أو الكثرة، وهي وحدة لا تتجزأ ولا تتبعض. التجزؤ يدل على التركيب، والتركيب يدل على وجود وحدة فردية سابقة عليه. وطالما كانت الوحدة مطلب كل الفلاسفة يبحثون عنها وينتهون إلى مذاهب في الوحدة، في المعرفة أو في الوجود أو في الأخلاق أو في السياسة أو في الجمال. تقوم الحياة الإنسانية بكل جوانبها على الوحدة، وحدة الشعور في الإحساس والعمل والسلوك الاجتماعي. الشعور الواحد هو أساس الراحة النفسية الداخلية، وتحقيق الوحدة الداخلية شرط تحقيق الوحدة الخارجية. وكل الأدلة التي قدمت لإثبات الوحدانية هي عمليات شعورية خالصة يساعدها تحليل العقل ولا تثبت شيئا في الخارج. التوحيد حقيقة الحياة، إذ تقوم الحياة الإنسانية الكاملة على التوحيد بين قوى الشعور، القول والعمل والوجدان والفكر. ويقوم التغيير على التوحيد بين النظر والعمل. وتقوم الحياة الاجتماعية على التوحيد بين الفرد والجماعة، وتقوم الحركات الوطنية على التوحيد بين الأحزاب، وتقوم الدول القومية على التوحيد بين الدويلات.
83
التوحيد إذن مشروع يتحقق. لم يحدث بعد في جيلنا كما حدث عند القدماء، ولكنه يمكن أن يحدث، فهو في نطاق الممكن وليس في نطاق الواقع. عملية التوحيد هي تحويل هذا الممكن إلى واقع. التوحيد ليس شيئا معطى جاهزا كاملا، بل هي مجرد إمكانية تحقق. وبالتالي فإن نظرية أحكام العقل الثلاثة هي في نفسها نظرية أحكام الوجود الثلاثة. كانت الأولوية عند القدماء لطرفي الاستحالة والوجوب، ولم يكن الإمكان إلا طرفا ضعيفا لا يضم إلا الرؤية عند المتقدمين أو الفعل والترك عند المتأخرين. المستحيل هو المفارقة بين الوحي والعالم، الفصل بين المثال والواقع. والممكن هو التوحيد بينهما كمشروع تحقق، والواجب هو الفعل الإنساني القادر على تحويل هذا الممكن إلى واجب، والمستحيل هو الرضا بالضيم والقهر والذل والاستكانة، أي توقف المشروع عن الحركة والتحقق. وهناك فرق بين الوجود والإيجاد. التوحيد عملية إيجاد وليس إثبات وجود. التوحيد يمكن أن يوجد ولا يوجد بالضرورة. الإمكان إذن هو المقولة الرئيسية في أحكام الوجود الثلاثة، هو المحرك للاستحالة والوجوب. فلا مستحيل ولا وجود بدون الإمكان.
وعملية التوحيد هذه يقوم بها الإنسان. وقد تحدث العملية في إنسان دون آخر. التوحيد إذن فردي في أول لحظة في تحققه وليس عاما، اختيار حر للفرد وليس حتما على كل فرد. وقد يحدث التوحيد عند الفرد في لحظة من حياته دون لحظة أخرى. ليس التوحيد فقط فرديا، بل هو وقتي ولحظي، يظهر في القدرة على أخذ القرار في اللحظات المصيرية وفي إبداعات اللحظات المتميزة. ليس التوحيد باقيا إلى الأبد، بل قد ينقطع بانقطاع الفعل وتوقف العملية. فالمستقبل ليس مجرد افتراض بأن التوحيد سيكون إلى الأبد، بل ترقب وتخطيط وإعداد وتحويل الممكن إلى واقع من خلال الفعل.
والتوحيد اجتماعي، توحيد الطبقات، توحيد الأمم والشعوب، توحيد الإنسانية. الفرق شاسع بين الطبقات الكادحة والأقلية المسيطرة، وشاسع بين الأمم المغلوبة المقهورة والأمم الغالبة القاهرة، شاسع بين الأغنياء والفقراء، بين البيض والملونين، بين الشعوب التاريخية والشعوب اللاتاريخية بين الشعوب غير الأوروبية والشعوب الأوروبية. يعني التوحيد إلغاء الفصم في روح المجتمع وروح العالم حتى يتم التوحيد بين الطبقات، وبين الشعوب، وبين الأمم. وذلك لا يتم بعملية التوحيد من خلال الأفراد، وتحويل الوعي الفردي إلى وعي اجتماعي، ثم تحويل الوعي الاجتماعي إلى وعي حضاري تاريخي.
84
وبالتالي فلا حاجة إلى إثبات التوحيد في إمكان أو في كل مكان أو في لا مكان. التوحيد هو حركة التاريخ ومصير البشرية.
85
التوحيد ليس إقرارا نظريا، بل عملية تحقق. وليس تشخيصا لذات يمكن إثبات وجودها بالبراهين العقلية، بل عملية يقوم بها الإنسان مدى حياته بتوحيده بين نظام الوحي ونظام العالم وإقامته مدينة الله على الأرض. ولا يتم ذلك عن طريق إنشاء حكم إلهي في دولة وضعية لا نزولا من النص إلى الواقع بل بإعلاء نظام العالم تدريجيا حتى يتحد مع نظام الوحي أو بتطوير الدولة القائمة وجعلها أكثر قربا من نظام الوحي صعودا من الواقع إلى النص.
86
يظل الوحي من جانب المعارضة والرقابة على الدولة لا من جانب السلطة القائمة وتبرير قراراتها.
87
ولما كان التوحيد يحتاج إلى طرفين: الوحي كنظام مثالي للعالم والواقع الطيع لتوجيه الوحي، عملية التوحيد إذن هي تحويل الوحي من مجرد إمكانية نظرية إلى نظام للعالم. ولما كان العالم بطبيعته يتجه نحو الكمال كان الوحي هو كمال العالم وازدهار الطبيعة. ويتم التوحيد من خلال التنظيم السياسي الذي بواسطته يتم التوحيد بين نظام الوحي ونظام العالم. التوحيد يصب في المسألة السياسية، وهو الأساس في نشأة علم أصول الدين، السياسة بداية التوحيد ونهايته، منبعه ومصبه. التوحيد موضوع للتنظيم السياسي. لذلك فإن الفقهاء من أول الموحدين بتفكيرهم السياسي وإن لم يصوغوا نظرية عقلية في الصلة بين الذات والصفات كما هو الحال في علم الكلام. وظيفة التوحيد تجنيد الجماهير، وهو ما عبر عنه المتأخرون إنشائيا بامتزاج التوحيد باللحم والدم. فقد حول التوحيد القبائل العربية المتنافرة إلى أمة ثم أطلقها في التاريخ فقضت على أعظم إمبراطوريتين قديمتين، الفرس والروم، وورثتهما، وامتدت غربا وشرقا، شمالا وجنوبا، موحدة بين الشعوب ومساوية بين الأمم. وقد استطاع التوحيد من جديد تجنيد الجماهير كما حدث في جيلنا في الثورة الإسلامية في إيران وفي الجماعات الإسلامية المعاصرة في مصر وشتى أرجاء العالم الإسلامي.
88
لقد نشأ التوحيد النظري القديم كنظرية في الذات والصفات والأفعال؛ لأن التوحيد العملي كان قد تم. لم تكن هناك خطورة على الأرض وعلى الشعب، فقد كان المجتمع منتصرا، ولكن الخطورة كانت على الفكر في بيئة تداخلت فيها النظريات والعقائد وانتشرت عليها الديانات والمذاهب. فكان لا بد من قيام التوحيد كنظرية في مواجهة العقائد النظرية المضادة. قام التوحيد القديم في أذهان المتكلمين بمهمة حضارية صرفة، فقد كانت الحركة الكلامية قديما حركة حضارية. أما عملية التوحيد فقد تمت أيام البعثة الأولى في التوحيد بين الوحي ونظام العالم. لذلك لم تظهر نظرية الذات والصفات والأفعال ، بل ظهر الله من خلال الفعل والسلوك في الجهاد والاستشهاد.
89
وبعد ما نقص الجهد، وفتر العزم، ظهر التوحيد بالمعنى النظري لا من وضع شاك أو زنديق أو دساس، فالأمر متعلق بنكوص الفعل في الأمة لا بسوء نية الحساد والطاعنين والحاقدين والموتورين. وهو المعنى الذي يقصده الفقهاء بقولهم إن هذه المشكلة لم تكن مثارة في العصر الأول ولم يسأل أحد عليها.
90
وإذا كانت الذات هي التعبير عن المجتمع المنتصر وتركز القوة والحق كليهما في الذات المشخصة إعلانا عن ثبات المجتمع واستقراره وصلابته وفتوحاته وانتصاراته وبأسه وقوة الحاكم وسيطرته وازدهار رأس المال وتراكمه، فإنها تحولت الآن إلى بقاء الحاكم دون المحكوم وإلى بأس وقهر لفرد واحد دون انتصار أو فتح لأمة. بقيت الذات القديمة التي عبرت عن مجتمع الأنصار دون أن تتغير في مجتمع الهزيمة، فاعتمد عليها الحكام ضد الشعوب وأصبحت الذات المشخصة تعبر عن تشخيص العواطف الإنسانية ومظاهر الوجود الإنساني، وتستعمل كمشجب تعلق عليه الصفات كالشمس والنجوم أو الحاكم والبلاط أو الرئيس والوزراء أو الدائرة والمحيط أو الجوهر والأعراض أو البطل والممثلين. وقد حدث ذلك في التشبيه والتنزيه على السواء. ومنها نشأت نظرة مادية في الانفعالات لا تختلف عن التجسيم وأصبحت تعبيرا ماديا عن بيئة اجتماعية. وهي في نفس الوقت نظرة تطهيرية في الفضيلة واعتبارها خارج العالم وليست داخلة كنوع من التعمية على ما يحدث في الواقع. كما حدث في التنزيه فأصبح الخالص غطاء للمادي، والصوري تعمية عن الحسي. وتجاوز اللغة كوسيلة للتعبير، وأنكرت دور الصور الفنية كوسيلة للإيصال، وانتقلت من اللغة إلى الشيء، ومن الصور إلى الجسم تأكيدا للنظرة الشيئية كما حدث في التشبيه الحسي أو في التشبيه الصوري أي التنزيه. فإذا كان التوحيد القديم قد بدأ بالوجود في التأليه والتجسيم، ثم أصبحت ماهيته في التنزيه وإنسانيا في التشبيه، ثم مطلبا خلقيا واجتماعيا وسياسيا عند المصلحين يكون التوحيد في حقيقة الأمر وظيفة فردية واجتماعية وتاريخية يقوم بها الإنسان في دعوته للتوحيد بين الفكر والواقع بتحويل الوحي كنظام مثالي للعالم.
91
ولم يظهر تطور التوحيد من الوجود إلى الماهية إلى المطلب في علم الكلام فحسب، بل ظهر أيضا في العلوم العقلية النقلية الأخرى، وكأن كل واحد منها يمثل تصورا معينا للتوحيد كبناء رباعي لا كتطور. فالتوحيد كماهية يمثله علم الكلام بصرف النظر عن اتجاهاته. التوحيد على مستوى الماهية هو الذي بقي، خاصة في التنزيه، لأن التوحيد على مستوى الوجود انزلق إلى التأليه والتجسيم ولم يبق في العصور الأولى. ولكن حتى هذا المكسب تحول إلى خسارة عندما انقلبت الماهية إلى شخص، والصورة إلى مادة، والعقل إلى انفعال. والتوحيد كوجود تمثله علوم الحكمة بعد أن تحولت «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا»، وتحول التوحيد من نظرية في الماهية إلى نظرية في الوجود، «واجب الوجود». ولكن تحول هذا المطلب أيضا إلى خسارة عندما تحول الوجود إلى شيء، فضاع منا الإحساس بالوجود ولم تبق إلا الرغبة في المادة الحسية وأصبح الله وحده هو الموجود وغيره غير موجود، هو وحده الموجود المستقل وكل ما سواه موجود تابع، حتى تحولت حياتنا كلها من الاستقلال إلى التبعية. والتوحيد كمطلب تمثله علوم التصوف بعد أن تحول التوحيد من الماهية إلى الوجود، ومن الوجود إلى المطلب، وأصبح نزوعا إنسانيا ومطلبا للكمال، يكشف عن التجربة، ويظهر كبناء للحياة الفردية والكونية. ثم تحول هذا المكسب أيضا إلى خسارة عندما أصبح المطلب مجرد انفعال ونزوع غريزي أو الوقوع في عالم التمني، وفقدنا التجربة الشعورية التي يمكن تحليلها بالعقل وصدورها عن العالم. وأخيرا التوحيد كوظيفة ظهر في علم أصول الفقه بعد أن تحول المطلب الفردي الباطني إلى وظيفة اجتماعية وسياسية، فأصبح التوحيد دفاعا عن مصالح الأمة بتحويل الشريعة إلى نظام مثالي للعالم ووصف للسلوك وتقنين للأفعال واتجاه نحو العالم وبناء الدولة. ولكن تحول هذا المكسب أيضا إلى خسارة وذلك بتقليص أصول الفقه في الفقه وضمور الوظيفة في قانون الأحوال الشخصية وتوجه التشريع ضد الطبيعة وليس نابعا منها، فوقعنا في المحرمات دون المباحات، وتحول التشريع إلى ردع وعقاب دون أخذ حقوق وأداء واجبات، وصال في الشعائر والعبادات، وأسقط تغيير الواقع والثورة على الأوضاع من الحساب. وغاب فقهاء الثورة الذين يقولون كلمة حق في وجه سلطان جائر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وينصحون في الدين، ولم يبق ظاهرا إلا فقهاء السلطان أو فقهاء الحيض والنفاس.
92
الفصل السادس: الوعي المتعين (الصفات)
أولا: أحكام الصفات
(1) مقدمة
بعد الوعي الخالص وهو الذات التي تتسم بأوصاف ست: الوجود، والعدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، والقياس بالنفس، والوحدانية، ينتشر هذا الوعي خارجه ويتحقق درجة أكثر ويصبح الوعي المتعين أو الشخصية الإنسانية. ويتصف بصفات سبع: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة.
وأحكام الصفات واحدة بالرغم من تعدد الصفات. والحديث عن الصفات هو حديث عنها كلها في مسائلها العامة قبل أن يكون حديثا عن كل صفة على حدة، الواحدة تلو الأخرى. فإثبات العلم يدخل في إثبات الصفات أو نفيها أكثر من دخوله في صفة العلم. وقدم الكلام يدخل في قدم الصفات أو حدوثها أكثر من دخوله في صفة الكلام.
1
فبعد ذكر الصفات الواحدة تلو الأخرى ومعنى أحكام الصفات يذكر إثبات العلم بها وإثبات قدمها كمسائل مشتركة بينها جميعا. وقد تظهر أحكام الصفات بعد الصفات عندما تتصدر الصفات على الذات.
2
تظهر أحكام الصفات إذن مرة قبل تعدادها واحدة واحدة، ومرة أخرى بعد الصفات كعامل مشترك بينها.
3
والحقيقة أن أحكام الصفات تتجاوز الصفات ومسائلها، كلا على حدة، فهي أحكام عامة تشملها كلها، يتفق عليها الجميع أو يقع فيها الخلاف ثم تكون كل صفة مسألة تطبيقية للحكم العام. يمكن إذن إثبات الصفات بوجه عام أو نفيها بصرف النظر عن صفة بعينها، ولو أن الصفة المفضلة عند القدماء هي صفة العلم للتمرين عليها وضرب المثل بها على إثبات العلم، تتلوها القدرة، ثم الحياة، ثم باقي الصفات الأربع. وبالرغم من اعتراض بعض القدماء من أن إثبات أحكام الصفات أولا ثم التوصل منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيا مسلك ضعيف سلكه عامة الأشاعرة، إلا أنه أقرب إلى العقل. إذ يرد الحكم العام قبل الخاص، وتثبت الصفات أولا كمبدأ وأساس قبل أن تثبت صفة العلم أو كل صفة على حدة.
4
وإذا أتت أحكام الصفات قبل الصفات فإن ذلك يقتضي أن تكون أعرف منها، فلا يصح تعريف المعرف بأقل منه وضوحا. العام قبل الخاص، والأساس قبل المؤسس، وعلم الأوليات سابق على كل العلوم.
ماذا تعني أحكام الصفات؟ الصفة عند الأشاعرة هي ما قامت بالشيء، والوصف قول الواصف الدال على الصفة.
5
وأحكامها ليست أحوالا أو صفات، بل أقرب إلى الأسس العقلية التي تحدد علاقات الصفات بعضها ببعض وعلاقاتها بالذات. هي وجوه واعتبارات أي منطق وأحكام قضايا.
6
وهناك طريقان لإثبات أحكام الصفات: الأول النظر والاستدلال والثاني الضرورة والبديهة، وكلاهما قسمان للعلم. ويلاحظ هنا عدم وجود فهم خبري سمعي لأنه ليس برهانا قطعيا ولا يولد إلا الظن، والبرهان لا يكون إلا يقينيا.
7
ولم تظهر أحكام الصفات العامة إلا ابتداء من القرن الخامس عندما قل التعامل مع كل صفة على حدة وزاد الإحكام العقلي لإدراك المسألة ككل. وهناك أحكام ثلاثة طبقا لصياغة مسألة الصلة بين الذات والصفات، وبعد حصر الصفات في سبع وتميزها عن الأوصاف الستة: حكم الإثبات والنفي، وحكم المساواة والزيادة (الهوية والغيرة)، وحكم القدم والحدوث. وقد يضرب المثل بصفة مختارة لبيان كل حكم، العلم والقدرة بالنسبة لحكمي الإثبات والنفي، والمساواة والزيادة، والكلام لحكم القدم والحدوث. وأحيانا تظهر الأسماء مع الصفات وتتكرر المسائل من جديد مما يدل على نقص الإحكام النظري والتمييز بين الأحكام العامة ثم الأحكام الخاصة في موضوعات تطبيقية.
8
وقد تتداخل الأحكام الثلاثة، ويستنبط أحدها من الآخر نظرا لوجود نسق عام يحكمها كلها. وهو السبب في إثارة سؤال: هل إثبات الصفات أو نفيها نتيجة لإثبات قدمها أو حدوثها أم أن إثبات قدم الصفات وحدوثها نتيجة لإثبات الصفات؟
9
لذلك يكتفى أحيانا بذكر حكمين دون الثالث.
10
وقد بدأ القدماء بالأحكام المرفوضة، وهي النفس والهوية والحدوث، ونحن نبدأ بالمذاهب المرفوضة أيضا: الإثبات والغيرية والقدم.
11 (2) الإثبات والنفي
وقد يبدأ القدماء في العادة بحكم المساواة والزيادة قبل حكم الإثبات والنفي، في حين أن حكم الإثبات والنفي هو الحكم الأولى، بعده يأتي حكم المساواة والزيادة أو حكم الحدوث والقدم. فاعتبار الصفات زائدة على الذات إثبات لها، واعتبارها عين الذات نفي لها. إثبات الصفات وقوع في التشبيه، ونفيها إثبات للتنزيه. تعني الصفات هنا الصفات الحسية التي يشارك فيها الإنسان ويقوم إثباتها على التضحية بالتنزيه من أجل إثبات الصفات وتفادي إثبات ذات خالصة مجردة لا طعم ولا لون ولا صفات ولا أفعال لها. ونظرا لأهمية الحكم، فإن إثبات الصفات يظهر أحيانا كعنوان للموضوع وليس مجرد مسألة حكم في الصفات.
12
ونظرا لأهمية إثبات الصفات سمي أهل السنة والأشاعرة الصفاتية، وهو لقب أعطوه هم لأنفسهم في مقابل إعطائهم لنفاة الصفات لقب المعطلة، واستعملت الألقاب كسلاح ضد الخصوم وللدفاع عن الذات.
13
فنفي الصفات وصف للخصم واتهام له بالتعطيل في مقابل مدح الذات وتعظيمها وإعطائها لقب الصفاتية. ونظرا لأهمية إثبات الصفات أصبح التوحيد مرادفا له.
14
وعند بعض الحركات الإصلاحية الحديثة التي اقتربت من المعتزلة وظلت أشعرية في التوحيد اعتزالية في العدل لا تثبت الصفات بما فيه الكفاية وتكون أقرب إلى النفي، ولكن مع الإصرار على التنزيه وعدم الوقوع في التشبيه الذي هو في العادة نتيجة طبيعية لإثبات الصفات. فتثبت الصفات وتنفي الكيفية فيكون لله سمع لا كسمعنا وبصر لا كبصرنا، أي تحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إثبات الشيء ونفيه في آن واحد. ويظل الفكر الديني المعاصر في مواجهة الأشعرية، يتعامل بأسلوبها كي يتحرر منها، فيظل أسيرا لها دون خرق الحصار والخروج عن الطوق استنادا إلى الاعتزال القديم واعتمادا على تجارب العصر. وفي حركة إصلاحية أخرى قد يتم إثبات الصفات في مواجهة الأشعرية، وكأن الأشعرية نفي للصفات نظرا لأنها لا تقول بالتشبيه صراحة وتنفي الكيفية.
15
والحقيقة أنه لا يمكن إثبات السمع والبصر ثم نفي التشبيه ونقول سمع لا كسمع الآدميين وبصر لا كبصرهم، فتلك خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام وإحجام، نفي وإثبات، تنزيه وتشبيه، وسير في المكان، «محلك سر».
16
والواقع أن إثبات الصفات لا يعني بالضرورة الوقوع في التشبيه، بل يعني أن حالات الشعور ليست صفات تابعة لحركته، بل هي وحدات مستقلة موجودة بوجوده. فهي في نفس الوقت معنى ووجود. الصفات إذن ليست مجرد حالات ذاتية، بل هي صفات موضوعية. لا يوجد عالم بلا علم ولا قادر بلا قدرة.
17
هذا الإشكال كله ناتج عن طبيعة الصلة بين الذات والموضوع. فإذا كان نفي الصفات رجوع الذات إلى ذاتها، فإن إثبات الصفات رغبة مستمرة في التخارج وإيجاد موضوع فتشتق الذات موضوعا من ذاتها لا تثبته كموضوع في ذاتها وليس بالضرورة خارجا عنها. فالعالم يوجب العلم، والقادر يوجب القدرة، والحي يوجب الحياة، وهو ما يحدث في بناء الخطاب عندما تولد العبارة الإنشائية وجودا خبريا، وعندما يوجب التمني الواقع، وعندما تخلق الذات من نفسها موضوعا تخاطبه فتتوحد مع نفسها، وتصبح ذاتا وموضوعا، موجودا كاملا.
والحجج النقلية على إثبات الصفات كثيرة،
18
ولكنها في نفس الوقت معارضة بحجج نقلية أخرى لنفي الصفات. كما أنها توحي بالتشبيه مما يوجب تأويلها حرصا على التنزيه، وبالتالي يمكن قلبها فتصبح حججا مضادة لنفي الصفات. ويصبح إثبات الصفات مناقضا لظاهر النص وحكم الشرع، ويتحول إلى إثبات آلهة متعددة قديمة متغايرة ومتميزة عن الله. وما الداعي في التحديد إذن بسبع أو بسبع عشرة صفة؟ ما المانع من الزيادة إلى ما لا نهاية وإثبات الجلال والإكرام والجبروت والكبرياء، والحمد والقوة والحلم والكرم والعظمة والهبة واللطف والسع والشكر والود كصفات؟ صحيح أن الأشاعرة قد احتاطت وجعلتها أسماء ولكنها حددتها أيضا بتسع وتسعين، «له الأسماء الحسنى»، وكلمات الله لا تنتهي، وصفاته وأسماؤه لا حد لها.
19
أما الحجج العقلية فعديدة، منها ما يعتمد على البداهة ذاتها، فإذا ثبت العالم ثبت العلم، فلا عالم بلا علم. إثبات العالم إثبات للعلم بالضرورة، أما إثبات العالم ونفي العلم فتناقض، إذ لا معنى للعلم إلا كون العالم عالما بمعلومات على ما هو عليه.
20
وأحيانا يسمى الدليل التجريبي نظرا لاعتماده على قياس الغائب على الشاهد. ففي الشاهد العالم ذو العلم، والقادر ذو القدرة، والمريد ذو الإرادة. يتم إثبات الصفة إذن بمجرد إثبات الموصوف، وإثبات الفعل بمجرد إثبات الفاعل. والحقيقة أن الحجة ليست بديهية لأنها تعريف الشيء بما هو دونه في الخفاء والجلاء عندما يحيل الموصوف إلى الصفة. كما أن الله عالم لا تعني أن له علما بل تعني أنه محيط، أي تبقى الصفة على مستوى المعنى والدلالة دون تشخيصها، وتثبتها كجوهر. وإذا كانت الحجة تقوم على قياس الغائب على الشاهد، فما المانع من عزو الجوارح وآلات الحس في السمع والبصر وفي غيرها من الصفات، أي الأذن والعين واللسان واليد وجميع الأعضاء الحسية؟
وقد تأخذ الحجة طابعا جدليا، إما بوجود الإثبات أو استحالة النفي. فإثبات ونفي الصفات إما أن يرجعا إلى الذات أو إلى الصفات أو إلى الأحوال. ويستحيل الرجوع إلى الذات لأنها معقولة دون الاتصاف بالأحوال، فلزم أنها ترجع إلى الصفات.
21
والحقيقة أن ذلك إثبات حقائق مختلفة وخواص متباينة لذات واحدة دون ما مبرر. كما أنه تحصيل حاصل لأنه إثبات الصفات بالصفات. وإثبات الصفات بالذات أقرب إلى العقل. والذات واحدة لا ينتج عنها كثرة الصفات. وقد يقال أيضا إن إنكار إثبات صفات أزلية مثل إثبات موصوف بلا صفات. والحقيقة أن الموصوف فاعل وصفاته أفعال دون أن تتجوهر أو أن تستقل وإلا وقعنا في التعدد، تعدد الجواهر والمعاني المستقلة.
وهناك حجة أخرى صورية تقوم على دليل حدوث العالم واحتياجه من حيث إمكانه إلى مرجح لأحد أطراف الإمكان. والمرجح إما أن يكون بذاته ولذاته أو بذاته على صفة وراء الذات، ويستحيل الترجيح بالذات لأن ذلك لا يخصص فيجب أن يكون الترجيح بالصفة وهي التي سماها الشرع الإرادة أو القدرة. فإذا اشتمل الفعل على حكمة وجب كون الصانع عالما، والقدرة والعلم يستوجبان الحياة. فالصفة إذن هي مرجح الوجود على العدم وصلة الله بالعالم، أي أنها مرادفة للفعل. والحقيقة أن الصفة بهذا المعنى افتراض زائد لأن الآية تدل، والظاهرة تشير، دون ما حاجة إلى صفة متوسطة بين الله والعالم، وإلا كان الفكر الديني في الخلق معتمدا على التوسط كما هو الحال في المسيحية أو في غيرها من الديانات القديمة وترك الخلق المباشر وهو أهم ما يميز الدين الجديد.
وقد يستعمل دليل تجريبي صرف ويكون هو نفس الدليل السابق مقلوبا. فالتأمل في الكون ببدائع الصنائع وعجائب الخلق يؤدي إلى إثبات الصانع حكيما قادرا مريدا دون اللجوء إلى قياس الغائب على الشاهد. «فالغائب شاهد، والعقل، والبصر نافذ». ولا حاجة إلى الاستدلال في الضروريات. ويزيد الأشعري تأمل الإنسان في خلقه وأطواره، طورا بعد طور، وفي كمال الخلقة، أي تأصيل التأمل في النفس وفي الكون. والحقيقة أن هذا الدليل البصري الكوني يثبت الموصوف لا الصفة، والفاعل لا كيفية الفعل. وليست القضية إثبات الصفات، ولكن صلة الذات بالصفات، صلة زيادة أو تساوي، غيرية أم هوية. وليست القضية في الإثبات، ولكن في منع الاشتراك بين الصفات الإلهية والصفات الإنسانية. وقد تأخذ هذه الحجة صيغة أخرى وهو القول بأنه لو لم يكن متصفا بهذه الصفات لكان متصفا بما يقابلها، والله يتعالى ويتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا. فلو لم يكن الله عالما لكان جاهلا، ولو لم يكن قادرا لكان عاجزا، ولو لم يكن حيا لكان ميتا ... إلخ. والحقيقة أن العلم والجهل، القدرة والعجز، الحياة والموت ليسا من المتقابلين، أي ما لا يجتمعان على شيء واحد من جهة واحدة في اللفظ أو في المعنى تقابل السلب والإيجاب أو تقابل الصدق والكذب بل من المتضايفين مثل الأبوة والبنوة. ومنه تقابل الطرفين الضدين، أي الذين لا يفهم أحدهما بدون الآخر في علاقة نسبة أو إضافة، كما وضح في نظرية الوجود.
22
والأصل في التضايف هو أن يكون الطرفان حسيين، مثل الأب والابن أو الكبير والصغير. أما لو كان أحدهما حسيا والآخر عقليا، فإنه يقوم على قياس الغائب على الشاهد أولا ثم يقلب ثانيا. فلأن الإنسان جاهل يكون الله عالما، ولأن الإنسان عاجز يكون الله قادرا، ولأن الإنسان ميت يكون الله حيا ... إلخ.
23
فالعقيدة في حقيقة الأمر تنبع من المنطق وتنشأ منه، والمنطق ليس هو الجدل أو البرهان أي المنطق الصوري، بل هو المنطق الحسي والمنطق الشعوري.
والحجة الأكثر شيوعا هي حجة التغاير، تغاير الصفات. لو كان العلم والقدرة شيئا واحدا، والله يعلم نفسه ويقدر على نفسه، لما كان عالما ولا قادرا. وذلك لأن كل صفة لها تعلق معين، تتغاير الصفات فيما بينها لأن كلا منها لها تعلق متميز عن الآخر. ولا يرجع التمايز إلى اللفظ وحده، بل إلى المعنى. لثبات الصفات إذن معاني قائمة وليست أحوالا. وإذا كانت الصفات تثبت من أجل تغايرها، فإنها تنفى من أجل تماثلها. والعقل الصريح يعرف كون الشيء معلوما وكونه مقدورا، على الأقل عموم الأول وخصوص الثاني. صحيح أن العلم من حيث هو علم حقيقة واحدة وليس خاصية واحدة، وإنما تختلف العلوم باعتبار متعلقاتها وتتماثل باتحاد المتعلق. العلم يتبع المعلوم وجودا وعدما، وكذلك الكلام. ويستحيل إثبات ذات واحدة. لها خاصية العلم والقدرة والإرادة والكلام، أي اجتماع صفات وخواص لذات واحدة. يعلم الباري ذاته ويعلم ما يلزم بعلمين متمايزين. ولا خوف من التشبيه. فتعلق العلوم بالمعلوم ليس تعلق زمان ومكان. والحقيقة أن هذا كله افتراض تركيب وتعدد في الله. لا يقع التغاير إلا في المعلومات والمقدورات، ولكنه لا يقع في العلم أو القدرة. كما أن اختلاف وجوه الاعتبارات في شيء واحد لا يوجب تعدد الصفة، وأن تعددها لا يوجب تمايزها وثبوتها، ويمكن لوحدة الذات أن تضم تحققات فعلية لها دون أن تتكثر وتتعدد في معان أو جواهر أو حتى في أحوال. فإثبات الأحوال مثل إثبات الصفات، إلا أن الصفات موجودة والأحوال غير موجودة لأنها لا توصف بالوجود ولا بالعدم، ولكنها متمايزة فيما بينها، فالعالمية غير القادرية وإلا لزم من نفي أحدهما نفي الآخر. ومع ذلك فإن بعض الأشاعرة والفقهاء يرتضون حجة التغاير، وذلك لأن الصفات يمكن رد بعضها إلى البعض استنباطا، ثم ردها كلها إلى الذات. فالإرادة ترد إلى القدرة، والقدرة إلى العلم. الله مريد، وذلك يستتبع القدرة، والقدرة تستتبع الإرادة، والإرادة تقتضي العلم، والكل يقتضي الحياة. يلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما، فتلك مظاهر الحياة وإلا وصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد.
24
ويجوز في اللغة عن طريق المجاز أن يسمع الإنسان المبصرات ويبصر المسموعات، وكما هو معروف في الفن «العين تسمع والأذن ترى». وتتكلم اليد والعين. كما يستعمل الأعمى يديه للإبصار وللذوق وليس فقط للمس وكما يسمع الأصم بحركات اليد. السمع والبصر يعنيان العلم، كما يعني العلم السمع والبصر على ما هو مذكور في عديد من الآيات.
25
أما حكم الثاني فقد كان رد فعل على التجسيم والتشبيه حرصا على الذات، الوعي الخالص، وتنزيهها.
26
ولا فرق في النفي بين الأوصاف والصفات والأسماء. ولا يمنع نفي الصفات من استعمال بعض الصور الفنية للتعبير لإيصال المعاني في المواقف الإيمانية والوجدانية. وقد يصل النفي إلى حد إنكار كل صفات التشبيه بالإنسان، كلا أو بعضا، لا فرق في ذلك بين الثلاثي (العلم والقدرة والحياة) أو الرباعي (السمع والبصر والكلام والإرادة). كما وصل إلى حد نفي اسم الفاعل مع اسم الفعل، فالله ليس سميعا ولا قديرا ولا متكلما، وبالتالي تنفي المعاني وإن ثبتت الأسماء دون أن يكون له في حقيقة العلم والقدرة والسمع والبصر.
27
وإلى هذا الحد يتهم نافي الصفات بالزندقة والكفر كتهمة سياسية، كما يتهم بالتعطيل كتهمة فكرية مع أن النفي ليس تعطيلا، بل إبعاد للتشبيه دفاعا عن التنزيه، سواء كان التعطيل في الصفات أم التعطيل في النصوص بالتأويل.
28
ولا يرجع نفي الصفات إلى أية مؤثرات لفظية دخيلة، بل يخضع لضرورة عقلية داخلية دفاعا عن التوحيد العقلي في صورة التنزيه. ولا ضير أن تتبع حضارات أخرى لدوافع مماثلة ومختلفة لنفس الضرورة. فإذا كان التوحيد العقلي اليوناني أحد متطلبات العقل، فإن التوحيد العقلي الأصولي أحد متطلبات التنزيه. وهو عمل العقل في الوحي. والألفاظ مشاعة بين الجميع، خاصة بعد التقاء الحضارتين. ولم تعد مرتبطة بحضارتها الأصلية، ولو قبلت في الحضارات الأخرى لرفضت ونفدت مثل زيوس وبوزيدون وسائر آلهة اليونان. لقد عرضت الألفاظ على العقل أولا وقبلها العقل ثانيا، لأنها تساعد على التعبير عن التوحيد العقلي. وهذا لا يعني تقليدا أو تبعية، ولا يعني أثرا وتأثرا، بل تمثلا وامتدادا وتحضيرا.
29
إن اتهام كل موقف معارض بأنه من أثر خارجي هو تفريغ للإبداع الذاتي للمعارضة وأصالتها الفكرية. ولكل بيئة ثقافية استقلالها الفكري ومصادرها الخاصة. والتشابه الخارجي لا يعني بالضرورة التبعية الداخلية. وقد يرجع البعض الآخر نفي الصفات إلى مؤثرات داخلية من علوم الحكمة. وهذا أيضا غير صحيح، إذ يخضع نفي الصفات إلى مقتضيات عقلية خالصة، هي تلك التي تخضع لها علوم الحكمة وهي التي اقتضت من كلا العلمين وأصحابهما، المعتزلة والحكماء، إلى الانتهاء إلى نفس التوحيد العقلي. قد يوحي بذلك رد علم أصول الدين على علوم الحكمة في علم الكلام المتأخر واستعماله لغتها، ولكن الحقيقة أن الحكماء لا تنفي صفات التنزيه، ولكنها تنكر صفات التشبيه. فالحكماء يثبتون صفات العلم والقدرة والإرادة ... إلخ، ولكنها تكون عين الذات، وكلاهما في مقولة واجب الوجود.
30
ويبدو من تطابق التوحيد الفلسفي مع التوحيد الاعتزالي أن كليهما قائم على العقل ولا يعني بالضرورة تأثير الفلاسفة على المتكلمين.
وهناك عدة صياغات لحكم النفي طبقا لدوافعه. عندما يقال مثلا: حي عالم قادر لنفسه. والنفي هنا يأتي من الذات ورفضها للتعدد بالصفات. وقد يأتي النفي لكونه على حالة هي أخص صفاته، الحالة التي توجب له صفاته، والنفي هنا يأتي من إثبات الأحوال. فإن قيل: الباري عالم قادر حي لا لعلل ولا لنفسه، فالنفي هنا بلا دافع من الذات أو الحال أو العلة، وهو النفي الأولى أو النفي الأصلي. وفي هذه الحالة يظهر بصراحة، فيقال عالم لا بعلم، قادر لا بقدرة، حي لا بحياة، تأكيدا على النفي بحرف النفي، كما يؤكد الإثبات على الإثبات بحرف الجر في عالم بعلم، وقادر بقدرة، وحي بحياة. والعجيب أنه يمكن نفي الصفات عن طريق إثبات قدمها، فيقال مثلا: إن الله لم يزل عالما، وما دامت فقد شاركت الذات في الوصف وامحى التغاير. ولكن في هذه الحالة يخرج الأمر كله من مجرد إثبات الصفات أو نفيها إلى الوقوع في الشرك الصريح المتضمن في موقف الأشاعرة.
وهنا حجج نقلية كثيرة لنفي الصفات لا تظهر كثيرا عند مؤرخي أهل السنة كتمانا لها، وعلى رأسها:
ليس كمثله شيء
وغيرها من الآيات، مثل:
سبحان الله عما يصفون ، والتي ترد الذهن الإنساني إلى حدوده في استعمال اللغة ووصف الذات الخالص. ولكن الحجج العقلية ترد باستمرار للرد عليها بالرغم من قوتها وصلابتها، منها أن الصفات هي مجرد اختلاف وجوه الاعتبارات في شيء واحد لا يوجب تعدد الصفات، ومن ثم فهي موجودات ذهنية لا وجود لها في الواقع، في عالم الأذهان لا في عالم الأعيان. وقد تكون هناك حجة جدلية. فإما أن تكون الصفة الذات أو غير الذات. والأول نفي الصفات، والثاني إما حادثة أو قديمة. فلو كانت قديمة لشاركت الذات، وبالتالي تصبح آلهة، والاشتراك في العدم يوجب الاشتراك في الألوهية، فلم يبق إلا أن تكون حادثة وهي صيغة أخرى لنفي الصفات.
31
وقد تكون هناك حجة خطابية مؤداها أن إثبات الصفات يؤدي إلى الافتقار والحاجة في الذات، وهو ما يستحيل على الله. ولا يكفي القول بأن استغناء الله استغناء كمال وليس استغناء نقص أو حاجة؛ لأن ذلك مواجهة افتراض بافتراض، ويظل إثبات الصفات محاصرة للذات وإعجازا لها وكأن الوعي الخالص لا يستطيع أن يتخارج إلا بمعان مستقلة هي الصفات. ولكن أقوى الحجج هي دفع التشبيه دفاعا عن التنزيه. فلو كان له علم لتعلق بالمعلومات كما هو الحال في العلم الإنساني، وهو ما يرفضه الشعور بالتنزيه. لا يجب إذن إثبات علم قديم سابق على المعلومات، بل يجب نفي العلم على الإطلاق. نفي الصفات أكثر جذرية من إثباتها على أنها عين الذات أو إثباتها على أنها حادثة وكأن الحكم بأنها عين الذات أو بأنها حادثة يتضمن إثباتا لها في حين أن حكم النفي نفي أصلي من الأساس. إثبات العلم يؤدي لا محالة إلى إثبات العرض والحدوث والتكاثر وهو ما يرفضه أيضا الشعور بالتنزيه؛ لأن التنزيه يتطلب تجاوز ذلك وكل ما يطرأ على الحس. إثبات الصفات إذن نوع من التشبيه ويوقع لا محالة فيه بالرغم من الاحتراز بأنه لا يوجب تشابها لأن التماثل لا يكون بين الشيئين إلا إذا أناب الشيء محل الشيء. والحقيقة أن هذه الإنابة ليس شرطا في التماثل أو التشابه لأن البشر تجمعات مثل الحيوانات والحشرات:
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم
دون أن يكون البشر بديلا عن الطيور أو الحيوانات. فالتشابه هنا هو الذي أوجب عند البعض القياس. وحقيقة التماثل في الأجسام أو في الأعراض والله ليس كذلك.
32
وفي حقيقة الأمر أن أحكام الصفات الثلاث، الإثبات والنفي، والزيادة والمساواة (الغيرية والهوية)، والقدم والحدوث، إنما تتعلق بطريقي التشبيه والتنزيه. فإثبات الصفات زائدة على الذات وإثبات قدمها يؤدي لا محالة إلى التشبيه. هناك صفات زائدة خاصة بالرباعي: «السمع، والبصر، والكلام، والإرادة» وإثبات وقدمها يوقع في تناقض لأن الصفات الإنسانية لا تكون إلا حادثة. في حين أن نفي الصفات واعتبارها عين الذات ثم القول بحدوثها يؤدي لا محالة إلى التنزيه. إذ تبقى الذات وحدها قديمة خالصة، وتؤول الصفات كمعان للذات فالسمع والبصر والكلام للعلم إدراكا وتعبيرا، والإرادة للقدرة تحقيقا. ولا تثار مسألة الصلة بين قدم الذات وحدوث الصفات، والتوحيد بين الذات القديم والصفات الحادثة إذا كانت الصفات عين الذات. وكان من الطبيعي أنه بعد إثبات التنزيه في أوصاف الذات في الوعي الخالص، بل ونفي الماهية أو الذات أو النفس خوفا من التشخيص واعتبار الصفات مجرد أوصاف لعمليات الشعور بالتنزيه تؤكد التنزيه مرة أخرى في نفي أي استقلال فعلي لهذه الصفات عن الشعور خوفا من الوقوع في التشبيه أو التشخيص مرة أخرى.
وقد قدم الحكماء حججا أخرى. فواجب الوجود مستغن، وإثبات الصفات يجعله مفتقرا إلى غيره في حاجة إليه، وهي تشابه حجة الكمال عند المعتزلة. كما أن الوجود ينقسم إلى واجب بذاته وإلى ممكن بذاته واجب بغيره. الواجب بذاته واحد لا تركيب فيه، والممكن بذاته مستحيل؛ لأن الله واجب الوجود، والواجب بغيره مستحيل؛ لأنه ضد الواجب بذاته، وهي تشابه الحجة الجدلية عند المعتزلة. والتدبير في الذهن بالاعتبار العقلي وليس في الوجود، وبالتالي كانت الصفات في الأذهان لا في الأعيان، وهي مثل حجة المعتزلة الأولى. والمبدأ الأول يعقل ذاته ويعقل ما يلزم ذاته من حيث إنه مجرد عن المادة وهو علة المبدأ الثاني، ومن ثم لا يحتاج إلى صفات زائدة. ويعلم الكليات دون الجزئيات، عالم بذاته، ومن علمه تلزم كل الموجودات، لا يعقل شيئا من الأشياء، وبالتالي هو عالم بلا علم له متعلق، أي له معلوم.
33
ولما كانت الباطنية تعتمد في أصولها النظرية على الاعتزال وعلى علوم الحكمة، فقد شاركت في نفي الصفات. يدخل الله في صراع بين المتخاصمين، وبين الضدين بذاته دون ما حاجة إلى صفات أو أفعال تعبيرا عن الموقف السياسي والاجتماعي الذي نشأ فيه التشيع. فإذا كانت السلطة تستعمل الصفات ضد المعارضة، فالمعارضة تستعمل الذات ضد السلطة.
34
ليس المهم إيقاع الموقف الفكري في تناقض بل معرفة سببه ودوافعه وقصده من حيث التنزيه أو التشبيه، الوحدانية أو التعدد، الخالص أو الشائب، المثال أو الواقع وكيفية توظيف ذلك في الموقف الاجتماعي والسياسي الذي منه يصدر الموقف الفكري.
وقد تنفى الصفات ليس بناء على حجج كلامية أو فلسفية، بل لأن التسمية لم تأت عن الشرع. وصف الله نفسه بأنه سميع بصير، ولكنه لم يصف نفسه بأن له سمعا وبصرا. ولا تجوز تسمية الباري إلا شرعا بأسمائه وليس بصفاته. لفظ الصفة لفظ ليس شرعيا. والأسماء ليست اشتقاقية بل أخبر الله بها عن نفسه وسمى بها نفسه دون تشبيه أو تجسيم كما تفعل الأشاعرة والمجسمة أو تأويل كما تفعل المعتزلة.
35
وقد بدأ نفي الصفات مقالة شرعية، ثم تحولت تحت أثر علوم الحكمة إلى موقف فلسفي خالص يرد الصفات كلها إلى صفتي العلم والقدرة ثم اعتبارهما صفين ذاتيتين أو اعتبارين أو حالتين أو ردهما إلى صفة واحدة هي العلم.
36
وللنفي عدة أساليب ترجع إلى قسمة الاسم إلى فعل وفاعل ومفعول، وهي أطراف القسمة الثلاثية المعروفة عند أهل اللغة: اسم الفعل واسم الفاعل واسم المفعول. الصفة اسم الفعل كالعلم، والموصوف اسم الفاعل كالعالم، وموضوع الصفة اسم المفعول كالمعلوم. وهي القسمة التي استعملها الحكماء من قبل للتعبير عن التنزيه بالتوحيد بين الأطراف الثلاثة: فالله علم وعالم ومعلوم، عشق وعاشق ومعشوق، عقل وعاقل ومعقول ... إلخ. وباستعمال هذه القسمة يمكن القول بأن نفي الصفات أخذ طريقين: الأول التوحيد بين اسم الفعل واسم الفاعل. وفي هذه الحالة تنفى الصفات عن طريق إلحاقها بذات الباري وعدم التفرقة أساسا بين الذات والصفات. حينئذ تكون القدرة هي القادر، والعلم هو العالم، والحياة هي الحي، والإرادة هي المريد. ولنفي أي موضوع للفاعل قد يتحول اسم الفاعل إلى «فعيل» أو «فعال»، وبالتالي لا يكون سامعا فقط، بل سميعا ولا فاعلا فقط، بل فعالا.
37
والثاني التوحيد بين اسم الفاعل واسم المفعول، وفي هذه الحالة أيضا تنفى الصفات بتحويل الصفة إلى متعلق الصفة فيكون العلم هو المعلوم، والقدرة هي المقدور، والإرادة هي المراد.
38
أما إثبات الصفات ثم نفيها فتحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، مثل الله عالم وعلمه ذاته، علم الله لم يزل وهو الله، علم الله هو الله، وبالتالي يثبت قدم الصفات ومساواتها للذات، وهو تناقض في النسق العام لأحكام الصفات.
39 (3) الزيادة والمساواة (الغيرية والهوية)
وهو الحكم الثاني في موضوع الصفات بعد حكم الإثبات والنفي، وأحيانا يكون الحكم الأول. هل الصفات زائدة على الذات أم أنها عين الذات؟ هل علاقة الصفات تتحدد بالزيادة أم بالمساواة؟ هل العلاقة علاقة غيرية. الصفات غير الذات، أم هوية، الصفات هو الذات؟ الهدف من ذلك الحرص على وحدة الذات، وبساطتها في مقابل تعددها وتركيبها. والحقيقة أن كل المسلمين يتبنون الصفات، ولكن الخلاف هل الصفات زائدة على الذات أم أنها عين الذات؟ فالزيادة والمساواة، الحكم الثاني، فرع لإثبات الصفات ونفيها، الحكم الأول. وقد ظهرت هذه الصياغة لأول مرة في القرن الخامس بعد أن كانت متضمنة كموضوع أو مسألة قبل ذلك، وقبل أن تتحول إلى حكم نظري عام.
40
وإثبات الصفات زائدة على الذات يضحي بالتنزيه من أجل التشبيه في حين أن إثبات الصفات مساوية للذات يضحي بالتشبيه في سبيل التنزيه. الأول يحرص على الفاعلية في العالم في حين أن الثاني يحرص على التوحيد العقلي ذاته ورفض كل تركيب في الشعور بالتنزيه؛ لأن الفصل بين الذات والصفات مع أنه قائم على تنزيه الذات عن جميع صفات التشبيه إلا أنه يخاطر بشبهة التركيب.
41
وقد يهتز النسق العقائدي في أحكام الصفات من النفي والمساواة والحدوث في مقابل الإثبات والزيادة والقدم إلى إثبات صفات زائدة على الذات ومع ذلك تكون حادثة.
42
ويمكن إثبات قدم الصفات والتوقف في مغايرتها للذات أو في توحدها مع الذات، فالحلان غير مرضيين. فيتم رفضهما معا وإلغاء المشكلة وهو أقرب إلى التوقف مما يدل على القصد إلى العودة إلى العالم، واكتشاف الاغتراب دون التحول عنه، واكتشاف الزيف دون التوجه الفعلي إلى الشرعي.
43
ويغيب النسق العقلي للأحكام الثلاثة نظرا لأنها كلها تمرينات عقلية وليست استدلالات أو أحكاما منطقية، تعبر عن توتر قطبي الشعور بين التشبيه والتنزيه. فإثبات الزيادة ينتج عنه إثبات الحدوث خشية الوقوع في الشرك مع أن النسق هو إثبات الزيادة مع القدم. وأحيانا يكون إثبات قدم الصفات أولى من إثبات علاقة الزيادة أو المساواة فيلغى الحكم الثاني من الأساس. وأحيانا يثبت قدم الصفات دون الزيادة إيثارا للوحدة على التعدد، ودفعا لشبهة كثرة القدماء وتعدد الآلهة. وبالرغم من إثبات الصفات وإثبات قدمها فإنه يمكن إثبات وحدتها مع الذات ووحدتها مع نفسها محافظة على الوحدة في الألوهية، وبالتالي يثبت قدم الصفات دون مغايرتها للذات.
44
وأحيانا يتم وضع كل ذلك في إطار المجاز باستعمال التأويل أي العودة إلى نشأة المسألة في الشعور واكتشاف دلالاتها الإنسانية ووجوهها الاعتبارية، وأن ذلك كله ليس على الحقيقة بل على محض التصوير.
45
ويختار العلم كصفة مفضلة لإثباته زائدا على الذات حتى لا يتكرر الإثبات لجميع الصفات، فهو أولى الصفات، وما ينسحب عليها ينسحب عليها كلها. كما أن العلم هو الأصل والشروط وباقي الصفات مؤسسة عليه ومشروطة به.
46
ولكن بالرغم من إثبات أن العالم يعلم بعلم واحد، قائم بذاته، قديم أزلي، متعلق بجميع التعلقات وإثبات القدرة كصفة زائدة تبدو بعض الصعوبات في تعميم ما يقال على العلم عن باقي الصفات. فإذا كان الله عالما فكيف يكون مريدا لنفسه؟
47
والحجج النقلية لإثبات الصفات زائدة على الذات ممثلة في العلم كثيرة. ولكن الحجج النقلية لإثبات الصفات مساوية للذات أيضا كثيرة، ويمكن قلب حجج الزيادة إلى حجج مساواة عن طريق التأويل.
48
كما أن الموضوع لم يأت من استنباط معان من النصوص بل يعبر عن مقتضى التوحيد، أي أنه مطلب ذهني خالص لا يثبت إلا بالحجج العقلية، خاصة وأن النقل ظن والعقل يقين كما بان ذلك من نظرية العلم.
الحجج العقلية إذن ضرورية لإثبات الصفات، العلم أو القدرة لأن براهين إثبات الصانع تثبت فقط أنه موجود قديم في مقابل العالم الحادث، وذلك في حد ذاته يدل على أن العلم والقدرة صفات زائدة على الذات. فكما أنه لا يوجد آمر بلا أمر أو مريد بلا إرادة، فكذلك لا يوجد علم بلا عالم. دلالة الفاعل على الفعل إذن أمران: الأول لو انتفت الصفة لانتفى الموصوف، والثاني لو انتفت الصفة لكان نفس العلم هو العالم. العالم في حاجة إلى تعليل بالعلم، فكل ذات له موضوع، وكل شعور هو شعور بشيء، والعلم المتعلق بالمعلوم غير العالم. ما دام العلم هو نسبة، والعلوم وهي المسماة بالشعور والعلم والإدراك، فهو أمر زائد أو صفة حقيقية تقتضي هذه النسبة أو توجب حالة أخرى هي العالمية التي توجب تلك النسبة والتي يسميها المتكلمون التعلق. وبصرف النظر عن درجات وجود العلم، حال، نسبة، تعلق، فإنها زائدة على الذات، ومن هنا تأتي الحاجة إلى الدليل لإثبات الصفات. ولما كان العلم نسبة مخصوصة وكذلك القدرة وسائر الصفات، في حين أن الذات موجود قائم بالنفس وليس نسبة، وجب التمايز والتغاير بين الذات والصفات. لو كانت الصفات عين الذات لما أمكن حملها على ذاته في علاقة موضوع بمحمول، وكان قول الله واجب بمثابة حمل الشيء على نفسه. وقياسا للغائب على الشاهد، فإن العلة والحد والشرط لا تختلف غائبا أم شاهدا. والفرق بين الذات والذات عالمة، هو الفرق بين التصور والتصديق وذلك يوجب التغاير بين الذات والصفات. ما يفهم من عالم أن له علما. والعاقل يعقل ذاته ويعقل حالته ووصفه بعد ذلك. هناك موصوف وصفه. ولكن نظرا لتركيز اللغة استغنينا عن الصفة واكتفينا بالموصوف اختصارا. وقد تأخذ الحجة صيغة جدلية، فإما أن يكون عالما بنفسه أو يعلم ويستحيل أن يكون هو نفسه. فإن كان عالما بنفسه كانت نفسه علما، ويستحيل أن يكون العلم عالما والعالم علما. فالصفات إذن زائدة على الذات. وتستعمل نفس الحجة بالنسبة للقدرة والحياة والسمع والبصر وباقي الصفات.
49
والحقيقة أن إثبات الصفات بناء على أنه لا موصوف بلا صفة تشبيه إنساني خالص وفرض مقولة إنسانية على الشعور بالتنزيه، إن لم يكن وقوعا مباشرا في التشبيه الحسي. علاقة الصفة بالموصوف علاقة الدليل بالمدلول على مستوى العقل الخالص.
لا يكفي فقط إثبات الصفات، ولكن لا بد أيضا من إثبات تغايرها فيما بينها وتمايزها عن الذات. فما يفهم من كل صفة غير ما يفهم من الصفة الأخرى. وتغاير الصفات دليل على وجودها، وكون كل اسم يفيد معنى غير الاسم الآخر دليل على وجود مسميات متغايرة. ولو كان العلم نفس القدرة لكان كل معلوم مقدورا، وهذا مستحيل لأن الواجب والممتنع معلومات وغير مقدورة. ولو كان العلم والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة في حين أن المفهومين مختلفان.
50
كما تثبت الصفات لأن مظاهرها موجودة في الأفعال، والأفعال تحدث في العالم، فكيف يوجد فعل علم في العالم بلا علم؟ وكيف يوجد فعل قدرة في العالم بلا قدرة؟ العلم علة العالم، والقدرة علة القادر، والحياة علة الحي، فصلة اسم الفاعل باسم الفعل هي صلة المعلول بالعلة.
51
والحقيقة أن خطورة إثبات الصفات تختلف باختلاف كل صفة وأخطرها القدرة والإرادة؛ لأنها تتعلق بالمقدورات والمرادات وبالتالي تمثل خطورة على حرية الأفعال. فإثبات القدرة والإرادة الشاملتين يوجبان أساسا قدرة الإنسان وإرادته على خلق الأفعال وحرية الاختيار. وإذا ثبتت صفة تثبت بالضرورة باقي الصفات. فما دام الكلام ثابتا، وهو الوحي المقروء المسموع، فلم لا يثبت العلم أو القدرة أو الحياة؟ وهنا يبدو الدليل صاعدا من الحسي إلى العقلي كما يفترض أن الكلام حسي وليس صفة عقلية كباقي الصفات، وبالتالي فهو محدث مخلوق وهو ليس موقف الأشاعرة مثبتي الصفات.
52
كما أن إثبات الصفات ضرورة لإثبات الأسماء، إذ إن نفي الصفات يؤدي إلى نفي الأسماء. فالأسماء أحد تعينات الذات كالصفات على نحو أبرح وأشمل وأكثر اتساعا وانتشارا.
53
وإثبات الصفات ضرورة من ضرورات الشرائع، فالشريعة تدل على علم كما يدل الكلام عليه. والحقيقة أن الشريعة نظام واقعي وضعي ولا تعني بالضرورة الإشارة إلى صفة للذات المشخصة. أساسها في الواقع، وهدفها إقامة مصالح الناس بصرف النظر عن مصدرها ودلالتها على وجوب ذات مشخصة أو على إثبات صفاتها.
54
وتدخل حجة القدم في إثبات الصفات عن طريق إثبات العلم بالأشياء قبل كونها. والحقيقة أن ذلك إحالة للصفات السبع إلى الأوصاف الستة وقياس العلم على القدم وتظل مسألة باقية. فإذا كان القدم عين الذات كان العلم كذلك.
55
وأخيرا يقتضي الكمال إثبات الصفات، فالذات بلا صفات نقص.
56
والحقيقة أن هذا تشبيه إنساني خالص، فالوعي الخالص وعي كامل لأنه وعي نظري مستقل، وحدانيته لا تعدد فيها، بل إن إثبات الصفات هو الذي يجعل الذات ناقصة في حاجة إلى إكمال بالصفات.
أما حكم المساواة أو الهوية، مساواة الصفات للذات أو هوية الذات مع نفسها، فهو في الحقيقة إحدى طرق نفي الصفات. فالتوحيد بين الذات والصفات أعلى درجة من درجات التوحيد بإثبات الوعي الخالص دون أي شائبة أخرى توحي بالاشتراك وبإثبات العلم المستقل دون أية شبهة أخرى للتشخيص. وبالتالي يصبح الباري مجموعة من المبادئ العامة والقيم المطلقة كرد فعل على تشخيص الذات وتشبيهها دون أن يكون هناك كائن مشخص وراءها. وقد شارك الحكماء والمعتزلة في نفي الصفات. فالكلام عندهم مجرد أصوات يسمعها النبي لا وجود لها في الخارج في اليقظة أو في النوم أو رؤى يراها ما إذا أضيفت في نفسه. ولا شأن للكلام بذات الله أي الكلام القديم الذي يتحدث عنه الأشاعرة. الكلام ظاهرة نبوية وليس إلهية.
57
وقد ينفي بعض الصفات ويثبت البعض الآخر. فينفي العلم مثلا كصفة زائدة على الذات وتثبت الإرادة دون محل ويثبت الكلام في محل.
58
قد يكون عالما بنفسه ولكنه لا يكون قادرا بنفسه. العلم غير القدرة. فإثبات القدرة إثبات للفاعلية في العالم بالرغم من خطورة اصطدامها بحرية الإنسان وخلق الأفعال. وقد يثبت الكلام زائدا على الذات نظرا لأنه جسم حسي، كلام مكتوب ومقروء وليس صفة معنوية تتعلق بالذات. فإذا كان الله مريدا لذاته قادرا لذاته، فإن أفعاله ستكون منعكسة على ذاته، وبالتالي تفسح المجال إلى أفعال الإنسان في العالم وحرية الاختيار. وهذا لا يعني وقوع تناقض في الأفعال أو تعلق الإرادة بمرادين مختلفين، وذلك لأن الإرادة صفة ذات وليست صفة فعل. إن إثبات الإرادة وليس نفيها هو الذي يضحي بحرية الأفعال. فالإرادة شاملة بشمول الذات، شمولها نظري وليس عمليا حتى يمكن للإنسان أن يحقق إرادته في العالم.
59
وهناك حجج نقلية أيضا لإثبات أن الصفات عين الذات. والحقيقة أن الدافع على اختيارها وقراءتها هو دافع عقلي خالص. فالعقل هنا هو الذي اختار النقل وقرأه. هذا بالإضافة إلى إمكانية اختيار نقل آخر معارض أو تأويل النقل الأول تأويلا مضادا بدافع آخر إن لم يكن عقليا فإنه يكون سياسيا. والآيات كلها تتحدث عن «السميع» و«البصير» وليس عن السمع والبصر، أي أن الصفات للذات دون أن تكون زائدة عليها.
60
أما الحجج العقلية فإنها تعتمد على نفي الشرك والتعدد والتغاير في الذات. لو كان له علم قديم لكان مشاركا للذات في القدم وذلك يقتضي تماثلهما، وألا يكون أحدهما أولى بالذات أو الصفات من الآخر، فيلزم القول بقدماء متعددة وإثبات القدماء كفر مثل النصارى. القديم ذات واحدة، ولا يجوز إثبات ذوات قديمة متعددة، والدليل على ذلك كونه عالما قادرا حيا وليس على علم وقدرة وحياة. الله بجميع صفاته واحد، وجميع صفاته قديم غير محدث. وإثباتا لعدم التغاير امتنع مثبتو الصفات أيضا عن تسميتها مغايرة للذات. فالمتغايران موجودان يفارق أحدهما الآخر، أي جسمان. سؤال التغاير في الله لا محل له، فالله واحد بجميع صفاته. الصفات غير قائمة بذاتها بل بالذات. ويشارك الفقهاء المعتزلة والحكماء في الدفاع عن التوحيد وإثبات الوحدانية ورفض التعددية والشرك دون ما خوف من الأشعرية، فهي ليست مذهبا قدسيا يستعصى على النقد.
61
كما أن إثبات الصفات زائدة على الذات يوجب أن يكون علم الله مماثلا لعلمنا. فإما أن يكون علمه محدثا كعلمنا أو يكون علمنا قديما كعلمه. لو كان عالما بعلم لوجبت المماثلة، والمماثلة إما قدوم أو حدوث. لو كان عالما بعلم لتعلق علمه وعلمنا بشيء واحد، فيلزم التماثل حدوثا وقدما، وبالتالي لزم تحيز العلم وتحيز العالم في جسم متحيز.
62
ويؤدي ذلك إلى نفي القدرة. فالقدرة مشتركة في الشاهد فيعدم صلاحيتها لخلق الأجسام. والحكم المشترك يجب تعليله بالعلة المشتركة، ولا مشترك سوى كونها قدرة، فلو كان لله قدرة لم تصلح لخلق الأجسام، قياسا للغائب على الشاهد. ولما كانت الصفات واجبة فإنها تستغني في وجوبها عن العلة. العالمية واجبة والوجوب يستغني عن العلة. العالمية والقادرية واجبة لا تحتاج إلى الغير. وأخيرا تصاغ بعض الحجج الجدلية اعتمادا على القسمة، فلو كان عالما بعلم فإما أن يكون عالما بعلم واحد أو بعلوم منحصرة أو بعلوم لا نهاية لها. ولما كان ما لا يتناهى محال، وكان الانحصار نقصا يكون العلم واحدا لا يتعلق بغيره. العالم بما لا نهاية يلزم علوما غير متناهية، والعلم بعلم يلزم التسلسل، ولو كان ذات علم لكان فوقه عليم:
وفوق كل ذي علم عليم . أو يقال مثلا لو كان عالما بعلم لكان لا يخلو إما أن يكون معلوما أو لا يكون، فإن لم يكن معلوما لم يجز إثباته وإن كان معلوما إما أن يكون موجودا أو معدوما. ولا يجوز أن يكون معدوما. وإن كان موجودا فإما أن يكون قديما أو محدثا، وكلاهما باطل. فلم يبق إذن إلا أنه عالم لذاته. وبعبارة أخرى إما أن يكون العلم غيره أو لا، فإن كان غيره فهو محدث أو قديم، وكلاهما فاسد. أما الفلاسفة فقد استعملوا حجة الكمال. فلو كانت له صفة لافتقرت إلى الذات وتكون ممكنة في حاجة إلى مؤثر هو الذات والقابل فتكون الذات قابلا وفاعلا، علة ومعلولا، وهو محال. وفي هذه الحالة ينقسم الله إلى واجب الذات وممكن الصفات.
63
والجمع بين الزيادة والمساواة، أي بين الغيرية والهوية، مثل أن يقال عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذات، مثل إثبات الصفات ثم نفيها، تحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام وإحجام مثل جسم لا كالأجسام أو شيء لا كالأشياء تعبر عن توتر الشعور بين قطبي التشبيه والتنزيه.
64
والحقيقة أن هذا الحكم بالزيادة والمساواة، بالغيرية والهوية، يقوم على طبيعة الذهن وتعريفه للأشياء عن طريق إثبات هويتها أو اختلافها مع بعضها البعض، وهي قسمة تعادل الإثبات والنفي. فالمساواة نفي أن يكون الشيء هو غيره، والزيادة إثبات أن الشيء هو غيره. ومع ذلك، فإن وضع التأليه في هذه القسمة الذهنية ينال منه بصرف النظر عن الحل المختار، فالزيادة أو المساواة نظرة كمية للذات الإلهية أي للوعي الخالص في حين أن التنزيه يقتضي تصورها على أنها كيفية محضة. التنزيه كيف والتشبيه كم. وهما يفترضان التركيب والقسمة في الذات، في حين أن التنزيه يقتضي بساطتها. ويكون إثبات المساواة أقرب إلى التنزيه لأنها إثبات للبساطة. كما يفترضان الكثرة والتعدد في الذات في حين أن التنزيه يقتضي الوحدة. كيف يكون للذات صفات، ثلاثا أم أربعا أم سبعا أم تسعا وتسعين أم عددا لا نهائيا من الصفات وهي ذات واحدة؟ ولكن بغية التقريب، يكون إثبات المساواة أقرب إلى التنزيه نفيا للكثرة وإثباتا للوحدة، وتكون الزيادة أقرب إلى التشبيه إثباتا للكثرة ونفيا للوحدة.
ومع ذلك فقد تنبه القدماء والمحدثون معا إلى خروج هذه الأحكام عن أصل الوحي وأنها تفريعات إضافية، أو تمرينات عقلية إنسانية صرفة.
65
فإذا كان العقل عند القدماء قاصرا عن الغوص في هذه الأسرار فإن تحليل التجارب الإنسانية يستطيع الكشف عن أساسها في الشعور وبنيتها في الذهن. إذ ترجع مشكلة الذات والصفات إلى قسمة الذهن الأشياء إلى جوهر وعرض. فكما أن الجوهر حامل للأعراض تكون الذات حاملة للصفات. وقسمة الأشياء إلى جوهر وعرض قسمة ذهنية يسقطها التصور مرة في الإلهيات، ومرة في الطبيعيات، ومرة في الإنسانيات، في الأفعال.
66
الصفات إذن مجرد أسماء عبر الشعور الناطق عن عملية التنزيه وعن حالاته دون أن يشير بها إلى أي مضمون شعوري أو إلى أي وجود واقعي. فكل الصفات هي في الحقيقة أسماء أو ألفاظ صاغها الشعور للتعبير بها عن عملياته. هي أقوال أو عبارات تدل على موقف ذاتي خالص تعبر عن أماني وعواطف إنسانية دون أن تشير إلى شيء في الواقع.
67
لكن نظرا لشدة العواطف وصفاء التنزيه تخلق الكلمة الشيء، وتتحول الذاتية إلى موضوعية تحولا ذاتيا افتراضيا خالصا وليس تحولا حقيقيا بالفعل. والحقيقة أن مشكلة الذات والصفات (والأفعال) لا يمكن حلها إلا بالرجوع إلى مصدر المشكلة في الحياة الإنسانية على مستوى التجربة الشعورية لا على مستوى الافتراض بالخيال. فالقسمة إلى ذات وصفات لا تصف شيئا في الواقع، بل تعبر عن قسمة إنسانية خالصة موجودة في الحياة الإنسانية، ثم استعملها المتكلم كوسيلة للتعبير عن عواطف التأليه. ولما كان الذهن الإنساني في الحكم يقوم على الهوية والاختلاف، أصبح السؤال: هل الصفات عين الذات أم زائدة على الذات؟ وبصرف النظر عما يتضمن اختيار أحد الحلين بالنسبة إلى التنزيه والتشبيه أو بالنسبة إلى الحرية والجبر أو بالنسبة إلى استقلال الطبيعة أو تبعيتها، فإن بناء المشكلة ذاته بناء إنساني أسقطه الإنسان إلى أعلى كي يسمح له بالتعبير عن عواطف التأليه. ففي علم الشخصية هناك ما يسمى بالشخصية وسماتها. الشخصية هي الحامل المعنوي لسماتها، أو هي افتراض إنساني خالص يسمح بتجميع عديد من السمات والأفعال عليه كالنواة في الذرة التي تدور حولها الكهربات أو كلب الزهرة الذي تدور حوله الأوراق، علاقة المركز بالمحيط. وفي علم الأخلاق في تراث معاصر لنا خرجت مذاهب أخلاقية تقوم على الذات أو الشخص كقيمة مستقلة بذاتها بصرف النظر عن صفاتها وأفعالها. فالإنسان من حيث هو إنسان قيمة في ذاته والصفات زائدة عليها . وكيف يمكن تقييم الكل بالجزء؟ وفي تجربة الحب الإنساني تظهر مسألة الذات والصفات. هل يقوم الحب بناء على اعتبار الذات وحدها بصرف النظر عما للحبيب من صفات وأفعال، أم أن الحبيب هو مجموعة من الصفات والأفعال لأجلها صار حبيبا، فإذا ما تغيرت تغير الحب؟ الحب القائم على الذات بصرف النظر عن الصفات والأفعال حب مجرد منزه، يعتبر الصفات والأفعال زائدة على الذات، في حين أن حب الصفات والأفعال قائم على التوحيد بين الذات والصفات وعدم افتراض ذات وراء الصفات أو اعتبار صفات زائدة على الذات. وفي موقف الخصام يسهل الفصل بين الحبيبين في حالة حب الصفات والأفعال. ما دامت الصفات والأفعال قد تغيرت فإن الحب يتغير أو ينتهي. في حين أنه في حالة حب الذات المستقلة عن صفاتها وأفعالها لا يمكن الفصل بين الحبيبين لأن حب الذات مستقل عن الصفات والأفعال. ومهما تغيرت الصفات والأفعال يبقى الحب، حب مجرد منزه، حب للذات الخالدة. وفي القانون الجنائي يقوم الحكم بالإعدام على افتراض أن الذات مساوية للصفات والأفعال. فإذا كانت الصفات والأفعال خارجة على القانون، فإنه يقضي على الذات بإعدامها لأنه لا توجد ذات وراء الصفات والأفعال. ويقوم نفي الإعدام على افتراض أن الصفات والأفعال زائدة على الذات، وأنه مهما بلغت الصفات والأفعال من خروج على القانون إلا أنه لا يمكن القضاء على الذات لأن الذات قيمة مطلقة لا يمكن مساواتها أو معادلتها بما هو أقل منها، أي صفاتها وأفعالها. والتوحيد بين الذات والصفات وإنكار وجود صفات وأفعال زائدة على الذات يقوم على العدل دون الرحمة. ففي مواقف الحب أو العقاب معاملة الحبيب أو المذنب على أن ذاته مساوية لصفاته وأفعاله معاملة تقوم على العدل دون الرحمة. لذلك يحب الحبيب أو يخاصم ويعاقب المذنب. في حين أن الفصل بين الذات والصفات وإثبات ذات وراء الصفات والأفعال يقوم على الرحمة دون العدل. ففي مواقف الحب أو العقاب مهما تغيرت صفات الحبيب لدرجة الصفات المضادة، فإنه لا يمكن أن يهجر؛ لأن له ذاتا مستقلة . ومهما بلغت صفات المذنب وأفعاله من استهجان، فإنه لا يمكن أن يعدم لأن له ذاتا مستقلة. ويقوم تصور العدل والرحمة في الآخرة أيضا على هذا الأساس. فالعدل يقوم على اعتبار أن الذات هي عين الصفات، ومن ثم يتم تقييم الذات حسب صفاتها وأفعالها، في حين أن الرحمة تقوم على أن الذات مستقلة عن الصفات والأفعال، وأنه بالرغم مما قد يكون للذات من صفات وما تأتي به من أفعال فإنه لا يمكن تقييمها بها، وإصدار الحكم عليها.
68 (4) هل الصفة حال أو علة؟
وإثبات الأحوال هو أحد الحلول المتوسطة بين إثبات الصفات ونفيها. فالعلمية حال وليست صفة.
69
ويظهر الحال لأول مرة لحل مسألة إثبات الصفات أو نفيها على أنها أول قاعدة في إثبات الصفات وفي نفس الوقت أحد أسس نفي الصفات! والأحوال ليست أقرب إلى حكم الإثبات منها إلى حكم النفي لأن الحال وسط بين الوجود والعدم. فأصحاب الإثبات يجرون الحال نحو الإثبات، أصحاب النفي يجرونه نحو النفي.
70
والقول به ليس أثرا من النصارى بل يخضع لضرورة داخلية صرفة للاختيار بين أحكام الصفات وإيثار اعتبارها أحوالا، فلا هي ذاتية خالصة ولا هي موضوعية خالصة، بل إحالة متبادلة بين الذات والموضوع.
71
الصفات مجرد حالات شعورية يعبر عنها باسم الفاعل أكثر من كونها وجودا موضوعيا يعبر عنه باسم الفعل. الحال وسط بين الذات والصفة، بين العالم والعلم هناك العالمية، وبين القادر والقدرة هناك القادرية، وبين الحي والحياة هناك الحيية. ومع ذلك يكون الحال أقرب إلى اسم الفاعل منه إلى اسم الفعل، وأقرب إلى الذات منه إلى الموضوع. لا يتجاوز اسم الفاعل إلى إثبات موصوف مشخص أو ذات تكون حاملا له. فإذا لم تكن الصفات مساوية للذات كما هو الحال في نفي الصفات أو في خلقها، وإذا لم تكن زائدة على الذات كما هو الحال في إثبات الصفات أو قدمها، فإنها تكون أحوالا. الحال وسط بين نفي الصفة وإثباتها. الحال ليس هو الذات لأنه حال الذات، ولا هو الصلة لأنه غير مستقل عن الذات وحال لها. الحال مقولة إنسانية خالصة تعبر عن حال الشعور وتكشف عن أصل المسألة فيه. الحال إجابة عن سؤال إنساني صرف: هل العالم قد فارق الجاهل بما علم لنفسه أو لعلة؟ ولما كانت المفارقة ليست لنفسه مع كونها من جنس واحد كما بطل أن تكون المفارقة لا لنفسه ولا لعلة، فإنها تكون لكونه عالما لمعنى ما، والمعنى صفة أو حال. ومن ثم يكون الحال هو أساس المعنى والصفة. يظهر الحال إذن في ثلاثة مواضع: الأول الموصوف الذي يكون موصوفا لنفسه، فاستحق ذلك الوصف لحال كان عليها، والثاني الموصوف بالشيء لمعنى صار مختصا بذلك المعنى لحال، والثالث ما يستحقه لا لنفسه ولا لمعنى فيختص بذلك الوصف دون غيره عنده لحال. فعند اختصاص الشيء للموصوف لا لنفسه لأنه يوجب اختصاصه لجميع العلوم ولا لمعنى والمعنى لمعنى إلى ما لا نهاية ولا لنفسه ولا لمعنى لأنه ليس أولى من غيره يكون اختصاصه لحال.
72
ويستعمل لفظ «الأحوال» دون «الحالات» لأن الأحوال وسط بين الذات والصفات، لا هي نفي لصفات زائدة على الذات، ولا هي إثبات لصفات زائدة على الذات، في حين أن الحالات مجرد أحوال للنفس، أي حالات شعورية لا تفترض ذاتا كمشجب تعلق عليها نفسها. وقد ظهر الحال من قبل كوسط بين الوجود والعدم في نظرية الوجود في المقدمات النظرية. فالحال صفة غير موجودة ولا معدومة كالأجناس والفصول. وإذا كانت هذه القسمة ترجع إلى عاطفة دينية متطهرة، فإن الحال يكون هو المرجع لها. الوجود والعدم كل منهما حال، أي صفة أو حالة شعورية، ليس الوجود فقط هو الوجود الشيئي، بل هو حالة وجود. فالوجود إيجاد، وعملية وجود، والعدم إعدام أو عملية إعدام، وهنا تنتقل نظرية الوجود إلى تحليلات الشعور.
73
ويصعب تعريف الحال تعريفا منطقيا صرفا. ولكن يمكن وصفه بأنه ليس شيئا، ولا يوصف بصفة ما، لا موجودا ولا معدوما، لا يعلم على حاله، ولكن يعلم مع الذات، يوجد حيث توجد صفات الحياة لا صفات الأكوان، فالحال شرط الحياة. ويمكن ضبطه عن طريق القيمة، فمنه ما يعلل ومنه ما لا يعلل، الأول أحكام لمعاني قائمة بالذوات والثاني صفات ليست أحكاما لمعاني لا تعلم بانفرادها ولا تعلم إلا مع الذات. الحال إذن نوع من إثبات حالة خاصة لا هي علم ولا معلوم، لا مجهول ولا معلوم، لا مقدور ولا مراد، حالة شعورية خالصة قبل أن تتحول إلى موضوع وبعد أن تعين الوعي الخالص في إحدى درجاته الأولى.
74
وهو أقرب إلى البداهة إذا فهم على أنه حالة شعورية يتحد فيها الذات والموضوع. فالعلم حالة شعورية للعالم لا هو شخص العالم ولا هو صفة زائدة عليه، وبالتالي يكون الخلاف حول إثبات الأحوال أو نفيها مجرد وهم عقلي.
75
ومع ذلك فقد استعمل كفريق من مثبتي الأحوال ونفاتها حججا عقلية منطقية أو جدلية إما للإثبات أو للنفي. يقوم النفي على عدة حجج منها: أن الأحوال غير معلومة؛ لأن المعلوم شيء والأحوال ليست أشياء. وكيف يمكن معرفة الحال وهو غير معلوم؟ والحقيقة أن الحال إن لم يكن معلوما عقلا ومنطقيا، فإن صاحب الحال يشعر به، فالشعور أحد درجات المعرفة قبل أن يتم تنظيرها عقلا. بل إن الشعور يمتاز بأنه يبقى على الموضوع مع رؤية ماهيته، في حين أن العلم قد يقضي على الموضوع في سبيل التصور. ويقال أيضا إن الأحوال ليست متغايرة لأن التغاير بين الأشياء. فهي ليست معاني ولا مسميات مضبوطة ولا محدودة متميزة عن بعضها البعض، وبالتالي فهي عدم. ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية أو اصطلاحية وهي ليست كذلك. الأشياء تختلف وتتماثل لذواتها، أما أسماء الأجناس والأنواع فيرجع عمومها إلى الألفاظ المدلة عليها وكذلك خصوصها والأحوال ليست كذلك. خطأ نفاة الأحوال إذن هو رد العموم والخصوص إلى الألفاظ المجردة، أو الحكم بأن الموجودات تختلف بذواتها ووجودها، وكذلك رد التمييز بين الأنواع إلى الذوات. الاختلاف والاتفاق بين الذوات لا يشترك في شيء مثل الصفة، بل الشيء هو اللفظ الدال على الجنسية والنوعية والعموم، فإذا كانت الأحوال إما مختلفة أو متماثلة فإنها تتسلسل إلى ما لا نهاية لأنها ليست أشياء. وعند الحكم بجواز تماثل المختلفين يلزم كون الرب مماثلا للخلق وهو محال. والحقيقة أن ذلك خلط بين الكم والكيف. فالأحوال كيفيات وليست كميات، والألفاظ مجرد تعبير عنها ولا تشير بالضرورة إلى مسميات. وهي فردية وليست شيئية، وبالتالي لا يمكن معرفة اتفاقها واختلافها إلا بالتعاطف مع الآخرين أو في تجارب جماعية مشتركة. ويقال أيضا إن الأحوال موجودة أو معدومة، قديمة أو محدثة، والوجود ليس بحال. فالحال إما أن يكون موجودا أم لا. فإذا كان موجودا إما أن يكون جوهرا أو عرضا فيتسلسل فوجب أن يكون غير موجود أو عدم ولا واسطة بين الوجود والعدم. والحقيقة أن الحجة تقوم على موقف فلسفي مسبق، وهو رفض الواسطة بين الوجود والعدم، بين النفي والإثبات، في حين أن الحال هو هذه الواسطة، وقد تم حل القضية من قبل في نظرية الوجود. وقد يقال إن الأحوال لا هي ولا غيره، والصفات لا هي ولا غيره، وبالتالي لا يتميز وجودها بشيء. والحقيقة أن الأحوال هي الصلة بين الذات والصفة، بين الأنا والغير، بين الذات والموضوع. الحال هي علاقة الهوية في حالة الحركة الذاتية والتخلق الذاتي. وقد تفند الأحوال برفض العلم النفسي، إذ إن الأحوال عمومات وخصوصات ووجوه عقلية واعتبارات. والحقيقة أن العلم النفسي هو أصل العلم العقلي والعلم الحسي. ففي الشعور يلتقي الذات بالموضوع، والمعرفة بالوجود. وإن نفي الحال لضرورة التمايز بين الأشياء بذواتها يستحيل بعده قياس الغائب على الشاهد، وهو أساس الاستدلال في الفكر الديني، ولا يكفي في ذلك مجرد الاعتماد على الوجوه والاعتبارات العقلية مثل العلة والمعلول والدليل والمدلول؛ لأنها كلها استدلالات صورية لا تعتمد على الحس. وإذا لم يكن هناك فاعل في الحقيقة بل مجرد مكتسب فكيف يمكن قياس الغائب على الشاهد؟ والاعتماد على الإحساس الداخلي هو في النهاية إثبات للحال. ولا يمكن في النهاية فهم الحجج العقلية التي تقوم على القسمة وحصر الاحتمالات وإبطالها جميعا باستثناء المطلوب إثباته إلا بالرجوع إلى التجربة الحسية التي منها نشأت، وهو أيضا طريق لإثبات الحال.
76
أما إثبات الحال فيقوم على حجج مقابلة كلها عقلية لما كانت الحجج النقلية متشابهة ظنية متضادة، يسهل قلبها إلى حجج مضادة.
77
فالحال حالة نفسية للذات وليس صفة مستقلة عنها، العلم حالة علم، والقدرة حالة قدرة، والحياة حالة حياة. هناك إذن أحوال ثلاثة: العالمية، والقادرية، والحيية. ثم حالة رابعة أوجبت هذه الأحوال الثلاثة وهي الألوهية.
78
والأدلة على ثبوته عديدة منها أن من علم بوجود الجوهر ولم يحط علما بتحيزه ثم استبان تحيزه فقد استجد علما متعلقا بمعلوم ويسوغ تقدير العلم بالوجود دون العلم بالتحيز، فإذا تغاير العلمان بطل أن يكون العلم الثاني هو العلم الأول، فالثاني إحاطة بما لم يحط به الأول. ونظرا لاختلاف العلمين يكون الثاني حالا. وقد يعلم العالم كونه عالما قبل أن ينظر في الأعراض، وهذا العلم حال. الحال إذن حال العلم أو العلم بالعلم أو الوعي بالعلم. نعقل الذات ثم نعقل حركتها، وهذا العقل الثاني هو الحال. فلا يمكن إثبات الصفات دون إثبات الحال؛ لأن الحال هو طريق العلم بالصفات. يفضي إنكار الأحوال إلى إنكار القول بالحدود والبراهين وألا يتوصل أحد من معلوم إلى مجهول، ولا سيما الصفات، إذ منشأ القول بها ليس إلا قياس الغائب على الشاهد. كما أن اختلاف مفاهيم عالم وقادر توج بالتغاير، وبالتالي توجب ثبوت الحال، فحال العالمية غير حال القادرية، وهو نفس دليل إثبات الصفة، ولكن إثبات الحال به أولى. لما كانت الذوات مختلفة تتفق في شيء وتختلف في شيء، فإن حال كل منهما غير حال الآخر، وبالتالي فإن غيرية الذوات تثبت غيرية الأحوال. من يعلم الجوهر قد يجهل التحيز مع العلم بالوجود، وهما علمان متغايران. وإذا علم الإنسان شيئين مختلفين، فالاختلاف ليس راجعا إلى الوجود بل إلى الحال. وقد يأتي إثبات الحال من جانب الموضوع باعتباره حالة شعور. فإذا استحالت قدرة لا مقدر لها وعلم لا معلوم له يثبت الحال لأنه موطن ظهور الموضوع وانكشافه فيه. ولا يمكن نفي الحال وإثبات العلة. ولما لم يصر أحد من المحققين على إبطال المعلل ثبت الحال.
79
لا يعني إثبات الحال أن يصبح الوجود قديما حادثا جوهرا وعرضا، في آن واحد لا تمايز فيه ولا اختلاف، بل يعني أن الوجود حال انتقال من طرف إلى آخر، أي أن الوجود حركة وصيرورة. لا يعني إثبات الحال إيهام شيء واحد في شيئين مختلفين أو شيئين مختلفين في شيء واحد، ولا يعني اتحاد المتكثرات المختلفات في شيء واحد ومتبدل الأجناس من غير تبدل في الوجود كتبدل الصورة في الهيولى عند الحكماء، بل يعني التعبير عن وحدة الصفة والموصوف أو الذات والموضوع في الحال بدلا من هذه الثنائية المصطنعة المفترضة التي تقسم الشيء الواحد إلى طرفين متعارضين، لا التقاء بينهما ولا مصالحة، يستبعد كل منهما الآخر ويزيد عليه. ليس الخطأ في إثبات الحال إلى اعتبار الوجود حال ونفي الوجود وجودا لأن الوجود علية تحقق حال وجود وليس واقعة وجود. فإذا ما تحقق حال الوجود في عملية الإيجاد فإنه يصبح وجودا متحققا في النهاية قد يرتد إلى حال وجود إن لم تتم المحافظة عليه كوجود دائم ومستمر من خلال نشاط الإنسان وفعله. ليس الخطأ في إثبات الحال هو إثبات صفات متحيزة وصفات مشتركة في آن واحد؛ لأن الحال بطبيعته يفرد ويشارك، يميز ويوحد، يفارق ويشابه. ولا يعني إثبات الحال إنكار أثر الفاعل إرادة وقدرة؛ لأن الحال هو وجود الموضوع في الذات كحالة أولى للنظر قبل أن تتحقق الحالة الثانية في العمل. فالتحقيق تجربة وليس مجرد تنفيذ آلي لأمر خارجي أو إرادة قاهرة.
80
الحال إذن تجربة إنسانية، توتر بين الوجود والعدم، يعبر عن عملية الإيجاد والتحقق. هو اعتبار إنساني يتحول من التجربة إلى التصور، ومن الوجود إلى الذهن، ولا شأن له بالإلهيات إلا عن طريق قياس الغائب على الشاهد كاستدلال واع أو عن طريق الإسقاط، إسقاط الشاهد على الغائب في فعل لا شعوري رغبة في الإمساك بشيء.
81
ويرتبط موضوع الحال بموضوع العلة من عدة أوجه. فكما أن الحال وسط بين إثبات الصفات ونفيها، فكذلك العلة يعتمد عليها مثبتو الصفات لإثباتها كما يعتمد عليها نافو الصفات لنفيها. وبهذا المعنى يكون مبحث العلة فرعا لمبحث الحال، فالأحوال تنقسم إلى معللة بصفة وإلى غير معللة، فالعلل أحد قسمي الأحوال. العلة حال معلل، والحال المعلل صفة موجودة كالعالمية المعللة بالعلم وغير المعلل كلونية السواد. وليس كل من قال بالعلة يقول بالحال، في حين أن كل من قال بالحال يقول بالعلة؛ لأن نفي الحال يؤدي إلى إبطال العلل والحقائق جميعا، ولكن قد ينفى التعليل كأساس لإثبات الصفات، فواجب الوجود لا يعلل ولا يفتقر إلى تعليل.
82
وقد ظهر مبحث العلل من قبل في المقدمات النظرية في نظرية الوجود ابتداء من القرن الخامس بالاعتماد على مادة الأصوليين والحكماء. والحقيقة أن العلة أحد وسائل أربعة لإصدار حكم على الصفات بالإثبات، وهي العلة والشرط والدليل والحد أو الحقيقة، وكلها تقوم على قياس الغائب على الشاهد. فإذا ثبت كون حكم معلولا بعلة شاهدا وقامت الدلالة عليه لزم القضاء بارتباط العلة والمعلول شاهدا وغائبا. فإذا ما طبق ذلك في علاقة الذات بالصفات فقد يدل ذلك على الاحتياج والافتقار أو على الحتمية والجبر في تصور علاقة العلة بالمعلول، وهو محال على الله. وإذا تبين الحكم مشروطا بشرط شاهدا ثم يثبت مثل هذا الحكم غائبا فيجب القضاء بكونه مشروطا بذلك الشرط اعتبارا بالشاهد مثل لو كان العالم عالما مشروطا بكونه حيا. فلما تقرر ذلك شاهدا اطرد غائبا. وهذا أيضا تحكيم لعلاقة الشرط بالمشروط في علاقة الذات بالصفات. وإذا دل على مدلول عقلا لم يوجد الدليل غير دال شاهدا وغائبا، وهذا كدلالة الأحداث على المحدث. فالدليل هو الجامع للعلة والمعلول والشرط والمشروط، أي أنه عمل العقل في وصوله إلى المعاني. وهو ليس مجرد قضية لفظية، بل يتجاوز اللفظ إلى المعنى. كما أنه لا يرجع إلى التقرير الوهمي، بل إلى عمل العقل. أما الحد أو الحقيقة فمهما تقررت حقيقة شاهدا في محقق اطردت في مثله غائبا، وذلك نحو الحكم بأن حقيقة العالم من قام بالعلم. ويرجع الخلاف من جديد إلى اعتبار قول الحاد مبينا عن الصفة المشتركة على ما هو الحال في إثبات الأحوال إما بالحد اللفظي أو بالحد الرسمي أو بالحد الحقيقي أو إلى اعتبار حد الشيء وحقيقته وذاته وعينه عبارات تعبر عن شيء واحد كما هو الحال في نفي الأحوال. وعلى هذا النحو يكون منطق الصفات منطقا إنسانيا خالصا، وبالتالي يمكن رد الإلهيات إلى الإنسانيات ورد الإنسانيات إلى المنطق. وقد كان المنطق في علوم الحكمة مقدمة للطبيعيات والإلهيات.
83 (5) القدم والحدوث
وهو الحكم الثالث من أحكام الصفات بعد حكمي النفي والإثبات والهوية والغيرية. واتباعا للنسق العام يؤدي إثبات الصفات إلى القول بهويتها على الذات وإلى القول بحدوثها. وفي بعض الأحيان يظهر نفي الصفات في مقابل القدم وليس في مقابل الإثبات، أي أن أطراف النسق قد تتبادل فيما بينها لأنها تؤدي نفس الوظيفة. الطرف الأول يهدف إلى التشبيه والثاني إلى التنزيه، وتوتر الشعور بين هذين القطبين. ونظرا لأهمية الموضوع فإنه يظهر في المقدمات، في التسبيحات والبسملات، كما يدخل في دليل الحدوث وإثبات قدم الصانع ضد الحكماء الذين يثبتون قدم العالم، فالقدم صفة الله عند المتكلمين وصفة للعالم عند الحكماء. كما يدخل في أول وصف للذات وهو القدم، ويكون بذلك أول دليل على حكم القدم.
84
والحقيقة أن الحجج لإثبات قدم الصفات كلها عقلية؛ وذلك لأن النقل ظني متشابه مضاد بنقلي آخر ويسهل تحويله إلى نقل مضاد. والحجج العقلية ثلاث: الأولى مستمدة من قدم الذات طبقا لدليل الحدوث. ما دامت الذات قديمة فصفاتها قديمة. هذه الصفات قائمة بذات الله في الأزل وإلا لكان محلا للحوادث، وهذا ممتنع، أو كان يتصف بصفة لا تقوم به وهو محال. يستحيل أن يكون الله محلا للحوادث لأن كل حادث جائز الوجود والقديم الأزلي واجب الوجود. ولو قدر حدوث حادث بذاته لكان إما أن يرتقي الوهم إلى حادث يستحيل قبله حادث، وهو محال، وإما استحالة ذلك لأنه واجب الوجود. ولو قدر حدوث حادث بذاته فإما أن يتصف بضده وكان قديما استحال بطلانه زواله، وإن كان حادثا كان قبله حادث وتسلسل إلى ما لا نهاية وهو محال، وإما لا يتصف بضد وبالتالي يكون قديما. وبصيغة أخرى، المحدث لا بد له من محدث، ومن ثم أن يكون قديما، ويمكن القول كذلك في جميع الصفات.
85
والحجة الثانية تعتمد على التضاد. فإن لم يكن قديما في الأزل كان عاجزا، إذ لا بد من قدم القدرة حتى لا يوصف بالعجز، ثم تعميم صفة القدرة على سائر الصفات. وقد يبدأ الدليل بإثبات قدم العلم حتى تنتفي صفة الجهل ثم تعميم صفة العلم على باقي الصفات.
86
والحقيقة أنها حاجة إقناعية إحراجية تلجأ إلى الحساسية الدينية ودفع التناقض والنفور إلى أبعد مداه وافتراض اللامعقول أن يكون الله جاهلا عاجزا ميتا حتى يقول الإنسان: سبحان الله، ما شاء الله، فهي حجة خطابية لا برهانية. وقد يكون إثبات القدم متضمنا في إثبات الكمال، القدم كمال والحدوث نقص. خلو الذات من الصفات القديمة ثم حدوثها أحد مظاهر النقص. وتتفاوت أهمية الصفات كتمرين لإثبات قدمها. فليس هناك صفة نموذج كما كان الحال في العلم في حكم النفي والإثبات أو في حكم الهوية والغيرية. فمرة يكون التمرين على العلم، ومرة على القدرة، ومرة على الكلام، ومرة على الإرادة. ولا يحدث تمرين على الحياة أو السمع أو البصر. يطبق القدم إذن على الصفات الأكثر اقترابا من التنزيه مثل العلم والقدرة دون الحياة والأبعد عن شبهة التشبيه مثل السمع والبصر. وقد تثبت هذه الصفات الأربع مرة واحدة أو ثلاث منها فقط أو اثنتان قبل أن يثبت كل منها على حدة، فيثبت مثلا قدم الكلام والإرادة والعلم. فالعلم صفة في الأزل واحدة ويحال إليها السمع والبصر. والإرادة بغير حدوث في محل وإلا تسلسلت إلى ما لا نهاية. وفعل «كن» ليس صوتا حادثا لاستحالة قيام الحادث بالذات. وكيف يحدث العالم من حادث كن؟ ولو كانت كن حادثة لكانت عاجزة من أن تخلق من عدم أو أن توجد كائنا موجودا من قبل. والكلام مرتبط بصفة الإرادة في حقيقة الأمر، وهو كلام النفس أو المعنى وليس الصوت أو الحرف. يأتي العلم في المرتبة الأولى لأن إثبات العلم أولى من إثبات القدرة، فقدم العالم يمنع من حدوثه بعد الخلق. العالم قبل الخلق كان معلوما، ومن ثم قدم العالم أولى. القول بقدم الصفات إذن قائم على تصور العلم على أنه ضروري، سابق في وجوده على الموضوع. العلم السابق على وجود الأشياء. العلم بالأشياء قبل وجودها ممكن. لذلك كانت المعرفة سابقة على الوجود. وقد يقال بقدم الصفات دون التأثر كثيرا بالربط الضروري بين العلم والمعلوم وبضرورة أسبقية المعلوم على العلم وتبعية العلم للمعلوم كما هو الحال في خلق الصفات، وذلك اعتمادا على شيئين: الأول أن المعلومات معلومات قبل وجودها، والثاني أن الأشياء أشياء قبل كونها، فالعلم مدفوعا إلى حد الإطلاق لا يرتبط بالمعلوم. وهذه هي المعرفة الاستنباطية، أي الجدل النازل من المبدأ إلى الواقع، من الفكر إلى العالم، من الذهن إلى الطبيعة، من العقل إلى الحس، والأشياء أشياء قبل كونها لأنها موجودة في العلم وإن لم تكن موجودة في الواقع. الوجود في الذهن نوع من الوجود كالوجود في العين. الوجود الضمني نوع من الوجود كالوجود الفعلي. وجود الممكن مثل وجود الواقع.
87
ولا يتم التركيز على القدرة والكلام قدر التركيز على العلم. فالقدرة متضمنة في الإرادة، والكلام سيظهر في موضوع «خلق القرآن».
88
والدليل على قدم الكلام والإرادة ناتج عن أنه مالك الملك، والملك من له الأمر والنهي. الأمر لا يحدث في ذاته، فلا بد أن يكون أمرا قديما كما يستحيل أن يحدثه في محل. ويمكن تفصيل الحجة على نحو منطقي برهاني استدلالي. فلو كانت الإرادة حادثة لما أمكن إحداثها إلا بإرادة أخرى، فيلزم التسلسل إلى ما لا نهاية. لو كانت حادثة لوجب أن تتعلق بمراد واحد، فذلك صفة الإرادة الحادثة ومرادات الله لا نهايات لها. وإذا كانت الإرادة الحادثة لا في محل فإن إيجابها لله ليس بأولى من إيجابها لغيرها. كما أن حدوث صفة حادثة في ذات الله محال؛ لأنه يوجب التغير.
89
وكما يقع التمييز في إثبات الصفات بين العلم والقدرة والكلام والإرادة من ناحية، وبين الحياة والسمع والبصر من ناحية أخرى، فإن تمييزا آخر يقع بين صفات المعاني وصفات الأفعال بالنسبة للقدم. فإذا كانت صفات المعاني مثل الصفات السبع قديمة، فإن صفات الأفعال نظرا لتأثيرها في العالم واتصالها بالحوادث قد تكون حادثة أو مخلوقة، وذلك مثل العزة والرحمة والأمر، وقد تكون قديمة طبقا لدرجة الصفة بين المعنى والفعل خاصة إذا كانت الحجج النقلية بها هذا الاشتباه بين القدم والحدوث.
90
ويكون السؤال: وأي من صفات الفعل تكون قديمة، وأيها تكون مخلوقة؟ ما هو مقياس الحكم؟ لماذا تكون العزة قديمة ويكون الأمر مخلوقا؟ وكيف يمكن ضبط درجة الصفة بين المعنى والعقل؟ وهل تكفي الحجة النقلية وحدها، وهي ظنية، في أن تكون دليلا على موضوع قطعي؟ وهل يمكن إحصاء صفات الأفعال مثل التخليق والترزيق والإنعام والإحسان والرحمة والمغفرة والهداية؟ وما الفرق بين صفات الأفعال والأسماء؟ الأسماء المشتقة من الصفات قديمة وهي أسماء الأفعال، مثل: الرازق والخالق والمعز والمذل، وهي على أربعة أنواع. ما يدل على ذاته وهو أزلي، ما يدل على الذات مع زيادة سلب كالقديم والباقي والواحد والغني، وهو أيضا أزلي، ما يدل على الوجود صفة زائدة من صفات المعنى كالحي والقادر والمتكلم والمريد والسميع والبصير والعالم، وما يرجع إلى هذه الصفات السبع كالآمر والناهي والخبير ونظائره، فهو أيضا أزلي، وما يدل على الوجود وإضافة إلى فعل كالجواد والرزاق والخالق والمعز والمذل وأمثاله، وهو مختلف عليها بين القدم والحدوث لأنها لا تكون قبل الخلق. والعجيب أنه لم يقل أحد مع قدم الصفات ببقاء الصفات. فقد يكون معنى قدم الصفات بقاءها في المستقبل وليس فقط قدمها في الماضي، وأن القدم يتضمن البقاء ضرورة.
91
أما حكم الحدوث أو الخلق فإنه يعتمد على عديد من الحجج النقلية والعقلية. والحجج النقلية في حقيقة الأمر بالإضافة إلى أنها ظنية متشابهة تنقلب إلى الضد ولها حجج نقلية مضادة، إلا أنها نظرا لارتباطها بموضوع الحرية الإنسانية وهي يقين فإن صحة السمع تقاس على صحة العقل، ويرد ظن النقل إلى يقين العقل.
92
ومع ذلك فهناك أدلة نقلية عديدة تثبت حدوث الصفات وخلقها، وتجعل الذات متفردة بالوعي الخالص الذي لا شبهة فيه ولا شائبة. وتفيد هذه الحجج على أن علم الله، وهي الصفة النموذجية في إثبات الحكم أو نفيه، علم تجريبي بعدي، يتحقق في العالم، ويتغير طبقا لقدرات الإنسان، ويقاس عليها، وهو ما اتضح في «الناسخ والمنسوخ» في أصول الفقه.
93
وقد تحول ذلك إلى حجة عقلية لإثبات حدوث العلم. فما دام يتعلق بالمعلومات، والمعلومات حادث، فالعلم حادث. وقد يكون الدافع على ذلك الحرص على التنزيه، تنزيه الذات من تشبيه الصفات. فإذا كان التنزيه حالة شعورية خالصة لا تعبر عن أي مضمون ثابت في الشعور أو موضوع في العالم الخارجي، فإن كل علم بهذا العالم الخارجي يكون علما بعديا لا قبليا، ومن ثم يكون علم الشعور بها علما بعديا كذلك. وبالمثل يمكن القول بأنه كان هناك شعور عام وهو صورة مطلقة للشعور الفردي، كان ولا شيء معه، فلما حدث الخلق علم به وأظهر قدرته فيه، وبالتالي تكون الصفة أي اسم الفعل تابعة للأشياء لا سابقة عليها. ولما كانت الأشياء مخلوقة فالصفات تابعة للأشياء المخلوقة وتكون مخلوقة مثلها أي حادثة. العلم لا يكون إلا علما بشيء، والقدرة لا تكون إلا قدرة بشيء، ولا بد من وجود الأشياء قبل وجود العلم والقدرة، ومن ثم كان العلم والقدرة حادثين بعد وجود الأشياء. إذ كيف يكون العلم قديما والمعلوم حادثا؟ العلم لا يكون قبليا بل هو علم بعدي خالص. الله عالم بأن العالم قد وجد قبل هذا وهو في الأزل أن عالما به كان جهلا وإن لم يكن عالما كان جهلا وإن لم يكن عالما وكان الآن عالما فعلمه حادث.
94
ولكن يصعب الجمع بين العلم السابق على كون الأشياء والعلم الحادث بعدها، أو إثبات العلم الحادث مع نفي المحل مما يدل على بحث الشعور عن علم استنباطي استقرائي، قبلي وبعدي، وهو علم الوحي أو مبغى الإنسان. إنما تكمن أهمية العلم الحادث في كشفه عن طبيعة العلم البعدي التجريبي، وتقدمه وتجدده باستمرار دونما وقوف أو ثبات مما يوقع في القطعية والتحجر. فتجدد العلم هو أحد معاني تقدم العلم. كان الدافع على القول بخلق الصفات هو تصور العلم على أنه مكتسب تال في وجوده على الموضوع، وهو العلم الاستقرائي الذي يبدأ من الأشياء إلى العقل، ومن الخارج إلى الداخل، ومن العالم إلى الذهن من خلال الحس، وهو الجدل الصاعد في المعرفة. والعلم بالاتصال أكثر دراية من العلم بالانفصال. التماس وسيلة العلم أكثر من التجريد، ويصبح النور حينئذ لغة العلم ووسيلته، فيعلم المعبود ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب إلى الأرض كما يحدث أحيانا في أفلام الأبطال وفي التعبير عن معرفة الجن والشياطين. يعلم المعبود بالاتصال بالأشياء بالشعاع النافذ. والشعاع كالنور مماس وغير مماس، ابتعادا عن التجسيم الفاقع.
95
وقد يتحول حدوث الصفات وخلقها في التجسيم إلى حدوث الذات وخلقها، أو قد يكون حدوث الصفات نتيجة طبيعية لحدوث الذات. أما القول بأن الله هو الذي خلق الصفات لنفسها بعد خلق الكائنات فيمكن وضعه على حساب التشخيص.
96
ويثبت حدوث القدرة والحياة بالتبعية مع العلم كما يثبت حدوث السمع والبصر أيضا بالتبعية مع العلم. ولكن يثبت حدوث الكلام والإرادة، كل على حدة، خاصة الإرادة، نظرا لأن الكلام سيأتي موضوعه في خلق القرآن. ومع ذلك يثبت حدوث الكلام نظرا لأن به إخبارا عما مضى.
97
ويتحدث عن أشياء وأشخاص لم تخلق بعد. وبه أمر ونهي من غير مأمور ومنهي حتى صار آمرا ناهيا بعد أن لم يكن. فالكلام إذن حادث حتى يمكن الحفاظ على الذات من أن تكون محلا للحوادث ومشجبا تعلق عليه جميع العواطف والانفعالات الإنسانية. الكلام إذن هو كلامنا المسموع المقروء المدون المحفوظ ولا شأن له بذات الله لا أنه من عنده، مرسل إلينا منه. وهنا يبدو أن الدافع على القول بخلق الصفات هو حماية الذات من كل تشبيه، حرصا على التنزيه، أي رفض كل شبهة تشابه بين صفات التنزيه وصفات التشبيه. ولما كانت الصفات واحدة، وضعت على حساب التشبيه، وأصبحت حادثة، ثم نفيت حرصا على التنزيه .
98
وقد يتعدى حدوث الصفات إلى حدوث الذات، فيصبح الله محلا للحوادث ليس فقط في صفاته بل في ذاته.
أما الدافع على إثبات خلق الإرادة، فهو الدفاع عن الحرية الإنسانية. فلو كانت إرادة الله قديمة لتعلقت بجميع المرادات قبل خلقها، وبالتالي ينتفي خلق الإنسان لأفعاله ولاختياره الحر. لو كانت الإرادة قديمة لكان المراد معها، فكيف يتأخر المراد عن الإرادة؟ لا بد من حدوث إرادة في غير محل أو حدوثها في ذاته، وكلاهما محال. أما فعل «كن» فإنه مجرد، صوت حادث، لا يعبر عن أي إرادة قديمة. خطورة إثبات قدم الإرادة أو القدرة هو اصطدامها بخلق الأفعال وحرية الإرادة. حتى لو قيل بقدم العلم والكلام، فإنه لا يمكن القول إلا بحدوث القدرة والإرادة نظرا لتعلقهما بأفعال الإنسان. لو كانت الإرادة قديمة لتعلقت بالمرادات على العموم دون الاختصاص، ولأدى ذلك إلى اجتماع الضدين وإلى هدم حرية الأفعال والاختيار الإنساني الحر؛ لأن الإرادة الإلهية تظل قديمة أقوى من إرادة الإنسان الحادثة الكسبية. كما أن الإرادة القديمة هي المسيطرة على الإرادة الحادثة، وبالتالي تسيطر الإلهية على فعل الإنسان وكسبه.
99
لو كانت الإرادة أزلية لكان الخير والشر مرادين، فيكون المريد موصوفا بالخيرية والشرية والعدل والظلم، وذلك قبيح في حق القديم، وذلك لأن مريد الخير خير ومريد الشر شر. إن أقصى ما يمكن عمله هو تصور الإرادة لا في محل. وجعلها صفة فعل إذا كانت القدرة صفة ذات.
100
وقد تجمع الصفات الثلاث، العلم والقدرة والإرادة، في حجة واحدة. فالعلم يتعلق بالواجب والممكن والمستحيل، والقدرة لا تتعلق إلا بالممكن، والإرادة لا تتعلق إلا بالمتجدد من الممكنات. فالعلم هو الأعم، والقدرة أقل عموما، والإرادة خاصة. ولا تتعلق القدرة فقط بحدوث العالم، بل بالقدرة على الشرور والمعاصي والكفر، أي أنها مرتبطة بالحسن والقبح وبحرية أفعال الشعور الداخلية والخارجية. ويمكن تعميم حدوث الصفات حتى على صفات الأفعال. ويكفي نفي قدم الصفات حتى يثبت حدوثها ويكون الحدوث حينئذ أقرب إلى الصيرورة منه إلى الخلق وفي اللحظة.
101
ولكن الحجة الحاسمة في نفي قدم الصفات كلها بلا استثناء هو استحالة وجود قديمين أو أكثر، ذات قديمة وصفات قديمة. فالقول بقدم الصفات يستتبع القول بقدم الكائنات، وهذا مستحيل لأن الكائنات مخلوقة.
102
يستحيل الاشتراك بين الذات والصفات في القدم، فالذات تنفرد بالقدم في حين تقع المماثلة بالصفة، والاشتراك في صفة يوجب الاشتراك في سائر الصفات. يستحيل القول بقدم الصفات لأن إثبات القدم ثم قدم العلم إثبات لإلهين، وهو وقوع صريح في الشرك.
103
إن القول بحدوث الصفات ناتج عن الحرص على الوحدانية والخوف من القول بتعدد القدماء كما تقول الفلاسفة في النفس والعقل والزمان والمكان والروح.
104
فلو قدر قديمان لامتنعا نظرا لدلالة التمانع. فإثبات حدوث الصفات يرجع إلى دليل التمانع القائم على استحالة مقدور واحد لقدرتين متساويتين أو مختلفتين، وهي دلالة مبنية على أن القديم قديم بنفسه، وأن الاشتراك في صفة يوجب التماثل، وأن من حق كل قادرين وقوع التمانع بينهما، وأن من حق القادر على شيء أن يحصل إذا توافرت الدواعي، وأن من لم يحصل مراده يكون ممنوعا ويكون متناهي المقدور، وأن متناهي المقدور يكون قادرا بقدرة، وأن القادر بقدرة لا بد أن يكون جسما، وأن خالق العالم لا يجوز أن يكون جسما!
والحقيقة أن القدم والحدوث نزوعان للذات وقصدان لها. قد يكون الدافع على القول بقدم الصفات أن القدم طبقا للشعور الإنساني أكبر قيمة من الحدوث، فالقديم أكثر كمالا وشرفا من الحادث، والسابق أعظم رتبة من اللاحق، والأول أسبق درجة من الثاني. وفي التجارب الإنسانية هناك الخمر العتيق، والجبن القديم، والحب السابق على رؤية الحبيب، والعهد القديم. فالقول بقدم الصفات ليس حكما عقليا على موضوع في الخارج، بل يعبر عن عاطفة إنسانية خالصة قائمة على التنزيه. والتنزيه أساسا يعني وضع الشعور على مستوى الشرف وإصدار أحكام بالنسبة إلى سلم القيم. أما الحدوث أو الخلق فإنه يعبر أيضا عن مطلب إنساني. فالجديد أفضل من القديم، والحاضر أكثر حضورا من الماضي، والخلق أفضل من التبعية، والإبداع أفضل من التقليد. إذا كان القديم قصدا نحو الله فإن الجديد قصدا نحو الإنسان. والشعور توتر بين القصدين. آثرت السلطة القديم وآثرت المعارضة الجديد، فالقديم خير دعامة لتثبيت السلطة القائمة لامتداده في الزمان وجذوره في التاريخ والجديد خير وسيلة لإثبات المعارضة بدلا من الرتابة والخمول والتسليم للأمر الواقع.
105 (6) هل الصفة تحول وصيرورة؟
لا ريب أن التعارض في أحكام الصفات كلها أفعال وردود أفعال، ثم حلول متوسطة تجمع بين الطرفين المتناقضين. فهي مواقف تاريخية أكثر منها تعبيرا عن موضوعات مستقلة على الأقل من حيث التحقق في التاريخ وليس من حيث البنية التي تظهر أيضا من خلال التاريخ كما يظهر التاريخ من خلالها. يمثل المعتزلة الفلاسفة طرفا في مقابل أهل السنة والأشاعرة، الصفات عين الذات في مقابل الصفات زائدة على الذات، نفي الصفات في مقابل إثباتها، وخلق الصفات في مقابل منعها. أما الحل الوسط فإنه في الغالب يكون أقرب إلى الطرف الأول أو الثاني، كل طرف يشد الحل الأوسط تجاهه تأييدا له دون اقتراب من الطرف الآخر.
106
وهناك عدة حلول متوسطة تحاول الجمع بين نفي الصفات وإثباتها، بين خلقها وقدمها، لأن الاختيار الحاسم لأحد الحلين ليس بأفضل من اختيار الحل الآخر. وتتراوح الحلول الوسط بين الجمع بين الحلين وتقديم نوعين من الصفات وبين إلغاء المشكلة بتاتا والتوقف عن الحكم. وهي ليست كلها على مستوى واحد من الأهمية، ولكنها تكشف عن أن الصفة قد تكون أقرب إلى التحول والصيرورة منها إلى الثبات. وقد تتشابه الحلول المتوسطة وتتداخل حتى توجد الفرق في أكثر من حل واحد. ولكن يجمعها جميعا الرغبة في تجاوز المفارقة التقليدية إلى نوع من الصيرورة والخلق والجدل المتبادل يظهر فيه البعد الإنساني والبعد الإلهي متداخلين متفاعلين بدلا من القسمة العقلية والجدل المنطقي. (6-1) صفة الذات وصفة الفعل
ترمي هذه التفرقة إلى الجمع بين قدم الصفات وحدوثها. صفة الذات تصف الذات وصفة الفعل تصف الفعل. الأولى تصف الباري في ذاته، والثانية تصفه في أفعاله.
107
ولما كان للذات الأولوية على الفعل، فإن لصفة الذات الأولوية على صفة الفعل؛ لأن صلة الذات بذاتها سابقة على صلة الذات بأفعالها. الأولى تدل على تداخل الذات والثانية تدل على تخارجها. الأولى تشير إلى الشيء لذاته، والثانية تشير إلى الشيء لغيره. الأولى صفات ذاتية موجودة قبل وجود موضوعاتها، والثانية فعلية توجد بوجود موضوعاتها. فالباري سميع بصير في ذاته، حتى ولو لم يوجد ما يسمع وما يبصر. مقياس التقسيم هنا هو التفرقة بين الذات والموضوع. وتمتد هذه التفرقة إلى الأسماء فتصبح أيضا أسماء ذات وأسماء فعل لما كانت معظم صفات الأفعال أسماء.
108
وبالرغم من إثبات التفرقة بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية قد يكون كلاهما أقرب إلى القدم إمعانا في إثبات الصفات. فالصفات الذاتية هي الصفات السبع، والفعلية هي الأفعال. وعديد من صفات الأفعال هو تحويل الأسماء إلى أسماء فعل. فإذا كانت صفات الأفعال ضمن العلم، فهي قديمة، وإذا كانت ضمن الأفعال فهي محدثة.
109
وقد تكون التفرقة بين الثلاثي والرباعي أحد الحلول المتوسطة، فإذا كان لا خلاف على الثلاثي العلم والقدرة والحياة في قدمها حيث يسهل فيها التنزيه، فإن الخلاف ينشأ حول الرباعي، السمع والبصر والكلام والإرادة، حيث يعظم فيها التشبيه.
110
قد يكون مقياس التقسيم إذن هو تفاوت درجات التنزيه. فصفات الذات منزهة خالصة بعيدة عن كل تشبيه، في حين أن صفات الفعل توحي بالتشبيه؛ لأنها أقرب إلى العالم وتتعامل مع الموجودات. وقد يعبر هذا المقياس عن صفتي الإطلاق والتقييد، فصفات الذات مطلقة في حين أن صفات الفعل مقيدة. ولا يعني التقييد هنا التعيين والتحدد والنسبية، بل يعني أنها صفات لها محل وتبدو في فعل.
111
وقد يكون المقياس هو القسمة إلى جوهر وعرض، وهي قسمة عقلية تعبر عن تكوين الذهن البشري. فصفات الإنسان صفات جوهرية في حين أن صفات الفعل صفات عرضية. وقد يكون المقياس هو التفرقة الإنسانية بين الفعل والانفعال وذلك لأن جميع صفات الذات صفات عقلية خالصة كالعلم، في حين أن صفات الفعل يغلب عليها الانفعال مثل الولاية والكرم.
112
وقد يكون المقياس هو سلم الأهمية في تصنيف الصفات، فالصفات الأكثر أهمية تكون صفات ذات، والأقل أهمية تكون صفات فعل، ولا يوجد حكم موضوعي على الأهمية، بل يتوقف الحكم على الإحساسات الذاتية الخالصة. فعند البعض الكرم والجود والإحسان من صفات الفعل، وعند البعض الآخر نظرا لأهميتها من صفات الذات والفعل معا. والولاية والعداوة عند البعض نظرا لأهميتها من صفات الذات وليست من صفات الفعل فحسب. والحياة والسمع والبصر نظرا لأنها صفات أولية هي عند البعض صفات ذات في حين أن الرحمة والإحسان والصدق والخلق والرزق من صفات الفعل. وقد يتحول الأمر كله إلى اعتبار الله مخلوقا من البشر ومعبودا منهم بعباداتهم له. فالصفة مخلوقة، والإنسان يخلعها على الله. فصفات الفعل هي صفات تفعيل أي تخليق. فصفات الفعل نظرا لفاعليتها في العالم تكون مخلوقة لاتصالها بالخلق وفي نفس الوقت تكون خالقة لأفعال العبادة وأفعال العبادة تكون خالقة للذات.
113 (6-2) الصفة غير المشتركة والصفة المشتركة
وتقوم هذه القسمة على الحرص على التنزيه وتخليصه من كل شوائب التشبيه. فالصفة غير المشتركة هي الصفة الخالصة التي لا تحتمل أي اشتراك مع آخر، في حين أن الصفة المشتركة هي التي يمكن إطلاقها على الباري وغيره. الأولى صفة عقلية خالصة لا أثر فيها للحس، والثانية تشبيه حسي له مضمون مادي.
114 (6-3) إثبات الصفة لحظة وجود المفعول
هذا الحل الوسط يوجد الصفة لحظة وجود الموصوف. فقد أعطى حكم القدم والحدوث الاختيار بين القبل والبعد. والقبل هو القدم والبعد هو الحدوث. ويعطي هذا الحل الوسط «المع». توجد الصفة لحظة وجود الموصوف لا سابقة عليه كما هو الحال في قدم الصفات ولا تالية له كما هو الحال في حدوث الصفات.
115 (6-4) إثبات الصفة لحظة وجود الفعل
قد يوصف خلق الصفات على أنه فعل للإرادة. فالله لا يعلم الشيء حتى يؤثر أثره، والتأثير بالإرادة، إذا أراد الشيء علمه والإرادة حركة. إذا تحرك علم، ولا يعلم ما لا يكون حينئذ يكون العلم تابعا للإرادة. الله يعلم تعني أن الله يفعل. الله يعلم في اللحظة التي يريد فيها. وهنا تعطى الأولوية للفعل على الكلمة، وللعقل العملي على العقل النظري، وللإرادة على الذهن.
116 (6-5) نفي وإثبات، حدوث وقدم
يحاول هذا الحل الوسط الجمع بين الطرفين المتقابلين دون بيان لوجه الجمع. فتنتفي الصفات وتثبت في آن واحد، وتكون حادثة وقديمة في نفس الوقت، إحساسا بعدم القبول العقلي والرياضي النفسي عن الحلين المتعارضين.
117 (6-6) لا نفي ولا إثبات، لا قدم ولا حدوث
إذا كانت الحلول السابقة تحاول أن تعطي حلا ثالثا يجمع بين الحلين المتعارضين تجنبا للوقوع في اختيار حاسم بين شيئين متقابلين: «إما وإما» أو الجمع غير المعقول بينهما كما هو الحال في الحل السابق، فإن الحل هذه المرة هو إلغاء الطرفين معا والرجوع إلى الشيء نفسه الذي لا يمكن رده إلى ما هو أقل منه، وتفضيل الرجوع إلى الكل دون الجزء وإلى الموضوع دون القسمة العقلية. فرفض نفي الصفات وإثباتها ورفض حدوث الصفات وقدمها ليس مجرد حكم سلبي، بل هو حكم إيجابي بأن كلا من الحلين المعروضين أقل من أن يفي بالغرض، وهو توضيح الشيء والاستقرار الذهني بالنسبة له.
118 (6-7) التوقف عن الحكم وإلغاء المشكلة
والتوقف عن الحكم هو أساسا رفض الدخول في التيه العقلي؛ لأن العقل لن يصل إلى حل مرض، لا إقلالا من شأن العقل ولكن وحيا بطبيعة الذهن البشري.
119
وأن أقصى ما لدى العقل من قسمات للتعبير بها عن عواطف التنزيه تكون أيضا مشابهة بتشبيه؛ لأنها على الأقل قسمة إنسانية من الذهن البشري. وقد يكون التوقف عن الحكم رغبة في المصالحة بين الأطراف المتعارضة ورفضا لاختيار الحلول الحاسمة إما تقية أو نقصا في الشجاعة.
120
وقد يكون التوقف عن الحكم مصاحبا بالتقليد، وفي هذه الحالة يكون التقليد أكثر منه توقفا عن الحكم.
121
والحقيقة أن التوقف عن الحكم بداية إعلان موقف جديد، وذلك بتجاوز المتاهات العقلية السابقة وردها إلى أصول ثم إرجاع المسألة إلى نشأتها في التجربة الإنسانية حتى تعود الإلهيات إلى نشأتها الأولى في الإنسانيات، وبدلا من الإيهام بإله خارج العالم يجد فيه الإنسان وجوده المغترب، يقضي الإنسان على اغترابه ويعود إلى ذاته كوجود في العالم.
ثانيا: الصفات السبع
(1) مقدمة، السباعي: العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الكلام، الإرادة
لم تستقر صفات الذات في سبع إلا متأخرا. فقد كانت الصفات عامة دون تفريق بين صفات ذات وصفات فعل، أو بين صفات وأوصاف، أو بين صفات وأسماء. فمع الصفات السبع وضع الأشاعرة أحيانا بعض الأسماء مثل الجلال والإكرام والجود والإنعام والعظمة، فيتم التداخل بين الصفات والأوصاف أو بين الصفات والأسماء.
1
وقبل استقرار البناء النظري للصفات، تظهر وكأنها لا تعد ولا تحصى. ولكن يثبت العلم والسمع والبصر والحياة بلا ترتيب، ويرفض القدم وغيرها من الصفات التي لم تذكر نقلا. وتدخل أوصاف الذات مع صفاتها، وصفاتها مع أسمائها، ولا تتأكد القدرة في الثلاثي، وتتداخل صفات التشبيه مع مظاهر الإرادة.
2
كما تظهر الصفات في العقائد المتأخرة متداخلة مع الأوصاف.
3
وتدخل بعض أوصاف الذات ضمن صفات محتملة كالقدم وراء البقاء وإرجاع بعض صفات التشبيه إلى صفات تنزيه مثل إرجاع الوجه إلى الوجود.
4
وقد تزيد الصفات السبع إلى اثنتي عشرة صفة أكثر من ذلك أو أقل. فتزيد القوة على الثلاثي، وتنفصل الإرادة إلى إرادة ومشيئة، ثم تضاف ثلاث أخرى: الفعل والتخليق والترزيق، على الكلام، فيكون المجموع اثنتي عشرة صفة. والحقيقة أن القوة تكرار للقدرة، والإرادة والمشيئة شيء واحد، أما الفعل والتخليق والترزيق فهي صفة التكوين.
5
وقد لا يكون التكوين صفة مستقلة، بل داخلة في القدرة.
6
وقد تدخل صفات ثلاث أخرى: وصف الوحدانية للذات ثم صفتان وهما قائم وغني على الصفات السبع، تبدأ بالحياة ثم القدرة ثم تدخل إرادة في الثلاثي ويدخل العلم في الرباعي، ويكون المجموع عشرا.
7
وقد تدخل بعض أوصاف الذات مثل: موجود، قديم، باق، وتنفصل الوحدانية إلى واحد وأحد مع صفات الذات ويكون المجموع اثنتي عشرة صفة.
8
ولأول مرة تظهر صفة الإلهية كصفة زائدة على الثمانية.
9
فإذا ما أثير سؤال: هل يمكن إدراك وصف الذات؟ وبالتالي يدخل موضوع الرؤية وافتراض الحاسة السادسة وكأن الصفات ليست تصورات عقلية بل رؤى عينية. وفي بعض الرسائل الإصلاحية يضطرب الإحصاء، وتظهر الحياة والعلم والإرادة والقدرة والاختيار والوحدة، ثم الصفات السمعية، مثل: الكلام، والبصر، والسمع، بزيادة الاختيار والوحدة من أوصاف الذات نظرا لأهمية الاختيار في حرية الأفعال، ويكون المجموع تسعا.
10
وتظهر لأول مرة مسألة عدد الصفات في القرن السادس، هل ثمان أم أكثر أو أقل، في معرض التخصيص ونفي المخصصات والمقادير في رفض التشبيه، وكأن إحصاء الصفات نوع من التشبيه وذلك بإدخال نوع من التجسيم العقلي والتصوير الذهني للساكن.
11
وقد تبدو الصفات أقل من سبع، خمس أو أقل، خاصة إذا ما غاب العد والإحصاء، وبقيت كل صفة وما بها من مسائل وأهمها العلم والإرادة والكلام والسمع والبصر، وتختفي القدرة والحياة. قد تكون الصفات خمسا: القدرة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، ثم تدخل الإرادة في العدل. فإذا كانت الإرادة في العدم لتعلقها بحرية الأفعال، فلماذا الكلام؟ وتتصدر القدرة العلم في الثلاثي كاملا لأهمية القدرة في نظرية العدل.
12
وقد لا تذكر الصفات كلها، بل بضع منها فقط، وإسقاط الحياة مثل الإرادة، العلم، القدرة، الكلام، الإدراكات.
ولأول مرة تظهر الصفات السبع على أنها صفات معنوية يمكن إثبات العلم بها.
13
وتظهر مسألة الصفات الأزلية حتى يتم إحكامها.
14
وقد تسمى الصفات السبع صفات المعاني ثم يذكر إثبات الصفات السبع ثانية كصفات معنوية تأكيدا لإثبات الصفات.
15
وتثبت الصفات المعنوية لإثبات الأحوال. فالأشياء أربعة: موجودات، ومعدومات، وأحوال، واعتبارات.
16
ولكل صفة مطلب، وهو وضع أوصاف الذات الست كمطالب لصفاتها السبع وزيادة مطلب سابع وهو التعلق بجميع الممكنات، فصفات المعاني السبع لكل واحدة سبعة مطالب إلا الحياة فلها ستة، وبالتالي الجملة ثمانية وأربعين مطلبا.
17
وقد تنقسم الصفات إلى قسمين: صفات تتوقف عليها أفعال كالقدرة والعلم والحياة وسائر الصفات مثل الإرادة ثم السمع والبصر والكلام (مع البقاء والاستواء والتكوين).
18
ويبدو أنه لم يكن هناك وعي في الترتيب، وأن الأمر كان مجرد إحصاء دون بناء نظري محكم. كان الأمر مدحا، وكيل المدح بصرف النظر عن طريقة التقديم.
19
وكانت العبارات إنشائية خالصة قبل أن تتحول إلى مصطلحات دقيقة كما مرت في تاريخ كل دين في العقائد المسيحية مثلا من تعظيم المسيح إلى ألقاب المسيح إلى عقائد المسيح.
20
وهذا التقسيم السباعي بالرغم من شيوعه عند القدماء، إلا أنه ليس جامعا مانعا، فتدخل معه صفات غيره دون أن تكون جزءا من الثلاثي أو الرباعي مثل الألوهية أو البقاء أو العدم أو التكوين التي أفاض فيها القدماء كصفة مستقلة ثامنة.
21
ويدخل السباعي فيما يجب على الله كما دخلت أوصاف الذات فيما يستحيل على الله.
22
وفي هذه الحالة تكون هناك سبع صفات للمعاني قد يختلف ترتيبها أو يتبع الترتيب المستقر. وكل صفة لها متعلق. فتضم القدرة والإرادة معا لتعلقهما بالممكنات، والعلم والكلام يتعلقان بجميع الواجبات والممكنات والمستحيلات، والسمع والبصر يتعلقان بجميع الموجودات، والحياة لا تتعلق بشيء.
23
المتعلق إذن على ثلاثة أنواع، تعلق تأثير مثل القدرة والإرادة، وتعلق انكشاف مثل تعلق السمع والبصر والعلم، وتعلق دلالة مثل تعلق الكلام. تعلق العلم مع السمع والبصر، وتعلق الكلام بمفرده.
24
لذلك تثبت الصفات على أنها أسماء فعل وأسماء مفعولات، فتثبت القدرة والمقدورات، والعلم والمعلومات، والسمع والمسموعات، والرؤية والمرئيات، والإرادة والمرادات، والكلام ووجوه الكلام، إلا الحياة، فليس لها اسم مفعول لأنه ليس متعديا بل لازم. فالحياة ذات وموضوع في آن واحد، أنا أحيا وأنا موضوع حياتي.
وقد يتداخل الثلاثي والرباعي، فالفصل بينهما غير شائع ولا وارد بالرغم مما بين المجموعتين من اختلاف في المستويات في التنزيه والتشبيه وفي الذات والفعل. قد لا يوجد الثلاثي خالصا، بل يوجد باستمرار متداخلا مع الرباعي أو حتى مع أوصاف الذات أو مع باقي الصفات والأسماء. وفي العقائد المتقدمة لا تظهر الصفات الثلاث في مجموعة ثلاثية، ولا يثبت إلا العلم كنموذج لإثبات الصفات دون وعي بالثلاثي أو بترتيبه. وتظهر الصفات الثلاث مع ذكر أوصاف الذات. ويظهر العلم لإثبات الصفات والقدرة والحياة من أوصاف الصانع.
25
قد يتدخل الثلاثي مع الرباعي كما هو الحال في العقائد المتأخرة، فتزاد الإرادة مع القدرة. وقد تضاف الإرادة بعد القدرة، وتصير القدرة والإرادة والعلم والحياة.
26
وقد يتم التركيز على العلم والحياة من الثلاثي، ولا تظهر القدرة إلا مع صفات التشبيه أو مع المظاهر الانفعالية للإرادة.
27
ثم يأتي الكلام مركزا على إعجاز القرآن، فالإرادة إذن هي العنصر المزاحم والنافر من الرباعي إلى الثلاثي. فقد تأتي الإرادة بدل الحياة.
28
وقد تبدأ القدرة السباعي وتضاف إليها الإرادة وتأتي الحياة بدلا عنها في أول الرباعي.
29
وفي العقائد المتأخرة يذكر السباعي ابتداء من الحياة بعدها الإرادة ثم العلم، فيصير الرباعي ثلاثيا والثلاثي رباعيا بنقل الإرادة من الرباعي إلى الثلاثي.
30
وقد تأتي الإرادة في آخر الثلاثي والحياة في أول الرباعي.
31
وقد يتداخل الثلاثي في الرباعي كلية فتدخل الإرادة والسمع والبصر مع القدرة في رباعي، وتدخل الحياة والعلم مع الكلام في ثلاثي.
32
وقد تتصدر القدرة السباعي وبعدها الإرادة ثم العلم، وتتصدر الحياة الرباعي.
33
وقد تتصدر القدرة ثم العلم ولا تظهر الحياة إلا مع الرباعي بين الإرادة والكلام.
34
وقد تتصدر الحياة الثلاثي والإرادة الرباعي.
35
وقد ترحل الحياة من الثلاثي وتصبح ثاني وصف في الرباعي، وتأتي الإرادة الصفة الأخيرة في الرباعي بدلا عنها.
36
وقد تأتي الإرادة أول وصف وتأتي الحياة في آخر السباعي ثم تأتي القدرة بعد الإرادة نظرا لارتباطهما معا.
37
وقد يأتي السمع والبصر مع الرباعي كبديل عن الحياة في الثلاثي نظرا لارتباط السمع والبصر بالعلم.
38
ويلاحظ بالرغم من اختلاف مقاييس التصنيف عند القدماء أن التصنيف الشائع هو جعل الصفات سبعا في ثلاثي ثم في رباعي. يضم الثلاثي العلم والقدرة والحياة، ويضم الرباعي السمع والبصر والكلام والإرادة.
39
يضم الثلاثي صفات الذات المطلقة التي ليس لها محل والتي هي أقرب إلى التنزيه، في حين أن الرباعي قد يتضمن صفات الفعل التي لها محل والتي قد توحي ببعض التشبيه. وهناك بعض الصفات المتكررة، فالقدرة هي الإرادة، والسمع والبصر كلاهما من ضرورات العلم، والكلام هو القرآن أي التعبير عن العلم وإيصاله. فإذا أمكن رد الإرادة إلى القدرة، والسمع والبصر إلى العلم، كان لدينا فقط العلم والقدرة والحياة. وبالتالي يمكن رد الرباعي الذي يخاطر بالتشبيه إلى الثلاثي الذي في أمان التنزيه. يأخذ العلم ثلاث صفات، والقدرة واحدة، وتبقى الحياة. وذلك يعني أن الحياة تظهر في صورتين: العلم والقدرة، أي العقل النظري والعقل العملي . أما الكلام فهو وسيلة الانتقال من النظر إلى العمل، أي أنه الحكم على العالم بالنظر من خلال العمل. ويكون الكلام تعبيرا عن الحياة بشقيها النظري والعملي.
وقد تأتي براهين كلية وشاملة على الصفات السبع كلها مرة واحدة، ودعامتها الأولى استحالة الحدوث والنقص. لذلك ارتبطت الصفات السبع بأضدادها السبع. ما يجب لله وما يستحيل على الله. فالعلم ضد الجهل، والقدرة ضد العجز، والحياة ضد الموت، والسمع ضد الصمم، والبصر ضد العمى، والكلام ضد البكم، والإرادة ضد الكراهية. ويصل أهمية الضد إلى أن تصبح الصفات المضادة صفات. ولما كانت الصفات سبعة معنوية وأضدادها سبعا، وسبعة معان وأضدادها سبعة، فيكون مجموعها ثمان وعشرين صفة.
40
وعندما تتركز العقائد كلها في قطبي التوحيد والنبوة في «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ويوضع التوحيد كله بين فعلي الاستغناء والافتقار، مستغن عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه، تظهر ثلاث صفات من الرباعي في الاستغناء، ويظهر الثلاثي مع الصفة الباقي من الرباعي، وهي الإرادة، في افتقار كل ما عداه إليه.
41
ويمكن البرهنة عقلا على الثلاثي بمفرده، أما الرباعي فيغلب عليه البرهان النقلي. لو انتفى من الثلاثي شيء لما وجد شيء من الحوادث، أما الرباعي فيسهل البرهنة عليه من الكتاب والسنة والإجماع بالإضافة إلى استحالة سريان النقص عليها وإبقاء برهان الكمال. لو انتفت القدرة والإرادة كمتعلق لها، والعلم والحياة، لما وجدت المخلوقات حتى يحدث العقل والتأثير والقصد والخلق.
42 (1-1) الثلاثي: العلم، القدرة، الحياة
وكما يكون الثلاثي زائدا، فإنه يكون ناقصا، فتختفي القدرة وتظهر ضمن الحياة، ويكون التركيز على الحياة والعلم فقط.
43
وقد لا يظهر من الثلاثي إلا العلم عندما تتحول الصفات إلى مسائل دون إحصاء لها.
44
وقد يظهر العلم والقدرة وتختفي الحياة. ولكن استقر الثلاثي: العلم والقدرة والحياة، دونما زيادة أو نقصان.
45
وقد اضطرب الترتيب أيضا قبل أن يستقر على هذا النحو. فقد تأتي الحياة قبل العلم،
46
وقد تأتي القدرة قبل العلم،
47
تصديرا للثلاثي.
48
والسؤال الآن: هل يخضع هذا الترتيب النمطي لضرورة عقلية منطقية أم لضرورة حسية واقعية؟ فإن لم تكن الضرورة عقلية منطقية، فكيف يمكن معرفة واقع المؤله إن لم يتم ذلك بقياس الغائب على الشاهد؟ لا توجد ضرورة واقعية في المؤله تقتضي هذا الترتيب: العلم القدرة الحياة؛ لأن المؤله تشخيص لعملية التأليه، أي أننا في ميدان العمليات الشعورية الخالصة وليس له وجود في الخارج، وحتى على افتراض وجود إله في الخارج طبقا لمقتضيات الدليل الأنطولوجي، فإنه لا يمكن الوصول إليه إلا بالعقل، أي أننا لا بد وأن نرجع ثانية إلى عالم الأذهان، وفي هذه الحالة يعطينا الشعور الاحتمالات الستة السابقة، ويكون أولها: العلم القدرة الحياة، هو المعبر عن هذه الضرورة الذهنية. فللعلم والقدرة الأولوية على الحياة لأن العلم والقدرة أقل تشبيها من الحياة، لا يتطلبان محلا، في حين أن الحياة تحتاج إلى محل. ويكون للعلم الأولوية على القدرة لأن القدرة تحتاج إلى محل تظهر فيه في حين أن العلم لا يحتاج لدرجة التنزيه. فالصفة المنزهة سابقة على الصفة التي توحي بالتشبيه، وهو المقياس العام لتصنيف الصفات وترتيبها. والحقيقة أن هذه الصفات ليست معنوية خالصة، فالعلم يقتضي العقل، والقدرة تتطلب الإرادة، والحياة تتطلب القلب أو النفس أو الحرارة. فهي كلها صفات تشبيه وإن كان تشبيها معنويا.
وقد يدل هذا الترتيب على أن النظر يسبق العمل، والمعرفة تسبق القيمة، والقدرة تدل على أن العمل تال للنظر، والوجود لاحق على المعرفة. أما الحياة فهي شرط الجميع، وإن شئنا تكون الحياة نظرا وعملا، معرفة ووجودا، تخطيطا وتحقيقا، مثالا وواقعا. العلم والعمل ينشآن في الحياة، والحياة تعبر عن نفسها في العلم والعمل. العلم وصف للخبرات الشعورية وتحليل لها من أجل تغيير الواقع بالمعنى أو بالفعل وهو العمل. النظر يسبق العمل، والعمل يلي النظر، والحياة شرطهما معا. لا يمكن للحياة أن تتلو العلم وتسبق القدرة، فالعمل تال للنظر، والعلم يولد القدرة. ولا يمكن أن تبدأ القدرة، فالقدرة بلا علم عمل عشوائي أهوج غير مقصود. ولا يمكن أن تتلو الحياة القدرة، ويأتي العلم في النهاية وإلا كانت القدرة مجرد تعبير عن الحياة في إرادة القوة. ولا يمكن أن تبدأ الحياة، فالحياة وحدها يشارك فيها الإنسان والحيوان والنبات، ولا تميز الإنسان وحده كالعلم. ولا يمكن أن يأتي العلم بعد الحياة. ولا يمكن أن تبدأ الحياة تتلوها القدرة، فتكون هناك إرادة القوة، ولا يظهر العلم إلا في النهاية مبررا وتاليا ولاحقا.
وقد تكون العلاقة بين الصفات الثلاث علاقة شرط بمشروط. فالحياة شرط العلم والقدرة. لا علم ولا قدرة بدون حياة. ولكن يأتي المشروط وهو العلم والقدرة في الترتيب سابقا على الشرط وهو الحياة؛ لذلك تساءل القدماء: هل يجمع بين العلم والقدرة الموت؟ هل يمكن وجود المشروط دون الشارط؟ والجواب الطبيعي هو النفي؛ لأنه يستحيل منطقيا تصور المشروط بدون الشارط.
49
أما الجواب بالإثبات فهو جواب ذهني خالص يقوم على افتراض استحالة ثم إثبات إمكانها دليلا على العظمة والجلال والقدرة المطلقة التي تثبت معجزة عقلية، وهي إمكانية وجود الأضداد على خلاف العالم الإنساني الذي يستحيل فيه وجود الأضداد مجتمعة.
50
وإذا وجدت فإنها تدل أيضا على قدرة المؤله في الطبيعة وعلى قدرته الجمع بين الأضداد في الخلق. وبالتالي يكون السؤال أساسا موضوعا ليسمح بإجابة تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال، وهي عواطف تعطي أحكام قيمة على عواطف التأليه. فهو ليس سؤالا موضوعيا يعبر عن مشكلة واقعية، بل سؤال موجه نحو الذات، ونحو شخص المتكلم من أجل أن يسمح لنفسه بالتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال حتى لا يظل على المستوى الإنساني وحتى ينفي أي مشاركة في الصفات. وقد تكون القدرة والحياة معا شرطا للعلم، ولكنهما أبعد عن المعقول من كون الحياة شرطا للعلم والقدرة.
51
وفي هذه الحالة يستحيل فصل القدرة عن الحياة، فكلاهما شرط العلم. فإذا تميز العلم في صفة بمفرده، فقد توضع القدرة والحياة معا غير منفردين.
وبالرغم مما يقال عن هذه الصفات الثلاث، وحدتها وافتراقها، مشروطها وشارطها،
52
فإنها في الحقيقة ملكات نفسية مشخصة ولا يمكن فهمها إلا بإرجاعها إلى تحليل وظائف الملكات النفسية. فإذا أخذنا التصور التقليدي للثلاثي من أن الحياة شرط العلم، والعلم والقدرة مشروطان ، نجد أن الحياة هو الأساس، وأن العلم والقدرة لا يوجدان بدون الحياة. ويكون العلم حينئذ هو المظهر العاقل للحياة، والقدرة هي المظهر الفاعل لها. العلم هو النظر، والقدرة هي العمل، الوجه الآخر للنظر أو مصير النظر وغايته، والحياة شرط النظر والعمل، فالحياة لها مظهران: نظر وعمل. الصفات الثلاث إذن: العلم، والقدرة، والحياة، هي صفات الإنسان الثلاثة. تظهر القدرة من الإنسان الحر القادر، ويظهر العلم في الإنسان العاقل، وتظهر الحياة في الإنسان الفاعل، فالحياة هي الفعل، والعقل هو الحياة.
وبالإضافة إلى العلاقات الثلاثية إذا دخلت كل صفة في علاقة ثنائية مع أخرى تكون لدينا ثلاث علاقات: العلم والقدرة، الحياة والقدرة، العلم والحياة. فعلاقة العلم بالقدرة عند القدماء علاقة تبعية. العلم لاحق على الإرادة كحل لمسألة حدوث الصفات وقدمها. والعلاقة في الحقيقة علاقة إنسانية خالصة. العلم بلا قدرة علم العجائز، والقدرة بلا علم تعصب أعمى. العلم هو العلم القادر على التنفيذ وليس العلم الأجوف، والقدرة هي القدرة الواعية لا القوة الخرقاء. وهذا مطلب إنساني خالص. فكثيرا ما نجد في الحياة العامة انفصل العلم عن القدرة. هناك علم عاجز لا يؤدي إلى فعل. كما أن هناك قوة غاشمة لا تستند إلى علم. حق الضعفاء علم بلا قدرة، وبطش الظالمين قدرة بلا علم. وهو الصراع التقليدي بين الحق والقوة، وهذا لا يعني الوقوع في البرجماتية الخالصة لأن العلم ما زال موجودا.
53
وعلاقة القدرة بالحياة وضعها القدماء في صيغة السؤال التالي: هل يجوز أن تفرد الحياة من القدرة؟ وهو تساؤل لا عن واقع بل قائم على وضع استحالة منطقية وافتراض قيام المشروط على الشارط. الإجابة بالنفي رغبة في اتباع المنطق وهو موقف إنساني عاقل. الكل لا يستنبط من الجزء.
54
والإجابة بالإيجاب رغبة في الوقوع في التناقض كنوع من المعجزة العقلية ثم تجاوزها للتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، ويكون استخراج الكل من الجزء أكثر تعبيرا عن العظمة والجلال؛ لأنه يتجاوز حدود الموقف الإنساني.
وعلاقة العلم بالحياة لم يتكلم عنها أحد من القدماء في حين أنها الموضوع الأساسي في تأسيس العلم. الحياة موضوع العلم، والعلم هو الأساس النظري للحياة. وتحدث الأزمة في العلم عندما ينفصل العلم عن الحياة فيكون العلم منقولا لبيئة دون أن يكون تعبيرا عن حياتها أو مبتورا من بيئة أخرى، ويظن أن علم عام لكل عصر في حين أنه علم خاص نشأ في بيئة معينة وظروف خاصة لا يمكن تعميمه في بيئة أخرى، ولا يمكن تفسيره إلا بإرجاعه إلى بيئته الأصلية، وهي بيئة مؤقتة تتغير ويتغير العلم طبقا لها. نقل العلم يخرجه من ظروفه ومن حركته التاريخية وأخذه لفترة من فترات التاريخ وحدها على أنها كل الفترات وكل العصور.
55
فضلا عن طمس البيئة بعلم دون تنظير مباشر للواقع الخاص. وهناك فرق إذن بين نقل العلم وإنشاء العلم. والتنظير المباشر للواقع هو السبيل لإنشاء العلم حتى ولو كانت هناك تجارب مشابهة سابقة وتنظير محكم. العلم هو العلم في الشعور وليس العلم المنقول. «العلم في الرأس لا في الكراس.»
ولا يوجد في هذا الثلاثي أي مؤثرات أجنبية مسيحية أو غيرها. فمنهج الأثر والتأثير غير مجد في تحليلات الشعور التي ترد الفكرة التي أسسها النفسية وليس إلى مصدرها التاريخي. يخضع هذا الثلاثي لضرورة عقلية خالصة ولمقاييس التصنيف التي ارتضاها القدماء نقلا أو عقلا. فالصفات الثلاث تدل على صفات الذات أو الصفات المعنوية أو الصفات الأولية بالنسبة إلى الرباعي. كما أن الثلاثي يكشف عن ماهية التجربة الإنسانية وبنية الشعور كحياة وبعديها في النظر والعمل.
56 (1-2) الرباعي: السمع، البصر، الكلام، الإرادة
وهو أقرب إلى التشبيه من الثلاثي، فالصفات الثلاث الأولى حواس، لها أعضاء حسية: الأذن والعين واللسان. وعادة ما يأتي السمع والبصر معا وكأنهما صفة واحدة، وبهذا الترتيب يسبق السمع البصر إلا مرة واحدة يتغير الترتيب إلى البصر والسمع أو توضع الإرادة بينهما.
57
وقد ترتبط الإرادة بالكلام ارتباط السمع بالبصر؛ لأن الكلام لا يصدر عن هوى، بل هو وحي، ومن ثم ارتبط بالإرادة التي يمتنع فيها الهوى والانفعال. وقد يرتبط الكلام بالإرادة لإثبات قدم الكلام وخضوعه لأمر «كن».
58
وقد أخذت صفتا الكلام والإرادة أهمية أكبر من السمع والبصر. فنظرا لأهمية الإرادة يعقد لها باب خاص بالإضافة إلى الصفات كما يعقد لخلق القرآن أبواب خاصة بالإضافة إلى الكلام.
59
وقد تظهر الشيئية متميزة عن الإرادة، ويختفي الكلام وكأن الشيئية بديل عنه.
60
وقد يقل الرباعي إلى ثنائي السمع والبصر عندما تدخل الإرادة والكلام في العدل ويخرجان من التوحيد، أي من نظرية الصفات إلى نظرية الأفعال.
61
والآن ما هو مقياس الترتيب النمطي القديم، السمع والبصر والكلام والإرادة؟ السمع والبصر مرتبطان بالعلم ومستواه الحسي، والكلام هو التعبير واللغة وإيصال العلم. والإرادة تجعل العلم والتعبير والعمل وباقي الصفات خارجة عن نطاق الهوى والانفعال. السمع والبصر يلحقان بالعلم أي بالعقل النظر، والإرادة تجعل العلم خالصا لا يقوم على هوى أو كراهة للعالم، ويعبر عن العلم في كلام في العالم قبل أن يتحقق بالقدرة.
وقد يبدأ الكلام أول الرباعي نظرا لأهمية الكلام على السمع والبصر والإرادة، فيتصدر الرباعي. وقد يعقد له فصل خاص مع الإرادة باعتبارها أهم من السمع والبصر، ولكن يغلب عليها نظرا لأهميته، في حين توضع باقي الصفات حتى العلم والقدرة والحياة متداخلة مع باقي أوصاف الذات ودليل الحدوث والإعادة. وقد يظهر الكلام ضد نفاته من دعاة خلق القرآن، والإرادة ضد نفاتها من دعاة حرية الأفعال، ويثبت السمع والبصر مع اليدين والوجه وباقي صفات التشبيه مما يدل على اقتراب هاتين الصفتين بصفات التشبيه. وقد يبدأ الرباعي بالإرادة نظرا لأهميتها في حرية الأفعال، فتتصدر الإرادة.
62
والرباعي: السمع والبصر والكلام والإرادة، صفات مطلقة كالثلاثي. وإذا كانت توحي بالتشبيه فإن التشبيه في الحقيقة لا يعني الصفات الحسية بل الصفات كصور فنية للتعبير عن معاني. الرباعي أقرب إلى وسيلة التعبير منه إلى الشيء المعبر نفسه. وسيلة التعبير هي الصورة الفنية في حين أن الشيء المعبر عنه هو المعني، وقد استطاع التنزيه حقا التمييز بين أسلوب الوحي ومضمونه، ورفض اعتبار التصوير، وهو أسلوب التعبير في الوحي، هو المضمون نفسه.
لذلك كان علماء البلاغة والنقد الأدبي أصدق في حديثهم عن أساليب الاستعارة والكناية، وكذلك علماء القرآن في حديثهم عن التخييل من المتكلمين. فالوحي لا يعطي أحكاما على وقائع بل يعطي إيحاءات للتأثير على النفوس. أحكام الوحي ليست أحكاما طبيعية، بل أحكام شعورية. ولا يعني صدق الوحي إعطاء وصف للتاريخ الموضوعي بل استخلاص المعنى المستفاد منه، أي أنه يعطي معاني مستقلة لا حوادث مادية. وقد حاول الفلاسفة من قبل نفس الشيء عندما تحدثوا عن ضرورة التأويل حتى يتفق النص مع العقل والحقائق الإنسانية العامة. السمع والبصر والكلام توجد كصور فنية في الوجه. فالوجه أو الرأس يحتوي على الأذن والعين والفم، وليس ذلك بأولى من الذوق والشم واللمس. فهل السمع والبصر أقدر على الإدراك من اللمس والذوق والشم؟ هل الفنون السمعية والبصرية، الموسيقى والشعر أو التصوير والرسم والنحت والعمارة والزخرفة أقرب إلى النفس من فنون الطعوم والروائح والملموسات؟ هل أولوية السمع والبصر في الترتيب تعطي أولوية للفنون السمعية على الفنون البصرية؟ أليس الكلام سمعا؟ وماذا عن باقي أعضاء البدن كوسيلة للكلام إما بتعبيرات الوجه أو بحركات اليدين كما هو الحال في فن الإيحاء ولغة البدن؟
63 (2) العلم
بالرغم من استقرار العلم على أنه أول صفة في السباعي، وبالتالي في الثلاثي، إلا أنه يظهر أحيانا مع أوصاف الذات.
64
كما يظهر مع الأوصاف الستة الأخرى (باستثناء الكلام) ضمن الأوصاف.
65
ويظهر بمفرده في معرض إثبات الصفات بعد الكلام وقبل الإرادة.
66
وقد يظهر على أنه ثاني صفة في الثلاثي والسباعي معا بعد القدرة أو بعد الحياة.
67
ويظهر كثالث صفة في السباعي والثلاثي معا: القدرة والحياة والعلم أو القدرة والإرادة والعلم.
68
ومع ذلك استقر العلم على أنه الصفة الأولى حتى في حالة غياب العد والإحصاء أو حتى في حكم نفي الصفات.
69
ويظهر في المؤلفات المتأخرة على أنه الصفة الوحيدة في الثلاثي التي تستحق معالجتها في فصل مستقل؛ لإثبات أنه أزلي واحد، متعلق بجميع المعلومات على التفصيل، كلياتها وجزئياتها.
70
وقد عرض القدماء لعدة مسائل في العلم مثل معرفة الله لذاته، ومعرفته لغيره، سواء الجزئيات اللامتناهية أو الكليات المتناهية، والأدلة على العلم عند الحكماء والمتكلمين. فقد سأل القدماء هل يعلم الله ذاته؟ العلم هنا متجه نحو الذات، أي أنه علم بالذات لذاتها، وليس علما بموضوع خارج عنها، الذات ذات وموضوع. فالإجابة بالنفي تقوم على أن العلم أعراض. فلو علم ذاته لكانت مضافة إلى نفسه، وإضافة الشيء إلى نفسه محال. ولكن الوعي بالذات ممكن وقائم، وعي الذات بالذات لا يستحيل، ولا يدل ذلك على قسمة بل على درجة من الذاتية فتنبثق الموضوعية منها. والإجابة بالإيجاب تجعل علم المؤله المشخص بذاته أليق، فكيف بعالم لا يعلم ذاته؟ هناك علم من ناحية وذات من ناحية أخرى. ولما كان العلم مطلقا فإنه يشمل العلم بالذات. وكيف بعالم يعلم الخارج ولا يعلم ذاته؟ بل إن العالم بالذات شرط العلم بالعالم الخارجي.
71
وإذا كان العلم بالذات ممكنا فإن العلم بالغير يكون ممكنا كذلك، فالعلم بالذات هو علم بالغير لأن الذات هي الغير، بل إن الوعي بالذات هو في نفس الوقت وعي بشيء أي وعي بالآخر، وهذا لا يعني أن هناك علمين: علم بالذات وعلم بالموضوع، بل علم واحد، وتغاير الموضوع لا يعني تغاير العلم. ليس هناك علم بالذات يكون أشرف من العلم بالموضوع كصفة للذات، فهذه ثنائية تركيبية لا توجد في وحدانية الذات. وليس من شرف الذات أن تكون وعيا فارغا، وعيا بلا شيء، خارج نطاق العالم، فهذا إسقاط للموضوع وتحديد للعقل وتفضيل لحكم الشرف والقيمة على حكم العقل والواقع. ويقوم إنكار علم الذات بالغير على عدة حجج منها: أنه لو عقل شيئا لعقل ذاته، وهذا محال لاستحالة حصول النسبة بين الشيء ونفسه، وهو محال. وهي حجة مبنية على افتراض مسبق هو استحالة العلم بالذات، كما أن علمه لا يكون ذاته وإلا كان ذاته قابلا وفاعلا أي موضوعا وذاتا، وهو محال. لو قامت بذاته صفة لكانت ذاته مقتضية لها، فيكون قابلا وفاعلا معا وهو محال. والحقيقة أن هذه الحجة تقوم أيضا على افتراض استحالة العلم بالذات ولا تقوم إذا ما ثبت خطأ الافتراض. فإن قيل أيضا: لو كان العلم صفة كمال لكان الموصوف به ناقصا لذاته ومستكملا بغيره، وهي نفس حجة نفي الصفات. والحقيقة أن الوعي بشيء ليس نقصا في الوعي بالذات، بل أحد مظاهر كماله، وإلا كان الوعي فارغا بلا مضمون. ولا يدل ذلك على احتياج وعوز وفقر، فتلك لغة تشبيهية إنسانية، ولكن تدل على بناء الوعي على أنه وعي بذاته ووعي بغيره. أما باقي الحجج فإنها مستمدة من الحجج العامة لإثبات الصفات، مثل احتمال تعدد القدماء إذا ثبتت الصفات أو افتراض التركيب ضد الوحدانية، وأن العالمية والقادرية واجبتان ولا تعللان بقدرة أو بعلم، فالموجب للعالمية ذاته إما بواسطة (الصفاتية)، أو بلا واسطة. والعلم لا يختص بمعلوم دون معلوم وإلا وجب الحدوث والترجيح والتخصيص والإضافة والتأثير. وقد تقال حجة جدلية لنفي علم كل شيء مثل أنه لو علم شيئا لعلمه بعلم، وهذا العلم الثاني بعلم ثالث ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وبالتالي يستحيل العلم لأن الوعي بالذات لا يحتاج إلى وعي بالوعي لأن الوعي بالوعي هو وعي بالذات، علم كامل لا يحتاج إلى علم آخر كي يتم العلم به. وبداهة التجربة الإنسانية وإدراكها المباشر أصدق من أية حجة جدلية منطقية صورية فارغة.
72
وقد ينكر العلم بما لا نهاية له، فلا يعقل إلا المتناهي، وذلك لأن المعلومات تتطرق إليها الزيادة والنقصان ولأن كل معلوم متميز عن غيره مفتقر إليه، فهو متناه، ولأن العلم بالمعلوم مخالف للعلم بغيره، فلو كانت المعلومات غير متناهية لكانت العلوم كذلك. والحقيقة أن هذا خلط بين موضوع العلم وقانون العلم. فإذا كانت موضوعات العلم غير متناهية فلأنها جزئية، والأجزاء لا تتناهى، أما إذا كان موضوع العلم هو القانون العلمي فالقانون متناه لأنه مطرد في عدد لا متناه من الأجزاء.
73
لذلك أنكر الحكماء العلم بالجزئيات، أي بالوقائع اللامتناهية عدا وإحصاء وإدراكا، وأثبتوا فقط العلم بالكليات عقلا واستنباطا واطرادا. وحجة الفلاسفة أن ذلك يوجب تغيرا في علم الله وجهلا بتغير الوقائع. وقد رد المتكلمون على الحكماء بعدة حجج، منها أن فاعل أبدان الحيوانات لا بد أن يكون عالما بجزئياتها، وأن العلم صفة كمال تجب لله والجهل صفة نقص تستحيل على الله. ولما كان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، وجب علم الله بالجزئيات، فعلم الله الأزلي فيه ماض وحاضر ومستقبل، فحقيقة أنه سيقع غير حقيقة أنه وقع لاختلاف المتعلقين، وأن شرط العلم هو الوقوع، ويمكن العلم بأنه وقع مع الجهل بأنه سيقع وهو محال. والحقيقة أن هذه مسألة إنسانية صرفة يظهر فيها التقابل بين العلم القبلي العقلي الاستنباطي والعلم البعدي الحسي الاستقرائي، وكلاهما مطلبان للمعرفة الإنسانية، والتوحيد بينهما أحد غايات الحكمة. وبالرغم من علم الذات بالغير إلا أنه علم قبلي، سابق على البداهة. ومن الطبيعي أن يركز الحكماء عليه لأنه في الذهن الإنساني سابق على التجربة، وبالتالي أشرف من العلم التجريبي المستقى من العالم الخارجي، الأول صوري عام يقيني والثاني مادي جزئي ظني. لذلك كانت المثالية أكبر تعبير عقلي عن عواطف التأليه، فإذا حاول العلم الطبيعي التعرف على نظام الكون والتعبير عنه في نظرية مستقلة، فهو ليس صفة مجردة لكائن مشخص، بل فهم للطبيعة في مقابل ما بعد الطبيعة التي تحاول فهم هذا العلم كنسق عقلي خالص لا شأن له بالطبيعة. ومن صفات العلم الشامل هو التحقق. لذلك لم ينفصل عن المشيئة والإرادة. فهو عالم بكل الكليات والجزئيات، الموجودات والمعدومات، الغائبات والحاضرات، المتغيرات والمفارقات، الواجبات والممكنات، عالم بما وقع وبما سيقع كيف يقع وبما لم يقع لو وقع كيف كان سيقع! فالعلم أعم تعلقا من القدرة لأنها تختص بالممكنات دون الواجبات والممتنعات.
74
ومع ذلك يثبت الحكماء العلم. فالواجب عالم لأنه مجرد، وكل مجرد عالم لأن التجرد يستلزم المعقولية والبراءة من الشوائب، وعلمه مجرد لا ينال إلا بالتجريد. العلم هو صور المعلومات القائمة بنفسها أو بذاته. أي أن الحكماء يثبتون العلم بدليل مزدوج مؤداه أن الله مجرد، وكل مجرد عاقل لجميع الكليات، وأنه يعقل ذاته وبالتالي فإنه يعقل ما عداه وهو دليل عقلي استنباطي صوري خالص. كما أشار الفلاسفة إلى دليل الإتقان نظرا لأن أفعال محكمة متقنة ، وبالتالي فهو عالم. المقدمة الأولى حسية، والثانية عقلية، ولكن الغالب عليهم كان الحجة الأولى.
75
والعلم عند المتكلمين صفة قائمة بذاته، تنكشف بها له جميع الأشياء من الواجبات والممكنات والمستحيلات. العلم انكشاف، وهو صفة كمال في الوجود، والانكشاف مقولة إنسانية خالصة توحي بجهل الشيء ثم علمه، وهو ما يستحيل على الله. أما تعريف العلم بأنه نسبة العالم إلى غيره فإنه أيضا يعتمد على كون الصفة غير الموصوف، وبالتالي الوقوع في مخاطر التغاير والتعدد على عكس العلم القائم بالذات. وبالإضافة إلى مشاركة المتكلمين للحكماء في الدليل العقلي إلا أنهم فصلوا الدليل الحسي إلى دليلين لإثبات العلم، دليل الإتقان ودليل القدرة. ويقوم دليل الإتقان على أن نظام العالم وحكمة الصنع يقتضيان إثبات العلم، وأن التأمل في المخلوقات لا بد وأن ينتهي إلى العلم بعلم الصانع، وكما هو واضح في عديد من الآيات في أصل الوحي. يبدأ الدليل بالتأمل في أحوال المخلوقات وفي تشريح الأبدان وفي مسار الأفلاك، وأن كل ذلك إنما يتم عن اختيار وتوجه وقصد، ولا يمكن أن يقوم ذلك إلا بالعلم، إذ لا يمكن التوجه وقصد ما ليس بمعلوم. ويقوم الدليل على أصلين: الأول نظام الكون واتفاق الصنع والثاني دلالة ذلك على الفعل المحكم وبالتالي عن كونه عالما، الأصل الأول اضطراري والثاني استدلالي. والاعتراض الأساسي على هذا الدليل هو وجود القبح والشر والفوضى في العالم وكيفية تفسير ذلك أو تبريره. فمثلا قد يكون خلق القبح لطفا في أداء الواجبات ودعوة لشكر النعم، وقد يكون ابتلاء وامتحانا واختبارا وشحذا للهمة وإعمالا للاختيار. والواقع أن هذا الدليل مثل الأدلة على إثبات الصانع تشخيص لنظام الطبيعة. فنظام العالم ناتج عن قوانين الطبيعة الثابتة التي يكتشفها العقل. وأن استعمال ذلك كدليل لإثبات عالم ذي علم مشخص هو استمرار في الخلط بين العقل والوجدان، بين الفكر العلمي والفكر الديني.
76
أما دليل القدرة فإنه في حقيقة الأمر أقرب إلى إثبات القدرة منه إلى إثبات العلم. ولكن نظرا لارتباط القدرة بالعلم في الثلاثي، فإنه لا يمكن إثبات العلم دون إثبات القدرة؛ لأن العلم واقع متحقق، ولا يمكن إثبات القدرة دون العلم وإلا كانت قدرة عمياء هوجاء لا قصد فيها ولا توجه، وهو ما يناقض الوعي التي تقوم الصفات به. يرتبط العلم بالقدرة، سواء من حيث الإثبات أو من حيث الوصف. فالعلم أوسع من القدرة لأن العلم يتعلق بكل الممكنات والواجبات والمستحيلات، في حين أن القدرة تتعلق بالممكنات وحدها. والحدث دليل على القدرة والأحكام في الحدث دليل على العلم، الأول يعرف بالضرورة والثاني يعرف بالاستدلال. فالقدرة والعلم كلاهما يثبتان كنتيجة لإثبات حدوث العالم. وليس في الشاهد ما يقضي ثبوت أحدهما دون الآخر، وليس فيه ما يؤدي إلى تعلق العلم الواحد بجميع المعلومات فحسب دون تعلقه بالمقدورات؛ لأن الأول يتعلق بجميع المعلومات الواجبة والممكنة والمستحيلة، في حين أن المقدورات تتعلق بالممكنة وحدها. والحقيقة أن ذلك أيضا تشخيص للمقدورات. فلماذا لا تكون الطبيعة فاعلة بنفسها ما دامت الطبيعة عاقلة، والعقل أحد مظاهر الوعي، وبالتالي يتطلب العقل المقدرة؟ فكل قادر عالم بالضرورة وإن لم يكن كل عالم قادرا نظرا لأن العلم أوسع نطاقا من القدرة.
77
وقد يدمج الدليلان معا في دليل واحد في عبارات إنشائية، ويكون أقرب إلى صور ذهنية للتقليد البدائي منه إلى البراهين العقلية عندما يقال مثلا إن الاتساق في الكون يدل على علم، والعلم يدل على العالم أو أن النظام في الكون يدل على القدرة، والقدرة تدل على القادر. إذ يقوم هذا اللون من التفكير على تفسير الظواهر الطبيعية بعلل خارجية، وهو ما يتنافى مع الفكر العلمي الذي يفسر الظواهر من داخلها. كما أنه يعمم الملاحظة إلى صفة مطلقة مجردة. فقدرة النار لا تمثل قدرة مطلقة، وعلم الحيوان أو الإنسان لا يمثلان علما مطلقا. وكل ما في العالم ملاحظات جزئية لا تسمح بالتعميم والتجريد، ثم التعامل مع صفات مستقلة عن العالم. كما أن ذلك تشخيص للقوانين وتحويلها إلى أسماء فاعل. فالقدرة قادر، والعلم عالم، وهي إحدى صور التفكير البدائي في تشخيص الظواهر.
78
والحقيقة أن العلم مثل إنساني أعلى يحققه الإنسان في ذاته، فإن استعصى تحقيقه فإنه يحوله إلى إله، لما كان الإله هو أقصى ما يتمناه الإنسان من غاية. فالتأليه حرص على الواقع كمثل في لحظة العجز عن التحقيق، والتمسك بالحق النظري إن ضاع الحق العملي، التمسك بالمبدأ في غياب الواقع.
79
ويتضح ذلك من تحليل لفظ «العلم» في أصل الوحي في الصيغة الفعلية وليست الاسمية. فالعلم فعل، أو صفة «عليم» أو «علام»، أو اسم بمعنى الوحي، أي العلم المعطى للناس وليس صفة لجوهر ثابت. وهو فعل مشترك بين الإنسان والله، يعلم الإنسان كما يعلم الله. وهو أمر بالعلم حتى يصبح الإنسان عالما كما أن الله عليم وعلام.
80 (3) القدرة
والقدرة ثاني صفة في الثلاثي، العلم والقدرة والحياة، وكأن العقل العملي تال للعقل النظري، وأن العمل لاحق على النظر وتحقيق له. وقد لا تظهر القدرة على الإطلاق لأنه لا توجد مخاطر عليها أو تشكيك فيها.
81
وقد تظهر القدرة مع الحياة كشرطين للعلم في حين أن العلم هو شرط الحياة والقدرة.
82
وقد تظهر على أنها رابع صفة في السباعي بعد الحياة والعلم والإرادة، بعد تقدم الإرادة عليها مما يحيي بصعوبة التفرقة بين القدرة والإرادة كما سيظهر ذلك في مبحث الخلق.
83
وقد تظهر على أنها أول صفة في الثلاثي والسباعي نظرا لأهميتها حتى على العلم، وهنا تكون الأولوية للعقل العلمي على النظري، وللعمل على النظر.
84
وعلى العكس قد تظهر القدرة على أنها آخر وصف في الثلاثي بعد أن يأخذ العلم مكانها وتتصدر الحياة.
85
ولكن بعد أن استقر النسق تظهر القدرة على أنها ثاني صفة في السباعي وفي الثلاثي معا دون ذكر للضرورة العقلية لهذا النسق وكأنه ترتيب محتمل كغيره حتى لو تغير ترتيب الصفات الأخرى كأن تكون الإرادة أوله والحياة آخره.
86
وقد تظهر القدرة عرضا مع القوة دون أن تكون مع الثلاثي بل يكتفي بالعلم والحياة. وقد تظهر أيضا بعد بعض صفات الرباعي مثل السمع والبصر مع صفات التشبيه وبعض صفات الأفعال مثل العزة والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع. وقد تدخل أيضا مع صفات الانفعال المتعلقة بالإرادة مثل السخط والرضا والعدل والصدق والملك والخلق والجود والإرادة والسخاء والكرم، وبهذا المعنى تتسع صفة القدرة وتشمل كل شيء، بل وتتصدر العلم.
87
والقدرة صفة قديمة قائمة بذاتها، توجد بها الحوادث وبعدمها يستحيل ضدها وهو العجز. فهي إذن سبب الإيجاد وغيابها عجز يوجب العدم. أو هي صفة يتمكن بها الفاعل من الفعل والترك، أي وقوع الفعل عند توافر الدواعي، والإيجاب بالنسبة إلى ذات الفعل لا يمكنه من الترك. فالقدرة هنا أقرب إلى القدرة الإنسانية والبواعث والاختيار بين الفعل والترك توحي بالجبر والحتمية على الفعل حين توافر الدواعي. تعني القدرة إذن حصول التأثير من الله على سبيل القصد والصحة لا على سبيل الوجود، وكأن فعل الله نموذج الفعل الموجب القائم على البواعث والموجه بالقصد. ولكنها أصبحت عند المتأخرين القدرة على الخلق على الإيجاد وعلى الإعدام. فهي صفة تؤثر في الممكن الوجود أو العدم تتعلق بالمعدوم فتوجده كتعلقها بالموجود قبل وجوده، وتتعلق بالموجود فتعدمه. هذا التعلق «تنجيزي»، تعلق حادث، وله تعلق «صلوحي» قديم أي صلاحيتها في الأزل. القدرة صفة الإيجاد والإعدام لأن فعل العالم المريد فيما علم وأراد إنما يكون بسلطة له على الفعل ولا معنى للقدرة إلا هذا السلطان.
88
والقدرة أول ما يعرف استدلالا من الصفات، فهو المحدث للعالم. فقد ثبت أنه صح منه تعالى وبالتالي يكون قادرا. والدليل على أنه عالم حي قادر إما الاضطرار أي البداهة أو الاستدلال. والحقيقة أن الدليل يجمع بين الاثنين، إذ لا يجوز أن تظهر الصنائع إلا من قادر حي، وهو دليل الاختراع الشهير الذي سيتحدث عنه الحكماء فيما بعد. أو هو دليل الإتقان والصنعة وهو دليل إثبات العلم. الدليل على كونه قادرا وجود المقدورات عن أول واتصافها بالجواز. فالإيجاد والاختراع لا يصحان من كل موجود، بل اختصاص تصور الاختراع ببعض الموجودات. وبالسبر يعرف أن الاختراع يشترط الحياة والعلم، ويمكن الاعتماد على قياس الغائب على الشاهد لإثبات ذلك. وقد يفصل الدليل ويركب على دليل الحدوث فتثبت القدرة بعد إثبات الحدوث . إذ يدل جواز الحادثات على كون بارئها قادرا. فالحدوث مقدمة لإثبات القدرة كصفة للذات كما كان مقدمة إثبات القدم كوصف لها. يعني الحدوث قابلية التأثير والفاعلية والترجيح. ويتم ذلك عن طريق الاختيار وليس عن طريق الوجوب بالذات كما هو الحال عند الحكماء في نظرية الفيض. ويبطل المتكلمون الوجوب بالذات دون القدرة لأنه يلزم من ذلك قدم العالم أو حدوث الله، وكلاهما باطل، أو استواء الأجسام في الماهية وبالتالي استواؤها في الصفات، والله ليس بجسم والعالم إحساس أو لوجب معلوما واحدا أو معلومات كثيرة، والأول باطل لعدم صدور الكثير عن الواحد أو يلزم عنه تغيرات لا يمكن أن تصدر عن الواجب بذاته. لو كان الله واجبا بذاته لا قادرا على ما يقول الحكماء للزم إما قدم العالم أو حدوث حوادث لا أول لها أو متعاقبة وكلاهما محال.
وفي صيغة أخرى إن لم يكن قادرا لزم إما نفي الحادث أو عدم استناده إلى المؤثر أو التسلسل إلى ما لا نهاية أو تخلف الأثر عن المؤثر والكل باطل، وبطلان اللوازم دليل على بطلان الملزوم. ويقوم الدليل على أصلين: حدوث ما سوى الله وأنه لا تجري به حوادث لا نهاية لها، وأن الحادث لا يستند إلى حادث مسبوق إلى ما لا نهاية. يرفض الأشاعرة إذن استناد القدرة إلى الذات أو بالإيجاب، فكلاهما باطل، ومع ذلك فهو قادر بقدرة قديمة أزلية قائمة بذات الرب متحدة لا كثرة فيها متعلقة بجميع المقدورات غير المتناهية بالنسبة إلى ذاتها أو متعلقاتها، وهي غير الإيجاد على نحو ما في التخصيص بالإرادة.
89
والتأثير في العالم - عند متكلمي الأشاعرة - ليس عن طريق الطبع أو العلة، كما هو الحال عند الحكماء والطبائعيين من المعتزلة، بل بالتأثير والاختيار. فلو كان بالطبع والإيجاب للزم قدم العالم أو حدوث الباري. ولما كانت العلة لا تتغير لزم أن يكون المعلوم كذلك، وبالتالي يتغير الباري. كما يلزم من عدم المعلول عدم العلة. ومع ذلك فهناك اعتراضات عدة على القدرة بالتأثير والاختيار. فالمؤثر في العالم إن استجمع الشرائط وجب الأثر وإلا كان فعله ترجيحا بلا مرجح. كما أن اقتدار القادر نسبة يتوقف على تمييز المقدور في نفسه وبالتالي يلزم الدور. والمقدور لا يخلو من وجود أو عدم والحاصل واجب وبالتالي ينتفي الممكن. كما أن الترك نفي عرض وعدم، وبالتالي لا يكون مقدورا. والواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، والكثير إنما صدر بالوسائط عن الواحد على ما يقول الحكماء الكواكب هي المدبرات أمر الدوران والحوادث السفلية مع مواضعها في البروج وأوضاعها بعضها إلى البعض. وما علم أنه يكون واجبا، وما علم أنه لا يكون ممتنعا، والواجب والممتنع غير مقدور، والقدرة لا تكون إلا للممكن. كما أن القدرة تتعلق بأحد الضدين إما لذاتها فيستغني الممكن عن المرجح فيسد باب إثبات الصانع ويلزم قدم الأثر، وإما لذاتها فلا يحتاج إلى مرجح، وبالتالي تنتفي القدرة.
90
وبعد موضوع إثبات القدرة بالقصد والاختيار أو نفيها بالطبع والوجوب تعرض مسألة شمول القدرة وحدودها. فالقدرة شاملة ومطلقة مثل العلم. الله قادر على جميع الممكنات. ودليل إثبات القدرة هو نفسه دليل إثبات شمولها وإطلاقها. فالمصحح للمقدورية الجواز، وبدونه لا يبقى إلا الوجوب والامتناع، وهما يمنعان من المقدورية. والجواز مفهوم واحد بين جميع الجائزات، لذلك كانت القدرة شاملة لها كلها. ولو لم يكن الله قادرا على جميع الممكنات لوجد سبب آخر وهو محال من وجهين، لأن قدرة الله أقوى، فهو الأولى بالتأثير وبسبب دلالة التمانع واستحالة اجتماع مؤثرين.
91
وقد يأخذ الموضوع صيغة أخرى، فكما أن المسألة الرئيسية في العلم هي البدء الذي يشير إلى التغير والثبات، فإن المسألة الرئيسية في القدرة هي الكل أو الجميع أو الغاية أو النهاية التي تشير إلى التقييد والإطلاق. فقد تساءل القدماء: هل معلومات الله ومقدوراته لها كل أو لا كل لها؟ ولما كان الإشكال لا يعبر عن موضوع في الخارج بل عن قسمة إنسانية خالصة يقوم بها الذهن كما هو واضح في المنطق لتصنيف الأشياء بين الكل والجزء، الجميع والبعض، اللانهاية أو الغاية، فإن الشعور يقوم بإسقاط قسمة الذهن هذه على التأليه المشخص. فالإجابة بالنفي إثبات بالإطلاق حرصا على التنزيه. فالقدرة شاملة كلية جامعة لا نهاية لها لا تتجزأ ولا تتبعض ولا تنتهي. فالتجزئة والتبعيض والنهاية كلها مظاهر نقص، والتأليه يعبر عن نفسه في صيغ الشرف والكمال. والإجابة بالإثبات أيضا إثبات للتنزيه؛ لأن المعلومات والمقدورات لا بد أن تنتهي حتى يبقى المؤله وحده ولا شيء معه كما كان لا شيء معه. فتحديد المعلومات المقدورات ليس تقييدا للمطلق بل إطلاق له وتقييد لما سواه ورد للموجودات إلى مكانها الطبيعي في عالم الحدوث.
92
وبعد إثارة المسألة العامة إطلاق القدرة وتقييدها تظهر الدوافع الحقيقية للمسألة التي كانت وراء نشأتها والتي أصبحت نوعا من التمرينات العقلية والتطبيقات العملية التي تكشف عن عملية التأليه وشدها وجذبها بين الوجدان والعقل، أي بين إطلاق القدرة وتقييدها. إذ يفترض العقل صعوبة أو استحالة أو تناقضا حتى يقوم الشعور بتجاوزها بسلاح القدرة ويعبر من خلالها عن عواطف التعظيم والإجلال. ويقف الإنسان أمام هذه الاستحالة أو التناقض إما يعلن استسلامه لهذه العواطف والتسليم بالقدرة المطلقة والخضوع لها أو يعلن رفضه لها وتمرده عليها وإثبات قدرته الخاصة.
وأول مشكلة مثارة هي اصطدام القدرة مع العلم في سؤال: هل الله قادر على ما علم ألا يكون؟ فالجواب بالإيجاب إثبات لعموم القدرة وشمولها على العلم، والجواب بالنفي إثبات لشمول العلم وأولويته على القدرة. فالعلم أوسع نطاقا من القدرة، وإمكانيات العقل النظري أكبر بكثير من إمكانيات العقل العملي. ولكن يظل سؤال: وكيف يكون هناك علم لا يقع، ونظر بدون عمل؟ فالمسألة لا حل لها، ولكنها مجرد فرصة للتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال بين المزايدة فيها وإحكامها بالعقل.
وقد تصطدم القدرة بحرية الأفعال في سؤال: هل الله قادر على أفعال العباد؟ فالرد بالإيجاب إثبات لمطلق القدرة على حساب حرية الإنسان، في حين أن الجواب بالنفي إثبات لحرية الإنسان حتى ولو كان في ذلك تحديد للقدرة المطلقة. وأيهما أولى بالتضحية، حرية الإنسان أم مطلق القدرة؟ وأيهما أولى بالإثبات، حرية الله أم حرية الإنسان؟ إن أكثر أفعال الحيوانات مقدور لها، وبالتالي يلزم مقدورين لقادرين. وقد تحول الإشكال النظري إلى اختيار الإجابة الأولى، وأصبحت نوعا من المسلمات الوجدانية. فتظهر في البسملات مع المشيئة والإرادة مسيطرة على كل شيء، على الإنسان أفرادا وجماعات، وعلى الطبيعة والتاريخ، على حساب الحرية الإنسانية وحركة الجماهير ووعيها وقوانين الطبيعة ومسار التاريخ، وكأن القدرة سلطان قاهر على كل شيء، مما سبب رد فعل طبيعي وهو تأكيد الحرية الإنسانية وخلق الأفعال كحد من القدرة المطلقة وإرهابها وتدخلها في كل شيء.
93
وقد تصطدم القدرة بموضوع العدل في سؤال: هل يقدر الله على فعل الظلم للإنسان؟ هل يقدر على فعل الشرور والقبائح في العالم؟ فإثبات القدرة المطلقة تضحية بالعدل في سبيل التوحيد، ونفيها إحكام عقلي للتوحيد في سبيل العدل. وليس هناك حل عقلي مرض؛ لأن المسألة كلها تمرين عقلي للمزايدة في عواطف التعظيم والإجلال على حساب الإحكام العقلي وتأكيد حق الإنسان. وقد يمتد السؤال من هذه الدنيا إلى غيرها. حينئذ تصطدم القدرة بأمور المعاد في السؤال: هل الله قادر على إثابة المسيء وعذاب المحسن؟ وهو نفس مسألة العدل مع تطبيقها في نهاية الزمان خارج العالم وليس في الزمان في هذا العالم.
94
ولكن الصدام الأكبر هو الذي نشأ بين القدرة المطلقة وبين العالم الطبيعي، سواء في نهاية الزمان في إفناء العالم أو في هذا الزمان في تغيير قوانين الطبيعة.
95
ويكشف هذا الصدام عن صراع فعلي بين الفكر الديني والفكر الطبيعي، بين الفكر اللاهوتي والفكر العلمي ودفاع الفكر الطبيعي والعلمي عن استقلال الطبيعة واستحالة تحول الوجود إلى عدم أو العدم إلى وجود، فالأجسام لها طبائع مستقلة.
96
وقد تتردد بعض الآراء بين الفكر الديني التقليدي والفكر الطبيعي العلمي الناشئ عندما تحاول الجمع بين القدرة المطلقة وطبائع الأشياء في وجود ثالث تظهر فيه القدرة وتفنى فيه الأشياء وهو الفناء نفسه. ويتم ذلك مرة واحدة لا على فترات؛ لأن طبيعة الشيء لا تتجزأ ولأن فناء الكل أعظم قيمة من حيث القدرة من فناء البعض، ولأنه فناء طبقا لمبدأ وليس طبقا لحالات فردية خاصة. يشير هذا التردد بين الإطلاق والتقييد في الصفات إلى بزوغ الفكر الطبيعي العلمي الناشئ من باطن الفكر الديني التقليدي واستقلال الطبيعة حتى ولو كانت في صيغة أخرويات مشخصة عن الإرادة الإلهية وإعلان توقفها بعد أن تكمل غايتها في التاريخ. وإن كان هناك إطلاق فهو إطلاق من طبيعة الشيء وليس من إرادة مشخصة خارجة عنها.
97
ولكن تظهر الطبيعة في هذا العالم كحد للقدرة في كون الأشياء موجودة، وأن الوجود هو القدرة. الوجود والقدرة شيء واحد، ويعني ذلك أنها من جنسه. القدرة تحيل الوجود إلى عدم، والعدم إلى وجود. وما دامت القدرة قد ثبتت فقد ثبت الوجود. وما دام هناك وجود فهناك قدرة. القدرة هنا ليست قوة مشخصة يرمز إليها باليد بل هو الوجود ذاته. ومن ثم لا يستحيل عليها شيء؛ لأنها هي الشيء.
98
وقد يتحول التمرين العقلي من الوجود العام إلى الوجود الخاص، أي إلى الأجسام، ويصبح التمرين هو: هل يقدر الله على خلق العرض؟ والتمرين العقلي لا يبغي حل مشكلة موجودة بالفعل، بل هو مجرد سؤال يوجهه العقل للشعور حتى يسمح للشعور بالتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، وهي الصياغات العقلية لعواطف التأليه. والرد بالإيجاب يسمح للشعور بتجاوز الممكن إلى المستحيل، وباستعمال طريق الأولى، وهو الاستدلال المنطقي الذي يعبر عن عواطف التأليه. وهو الموقف التقليدي الشائع، موقف الأشاعرة وأهل السنة، يشاركهم فيه بعض المعتزلة.
99
أما الرد بالنفي فهو إثبات لطبائع الأشياء المستقلة حتى ولو كانت أعراضا. فالأعراض مع طبائع الأجسام.
100
وقد لا يكون النفي نفيا للقدرة وحطة في التنزيه، بل هو تصور علمي للتنزيه يستبعد التشخيص ويعيد الاستقلال للأشياء. وماذا في القدرة على خلق العرض من تنزيه؟ ليس فيها إلا من إثبات لقدرة تفعل ما هو جدير بها وما ليس بجدير كالقدرة المسيطرة التي تفعل كل شيء، كبيرا كان أم صغيرا، في حين أن جلالة القدرة وعظمتها لا تفعل إلا ما لا يقدر غيرها على فعله. والعظيم هو الذي يتعفف عن فعل صغائر الأمور. تستخدم الموضوعات الطبيعية إذن لإثبات القدرة، ليس فقط في خلق الجواهر، بل أيضا في خلق الأعراض. ويصارع الفكر العلمي الطبيعي في جعل الأعراض حالة بالجواهر وبالتالي ينكر خلق الأعراض. والقضية هي: أيهما أولى بالدفاع، قدرة الله المطلقة مع إنكار كل قدرة أخرى، أم استقلال الطبيعة وحركة الأجسام وقوانينها؟
101
فإذا كان التمرين العقلي، وهو القدرة على خلق العرض، يسمح للشعور بالتعبير عن القدرة على الممكن، فإن التمرين العقلي الثاني: هل يقدر الله على خلق جواهر لا أعراض فيها؟ يعطي للشعور فرصة أكبر لتجاوز المستحيل؛ وذلك لأن الجواهر لها أعراض، والأعراض لا توجد إلا في جواهر. ولكن القدرة العظمى تستطيع خلق جواهر بلا أعراض، وأن تتحكم في طبائع الأشياء وتتحداها، على عكس الإنسان الذي لا يستطيع خلق جواهر بلا أعراض حين تخضع قدرته لطبائع الأشياء وقوانين الطبيعة. فالرد بالإيجاب يسمح للشعور بالتعبير عن عظمة القدرة وجلالها حتى ولو كان في هذا التعظيم القضاء على العالم كله في حين أن الرد بالنفي إثبات لطبائع الأشياء ولقوانين الطبيعة، وتصور علمي للتنزيه وقضاء على تشخيص القدرة.
102
ثم يأتي تمرين ثالث يسأل عن قلب الأجسام من جوهر إلى عرض ومن عرض إلى جوهر في صيغة: هل يقدر الله على قلب الأجسام أعراضا والأعراض أجساما؟ والغاية من السؤال السماح للشعور بالتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال طبقا لاستدلال شعوري على النحو الآتي: بما أن الإنسان لا يقدر على قلب الأجسام أعراضا والأعراض أجساما، بل إنه لا يقدر على مجرد تغيير الجواهر إلى جواهر مثلها أو الأعراض إلى أعراض مثلها، يكون المؤله المشخص إذن هو وحده القادر على ما لم يقدر عليه الإنسان، فيستطيع أن يقلب الأجسام أعراضا والأعراض أجساما. وبتعبير آخر بما أن الإنسان لا يقدر على تغيير قوانين الطبيعة، فإن المؤله المشخص إذن يكون هو وحده القادر على ذلك. ومن ثم يفي الرد بالإيجاد بهذا الغرض، في حين يكون الرد بالنفي إثباتا للنظرة العلمية واستقلال الطبيعة وانتظام قوانينها، وكأن القدرة لا تثبت إلا على حساب العالم وأن استقلال الطبيعة لا يثبت إلا على حساب القدرة . ويكون المكسب والخسارة هو: أين موقف الإنسان وموقعه في العالم؟ هل هو مدافع عن حق الله أم مدافع عن حقه كإنسان وعن استقلال قوانين الطبيعة ووجوده في عالم يحكمه قانون، وبالتالي ينشأ العلم ويتأسس النظام؟
103
ويمكن التوفيق بين الموقفين عن طريق التمييز بين نوعين من الموجودات: الأول يحدث في ذات المؤله، وهو يدخل تحت قدرته، والثاني يحدث في العالم الخارجي وهو لا يدخل تحت قدرته بل يسير طبقا لطبائع الأشياء. بل إن الخلق نفسه لم يتم بالقدرة الشخصية للتأليه، بل بالكلام وحده أي بالفكر وليس بالإرادة، بالمعنى وليس بالقوة، بالعقل وليس باليد.
104
ثم يأتي تمرين رابع ليعطي نفس الفرصة للشعور كي يعبر عن عاطفة التأليه، وهو: هل يقدر الله على صيرورة الجسم جزءا لا يتجزأ؟ ويقدم الذهن قسمته المنطقية، الكل والجزء، ثم يسقطها على الأجسام فيصبح الجسم كلا يتكون من أجزاء لا تتجزأ. ويكون التمرين: هل يمكن تحويل الكل إلى جزء؟ وبما أنها استحالة منطقية وطبيعية عند الإنسان، فإن المؤله المشخص يكون هو وحده القادر على تجاوز هذه الاستحالة وتحويلها إلى إمكانية بالقدرة المنظمة. فالرد بالإيجاب يسمح للشعور بالتعبير عن عواطف التأليه في هذه القسمة المنطقية التي قدمها الذهن وأسقطها على الطبيعة.
105
ويكون الرد بالنفي هو التزام بالنظرة العلمية والتمييز بين عواطف التأليه التي يمكن التعبير عنها في صياغات عقلية علمية لا تمسها استقلال الطبيعة وحتمية قوانينها وبين القسمة المنطقية التي يقدمها الذهن تعبيرا عن عواطف التعظيم والإجلال.
وقد يثار نفس السؤال عن طريق إدخال القدرة الإنسانية، وبالتالي يقدر الله في العالم ويفعل في الأجسام والأعراض من خلال قدرة الإنسان، هدما لها وقضاء عليه حتى لا تقوى أن تصمد أمامها الطبيعة، ولا أن يقف في مواجهتها الإنسان. وصيغة السؤال: هل يوصف الباري بالقدرة على أن يقدر خلقه على الحياة أم لا؟ وعلى فعل الأجسام أم لا؟ هل يقدر الله أن يخلق قدرة لأحد على فعل الحياة والموت أم لا يوصف بالقدرة على ذلك؟ وفي مقابل الإيجاب الذي يمثل القدرة المطلقة الشاملة
106
هناك النفي النسبي عن طريق نفي الأقدار من الأجسام وإثباته في الأعراض أو إثباته في بعض الأعراض ونفيه في البعض الآخر.
107
وهناك النفي المطلق في الأجسام والأعراض معا تأكيدا لقدرة الإنسان ودفاعا عن استقلال الطبيعة.
108
ولما كان موضوع القدرة كإقدار داخلا في موضوع الكسب فقد جعل البعض الإنسان قادرا على الكسب عاجزا عن الخلق، وأن المقدور على كسبه هو المعجوز عن خلقه.
109
ويفضل البعض الآخر إلغاء المشكلة كلها، فلا يوصف الإنسان لا بالقدرة ولا بالعجز لا على الكسب ولا على الخلق، ورفض التمرين العقلي نظرا لما يقدمه من متاهات لا تسمح إلا بالتعبير عن عواطف التأليه تعظيما للمؤله وتحقيرا للطبيعة وتعجيزا للإنسان.
110
وقد يضاف إلى القدرة صفة أخرى تابعة لها أو مستقلة عنها، وهي صفة الخلق أو التكوين فتكون الصفات ثمان. رباعي ورباعي. والحقيقة أنها صفة إضافية؛ لأن القدرة صفة مؤثرة على سبيل الصحة، وصفة الخلق أو التخليق مؤثر أيضا على سبيل الصحة، ومن ثم لا فرق بين الصفتين. أما التكوين فإنه ليس صفة مستقلة بل داخل في القدرة أو في الإرادة؛ لأن التكوين تخصيص مثلها.
111
والحقيقة أن اللفظ في أصل الوحي يشير إلى الفعل والموصوف ولا يشير إلى الصفة، مما يدل على أن القدرة فعل أو فاعل، ولكنها ليست اسم فعل مستقل عن الفعل والفاعل. ولا تعني فقط القدرة بل تعني أيضا التقدير وحسن الإدراك وميزان الأمور والتخطيط والاعتدال في النسب، مما يدل على أن القدرة ليست فقط قوة مشخصة خارج الطبيعة، بل إنها تقدير في الطبيعة وتقدير من الإنسان للطبيعة.
112 (4) الحياة
هي ثالث صفة في الثلاثي بعد استقرار نسق الصفات وإن اضطرب مكانها في البداية بين الثلاثي والرباعي.
113
وقد لا تظهر الحياة على الإطلاق لأنه لم تكن هناك مخاطر عليها.
114
وقد لا تظهر إلا في عبارة يختتم بها السمع والبصر (الإدراكات) في أمر الرباعي والسباعي معا.
115
وقد تظهر في الثلاثي بعد القدرة والعلم.
116
ولكن الغالب ظهورها نظرا لأهميتها غير المتوقعة في أول السباعي والثلاثي معا.
117
ويجمع القدماء على أن الحياة شرط العلم أو شرط العلم والقدرة معا، فلا يوجد عالم إلا حي، ولا يوجد عالم قادر إلا كان حيا. وأحيانا تمتد الحياة فتصبح شرطا للرباعي أيضا. فالحياة شرط الإدراك كالسمع والبصر. وقد يوجد الشرط دون المشروط، ولكن لا يمكن وجود المشروط دون الشرط.
118
يستحيل وجود الفعل من موات، وما دام الله فاعل الأشياء وجب أن يكون حيا. ولما ثبت بالدليل على أن الباري صانع قادر فاعل، وصح الفعل وقوعه من الميت فإن وقوعه من الحي أولى. الحي هنا من يشعر بنفسه ويعلم ذاته وغيره، العالم بجميع المعلومات القادر على جميع المقدورات. ويمكن تأسيس هذا الدليل على أساس الإحصاء والملاحظة والسبر والتقسيم. وذلك في الحقيقة هو قياس الغائب على الشاهد بدليل استعمال التشبيه بالحياة الإنسانية في عبارة «الواحد منا»، وقد تستعمل بعض الأدلة النقلية لإثبات الحياة ولإثبات أن الله حي.
119
ولكن ماذا تعني الحياة؟ نظرا لارتباط العلم والقدرة والحياة فقد تفيد الصفات الثلاث معاني بعضها البعض مما يدل على الوحدة بينها. كما تفيد كل صفة معناها على حدة مما يشير إلى التغاير بينها.
120
وقد لا ينطبق ذلك على الثلاثي وحده، بل ينطبق أيضا على السمع والبصر من الرباعي لما كانا طريقين للعلم ومظهرين للحياة. وقد يفيد إثبات الثلاثي إثبات الذات نظرا للتوحيد بين الذات والصفات.
121
ومع ذلك قد يفضل البعض تمايز المعاني بين الصفات الثلاث،
122
ولكن بالإضافة إلى التعريف بالشرط،
123
أو التعريف بالذات هناك عدة تعريفات أخرى تتراوح بين الصفة الأزلية والوظيفة العضوية. فالحياة صفة قديمة أزلية تطلق عليها الأحكام العامة الثلاثة للصفات. وقد تكون استحالة الضد أي الموت نظرا لأن الصفات هي قلب للأضداد. وقد تكون الحياة اعتدال المزاج النوعي أو قوة تنبع من ذلك الاعتدال. على أية حال الحياة شعور بديهي، كما يستتبع العلم والإرادة وكل مظاهر الحياة. والحياة كصفة أزلية هي حياة المطلق بلا مادة أو مضادة لحياة المادة، فهي الحياة الخالصة الطاهرة. وهو قلب للوضع الإنساني. فبما أن الحياة الإنسانية ملامسة للمادة، حياة البدن ، فالأشرف أن تكون حياة التأليه منزهة عن البدن.
124
وقد نشأ من هذا التصور للروح الطاهرة سلوك متطهر يقوم أيضا على قسمة الحياة إلى روح ومادة، واعتبار المادة أقل شرفا وأحط مرتبة من الروح وما يترتب على ذلك من مخاطر الازدواجية والنفاق والخلط في السلوك الإنساني، الفردي والجماعي.
125
لم يتعرض القدماء كثيرا لهذه الصفة الثالثة، وهي الحياة، مع أنها الصفة التي تستطيع أن تكشف الإنسان من حيث هو حياة كما كشف العلم عن تغير الواقع وتكيف العلم طبقا له وكما كشفت القدرة عن طبائع الأشياء وعن الحرية الإنسانية. لم يذكر القدماء إلا أن الباري حي؛ لأنه يفعل فلا فعل بدون حياة. الحياة حياة الفعل، والفعل فعل الحياة.
126
وبما أننا لا نحيا، وليس لدينا شعور بالحياة فلم نهتم بتفصيل هذه الصفة كما فعلنا في العلم والقدرة لإثبات أن الله عالم بكل شيء
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
لإعطاء تصور تمثله السلطة لإحكام سيطرتها. ومع ذلك إن لم يعبر جيلنا عن الحياة في صياغة عقلية تقوم على تحليل الواقع، فإنه يعبر عن نفسه بأسلوب التهكم والسخرية كنوع من التفريج السري عن الهم أو في التعبيرات الرمزية في الأدب والصحافة من أجل رفع الغطاء عن الحياة المانع لها من الصياغات العقلية الصحيحة أو في خطاب الزعيم الذي يهدف إلى تخفيف حدة الأزمة نفسيا أو بإعطاء الوعود أو بإظهار بطولة ابن البلد والفروسية القديمة أو التحول إلى المنظمات السرية من أجل تحويل المشكلة من الكبت النظري إلى التفريج العملي أو عدم الوعي بها على الإطلاق، وحصر الحياة في البحث عن لقمة العيش للمحافظة على الحياة العضوية، أو باستغلال الأزمات للمكاسب الشخصية وللحصول على المناصب والرزق الوفير أو تعميقها وتبريرها ولويها لصالح السلطة بالتستر وراء الحكم، وهو في الحقيقة وضع للعلم في سوق السلطة أو هروبا إلى حلقات الذكر والطرق الصوفية أو في حلقات الحشيش وجلسات المرح. أما في أصل الوحي فالحياة هي الحياة الدنيا، حياة الناس. الحياة امتحان واختبار وعمل، قانونها الأضداد، إخراج الحياة من الموت والموت من الحياة. وهي فعل لله لإحياء الأرض والبلاد والعظام والنفس والناس ولم تستعمل كصفة له. الحياة فعل لفاعل أكثر منها صفة مستقلة له.
127 (5) السمع والبصر
وهما أول صفتين في الرباعي، يأتيان معا باستمرار في هذا الترتيب بداية بالسمع وتثنية بالبصر. وهما أقل ظهورا من الإرادة والكلام، كما أن الحياة أقل ظهورا في الثلاثي من العلم والقدرة. وكلاهما يدخلان على أنهما من الإدراكات. لذلك لا يظهران كصفتين مستقلتين بل يظهران مع العلم في إثباته، ومع إثبات أوصاف الصانع وعلى أنهما مظهران للحياة.
128
يظهران في إثبات صفات التشبيه عرضا وضد نفاتها بإرجاعها إلى العلم.
129
وقد تداخلت الصفتان في الثلاثي. فعندما تنتقل الإرادة إلى الثلاثي يظهر البصر كثاني صفة في الثلاثي: الكلام، البصر، السمع.
130
وعندما يصير الرباعي ثلاثيا بعد إدخال الإرادة بعد القدرة في الثلاثي يبقى السمع والبصر والكلام.
131
ويظهر السمع والبصر مع القديم بعد العلم وقبل الحياة، وأهمها إثبات الصفات أو نفيها قبل قدمها أو حدوثها.
132
فإذا ما استقل الثلاثي فإن السمع والبصر يظهران إما آخر الرباعي وإما في وسطه وإما في أوله.
133
وقد لا يفترق السمع والبصر عن باقي الأسماء.
134
ويثبت السمع والبصر بالنقل وبالعقل. والنقل ليس حجة يقينية كالعقل لأنه معارض بنقل معارض، ويمكن تأويله على نحو مجازي. والعقل هو أن الله حي، ومن صفات الحي السمع والبصر. الحي لا يكون إلا متكلما سميعا بصيرا.
135
وقد تراوح تعريف السمع والبصر كذلك بين الصفة الأزلية القديمة القائمة بالذات أو الوظيفة الإدراكية العضوية الصرفة. فالسمع صفة واحدة أزلية قائمة بذاتها يسمع بها جميع المسموعات من الأصوات والكلام، وكذلك البصر صفة واحدة أزلية يبصر بها جميع المبصرات.
136
ولكن السمع والبصر أيضا ليسا صفتين مستقلتين عن العلم، بل وسيلتان للعلم، أي إدراكان. فهو مدرك للمسموعات والمبصرات والإدراك لا يزيد على العلم، بل هو العلم الحسي التجريبي. يرجع السمع والبصر إلى الإدراك قبل أن يصبح علما نظريا أو استدلاليا. هما إدراكان قبل العلم يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود. فهما قبل العلم كإدراك وبعد العلم كنظر
137
فالإدراكات من قبيل العلوم. صحيح أنه قد يحدث إدراك حسي دون علم وقد يحدث علم دون إدراك حسي؛ وذلك لأن تحويل الإدراك إلى علم مشروط بسلامة الإدراك وبالانتباه على ما هو معروف في نظرية العلم وفي نظرية الرؤية. ويعتمد نفي السمع والبصر كصفتين مستقلتين عن العلم على تعدد القدماء أو لو كانا حادثين لكانت الذات محلا للحوادث وعلى احتياجهما إلى حاسة وآلة وعضو ووظيفة وهو محال. وقد يتوقف البعض دون إثبات أو نفي.
138
والعجيب أنه في نفس الوقت الذي يثبت فيه السمع والبصر كصفات أزلية قائمة بالذات يثبتان أيضا على الحقيقة كوظيفتين سمعيتين وبصريتين.
139
وكأن الإيغال في إثبات الصفة القديمة ينقلب إلى تشبيه حسي لإثبات وظيفتين حسيتين. لذلك حرص البعض على إثبات السمع والبصر دون الآلة أو العضو، لا يثبتان بآلة صماخ وأذن أو عين وحدقة. كذلك يمكن تعريف السمع والبصر عن طريق الاكتفاء بنفي الضد أي الآفة، أي استحالة الصمم والعمى، فكلتاهما صفات نقص والسمع والبصر صفتا كمال وضدهما نقص. فالحي إن لم يكن موصوفا بآفة تمنعه من الإدراك كان سميعا بصيرا،
140
وذلك يدل على أن نشأت الصفات هي في أضدادها عن طريق القلب، أي نفي مظاهر النقص الإنساني لإثبات مظاهر الكمال الإنساني.
ويذكر أحيانا السمع بمفرده دون وضع مسائل جديدة زيادة على استقلالها عن العلم أو ارتباطها بالإدراك أو ارتباطها بالقدرة كالقول بأن سمع الإله قدرته على إدراك مسموعاته.
141
ولكن يبدو أن البصر قد حظي باهتمام أكبر من السمع بالرغم من أن الوحي سمعي لا بصري. فكل موجود يجوز أن يكون مسموعا ومرئيا، وبالتالي لا يوجد موجود إلا إذا أدرك من خلال الحواس. لا يسمع إلا ما كان كلاما أو صوتا ومع ذلك يظل السمع صورة للعلم حتى ولو كان غير موجود أو كان أصوات الهامسين.
142
ويثبت البصر أيضا بنفس حجة ثبوت السمع. فتجوز رؤية كل ما هو موجود وتستحيل رؤية المعدوم. ولكن هل تجوز رؤية ما هو قائم بنفسه وتستحيل رؤية الأعراض ؟
الدليل على رؤية الأعراض هو التمييز بالبصر بين الألوان وبين التأليف والأكوان. ومع ذلك فالبصر صورة للعلم والتحقق من وجود المعلوم حتى ولو كان مختفيا عن الأنظار. فالبصر يعني العلم، والإدراك الحسي مقدمة للعلم وليس هو العلم. العلم لا يكون إلا نظريا. ولا يمكن أن تكون الرؤية هي العلم، فقد يرى الإنسان شيئا ولا يعلمه أو يعلم الإنسان شيئا ولا يراه. ويخلط القدماء بين السمع والبصر كصفات ذات وبين المسموع والمبصر كموضوعات إدراك. وبالتالي يظهر موضوع الرؤية من جديد من الذات إلى الصفات في سؤال: هل يسمع الله ذاته؟ هل يرى الله ذاته؟ وبالتالي تتحول الصفات الذاتية إلى موضوعات مسموعة أو مرئية، ثم تتحول الموضوعات إلى ذات مشخصة، ويصبح الله ذاتا وموضوعا، سامعا ومسموعا، مبصرا ومبصرا.
143
وقياسا على السمع والبصر، ما المانع من نسبة الذوق والشم واللمس كصفات للذات خاصة وأن فقدانها نقص، وأنها من كمالات الحي؟ ولماذا لا يثبت التلذذ والتألم والشهوة، فهي أيضا كمالات للحي؟ الحواس كلها طريق للعلم وللاتصال بالعالم والتعبير عنه سواء بسواء، مثل السمع والبصر. هل يغني السمع والبصر عن باقي الحواس لأن باقي الكيفيات الحسية داخلة فيهما، وكأن المدركات نوعان: سمعية وبصرية، مثل الفنون، لا ذوقية أو شمية أو لمسية؟ وقد أبدعت الحضارة قديما ليس فقط في الفنون السمعية (الشعر)، بل أيضا في الفنون البصرية (الكتابة والزخرفة)، والذوقية (الطعوم)، والشمية (الأراييح)، واللمسية (الحرائر).
144
والحقيقة، أن ذلك كله هو إكمال للوعي بالحواس وسيلة الاتصال بالعالم والتعبير عنه، مع إعطاء الأولوية للسمع والبصر على الذوق والشم واللمس لأنهما أقرب إلى إدراك المعاني. والحواس ليست صفات أزلية قديمة قائمة بالذات (المستوى الصوري) ولا أعضاء ووظائف حسية تقوم على الأشعة والعين والأجسام والأعراض، والحواس والآلات، والأذن والصماخ، والآفات وصحة البنية (المستوى المادي)، بل هي مدركات حسية يعي الوعي من خلالها العالم. الوعي يرى ذاته خارجا منه، مطرودا من العالم، غريبا عنه. وهذا ما يؤكده تحليل السمع والبصر في أصل الوحي. فالسمع فعل أكثر منه صفة، وفعل إنساني وليس فعلا إلهيا. وهو مرتبط بالعلم وطريق له. أما البصر فهو أيضا فعل للإنسان أكثر منه فعلا لله. وكذلك البصر والإبصار للإنسان للإدراك الموجه بالانتباه.
145 (6) الكلام
وهو الصفة السادسة من صفات الذات. وفي العقائد يصعب الفصل بين أوصاف الذات وصفاتها فتظهر بعض الصفات مع الأوصاف. فمثلا يظهر العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر مع نفي الجسمية والشبه وإثبات الواحد وإعادة المخلوقات.
146
ولا يظهر إلا الكلام والإرادة متميزان على باقي الصفات السبع نظرا للمخاطر المحدقة بهما. الكلام لإثبات قدمه ضد خلقه، والإرادة لإثبات شمولها ضد حرية الأفعال.
147
ونظرا لأهمية الكلام، فإنه يظهر بوضوح تام أمام الرباعي كما يطغى أحيانا على الثلاثي: العلم والقدرة والحياة، كما غلبت من قبل صفتا المخالفة للحوادث والقيام بالنفس على أوصاف الذات الست. ويعقد له باب خاص قد يكون هو الباب الأوحد المستقل في الصفات. وفي بعض المؤلفات يظهر الكلام (القرآن) وتختفي باقي الصفات الست الأخرى.
148
ويأتي الكلام في أول الرباعي نظرا لأهميته.
149
وعندما تدخل الإرادة مع الثلاثي الأول يظهر الكلام ثاني صفة في الرباعي بعد الإرادة وقبل السمع والبصر نظرا لأهميته على السمع والبصر وارتباطه بهما في نفس الوقت.
150
ويظهر الكلام في ثلاثة أبواب مستقلة بعد الإرادة، وقبل السمع والبصر، فتتصدر أهم صفتين تتلوهما الصفتان الأقل أهمية.
151
ونظرا لارتباط الإرادة بالقدرة، وارتباط الكلام بالسمع والبصر، فقد تأخر الكلام.
152
وقد يأتي الكلام في آخر الرباعي بعد الإرادة نظرا لتكوينه موضوعا خاصا مستقلا حسيا.
153
وقد يذكر معه القرآن نظرا لأن القرآن هو التعبير الحسي الملموس عن الكلام أي الكلام الجسمي.
154
ونظرا لأهمية إثبات خلق القرآن أو قدمه، فإنه يظهر في باب خاص تال للرؤية وإثباتها. ويظهر كأنه هو كل مسألة الكلام، ولا تذكر مسائل الكلام الأخرى كالكتابة والتلاوة والحفظ إلا عابرا في معرض المحاجة على قدم القرآن.
155
وقد يظهر الكلام كأحد أبواب العدل ويخرج عن كونه صفة للذات في أبواب التوحيد. ووجه اتصاله بالعدل هو أن القرآن فعل من أفعال الله يصح أن يقع على وجه فيقبح وعلى وجه آخر فيحسن. وباب العدل كله في أفعاله وما يجوز أن فعله وما لا يجوز.
156
ويثبت عن طريق إجماع الأنبياء دون أن يتوقف ثبوت نبوتهم عليه أي أنه ليس دليلا على النبوة كالمعجزة.
157
ويشمل مبحث الكلام عدة موضوعات، إثبات الكلام أو نفيه، قدمه وحدوثه (مشكلة خلق القرآن)، ثم وصف مراحل الكلام ابتداء من السمع والبصر حتى الرؤية والتحقق مارا بالحفظ والأداء ثم صيغ الكلام (وحدته وكثرته).
158
ولكن ما هو تعريف الكلام؟ يتراوح تعريف القدماء بين الكلام كأصوات وحروف مسموعة أو مقروءة، أي الكلام الحسي، وبين الكلام كمعنى، أي الكلام النفسي. وينشأ الخلاف في الكلام الحسي، أي الأصوات والحروف، هل هي قائمة بذات الله أم قائمة بغيره في الهواء أو على الألواح؟ كما ينشأ الخلاف في الكلام النفسي هل هو قائم بذات الله، أي بنفسه، أم أنه معنى قائم بنفس الإنسان المستمع أو القارئ؟ فلا خلاف عند القدماء على كونه متكلما ولكن الخلاف في معنى كلامه.
وحجة الكلام الحسي أن الكلام أصوات دالة على معان مخصوصة في أجسام مخصوصة، الكلام أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي. وهنا يبرز سؤال: وهل اللوح المحفوظ أو جبريل موضوعان حسيان يظهر فيهما الكلام كما يظهر على لسان النبي وبصوته؟ كما يبرز سؤال آخر: هل الكلام أصوات وحروف فحسب؟ ألا تدل الحروف والأصوات على معنى وبالتالي يكون الكلام لفظا ومعنى؟ وبالتالي يسهل اتهام الكلام الصوتي فحسب بأنه تعطيل للمعنى أو تجسيم له. ولكن السؤال الأهم: إذا كان الكلام هو الأصوات والحروف، فكيف يقومان بذات الله القديم؟ بل قيل إن الجلد والغلاف قديمان! الرغبة في عدم التضحية بالنظرة الحسية والتمسك بالعقيدة الإيمانية في آن واحد حاصرت العقل فلم يعط أي تأسيس لهذا الجمع بين الكلام الحسي والصفة القديمة، بين الكلام المتكثر والكلام الواحد.
159
وحجة الكلام النفسي أن الكلام صفة غير الحروف والأصوات؛ لأنها تفيد معاني وضعا أو اصطلاحا. هو الكلام القائم بالنفس، معاني حقيقية قائمة بها، والعبارات مجرد تعبيرات مختلفة ومتغيرة.
160
وهو كلام واحد ينقسم إلى أمر، ونهي، واستفهام، وخبر، ونداء، أي خمس صيغ حسب التعلق. يمتنع عليه الكذب اتفاقا إما لأنه قبيح والله لا يفعل القبيح، ولأنه مناف لمصلحة العالم والأصلح واجب عليه، أو لأنه نقص والنقص محال على الله، أو لأنه لو اتصف بالكذب لكان كذبه قديما، فيمتنع عليه الصدق، أو لأنه خبر النبي الذي يعلم صدقه بالمعجزة وليس بالكلام حتى لا نقع في الدور. والحقيقة أن صدق الكلام يكون إما من حيث الصحة التاريخية وهو موضوع النقد التاريخي وعلوم الرواية ومصطلح الحديث أو من حيث الفهم، ويكون ذلك عن طريق قواعد اللغة وأسباب النزول أو من حيث التحقق الفعلي كنظام للعالم، ويكون ذلك من خلال الفعل للأفراد وللجماعات في التاريخ. فلا يرجع صدق الكلام إلى صدق الذات بحسب كمالها، فذاك صدق علوي مفارق، بل يرجع إلى ضبط الإنسان له بمناهجه في النقل وبقواعده في التفسير وبأفعاله في السلوك. ولكن تبدو الصعوبة في تصور الكلام النفسي صفة للذات الإلهية وليس معنى في الشعور الإنساني. إذ كيف يكون هذا الكلام مغايرا للعلم والإرادة، بل قد يخالفهما، فقد أمر الله أبا لهب بالإيمان (الكلام في صيغة الأمع) مع علمه بأنه لا يؤمن، وامتناع إرادته عما يخالف علمه محال؟ لذلك آثر الحكماء الحديث عن الكلام الإنساني لفظا ومعنى، الحسي والمعنوي. والحجة أنه لو كان للباري كلام فإما أن يكون من جنس كلام البشر أو لا يكون. والأول إما أن يكون لسانيا وهو تشبيه أو نفسانيا وهو باطل نظرا لارتباط النفساني باللسان، ولأن النفس بها تفكير ووهم وخيال. كلام الله إذن ليس من كلام البشر. ولا حيلة للحديث عنه إلا قياس الغائب على الشاهد وبالتالي الانتهاء إلى الكلام كلفظ أو كمعنى أو التوقف والتسليم بالعجز عن تعريف الكلام وهو ما يناقض نظرية العلم؛ لأن الجهل من مضادات العلم.
161 (6-1) الإثبات والنفي
وهي قضية تتعلق بإثبات الصفات ونفيها. فالباري متكلم بكلام ليس من جنس الأصوات والحروف، صفة منافية للسكون والآفة، تكلم الله بها، آمرا، ناهيا، مخبرا. والدليل على ذلك إما النقل والتواتر والإجماع وأما العقل. والنقل كثير ولكنه ظني، معارض بنقل آخر، ويمكن تأويله لإثبات الضد. كما أنه دور؛ لأن النقل نفسه كلام في حاجة إلى إثبات، ولا يثبت إلا بعد إثبات النبوة.
162
وقد يثبت بتواتر من الأنبياء وبإجماعهم وإن لم يكن دليلا على صدق النبوة كالمعجزة.
163
والتواتر لا يثبت إلا صحة النقل الخارجي دونما نقد داخلي، ولا يثبت إلا الكلام الحسي من المبلغ إليه. والحقيقة أن إجماع الأنبياء متوقف على صدق الرسل وصدق الرسل متوقف على صحة الكلام، وبالتالي نقع في الدور. وقد يثبت بإجماع الأمة، وهو ضعيف؛ لأن الإجماع لا يكون إلا على اللفظ وليس على المعنى مثل التواتر.
أما العقل فإنه يعتمد على عدة حجج أولها حجة الكمال. فالسمع والبصر والكلام مظاهر كمال، والصمم والعمى والخرس مظاهر نقص. فلو لم يكن الباري موصوفا بها لكان الإنسان أكمل منه فوجب أن يكون الباري سميعا بصيرا متكلما بلا صماخ وحدقة ولسان. وهنا يقوم الشعور بإثبات شيء بطريق التشبيه ثم نفيه بطريق التنزيه أو إثبات الشيء عن طريق نفي الضد، وإثبات الكمال عن طريق نفي العيب.
164
وقد يثبت الكلام بكلام النفس قياسا للغائب على الشاهد مما يدل على أن الإنسان لا يتحدث عن الكلام إلا وفي ذهنه كلامه، وكأن الكلام على الإطلاق تجريد لكلامه الخاص، وتحويل للواقع إلى مثال.
165
وقد يثبت الكلام عن طريق الأحكام. فأفعال العباد مترددة بين الحظر والإباحة والندب والوجوب. واختصاصها بهذه الأحكام يستدعي مخصصا، وليست كذلك إرادة الله لأن الله قد يأمر بما لا يريد، وهذا المخصص هو الكلام.
166
ولما كان الله ملكا مطاعا، وكان له الأمر والنهي فإن ذلك يستلزم بالضرورة الكلام.
167
وقد رد الحكماء على حجة الطاعة بأن ذلك يستلزم التصديق. وكيف يمكن الرد على منكرها والجاحد لصدقها في نفسها؟ أليس ذلك نقلا لموضوع الكلام إلى موضوع آخر هو النبوة؟ وأخيرا إذا دلت الأفعال من حيث إتقانها على العلم، ويستحيل أن يعلم الله شيئا ولا يخبر عنه، والله يصح منه الإرشاد والتنبيه والتعليم والإخبار، فوجب أن يكون له كلام. وهي حجة قائمة على جواز انبعاث الرسل، وبالتالي تقوم على شيء مطلوب إثباته.
168
والحقيقة أن إثبات الكلام بالإرادة أو بالقدرة أو بالعلم أو حتى بكلام النفس إثبات ضعيف. فالإرادة إما للامتثال أو لإحداث الصيغة أو لجعلها دالة على الأمر. والأول يعارضه أبو جهل وإبراهيم يذبح ولده، والقدرة معنى يتعلق بكل ممكن، والإرادة أخص، والعلم أعم من الأمر، وأحاديث النفس مرتبطة باللسان.
169
والحقيقة أن الكلام ليس في حاجة إلى إثبات إنما الإشكال في إثبات كلام من؟ إن الكلام الإنساني يفرض نفسه، والوحي ذاته كلام بلغة الإنسان، وصيغه صيغ الكلام الإنساني، أمر ونهي وخبر.
170
وليس إثبات الكلام أو نفيه مجرد وقوع في التشبيه أو حرصا على التنزيه، بل إن الأمر يتعلق بالكلام نفسه. فإن إثبات الكلام كصفة للتأليه المشخص يوقع في التشبيه، ويعطي الأولوية للذات المشخصة على الصفة ثم للصفة على الكلام.
171
وأن نفي الكلام إثبات للتنزيه لأن الكلام يؤدي إلى الانفعال، والانفعال نقص في التنزيه على مستوى الكمال ونفور من التشخيص. فالكلام فعل وانفعال وحركة. الكلام لا صلة له بالذات المشخصة، بل هو من فعل الطباع.
172
فنفي الكلام إذن قضاء على الاغتراب وعود إلى الكلام الإنساني، ورد الوعي إلى ذاته مدركا ومتكلما، وإعمال للعقل بدل الوهم، ورؤية للواقع لا للخيال.
وقد يكون هناك حل وسط بين إثبات الكلام ونفيه، وجعل الكلام صفة فعل لا صفة ذات، فالتأليه المشخص لا يتكلم، بل هو متكلم.
173
ومن ثم يمكن إثبات الصفة دون الوقوع في التشبيه. وصفة الفعل توحي بأن الكلام ذو اتجاه واحد، وهو قصد من الذات نحو الآخر دون القضاء التام على التشخيص؛ لأن الذات المؤلهة ما زالت موجودة. وقد تنقلب الآية فلا يصبح التأليه المشخص متكلما أو مكلما، بل يصبح متكلما بكلام غيره، ومكلما لغيره، أي أنه يصبح محلا للحوادث كسائر المتكلمين.
174
والحقيقة أن هذا وضع خاطئ للمشكلة. فالكلام لا ينسب إلى شخص المتكلم أو حتى إلى السامع، بل يدرس في نفسه. لا يحتاج الأمر إلى افتراض شخص متكلم؛ لأن الكلام موجود بالفعل بدليل الوحي. لا يهم أن يكون الوحي كلام شخص، بل هو مجرد كلام. والذهن البشري يبحث بعد واقعة الكلام وليس قبلها. المقصود من الكلام هو اتجاه الكلام وغايته وليس مصدره وأصله، على عكس الصوفية الذين أرادوا بالتأويل إرجاع الكلام إلى مصدره الأول في شخص المؤله. لا يدل الوحي على أن هناك متكلما، بل على أن هناك مستمعا. ما يهمنا ليس هو الإلهيات، بل الإنسانيات، أي فهم الكلام كمقصد أو اتجاه نحو الإنسان. والشخص نفسه لا يعرف إلا من خلال الكلام؛ لأن الكلام يشير إلى تشخيص عواطف التأليه. الكلام هو نقطة البداية لا الشخص، وأن ما يطرق الأذن هي الكلمة لا الشخص الذي تفوه بالكلمة. الكلمة موجودة بفعل طرق الأذن، ولكن الشخص قد يكون وراء ستار أو متحدثا عن بعد. وأن التحول في تاريخ العقائد إنما يكون باستمرار من الكلمة إلى الشخص كما تم في تاريخ العقائد المسيحية وتفسير معنى الكلمة.
175
فإذا كان السمع والبصر يشيران إلى العلم، فهما طريقان إليه. وإذا كانت الإرادة ما هي إلا صفة تشبيهية للقدرة وتشخيصا لها كان الكلام في الرباعي موازيا للحياة في الثلاثي. فما الصلة بين الحياة والكلام؟ يمكن القول بأن الحياة تعبير، وبأن المشخص ليس فقط في ذاته عالما قادرا، بل هو أيضا متصل بالحياة ويراسلها. ليس التأليه فقط ارتفاعا إلى أعلى ومفارقة كما هو الحال في التنزيه، بل هو أيضا نزول إلى أسفل واتصال بالآخرين وحديث مع الناس. (6-2) هل الكلام قديم؟
وهو الموضوع الغالب على تحليل صفة الكلام كتطبيق خاص للحكم العام على الصفات بالقدم أو الحدوث، كما كان العلم نقطة تطبيق لموضوع العلاقة بين الذات والصفات، علاقة زيادة ومساواة، غيرية وهوية. والكلام هو الصفة الوحيدة من الصفات السبع التي لها تحقق ملموس، مرئي ومسموع، هو القرآن. ومن هنا أتت أهميته كدليل حسي مادي على وجود الباري. وأهمية القرآن هو أنه الخبر، وهو مصدر العلم، وهو الصفة الأولى التي منها تثبت باقي الصفات الأخرى نقلا، وبالتالي له الأولوية عليها باعتباره مصدرا. وابتداء من القرن السادس انتقلت مسألة القدم والحدوث من صفة الكلام إلى مسألة الوحدة والكثرة. فإثبات وحدة الكلام إثبات لقدمه وقيامه بالذات، وإثبات الكثرة إثبات لحدوث الكلام وقيامه بالحوادث.
176
والعجيب أن اسم المشكلة ليس قدم الكلام وحدوثه، فذلك اسم الحكم العام للصفات كلها أو قدم الكلام فقط، وهو ما ركز عليه الأشاعرة، بل «خلق القرآن»، أي نظرية خصومهم المعتزلة. فالتعبير ذاته يوحي بالنفور. فليس هناك مسلم واحد يرضى بخلق القرآن نظرا لأن الإحساسات الدينية للمسلمين تمج الخلق ولا تقبل إلا القدم. القدم أكثر تعظيما وإجلالا من الخلق، القديم أفضل من الجديد، والماضي أعمق من الحاضر، والأصلي أقرب إلى القلب من التقليد.
وقد أجمع أهل الإسلام على أن لله كلاما، وعلى أن الله كلم موسى، وعلى أن كلامه في سائر الكتب المنزلة في التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، أي في الصحف.
177
ولكن المسألة هي الصلة بين الكلام كصفة للذات وبين الكلام الحسي المقروء. فالصفة المجردة تدخل تحت إشكال القدم والحدوث والكلام الحسي يدخل تحت إشكال المعنى واللفظ. وتنشأ المشكلة عندما يتم الخلط بين المستويين للكلام الصوري والمادي، فتعتبر الصفة المجردة حادثة أو يعتبر الكلام الحسي قديما. وهنا تنشأ الحلول المتوسطة التي تحاول الجمع بين الطرفين مثل قدم الصفة المجردة وحدوث الكلام الحسي، أو قدم الذات وحدوث الصفات، قدم المعنى في النفس وحدوث اللفظ المجرد أو رفض الجميع والتوقف عن الحكم. المواقف إذن أربعة: إما أن يكون الكلام قديما حتى بأصواته وحروفه، وإما أن يكون قديما ككلام نفسي دون الأصوات والحروف، أو يكون الكلام حادثا حتى في الذات والصفات كرد فعل على قدم الذات والصفات، أو يكون حادثا غير قائم بالذات بل قائم في المحل.
178
والحقيقة أنه يمكن رد هذه المواقف الأربعة إلى اثنين: الأول عدم التمييز بين المستويات، سواء كان ذلك قولا بقدم الكلام ذاتا وصفة، معنى ولفظا، أو بحدوثه ذاتا وصفة، معنى ولفظا. والثاني التمييز بين المستويات سواء كان بين الذات والصفة أو المعنى واللفظ أو كان بين القيام بالذات والقيام بالمحل.
والحشوية مذهب يقوم على التوحيد بين الكلام كصفة قديمة أزلية وبين الكلام كأصوات وحروف. لذلك يسمى مذهب المشبهة الحلولية المجسمة. وينشأ الخلط من الجمع بين الكلام القديم، وهو مفهوم بمفرده كحكم مبدأ بقدم الصفات وبين الكلام كحروف وأصوات، وهو مفهوم كحكم واقع على كلام حسي مرئي. فالجمع بين الاثنين خلط وتناقض دون تأصيل عقلي يكشف عن الرغبة في الجمع بين الحساسية الدينية والرؤية الحسية، بين متطلبات الإيمان ومقتضيات الحس، فينشأ مذهب إيماني حسي. ويعتمد المذهب على مجموعة من الحجج النقلية والعقلية تعتمد كلها على أن القراءة هي المقروء والتلاوة هي المتلو، وأن القديم يحل في الحادث ويختلط به مع أن ذلك خلط بين المعنى واللفظ، بين الماهية والواقع، بين الشيء والدلالة. تقوم الحشوية إذن على الخلط بين المستويات في مقابل تصور آخر يقوم على التمييز بين المستويات.
179
والحقيقة أن معظم الأدلة النقلية من القرآن قد أخرجت من سياقها ودفعت إلى أعلى بدلا من أن تتوجه إلى أسفل. خرجت عن العالم بدلا من أن تتجه إليه، تتحول إلى صفة لذات مشخصة مع أنها تصورات للعالم وبواعث للسلوك ونظم للمجتمعات وقوانين للتاريخ. أما الأحاديث فمعظمها ظني من حيث السند أو المتن، يظهر فيها أثر الخيال الشعبي وأساطير الخلق وتحديداتها في الزمان والمكان. ويسهل توجيه نقل مضاد لهذا النقل لإثبات عكس القضية، فيصبح الموقف المذهبي هو الأساس والنقل مجرد تابع ومبرر ومؤيد له. ومعظم الحجج العقلية من الأحاديث وليست من القرآن، روايات آحاد أكثر منها تواترا، عقائد نظرية أكثر منها شرائع عملية، مما يدل على الاغتراب وقذف الكلام خارج العالم وإلحاقه بالذات المشخصة، الغاية منها التعبير عن العظمة واللانهائية وليس إصدار حكم على مادة الكلام. الغرض منها الإيحاء النفسي والتوجيه العملي الذي يصل إلى حد الإرهاب بالعظمة والجبروت وليس المعرفة الخبرية. وكثير من هذه التأويلات تقوم على بواعث سياسية خالصة، الغاية من الإلغاز فيها هو السماح للتأويل السياسي سواء من السلطة أو من المعارضة لحل اللغز طبقا لمصلحة كل فريق، خاصة فيما يتعلق بزوال الدول وانهيار أنظمة الحكم وقدوم دولة أخرى والتبشير بنظام قادم به الخلاص.
هناك إذن فرق بين اللفظ والمعنى، بين الدليل والمدلول، فالقراءة غير المقروء، والتلاوة غير المتلو، والكتابة غير المكتوب. والأدلة على ذلك كثيرة من النقل والعقل، من الكتاب والسنة والإجماع والحس والعقل، نقل في مقابل نقل وعقل في مقابل عقل. والحجة الشاملة هي أنه لا يمكن فهم الكثرة والوحدة في الكلام إلا بناء على التفرقة بين اللفظ والمعنى، بين القراءة والمقروء، بين التلاوة والمتلو. يتعدد القرآن والقرآن واحد، وتتغير الألحان والقرآن واحد، ويتغير الإعراب والقرآن واحد، ويثاب كل فرد على قراءته والقرآن واحد، وتتعدد القراءات والقرآن واحد، يقرأ بالكلام بالعربية فهو قرآن، وبالعبرانية فهو توراة أو زبور، وبالسريانية فهو إنجيل. الكلام واحد والتعبير متعدد اللغات. الأمر بالتلاوة استدعاء للفعل، والفعل صفة المأمور لا صفة الأمر. القراءة صفة، والمقروء موصوف، وشرط الصفة القيام بالموصوف. والقراءة وقت الجنابة ممكنة لأن المقروء غير القراءة. كلام الله لا يلفظ أو يحكى به. هو كلام واحد ومتعلقاته كثيرة. وهناك حجج أخرى متعددة، منها أن القراءة مرة طيبة مستلذة، ومرة فجة تنفر منها الطباع، مرة رقيقة ومرة منخفضة، وكذلك الكتابة تارة حسنة وتارة سيئة. القراءة فعل الإنسان وعمله، القراءة طاعة وقربى أو معصية وسوء. لا يتصف الكلام القديم بالحروف والأصوات ولا شيء من صفات الخلق ولا يفتقر إلى مخارج وأدوات، بل يتقدس عن جميع ذلك. لا يحل في شيء من المخلوقات. لا يتكلم أحد بكلام الله، فالقراءة أصوات القراء وأكسابهم، أما المقروء فهو المعروف والمعلوم. القرآن إذن لفظ متشابه، يحمل على القراءة كما يحمل على المقروء.
180
إن كل اختلاف في القراءات أو تغير في الأصوات أو إسقاط لبعض الحروف لا يحدث تغييرا في الكلام. الصوت المسموع أو الكلام المكتوب ليس هو الكلام، ولا يمكن لحروف متفرقة أو متناهية تكوين كلام دال لا متناه. القراءة فعل فردي شخصي مكتسب تنفيذا للأمر، في حين أن الكلام هو الأمر. كل ذلك يثبت في النهاية قدم الكلام وأولويته على القراءة.
181
لذلك لا يجوز القول بأنه يلفظ بالقرآن؛ لأن التلفظ رمي، واللفظ يوحي بالخلق لا بالقدم.
182
لذلك يفضل البعض وصف القراءة بأنها ذكر حتى تتميز عن القراءة اللفظية للكلام البشري.
183
والإثبات يلغي هذا التميز بين فعل القراءة وموضوعها، ويجعل فعل الذات مطابقا للموضوع تمشيا مع اعتبار الكلام موضوعا حسيا خالصا. فالمقروء دون فعل القراءة افتراض خالص أو إمكانية محضة لا يمكن معرفتها إلا من خلال مظهر حسي هو فعل القراءة وما يصدر عنه من أصوات وحروف. لا توصف القراءة بأنها تلفظ لأنها تختلف عن القراءة العادية لكلام البشر.
184
البديل إذن عن الخلط بين المستويات هو التمييز بينها. فالقرآن قديم كصفة أزلية قائمة بالذات ومحدث باعتباره أصواتا وحروفا منزلة على النبي.
185
وكل ما هو خارج الصفة مثل اللوح المحفوظ وجبريل وليلة القدر وبيت العزة والسماء الدنيا والصحف والسور المكية والسور المدنية كلها مخلوقة.
186
الكلام قديم، والحروف والأصوات مخلوقة. العلم غير مخلوق ولكن الأمر والنهي مخلوقان. العلم يحتوي على التصور النظري للعالم والأمر والنهي يمثلان التطبيقات العملية لهذا التصور في الزمان والمكان.
187
وقد يميز بين الحدوث والخلق، فليس كل محدث مخلوق أو غير مخلوق بالضرورة.
188
وقد يميز بين الحدث والمحدث، فكل حدث لا يكون بالضرورة محدثا.
189
وقد يكون بعض الكلام لا في محل والبعض الآخر في محل.
190
كلام الله إذن قديم أزلي، نفساني، أحدي الذات، ليس بحروف ولا أصوات.
191
ولا يكفي إثبات ذلك عن طريق تفنيد الموقف الحشوي الذي يقوم على الخلط بين المستويات، أي عن طريق إثبات استحالة الضد، بل هناك أدلة إيجابية لإثبات التمايز بين المستويات، بالنقل والعقل. ويشمل النقل الكتاب والسنة والإجماع.
192
والحقيقة أن ذلك لا يثبت شيئا، فالنقل معارض بنقل غيره، والنقل الأول قد يؤول حتى يتحول إلى نقل مضاد، فكل نقل خاضع لتفسير وتأويل طبقا للمذهب المسبق الذي قرأ نفسه في النص فابتسره وأخرجه من سياقه ومضمونه وأبعده عن اتجاهه من داخل العالم إلى خارج العالم. أما الأحاديث فهي آحاد أو ضعيفة معارضة بأحاديث أخرى، أغلبها يظهر فيه الدين الشعبي. أما الإجماع فإنه ليس تاما، وإنه من فرق واحدة، وإنه يقوم على الهوى، وإنه معارض بالنقل، وإنه لا يتم إلا في مسألة عملية تتعلق بصالح الأمة. أما الحجج العقلية فمعظمها جدلي يقوم على القسمة واستحالة الحدوث بناء على دليل الحدوث لإثبات الصنع وصفة القديم كوصف للذات. وقد تكون حججا خطابية إيمانية مستمدة من الحجج النقلية دون إحكام عقلي نظري كاف. وقد يقوم البعض منها على إثبات استحالة الضد، أي إنها براهين خلق.
193
وتقوم حجج أخرى لإثبات القدم على الفصل التام بين الكلام والصفة والذات القديم وبين الكلام كموضوع حسي موجود مكتوب ومقروء ومسموع استنكافا من المادة وتأففا منها، ومن ثم يكون إثبات القدم تعبيرا عن عواطف التطهر.
194
وقد كان هم كل متكلم أشعري المباراة في إثبات قدم الكلام والتفصيل في الحجج وكأنها مسألة بها ترعى مصالح الأمة. منها ما يعتمد على قدم الصفات أو على إثبات الأزلية أو على نفي الضد واستحالة الخلق أو على مجرد المعنى العام المفهوم من الخبر.
195
والقول بقدم الكلام يؤدي بالضرورة إلى القول ببقائه. فإذا كان الكلام أزليا فإنه يكون كأوصاف الذات المشخص. فهو لا أول ولا نهاية له في الزمان. ولا يؤثر في ذلك كون الكلام جسما أم عرضا؛ لأنه يكون حينئذ جسما أو عرضا باقيا في حين أن الأجسام والأعراض الأخرى غير باقية.
196
وإمعانا في إثبات البقاء يكون الكلام كله باقيا، سواء كان الكلام صفة للذات المشخص أو كلام الإنسان.
197
ومع ذلك لم تحظ صفة البقاء بما حظيت به صفة القدم تماما كما كان الحال في أوصاف الذات عندما حظي القدم باهتمام أكبر من البقاء، وكان ما لا أول له أهم بكثير مما لا نهاية له، وكأن الماضي أهم من المستقبل، وكأن الغوص في الماضي والبحث عن الجذور أهم من التطلع إلى المستقبل والتخطيط له. فإذا كان القول بالقدم يستتبع القول بالبقاء كما يستتبع القول بالحدوث القول بالفناء فكيف يشارك الكلام الله في البقاء كما يشارك في القدم؟ أليس ذلك قولا بتعدد القدماء؟ وكيف يشارك الكلام وهي صفة في القدم وهو وصف للذات؟
والحقيقة أن القول بتمايز المستويات في الكلام تفاديا للخلط بينهما يكون موقفا تطهريا صرفا، يقوم في حقيقة الأمر على مادية مقنعة، وكأن موقف الخلط وموقف التمييز كلاهما واحد، الأول مادية صريحة، والثاني مادية مقنعة. فما السبيل إلى معرفة الكلام القديم الأزلي؟ نحن لا نعرفه إلا من خلال الكلام الحادث، وبالتالي لا يمكن معرفة كلام الله كصفة قديمة إلا من خلال الوحي، أي بلغة الإنسان المقروءة والمسموعة، وهو كلام حادث. وإذا كان الكلام نفسانيا ليس بأصوات ولا حروف فإن السؤال يكون نفسانيا بالنسبة لمن: نفس الله أم نفس الإنسان؟ وهل لله نفس يختزن فيها المعاني كما هو الحال عند الإنسان؟ أليست نفس الله هي نفس الإنسان مدفوعة إلى أعلى، صورة مكبرة لصورة أصغر بدافع التعظيم والإجلال، إقلالا من شأن الذات، وتعظيما من شأن الآخر؟ وإذا كان الكلام أحدي الذات، فإن إنكار التعدد إنكار للمستويات، وبالتالي وقوع في الخلط بينها من جديد. وإذا كان الكلام ليس بحروف ولا أصوات ضد الحدوث، فما علاقة الكلام القديم بالكلام الحادث؟ ليس المهم هو الاعتراف بالتمييز بين المستويات، بل إيجاد الصلة بينها، وإلا وقعنا في الخلط بينهما من جديد. وإذا كان الكلام مغايرا لباقي الصفات، فكيف يكون مغايرا لها وهو مصدرها؟ ما صلة الواحد بالكثير، والمعنى باللفظ؟ لذلك لا فرق في النهاية بين الخلط وبين المستويات أو بين التمييز بينها. الأول يجعل الله إنسانا، فالكلام صوت وحرف، والثاني يجعل الإنسان إلها، فالإنسان تكلم بكلام الله القديم. إن القول بقدم الكلام لناتج عن ربطه بالتأليه المشخص وجعله مشاركا له في القدم والأزلية والأبدية واللانهائية. وما دام التأليه المشخص غير مجسم كان الكلام كذلك. فالكلام قديم لفظا ومعنى مما يؤدي في النهاية إلى القول بأن الكلام جسم أو أنه قديم ومحدث في آن واحد، فإذا ما غالى البعض في إثبات القدم مزايدة في التنزيه، فإنه يجعل الكلام كله قديما، سواء كان معنى أو لفظا قائما بالذات المشخصة أو بفعل القراءة وبحركة اللسان.
198
ولما أدى الحكم بالقدم سواء في الخلط بين المستويات أو في التمييز بينها إلى تصور حسي للعالم، كان من الطبيعي أن يعترف بذاك صراحة. الحكم بالخلق أو بالحدوث ليس فقط في صفة للكلام، بل في الذات. فلم يعد القرآن نفسه حادثا، بل الذات نفسها حادثة ومحلا للحوادث، ومن لا يعود هناك فرق بين الحشوية وأهل السنة وبين المشبهة. فالطرفان يلتقيان على التجسيم أو التشبيه، مرة لحساب الله ومرة لحساب الجسم. ليست صفة الكلام وحدها هي الحادث، بل إن الذات نفسها تكون محلا للحوادث أو محلا للقدرة الحادثة.
199 (6-3) خلق القرآن
أما الحكم بالحدوث فقد ظهر في موضوع «خلق القرآن». والحقيقة أن لفظ الخلق من وضع الخصوم، والأصوب هو الحديث عن القرآن المسموع المرئي المتكون من الأصوات والحروف والعبارات الدالة والمقروء والمحفوظ، وهي النظرة الأكثر علمية للكلام.
200
ولا فرق في خلق القرآن بين إثبات الصفة ونفيها. ففي كلتا الحالتين الكلام مخلوق أو حادث. وقد يفضل البعض إقامة فرق دقيق بين الخلق والحدوث. فإذا كان القرآن محدثا فإنه يمتنع أن يكون مخلوقا تجنبا من الوقوع في التجسيم.
201
فإذا كان كلام الله أصواتا وحروفا ليست قائمة بذاتها، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي، فإن ذلك بناء على أن أفعال العباد مخلوقة لهم كذلك إما مباشرة ابتداء وإما بالتوليد. هناك إذن صلة بين خلق القرآن وخلق الأفعال، كلاهما فعل إنساني خالص مباشر أو متولد.
202
والقول بالحدوث يستتبع بطبيعة الحال القول بالفناء، فكما أن الكلام حادث فإنه يفنى.
203
وهناك عديد من الحجج النقلية لإثبات خلق القرآن.
204
وهي أيضا ظنية؛ نظرا لأنها ابتسار للوحي وقراءة للمذهب في النصوص وحق المذهب المضاد في نفس القراءة. وما أسهل من تحويلها إلى حجج مضادة للمذهب نفسه بقراءة أخرى وبتأويل مضاد. أما الأحاديث فمعظمها ضعيف وخبر آحاد وتعبر عن الدين الشعبي في الإجلال والتعظيم.
أما الحجج العقلية فنوعان: الأول تقوم على برهان الخلق، أي استحالة النقيض. مثلا: لو كان قديما لكنا أمام إلهين قديمين: الله والقرآن. لو كان قديما لوجب أن يكون مثل الله لأن القدم صفة من صفات النفس والاشتراك في صفة من صفات النفس يوجب التماثل، أي الاشتراك في جميع صفات النفس. لو كان قديما لاختص ببعض المخلوقين دون البعض مثل اختصاصه بالرسول والقرآن معجزته، وهو تناقض لأن القديم لا متعلق له. لو كان قديما لاستوت نسبته إلى المتعلقات كالعلم، ووجب أن يكون عالما لذاته، قادرا لذاته كالقديم. ولو كان قديما لاستحال أن يعدم لأن العدم مستحيل على القديم. ويتبع برهان الخلق حجة جدلية مؤداها أن كلامه إما أن يكون مثل كلامنا أم لا، والأول مخلوق والثاني لا يعقل؛ لأن الكلام هو الكلام. أما حجج الإثبات فتقوم على النسخ، ففي القرآن ناسخ ومنسوخ، والنسخ من صفات المحدثات، والقديم يمتنع عليه النسخ سواء في اللفظ أم في المعنى. والقرآن أوامر ونواه، وليس من الحكمة أن يأمر بالعدم وينهى عنه. وإذا ما أدى الإنسان الأمر لم يبق إلا الآمر. ويستحيل قدم الكلام لاستحالة قدم الأمر، فلا يوجد مأمور في الأزل. والقرآن معجزة الرسول، فيمتنع أن يكون قديما. وأخيرا القرآن مسموع ومكتوب ومحفوظ، وبالتالي فهو متغير، نلفظ به ونحرك به اللسان. والحقيقة أن القول بالخلق أو الحدوث أكثر إطلاقا لعواطف التنزيه، إذ كيف يكون الكلام بالصوت والحرف المسموع المرئي صفة تعبر عن التنزيه وهي لا تخلو من حس وتشبيه؟ كيف يكون القديم حسيا؟ إن القول بالخلق والحدوث هو في نفس الوقت تنزيه للذات وأكثر اقترابا من الكلام كموضوع حسي علمي يمكن دراسته في علم الصوت أو في علوم اللغة.
205 (6-4) هل الكلام مخلوق وجسم وعرض؟
فإذا كان الكلام مخلوقا، فإلى أي حد هو مخلوق، وإلى أي حد يكون المحل جسما؟ الخلق لا في محل يقرب الكلام من الصفة، والخلق في محل يقربه من الجسم تنزيها للذات.
206
ولما كان الجسم جوهرا له أعراض، فيصبح الكلام مخلوقا جسما وعرضا، ثم تتنوع الأحكام عليه بين النفي والإثبات، وبالتالي تكون لدينا مجموعات سبع. يكون الكلام في محل، إما: (1) مخلوق وجسم وعرض. (2) مخلوق وجسم. (3) مخلوق وعرض. (4) جسم وعرض. (5) مخلوق. (6) جسم. (7) عرض. ويلاحظ على هذه المجموعات السبع المحتملة عدة أشياء؛ أولا: الحالة الأولى يمثلها أهل السنة والأشاعرة، والحالة الأخيرة يمثلها المعتزلة والكرامية، أي إن الحالتين الأولى والأخيرة على طرفي نقيض، في حين أن باقي الحالات متوسطة. ثانيا: إن الحالات المتوسطة أيضا تدخل في أضداد فيما بينها، وكأننا أمام الأحكام الخمسة في علم أصول الفقه.
207
ثالثا: إن المجموعات التي تتعامل مع صفة واحدة مثل مخلوق أو جسم أو عرض لا يوجد فيها إلا احتمالات، النفي والإثبات دون حالات متوسطة، وكأن التوسط لا يأتي إلا باجتماع أكثر من صفة. رابعا: هناك احتمالات واردة نظرا ولكنها غير واردة عملا، خاصة في المجموعات التي تجمع أكثر من صفة. فالاحتمالات العقلية شيء والمواقف العملية شيء آخر، خاصة إذا كانت بعض الاحتمالات العقلية متناقضة لا ينتج عنها موقف فعلي عملي. خامسا: كل المواقف القائمة على صفة واحدة كلها احتمالات عملية واقعية، وليس بها احتمالات قائمة نظريا غير واردة عمليا. فإذا عرضنا المجموعة الأولى التي تضم ثلاث صفات: مخلوق، وجسم، وعرض، متدرجة من النفي إلى الإثبات، نجدها تضم ثمانية احتمالات، كل منها مضاد للآخر، وبالتالي تكون لدينا في الحقيقة أربعة احتمالات وأضدادها: (1)
لا مخلوق ولا جسم ولا عرض. وهي النظرة التقليدية التي تثبت قدم الكلام وتنفي أن يكون مخلوقا أو جسما أو عرضا، وهي مضادة للاحتمال الثامن، وهو احتمال وارد ويمثل أهل السنة.
208 (2)
لا مخلوق ولا جسم وعرض. وهي النظرة التي تثبت قدم الكلام وتنفي أن يكون جسما، ولكن في نفس الوقت لا ترى حرجا في أن يكون عرضا لأولوية الذات عليه. وهي معارضة للاحتمال السابع. وهو احتمال موجود نظرا وغير وارد عملا.
209 (3)
لا مخلوق وجسم ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت قدم الكلام ولا ترى حرجا في جعله جسما بما أنه مكتوب مقروء. ولكنه يتميز عن باقي الأجسام في أنه لا عرض. وهي مضادة للاحتمال السادس. وهو أيضا احتمال موجود نظرا غير موجود عملا. (4)
لا مخلوق وجسم وعرض. وهي النظرة التي تثبت للكلام صفة القدم ولا ترى حرجا في كونه جسما أو عرضا كباقي الأقسام. يكفي أنه يتميز عليها بالقدم. وهي النظرة المضادة للاحتمال الخامس. وهو احتمال وارد نظرا وغير وارد عملا. (5)
مخلوق ولا جسم ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت خلق الكلام الحسي ثم تستنكف أن يكون مشابها للأجسام، فتنفي أن يكون جسما أو عرضا، وهي مضادة للاحتمال الرابع.
210 (6)
مخلوق ولا جسم وعرض. وهنا يكون الكلام مخلوقا وعرضا باعتبار أولوية الذات عليه. ولكنه ليس جسما لأنه متصل بالذات، وهي النظرة المعارضة للاحتمال الثالث. وهو وارد نظرا وغير وارد عملا.
211 (7)
مخلوق وجسم ولا عرض. وينزل الكلام هنا درجة نحو الحس، ويكون مخلوقا وجسما، ولكنه يفتقر عن غيره من الأجسام في أنه لا عرض، وهي النظرة المعارضة للاحتمال الثاني.
212 (8)
مخلوق وجسم وعرض. وهي آخر درجات الحس، والتي يصبح فيها الكلام موضوعا حسيا خالصا، وهو الاحتمال الغالب عند المعتزلة والكرامية وكل المشبهة والمجسمة عندما يتخلص الكلام نهائيا من صفة للذات إلى موضوع لعلوم اللغة.
وتضم المجموعة الثانية صفتين فقط، مخلوق وجسم، وتكون لدينا احتمالات أربعة، يردان إلى اثنين وأضدادهما، وهي: (1)
لا مخلوق ولا جسم. وهي النظرة التقليدية التي تنفي أن يكون الكلام مخلوقا أو جسما، كما هو الحال في الاحتمال الأول في الموقف الأول، وهو الموقف المضاد للاحتمال الرابع. (2)
لا مخلوق وجسم. وهي النظرة التي تحاول الجمع بين الكلام الصوري في أنه غير مخلوق والكلام الحسي في أنه جسم كالاحتمال الثالث في المجموعة السابقة، وهو موجود نظرا وغير موجود عملا وهو مضاد للاحتمال الثالث. (3)
مخلوق ولا جسم. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي ثم تنفي عنه أن يكون جسما كباقي الأجسام كالاحتمال الخامس في المجموعة السابقة. وهو وارد نظرا وغير موجود عملا؛ لأنه لا يمكن للمخلوق إلا أن يكون جسما، وهو مضاد للاحتمال الثاني. (4)
مخلوق وجسم. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي دون أي استنكاف من الأجسام المخلوقة الأخرى كالاحتمال الثامن في المجموعة السابقة. وهو الاحتمال المضاد للأول، والأكثر شيوعا، والذي هو وارد نظرا وعملا.
213
وتضم المجموعة الثالثة صفتين، مخلوق وعرض، وتكون لدينا أيضا احتمالات أربعة يردان إلى اثنين وأضدادهما، وهي: (1)
لا مخلوق ولا عرض. وهي النظرة التقليدية الأولى التي تثبت قدرة الكلام وتنفي عنه أن يكون عرضا مثل الحالة الأولى والثالثة في المجموعة الأولى، والحالة الأولى في المجموعة الثانية، وهي مضادة للاحتمال الرابع.
214 (2)
لا مخلوق وعرض. وهي النظرة التي تثبت قدم الكلام ولا ترى حرجا في جعله عرضا لأولوية الذات عليه كالحالتين الثانية والرابعة في المجموعة الأولى والحالة الثانية في المجموعة الثانية. وهي واردة نظرا وإن لم تكن واردة عملا. ونظرا لاستحالة كلام قديم يكون في نفس الوقت عرضا. (3)
مخلوق ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي ثم تجعله مباينا لباقي الأعراض. وتنفي عنه أن يكون عرضا كالحالتين الخامسة والسادسة في المجموعة الأولى، والثالثة في المجموعة الثانية. (4)
مخلوق وعرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي، وأنه مخلوق وعرض دون الاستنكاف من شيء مادي كالحالة الثانية من المجموعة الأولى، والرابعة في المجموعة الثانية.
215
وتضم المجموعة الرابعة صفتين، الجسم والعرض، دون التطرق إلى مشكلة القدم والخلق. فتكون لدينا مثل المجموعتين الثانية والثالثة أربعة احتمالات يردان إلى اثنين وأضدادهما: (1)
لا جسم ولا عرض. وهي النظرة التقليدية الأولى من المجموعة الثلاث السابقة التي تنفي عن الكلام أن يكون جسما أو عرضا.
216 (2)
لا جسم ولا عرض. وهي النظرة التي تنفي عن الكلام الجسمية ولا ترى حرجا في إثباته عرضا. ولا توجد نظرا أو عملا نظرا لاستحالة وجود أعراض بلا جواهر مثل الاحتمال السادس في المجموعة الأولى. (3)
جسم ولا عرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام جسما وتستنكف أن تجعله مماثلا للأعراض فتنفيها عنه، وهي ممكنة فقط عند من يرى إمكانية تعري الجواهر عن الأعراض كالاحتمال السابع في المجموعة الأولى. (4)
جسم وعرض. وهي النظرة التي تثبت الكلام الحسي الخالص دون استنكاف من المادة، كالحالة الأخيرة في المجموعات الثلاث السابقة.
وتقوم المجموعة الخامسة على صفة واحدة هي مخلوق، ويكون لدينا احتمالان، النفي والإثبات: (1)
لا مخلوق، وهي النظرة التقليدية التي تثبت قدم الكلام كالحالة الأولى في المجموعات الأربع السابقة. (2)
مخلوق، وهي النظرة الموضوعية التي تثبت الكلام الحسي، كالحالة الأخيرة من المجموعات السابقة.
وتقوم المجموعة السادسة أيضا على صفة واحدة، هي جسم، ويكون لدينا أيضا احتمالان، النفي والإثبات: (1)
لا جسم. وهي النظرة التقليدية التي تنفي عن الكلام صفة الجسم، مثل الحالة الأولى من المجموعات الخمس السابقة.
217 (2)
جسم، وهي النظرة الموضوعية التي تثبت الكلام الحسي مثل الحالة الأخيرة من المجموعات السابقة.
218
وتضم المجموعة السابعة والأخيرة صفة واحدة، العرض، ويكون لدينا أيضا احتمالان، النفي والإثبات: (1)
لا عرض، وهي النظرة التي تنفي عن الجسم أنه عرض، مثل الحالة الأولى من المجموعات الست السابقة.
219 (2)
عرض، وهي النظرة التي تنفي الكلام الحسي في أكثر صوره مباشرة مثل الحالة الأخيرة من كل المجموعات السابقة.
220
وما دام الكلام مخلوقا وجسما وعرضا، فإنه يكون في مكان. وإذا كان في مكان فهل ينتقل من مكان إلى مكان؟ وهي مسألة لا تعرض إلا للقول بالخلق وليس للقول بالقدم. ويرجع إنكار المكان أساسا إلى إنكار الصفات الثلاث، مخلوق وجسم وعرض، وإثبات الكلام قائما بالذات وإرجاعه إلى الذات المشخص وتأسيسه من أعلى وليس من أسفل. فإن كان إنكار المكان في التأليه تعبيرا عن التنزيه، فإنكار المكان للكلام رفض للمكان الحسي ووقوع في الصورية والتشخيص.
221
وقد يؤدي إنكار المكان الموضوعي إلى إثبات مكان آخر أسطوري خارج العالم كتشخيص للوجود وكإثبات للكلام من عالم آخر زيادة في التعظيم والإجلال. وكيف يكون الكلام في مكان من هذا العالم؟ كيف يكون حينئذ قراءة وكتابة وسمعا ورؤية؟ قد يكون المكان الأسطوري أكثر عقلانية فيكون الجو. ولكن يظل الجو أيضا افتراضا محضا لا برهان عليه كأسطورة.
222
وهناك بعض الحلول المتوسطة تحاول الجمع بين إنكار المكان وإثباته، فتجعله قائما بالذات المشخص ثم موجودا في لحظة السمع أو القراءة أو الرؤية أو الكتابة لقسمة الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل.
223
وقد يثبت الكلام في المكان دون تحديد، ويكون الكلام في كل مكان حتى وإن كان مخلوقا، فإنه لا يوجد بعينه في الحال.
224
وإثبات الكلام يعني أن الكلام موجود في اللسان تلاوة وقراءة، وفي الذاكرة حفظا، وفي العين رؤية، وفي اليد كتابة. ومع أن إثبات المكان في التأليه وقوع في التجسيم وفي التشبيه، إلا أن إثبات المكان للكلام تمسك بالنظرة الموضوعية وبالكلام.
225
ولكن أين الكلام في الأذن سمعا، وفي العقل معنى، وفي الشعور باعثا، وفي الواقع بناء؟ إن وجود الكلام في القراءة والتلاوة والحفظ والكتابة ليس إحصاء عاما لمظاهر وجود الكلام، بل أكثرها مادة وأقلها معنى. والوجود الفعلي للكلام هو وجوده في الذهن كمعنى أو كفكر أو كنظر، ثم وجوده في الشعور كباعث أو سلوك وحياة، ثم وجوده في الواقع كنظام اجتماعي. يجد الكلام إذن في أماكن كثيرة في مكان واحد، والمكان هنا لا يعني المحل والمظهر. ولا فرق في هذا بين من يثبت تكثر الكلام أو وحدته. فالوحدة تشير إلى وحدة الكلام كمعنى والتكثر يشير إلى مظاهره المتعددة، ولا فرق في هذا بين من يثبت قدم الكلام أو حدوثه.
226
والقول بالطباع تجاوز للنفي والإثبات ورفض للأحكام العقلية الخارجة عن الموضوع وذهاب إلى الموضوع ذاته ورد استقلاله إليه، وقضاء على التشخيص كلية، وتحويل الإشكال كله إلى البعد اللغوي وإثبات المجاز في أسلوب التعبير. القول بالطبائع إعادة لوضع المشكلة ونفي للتشخيص عن طريق الخلق، ورفض لثنائية الخالق المسيطر والمخلوق النسبي المسيطر عليه. وهو رد فعل عنيف على القول بالقدم. فالقدم يعطي الفعل كله للذات في حين يعطي القول بالطباع الفعل كله للشيء وينكر دور الذات المشخص على الإطلاق.
227
وقد يعني فعل الطبيعة أن الكلام ازدهار للطبيعة واكتمال لها. والكلام هو الطبيعة في صورتها المثلى، متطابقا مع الطبيعة بفعل النزول، وتطور للطبيعة بفعل النسخ، واكتمالا للطبيعة بفعل اكتمال الوحي.
228
قد يعني فعل الطبيعة أن الكلام تعبير عن الواقع وتأسيس عليه، والواقع هو الموقف الإنساني المتشابك، مصالح الفرد والجماعة، الصالح العام، كل ما هو إيجابي ومنتج في الحياة .
وقد ينكر البعض الحلين المتعارضين، القول بالقدم وإعطاء الفعل كله للذات المشخص ورفض الوقوع في القول بالطباع كلية وإعطاء الفعل كله للأشياء، فيصبح بعض الكلام خالقا.
229
وقد يوفق البعض الآخر بين الحلين المتعارضين لصالح كلام الخالق وتصبح الذات المشخص بعض الكلام.
230
والتوقف عن الحكم كلية إلغاء للوضع الخاطئ للمشكلة دون إعطاء الوضع الحقيقي أو بيان لنشأة الوضع الخاطئ في الشعور. التوقف يعني أن النفي والإثبات معا لا يكفيان كحل للمشكلة، وبأن كلا منهما أضيق نطاقا من الموضوع. ولا يمكن رد الكل إلى جزء. كما يعني أيضا أن الواقع لا يقبل القسمة، وأنه يصعب إرجاع وجود الموضوع إلى قسمة ذهنية خالصة. كما أن التوقف يعني أن الواقع لا يتحمل حلولا قاطعة وأنه ذو أوجه. فقد يكون الإثبات من وجه والنفي من وجه آخر. وقد لا تكون القسمة ثنائية بل ثلاثية أو رباعية، ومن ثم فهي قسمة غير جامعة. وقد يدل التوقف على رغبة في التطهر وعلى رفض الدخول في متاهات غير مأمونة النتائج ومجهولة العواقب. التوقف هنا يعبر عن التقوى لا عن الثقة بالعقل، فالعقل هنا مغامرة غير محسوبة العواقب.
231
وقد لاحظ بعض القدماء والمحدثين أن المسألة كلها تمرين عقلي على التنزيه والتشبيه لا وجود لها بالفعل دفاعا عن الوحدانية ضد التعدد مهما اختلفت الطرق وتعددت الوسائل. ولكنها مسألة في حد ذاتها لا طائل منها ولا فائدة، وأنه موضوع لغوي صرف لا خيال فيه ولا إيهام.
232
كما رفضت بعض الحركات الإصلاحية الدخول فيه أو تجمع بين المطلبين القدم والحدوث، بين المعنى واللفظ من غير تمثيل ولا تعطيل بالاعتماد على مخترعات العلم الغربي الحديث.
233
وقد تكون المسألة كلها سياسية في نشأتها. فقد أرادت السلطة إيقاع المعارضة في حبائل الموضوعات النظرية الصرفة إبعادا منها لها عن المسائل العملية، فساهمت في إثارة مسألة خلق القرآن حتى يسهل حصار المعارضة وتشويه صورتها أمام العامة المؤمنة بعقائد أهل السنة والمطيعة للنظام. فاستعمل الموضوع النظري كسلاح عملي للتكفير وللمحاصرة ولعزلة المعارضة عن جماهيرها وإعطاء السلطة الحق في اضطهادها واستئصالها والقضاء عليها باسم الدفاع عن الإيمان والمحافظة على عقائد الأمة.
والحقيقة أن الكلام هو الوحي الذي بين أيدينا المتجه من الله إلى الإنسان وإلى العالم. الكلام قصد من الله إلى الإنسان ورسالة إلى مرسل إليه عن طريق المبلغ وهو الرسول. فهو ليس صفة للذات المشخصة أي قصدا من الإنسان إلى الله تعظيما وإجلالا وتأليها. الوحي إذن كلام الله بلغة الإنسان، وبهذا المعنى يكون مخلوقا، أي أنه أرسل إلى الإنسان. هذا هو الخلق الطبيعي أو الإنساني عندما يتحول كلام الله إلى الإنسان وإلى الطبيعة مثله مثل حكمة البشر التي تخلد الجماعات والشعوب من خلالها في مأثوراتها وحكمها وأمثالها وقصصها وسيرة أبطالها. والكلام موضوع طبقا لأسباب النزول. فهو ليس مفروضا على الواقع بناء على نداء الواقع واكتمل بناء على تطوره وأعيدت صياغاته طبقا لقدراته وأهليته على ما هو معروف في الناسخ والمنسوخ. هي عملية جدلية بين الفكر والواقع، الواقع ينادي على الفكر ويطلبه والفكر يأتي مطورا للواقع ويوجهه نحو كماله الطبيعي. ثم يعود الواقع فينادي فكرا أدق وأحكم حتى يتحقق الفكر ذاته ويصبح واقعا مثاليا يجد فيه الواقع الطبيعي كماله. ولا يتطلب ذلك التصور افتراض شخص المجرب بل هي عملية تاريخية طبيعية لا شخصية. الإنسان في العالم موضوع التجربة، وهذا هو الخلق التجريبي. والكلام كرسالة في التاريخ ينتقل منذ ساعة الإعلان عنه من جيل إلى جيل عبر الرواية الشفاهية ثم المدونة حتى تضمن صحته التاريخية. الكلام بهذا المعنى هو الخبر الصادق من خلال مناهج النقل وطرق الرواية. وهذا هو الخلق التاريخي لا بمعنى أن الكلام من صنع التاريخ أو من وضعه بل إنه محفوظ في التاريخ بلا زيادة أو نقصان من خلال أعمال الإنسان وإحكامه أنطق الرواية. فالصحة التاريخية للكلام لا تنتج عن عصمة الرسول ولا من حفظ المرسل ولا من صحة العقيدة أو الإيمان بالسلطة على ما هو معروف في نظريات «الصدق الإلهي» في تاريخ الأديان كبديل عن غياب الصدق التاريخي. بعد ذلك يمكن فهم هذا الكلام فهما إنسانيا ، والاستفادة منه تحقيقا لمصالح الإنسان، ومن ثم يتحول إلى بناء إنساني اجتماعي، يدافع الإنسان عنه دفاعا عن وجوده. وهذا هو الخلق المعرفي. يحتوي الكلام على «أيديولوجية» علمية، أو هو بناء نظري للواقع يتحول إلى بناء فعلي بفعل الإنسان وبجهده ونشاطه.
234
إن الكلام مجموعة من الصور الإنسانية الخالصة، خاصة بأسلوب التعبير والمخاطبة دون وصف لواقع بل للإيحاء به وتوجيهه. الخلق هنا بمثابة عملية يقوم بها الخيال من أجل توجيه السلوك والتأثير على الناس، وهذا هو الخلق الفني، وهو جزء من عملية الفهم والتفسير من أجل التوجيه والإعداد. وأخيرا الكلام هو في نهاية الأمر بنية الواقع ذاته وكماله وغايته، يتحقق كنظام مثالي للعالم تجد فيه الطبيعة ازدهارها وكماله. فالكلام مشروع تحقق، والوحي مشروع اكتمال. وهذا هو الخلق الفعلي. كل ذلك هو الكلام وأوجه خلقه. هو كلام الله بلغة الإنسان وطبقا لقدراته والذي يضمن الإنسان صحته التاريخية وصدقه النظري وتحقيقه العلمي. الخلق أهم صفة تميز الإنسان، أعطاها للذات المشخص وعزا إليها القدرة والإبداع والتكوين، وسكت هو عن الخلق، بل قلبه إلى إعجاز وتعجيز وظن أنه لن يقدر على الخلق وأعلن عجزه وأن الذات المشخص قد صرفت دواعيه وأحالته إلى عاجز مطلق ولم يبق له إلا التقليد.
235 (6-5) مراحل الكلام
ظهر من تحليل القدماء لصفة الكلام أن هناك ثلاثة مستويات له: المستوى الصوري حيث يبدو الكلام كصفة للتأليه المشخص وإطلاق الحكم للصفات من جديد القدم أو الحدوث. وهو مستوى صوري نظرا لأنه تحليل نظري خالص ولا يوجد به أي محك للصدق إلا مجرد الافتراض النظري، وهو البعد القبلي للكلام، ويدخل فيه الحديث عن اللوح المحفوظ والملائكة والرسل وكل ما يتعلق بنظرية النبوة. والمستوى الحسي وهو الكلام المقروء أو المسموع أو المكتوب المكون من الأصوات الحرف، وهي دراسة موضوعية يمكن ضبطها بمقاييس ملموسة نظرا لوجود موضوع حسي، وهذا هو البعد الحسي. وأخيرا المستوى الشعوري، وهو الكلام عندما يحل كمضمون للشعور، سواء في الذهن ويصبح مفهوما ويتحول إلى معنى أو في الوجدان ويصبح باعثا ويتحول إلى دافع ، أو في الذاكرة ويصبح محفوظا ويتحول إلى تيار دائم للشعور. وفي نفس الوقت تبدو هذه المستويات وكأنها مراحل لعملية الكلام ابتداء من الكلام الحسي حتى الكلام الصوري النظري المجرد. فالكلام مقروء ومسموع ومكتوب، تقوم به ثلاثة أعضاء: اللسان والأذن والعين. ثم هو مفهوم ومحفوظ ومحرك يقوم بذلك الذهن والذاكرة والوجدان. فالكلام الخارجي صوت (المسموع والمقروء) وحرف (المكتوب)، والكلام الداخلي معنى في الحاضر (المفهوم) أو من الماضي (المحفوظ) أو باعثا على التحقيق.
236
ما هو المقروء؟ المقروء قبل أن يكون مقروءا أي موضوعا للقراءة هو فعل للقراءة، ومن ثم يرد المفعول إلى الفاعل. ويكون السؤال: ما هي القراءة؟ هل القراءة كلام؟ الإجابة بالنفي تثبت الكلام المستقل عن القراءة، وأن الكلام لا يمكن رده إلى مجموعة من الأصوات والحروف إبقاء على الكلام كصفة مستقلة وإن لم تكن صراحة صفة الذات.
237
والكلام قراءة لأنه قراءة وأكثر، في حين أن القراءة ليست كلاما لأنها أقل منه. وإذا كان المقصود بالكلام هو الكلام المعنوي أو النفسي فإنه أيضا لا يعبر عنه إلا في صياغات حسية من حروف وأصوات. والإجابة بالإثبات تنفي أن يكون من الكلام صفة مستقلة وتجعله كلاما حسيا خالصا مؤلفا من مجموعة من الأصوات والحروف يمكن ضبطها.
238
وبعد فعل القراءة يأتي المقروء، وهو الموضوع الشعوري لفعل القراءة. هل القراءة هي المقروء؟ هل يساوي فعل القراءة موضوعها؟ وهو نفس السؤال ولكن في نطاق أضيق. فالنفي يرمي إلى إثبات الفرق بين فعل القراءة وهي مجموعة من الأصوات البشرية والحروف وبين موضوع القراءة وهو المقروء الذي لا يمكن رده إلى مجرد أصوات وحروف لأن له استقلالا ذاتيا خاصا به كالكلام أو الصفة. فعل القراءة صوت بشري بفعل الإنسان الحر يمكن اللحن فيه، في حين أن المقروء ذاته باق وقائم خارج الأصوات البشرية ولا يهم أين، في الذهن أو في النفس.
239
وما المسموع؟ لا يختلف المسموع عن المقروء إلا من ناحية العضو. المقروء موجود في اللسان والمسموع في الأذن، وكلاهما صوت. ويكون السؤال: هل المسموع الكلام أو الصوت ؟ إثبات المسموع كلاما إثبات للصفة القديمة ورفض لرد الكلام إلى مجرد الصوت.
240
ويكون السمع هنا بمعنى الفهم فيسمع الكلام متلوا.
241
ويكون السمع مباشرة بغير واسطة ودون حاجة إلى قراءة أو تلاوة. وقد يكون السمع متلوا ومقروءا.
242
والسمع المباشر قد يكون سمعا بلا حجاب ومصاحبا برؤية هذه المراتب في السماع تعبر في الحقيقة عن درجة القرب من الذات المشخص حتى يمكن تصنيف الأنبياء طبقا لها، ويكون أفضل الأنبياء من يسمع مباشرة بلا حجاب، ويتلوه من يسمع مباشرة حجاب. ثم يأتي عامة البشر الذين يسمعون بطريق غير مباشر عن طريق الأصوات دون رؤية أو نظر للصوت أو لمصدره. أما إثبات المسموع صوتا فهو وصف لعملية السماع الحسية دون إثبات أي كلام خارج الصوت المسموع. وتقوم الإرادة بفعل تقطيع الصوت. ولا يهم بعد ذلك إذا كانت الإرادة حركة أم ليست حركة.
243
الكلام لا يسمع بالأسماع، بل المسموع هو الشيء المتكلم. وقد تختلف اللهجات للمسموع تبعا لاختلاف القراءات نظرا لتغيير مخارج الأصوات دون تغيير في الحروف.
244
وقد يتوحد المسموع والمقروء والملفوظ والمتلو في شيء واحد.
245
فالقارئ بصوت والسامع بصوت والتالي كطريقة في الأداء أقرب إلى القلب وأبلغ في النفس من القراءة بلا صوت أي بالكتابة. وإذا كان المتكلم لا بد أن يكون متكلما بكلام مسموع، فماذا عن الصمت؟ ألا يعني السمع أيضا امتثال الأوامر وليس مجرد سماع الأصوات؟
246
وما المكتوب؟ الحقيقة أن التقابل موجود بين الصوت والحرف. فالصوت يشمل المقروء والمسموع، أي عضوي اللسان والأذن، والحرف هو المكتوب الموجود في العين رؤية وفي اليد كتابة. فالكلام إما مقروء أصواتا أو مكتوب حروفا. وكما كان السؤال هل كل الكلام قراءة أو مقروء يكون السؤال أيضا بالنسبة للكتابة والمكتوب، هل الكلام حروف؟ فالإجابة بالنفي إثبات للاختلاف بين الكلام والحروف وإعلاء لشأن الكلام ورفض لرده إلى مجرد الحروف التي يتكون منها كلام البشر. فإذا كان استقلال الكلام بمعناه وإثبات استقلال المعنى عن اللفظ نظرية مثالبة للغة فإنه كون المعنى خارج الذهن كصفة لذات مشخص نظرية دينية غيبية للغة.
247
وقد يتم التوحيد بين الكلام والحروف لا من أجل نظرية عملية للكلام، بل من أجل تقديس الحرف واعتباره مقدسا قديما كالكلام. والكلام مكتوب في هذا العالم كما أنه مكتوب في عوالم أخرى سابقة على هذا العالم ولاحقة عليه. وهذه أسطورة حسية تقوم على التجسيم.
248
وإثبات الهوية بين الكلام والحروف إثبات للكلام الحسي الخالص ورفض للذهاب إلى ما وراء الصيغ والعبارات إلا من خلال هذه الصيغ وهذه العبارات نفسها.
249
ولكن وحدة الحروف في لفظ واجتماع الألفاظ في عبارات تعطي معاني ليست هي الحروف. وإذا كان الكلام حروفا فكم يكون أقل الكلام من حروف؟ أقل الكلام حروفا إما حرف واحد، فالكلام اسم أو فعل أو حرف أو حرفان، مثل لا.
250
إذا كان المقروء والمسموع والمكتوب هو الكلام الحسي الخارجي، فإن المحفوظ والمفهوم والباعث هو الكلام النفسي، وهو البعد الثالث الذي يتوسط الكلام الصوري والكلام الحسي. ويشمل الكلام النفسي المعنى القائم بالنفس أو بالذهن حيث يصعب التفرقة بين وجود المعنى في الذهن أو في الذاكرة أو في الوجدان. والسؤال هو: هل يتكلم الإنسان بكلام غير مسموع؟ إن إثبات الكلام النفسي إثبات لاستقلال المعنى عن الألفاظ والمخارج والحروف. فهو موجود وجودا ذاتيا خالصا يشعر به المتكلم ولكن لا يملك التعبير عنه إلا لفظا أو إشارة أو رمزا، أي في صورة حسية للتعبير عنه وإيصاله للآخرين. يؤكد الحكماء وجوده في التأمل الخالص والذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالصورة الفنية والخيال وكذلك الصوفية في العلم الإشراقي الذي لا يمكن التعبير عنه إلا رمزا أو إشارة أو تلميحا.
251
ويجد الكلام نفسه طريقه بين الكلام القديم والكلام الحسي. ويغني عن إثبات الكلام القديم لأن الكلام النفسي يميز بين القراءة والمقروء والدليل والمدلول والحرف والمعنى، كما أن كلام الله منزل على قلب النبي نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال. المنزل هو الله، والمنزل عليه قلب النبي، والنزول هو اللغة العربية، والنازل على الحقيقة هو قول جبريل، ليس بمعنى الإنزال من أعلى إلى أسفل بمعنى الانتقال فذاك ما يخص الأجسام.
252
الكلام تجربة شعورية خالصة يكتشف بها الإنسان المعاني في نفسه بناء على أفعال الشعور من شك وظن واعتقاد ويقين واستفهام وتفكير وتدبير. والدليل على كلام النفس هو الدليل على إثبات الكلام، فالكلام هو الكلام النفسي. فمثلا صيغ الكلام من أمر ونهي وخبر واستخبار تثبت معاني في النفس لا تختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات. فالكلام اللفظي يدل على الكلام النفسي دلالة باللزوم. الكلام الحقيقي موجود في النفس، ولكن تدل عليه أمارات إما بالقول أو بالإشارة أو بالرمز. وقد لا يعلن عن حديث النفس بالألفاظ، بل يظل معاني قائمة فيها. قد يخفي الإنسان أشياء ولا يعلن إلا عن بعضها. والنفاق هو في الحقيقة اختلاف الكلام اللفظي عن المضمون النفسي. كما أن الإكراه في الكفر لا يمنع اطمئنان القلب بالإيمان. والأمر يتضمن الطاعة مثل قول: «افعل» التي تتضمن استحبابا أو وجوبا أو إباحة وذلك ليس موجودا في اللفظ. والتجارب الشعرية كلها تثبت أن أقوال الشعراء لها رصيدها في معاني النفس. بل إن الكلام الحسي المادي لا يمكن أن يؤدي إلى المعنى دون المرور بكلام النفس.
253
وقد لا يكون الرمز لغويا فحسب، بل يكون شيئا يشير إلى معنى. فالعين إشارة إلى الرؤية أو التجسس، والرجل تشير إلى السعي، واليد تدل على القدرة. ولكن هذه الإشارات ليست كلاما، بل وسيلة لتوصيل المعاني، والكلام ما هو إلا إحدى الوسائل. فإذا استعملنا الإشارات في الكلام فإنها تكون صورا فنية لا وقائع مادية. فاليد لا تتكلم بل هي صورة الفعل. فإذا كان السؤال ماذا يعني إسناد الكلام إلى غير المتكلم؟ تكون الإجابة: لا يمكن إسناد الكلام إلى غير المتكلم اضطرارا، بل لشهادة اللسان أو يشير الشيء إلى معنى مباشر دون الألفاظ، وفي هذه الحالة لا يكون كلاما بالمعنى الدقيق بل مجرد لغة، أي وسيلة للتعبير والإيصال.
254
ولا يكون الكلام اضطراريا لأنه فعل المتكلم، ولا يكون ضرورة للجسم لأنه في هذه الحالة لا يكون كلاما بل دلالة على المعنى. ويحدث الكلام في هذه الدنيا، أما في العوالم الأخرى المستقبلية فلا يمكن معرفته أو إصدار حكم عليه إلا بعد أن يقع بالفعل. قد يكون هناك اضطرار إنساني في هذا العالم عندما يتكلم الإنسان ويضطر بفعل التعذيب أو عندما يفقد القدرة على السيطرة على النفس في حالة التنويم المغناطيسي أو بالوسائل العلمية القديمة عندنا أو الحديثة في الغرب أو في حالات الكذب الأبيض حفاظا على الحياة. ولكن هذا الاضطرار وقتي خالص يتغير بتغير الظروف النفسية والاجتماعية ويعبر عن نفسه أيضا بالكلام.
255
ويكون المعنى النفسي في الشعور محفوظا ومفهوما وباعثا. فالمحفوظ هو أن يصبح الوحي كلاما إنسانيا خالصا بمجرد قراءته في الشعور أو تنكشف ماهيته بناء على التجربة الشعورية التي تحدث لكل فرد. وهي تجربة واحدة نظرا لأن الشعور هو الشعور الإنساني العام. وقد تختلف التجارب باختلاف البيئة والظروف الاجتماعية التي قد تطغى على الشعور العام وتقلل من شموله.
256
أما المفهوم فهو المعنى في النفس، وقد يكون خاطرا، فالمفكر قبل ورود السمع يجد في نفسه خاطرين، أحدهما يدعوه إلى معرفة الصانع وشكر المنعم وسلوك سبيل المحاسن والمسيرات، والثاني يدعوه إلى النقيض. فيختار الإنسان الأول دون الثاني، وكلاهما من كلام النفس.
257
وقد تسمى المعاني في النفس بعد الألفاظ فكر، وتسمى القدرة التي عنها يصدر الفعل قوة مفكرة.
258
والكلام إما أن يكون عبارات وألفاظا وقضايا أو نطاقا أي منطقا خالصا للكليات والجزئيات والقياس والبرهان.
259
وقد يتطور الأمر ويتحول الكلام النفسي إلى إثبات النفس نظرا للسيادة الفلسفية على الكلام ابتداء من القرنين السادس والسابع، ويصبح الموضوع إثبات أن النفس جوهر روحاني، ويتحول الكلام إلى التحليل لمضمون النفس وقواها وملكاتها علما وإرادة، وإيراد البراهين على أن النفس ليست بجسم ولا تنقسم، وامتياز النفس الإنسانية على سائر الأجسام، وتحليل استعداداتها وأمزجتها، والردود على الاعتراضات بالنسبة للحد والرسم أو خواص أفعالها أو إدراكاتها وأحوالها وكأن الموضوع قد انقلب إلى حديث في علم النفس الخالص.
260
أما الباعث فينتج عن أن الكلام ليس معنى فقط أي علما بلا إرادة. فالكلام النفسي يشمل ثلاثة جوانب، الذهني أي المفهوم وهو العلم، والعملي أي الإرادة والفعل، ثم الوجداني أي الباعث والدافع سواء كعلة فاعلة أو القصد والهدف كعلة غائية. المعاني في النفس غير إرادة المتكلم وإن كنا متلازمين. كلام النفس يظهر في الإرادة، فالكلام توجه وفعل. والوحي أصلا موجه إلى الشعور، والشعور طرف له، ويتحقق بالفعل والعالم مصب له. تتحول ماهية الشعور إلى فكر يجمع بين الذهن والشعور والواقع. يتحول الوحي إلى أيديولوجية نظرية إنسانية لأنها نتاج التجربة الإنسانية وعلمية لأنها مستمدة من الواقع. ثم تتحول الأيديولوجية إلى نظام للواقع، ويصبح الكلام هنا وجودا واقعيا كنظام اجتماعي وبناء إنساني تكتمل فيه الطبيعة وتجد كمالها. يحدث هذا التحول بفعل الإنسان وبحركة الجماهير. هو تحول ممكن مشروط بوجود الإنسان وبقدرته على الجهد وتنظيم الفعل وتوجيهه وتحريك الواقع به. وجود الكلام كبناء للواقع هو البديل الوحيد لما ظنه القدماء على أنه صيغة ثابتة في ذات مشخص.
261
ولا يتفاضل الكلام طبقا لموضوعاته وطبقا لدرجات الشرف والعظمة والجلال، بل إنه يحتوي على مجموعة من المبادئ يتمثلها العقل وتتحول إلى بواعث وسلوك وعمل بشري قبل أن تصبح اجتماعية.
262 (6-6) صيغ الكلام
مضمون الوحي توجيهات للإنسان في صيغ الكلام.
263
وهنا يبدو الكلام باعتباره لغة وقضايا ومنها تخرج المعاني، وتنشأ البواعث، وتظهر وحدة الكلام وكثرته. ففي نفس الوقت الذي يتصارع فيه المتكلمون حول قدم القرآن وحدوثه كصفة أزلية فيكشفون عن اغترابهم عن العالم تظهر تحليلات طبيعية عن وعيهم بالعالم الشرعي في وحدة الكلام وكثرته، أي صياغات الكلام، مثل الأمر والنهي والخبر والاستفهام والتعجب، وكأن تعدد الصياغات لا تنال إلا من وحدة الكلام. وهو تناول لموضوع الكلام تناولا إنسانيا علميا واقعيا عمليا، هذا الكلام الحسي المقروء المكتوب المفهوم المحفوظ المحرك لسلوك الأفراد والجماعات تنطبق عليه قواعد اللغة العربية وصيغ الكلام فيها، ولكن ضاع هذا التحليل الجزئي في خضم المشكلة الكبرى وهي قدم الكلام وحدوثه «خلق القرآن». وبالرغم من الخلاف حول عدد صيغ الكلام ست أو خمس أو ثلاث أو اثنتان أو واحدة إلا أنه يكفي انتقال الموضوع من علم العقائد إلى علم التوحيد.
وصيغ الكلام ست: الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، والوعد والوعيد. ولكن لما كان الخبر والاستخبار في النهاية خبرا لما كان الاستخبار غير متصور في حق الله، بل يرجع إلى التقدير وهو نوع من الأخبار مثل:
ألست بربكم قالوا بلى ، فقد تصبح الصيغ خمسا. وقد يسقط الوعد والوعيد، ويحل محلهما الدعاء والنداء. وقد ترد الصيغ إلى ثلاث، فالنهي عكس الأمر، والوعيد عكس الوعد، والخبر والاستخبار واحد. وقد ترد إلى صيغتين طلب فعل أو اقتضاء يشمل الأمر والنهي والوعيد ثم الخبر. وقد ترد الصيغ كلها إلى واحدة هي الأمر. وقد يزاد في الأمر والنهي الندب وأمر الإيجاب ونهي التنزيه ونهي التحريم. وفي كل قسم من الخبر والاستخبار أقسام مثل الخبر عن الماضي والمستقبل والمواجهة والمغايبة. وينتهي الأمر إلى تحليل صيغ الكلام وكأنها صيغ أفعال، فالكلام فعل. وقد تضاف مباحث لغوية أخرى مستمدة من علم أصول الفقه مثل العموم والخصوص والمجمل والمفسر والناسخ والمنسوخ،
264
وبالتالي تتم وحدة علمي الأصول، أصول الدين وأصول الفقه في تحليل صيغ الكلام.
ويقال ذلك في كل صفة، في الإرادة والعلم مثلا وليس في الكلام وحده، ولكن الكلام هو الذي فجرها نظرا لوجود الكلام المحسوس المجسم في مقابل الصفة الأزلية، ونظرا لوجود صيغ الكلام وتباين التفسير واختلاف التأويل. هي نفس المشكلة بين القدرة والإرادة، القدرة واحدة والإرادة متعددة، وقد تنتقل المشكلة إلى الميتافيزيقا الخالصة، الله والعالم، الواحد والكثير، المبدأ الأول والكثرة، وتظهر نظرية الفيض معادلة لصيغ الكلام. وقد يتحول التوحيد تبعا لذلك من الكلام إلى التصوف، ومن العقل إلى الإشراق أثناء الانتقال من الكلام إلى الفلسفة، والحديث عن مشكلة الواحد والكثير على مستوى المعرفة والوجود.
265
ويظل التوتر بين الوحدة والكثرة قائما. فإثبات الوحدة دون الكثرة تترك قضية المتعلقات والتضاد بلا تأسيس، فالأمر والنهي متضادان، ولهما خاصيتان مختلفتان تقتضيان الكثرة والتعدد. ولو كان الكلام واحدا لاستحال أن يكون أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا ووعدا ووعيدا. إن الاختلاف والتباين يصل إلى درجة التقابل والتضاد وبالتالي إلى اختلاف المتعلقات، ومع ذلك ترجمها الأشعرية بالرغم من اعترافها بالصيغ إلى الصفات الأزلية.
266
فكلام الله في الأزل لا يتصف بكونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا إلا عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط التكليف. والأحكام من صفات الأفعال وليس من جانب الصفات الأزلية، هي أوامر ونواة للعباد وليس علما مجردا لله.
267
وإذا كان الكلام أزليا تكون الصيغ كلها أزلية وهو مستحيل. فالأمر يضاف إلى المأمور، والمأمور ليس أزليا. والكلام من غير مخاطب سفه. والخطاب مع موسى غير الخطاب مع النبي، ويستحيل المعنى الواحد أو الأمر الواحد في كلا الخطابين. كما أن الخيربن عن أحوال أمتين مختلفان لاختلاف أحوالهما. والأوامر والنواهي تختلف في أزمنتها وتتحقق في أوقاتها بدليل النسخ، والبراءة الأصلية أو عدم جواز الالتزام بالشرع السابق.
268
لا يعني القول بالتعدد أية مخالفة للإجماع، فلا إجماع في مسائل نظرية عقائدية، ولا إجماع عن اجتهاد أو تأويل. كما لا يعني التعدد الفناء والحدوث في محل وبالتالي يصبح الذي بين أيدينا هو كلام الله أو دليلا على معجزة النبي ولا قرآنا بل يعني أن الكلام متعدد الأوجه، متباين المستويات، مختلف المراحل.
269
إن الاختلاف والكثرة في الأخبار والأوامر لا ترجع إلى العبارات فقط، إذ إنها تطابق المعنى الصحيح. المعاني المختلفة كالمعلومات المختلفة تستدعي علوما مختلفة وإن شملها اسم العلمية. لا يكون التعدد في الصيغ وحدها، بل في المعاني وفي أنماط الوجود ذاتها. ولما سادت الوحدة الصورية الفارغة في شعورنا التاريخي ضاع من وجداننا الحالي روح التعدد والكثرة. وضحينا بالاختلاف والتباين والفروق الفردية حتى وقعنا في الفردية من وراء ستار، الفردية المنعزلة والتناطح بين الأفراد الذين لا تجمعهم قضية واحدة. بل لم تؤد الوحدة الصورية إلى نتائجها الإيجابية فأصبحت وحدة السلطة في الحاكم الأوحد، ووحدة المذاهب في التيار السياسي الأوحد، ووحدة الكيان الاجتماعي في الأسرة الواحدة، والمجتمع الواحد بالرغم من التعارض بين الآباء والأبناء وبالرغم من الصراع بين الطبقات الاجتماعية.
270
وبالرغم من إفاضة القدماء في صفة الكلام إلا أنها في أصل الوحي ليست بأهمية باقي الصفات، ومضافة للإنسان أكثر من إضافتها لله، وأنها تشير إلى معنى مجازي وهو تحقيق الكلمة أكثر منها صفة أو شيئا لذات مشخص.
271 (7) الإرادة
هي آخر صفة للذات كما استقر ذلك في علم العقائد. ومع ذلك فقد تظهر في أول السباعي نظرا لأهميتها.
272
وقد تظهر كثاني صفة في الثلاثي بعد القدرة.
273
وقد تظهر كثالث صفة في الثلاثي بعد الحياة والعلم وقبل القدرة والاختيار.
274
ولكن الغالب ظهورها قبل الكلام في الرباعي والسباعي، كثالث صفة في الرباعي بعد السمع والبصر وقبل الكلام نظرا لما يهددها من مخاطر في حرية الأفعال. تظهر مرتبطة بالخلق وأفراد الذات بهما في باب مستقل لأهميتها.
275
وقد تذكر الإرادة في ذاتها بصرف النظر عن تعلقها بحرية الأفعال. وفي المؤلفات المتأخرة تظهر الإرادة في باب مستقل بعد العلم.
276
لذلك قد تنتقل الإرادة كلية من التوحيد إلى العدل لأنها ألصق بها وبشمولها.
277
ولكن هل الإرادة صفة مستقلة أم يمكن ردها إلى العلم أو القدرة أو الحياة؟ فالعلم إرادة أو قدرة نظرا لارتباط العقلين النظري والعملي. وبالتالي قد تعني مريد قادرا وعالما، وقد تعني شيئا آخر مستقلا. قد يريد الإنسان ما لا يقدر عليه، وقد يقدر على ما لا يريده. قد يريد ما لا يعلمه ويعلم ما لا يريده. الحي يريد والميت لا يريد، والإرادة تعبير عن الحياة. وإذا كانت صفتا السمع والبصر في الرباعي تعبران عن صفة العلم في الثلاثي فإن صفة الإرادة ما هي إلا تعين أو تحدد لصفة القدرة. وإذا كان إلحاق القدرة بالوجود مبحثا ميتافيزيقيا فإن إلحاق القدرة بالإرادة مبحث حسي. الإرادة تشبيه للقدرة. إذا كانت القدرة صفة ذات فالإرادة صفة فعل. ومع ذلك هناك فرق بين الإرادة والقدرة. تأثير القدرة في الإيجاد وتأثير الإرادة في التخصيص بالأحوال والأوقات. علاقة القدرة بالإرادة مثل علاقة العام بالخاص، الطاقة المطلقة بالفعل الواحد، الإمكانية بالتحقيق.
278
الإرادة هي المخصص، المخصص للحسن دون القبيح، أي أنها الباعث على الاختيار. التخصيص بالنسبة للقدرة، وبالتالي تقع الأفعال في الزمان والمكان بالإرادة. الإرادة هي مخصص الشيء وتخصيص الشيء كمال. وهو ما ينفي التعطيل نظرا لتحقق مقدور بين مقدورين ومراد من مرادين. ولا يكفي العلم كمخصص لوجهين: الأول أن الله عالم بجميع المعلومات بما فيها الصالح والفاسد، والثاني أن الله عالم بجميع الأشياء ما وقع منها وما لم يقع، فلزم التخصيص بالإرادة. وإذا كان المخصص مرة العلم ومرة القدرة ارتبطت الإرادة بالثلاثي أكثر من ارتباطها بالرباعي. أما الاعتراض على التخصيص بأن الإرادة لو تعلقت بفرض لكان الباري ناقصا لذاته مستكملا بغيره، فإنه لا يثبت نظرا لأن تعلق المراد لذاتها لا لغيرها. ويقوم على نفي الغائية والقصد مع أن الإرادة هي القصد والباعث على الفعل والاتجاه نحوه. ومع ذلك هناك فرق بين الإرادة والقصد والاختيار. المريد ينظر إلى الطرف المراد والقصد هو الإرادة المقارنة والاختيار اختياري، فالمختار ينظر إلى الطرفين فيختار أحدهما. أما الاعتراض بأن الإرادة صفة نفسية قديمة لا تتعلق بمتعلقات على وجه التخصيص فهو رجوع إلى مسألة الذات والصفات. وتحديد الإرادة كصفة تجعل الذات مريدا ليس تعريفا للإرادة بل إرجاع لها إلى علاقتها بالصفات.
279
كما أن الإرادة صفة تتبع الحياة. بل إن الحياة والسمع والبصر والكلام كلها تتبع الإرادة. فلا إرادة إلا من حي، ولا حي إلا إذا كان سميعا بصيرا متكلما. ويتضح ارتباط الإرادة بالعلم والقدرة والحياة في تعريفها الذي يتراوح بين هذه الصفات الثلاث. وقد يشير التعريف إلى صفة الكمال، فالإرادة بالنسبة لذاته هي أن يفعل على وجه السهو والغفلة بالنسبة لغيره على أنه آمر. وقد يشير التعريف إلى دائرة الانفعالات. فقد تعني الإرادة المحبة لا الكراهة. فالمحبة أو الرغبة أو الفعل في مقابل الكراهة والإحجام عن الفعل وعدم الرغبة أو النفور والاشمئزاز والإحباط والخمول وعدم الاهتمام والفتور واللامبالاة.
280
الإرادة إذن علم أو باعث وكلاهما من صفات الكمال. ولكن الأهم في التخصيص بالإرادة هو اصطدامها بالحرية الإنسانية، وباختلاف مرادات البشر. فكيف يكون الله مريدا لإرادة زيد وإرادة عمرو عند اختلاف مرادهما، وهي دلالة التمانع؟ كيف تتعلق الإرادة وهي خير محض بإرادات خيرة وشريرة؟ كيف يكون المأمور والمنهي مرادا، الأول علم وقوعه والثاني لم يعلم وقوعه، وتكليف أبي جهل بالإيمان من غير إرادة له؟ كيف تجوز الإرادة على الله وهي لا تكون إلا عزما مع سبق فكر وتردد؟ يبدو أن في إثبات الإرادة لله مخاطر على الحرية الإنسانية وخلق الأفعال. فالإرادة نفي للقصد وللاختيار وحرية الأفعال. وفي هذه الحالة تكون أفعال العباد بالطبع أولى، إذا كان الأمر نفيا بنفي. ويكون القول بالطباع رد فعل على القول الإرادة، فعلى الأقل يبقى الطبع للإنسان كالفعل الحر.
281
وقد لا تتغير إرادة الرضا إذا ما عصى المطيع وقد لا تتغير إرادة السخط إذا ما أطاع العاصي.
282
وقد يكون الدليل على ثبوت الإرادة كون الذات حيا، فالإرادة أحد مظاهر الحياة والميت لا يريد. ولما كانت أفعال الصانع بعضها متقدمة والأخرى متأخرة، ويجوز في العقل تقديم المتأخر وتأخر المتقدم واختصاص بعضها دون البعض، كانت الإرادة هي الصفة المخصصة. تثبت الإرادة إذن بإثبات المخصص للأفعال.
283
وقد تثبت الإرادة بالأمر، فالأمر لا يكون أمرا إلا بالإرادة وكذلك الخبر، والحكم لا يكون حكما إلا بالإرادة، وكذلك تأثير القدرة والعلم، فالكرامة تمنع الفعل وتمنع التأثير على عكس الإرادة. ليست الكراهة باعثا على الفعل، بل على امتناع الفعل. الكراهة تؤدي إلى النفور. الإرادة شهوة والكراهة نفور دون رد الإرادة إلى الشهوة والنفور. فقد يكره الحي ما لا ينفر طبعه عنه مثل الزنا وشرب الخمر، وقد ينفر طبعه عما لا يكرهه مثل الدواء. وقد تكون الإرادة تجربة شعورية بديهية لا برهان منطقي عليها.
284
وبالرغم من أن الإرادة في نشأتها أمر سلبي أو عدمي إلا أن متطلبات الكمال تقتضي جعلها أمرا إيجابيا أو ثبوتيا. فالكمال لا يجوز أن يصدر عن العدم لأن العدم نقص. لذلك الإرادة صفة كمال تنفي عن الذات الأهواء والميول والرغبات والتحيزات والمحاباة. بل إن هذا الجانب السلبي في الإرادة أصبح عنوانا لها وبديلا عنها أو مكملا لها ومفصلا لمضمونها. فيخصص لصفات الانفعال مسألة خاصة لربط الانفعالات بالإرادة ونفي الأهواء.
285
وتبدو وكأنها قسم من الإرادة ينفي أضدادها لأنها تذكر بعد صفة الإرادة، خاصة وأن الإرادة ليس لها معنى مستقل عن القدرة في الثلاثي.
286
وتبدو أحيانا وكأنها من الصفات المختلف عليها مثل التكوين والبقاء والقدم واليد والوجه والاستواء والإدراك والشم والذوق واللمس.
287
وقد يظهر نفي الانفعالات النفسية في نهاية ذكر الأوصاف والصفات من غضب ورضا وحنق وحقد وميل ونفور.
288
كما تبدو صفات الرضا والسخط أحيانا مع الأخرويات في الوعد والوعيد نظرا لأنها مقاييس الثواب والعقاب في غياب تصور قانوني لها.
289
وتنفى صفات اللذة والألم والنفع والضرر في النهاية بعد أوصاف الذات وصفاتها وصفات التشبيه والاستواء وصفات الانفعال والرؤية.
290
ويظهر هذا الوصف في نهاية الأوصاف كلها وقبل صفات المعاني السبع.
291
وتظهر في النهاية قبل الصفات الثبوتية السبع وقبل نفي الطعوم والألوان آخر صفات السلوب مثل نفي مشاركة الذات لغيرها ونفي التركيب ونفي التحيز ونفي الاتحاد والحلول ونفي الجهة ونفي قيام الحوادث بالذات.
292
ويظهر نفي الألم واللذة كسابع وصف بعد نفي الجسمية ونفي الجوهر ونفي المكان ونفي الحلول ونفي قيام الحوادث بالذات ونفي الاتحاد.
293
ويعقد لنفي الشهوة مسألة خاصة مما يدل على بداية تموضعها في وصف مستقل.
294
ويظهر لأول مرة نفي الانفعالات كوصف للذات سلبا بنفي السرور والغم.
295
وتظهر ثانية إيجابا بإثبات غناه عن الخلق.
296
ويظهر الغنى عن الأماكن والأزمان والخلق وبعد القيام بالذات والوجود والشيء.
297
كما يظهر نفي الله عن الحاجة كثالث وصف للذات بعد الوجود والقدم.
298
وقد يأتي نفي الحاجة كآخر وصف للذات قبل الوحدانية.
299
وقد تنفى صفات النقص مع الواحد والحق بذاته في معرض الحياة دون أن تكون بابا خالصا، نفي السهو والنوم والحس والجهل والوهم.
300
ويظهر وصف الكمال في عبارات إنشائية دون إحصاء بعد الوحدانية والقدم ونفي الشبه.
301
كما يظهر إثبات الكمال ونفي النقص في العقائد بعد إثبات الوجود والقدم قبل الصفات السبع وكذلك بعدها نفيا لجميع صفات التشبيه.
302
وفي المقدمات الخطابية يظهر أيضا إثبات الكمال.
303
وينفي عن الله الكلل والتعب.
304
وأهم الانفعالات الرضا والسخط، والمحبة والبغض والموالاة والمعاداة.
305
وقد تكون الإرادة مضادة للكراهية. فإرادته لشيء كراهيته لضده. تنتقل الصفات إذن إلى مستوى الانفعال والإرادة فتكون العاطفة رفضة للعاطفة المضادة.
306
وتتحول الصفات والصفات المضادة إلى عاطفتي المحبة والكراهية أو إلى انفعالي الولاية والعداوة والرضا والسخط. وهنا يسقط الإنسان من انفعالاته الإيجابية والسلبية على الذات المشخص. فالولاية والعداوة انفعالان نفسيان أسقطهما الشعور على المعبود وجعلهما صفتين له في ذاته.
307
وقد يخضع الذات المشخص للانفعالات المضادة فيفرح ويغتنم، ويسر ويحزن بناء على ما يحدث في العالم كما يحدث للإنسان تماما. يسر بطاعة أوليائه وينتفع بها ويلحقه العجز بمعاصيهم. يسر ويغنم، يستريح ويتعب، يفرح ويحزن، يمل وينسى، ويستحي ويهتم.
308
وقد كانت هذه الانفعالات هي السمات الغالبة على الآلهة في الديانات القديمة إذ لم تكن قد تحولت بعد إلى صفات عامة، شاملة عقلية مطلقة، فالانفعالات أولى المراحل في تصوير الصفات.
309
وأحيانا يتحول الرضا والسخط إلى صفات مستقلة عن الإرادة، وبالتالي تمتد الصفات لتشمل باقي الانفعالات. ولما كانت الانفعالات فيما يبدو مظاهر للنقض، فقد تم نفيها إثباتا للكمال لا فرق بين معتزلة وأشاعرة.
310
فالرضا والسخط لا يجوزان على الله لأن أحواله لا تتغير. وكذلك الولاية والعداوة لتعارضهما مع حرية الأفعال، وكذلك جميع مظاهر الانفعالات الحسية. ولكن قد يختار البعض الفرح دون السرور والرضا والغضب والسخط دون الشفقة والرأفة والهمة والعناية طبقا للتوقيف أي للنقل دون العقل، وذلك تحويل للتصوير الفني إلى وقائع ثابتة وتحويل للتأثير النفسي إلى صفة وانفعالات،
311
أو إثباتها مظاهر للإرادة وليس صفات شاملة.
312
كما تجمع الفرق على نفي مظاهر الآفات كلها وشتى صنوف العاهات والنافع والضار واللذة والألم، والسرور والملذات والشهوة. لا يعتريه أي مظهر من مظاهر النقص بل هو الكمال المطلق. وهنا يظهر الفكر على أنه تعبير عن مطلب نفسي أكثر منه وصفا لواقع أو على أنه رغبة في الكمال واستنكاف من النقص أو على أنه تعبير عن عواطف الطهارة والتقوى في صياغات عقلية.
313
كذلك لا يجلب على نفسه نفعا ولا يدفع عن نفسه مضرة. لا يخشى شيئا ولا يستعين بأحد، لا يخشى الشيطان، ولا يستعين بالملائكة. ولذلك فهو غني عن خلقه ليس في حاجة وليس في حاجة إلى شكر كما هو معروف في «شكر المنعم»، فالله غني عن العالمين. والحقيقة أن إثبات غنى الله يدل على افتقار الإنسان ورغبته في أن يكون غنيا ولكنه لم يستطع فأله الغني. وكل ما قيل عن غنى الله يدل على حرمان الإنسان منه وشوقه إليه. وقد تدل صفة الغنى عن تأليه الغني لنفسه ونموذجه وتأييد طبقته تعبيرا عن واقعه عن طريق الامتداد وليس عن طريق القلب. الغنى وصف يطلقه الفقير لحرمانه والغني لشبعه. وهو الغنى على الإطلاق والإنسان هو الغني لا على الإطلاق إذ تعتريه الحاجة ولا يستغني عن أحد أو عن شيء. وهو حي لا تجوز عليه الحاجة؛ لأنه لا تجوز عليه الشهوة والنفار التي تجوز على الأجسام. لا تجوز عليه الشهوة؛ لأنه لا يجوز عليه النفور. فالإلجاء على ضربين بطريقة المنع أو المنافع والمضار ويستحيل كلاهما في حقه.
314
كل ذلك يدل على نفي صفات النقص عنه وإثبات صفات الكمال له.
315
بل إن عواطف التأليه كلها قائمة على دليل الكمال دونما حاجة إلى قسمة عقلية أو صياغة منطقية مثل دليل الأولى. إذ يقوم على افتراض خالص ويعبر عن عواطف التعظيم والإجلال وليس فكرا علميا وتحليلا لموضوع. وهو حكم مسبق من أن المؤله قادر قدرة مطلقة، وعالم علما مطلقا، وكامل كمالا مطلقا.
316
وتصور الكمال المشخص لا يعطي الشعور وجودا أنطولوجيا بل يستعمل فقط كفكرة محددة. فعندما يوصف الموجود المشخص ويثبت بالعقل يقال: «وهذا لا يجوز على الله»، أو: «وهذا يستحيل على الله»، أو: «وهذا ممتنع»، أو: «محال في حق الله»، مثل وجود النقص أو مسئوليته عن الشر أو تشبيهه بالإنسان. فالكمال حل لمعظم المشاكل عن طريق التنزيه الشعوري أي عملية التأليه القائمة على تعظيم الآخر والإجلال له. وقد يقوم دليل الكمال على إثبات الكمال للإنسان من أجل التخلي عن موقف تعذيب الذات، ولكن يأتي دليل الصانع ثم يجعل كمال الإنسان دليلا على وجود مخلوق كامل سبب هذا الكمال ومصدره مع أن كمال الإنسان لا يفترض بالضرورة وجود صانع كامل.
317
وزيادة في التنزيه فإن مفهوم الكمال نفسه نفي للنقص، وبالتالي لا يجوز وصف الله بأنه كامل.
318
وأخيرا تجمع صفة الكمال بين جميع الصفات الإيجابية مرة واحدة. فهي صفة كلية لا تشير إلى وجه واحد من أوجه الكمال، بل تشير إلى الكمال ذاته. وتنشأ صفة الكمال من إحساس الإنسان بالنقص أما في نفسه، فالإنسان ليس ناقصا إلا بناء على إحساس مرضي باحتقار الذات أو في الواقع، حين يعجز الإنسان عن تحقيق الكمال، إما في ذاته بتطويرها من درجة أقل إلى درجة أعلى، وإما في الواقع فإنه يؤله الكمال إذا عجز عن أن يكون كاملا أو عجز عن تحقيق الكمال في واقعه. وتختلف صورة الكمال حسب تصور الشعور له. لا توجد صورة واحدة للكمال. كل الصور تعبير عن درجة إحساس الشعور به.
319
والسؤال الآن: هل يمكن وصف الله بالمكر والسخط والغضب والكراهية وسائر الانفعالات السلبية؟ يبدو أن الإسقاط الإنساني أحيانا للانفعالات السلبية لا يكون مصاحبا بالنفي وكأن الانفعالات ليست عيبا مثل سائر الانفعالات التي يصدر عليها الحكم بالنفي كعيب ونقص مثل الجهل والعجز والموت والصمم والعمى والبكم. فالانفعالات الإنسانية إذن لها جوانبها الإيجابية. الحياة ليست علما وقدرة فحسب بل غضب وسخط وكراهية وحزن وفرح. بل إن الملل والهم والنسيان وكل الانفعالات السلبية إيجابية وخلاقة وبواعث على الصمود والمقاومة وبذل الجهد لتجاوزها والسيطرة عليها. لذلك ارتبطت الإرادة بالبواعث وشملت الانفعالات. ولكن الباعث هو الانفعال الواعي المروي، وهو الانفعال الموجب لا السالب. أسقط الإنسان في التأليه الشخصي جميع انفعالاته لأنه لا يمكن تصور الحياة دون انفعالات. وقد تدوم الانفعالات وتصبح عامة لا تتغير بتغير الفعل إنساني. وهي صيغة الانفعال الثابت الذي لا يتغير أن حصل كما هو الحال في الأفكار الثابتة المستقلة عن الأشخاص والتي لا تتغير مهما تغيرت أفعال الأشخاص. يوصف الله إذن على مستوى إنساني، فلا يفعل الحديد إلا الحديد:
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين . الله إنسان انفعالي، والانفعال بعد إيجابي في الحياة الإنسانية لذلك يتصف به الله. وهذا كله مجاز وتشبيه، استعارة وكناية، تشير إلى البعد الفني في رؤية الإنسان لذاته وتصويره لصفاته، قياسا للغائب على الشاهد، وأن أي إدراك أو تصور لا يتم إلا بناء على مقياس إنساني خالص. كل شيء إنساني، والحقيقة إنسانية، والله إنساني ولكن الإنسان في اغترابه عن ذاته يجهل ذلك وكأن الإنسان هو الوحيد اللاإنساني. وأحيانا تكون الانفعالات مزدوجة مثل المحبة والكراهية، الرضا والسخط، وأحيانا فردية مثل الجود والكرم إذ لا يجوز وصف الله بالبخل والتقتير:
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم
بناء على الانفعالات الإنسانية وتناقضات الوجود الإنساني ... لذلك تشابه الانفعالات المزدوجة أحوال الصوفية المزدوجة أيضا، وتشابه الانفعالات الفردية مقامات الصوفية الفردية.
وقد تستثنى بعض الانفعالات الحسية مثل اللذة والألم والنفع والضرر، وكأن الانفعالات الحسية لا تجوز على الله في حين أن المنفعة والضرر أساس التشريع ومقياس له وأن تعريفهما لا يتم إلا باللذة والألم. وقد تستثنى بعض الانفعالات غير الحسية مثل الميل والنفور مع أنها لا تختلف نوعا وكيفا عن باقي الانفعالات المنسوبة إلى الله مثل الولاية والعداوة والرضا والسخط. وقد يستثنى الحاجة والفقر مع أنهما ليسا انفعالين بل يخصان الوجود ذاته هل هو محتاج إلى غيره أم أنه غني عنه. تبدو الانفعالات إذن على مستويات ثلاثة، الصوري الوجودي مثل الغنى والحاجة، الوجداني مثل الرضا والسخط، والحسي مثل اللذة والألم.
وأخيرا قد تختلط بعض الانفعالات بالأسماء مثل الجود والكرم والرحمة، وكأنه لا يوجد إحصاء تام للانفعالات كما هو الحال في الأوصاف الستة والصفات السبع والأسماء التسعة والتسعين. ومع ذلك فقد جعلها القدماء مظاهر للإرادة وأحيانا أخرى للقدرة؛ لأن الله قادر على كل شيء.
320
فالقدرة والإرادة قرينان. والحقيقة أن الإرادة في أصل الوحي فعل وليست اسما وفعل للإنسان أكثر منها فعلا لله ولكن الإنسان أسقطها ومظاهرها على الله ورضي برؤية ذاته فيه إذا ما استعصى العالم عليه وأصبح عاجزا فيه.
321
ثالثا: الأسماء
(1) مقدمة
لا تظهر الأسماء باستمرار كأصل مستقل، ولكن كملحق لمبحث الصفات. وهي آخر دائرة حول الذات بعد أوصاف الذات الستة وصفاتها السبع.
1
وغالبا ما تظهر في آخر نظرية الذات والصفات والأفعال مع أنها أقرب إلى أن تدخل بعد الصفات وقبل الأفعال لأنها أقرب إلى صفات الفعل أو أنها هي الرابطة الطبيعية بينهما، فمنها ما هو صفات ذات، ومنها ما هو صفات أفعال. كما تظهر الأسماء على أنها أحد أحكام الصفات.
2
وقد استمرت قسمة الإلهيات إلى ذات وصفات وأفعال من القرن الخامس حتى العصر الحاضر وأضيفت إليها الأسماء إحصاء في القرن السادس.
3
وفي العقائد المتأخرة تظهر الأسماء وينص على أنها توقيفية مع السمعيات، وتخرج عن النسق العقلي في نظرية الذات والصفات والأفعال.
4
وتأتي الأسماء طبيعيا بعد الإرادة لأن كليهما تعبير عن الكمال، فالإرادة نفي لمظاهر النقص والأسماء مجموع الكمالات. لم يعتد بها القدماء كثيرا، سواء من المتقدمين أو من المتأخرين، مع أنها كانت فرصة لإظهار التنزيه في حين ركز عليها الصوفية حتى انتقل إليهم الموضوع بأكمله.
5
وعلى عكس القدماء أعطيت لها هنا أهمية قصوى نظرا لأثرها في الحياة العملية على سلوك الجماهير أكثر من الصفات. إذ لا تعرف الجماهير الحياة والكلام بقدر ما تعرف اللطيف الخبير القهار الشكور الرزاق الوهاب الولي مالك الملك.
تظهر مسألة الأسماء إذن في الصفات أكثر من ظهورها في الأوصاف على أنها تفريع للصفات أو أنها صفات أفعال وليس صفات ذات، فيطبق عليها أحكام الصفات العامة الخاصة بالإثبات والنفي أو بالغيرية والهوية، أو بالقدم والحدوث أو بعض المسائل الأخرى مثل الصفة والموصوف، صفات الذات وصفات الفعل، التشبيه والتنزيه، والحقيقة والمجاز. كما تظهر فيها الطبيعة واستقلالها والحرية الإنسانية وإثباتها. ويظهر هذا التداخل بين الوصف والصفة والاسم فيكون الله قديما بقدم (وصف)، عالما بعلم (صفة)، كريما بكرم (اسم).
6
ومع ذلك يظل الفرق بين الوصف والصفة والاسم قائما. فالوصف يعبر عن كنه الذات، والصفة عن مظاهرها، والاسم عن تحققاتها وتعيناته في الأفعال، وبالتالي يكون الاسم أقرب إلى الصفة منه إلى الوصف. ولكن لم يمنع هذا التمايز بين الأوصاف والصفات والأسماء من التداخل بينها وقيام البعض منها بمقام البعض الآخر حتى يصبح مجموعها عبارات إنشائية خالصة تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال للذات المشخص دون تحديد للألفاظ وتمييز بين معانيها المختلفة كما هو الحال في المناجاة الصوفية أو في التأملات الفلسفية أو في العبادات الروحية أو في الصلوات الدينية أو في التواشيح في المآتم والجنازات والأدعية الإذاعية. فقد بدأت أولا كألفاظ ثم تحولت إلى أسماء. بدأت أولا كلغة عادية ثم تحولت إلى لغة اصطلاحية كما حدث في ألقاب المسيح.
7
وقد أفاض الصوفية في الأسماء والصفات وكذلك المفسرون في إحصاء أسماء الله بعد أن حاول علماء الكلام إحصاءها والتوقف عند حد معين.
8
وإلى الآن قد تظهر بعض الأسماء التي توحي بمعناها دون أن تكون ألفاظها اصطلاحية من أسماء الله الحسنى مثل الجميل والكامل.
9
فإذا ما قويت الأسماء وتحولت من مبالغات في التعظيم والإجلال إلى اصطلاحات ثم إلى عقائد، فإنها تزاحم أوصاف الذات وصفاتها أي بالدائرتين الأقرب إلى الذات وتصبح أسماء أزلية تدل على الذات وهي أقرب إلى الأوصاف بالإضافة إلى الأسماء، مثل: شيء، موجود، ملك، قدوس، علي، عظيم، كبير، حق، واحد، متين، أول، آخر، غني، متعال، فموجود وقديم وباق أول ثلاثة أوصاف للذات، وواحد الوصف السادس دخل في الأسماء، وعليه خلاف فيما إذا كان اسما. والألوهية صفة عليها خلاف فيما إذا كانت صفة،
10
مع أن الأسماء مشتقة في الأصل من الصفات كمعاني أزلية قبل أن تكون مزاحمة لها. كل اسم يرد إلى صفة. فالقوي والمقتدر بمعنى القادر، والمحصي والشهيد بمعنى العلم، والأول والآخر بمعنى الباقي، والودود والحليم والصبور بمعنى الإرادة، والوعد والموعد والصادق والذاكر بمعنى الكلام. وكل اسم مشتق من صفة أزلية فهو أزلي مثلها.
11
وقد تنفى الصفات دون الأسماء لأنها مجرد تسميات تطلق على الله.
12 (2) الاسم والتسمية والمسمى
ما الفرق بين الاسم والتسمية والمسمى؟ وما الفرق بين الأسماء والأسامي؟ الاسم والأسماء أقرب إلى التحديد والمصطلحات العقائدية من التسمية والأسامي الأقرب إلى التعبيرات الإنشائية واللفظية. الاسم لا اشتقاق فيه في حين أن التسمية تكون اشتقاقية. الاسم محدود مقنن في حين أن التسمية لا نهاية لها، وحرة تعبر عن قيم ومبادئ إنسانية عامة.
13
أما المسمى فهو الشيء الذي له تسمية ويطلق عليه اسم. ومن ثم تكون علاقة الاسم بالتسمية بالمسمى علاقة اللفظ بالمعنى بالشيء. الاسم هو اللفظ، والتسمية هي المعنى، والمسمى هو الشيء. وإذا كانت الأسماء والتسميات مجرد مواضعات، فإن التسميات حقائق وأشياء. والتسمية هي أهم عنصر في هذا الثلاثي لأنها هي عنصر الربط بين الاسم والمسمى. التسمية في واقع الأمر هي عملية شعورية لإطلاق أسماء على مسميات تخضع لمقدار ما يعرفه الإنسان من ألفاظ ولمدى تعبيرها عن تجاربه الحية وموقفه الإنساني. التسمية تخصيص الاسم ووضع الشيء. ولا شك أن الاسم مغاير له. التسمية فعل الواضع وهو منقض بانتهاء التسمية وليس الاسم كذلك. وبالتالي تكون هناك ثلاثة تعينات: الشيء المسمى، والاسم، والتسمية. الأولى أشملها، والاسم دال عليها، والتسمية فعلها. والتسمية ترجع عند الأشعرية إلى لفظ المسمى الدال على الاسم، والاسم لا يرجع إلى اللفظ، بل هو مدلول التسمية. فالاسم أقرب إلى الدلالة منه إلى اللفظ.
14
والتوحيد بين الاسم والتسمية يجعلهما معا من أفعال البشر. أما المسمى نفسه فلا سبيل لنا من معرفته إلا من خلال الاسم والتسمية. ومن ثم فهو أسماء وتسميات، ولا فرق بين أن يقال إن المسمى لا نعرف كنهه وأن الأسماء زيادة عليه أو أن المسمى هي التسمية، إلا أن الأول أكثر حذرا وحرصا، والثاني أكثر موضوعية وصراحة.
15
أما التوحيد بين الاسم والمسمى فهو قول بقدم الصفات وبالتالي تكون علاقة المساواة لحساب المسمى مضحية بخلق الاسم.
16
وعلاقة التغاير أكثر تنزيها لأنها تميز بين المسمى وهو الله والاسم الذي هو من خلق الإنسان، وكذلك التسمية، أي تحرك عضلات الفم واللسان عند النطق.
17
حتى الله لا يكون الاسم فيه عين المسمى لأنه اسم علم للذات من غير اعتبار معنى فيه لأنه لا اسم إلا وله معنى، حتى «الله» في مجموع اللغات السامية.
18
ويدل على شيء كما تدل أسماء الخالق والرازق على نسبته إلى غيره. هناك فرق بين الأسماء والصفات
19
والأسماء غير المسميات. ولا يمكن تشخيص الأسماء بذاتها وتحويلها إلى وصف حقيقي لواقع أو إلى موصوف مخلوق من الذات لأن الأسماء مجرد أقوال. كل اسم يشير إلى وصف يكون موضوعا للعلم. فالأسماء لا تزيد عن كونها لغة علمية، كل منها يشير إلى وصف علمي. بل إنها ليست أوصافا لأفعال لأن الأفعال تشخيص للأوصاف وافتراض ذات تقوم بالأفعال.
20
فالفعل لا يكون إلا من فاعل. وتصبح الأسماء جزءا من لغة العلم إذا دخل عنصر المواضعة، وتم الاتفاق عليها، وأصبحت لها معاني اجتماعية يخطئ الفرد أو يصيب في استعمالها بناء على هذا الاتفاق الاجتماعي.
21 (3) القياس والاشتقاق
فإذا كانت الأسماء تعبيرا عن عمليات شعورية أو تسميات، أمكن إخراجها عن طريق القياس الشعوري ولا تكون أسماء شرعية أو توقيفية. كما يمكن اشتقاقها وإضافة أسماء أخرى على الأسماء الأصلية تعبيرا عن نفس القصد وهو التعظيم والإجلال. وبالتالي تكون الأسماء عقلية وليست نقلية، وضعية وليست إلهية، بالرغم من استعمال الوحي لبعض منها مستدركا أنه لا نهاية للأسماء وغير ناه عنها نظرا لأن الوحي متناه كلغة وإن لم يكن متناهيا كقصد.
22
وإذا كان العقل يمكنه الاستدلال على الأسماء بعد النقل فلماذا لا يستدل عليها قبل النقل إذا كان الاستدلال في ذاته ممكنا؟ وإذا كان الإجماع أحد الأدلة على التوقيف فهو بقدر ما به من نص يعتمد عليه وما به من عقل للاستدلال فيه. صحيح أن القياس لا يتم إلا في المسائل العملية وليس في العقائد النظرية، ولكن الأسماء في الحقيقة بين النظر والعمل، تربط بين الذات والصفات والأفعال، وتشير إلى مجموع القيم والمبادئ الإنسانية التي يسترشد بها في السلوك. ولا مانع من أن يضع العبد لمولاه اسما وكنية. بل لفظ المولى والسيد وصاحب الأمر أسماء تكشف عن الوضع الاجتماعي الذي فيه العبد والذي منه تنشأ اللغة. أما وصف الله بأسماء دون غيرها مثل جواد كريم وعتيق وشفيق فإن المعنى سابق على اللفظ، واللفظ يحتاج إلى تحويل المعنى إلى تصور قبل أن يعبر عن التصور في اللفظ. والتصور يستلزم درجة من التجريد قد لا توجد في المعنى بعد. ولكن بقدرة العقل على التجريد وعلى الصياغات ستتحول المعاني إلى أسماء كما تحولت من قبل إلى أوصاف وصفات وأسماء شرعية. ولا غرابة أن يكون المعنى مقبولا الآن دون أن يوضع له اسم. فهو الشافي دون أن يكون طبيبا، بل يظهر لفظ الطبيب في المدائح والأدعية وأذكار الصوفية. تتوقف الأسماء على التخصص ودرجة الثقافة واللغة الشائعة في البيئة والسائدة في الحضارة. فعند الفيلسوف هو فلك الأفلاك أو عقل أو روح الأرواح تعظيما لله قدر تصوره. كما أنها عند المالك المالك وعند الملك الملك وعند الغني الغني، وكأن الإنسان يسمي أغلى ما لديه. وهو عند المحروم المالك، وعند المملوك الملك، وعند الفقير الغنى، وهنا يسمي الإنسان أيضا أغلى ما لديه بأقصى ما يتمناه.
23
وإذا كان لا يجوز تسمية الإنسان بأسماء الله فلأن المواقف لا يتم التبادل فيها. فالموقف الإنساني لا يتغير إلا بالتمني وليس في الواقع، الإنسان في الموقف الديني لا يكون إلا غير ذاته، مغتربا في غيره. صحيح أنه لا يمكن اشتقاق أسماء من كل أفعال الذات فلا يمكن تحويل كل فعل إلى اسم، فمثلا:
وسقاهم ربهم
لا تعني أن الله ساق أو
الله يستهزئ بهم
تعني أن الله مستهزئ، أو
سخر الله منهم
يقال الله ساخر، أو
وغضب الله عليهم
فيقال الله غضبان، أو:
إن الله وملائكته يصلون على النبي
فيقال الله مصل، أو
سأرهقه صعودا
فيقال الله مرهق، وذلك لأن الأسماء لا تأتي من النقل بل من الوضع النفسي الاجتماعي للمؤله. كما تقال هذه الأسماء في المدائح والتعازي وفي الأذكار والأوراد. ولا يتحول كل فعل إلى اسم إلا إذا نال درجة عالية من التجريد، فالاسم معنى وتصور وأكثر من فعل وانفعال. كما يستحيل تسمية أحد بأسماء الله مثل الإله والرحمن والخالق والقدوس والرزاق والمحيي والمميت ومالك الملك وذي الجلال والإكرام؛ لأنها لا تليق لغير الله حتى تمنع الشركة ويتأكد الاختصاص. فالأسماء تقتضي الاحترام في استعمال البشر لها في التسمية لغير الله.
24
فالإنسان لا يسمي واقعه مثاله، ولا يسمي حقيقته خياله. فالاغتراب الديني يقوم أساسا على هذا الفصل بين الواقع والمثال، بين الحقيقة والوهم. كذلك يستحيل قلب الأسماء ما دام الأمر كله مواضعات؛ لأن وضع الأسماء ضرورة يفرضها الواقع النفسي والاجتماعي للأفراد والجماعات. لا يجوز أن يسمي الله نفسه شرعا أو يسميه الإنسان عقلا جاهلا بدلا من تسميته عالما. فاللغة لا تخضع لتغيير أو تبديل في معانيه إلى هذا الحد، حد القلب من الضد إلى الضد إلا إذا تغير استعمال الألفاظ بناء على تطور المجتمع واختلاف العصور وتوالي الأجيال وليس بإرادة فردية أو جماعية. بل إن نفي الاسم المضاد جزء من الاسم قياسا على الأوصاف والصفات. فالله موجود وليس عدما، قديم وليس حادثا، باق وليس فانيا، عالم وليس جاهلا، قادر وليس عجزا، حي وليس ميتا ... إلخ، فكيف يتحول الاسم إلى ضده عن طريق قلب اللغة؟
25
لذلك تجز اشتقاق الأسماء وإضافة أسماء لغوية تعبر عن نفس القصد وهو التعظيم والإجلال وفي نفس الاتجاه وهو التعالي. هذه الأسماء إما مذكورة في النقل أو يدل عليها العقل، وهي في حقيقة الأمر تعبر عن عمليات شعورية يقوم بها الإنسان من أجل سد حاجاته وتكيفه مع الواقع عن طريق العواطف والانفعالات لا عن طريق العقل، وبالحلم والخيال والتمني والوهم لا بالفعل وفي الواقع وبالتحقيق وبالجهد. ويمكن وصف عمليات الشعور التي تحدث في كل صفة أو اسم في ثلاث خطوات: الأولى وجود واقع بصفات معينة مضادة للطبيعة البشرية، الثانية عجز الإنسان عن تغيير هذا الواقع في الحياة العملية، الثالثة التعويض عن هذا العجز بتأليه ما عجز الإنسان عن تحقيقه وتشخيصه في ذات أو الاكتفاء بتشخيصه في فعل. ومن ثم يتحول العمل إلى نظر، ويتحول النظر إلى تشخيص كتحقيق منحرف له أو يتحول النظر إلى موقف صوفي خالص، ويصبح التأمل في هذه الحالة عجزا عن الفعل، فالفعل على ما قال القدماء المعاصرون لقدمائنا ضعف في التأمل. إذا كانت الأسماء تعبيرا عن عمليات شعورية فيمكن استخراجها عن طريق القياس الشعوري، أي التعبير بشتى الألفاظ عن نفس الموقف النفسي الاجتماعي لأداء نفس الوظيفة الشعورية، ولا مشاحة في الألفاظ كما قال القدماء.
26
والحقيقة أنه لا يوجد لفظ شرعي وآخر لا شرعي، بل هناك ألفاظ أكثر قدرة على التعبير عن الموقف الديني من غيرها طبقا لإحساسات المتدين أو لأذهان المتكلمين أو للحساسيات المرهفة للحكماء.
27
يقوم القياس الشعوري على الإحساس المرهف بالتنزيه، فيقال له مثلا رحيم ولا يقال شفيق. والحقيقة أن المعنى واحد، والفرق في الحساسية بالنسبة للألفاظ، وهي حساسية شعرية خالصة. ومن ثم إجابة على سؤال: هل الصفات أو الأسماء تعرف بالتوقيف أم بالقياس؟ هل مصدرها النقل أم العقل؟ فالحقيقة أن الصفات لم تأت من هذا ولا من ذاك أساسا، بل هي شعور الإنسان بصفاته ثم دفعها إلى حد الإطلاق. فالنقل لم يخبر إلا عن بناء الإنسان والعقل لم يحلل إلا تجربة بشرية. وبالتالي يجوز تسمية الله قبل أن يأتي السمع بالعقل فقط ما دام الأمر وظيفة شعورية في التعظيم والإجلال. ولماذا التوقف عن فعل دون فعل آخر؟
28
لذلك يتدخل المجاز في التسمية. فكل الأسماء مجاز، أي أنها تقال في الإنسان على الحقيقة وتطلق على الله مجازا طبقا لقياس الغائب على الشاهد. وتدخل في ذلك الأسماء العقلية مثل حاكم وعادل والعبارات التشبيهية مثل نور السموات والأرض.
29
والحقيقة أن أسماء الله، بل وصفاته وأوصافه، هي المشجب التي تعلق عليه البشرية تاريخها إيجابا أم سلبا، فهو القوي لشعب يريد القوة أو مستضعف، وهو عالم لمجتمع تقوم حياته على العلم أو جاهل، وهو العادل في نظام اجتماعي يرعى العدل أو يقوم على الظلم. وبهذا المعنى تصبح الأسماء مفتوحة لكل العصور وعلى كل الأجيال ولكل الطبقات الاجتماعية طبقا لحاجات الناس ومصالحهم، ما تحقق منها وما لم يتحقق بعد. فالله من أسمائه هو الحرية تعبيرا عن حاجتنا إلى التحرر، وهو التقدم والعقل والطبيعة والإنسان والوحدة والتاريخ والمساواة والعدالة، ما دام كل لفظ يعبر عن حاجة دفينة لجيلنا. الأسماء القديمة إنما تكشف عن الموقف الديني للعالم، أي اغتراب الإنسان. إنما الأسماء التي يحتاجها جيلنا ويفرضها عليه واقعه وتحركه لصفة تقضي على الاغتراب الديني القديم. لم يعد مكان لعواطف التعظيم والإجلال والتأليه بعد العود إلى العالم والدخول فيه والاعتراف به والعمل فيه والبقاء عليه دون الفناء في غيره إلا إثباتا وتحقيقا لموضوعية المبادئ التي تعبر عنها الأسماء.
30 (4) تصنيف الأسماء
إذا كانت الأسماء لا نهاية لها من حيث الاشتقاق اللغوي والقياس الشعوري والمعنى المجازي، فإنها مع ذلك تحددت عند القدماء بتسعة وتسعين اسما اعتمادا على النقل.
31
ولكن عقلا لماذا لا تكون أقل أو أكثر؟ وإذا كانت كمالات الله لا متناهية وحاجات البشرية أيضا لا متناهية، فكيف يمكن تحديدها بهذا الرقم؟ وهل الرقم الفردي له دلالة؟ هل الرقم 99 له دلالة رقمية مثلا أن يكون فردا، الرقم 3، مضروبا في نفسه 3 × 3 = 9، أو 33 × 3 = 99، أو يكون قبل المائة بواحد؟ وقد قيل إنها مائة اسم، والاسم المائة هو الاسم الأعظم مكتوم لا يطلع عليه إلا من أكرمه الله به، وعند العباد منها تسعة وتسعون في مقابل السر الذي لا يطلع عليه أحد؟ والحقيقة أنه لا أسرار هناك، فالدلالة الرقمية للعدد أحد جوانب الفكر الديني القديم في البيئات الثقافية والحضارات المجاورة عند القدماء.
وقد يعطي تعريف الاسم طبقا لقواعد التعريف أحد مقاييس التصنيف. فالاسم إما أن يدل على الماهية أو على جزء من الماهية أو على أمر خارج عن الماهية أو على ما يتركب عنهما. والخارج إما أن يكون صفة حقيقية أو إضافية أو سلبية أو ما يتركب عنهما. وبالتالي يكون السؤال هل يجوز أن يكون لماهية الله اسم؟ لما كانت ماهية الله غير معلومة للبشر، فإنه لا يجوز أن يكون لها اسم. أما الاسم الدال على جزء الماهية فذلك محال لأن الله لا تركيب فيه. أما الإضافات والسلوب فهي جائزة. ولما كانت بسيطة ومركبة غير متناهية فلا جرم أن يجوز وجود أسماء لا نهاية لها متباينة طبقا لعمليات الشعور المستمرة. والوصف الخارجي قد يكون حقيقيا مثل العلم أو إضافيا بمعنى العالم أو سلبيا كالقدوس. وأما المأخوذ من الفعل فجائز. هذه هي الأقسام البسيطة وقد تتركب منها أقسام أخرى مركبة.
32
لا يوجد إذن إلا مقياس الإضافة أو السلوب. لذلك كانت الأسماء مشتقة من آثار الذات أو الذات من حيث تقدسه عن سائر المخلوقات: الأولى أسماء إضافية كالعلة والمبدأ والصانع والثانية أسماء سلبية كالواحد والعقل والعاقل والواجب. ويمكن إجراء مباحث عقلية في هذه الأسماء لأنها ليست شرعية. الأولى تعبر عن صلة الله بالعالم هو طريق التشبيه، والثانية تنفي عن الله صفات النقص، أي طريق التنزيه. وقد تنقسم الأسماء أيضا مثل الصفات إلى أسماء ذات (الله)، وأسماء معنى (عالم، قادر)، وأسماء فعل (رزاق، خالق)،
33
وهي تفرقة تخلط بين الأسماء والصفات ومستعارة من قسمة الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل، الأولى خالية من كل تشبيه صريح ومرتبطة بالذات المشخص، والثانية ذاتية بمعنى أنها تتجه نحو العالم لإحداث الأثر وتحقيق الصفات الأولى وبها تشبيه أكثر صراحة.
34
بعض الأسماء إذن صفات ذات وبعضها صفات معنى وبعضها صفات فعل طبقا للدوائر الثلاث: (أ) ما يستحق لذاته كوصفه بأنه شيء وموجود وذات وغنى، أي أوصاف الذات التي لا تكشف عن أفعال أو علاقات أو مظاهر العالم. (ب) ما يستحق لمعنى قام به كالعالم والقادر والحي والسميع والبصير والمتكلم والمريد، وهي صفات المعنى. (ج) ما يستحقه لفعل من أفعاله كالخالق والغافر ونحو ذلك. وواضح أن أسماء الأفعال أكثر اتساعا من أسماء الذات وأسماء المعنى لأنها أشمل وأوسع وبالتالي تعطي الفرصة أكبر للتعبير عن حاجات العصر. وبالتالي يمكن رؤية الاستخدام الوظيفي لهذه الأسماء واستعمالها ضد فرق المعارضة، وملئها بمضمون عقائدي مخالف لعقائدها مثل القدرية والثنوية في خلق الأفعال، والقدرية في الصلاح والأصلح، والقدرية ثالثا في قانون الاستحقاق، ووضع القدرية أي المعارضة الداخلية العلنية مع المجوس أي المعارضة الخارجية حتى يسهل حصار عقائد المعارضة. وقد تقع بعض الأسماء كصفات ذات وصفات فعل في آن واحد، مما يدل على أن التصنيف ليس محكم التخوم.
35
وهل يجوز اشتقاق اسم فاعل من اسم فعل؟ أليس هذا تشخيصا وقضاء على جوهرية الفعل وهو ما يعاني منه جيلنا؟ أليس هذا تفكيرا علميا بدائيا في تشخيص الظواهر دون إدراك قانونها المستقل كظاهرة طبيعية؟
وسواء كانت قسمة الأسماء ثلاثية أو رباعية، فإنها كلها ترد إلى القسمة الثنائية إلى الذات والفعل سواء كان المدخل إلى ذلك اللفظ أو المعنى، اللغة أو الفكر. إذ يمكن تقسيم الأسماء اعتمادا على قسمة اللغة: الأفعال إلى لازم ومتعد، فاللازم يشير إلى الذات كالشيء والحي لا يتعداه، والمتعدي يشير إلى العلاقة أو الإضافة أو النسبة إلى الغير كالعالم والقادر والمريد والسميع والبصير لأنه يتعدى إلى معلوم ومقدور ومراد ومسموع ومبصر. وهنا لا يتميز الاسم بشيء عن الصفة. ويمكن اعتبار الأوصاف والصفات أسماء. فالاسم هو الجامع للوصف والصفة دون أن تكون له دائرة خاصة، ويتحكم في هذا التقسيم علاقة الشيء بالذات وعلاقته بالغير، أي قانون الهوية والاختلاف.
ويمكن تقسيم الأسماء إلى نوعين: الأول مخصوص به كالإله والخالق والرازق والمحيي والمميت والآخر، وما يجوز تسمية غيره به كالحي والعالم والقادر. وهي قسمة تقوم على التخصيص النوعي، واحتمال الاشتراك من عدمه. فالذات تختص بأسماء دون غيرها لا يشاركها فيها أحد في مقابل أسماء أخرى تقع فيها الشركة. وهي قسمة تحرص على التنزيه دون الوقوع في التشبيه وتترك أوصاف الذات ولا تدخلها في الأسماء. والحقيقة أن الأسماء التي لا تقع فيها الشركة هي أيضا أسماء مشتركة عن طريق التصور ونشأة الألفاظ طبقا للحاجات. فلأن الإنسان في حاجة إلى رزق تصور الرزاق، ولأنه في حاجة إلى طول العمر تصور المحيي، ولأنه عاجز أمام الموت تصور المميت، وهي أيضا لا تميز الأسماء وترجع إلى الصفات.
أما قسمة الأسماء إلى مطلق كالحي والقادر وإلى مضاف مثل الجلال والإكرام رفيع الدرجات مقلب القلوب والأبصار، فإنها قسم تقوم أيضا على التعلق والإضافة سلبا وإيجابا. والحقيقة أن الحياة والعلم والقدرة لها أيضا متعلقات هي المعلوم والمقدور، وكأن صفات الذات هي بالضرورة صفات فعل بمعنى أن لها تعلقا بالغير وهو ذات الإنسان وفعله تحقيقا أو إحباطا أو فشلا، قدرة أو عجزا .
وقد تكون القسمة رباعية للأسماء. الأولى لا تدل إلا على ذاته، وهذا صادق أزلا وأبدا، والثانية ما تدل على الذات مع زيادة سلب كالقديم والباقي والواحد والغني، والثالث ما يدل على صفة زائدة من صفات المعنى مثل الحي والعالم والمتكلم والآمر والناهي والخبير، وهو مثل الأول والثاني، والرابع ما يدل على الوجود مع إضافة فعل كالجواد والرازق والخالق والمعز والمذل. فإذا كانت الصفات أزلية وأسماء الأفعال حادثة، فإن هذا القسم الرابع مختلف فيه بين القدم والحدوث.
36
والحقيقة أنها قسمة ثنائية مزدوجة، فالنوعان الأول والثاني صفات ذات والنوعان الثالث والرابع صفات أفعال بمشاكل الصفات وأحكامها مثل القدم والحدوث. ويتضح رد القسمة الرباعية إلى ثنائية في قسمة الأسماء إلى مشتقة أو غير مشتقة، فالأولى نوعان: صفة قائمة به أزلية مثل القادر والعالم وباقي الصفات السبع، وأخرى مشتقة من الفعل وهو حادث. وهذا نوعان: الأول مشتق من فعل كالخالق والرازق والمنعم، والثاني من فعل غيره كمعبود ومشكور، وهو أيضا حادث.
37
وقسمة الفعل إلى فعل ذات وفعل آخر توحي بأن الذات إما أن تفعل أو تكون موضوعا للفعل، إما فاعلا مثل عام أو مفعولا به مثل معبود. وكأن القسمة الرباعية والثنائية كليهما ترد إلى قسمة واحدة هي الأفعال وهي الدليل على معاني الأسماء. وقد تصبح الأسماء كلها صفات أفعال على درجة مختلفة وتكون كلها حادثة.
38
وإذا ما كانت القسمة ثلاثية بناء على مبدأ الهوية والغيرية وتكون الأسماء ثلاثة أنواع: الأولى خاصة بالهوية والثانية خاصة بالغيرية والثالثة خاصة لا بالهوية ولا بالغيرية، فإنها أيضا ترجع إلى قسمة واحدة طبقا لمبدأ واحد هو مبدأ الهوية.
39
كل ذلك يؤدي إلى ضرورة وجود مقياس لتصنيف محكم الأسماء لا يعتمد على الأسماء الشرعية وحدها في أصل الوحي الأول (القرآن) أو الثاني (الحديث). فترتيب الأسماء في القرآن:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم
غيره في العقائد: «لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك، القدوس ... إلخ.» كما أن ترتيب القرآن: السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، غير مطابق لترتيب علم العقائد: العزيز، المقتدر، الغفار، القهار. ولا يمكن أن يترك الترتيب لمجرد المزاج والهوى طبقا للأهمية، فأسماء الله لا تفاضل بينها في الأهمية. فما هو معيار التصنيف؟ (5) تحليل المضمون
ويتضمن تحليل المضمون جزأين: الأشكال اللغوية من حيث هي تعبير عن معاني ثم تحليل المعاني كدلالات قصدية تشير إلى اتجاه. ولا يوجد مستوى ثالث للأشياء؛ لأن الأسماء تسميات وليست مسميات، أي أنها عمليات شعورية خالصة. (5-1) الأشكال اللغوية
وتتفاوت هذه الأشكال في دلالاتها بين الأقل دلالة والأكثر دلالة، بين تحليلات النحويين وتحليلات اللغويين. فمثلا من تحليلات النحويين الأقل دلالة أن يكون الاسم ثلاثة أنواع: اسم متمكن، واسم مضمر، واسم مبهم (أسماء الصلة). وهي داخلة في أسماء الله. فأسماء الله متمكنة، أي مذكورة واضحة مقروءة ومسموعة. ويجوز الخبر عنها بالأسماء المضمرة عندما يكون الفاعل مستترا تقديره هو أو أنا أو أنت أو بالأسماء المبهمة مثل:
له ما في السموات وما في الأرض ، فالله إما أن يكون حاضرا حضورا مباشرا أو غائبا حاضرا من خلال الذهن (الضمائر المستترة) أو غائبا حاضرا من خلال الطبيعة (أسماء الصلة). والأسماء المتمكنة إما ثلاثية أو رباعية أو خماسية، الثنائي أصله ثلاثي مثل «يد»، والرباعي أصله ثلاثي مثل «مقتدر»، وكل ما سوى ذلك زائد، كما يمكن التمييز بين مجرد الأشكال اللغوية للأسماء بين ثلاثة منها: (1)
الأسماء المفردة، مثل: القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، وهي الغالبية العظمى. وتدل على أسماء يكون فيها الذات والموضوع شيئا واحدا. (2)
الأسماء المضافة، مثل: مالك الملك، قابل التوبة، شديد العقاب، ذو الطول، رفيع الدرجات، ذو العرش، ذو الجلال والإكرام، ذو المعارج، مولج الليل في النهار، مولج النهار في الليل، مسبب الأسباب، مفتح الأبواب. ولا يسمى بالمضاف وحده دون المضاف إليه مثل شديد أو قابل أو رفيع. وأحيانا أخرى يصح ذلك مثل الفتاح. وفي الإضافة يتميز الذات عن الموضوع، والذات عن الصفة، ويكشف الاسم عن قصد متبادل بينهما. (3)
الأسماء المشتقة من مصدر واحد، مثل: الواحد الأحد، الرحمن الرحيم، القادر المقتدر القدير، الآخر المؤخر، السامع السميع ، العالم العليم العلام، الغفور الغفار، الحكيم الحاكم. هي كلها صيغ للمبالغة على درجات متفاوتة يمكن التمييز بين خمسة منها. الأولى فاعل، مثل: قادر، عالم، خالق، بارئ، رازق، قابض، باسط، خافض، رافع، آخر، مالك، جامع، مانع، هادي، واسع، باعث، حافظ، واجد، ماجد، ظاهر، باطن، والي، نافع، هادي، باقي، وارث. والثانية فعال، مثل: جبار، قهار، وهاب، رزاق، فتاح، ثواب، غفار. والثالث فعيل، مثل: عزيز، عليم، لطيف، حليم، عظيم، كبير، حفيظ، حسيب، جليل، كريم، رقيب، رحيم، سميع، بصير، مميت، بديع، مجيب، مجيد، شهيد، وكيل، متين، معيد، رشيد. والرابعة فعول، مثل: غفور، شكور، ودود، رءوف، صبور. والخامسة فعول، مثل: قدوس، قيوم. والتفضيل في المبالغة يكشف عن درجة حساسية الذهن ورفاهية الوجدان بالأسماء وعن درجة تصور للتوحيد. (5-2) الأشكال اللغوية في علاقاتها بالمعاني
ولما كان من الصعب وصف الأشكال اللغوية وحدها للأسماء دون ظهور المعاني، فإنه تظهر أشكال لغوية جديدة بالإضافة إلى معانيها قبل تحليل المضمون للمعاني القصدية الصرفة، مثل: (1)
الألفاظ المترادفة أو اتفاق المعاني: وهي الأسماء التي يكون فيها اسمان يفيدان واحدا كليا بالإضافات إلى معان جزئية، فلا وجود للترادف التام والتطابق المطلق في معاني المترادفات، مثلا: الرحمن الرحيم، الخالق البارئ، الرزاق الفتاح، العلي الكبير، القوي المتين، الحي القيوم، القادر المقتدر، البر التواب، الغفور الرءوف، النور الهادي، الحسيب الرقيب، القهار الجبار، الباقي الوارث، سواء كانا متلازمين متلاحقين في الترتيب أم مفترقين متباعدين تفصلهما أسماء أخرى مثل القهار أو الوهاب أو الجبار، ويمكن أن يقع الترادف بين اسمين أحدهما اسم ذات والآخر اسم فعل، مثل: الله إله، الرحمن الرحمن، الوهاب الرزاق، الجبار القهار، الخالق البارئ، المصور البديع، العليم الخبير، القوي المتين، الباعث المعيد، القادر المقتدر، الأول المبدئ المقدم، الآخر المؤخر، الملك مالك الملك، الغفار الغفور، العدل المقسط. (2)
الألفاظ المتضادة أو تقابل المعاني: مثل: القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، المبدئ المعيد، المحيي المميت، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الضار النافع، المقدم المؤخر، الآمر الناهي، سواء كانا متلازمين أم مفصولين بأسماء أخرى، مثل: الوهاب والمانع والغفار والمنتقم. وهنا يبدو الشمول في التأليه والجمع بين المتضادات والحاوي لكل الصراعات والجامع لكل المتناقضات حتى تشمل الحركة وتعم الإرادة، ويضم العالم في إطار من الوحدة. (3)
الألفاظ الدالة على معنيين: وغالبا ما يكون المعنيان اسم ذات واسم فعل، الأول أزلي قديم والثاني مخلوق حادث، الأول متصل بالذات والثاني متصل بالأفعال، مثل: البديع بمعنى المبدع للشيء
بديع السموات والأرض ، والأول:
ما كنت بدعا من الرسل ، الظاهر والباطن، العالم بظواهر الأمور وبواطنها، والمنعم. الجبار لا تناله الأيدي أو القاهر لأعدائه. الجميل أي نفي العيوب أو المجمل. الحفيظ أي العليم أو حفظه للخلق. الحميد أي الحامد أو المحمود. الحكيم أي الحكمة أو الإتقان والإحكام لأفعاله. الحليم أي نفي الطيش أو تأخيره العقوبة. السلام أي السلامة من العيوب أو إنعامه السلامة لعبادة. الصمد أي لا جوف له ولا أعضاء أو السيد المصمود في النوائب. المؤمن أي التصديق بقوله الأزلي أو من يعطى الإيمان. ولا ريب أن كل اسم يمكن تقريبه من الصفة فيصبح اسم ذات أو من الفعل فيصبح اسم فعل. (5-3) المعاني القصدية
وهي مضامين الأشكال اللغوية ومعناها واتجاهها وحركتها ونظامها، وهي تشير كلها إلى ثلاثة أبعاد للوعي: الأول، الوعي بالذات، أي صفات الوعي بذاته ولذاته، والثاني الوعي بالعالم، أي صفات الوعي في علاقته بالعالم، والثالث الوعي بالإنسان أي الوعي الإنساني الذي يقيم بدوره ثلاثة مظاهر، الوعي النظري أي الوعي بقدرات الإنسان النظرية، والوعي العملي أي الوعي بقدرات الإنسان العملية، والوعي القيمي أي الوعي كملكة للحكم.
40
الوعي بالذات هي البداية، والوعي بالعالم يأتي ثانيا بعد الوعي بالذات نظرا لصلة الذات بالموضوع، والوعي بالإنسان يأتي ثالثا. فالإنسان آخر مرحلة في تطور الوعي. وهو بين الوعي بالذات والوعي بالعالم. ويدخل الوعي بالذات والوعي بالعالم في نظرية التوحيد، في حين يدخل الوعي بالإنسان في نظرية العدل. لذلك يحل في شرح الأسماء إلى نظرية العدل. وما دام كل اسم يرجع إلى صفة فإن كثيرا من أسماء ملكة الحكم ترجع إلى القول لأن الحكم قول. الأسماء إذن هي ماهيات إنسانية تكون نظرية في الوجود الإنساني، وفي القوى الإنسانية وفي القيم والمبادئ الإنسانية الشاملة وتعبر عن أقصى درجة في شمول التوحيد وإطلاقه. (أ) الوعي بالذات
يشير حوالي ثلث الأسماء (34 اسما) إلى الوعي بالذات، أي الذات في علاقتها بذاتها، وهي قريبة الشبه من أوصاف الذات الست. ستة منها للوعي في ذاته، وهي: (1)
الله: لا يدل عدم اشتقاق اللفظ على استحالة إرجاع الاسم إلى أصله في الشعور، بل يدل على البحث الدائم وعلى تحدي العقل لاكتشاف مزيد من أعماق الشعور واستبصارها. فهو فكرة محددة فعالة وليست موقفة، إيجابية وليست سلبية. فإذا كان إله من «التأليه» أي من العبادة كان فعلا للشعور قبل أن يكون جوهرا، عملية قبل أن يكون شيئا، حركة قبل أن يكون ثباتا. وليس من الوله أي الحيرة والوجدان التعبدي والانفعال والعواطف، وإن كان الوله والله يرجعان إلى نفس التجربة الشعورية. فالتأليه موقف عاطفي انفعالي كالوله. أما إذا كان المعنى من «لاه» أي اللهو فهو أيضا انفعال بلذة الحياة، وبالتالي يرتبط التأليه بالحياة، فكلاهما انفعال، وكلاهما نشوة كما عبرت عن ذلك التجربة الصوفية. والسؤال الآن: هل يقوم اسم الله بوظيفة الوجود أول وصف للذات كما يقوم الأول بدور القديم والآخر بدور الباقي؟
41 (2)
الأحد: وقد ظهرت الوحدانية من قبل كسادس وصف للذات، وهو التفرد بالوحدانية.
42
والأحد أي الفرد الذي لا مثيل له أقوى من الواحد؛ لأن الواحد يوحي بالاثنين ولا ينفيها في حين أن الأحد يوحي بالتفرد. وقد كانت الوحدانية والفردية مطلب الفلاسفة، واحد أحد أي فريد لا مثيل له. (3)
الصمد: تبدو بعض الأسماء وكأنها صور فنية تشبيها مثل الصمد الذي يقابل الأجوف. فالصمد أي الملاء في مقابل الخلاء، الثقل في مقابل الخفة، الجوهر وليس العرض، الكثيف وليس الشفاف، الكثافة دون الخلخلة، ولكن الحكماء يأخذون أحيانا الجانب الآخر ويؤثرون الشفافية. المصمت لا يرن وليس له صدى، ثقيل وليس خفيفا، يهبط إلى أسفل ولا يصعد إلى أعلى، في حين أن الشفاف والخفيف أقرب إلى الروح والصعود في مقابل الثقل والوزن الذي يغوص ولا يطفو . لا يعني الصمد الحليم لأن الحلم رقة أو العالي لأن الثقل يهبط، بل يعني القوي المتين الذي يمكن الاعتماد عليه، المدعو المسئول أو السيد المملوء، صاحب العرش والعظمة والملك والعطاء. كما يعني الصلابة وعدم التجويف والمتانة والأصالة والبناء والاستقرار والمقاومة ضد الليونة والسيولة والتجويف والطراوة والتردد والخواء والهشاشة واللزوجة والميوعة والتشكل والتلون الذوبان.
43 (4)
الحي: اسم مشتق من ثالث صفة للذات، شرط العلم والقدرة وأساس السمع والبصر والكلام والإرادة. وهي تجربة واضحة بذاتها. الوعي بالذات وعي بالحياة وإحساس بالحياة. هو الحياة الواعية المدركة. وهو تقابل مع الصمد، فلا تعارض بين الصمدية والحياة.
44 (5)
القيوم: وقد ظهر من قبل كوصف خاص للذات، أي القيام بالنفس، ليس في محل، لا يحتاج إلى آخر في وجوده، واجب بذاته، مستقبل في وعيه، وعي خالص. وقد يعني إضافة إلى متعلق مثل التدبير بمعنى القيم على أحد والقيام على شيء.
45 (6)
الغني: وهو ما ظهر في العقائد المتأخرة على أنه تفسير للعقائد كلها: «لا إله إلا الله»، أي المستغني عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه، غير المحتاج والمعطي وليس المحتاج والسائل والفقير. قد يتشبه به الغني تأييدا لغناه وتثبيتا لواقعه ويتشبه به الفقير تعويضا عن فقره وتعبيرا عن حلمه.
46
والوعي بالذات وعي شامل تدل عليه أسماء الإحاطة والشمول والاحتواء، وهي تسعة، مثل: (1، 2) الأول والآخر: وقد ظهر هذان الاسمان من قبل في وصفي القدم والبقاء، الوصفين الثاني والثالث للذات. يشير الأول إلى الأزلية والآخر إلى الأبدية. الوعي لا أول له ولا نهاية، وليس له امتداد في لمكان، ليس مستقيما ولا دارة أو محيطا. الوعي الخالص كيف لا كم. وهي معان واضحة بذاتها.
47 (3، 4) المقدم والمؤخر: اسمان يدلان على أفعال الأول والآخر. يقدم الأول ويؤخر الآخر. كما تدل هذه الصفات على التقابل، الأول والآخر، المقدم والمؤخر، الظاهر والباطن، الرافع والخافض، على أنه الشامل لكل شيء من جهاته الست. فهو المحيط الشامل الذي لا يند عنه شيء وبالتالي تكون المعرفة لديه كلية محيطة وشاملة.
48 (5) الباقي: اسم مستمد من ثالث وصف للذات بمعنى من لا آخر له مثل الآخر. ولكن لماذا لم يشتق اسم من القدم مثل قديم كما اشتق اسم باقي من بقاء؟ ربما يقوم الأول بالغرض بالنسبة للقديم. على أية حال، يعطي هذا الاسم البعد المستقبلي للوعي والاتجاه نحو المستقبل والبحث عن اللانهائي، والنزوع إلى الخلود.
49 (6، 7) الظاهر والباطن: وهما يمثلان الخارج والداخل. الوعي بالذات هو وعي بالداخل والخارج، أي الحدس والإدراك الحسي. عالم الأذهان وعالم الأعيان، في النفس وفي الأرض، وهما يشملان المعلوم قطعا. ليس الظاهر معرفة ظواهر خارجية حسية تقوم على الظن، بل معرفة يقينية قطعية تقوم على الحس ومجرى العادات والمشاهدة. أما الباطن فيشير إلى المعارف الصورية المجردة الخالصة. ومن ثم يكون الاسمان قريبين من الوعي النظري المعرفي مثل أسماء العليم والخبير.
50 (8) القدوس: ويعني المبرأ من النقص مثل المخالفة للحوادث، ونفي جميع صفات التشبيه في أوصاف الذات. وبالتالي يمكن إرجاع كل اسم إلى صفة ثبوتية أو سلبية. القدوس هو المبرئ من المصائب والعيوب أو الذي لا تحيط الأبصار به وكذلك السلام. القدوس هو المتعالي الخالص الذي لا يمكن أن يرى في المكان والذي يعبر عن عواطف التأليه بناء على التقديس. القدوس موضوع التقديس، وهو الكمال. فالذات الكاملة مبرأة من العيوب من أجل كونها ذاتا، هو الذات على البراءة الأصلية، على الطبيعة والفطرة. الكمال مطلب لها تسعى إليه، وتحاول تحقيقه وليس صفة تعطى أو تمنع، توجد أو تعدم، عملية اكتمال كما توحي بذلك صيغة الاسم الدالة على عملية وليس على صفة، على حركة وليس على ثبات. تعني القدوس الطهارة والنزاهة. ليست القدسية فقط للوعي بل للأرض. فالأرض صورة الوعي بالذات، حاملة تحققه وتعينه.
51 (9) السلام: كما تشير الأسماء إلى بناء الذات الداخلي أي إلى حياة الوعي مع نفسه أو بنائها الخارجي أو صلتها بالواقع، وبالآخرين وبالعالم، يجمع اسم السلام بين هذين العالمين، الداخل والخارج. السلام حياة الذات الباطنة مع نفسها، وطمأنينتها مع وجودها، إثبات لكل مظاهره من حس وانفعال أو عقل وحركة دون رفض إحداهما في سبيل إعلاء الأخرى . تحقيق قوى الذات وإطلاقها هو سبيل السلام. ثم يتحقق السلام في العالم الخارجي بإعلاء الكلمة وتحقيقها كبناء للعالم تكتمل فيه طبيعته. ينشأ الصراع في واقع غير طبيعي، والجهاد هو الطريق من أجل عودة الواقع إلى الطبيعة. ليس السلام هو الاستسلام، سلام الضعيف، بل سلام القوي. ليس سلام الذل والهوان بل سلام العزة والكرامة.
52
ومن مجموع أسماء التعالي يبدو الله فكرة محددة فعالة وليست موقفة، إيجابية وليست سلبية. ومن ثم فالله من حيث هو مضمون يسير إلى تعالي الذات، التعالي المستمر الذي يعني تقدم العلم واستمرار المعرفة ورفض القطيعة وكسر المذهبية والتحرر من التقليد وإبداع الجديد، وهي تسعة: (1)
الكبير: الكبير اسم مبتدأ بالوصف الكمي. الكبر بمعنى العظمة في مقابل الصغر.
53
والفخامة في مقابل الضآلة. (2)
العظيم: العظمة أكثر دلالة على الكبر وأبعدها عن الكم وأقربها إلى الكيف. العظمة هو الكبر المعنوي الوجداني في الشعور، الإحساس بالكبر. وهو من الأسماء التي تدل على التسامي والرفعة إبرازا للشعور بالتعالي في الوعي بالذات.
54 (3)
العلي: وهو يشير إلى بعد التعالي والعلو، أي انفتاح الوعي بالذات إلى أعلى واتجاهه إلى المفارقة والبحث عن الخالص والتحرر من التحديدات الذهنية والصور الحسية. (4)
المتعالي: وهو كالعلي، ولكن إشارة إلى أن التعالي عملية مستمرة، وليس فعلا واحدا، بناء للشعور وليس أحد لحظاته، وظيفته وليس أحد أفعاله.
55 (5)
الماجد: وهو تحول التعالي كحركة إلى التعالي كمعنى. والحقيقة أنه لا توجد مترادفات في اللغة. فالعالي والماجد وإن كانا يفيدان نفس المعنى إلا أن كل اسم يشير إلى معنى زائد. الماجد هو المتعالي القصدي وليس المتعالي الحركي الخالص، أي المتعالي الغائي الواعي المتجه نحو قصد وغاية.
56 (6)
المجيد: إذا كان الأحد صفة مجردة للذات، فإن المجيد صفة محسوسة للفعل. المجد أعلى من العظمة لأنها أقرب إلى المعنى وأبعد عن الحس، أقرب إلى الكيف وأبعد عن الكم. فالتعالي القصدي ليس فقط غائيا طبيعيا بل هو غائي مقصود، أي أنه ذات وفعل.
57 (7)
العزيز: إذا كانت أسماء العالي المتعالي تدل على التعالي لفظا، فإن اسم العزيز تدل عليه لفظا ومعنى وشعورا. فالعزيز هو السامي الذي جمع بين المعرفة والأخلاق، بين الحق والقيمة، بين الطبيعة والروح في مقابل الذليل الذي لا يتعالى فتحول الذات فيه إلى شيء مضغوط كمي حسي لا وظيفة له.
58 (8)
الجليل: وهو أيضا اقتراب أكثر من عظمة الروح وسموها، حيث تعمق العظمة وتتحول إلى إدراك روحي خالص وتنتهي التحديدات الكمية.
59 (9)
ذو الجلال والإكرام: وصيغة اسم الفعل تشير إلى الاستقلال أكثر من الفاعل وتضيف على الجليل مهابة أكثر. العالم ذو العلم أكثر تعظيما وإجلالا من العالم وحده، تأكيد الصفة أكثر مبالغة من ذكر الموصوف.
60
والتعالي ليس فرارا من العالم أو انعزالا أو تخليا عنه، أو هروبا منه، بل هو إمكانية القدرة على احتوائه والسيطرة عليه، والنظر إليه من عل في شموله وعلى إطلاقه. التعالي استعداد مؤقت من أجل العود إلى العالم، تعال مؤقت من أجل تقارب دائم. وهي أسماء عشر: (1)
القوي: ويعلن الاسم هنا عن مجرد القوة قبل تحويلها إلى قدرة أي قوة ذات. التعالي إذن ليس ضعفا بل قوة واحتواء وسيطرة وشمول.
61 (2)
المتين: وهو استمرار القدرة إلى ما لا نهاية، أي الصلابة والمقاومة وليس القوة الخادعة المفرغة المظهرية الهوجاء. هي القوة على الصمد والتحمل من أجل بلوغ الهدف والقصد. (3)
القادر: وهو اسم مشتق من الصفة الثانية من الثلاثي الأول مما يدل على تقارب الاسم والصفة. وهي القدرة للاستعمال وليس مجرد القدرة كاحتمال وإمكانية.
62 (4)
المقتدر: وهو اسم يؤكد صفة القدرة، خاصة وأن القدرة تعني الشوكة والغلبة، وهما صفتان تدلان على أن العلو ليس هروبا بل قدرة، وعلى أن التعالي ليس عجزا بل احتراز، وعلى أن القدرة ليست إمكانية نظرية أو تحققا عمليا بل استطاعة فعلية في أفعال معينة، فالمقتدر مقتدر على شيء.
63 (5)
المتكبر: وهو اسم يشير إلى اجتماع العلو مع العظمة والسمو بالرغم مما يبدو في السلوك الإنساني من سلب. فالتعالي قوة وترفع واحتواء وإرادة.
64 (6)
الجبار: وهو المتكبر عندما يتحول إلى فاعلية، وتتجلى فيه القدرة. قد يوحي بمعنى سلبي بالنسبة إلى الإنسان، وذلك لأنه إذا تمثلها فإنه يخرج عن نطاق الإنسان الوجودي. الجبار هو القادر، ولكن أفعال القدر تكون خارجة على القدرة المعتادة. وقد يوصف بها الإنسان كصفة مدح وإعجاب.
65
ولكن الجبار يعني المصلح وليس الهادم، وليس بمعنى الجبر أي الإجبار والقضاء على الحرية. (7)
القهار: وهو المتكبر الجبار الذي يصبح قهارا، وتظهر فاعليته أكثر وأكثر. وقد توحي بمعنى سلبي؛ نظرا لأن الإنسان لا يحب القهر ويقاوم القهار. ولكن القهار للظلم إيجاب، والقهار للعدل سلب. فليس القهار فقط هو القاهر للعدل والحرية. وهذه الأسماء الثلاثة المتكبر والجبار والقهار ترجع إلى معنى واحد وهو استعداد لقدرة أن تتحقق بالفعل في العالم دون أن يكون لها متعلق بعد.
66 (8)
الملك: ويعني الذي له حق في العالم ونتيجة للقدرة والسيطرة والجبروت والقهر والتكبر. كما ترجع الرحمة إلى الإرادة والسلام للكلام. الملك يعني الحرية والقدرة، وأن لا يملك الذات شيء وأن تصبح صاحبة أمرها، مسيطرة على نفسها، حرة الإرادة. وينشأ الاسم من أن الملكية رغبة إنسانية للعاجز الذي يود أن يرى في الملكية قوة تعويض عن عجزه ثم استمرارا لإحساسه بالعجز وعدم قدرته على امتلاك شيء، يتصور الذات المشخص وكأنه المالك لكل شيء حتى يحصل على الراحة النفسية الواجبة. فإن لم يملك هو فقد ملك حبيبه وصديقه ووليه. كما ينشأ اسم الملك من المالك بالفعل، فلديه الملك قيمة، والمالك هو الصورة المثلى للإنسان، فيتصور الذات المشخص أيضا مالكا فيخلقها على صورته ومثاله حتى يشارك هو في صفة المالك واهما نفسه بالسيطرة والأمر. وهو ليس مجرد اسم بل اسم ذات لأهميته. اسم الملك هي الصفة الدائمة التي صاغها الإنسان للتعبير عن السلطة في كل صورها، إلهية أو دينية أو اقتصادية أو سياسية على جميع المستويات. فكلما نشأت جماعة ظهر من بينها ملك أو سلطة. وإذا عجز الأفراد مدت السلطة نفوذها على الجميع، وتكون النتيجة القضاء على حرية الأفراد وعلى سلوكهم الطبيعي، فينشأ المقلد للسلطان في غيابه أو بعد موته أو إذا عهدت إليه بمهمة فقد نشأ على توجيه الأمور بالسلطة، ويكون سلوك النفاق مدح السلطان في الظاهر وتجريحه في الباطن أو سلوك التملق من أجل الحصول على مكاسب جديدة من أعين السلطان أو سلوك الخائن الذي يجد لدى الغريب موالاة ضد السلطان أو سلوك المقاومة السرية تحت الأرض من أجل زحزحة السلطان أو مواجهته، وزج السلطان به في السجن.
67 (9)
مالك الملك: وهو تأكيد على صفة المالكية، وأن الذات لها موضوع تحتويه وليست مالكا للا شيء، مالكا فارغا بالوهم.
68 (10)
الوالي: ويعني المالك والذي يعهد إليه بالتصرف في الولاية. فالمالك لا يملك فقط، بل هو حر التصرف فيما يملك دون مراجعة أو حساب.
69 (11)
الوارث: ويشير ذلك إلى أن حق الإرث نابع من حق الملكية، فهو الباقي والآخر، أي أنه مالك كل الملوك ووارث الأرض ومن عليها.
70 (ب) الوعي بالعالم
والوعي بالذات هو وعي بالعالم، وعي بالكون، ووعي بالطبيعة. فالله لا يوجد بدون عالم، والذات لا توجد بلا موضوع. وصلة الوعي بالذات بالوعي بالعالم صلة خلق وتصوير وإيجاد وبدء وإبداع وإعادة وبعث وإحياء. فهي علاقة حية إيجابية وليست علاقة موت أو سكون أو تخل أو عزلة. في هذه الأسماء تظهر صلة الله بالعالم وعلاقته بالطبيعة ومظاهره في الكون. فلا يوجد إله بلا عالم، وهي عشرة أسماء: (1، 2، 3) الخالق، الباري، المصور: الخالق هو الذي يبدع من لا شيء، وهو المنتج العامل الفعال. والبارئ مثل الخالق ولكن يحتوي على تحقق أكثر، أي جعل الأشياء مستمرة في الوجود. والمصور هو الذي يعطي الأشياء صورها وماهياتها. فالقدرة تفعل في شيء وتظهر في العالم في إيجاد الأشياء وبقائها وأشكالها. الخلق اختراع، والاختراع إبداع.
71 (4) البديع: والإبداع أعز ما لدى الإنسان من حيث هو شاعر وفنان، تتجلى فيه قدرة الإنسان على الخلق والعمل والإنتاج، أي استمرار الخلق في العالم إبداعا من ذاته.
72 (5) المبدئ: وهو الخالق ابتداء، والإبداع على غير منوال بالأصالة دون تقليد. وهي تجربة إنسانية واضحة في التأصيل والبداية والإبداع ووضع السنن. فالاكتشاف والاختراع والإبداع كل ذلك يتم ابتداء.
73 (6) الواجد: وهو من فعل الإيجاد، ويعني أن الوعي بالذات ليس صورة فارغة بلا مضمون، بل هو قادر على إيجاد الموضوع وإيجاد العالم، يسبق الوجود من الذات كما يتخلق الموضوع منه.
74 (7، 8) المحيي، المميت: وهما اسمان متقابلان، خالق الحياة وليس فقط خالق الكون، نظرا لأن الحياة بؤرة الكون، وآخر مرحلة من مراحل تطوره. فالطبيعة الحية أكثر وجودا من الطبيعة المصمتة. والحياة تجربة واضحة بذاتها، تنفس وحياة وإدراك. ثم تتوقف الحياة وتنتهي ويحدث الموت والفناء. الحياة في الزمان، والوجود متزمن، ومن ثم كانت الحياة والموت بداية ونهاية للوجود المتزمن الحي.
75 (9) المعيد: وهو الذي يعيد الحياة. فالموت ليس هو النهاية المطلقة. العودة إلى الحياة تفاؤل وقدرة وحياة أبدية.
76 (10) الباعث: وهو الذي ينهض من بعد رقاد والذي يتحرك من بعد سكون مثل بعث الأمم، وبعث الحضارات.
77 (ج) الوعي بالإنسان
إذا كان الوعي بالعالم لا يضم إلا عشرة أسماء من مجموع التسعة وتسعين اسما، وبالتالي يكون ضئيلا بالنسبة إلى الوعي بالذات (34 اسما)، فإن الوعي بالإنسان (55 اسما) يكون هو التحقق الأهم للوعي بالذات وكأن العلامة الجوهرية هي علاقة الوعي بالذات بالوعي بالإنسان أي العلاقة بين الله والإنسان، وأن العالم ما هو إلا ميدان التحقق، وهو أيضا مخلوق ومصور من أجل الإنسان. فالوعي بالإنسان ينبثق من الوعي بالعالم لما كان الإنسان قمة الكون وآخر مراحل تطوره. ولما كان الإنسان عقلا نظريا وعقلا عمليا ملكة حكم تشير الأسماء إلى هذه القوى الثلاث. يضم الوعي بالإنسان إذن العقل النظري (12 اسما)، والعقل العملي (25 اسما)، والعقل القيمي أو ملكة الحكم (18 اسما). وتبدو هنا الأولوية المطلقة من حيث الأهمية للعقل العملي على العقل النظري والعقل القيمي أو الحكمي، فالنظر والحكم كلاهما مقدمة للعمل وتهيئة له.
العقل النظري
وتشير أسماء العقل النظري إلى نظرية العلم، يبدأ الوعي النظري بالمعرفة الحسية المعتمدة على السمع والبصر إلى المعرفة التجريبية المعتمدة على الشهادة الحسية والإحصاء. ثم تحفظ المعرفة الحسية في الذهن وتتحول إلى علم. ثم يتحول العلم إلى حكمة وحكم حتى ينكشف الحق ويظهر الوعي بالذات في العقل النظري أولا. وهي اثنا عشر اسما: (1، 2) السميع والبصير: وهما مشتقان من صفتي السمع والبصر، من الصفات السبع. ويكشفان عن ضرورة بداية المعرفة الإنسانية بالمعرفة الحسية المعتمدة على الحواس، السمع والبصر دون الشم والذوق واللمس، وهي معرفة واضحة بذاتها تسلم من الخداع ويمكن الاعتماد عليها والاستشهاد بها.
78
وقد ظهرت من قبل في نظرية العلم في المعرفة الضرورية، وفي نظرية الوجود في الكيفيات الحسية (الأعراض) وفي قوى النفس (الجوهر). (3) الخبير: ثم تتحول المعرفة الحسية إلى خبرة ويصبح العارف خبيرا ويصبح الواقع والتجربة معيارين لصدق المعرفة. فهي معرفة معاشة تحتوي على نظرية في الصدق.
79 (4) المحصي: ليست المعرفة إدراكا حسيا واحدا، بل هي أيضا معرفة تقوم على الإحصاء، أي تكرار الواقعة الواحدة وجمع الوقائع ورصدها. المعرفة الإحصائية معرفة صادقة لأنها تعطي صورة للواقع وعن بنائه بالرغم من أنها معرفة ناقصة. فكل إحصاء معرفة ناقصة
أحصاه الله ونسوه ،
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ولأنه يعتمد على عينات ممثلة أو على مبدأ الاطراد العملي. الإحصاء لا يكون إلا ناقصا مثل الاستقراء.
80 (5) الشهيد: ويشير الاسم إلى المعرفة بالغائب قياسا على الشاهد. والمعرفة الحسية أساس المعرفة العقلية، وهو أساس التشبيه والتنزيه في الفكر الديني كله.
81 (6) المهيمن: وتعني الهيمنة الشهادة أيضا والرؤية عن بعد، والسيطرة على الموقف، وعدم غياب شيء واحد استعدادا للعقل العملي. تعني المهيمن القادر الواعي الذي لا تغيب عنه رؤية أو ينقص منه عمل.
82 (7) الحفيظ: ثم تختزن المعارف في الحافظة قبل أن تتحول إلى علم. العلم في الأذهان وفي الصدور، يختزن حتى يتخلق، وينتج، ويحدث منه علم جديد. يختزن العلم في الذاكرة ويتحول إلى عمق تاريخي، ويصبح العقل النظري عقلا تاريخيا، والعلم تراكما تاريخيا، فالقديم شرط الجديد.
83 (8) العليم: ويشير الاسم إلى آخر مرحلة من المعرفة النظرية. كما تدل أسماء أخرى على نظرية المعرفة مثل عالم وعلام، وهي المعرفة النظرية التي أصبحت تجريدا من المعرفة التجريبية التي تأتي من الحواس، السمع والبصر. هناك إذن ثلاثة درجات للمعرفة، المعرفة الحسية، والمعرفة التجريبية ثم المعرفة النظرية أو العقلية. وهذه الأسماء مشتقة من أول صفة للذات وهو العلم.
84 (9) الحكيم: ويشير الاسم إلى العالم الذي تحول علمه إلى وعي وتدبر وحكمة وخطة للفعل وإتقان له أي العلم والتحقق في مرحلة الإمكان.
85 (10) الحاكم: لما كانت المعرفة النظرية معرفة منطقية، والتصورات مقدمات للأحكام. فالمعرفة النظرية ذاتها حكم على الواقع. الحكم أعلى درجات المعرفة. ويقال الحاكم والحكم بنفس المعنى.
86 (11) المؤمن: اسم يشير إلى أكثر من صفة، فهو يشير إلى صفة الكلام. الإيمان بالكلام أو إلى صفة القدرة، أي المؤمن. والحقيقة أن المؤمن صفة تصديق داخلي بالعلم. ليس العلم تصورا فقط بل تصديق. يشير الاسم إلى التصديق الداخلي وهي البرهنة العقلية في مقابل التصديق الخارجي وهي صحة الخبر. فهو اسم من أسماء الوعي النظري لا الوعي العملي أي المؤمن الذي يؤمن الأبرار من الفزع الأكبر. الإيمان هو التصديق. هي فعل نظري قبل أن يكون فعلا إراديا، أي أنه فعل شعور يجد برهانه من داخله وليس من خارجه. هو إيمان عقلي قبل أن يكون إيمانا إراديا.
87
والصدق صفة تنشأ من إحساس الإنسان بأنه في عالم يسوده الكذب والبهتان، ويعمه الغش والخداع. ولم يعد فيه الإنسان قادرا على تصديق الكلمة أو توجيه سلوكه على أي منها. وبناء على عجز الإنسان عن مقاومة الكذب والقضاء على الخداع ودحض الغش وكشف البهتان ثم يأسه من ذلك فإنه يقوم بتأليه ما لم يستطع تحققه. فيؤله الصدق، ويدخل ضمن عواطف التأليه. وتشتد العاطفة إلى حد الإطلاق ثم تتشخص ويصبح لها وجود واقعي في العاطفة كما هو واقع في التشبيه أو يقتصر على جعلها فعلا للذات المشخصة. الفعل هو ما يحتاج إليه لا الصفة الموضوعية. وقد يتحول التعويض من مجرد تحقيق انفعالي لما عجز الإنسان عن تحقيقه بالفعل إلى تعمية الواقع وتغطيته بما نقص منه. ولذلك يكثر في مجتمعات النفاق الحديث عن الصراحة وفي مجتمعات الكذب والخداع الحديث عن الصدق والأمانة، وفي مجتمعات الكبت الجنسي والحرمان الحديث عن الشرف والفضيلة. فالحديث عن شيء تعويض عن غيابه في الواقع. والشيء إذا وجد في الواقع فإنه لا يحتاج لأن يوجد من خلال الحديث عنه.
88 (12) الحق: كل هذه المعارف السابقة الحسية والتجريبية والنظرية، وكل التصورات والتصديقات تدخل في نظرية الحق. فالحق موجود، ومعرفته ممكنة، وهو يقابل العدل على المستوى النظري، والعدل يقابل الحق على المستوى العملي. وهو ليس ذاتا مشخصا واجب الوجود، بل هو موضوع المعرفة يأتي في نهاية نظرية المعرفة كتحقق لها عندما يتحد الذات بالموضوع والمعرفة بالوجود.
89
العقل العملي
ويبدو في العقل العملي صلة الله بالإنسان من خلال العمل. ويظهر في انفتاح الأسماء على الإنسان من خلال علاقة العطاء والفيض والكرم والجود. العقل العملي عقل وهاب معط كما يظهر من أسماء مثل: الوهاب، الرزاق، الفتاح، الواسع، البر، الغني، المحسن، المقيت، المقدر، الوكيل، الكريم، الولي، وهي خمسة وعشرون اسما أكثر أسماء الوعي بالإنسان: (1) الوهاب: ويعني كثير العطاء الذي يعطي أكثر، فياض في العطاء. والتفخيم للعظمة في صيغة الوهاب أكثر من الواهب.
90 (2) الرازق: ويشير الاسم إلى تعين أكثر للعطاء بما يقيم الأود ويصلح حال المعاش بصرف النظر عن العمل والاستحقاق، بل كنتيجة للفيض والكرم والجود.
91 (3) الفتاح: وقد يكون اتجاه العطاء نحو التيسير، تيسير الفعل والتمهيد له والإعانة عليه حتى لا يكون العطاء والإنسان خاو مفلس، وحتى يسمح للإنسان بالعمل والمبادرة والجهد، ثم يكون على الله الاتكال. وهو ليس الحكم لأن الحكم إما في العلم بعد التصديق أو في ملكة الحكم وإلا قد يكون له صلة بالفتح العسكري، فتح الأرض وفتوح البلدان.
92 (4) الواسع: وهو الواسع في الجود والعطاء والرزق والكرم، وليس الواسع في العلم لأن الوعي الآن قد تجاوز العقل النظري إلى العقل العملي. فالوسع والرحابة في الأفق والرؤية قد يكون أيضا في الاتفاق والعطاء.
93 (5) البر: وهو العطوف الذي يبرر الخلق. ولا يعني خالق البرية، فذلك يخص الوعي بالعالم مثل الخالق والبارئ والمصور. وقد يكون هو الذي يعطي دون سؤال مثل الوهاب.
94 (6) المغني: وهو اسم يدل على كثرة العطاء لأنه عطاء من غنى، وبالتالي فهو يغني العباد بفعل الغنى. العطاء إغناء وليس إفقارا، وازدهار وليس ركودا.
95 (7) المحسن: وهو أيضا اسم عطاء مثل الوهاب والرزاق يدل على احترام في العلاقة، وعلى أن العطاء مبني على أساس عاطفي من المودة، في حين أن الإحسان يعبر عن صلة عطاء بين محسن شريف ومحسن عليه أقل منه. وينشأ الاسم أولا من الإحساس بحالة من الفقر المدقع والرغبة في تغيير هذه الحالة التي أدت بالإنسان إلى المحافظة على كل قرش لديه وإلى التقتير على نفسه. ولكن إحساسا بالعجز فإن الفقر يبقى كما هو دون تغيير. وبعملية تعويض نفسي يعيش الإنسان الإحسان ويتمناه. ولما كان غير قادر على رؤيته فإنه يقوم بتشخيصه ويجعله صفة لذات مشخص تعطي عطاء مطلقا كنهر فياض يقوم براحة نفسية للضنك كما يعبر بدو الصحراء عن أشجانهم ومشاعرهم وأحاديثهم بلغة الماء والأنهار والأشجار والرياض والزهور بدلا من تغيير حال الضنك. يقوم الشعور بانتصار عاطفي على الضنك بانتصار الفرج. ويتفق إثبات الصفة إثباتا ماديا فعليا مع التشبيه. فالتشبيه أقوى باعث على التعويض النفسي الذي يظهر في صورة عطاء مادي في حين أن الصفة تكون معنوية في التنزيه، ويكون الإحسان صوريا مجازيا دون أن يكون عطاء فعليا ماديا. يؤدي التشبيه المادي إلى تعويض مادي في حين يؤدي التنزيه المعنوي إلى تعويض معنوي.
96 (8) المقدر: وهو مقدر الأرزاق، والواهب والعاطي. يوحي بالحتمية وينتزع زمام المبادرة من الإنسان، وبمناهضة الاستحقاق والفعل والتدبر والرؤية والتخطيط والقصد.
97 (9) المقيت: وهو خالق الأقوات الذي يرزق. وهو معنى عملي وليس معنى نظريا بمعنى الشهادة أو العلم بالغائب والحاضر. والرزق هنا هو القوت أي الخبز، وما يقيم أود الإنسان. هناك إذن صلة بين الله والإنسان من خلال الخبز.
98 (10) الكريم: وهو الجواد القادر على العطاء دون سؤال، بل على جزل العطاء. الكرم من علو الرتبة والقدرة في مقابل المعطى إليه السائل، واليد العليا خير من اليد السفلى.
99 (11) الوكيل: وهو الكفيل بالعباد والمتوكل أمرهم. فبعد تأليه الملك تنسب إليه صفة الوكالة. فهو القائم بكل شيء الذي تعهد إليه جميع المهام. ويعزو الإنسان هذه الصفة إلى الذات المشخص بعد إحساسه بالعجز من أن يدبر شئون نفسه وأخذ زمام أموره بيديه، فينسب ذلك إلى الذات فتنشأ لديه عاطفة التأليه كتعويض عن إحساسه بالعجز وكمطلب عاطفي للنصر والتأييد، ثم يعزو إلى الذات المشخص ما عجز عن تحقيقه. ليست الوكالة في الحقيقة صفة، بل عملية توكيل يقوم بها الإنسان في شعوره بناء على وضعه في العالم كعاجز يحتاج إلى تعويض نفسي وإلى قدرة من صنع الخيال.
100 (12) الولي: وهو الذي يتولى شئون العباد ويعني بأمرهم، مثل الوكيل. إنما تترك بعض المبادرة للإنسان في حين أن الوكيل يتولى أمر العباد كله. فإذا ما غاب أساس الإنسان من أسفل فإنه يعطي له أساس من أعلى. ويتضح من هذه الأسماء اصطدامها مع حرية الأفعال. فالوعي النظري له الأولوية والمبادرة وهو الشعور العلمي دون أن يكون له الأولوية في العقل وهو الشعور الحر.
101
ثم تبدأ بعد ذلك أسماء مزدوجة أخرى تجعل الشعور في قطبين متقابلين أو حركتين متضادتين، مثل القابض والباسط، الخافض والرافع، المعز والمذل، الضار والنافع، تجعل الشعور يتوقف عن العطاء المطلق، ويجد البديل اعترافا بحرية الإنسان ودخولا في علاقة تبادلية معها. وتكون أقرب إلى أحوال الصوفية، تبدأ بالسلب وتنتهي بالإيجاب وذلك مثل: (13، 14) القابض والباسط: تدل القابض على حركة إمساك من أجل إفساح المجال للحرية الإنسانية والاعتماد على الناس. والباسط مكافأة على الجهد وحصول على النتائج. وهما حركتان، سلب وإيجاب، يأس وأمل، ضيق وفرج ينتابان الإنسان وهو في معترك الحياة. وقد اعتبرهما الصوفية حالتين: القبض والبسط.
102 (15، 16) الخافض والرافع: حركتان يشيران إلى اتجاهين في الشعور الإنساني، الرفض والخفض، المثال والواقع، العقل والحس، الأعلى والأدنى. فالشعور في حركتي جذب ودفع. الواقع إمكانية تطور ونكوص، تقدم وتأخر، ارتفاع وانخفاض، نهضة وانهيار، قيام وقعود. فمع أن الاتجاهين يشيران إلى الأعلى والأدنى إلا أن المعنى المقصود هو الإمام والخلف. فالأعلى يمثل التقدم والأدنى يمثل التخلف. وهما تجربتان بديهيتان واضحتان.
103 (17، 18) المعز والمذل: وهنا تظهر الحركتان المتضادتان على أنهما حركتا إعزاز وإذلال. فالرفع للإنسان والخفض للإنسان. الرفع عز، والخفض ذل. وهما تجربتان بديهيتان. الحركتان معنيان ووضعان وقيمتان وليستا مجرد حركتين طبيعيتين.
104 (19، 20) الضار والنافع: ليس الرفع والخفض أو العز والذل مجرد معان مجردة أو أخلاق تطهرية باطنية بل هما حركتان ذوات مضمون فعلي مادي يتمثلان في المنفعة والضرر. الرفع منفعة والخفض ضرر. فالنفع والضرر أساس الحركة والتصور معا.
105 (21) المانع: وهو المقابل للوهاب والرزاق، ولكن بمفرده نظرا لأنه أقل كرما وعطاء. والمانع إفساح للمجال للحرية الإنسانية وتحملها للعواقب، والإحساس بالنقص والحرمان، وتحد للإرادة الإنسانية على تجاوز المنع إلى العطاء، والحرمان إلى الإشباع.
106 (22) المجيب: وهو العاطي إذا ما دعاه أحد فيلبي النداء حين السؤال ولا يرفض طلبا. فالتوجه يولد توجها مضادا، والقصد نحو يقابله قصد مقابل.
107 (23) الهادي: وهو الذي يوفق الإنسان في مسعاه، ويرشده سواء السبيل، وينهي حرية الإنسان وتردده بين شتى الاحتمالات، فيرجح بينها عن بصيرة ويقين.
108 (24) النور: وهو الهادي أيضا ولكن على مستوى التشبيه حيث يستعين به الإنسان في مسعاه في الدنيا ويسترشد به. والنور شرط الرؤية، وهو الحدس المعرفي واليقين العملي.
109 (25) الحميد: ويدل الاسم على أنه بعد كل هذا الجهد في الرعاية والعناية فإنه يكون واجب الشكر والثناء تجنبا للجحود وإنكار المعروف.
110
نظرية القيم (ملكة الحكم)
والحكم هذه المرة ليس الحكم المنطقي طبقا لمنطق البرهان، بل هو الحكم القيمي طبقا لنسق القيم. فالأحكام لا تكون منطقية فحسب، بل تكون أيضا أحكام قيمة تقوم على قيم إنسانية فردية واجتماعية مثل العدل والقسط، وتضم ثمانية عشر اسما، هي: (1) العدل: فالعدل قيمة إنسانية شاملة عليها تصدر أحكام الأفعال. فالإنسان يعيش في عالم يحكمه قانون العدل، رسالته محاربة الظلم أينما كان. وتنشأ صفة العدل من الإحساس بالظلم الواقع على الإنسان وعجزه عن دفعه أو حتى مجرد تلافيه فيعيش العدل الضائع. وكلما اشتد الظلم اشتد عيشه للعدل حتى يتحول إلى أمل وأمنية تتشخص وتعلق على مشجب الذات. وكثيرا ما يعرف العدل ينفي الجور تنشأ على أن الصفة الإيجابية تنشأ من الصفة السالبة. وبطبيعة الحال تنشأ الصفة مطلقة بلا حدود. فالظلم المطبق الذي لا مفر منه يؤدي إلى العدل المطلق الذي يسود من الأزل وإلى الأبد والذي به الخلاص. والتشبيه يعلق الصفة على مشجب الذات فيتشخص العدل في حين التنزيه يجعل من الصفة صفة فعل فقط أي أنه في حاجة إلى فعل العدل وليس إلى شخص العادل.
111 (2) المقسط: والعدل هو القسط الذي يقسم بين الناس بالعدل والقسطاس، أي دون الجور والظلم. لذلك العدل أمل، ينتظر الناس الإمام آخر الزمان الذي سيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، فالمقسط لا يحابي ولا يجامل ولا يداري بل يعمم العدل على الجميع.
112 (3) الرشيد: والعدل والقسط يقومان على العقل، ومن ثم العادل والمقسط رشيد أي على وعي بالعدل وفاعل له. ليس العدل مجرد قانون صوري، بل هو وعي بالعدل يقوم على ضرورة العقل قبل أن يكون بناء للواقع.
113 (4) الحسيب: وهو الذي يحاسب العباد على أعمالهم طبقا لقانون الاستحقاق بعد أن يخلق ما يكفي للعباد. فالاسم يشير إلى ملكة الحكم بمعنيين، الحكم على حاجات الإنسان وإشباعها ثم الحكم على أفعاله طبقا للاستحقاق.
114 (5) الرقيب: وهو المراقب على أفعال العباد والمسجل لها. فلا يضيع عمل أو يذهب هباء دون أثر أو نتيجة. كل فعل يبقى في التاريخ بأثره وحدوثه وفعاليته. وكل فعل محفوظ.
115 (6) الشكور: وهو الذي يشكر عباده على حسن الأعمال وأداء الواجبات وتحقيقهم الرسالة. فالله شكور، أي أنه شاكر في صيغة المبالغة عندما تتحقق الرسالة بفعل الإنسان. الشكر قصد من الله إلى الإنسان وليس قصدا من الإنسان إلى الله كما هو الحال في مقامات الصوفية.
116 (7) الودود: وهو المقترب لعباده المتعاطف معهم الملاطف لهم وليس القاضي المنتقم المحايد الجامد. فالتزام الإنسان بالمبدأ يأتي طواعية واختيارا، عن إرادة وقصد، وبالتالي يكون بينه وبين نفسه وئام ورضا.
117 (8) اللطيف: وهو كالودود الحريص على مصالح العباد، والذي هو أقرب إلى المغفرة والعفو من العقاب والانتقام. وهو ليس اسما من أسماء العقل النظري بمعنى عليم. واللطف حسن المعاملة وكرم المقصد تعبيرا عن الذات العلية والصفات السنية. يدل اللطف على الإنسان بعد أن عجز عن الحصول على ما يريد بفعله الخاص وجهده الذاتي. يدبر وجهه بعيدا عن الواقع ويتجه إلى أعلى طالبا العون من اللطف وحسن الجوار. اللطف لطف بالعباد ، أي أن الصفة ليست موضوعية مستغلقة مغلقة، بل صفة ذاتية مفتوحة تتجه نحو الآخرين مما يدل على أنها نشأت لتحديد علاقة عطاء بن طرفين. يدل اللطف على الرغبة في الرحمة لتعويض عالم القسوة. ونظرا لعجز الإنسان عن مقاومة القسوة بالقسوة، والعنف بالعنف، فإنه يعوض عجزه في الصفة المضادة، وهو اللطيف تعبيرا عن العجز والتخاذل.
118 (9، 10) الرحمن والرحيم: الأول اسم ذات والثاني اسم فعل: الأول ماهية مستقلة، والثانية ماهية قصدية لها متعلق،
119
ليست الصفة مغلقة على نفسها، بل متجهة نحو العالم ومتعلقة بفعل. وكلاهما يعبران عن الجانب الوجداني الذي على أساسه يقوم العفو والمغفرة، التعاطف بين الذوات. تدل صفة الرحمة على عاطفة إنسانية وهي أن الوجود الإنساني قيمة في ذاته، وأن الحب قد يسبق العدل وأن الإنسان عطاء أكثر منه أخذا، وأنه لا يقاس بفعل واحد في لحظة واحدة وزمان واحد ومكان واحد وموقف واحد. الإنسان ماهيته وجوده، أي مجموع أفعاله. الإنسان جوهره ومصيره. تدل الرحمة على أن أفعال الإنسان خطأ وصواب، وأن التعلم من المحاولة والخطأ. كما تدل على البداية من جديد، والجدة المستمرة ونقاء الشعور كما هو واضح في فعل التوبة المقابل لفعل الرحمة. وتدل على الصلة بالآخرين، وأن شعور الإنسان والآخر، هو شعور واحد، شعور الأمة. وتنشأ صفة الرحمة إذا اشتد البؤس الإنساني وفقد الإنسان الأمل ليس فقط في احتمال العدل على الأرض، وأصبح حتى تشخيص العدل وعيشه عزاء لا يكفي. فإذا ما وقع اليأس من العدل ومن كل حل تنشأ صفة الرحمة. وإذا أوحى اللطف بالعطاء بناء على حق الود وإذا أوحى الإحسان بالعطاء بناء على حق الإنسان كإنسان، فإن الرحمة تفضل مطلق من طرف على آخر، ونفي الإنسان لوجوده الخاص ومحوه في سبيل رحمة الطرف الآخر. يتمنى العبد من سيده الرحمة، ويرجو الفلاح من صاحب الأرض الرحمة. الرحمة طلب الضعيف من القوي، ورجاء العجز من صاحب الأمر. الرحمة كمطلب تعويض نفس عن فقدان الرحمة كواقع.
120
ولكن الرحمة مهما طالب الإنسان بها ومارستها الجماعة، فإنها لن تغير شيئا ولن تؤدي إلا إلى الخذلان. ولا يتغير شيء في الواقع لا عينا بعين ولا سنا بسن، أي المقاومة الفعلية لمظاهر الشقاء والبؤس. والتشبيه تشخيص للرحمة وجعلها صفة ذات، والتنزيه اقتصار على جعل الرحمة صفة فعل، فالمطلوب فعل الرحمة لا شخص الرحمة.
121 (11) الغفار: وهو نتيجة للرحيم وتحقق له. والمغفرة نتيجة للرحمة وتحققا لها. فالرحمة صادقة قولا وعملا في المغفرة. وكل قيمة نظرية لها تحققاتها العملية في أفعالها.
122 (12) الغفور: وهو مثل الغفار ولكن في صيغة مبالغة زيادة في التأكيد مما يدل على ارتباط الأسماء بعواطف التأليه القائمة على انفعالات التعظيم والإجلال.
123 (13) العفو: وهو نتيجة للغفور، فالغافر للذنب يعفو عنه. ويشير الاسم إلى تعين ثالث وإلى صدق عملي بالإضافة إلى الصدق النظري.
124 (14) الرءوف: وهو الكريم ذو العفو والمغفرة، والأقرب إلى العفو منه إلى العقاب، وإلى المغفرة منه إلى الانتقام، وإلى التخفيف منه إلى التشديد، فالوجود الإنساني قيمة في ذاته.
125 (15) الحليم: هو الرءوف الأقرب إلى تأجيل العقاب منه إلى استعجاله، والبطء في تنفيذه منه إلى السرعة تأكيدا على الرأفة والود واللطف. وتنشأ صفة الحلم من سيادة السفه في الواقع وضيق الإنسان به وعدم قدرته على تغييره. ثم تنقلب الصفة السائدة في الواقع إلى الصفة المضادة ويتحول السفه إلى حلم. ولما كان الإنسان عاجزا عن تحقيق الحلم، فإنه يدخل ضمن عواطف التأليه، ويتشخص في الذات المعظم أو يصبح مجرد فعل لها. يتمنى المدين طول أناة من الدائن، ويتمنى الكسول طول الأناة من صاحب الأمر. وقد تتحول الأناة إلى صبر ورضا وقناعة فيرضى الإنسان بالأمر الواقع، ويصبر على حاله، ويقنع بما لديه، ويؤمن بالقدر، ويستسلم للقضاء. وكما توالت الصفات قلت الصفات إيجابية، فالحلم والصبر والأناة والرضا والقناعة صفات تخص الإيجاب والسلب معا في حين أن القدرة والعلم صفات إيجابية خالصة لا ينتابها السلب. وقد يكون الحلم صفة سلبية لأنه مناف للثورة أو الغضب الذي يعبر عن مصلحة الجماعة حين يبلغ الحلم الذروة.
126 (16) الصبور: وهو تحول الحلم درجة أخرى حتى يترك المجال لفعل الإنسان وقدراته على التغيير دون تسرع أو إسراع أو عجلة حتى ينجح الفعل ويتحقق دون أن يكون مجرد حادث عارض لا يبقى إلا في الذهن ولا يفعل إلا في الخيال كجزء من التاريخ دون أن يغير مجراه بالفعل.
127 (17) التواب: ونهاية الحلم والصبر قد تكون التوبة نتيجة للمغفرة والعفو، وبالتالي يبدأ الإنسان حياته من جديد، ويبدأ فعله من جديد وقد صار أكثر خبرة ونضجا.
128 (18) المنتقم: فإذا لم يبدأ الإنسان من جديد وأصر على الفعل السيئ جاء العقاب من جنس فعله، وصار الفشل قانونا، والإحباط واقعا.
129
معرفة الأسماء عند القدماء واجبة لأن عدم معرفتها جهل. فالأسماء تعطي مجموع القيم النظرية من أجل تطبيقها عمليا في حياة الإنسان فردا وجماعة. وهذا هو معنى جحد الأسماء أو الإلحاد من الأسماء إلى التنكر لنسق القيم أو قلب سلمها. ولا تتأتى معرفة الأسماء إلا بمعرفة النفس؛ لأنها تعبير عما يبغيه الإنسان، عن حلمه ومستقبله، عن صورته الكاملة لنفسه وعالمه الطوباوي.
130
واليوم تذكر الأسماء في ختام الصلاة تمتمة بالشفاه وتغنى في الموالد والمآتم ولدفع الأحزان. ففقدت وظيفتها في الشعور كعقل نظري وكعقل عملي وكملكة حكم وكتبت في الأوراد والأذكار تجارة وشفاء وزينة على الجدران.
131
وقد ورد لفظ «الله» ومشتقاته مثل: «إله»، «اللهم»، في أصل الوحي. وهو أكثر الألفاظ ورودا.
132
ويعني في كل صيغة الصفات والأفعال. ولما كانت الصفات مثل الأسماء في الأصل أفعالا ومشتقة من أفعال فالعالم من يعلم، والرازق من يرزق كان الأصل هو الفعل. ويدل لفظ «اللهم» وهو أقل الألفاظ ورودا على صفتي المالك والفاطر وعلى فعلي الإنزال والأمطار لحياة الناس وعلى ما يقابل ذلك من حمد وشكر.
133
أما لفظ «إله»، فإنه نكرة يعني أي إله ناتج عن فعل التأليه وليس «الله» جوهر التأليه الثابت أو الذات. لذلك كان في أكثر استعمالاته في حال النصب، مفعولا به مما يشير إلى أنه من صنع الإنسان ومن خلقه من أفعال، مثل: جعل، اتخذ، دعا، بغى، نظر، أراد، رغب، راح، أفك، فعل، ذرى (ترك)
134 ... إلخ. ولما كان لفظ «إله» يدل على فعل التأليه، فإنه يرد مضافا إلى ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب والمفرد والجمع، مما يدل على أن التأليه موجود عند الأنا والآخر والثالث الغائب، كما أنه يوجد بفعل الفرد والجماعة وبفعل الفرد أقل من فعل الجماعة، وبفعل الجماعة أكثر من فعل الفرد.
135
كما أنه يذكر مفردا «إله» وجمعا «آلهة». والمثنى جمع مما يدل على تعدد التأليه بعد التشخيص.
136
وتعني معظم الاستعمالات أولا صيغة النفي والإثبات في «لا
أو «ما من إله» أو «إني إله» ... إلخ إثباتا للوحدانية ورفضا للتعبد، وهو الاستعمال الغالب، ثم تأتي باقي الإضافات، مثل: «في السماء إله»، «في الأرض إله»، للدلالة على الشمول أو أنه «إله موسى» أي الذي يرسل الأنبياء، أو «إله الناس» الذي يخاطب البشر وليس إله الأساطير والديانات القديمة.
137
أما «الله» فقد ورد في أصل الوحي فاعلا ذا أفعال، ومفعولا موضوعا لأفعال، ومضافا إليه، مضافا إلى أشياء. والغالب هو الإضافة، أي العلاقة بالأشياء وعلاقة الأشياء بالله. وأقلها المفعول وكأن قدرة الإنسان على أفعال التأليه أقل من أفعال التأليه بعد التشخيص في الذات المؤله.
138
وفي استعمالات الله كفاعل تظهر الأفعال أكثر من الأسماء أي الصفات، في حين أنه في استعمالات الله كمفعول تظهر الأسماء والصفات أكثر من الأفعال. أما في استعمالات الإضافة فلا تظهر الأفعال ولا الأسماء.
139
وفي الأفعال يظهر الإثبات والنفي وكأن نفي الفعل أي الرفض هو فعل. كما يظهر النفي أيضا في الأسماء وكأن نفي الضد إثبات للاسم المضاد الآخر. ولكن النفي في الأفعال أكثر منه في الأسماء وذلك لأن النفي فعل من أفعال الشعور، في حين أن نفي الاسم حكم من أحكام التصور.
140
وقد تتوالى الأسماء مثل: «غفور رحيم»، «سميع عليم»، كما تتوالى أفعالها: «يفعل ما يريد» مرتين أو ثلاثا أو أربعا، تأكيدا على الأسماء والأفعال وإبرازا لها. وقد تكون أفعال الأسماء في صيغة تفضيل، مثل: «أعلم» للمقارنة بين علم الله المطلق وعلم الإنسان النسبي . وقد تكون بعض الأسماء خارج الصفات والأسماء الحسنى مجرد أسماء فعل، مثل: «مخرج»، «متوفي»، «رافع»، مما يدل على أن الأفعال لا نهاية لها من حيث الاشتقاق. وقد تكون في صيغة التعجب مثل: «كيف يهدي الله قوما»، أو في صيغة التساؤل مثل: «ومن يغفر الذنوب إلا الله»، أو في صيغة التعليل: «وليعلم الله الذين آمنوا»، أو في صيغة التوكيد: «وليمحص الله». ويكون الفعل في الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل مما يدل على شموله وإحاطته. وتتشابه أفعال الإنسان مع أفعال الله والخلاف يكون في القدرة أو في الهدف وحدهما مثل: «ومكروا ومكر الله» أو «تعلمونهن مما علمكم الله» أو «رضي الله عنهم ورضوا
141
أما الأفعال فأكثر ورودا شاء وهدى وأتى وأنزل، مما يدل على الإرادة المطلقة والرحمة المطلقة وإنزال الوحي كأهم أفعال لله.
142
والأفعال بها نفي وإثبات، ويغلب على بعض الأفعال النفي مثل: لا يحب ولا يخلف ولا يظلم. فحب الله مشروط بأفعال الطاعة من العباد وليس مطلقا كما هو الحال عند الصوفية، ووعده قائم لا ينخرق طبقا لقانون الاستحقاق، والعدل هو عدم الظلم.
143
أما بالنسبة لاستعمال الله مفعولا لأفعال، فإنها تدل على أن الله ليس فقط فاعلا لأفعاله، بل هو موضوع لأفعال الشعور. وأكثر الأفعال التي تأخذ الله موضوعا لها هو فعل التقوى في صيغة الأمر «اتقوا» ثم فعل العبادة في المضارع «تعبدون» كتقرير واقع، ثم فعل الطاعة في صيغة الأمر «أطيعوا».
144
أما استعمال الله مجرورا فإنه يشير إلى الإضافة، إضافته إلى أشياء وفي مقدمتها سبيل ثم آيات، أي أن الله طريق للفعل وآية للاستدلال.
145
وقد يذكر الله مجرورا بحروف الجر تشير إلى أن الله يدخل في علاقة حركية مع الأفراد والجماعات. ويأتي في مقدمتها اللام لله، ثم بالله، ثم من الله، ثم على الله، ثم عند الله، ثم إلى الله، ثم دون الله، ثم غير الله، ثم مع الله، ثم في الله، ثم بعد الله، فالله حركة في كل الاتجاهات. كما يظهر الله مجرورا بعد حرفي القسم تالله ثم والله.
146
فالله أغلى ما لدى الإنسان وأعز ما لديه.
رابعا: إلهيات أم إنسانيات؟
(1) مقدمة: الحقيقة والمجاز
هل الصفات إلهية أم إنسانية؟ وهل نظرية الذات والصفات والأفعال كلها نظرية في الله أم نظرية في الإنسان؟ وبتعبير معاصر: هل الإلهيات إنسانيات مقلوبة؟
1
لقد وضع القدماء السؤال صراحة: هل الصفات في الله على الحقيقة وفي الإنسان على المجاز، أم في الله على المجاز وفي الإنسان على الحقيقة؟
والواقع أن هناك أربعة احتمالات: الأول: أن الصفات في الإنسان على الحقيقة وفي الله على الحقيقة، وهو مستحيل لأنه لا يمكن إدراك الله في الحقيقة ولا يمكن تصوره إلا بقياس الغائب على الشاهد. ولا يمكن أن تكون الصفات في الله وفي الإنسان معا لأنها تقوم كلها على قياس الغائب على الشاهد، والله هو الغائب والإنسان هو الشاهد. وهو أكثر تواضعا وأقرب إلى الواقع. فالإنسان لا يعرف إلا نفسه ولا يقيس الآخر إلا على ذاته، طبقا لقياس المجهول على المعلوم.
2
والثاني أن تكون الصفات في الله على الحقيقة وفي الإنسان على المجاز، وهو ما يناقض أيضا قياس الغائب على الشاهد. وهو ادعاء لأنه لا يوجد موضوع واقعي توجد فيه الأشياء على الحقيقة ويمكن معرفة أسمائه، فكل الذي يوجد هو الإنسان. فالإنسان لا يعرف إلا ذاته بتجاربه الباطنة، حقيقة لا وهما.
3
والثالث أن تكون الصفات في الله على المجاز وفي الإنسان على المجاز، وهو ما يناقض معرفة الإنسان لنفسه حقيقة وإلا وقعنا في النسبة والشك والوهم واللاأدرية. والإنسان موجود على الحقيقة وصفاته على الحقيقة وليست على المجاز.
4
بل إن إثبات الصفات للإنسان على الحقيقة تحصيل حاصل لأن الإنسان يعلم أنه يقدر ويسمع ويبصر ويتكلم ويريد ... إلخ، ولا ينكر أحد من البشر ذلك إلا في بعض النظم الاجتماعية التي تقوم على القهر والغلبة والتي تنكر سمع الإنسان وبصره وكلامه وقدرته بل وتنكر حقه في ذلك. ولكن حتى هذا فإن هذه الأنظمة تعلم أن الإنسان قادر وعالم ومريد بدليل سنها القوانين سلبه هذا الحق الذي يحدث في الخفاء وإلى أن تقوم الثورات الشعبية ويمارس الإنسان هذا الحق علنا. لم يبق إذن إلا الاحتمال الرابع أن تكون الصفات في الإنسان على الحقيقة وفي الله على المجاز لأن الإنسان له سمع وبصر وكلام ثم يسقط الإنسان خصائصه على غيره في ظروف نفسية واجتماعية معينة مثل العجز والقهر والظلم، ويدفعها إلى حد الإطلاق. ثم يعبر بالصورة الفنية عن هذه الصفات لمزيد من التأثير على النفس والقدرة على الإبلاغ.
5
وهي نفس القضية التي عرضها الصوفية في موضوع الحب. هل حب الإنسان لله حقيقة وحبه للإنسان مجازا فالإنسان لا يحب إلا الله أم أن حب الإنسان له مجازا وحبه للإنسان حقيقة فالإنسان لا يحب إلا الإنسان؟ ويعني المجاز هنا الخداع والوهم أو المرض والتعويض النفسي وليس مجرد صورة فنية يمكن فهم معانيها بقواعد اللغة وأساليب التشبيه وطرق الاستعارة. والحقيقة أن إثبات الصفات كلها قائم على قياس الغائب على الشاهد. لذلك توسع الأشاعرة في الاستقراء ومعناه وأنواعه، التام والناقص، الصادق والكاذب في الانتقال من الجزئيات إلى الكليات نظرا لاعتماد قياس الغائب على الشاهد. لذلك توسع الأشاعرة في الاستقراء ومعناه وأنواعه، التام والناقص، الصادق والكاذب في الانتقال من الجزئيات إلى الكليات نظرا لاعتماد قياس الغائب على الشاهد على الاستقراء التام وحتى يمكن معرفة إذا كانا مشتركين في الحقيقة أو مختلفين.
6
وقد لاحظ الفقهاء أن كل هذه الصفات ألفاظ مشتركة يتراوح استعمالها بين العموم والخصوص، تطلق على الله وعلى الإنسان معا ولكنها تبدأ أولا بأن تطلق على الإنسان طبقا لمقتضيات الحس والمشاهدة ثم تطلق فيما بعد على الله تجوزا ومجازا.
7
والفلاسفة وحدهم هم الذين يرفضون كل اشتراك بين الله والإنسان في الصفات ويأخذون الموقف الثنائي الذي يضع العالم في قطبين متعارضين موجب أعلى وسالب أسفل، وبقدر ما يعطي الأول يسلب الثاني .
8
لقد أدرك القدماء المأساة وانتابتهم الحيرة، فجعل البعض الصفات في الله مصدر الصفات في الإنسان وهو حل وسط فتتحول الصفات من صفة ثابتة إلى صفة متحركة إلى فعل وعطاء، فلا تكون صفة مغلقة على نفسها تصف ذاتا ثابتة، بل هي قصد وفعل وحركة وتأثير وخلق في غيرها.
9
ولكنه يكون أقرب إلى الاحتمال الرابع، أي كون الصفات في الإنسان واقعا وفي غيره قياسا، خيالا أو وهما. فالصفات السبع، هي في حقيقة الأمر صفات إنسانية خالصة. فالإنسان هو العالم القادر والحي، والإنسان هو السميع والبصير والمتكلم والمريد. كل صفة تعبر عن طاقة إنسانية أو ملكة. يعبر العلم عن العقل النظري، والقدرة عن العقل العملي. والحياة عن الوجود الإنساني الحي، وكأن الحياة تظهر عقلين: العقل النظري والعقل العملي. أما السمع والبصر فهما مدخلان للعلم، فالعلم لا يكون إلا حسيا. والكلام تعبير عن العلم، ونطق به في العالم الخارجي. والإرادة تعبير عن القدرة وتحقق لها بالفعل. والاعتراف بالحق لا يعني هدم الحق. كما لا يعني الاعتراف بالواقع التهديد أو التخويف بنفي الصفات لله. يمكن إطلاق الصفات والأسماء مع معرفة كيفية هذا الإطلاق وبأي معنى ومتى يحدث، وهل هي أوصاف لذات موجودة بالفعل أم مجرد عمليات شعورية تحدث في وقت معين وظرف محدد.
10 (2) العمليات الشعورية
إن ما وصفه القدماء على أنه «الذات والصفات والأفعال» هو في حقيقة الأمر «الإنسان الكامل». فكل المادة التي وضعها القدماء تحت هذا الاسم لا تشير إلى موضوع فعلي، بل تعبر عن موقف إنساني خالص تجاه موضوع مثالي. فما ظنه القدماء على أنه وصف موضوعي لحقيقة واقعة في الخارج هو في الحقيقة وصف ذاتي لشعور المتكلم أسقطه في الخارج ثم قفز من الشعور إلى العالم الخارجي بلا أدنى مبرر عقلي إلا عجزه عن تحقيق هذا الموضوع المثالي بالفعل كمشروع له في العالم الخارجي كنظام مثالي للعالم. وفي أحسن الأحوال يتم هذا الإسقاط بتحيز مسبق يفترض تطابق عالم الشعور والعالم الخارجي. وهو ناتج عن نقص في الوعي بالمسافة بين المثال والواقع، بين الوعي بالذات والوعي بالعالم. وفي أسوأ الأحوال يتم بلا وعي على الإطلاق وبالإغراق في عالم الشعور الخالص بعد أن فرغ من كل الموضوعات وامتلأ بالعواطف والانفعالات. ويكون الشعور حينئذ في موقف نرجسي خالص لا يرى إلا ما بداخله خارجه. ما ظنه القدماء إذن على أنه وصف لله بالفعل هو في الحقيقة وصف للإنسان. ولما كان الله هو الكامل جاء وصفه وصفا للإنسان الكامل. ويحدث ذلك طبقا لعمليات شعورية محددة. وتعني العمليات الشعورية ما يحدث داخل شعور المتكلم من صياغات عقلية للتجارب الشعورية التي يمر بها. فما دامت العبارات الكلامية لا تصف شيئا موجودا في الواقع، بل تعبر عن تجارب شخصية، فإنه لفهم هذه العبارات يتم إرجاعها إلى مصدرها في الشعور. (2-1) العلم المقلوب
إن المتأمل في علم الكلام أولا وفي الوحي ثانيا، أي الكلام، ليرى بوضوح تام أن علم الكلام علم مقلوب، وفي هذا القلب تتحدد كل موضوعاته على نحو معين، وتصبح كل مشاكله مشاكل كاذبة. وتظهر الحاجة إلى إعادة وضع هذا العلم وضعا صحيحا حتى تحل مشاكله. فليست المسألة الإجابة على السؤال، بل وضع السؤال وضعا صحيحا. وقد تتبدد المشاكل كلها عندما يعاد وضعها وضعا صحيحا. وكثيرا ما تتحدد الإجابة كلها بطريقة وضع السؤال.
فإذا تأملنا الوحي نجد أنه أساسا قصد موجه من «الله» نحو «الإنسان» أو كلام مصاغ من أجل الإنسان. الله هو المرسل، والإنسان هو المرسل إليه. الشعور الإلهي قائم على قصد، وهو الحديث إلى الإنسان. يتجه الشعور الإلهي نحو الإنسان بفعل الكلام. وعندما نتحدث عن الوحي كمقصد من الله إلى الإنسان فإننا لا نستعمل لفظة «الله» للدلالة على شخص أو ذات أو قدرة مشخصة أو غيرها، بل نتحدث عن واقعة الوحي ذاتها. ولفظ «الله» ليس إلا لفظا عرفيا استعمله الناس للدلالة على معنى عام، ويمكن استعماله مبدئيا نظرا لسهولة استخدامه في إيصال المعنى، ولكنه ليس اسما بمعنى أنه يدل على جوهر.
11
وإذا أتينا إلى علم الكلام نجد أنه قد قلب الاتجاه وجعل الكلام هو قصد الإنسان نحو الله. فبدل أن يحلل عالم الكلام الوحي باعتباره قصدا من الله نحو الإنسان، فإنه يحلله باعتباره قصدا من الإنسان نحو الله. فيجعل عالم الكلام الإنسان هو المرسل والله هو المرسل إليه! علم الكلام إذن خارج عن قصد الله بل هو مضاد له. فبدلا من أن يفكر الإنسان في نفسه تشبها بالإله لأن الله يفكر في الإنسان بدليل إرسال الوحي، فكر المتكلم في الله وهو ما لم يفعله الله لأن الله لم يجعل نفسه موضوعا لعلمه. وإذا تحدث عن نفسه في الوحي فإنما يتحدث للإنسان ولصالح الإنسان وتأكيدا لقيم الإنسان ويصور الإنسان ولغته وفهمه وقدراته.
وفضلا عن أن الوحي اتجاه من الله نحو الإنسان، فإن موضوعه أيضا هو الإنسان. فالإنسان هو اتجاه الوحي وموضوعه، هدفه وغايته. ولما كان الوحي هو العلم الإلهي، كان موضوع العلم الإلهي هو الإنسان. إذا حللنا الشعور الإلهي وجدنا الإنسان بؤرته، فهو الاتجاه والغاية، هو المنبع والمصب. وإذا نفذنا إلى لب العلم الإلهي لوجدنا الإنسان موضوعه. يفكر الله في الإنسان بدليل حديثه له، ولا يفكر كما قال القدماء في ذاته لأن ذاته أشرف ما في الكون، وعيب عليه ونقص فيه أن يفكر فيما هو أقل منه شرفا وكمالا. ولكن بمنطق القدماء إذا كان الله يفكر في الموضوعات الشريفة يكون الإنسان هو أشرف الموضوعات بدليل حديث الله إليه ومخاطبته إياه، ولإرسال الرسل والوحي إليه، ويكون الإنسان هو الموضوع الرئيسي لعلمه، وبدليل خلقه سيد الكون ولمكا عليه، وتسخير كل شيء في الطبيعة له، وحمل الإنسان وحده الأمانة وقبوله طواعية هذا التكليف، والمركز المتميز كطرف في علاقة فريدة مع الله.
12
ولكن علم الكلام بعد تغييره لاتجاه الوحي وقلبه له من الإنسان إلى الله غير موضوع الوحي أيضا، فبدل أن كان موضوع الوحي هو الإنسان صار موضوعه هو الله، أي أن عالم الكلام أرجع إلى الله كلامه فجعل الله غاية الكلام وموضوعه، وهذا مضاد لقصد الله وعلمه. فقصد الله هو الإنسان، وموضوع علمه هو الإنسان، في حين أن عالم الكلام جعل قصد الله هو الله وعلم الله هو الله. بعد أن أعطى الله الوحي إلى الإنسان رده عالم الكلام إلى الله. عالم الكلام هنا جاحد بنعمة الله ومضر بمصلحة الإنسان. جعل الله نرجسيا لا يرى إلا ذاته، وجعلها ذاتا فارغا بلا موضوع آخر غيره.
هذا هو معنى أن علم الكلام علم مقلوب. فالوحي مركزه الإنسان من حيث إنه قصد الله وموضوع علمه، في حين أن علم الكلام جعل الله مركز الوحي وموضوع علمه. علم الكلام إذن علم مقلوب، رأسه إلى أسفل وقدماه إلى أعلى. فبدلا من أن يتطابق مع قصد الله وموضوع كلامه ووحيه وعلمه ويتجه نحو الإنسان، عارض هذا المقصد والكلام والوحي والعلم واتجه نحو الله بحركة عكسية مضادة. وباستعمال صورة مجازية إذا كان الوحي مقصدا «نازلا» نحو الإنسان، فإن علم الكلام قد قلب الوضع وجعله مقصدا «صاعدا» نحو الله. وعلى هذا النحو يأخذ تحريم الفقهاء له معنى جديدا، ويعطي له أساس فلسفي، ويتم الكشف عن سبب التحريم وعلته.
13
وهذا هو معنى أن الوحي «أنثروبولوجيا» وليس «ثيولوجيا»، أي أنه علم إنسان وليس علم إله. ولا تعني الأنتروبولوجيا أو علم الإنسان هذا العلم المعروف بهذا الاسم في عصرنا هذا في حضارة مجاورة غازية، دراسة لنشأة الإنسان «البدائي» وتطوره من الناحيتين البدنية والنفسية والاجتماعية والسياسية والقانونية واللغوية والحضارية ... إلخ، بل دراسة بنائية فلسفية من حيث هو إنسان وتحليل أبعاده ووصف وجوده. الإنسان عالم بأكمله. بل إن ما يحدث في العالم الخارجي لا يمكن فهمه أو ضبطه أو التعبير عنه إلا من خلال الإنسان. ليس الإنسان عالما صغيرا أمام عالم كبير، بل هو العالم ذاته صغيرا وكبيرا.
14 (2-2) من الكلام إلى الشخص
ولا يتمثل هذا القلب فقط في تغيير المقصد والموضوع من الإنسان إلى الله، بل يظهر أيضا في تغيي ر الوحي من الكلام إلى الشخص. أعطى لنا الوحي كلاما، والكلام حين يكون موضوعا لا يتعدى نطاق اللغة وتحليلها. والمقصود بالكلام هو فهمه وتحويل معانيه إلى توجيهات للسلوك من أجل تغيير الواقع وجعله مطابقا للكلام في بنائه. وإن أهم ما يميز الوحي في آخر مراحل تطوره هو أن الكلام أصبح هو التعبير الوحيد عن «الله». عبر الله عن ذاته في الوحي، أي في كلامه، وأعلن عن وجوده وصفاته وخلقه في الوحي. وإذا كان قد ظهر في مظاهر مادية، صوتا لإبراهيم، ونارا لموسى، وروحا أو كلمة لعيسى، فإنه لم يظهر في آخر مرحلة من تطور الوحي إلا من خلال الكلام. وإذا كان قد تدخل بشخصه تدخلا مباشرا في سير العالم، طوفان نوح، شق البحر، رفع عيسى، فإن هذا التدخل المشخص المباشر قد انتهى. وفي آخر مرحلة من مراحل الوحي لم يعد له وجود مادي أو فعل محسوس بل أصبح كلاما. تأسيس الوحي، وهو الكلام باعتباره علما محكما هو الوضع الصحيح للكلام. وأن تسمية علم الكلام لتصدق بالفعل على هذا العلم لأن موضوعه هو الكلام. وهذا هو معنى ما يقال عادة من أن الوحي في آخر مراحله أصبح وحي كلام لا وحي شخص. ليس الكلام جسدا أو طبيعة أو كونا بل كلام لغوي، معان وألفاظ، دلالات وعبارات.
15
ولكن علم الكلام قلب الوحي من الكلام إلى الشخص، وجعل الكلام وصفا لشخص المتكلم وهو الله. وبدلا من أن يوجه الكلام إلى تغيير الواقع وتطويره، فإنه يقلبه إلى أعلى تثبيتا وتأكيدا وبرهانا على شخص المرسل. قام علم الكلام إذن بعملية نفسية خطيرة وهو «التشخيص» في الحديث عن الكلام باعتباره شخصا وليس كلاما يدرس دراسة علمية من حيث الصوت أو الحرف أو اللفظ أو المعنى أو الرمز كما هو الحال في العلوم الإنسانية. حول علم الكلام إلى شخص، وتحدث عن «الله» وكأنه يتحدث عن شخص له كل صفات الشخص المادية كالبدن واليدين والرجلين والعينين أو المعنوية مثل العلم والقدرة والإرادة ... إلخ. بدلا من أن يكون الشخص صفة للكلام أصبح الكلام صفة للشخص. بدلا من أن يكون الكلام هو الأصل والشخص هو الفرع أصبح الشخص هو الأصل والكلام هو الفرع. بدلا من أن يكون الكلام هو موضوع العلم والشخص خارج عن نطاق العلم أصبح الشخص هو موضوع العلم الأول والكلام خارج نطاق العلم إلا من حيث كونه صفة للشخص. ثم يدخل الشخص في نطاق المقدس ويصبح وصفه تابعا لأسمى عواطف التعظيم والإجلال، ويكون كل تشابه بينه وبين الإنسان ضربا من التطاول ونقصانا في الاعتراف بالفضل وبالجميل، وتصبح مهمة الشهور هو التأليه المستمر لهذا الشخص والتعبير عن هذا التأليه بأسمى عبارات التقدير والإعجاب. ويتحول العلم إلى دين، والعقل إلى انفعال، والموضوع المدرك إلى ذاتية فارغة.
وبالرغم من ظهور عملية التشخيص ثم التأليه هذه على أوضح ما تكون في العلوم التقليدية الأخرى كالتصوف والحكمة باستثناء الأصول الذي عاد إلى العالم واصفا الإنسان فيه،
16
إلا أن هذه العملية قد سادت علم الكلام من أوله إلى آخره حتى طبعته بطابعها وأعطته اسمها، فأصبح «علم التوحيد» أو «علم أصول الدين» في أصله الأول هو الشخص المؤله، حتى إن المسائل الإنسانية أو الطبيعية الخالصة في علم الكلام أصبحت أيضا قائمة على تدخل الشخص المؤله كطرف فيها دون العالم. صحيح أن الوحي تحدث عن الذات الإلهية وصفاتها ولكن هذا الحديث هو كلام وليس ذاتا أو شخصا. وقد عرفنا الذات من خلال الكلام وقد تم التعبير عنه بالحديث والصياغة. وكل ما نعلمه عن الذات هو كلام وصياغات. إن صفات الله وأفعاله هي مجرد أقوال.
17
ونحن لا نعلم أفعاله إلا عن طريق الأقوال من الوحي. الله ذاته لا يعرف إلا من خلال الوحي، والوحي كلام، أي أننا لا نعرف الله إلا من خلال العبارة، ولا نفهمه إلا من خلال فهمنا للعبارة.
والوحي من حيث هو كلام مكتوب بلغة البشر. ولا يهمنا الكاتب لأن الشخص خارج نطاق السؤال. لا يوجد أمامنا إلا الكلام. والكلام مكتوب بلغة معينة تطبق عليه قواعد هذه اللغة لفهمه. بل يتم التعبير عن الكلام أحيانا بالصورة الفنية، أي بتشبيه إنساني خالص. فإذا ما تحدث عالم الكلام بالوحي فإن حديثه يكون كلاما من الدرجة الثانية، أي كلاما بكلام أو كلاما عن كلام. كلامه إدراك لكلام الوحي وفهمه وتفسيره . وكل ما يقوله عالم الكلام يصبح قولا من خلال إدراكاته وتصوراته. ولا وسيلة أمامه للخروج من عالمه إلى العالم الخارجي أو افتراض أي تطابق بينهما. كلام عالم الكلام مجرد تعبيرات إنسانية وعبارات وأقوال من صنعه يحددها مزاجه وشخصه وتربيته وثقافته وبيئته ومستواه الحضاري ولحظته التاريخية، بل وأهواؤه وانفعالاته ومصالحه وولاءاته، بل وقبيلته وجنسه وعنصره. ولا يكون له أي معنى إلا بالرجوع إلى مصدره. فهو لا يشير إلى موضوعات خارجية، بل يعبر عن مقاصد موجهة من ذات المتكلم. يكشف الكلام عن ذات المتكلم أكثر مما يشير إلى شيء موجود بالفعل. وهنا يقع التناقض والاستحالة. كيف يمكن التعبير عن المجرد الصوري الذي ليس كمثله شيء بلغة في نشأتها اتفاق تعتمد على الصورة الحسية وتقوم على التشبيهات؟ علم الكلام على هذا النحو ادعاء لأنه يظن أنه يصف شيئا موجودا بالفعل في حين أنه يعبر عن مقاصد شعورية خالصة. وعلم الكلام بهذا المعنى أيضا يقوم على الغرور أو الجهل فيما يتعلق بالقدرة الإنسانية على التصور والحكم. فإذا كانت الذات المشخصة المؤلهة في عالم الإطلاق، فكيف بقدرة الإنسان المحددة بتربيته ومزاجه وثقافته وبيئته وأهوائه إصدار حكم عليها؟ كيف يمكن للنسبي إصدار حكم على المطلق؟
وإذا كان كل ما نعرفه من الله هي أقوال، سواء من الوحي أو من فهمنا إياه أو من وصفنا له كما يفعل المتكلم وكما تقتضي بذلك خبراتنا الشخصية ولغتنا الإنسانية، لم يعد هناك فرق بين السمع والعقل؛ لأن الأقوال التي تصدر من أحدهما أو كليهما تعبر عن شيء واحد بلغة إنسانية واحدة. فقبل أن يأتي السمع كان الناس يتحدثون عن الله ويعطونه نفس الصفات مع اختلاف في العدد أو في الدرجة أو في الصورة الذهنية ودرجتها من الحسية أو التجريد. وقد تحدث الناس أيضا بعد السمع. هناك مواقف اجتماعية هي التي تحدد نوع الحديث ودقته، وهي مواقف موجودة قبل السمع وبعده. وبالتالي ردا على سؤال القدماء: هل يجوز تسمية الله بصفاته قبل أن يأتي السمع بالعقل؟ نقول أن الحديث عن الله سابق على السمع وتال له. وما السمع إلا أحد الأحاديث عن الله.
18
وتخصيص السمع بالحديث عن الله تخصيص بلا مبرر.
ولما كان حديث عالم الكلام عن الله لا يصف شيئا في الخارج بل يعبر عن عواطفه وانفعالاته تجاه العالم، لا يفهم حديثه إلا بإرجاع عباراته إلى مصدرها، أي إلى خبراته الشعورية ومواقفه الاجتماعية لمعرفة نشأة العبارات. ويكون السؤال حينئذ: هل التجارب الشعورية التي يقوم العقل بتحليلها تجارب إنسانية سوية أم مجرد عواطف نشأت عن الإحساس بالعجز عن تغيير الواقع عند مجتمع مهزوم أو من الإحساس بالسيطرة عند مجتمع منتصر؟ وللإجابة على هذا السؤال يحال إلى الظروف الاجتماعية التي نشأت فيها التجارب الشعورية والتي يعبر عنها حديث المتكلم. وقد كان هناك نوعان من التجارب: تجارب قاسية مر بها المجتمع المهزوم، مجتمع الشيعة، وأدت إلى التأليه والتجسيم، وتجارب معتدلة مر بها المجتمع المنتصر، مجتمع أهل السنة، وأدت إلى التنزيه أولا ثم التشبيه، ثانيا كرد فعل على التنزيه وتحول عنه اقترابا من التجسيم.
19
يؤدي الانتصار إلى راحة مادية وسيطرة على المجتمع والطبيعة مما يؤدي بدوره إلى إثبات قدرة مركزية مسيطرة كما وصف أهل السنة المؤله وصفاته المطلقة لتؤيد المجتمع في سيطرته وتساعد السلطة على مد نفوذها على بقايا المعترضين وجيوب المقاومة وتخويف بالمؤله المشخص الذي يعلم كل شيء ويسيطر على كل شيء والذي يجازي الصديق ويعاقب العدو. وإذا ما أدت الراحة المادية إلى نظام رأسمالي حصل توافق بين المجتمع المنتصر والمؤله المشخص، بين السلطة السياسية المطلقة ورأس المال وبين السلطة الدينية المطلقة. وإذا ما أدت الراحة المادية في المجتمع المنتصر إلى نوع من التطهير والتعفف نشأت عواطف التأليه أيضا، المؤله المشخص كمشجب تعلق عليه جميع صفات الكمال، كما حدث عند الصوفية والفلاسفة الذين تمتعوا بمزايا المجتمع المنتصر دون معارضته أو تأييده كنوع من انتهازية الطبقة المتوسطة التي ترفض أخذ قرار حاسم، إذ يهمها أن تعيش ثم أن تنافق وتدعي الفكر والأخلاق والكمال وتدافع عن الشرف والفضيلة في خطابها النظري. إذا حلت مشاكل البدن واطمأن الجميع على العيش نشأ البحث فيما وراء البدن. وإذا اطمأن الجميع للسيطرة على العالم تم البحث فيما وراء العالم، ونشأ الروح أو المؤله المشخص كستار أو غطاء على راحة البدن أو على الاستحواذ على العالم. وفي حقيقة الأمر في داخل المجتمع المنتصر ينشأ تياران، تيار السلطة وتيار المعارضة، وبلغة العصر الشائعة، يمين ويسار. اليمين تقوم العلاقات فيه على منطق الاختلاف، اختلاف الذات عن الصفات، فالصفات زائدة على الذات، وتكون العلاقات بينهما علاقة تبعية. فالعقل الإنساني تابع للنقل، والطبيعة تابعة للإرادة المشخصة. وكبناء فوقي للمجتمع ينشأ مجتمع الرئيس والمرءوس وعلاقة السيد بالعبد. واليسار يقوم على منطق التساوي، تساوي الذات والصفات، تساوي الجوهر والأعراض. العلاقات فيه ليست علاقة تبعية بل علاقة استقلال، استقلال العقل الإنساني عن النقل، والإرادة الإنسانية والطبيعة المستقلة عن الإرادة المشخصة. وكبناء فوقي للمجتمع ينشأ مجتمع التساوي بين الرئيس والمرءوس، بين القمة والقاعدة.
والسؤال الآن: هل التحليلات العقلية لهذه التجارب الشعورية النفسية والاجتماعية للسيطرة أو للاضطهاد، للسلطة أو للمعارضة عمل صحيح للعقل أم مجرد تبرير لهذه التجارب و«تنفيس» عقلي عنها بعد أن تحولت إلى أزمات نفسية وصدمات اجتماعية؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول أن القوالب العقلية لم تكن تحليلات علمية، بل كانت مجرد تبرير وصياغات عقلية للتجارب الشعورية. ويمكن أن يقال إن العقل كان خادما لعواطف التأليه وأنه قدم مقولاته واستدلالاته من أجل التعبير عن هذه العواطف وإعطاء أساس نظري لها. ويمكن جمع هذه العمليات العقلية معا في منطق متسق هو منطق الشعور. (3) منطق الشعور
تقوم معظم التحليلات العقلية على نمط فكري واحد في عدة صور يمكن التمييز فيها بين منطق التصورات الذي يقوم على القسمة ومنطق القضايا الذي يقوم على الإثبات والنفي للاستدلال. وقد يتداخل المنطقان معا إذ يصعب التمييز بين التصور والتصديق. فالتصور تصديق ضمني، والتصديق يقوم على تصور. (3-1) منطق التصور
ويقوم هذا المنطق على القسمة العقلية التي يتميز فيها الشيء عن الآخر من أجل تحديد العلاقات نفيا أو إثباتا. ويأخذ ذلك عدة صور منها : (1)
الشيء في نفسه والشيء في غيره:
20
وهو تحديد للشيء بالنسبة إلى نفسه ثم تحديده بالنسبة إلى علاقاته بغيره. وهو نمط فكري بديهي للتعريف بالشيء أولا ثم بعلاقته بغيره ثانيا. بل إن مشكلة الذات والصفات لهي نتاج لهذا النمط العقلي. الذات هو الشيء في نفسه والصفات هو الذات في علاقاته مع غيره. وكذلك قسمة الشيء إلى جوهر وعرض، فالجوهر هو الشيء في ذاته والأعراض هي علاقات الشيء بغيره. وكذلك الواحد والكثير، فالواحد هو الشيء في ذاته، والكثير هو علاقاته بغيره. وهي أيضا علاقة الاستقلال والتبعية، فالشيء في ذاته هو الشيء المستقل والشيء لغيره هو الشيء التابع. وهو نمط فكري يساعد على التعبير عن عواطف التأليه التي تبقي القسمة بين طرف أول وهو الذات المشخص وأطراف ثانية تكون أقل رتبة منه وشرفا.
21
ويعتمد هذا النمط على طبيعة العقل ومبادئه الأولى مثل مبدأ الهوية والاختلاف. (2)
الهوية والاختلاف: يتحول النمط الأول إلى هذه الصورة الثانية. فبعد قسمة الشيء إلى الشيء في ذاته والشيء لغيره تأتي المقارنة بينهما. هل الشيء في ذاته هو هو أو هو غيره؟ هل الشيء في ذاته مساوي لذاته أم مخالف لغيره؟ لذلك حدث إشكال الصفات، هل الصفات هو الذات أم هي غير الذات؟ ثم حدث إشكال آخر في الكلام. هل القراءة هو الكلام أم غير الكلام؟ وهو ما يتفق مع الفكر الديني القائم على القياس التمثيلي، وقياس المثل بالمثل والبحث عن الهوية والاختلاف. وهذه أولى مراحل التفكير «البدائي» عندما يسأل الطفل عن أوجه الشبه والاختلاف بين الأشياء. وهي أيضا من بديهيات الفكر كما هو معروف في المنطق في مبدأ الهوية والتماثل وإرجاع مبدأ الاختلاف أو التناقض إلى المبدأ الأول حيث إنه نفي له. (3)
تصور شيء من شيء آخر: وهو تصور وفي نفس الوقت استدلال، وذلك لأنه عن طريقه يمكن إثبات الشيء باستنباطه من شيء آخر كاستنباط نتيجة من مقدمة. وتكون العلاقة بينهما علاقة توالد أو تبعية أو شرط. فمثلا بعد إثبات العلم تستنبط منه الحياة لأن الحياة شرط العلم. ثم تستنبط منه القدرة لأنه لا يحدث العلم إلا لقادر. ثم من الحياة يستنبط السمع والبصر وإلا كان الحي مصابا بآفة.
22
وهو نمط من الفكر الطولي الذي يولد الفكرة من فكرة أخرى كما هو معروف في الفكر الاستنباطي في المنطق والفلسفات العقلية بالرغم من رفض التسلسل إلى ما لا نهاية سواء من البداية أو من النهاية. (4)
إثبات الشيء عن طريق إبطال نقيضه:
23
ويمكن إثبات الشيء لا باستنباطه من شيء آخر بل بتحديد علاقاته مع غيره. والحقيقة أن إثبات الشيء عن طريق إثبات استحالة النقيض لا يعد إثباتا للشيء بل هو فقط إبطال للنقيض. فقد يبطل النقيض دون أن يثبت الشيء. فإبطال أن الشيء أبيض لا يعني بالضرورة أنه أسود. وإبطال أن الشيء ميت لا يعني بالضرورة أنه حي. قد يكون هناك طرف ثالث لا هو الشيء ولا هو النقيض، فكثيرا ما تجاوز الواقع هذه القسمة العقلية الصورية الحادة. وقد تكون هناك وسيلة للجمع بين الشيء ونقيضه من أحد الوجوه، وكثيرا ما يؤكد الواقع ذلك. وقد يكون الشيء الواحد مثبتا من وجه ومنفيا من وجه آخر على ما يشهد به الحس والمشاهدة. وقد تكون العلاقة بين الشيء ونقيضه علاقة جدل متبادلة، أي أن هناك حركة مستمرة من الشيء إلى نقيضه ومن النقيض إلى الشيء دون فصل بينهما. وفي النهاية أن إثبات الشيء عن طريق إبطال نقيضه إنما هو منهج جدلي خالص مهمته إفحام الخصم وليس إثبات الشيء، ويمكن للخصم استعماله أيضا في تفنيد نفس الشيء باعتباره نقيضا له. (5)
إبطال جميع أطراف القسمة إلا واحدا: وأحيانا يضع العقل قسم في أطراف عدة تبطل جميعا ولا يبقى إلا طرف واحد هو المطلوب إثباته. وهو معروف في أصول الفقه باسم السبر والتقسيم.
24
وهو نفس النمط السابق ولكن النقيض هنا متعدد وليس واحدا. وعيبه أن القسمة قد لا تكون جامعة مانعة. فقد يدخل طرفان تحت قسم واحد. وقد يند أحد جوانب الشيء خارج القسمة. كما أنه يصعب تغليف الواقع أحيانا في قسمة عقلية. فالواقع واحد ومختلط ممتزج متحرك يعكس القسمة العقلية الثابتة المنفصلة. (3-2) منطق التصديق
وهناك عدة أنماط فكرية أخرى لا تتعدى كونها مجرد تحصيل حاصل لأنها قد لا تفيد جديدا. ولا يعني تحصيل الحاصل هنا ما يقال عادة على قضايا الرياضة، وجميع القضايا التحليلية، ولكن تعني أنها لا تقول شيئا على الإطلاق. فهي قضايا مفيدة لغويا بمعنى أن بناءها اللغوي سليم، ولكنها لا تفيد شيئا معنويا. فمنطق التصديق هنا هو إثبات الشيء لنفسه ليس من أجل التصديق به بل من أجل اتساقه مع نفسه وعرضه على نحو يقبله العقل دون أن يكون منطقا للبرهان يحتوي على مقاييس للصدق خارج عن الشيء نفسه. ويمنك حصر هذه الأنماط فيما يلي: (1)
إثبات النقيضين: ويهدف إثبات النقيضين إلى الرغبة في احتواء الطرفين دون فصل بينهما، واختيار أحدهما ورفض الآخر. فليس أحد الطرفين بأولى من الآخر. وكل طرف له ما يؤيده وما يعارضه في عواطف التأليه. لذلك كان من الأحكم إثبات النقيضين دون البحث عن علاقة النقيضين لأن البحث يتضمن تحكيم العقل، والعقل يفصل ويحسم ويختبر، وهو ما لا تريده عواطف التأليه التي تريد حسم كل شيء واحتواء كل شيء. وما أعظم التعبير من خلال التناقض! ما أعظم أن يكون المؤله قريبا بعيدا، في كل مكان ومستو على العرش، وأن يكون القرآن محدثا غير مخلق! وينطبق على العبارة المشهورة المستند إلى آية:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
نفس القياس. فهي تثبت النقيضين لأن الذي ليس كمثله شيء لا يكون سميعا بصيرا، فالسمع والبصر أشياء. والسميع والبصير لا يكون ليس كمثله شيء لأن الذي ليس كمثله شيء لا يكون له سمع وبصر. فهي عبارة تثبت التنزيه في الجزء الأول منها كما تثبت التشبيه في الجزء الثاني منها. إنها الحيطة الإنسانية التي تود الإمساك بالطرفين حتى ولو استحال التوفيق بينهما عقليا، والعبارات قادرة على مثل ذلك مثلا: إنه ليس غبيا ولكنه ذكيا، ليس شجاعا ولكنه ليس جبانا، ليس مجتهدا ولكنه ليس مقلدا. وهي عبارات تدل على التشجيع أو الخوف من إصدار حكم أو التملق أو الرغبة في المساومة. وأحيانا تهدف إلى تعميق الواقع وتخفيف الحكم عليه. فهي عبارات لا تدل على معنى بل تكشف عن عمليات شعورية وراء هذه الصياغات، وهو شائع في الحلول المتوسطة وفي الاتجاهات التي تجمع يبن الحلين المتعارضين. ويبدو ذلك أيضا في خطابنا المعاصر في حياتنا القومية، مثل: نحن لم ننتصر ولكننا أيضا لم ننهزم.
25 (2)
نفي النقيضين: وهو مجرد قلب لإثبات النقيضين. ويفيد رفض الطرفين والحلين المتعارضين الذين يقتضي العقل الاختيار بينهما. فنفي كليهما يعني رفض الحلول العقلية واللجوء إلى عواطف التأليه الخام خشية أن تقل أو أن تهن. فمثلا عبارة: «الصفات لا هي هو ولا هي غيره» تحصيل حاصل، تضع الفاعل في جملة مفعولا في الأخرى، وتضع مفعول الأخرى فاعلا في الأولى. فالاختيار الأول يوقع في الشرك والاختيار الثاني يوقع في الخلق. وكلاهما حلان لا ترضى عنهما عواطف التأليه. كذلك مثل عبارة: «لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره»، فإنها لا تعبر عن معنى عقلي بل عن عملية شعورية صرفة القصد منها عدة أشياء: أولا: الرغبة في إثبات شيء فريد غير عادي لا يمكن وصفه أو التعبير عنه، إذ إن كل الحلول العقلية أقل منه. وهنا تكون عواطف التأليه أزمة نفسية لا يمكن التعبير عنها في صياغة عقلية لها معنى. ثانيا: التعبير عن صراع الشعور طرفي التنزيه والتشبيه، فهو نفي للشبه وللمساواة التماثل داخل التجسيم، ونفي للصورية المطلقة داخل التنزيه. ثالثا: العجز عن قول شيء موجب لأنه لا يوجد ما يقال. فهي أزمة انفعالية تعبر عن نفسها في هذه الصورة اللغوية. رابعا: الإيحاء بالسر والغموض، وهو البديل عن الوضوح والتعبير السليم، وطالما كان السر أحد مغريات الفكر الديني. خامسا: العجز عن أخذ المواقف ومحاولة مسك العصا من الوسط نقصا في الشجاعة وتخوف من الحسم.
26 (3)
إثبات الشيء ونفي صفاته: وهو نمط فكري يجمع بين إثبات النقيضين ونفيهما. فإثبات الشيء اختيار عقلي، ولكن تسارع عواطف التأليه فتنفي ما أثبته العقل خشية الوقوع في التحديد، والعواطف تحب الإطلاق. فهو أشبه بخطوة إلى الأمام يقوم بها العقل ثم خطوة إلى الخلف تقوم بها عواطف التأليه. وفي النهاية تكون الحصيلة أنه لا يوجد ما يقال. فمثلا عبارة: «إنسان دون أن يكون جسما» تثبت الشيء وتنفي صفته. فالإنسان لا بد وأن يكون جسما، ولا يوجد إنسان لا جسم له. لقد حكم العقل بالإثبات والعاطفة بالنفي. ونضع أمثال هذه العبارات طرفي النقيض معا دون إيجاد العلاقة بينهما، رغبة في التوسط وعدم التوسط أو إحساسا بأن الحقيقة في إيجاد مركب للموضوع ونقيضه دون أن تدري كيف. فتضع الموضوع بجوار نقيضه دون أن تتحقق الحركة بينهما. هي عبارات تدل على رغبة في الإيمان وعلى نقص في التحليل العقلي. عبارات تتوالى على شيء واحد يثبت أولا وينفى ثانيا، أي أنها مجموعة قضايا مثبتة ومنفية في آن واحد.
27
كما يمكن إثبات شيء ثم تنفى عنه أية مشابهة بينه وبين الشيء المعروف بهذا الاسم وجعله شيئا فريدا يشترك في الاسم دون الاشتراك في المسمى، مثل: «جسم لا كالأجسام». فالجسم معروف، ولكن الجسم الذي لا كالأجسام مجهول. الجسم حكم العقل ونفي المشابهة حكم العاطفة. هذا، فضلا عما في ذلك من قضاء على اللغة. وكيف تستعمل لغة أسماءها ثم لا تنطبق على مسمياتها؟ وكيف لنا العلم بهذه المسميات الجديدة؟
28
وقد يثبت الشيء ثم يخصص النفي بأنه نفي للمشابهة بين هذا الشيء وبين عالمنا هذا وما به من أشياء متشابهة. لما كان الشيء هو الشيء الإنساني يسارع النفي وينفي المشابهة مع الشيء الإنساني بالذات كنفي لما يحدث في الشعور. فالنفي دليل على أن ما يحدث في الشعور هو عكس المنفي، أي المشابهة، ولا ينفي المشابهة. فالقائل: «لست أسود» قد يكون أسود ينفي السواد عنه! ومثل ذلك كثير «يعلم لا كعلمنا»، «يرى لا كرؤيتنا»، «يسمع لا كسمعنا» ... إلخ.
29
وقد تكون الرغبة في إثبات التنزيه معا وفي نفس الوقت مجرد تحصيل حاصل.
30 (4)
إثبات العلم بشيء والجهل به: ويعني ذلك أن العقل يثبت شيئا ثم تأتي العاطفة وتنفي ما يثبت العقل. يثبت العقل التعين، ثم تأتي العاطفة وتثبت اللاتعين. يثبت العقل الكم والعاطفة تنفي الكيف. وهو نمط فكري مبني على النمط السابق من إثبات شيء ونفي صفاته مثل يستوي على العرش بلا كيف. فإذا كان الاستواء لدينا معلوما، فكيف يكون الكيف مجهولا؟ لذلك كان موضوعا للإيمان الخالص، أي هو موضوع اقتضته العاطفة ولا يستطيع العقل أمامه الحكم بشيء وإلا كان مبتدعا. هي عبارات لا تفيد شيئا. التجسيم الذي يجهله البشر إثبات للعلم وللجهل في آن واحد. وهذا نفي للعلم وتأكيد للسر، ونفي للوضوح، وإنكار لسلطان العقل.
31 (5)
إثبات شيء بشيء هو نفس الشيء: يرمي هذا النمط الفكري إلى مجرد الحركة العقلية وإصدار حكم، ولكنه يعود من جديد ويعرف الشيء بالشيء كمن يعرف الماء بالماء والهواء بالهواء. وذلك مثل عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته. فهي عبارات تدور حول المشكلة ولا تحلها كمن يقوم بخطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام وإحجام، قول وصمت. وذلك تعبير عن فعل الشعور: التشبيه والتنزيه، أو الإثبات والنفي.
32 (6)
تحديد شيء معلوم بشيء مجهول: وذلك مثل تعريف الإنسان بالملاك أو تعريف الإنسان بالله. إذا وضع العقل موضوعا تأتي العاطفة وتضع محمولا. وهو معروف في المنطق بعدم جواز تعريف شيء بشيء آخر يحتاج إلى تعريف أو ضرورة كون المعرف به أوضح من المعرف. فالعقل يضع المشكلة وهو غير قادر على حلها نظرا لأنها موضوعة وضعا لا شرعيا مغتربا ولا يجد حلا إلا في اللجوء إلى العاطفة والغوص فيها هروبا منها وإيهاما بحلها دون أن يقوم العقل ذاته بتصحيح السؤال والعود إلى العالم من أجل الإجابة عليه وإيجاد حل له.
33 (7)
تفسير شيء بشيء آخر يحتاج إلى تفسير: وذلك أيضا نوع من تفسير شيء معلوم بشيء مجهول. ولكن المجهول هنا ليس على الإطلاق، بل مجهول يمكن معرفته بشيء آخر لا يكون هو الشيء الأول وإلا وقعنا في الدور من جديد. فإذا قلنا مثلا: «المقتول ميت بأجله» يكون السؤال: وما هو الأجل؟ فهذا وضع لسؤال خاطئ ثم هروب من الإجابة إلى عواطف الإيمان. وكل سؤال يضعه العقل وضعا خاطئا نتيجة لاغتراب الإنسان في العالم فإنه لا يجد له إجابة إلا بالغوص في عواطف الإيمان. فالإجابة العقلية تستدعي تصحيح السؤال الخاطئ وذلك بالعود إلى العالم وقضاء على الاغتراب فيه.
34 (8)
السجع العقلي: ويعني ذلك صياغة عدة عبارات لا تدل على شيء، والتي هي أقرب إلى «المط» اللغوي منها إلى العبارات التي تفيد معنى، وكأن الألفاظ ليس لها ثمن يمكن الاستكثار منها بلا حساب، مثل اليد التي يمسك بها. ففيم اليد إن لم تكن للمسك بها؟ أو مثل: مكتوب في مصاحفنا. وأين الكتابة إن لم تكن في المصاحف؟ أو مثل: الحي الذي لا يموت. وماذا يفيد الحي إن لم يكن الذي لا يموت؟ هذا التكرار هو السجع العقلي، أي الرغبة في قول شيء دون أن يكون هناك شيء يقال، فيستخرج من العبارة بطنها وجوفها وأحشاؤها دون أن تضيف جديدا على العبارة الأولى.
35 (9)
السجع اللغوي: ويعني ذلك صياغة عدة قضايا تقوم على الاشتقاق اللغوي من أجل إكمال عناصر القضية دون إفادة أي معنى، مثلا: «يعدم المعدوم في حال عدمه معدوما» عبارة لم تقل شيئا إلا أنها اشتقت من لفظ «عدم» اسم مفعول واسم فعل من أجل صياغة قضية مركبة. هنا يدور الفكر على نفسه باستعمال الألفاظ.
36
فإذا ما ضاقت اللغة العادية تشتق لغة غريبة وألفاظ جديدة غير الألفاظ الشائعة كي توحي بأنها تعبر عن معاني جديدة وهي لا تعبر عن شيء، وكأن اللفظ الجديد بنفسه قادر على كشف معاني جديدة وذلك مثل الكيفوفية والحيثوثية والأحموقية وهي لا تزيد كثيرا عن الكيف أو الكيفية والحيث والحيثية والأحمق أو الحمق. وهو ما زال سائدا في فكرنا المعاصر خاصة عند مفكري الشام.
37 (10)
الخلط بين الأسماء: ويعني ذلك افتراض أن الأسماء قد اختلطت، وأن كل اسم يفيد مسمى آخر، ومن ثم يجب أن يحل إشكال الأسماء. فمثلا بالنسبة إلى الصفات يسأل: هل تفيد كل صفة معناها أم أنها تفيد معنى غيرها؟ هل تتغاير الصفات؟ هل تعني حي قادرا أو تعني قادر حيا ؟ هذا نوع من المشاكل الوهمية التي يخلقها المتكلم من أجل خلق فرصة يعبر به عن نشاطه العقلي المختزن وراء عواطف التأليه. كيف تكون الحياة هي القدرة حين يسأل هل معنى حي أنه قادر؟ هل الصفات متغايرة أو واحدة؟ وإذا كانت واحدة فلم تغايرت الأسماء؟ فإثبات الوحدة يعطي الفرصة لأن يكون المؤله أعظم من البشر الذين تتغاير لديهم الصفات وإثبات التغاير بديهية لا تحتاج إلى تأكيد.
38 (11)
تجاوز الممكن إلى المستحيل: وهنا يقوم العقل بافتراض شيء ممكن ويتساءل إذا كان المؤله قادرا عليه أو على جنسه. وبطبيعة الحال تكون الإجابة بالإثبات ليس فقط لأنه قادر عليه فالقدرة على الممكن أمر سهل بل لإثبات تدخل القدرة المطلقة في كل شيء حتى في الممكنات الإنسانية المحضة.
39
فالإثبات هنا يقوم على عدم الاكتفاء بالحد الأدنى والذهاب إلى الحد الأعلى حتى يثبت الحد الأدنى بطريق الأولى. والقدرة على المستحيل تثبت القدرة على الممكن بطريق الأولى. فالاستدلال هنا يأتي من الأعلى إلى الأدنى، من الأكثر إلى الأقل. (12)
تجاوز المستحيل: ويعني ذلك وضع عدة مشاكل تدل على الاستحالة على الأقل بالنسبة إلى الإنسان، ثم تجاوزها للتعبير عن أقصى قدر ممكن من عواطف التأليه. وتكون المستحيلات مثل العلم بالأشياء قبل كونها، الجمع بين الأضداد، القدرة على الظلم وهو افتراض تناقض بين النظر والعمل أو بين الفكر والوجود. فيمكن السؤال مثلا: هل يطير الإنسان؟ وتكون الإجابة بالطبع لا. وتكون النتيجة ولكن الله يطير. أو مثل هل يستطيع الإنسان أن يعلم ما لا يكون؟ فتكون الإجابة بالطبع لا. وتكون النتيجة ولكن الله قادر على علم ما لا يكون. هذه العبارات من شأنها الاعتراف بالعجز الإنساني من أجل إثبات قدرة المؤله المطلقة. والمطلوب إجابة تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال، وليست إجابة عقلية عن مشكلة واقعية.
40
فهذه التساؤلات كلها مثل هل الله لم يزل عالما بالأجسام؟ هل المعلومات معلومات قبل كونها؟ هل الأشياء أشياء لم تزل أن تكون؟ ليس المقصود منها إعطاء إجابات عقلية بنعم أو لا، بل تجاوز الحدود الإنسانية للوقوع نهائيا في الوهم والخيال، في دائرة العواطف والانفعالات. لما كان الإنسان لا يستطيع أن يعلم الأجسام إلا بعلم بعدي بعد أن توجد الأجسام، إلا أن المؤله هو القادر على العلم بها علما قبليا قبل أن توجد. وحتى هذا التصور للتعظيم والإجلال إنما هو تصور إنساني خالص. فالإنسان لديه حدس بالأشياء قبل حدوثها، ويعلم بعض الموجودات علما قبليا دون تجربة، وتكون الأشياء في ذهن الفنان قبل أن تخلق أعمالا فنية. (13)
الخلط بين حكم الواقع وحكم القيمة: ويعني ذلك أن عديدا من العبارات لا تهدف إلى وصف شيء في الواقع، بل إلى مجرد التعبير الإنشائي تعبيرا عن عواطف التأليه وذلك مثل: ما مقدار الله؟ مقداره أحسن الأقدار. أين يوجد؟ يوجد في كل مكان. ومثل العبارات التي يحكم بها على الأشياء بأفضل وأعظم وأجل، وهي صياغات أفعل التفضيل والمبالغة.
41
وهنا يكون الحكم مجرد ارتفاع بالنفس وصعود بالروح، وكلما كان الموضوع متعاليا كان أكثر تعبيرا عن الألوهية التي تتجلى في النهاية في التعالي المستمر كعملية شعورية خالصة. (14)
قلب العالم الإنساني: وهنا تأتي عبارات عدة ليس المقصود منها وصف واقع أو حتى التعبير عن عواطف التأليه، بل مجرد نفي كل ما يوجد في العالم الإنساني من وقائع وقلبه رأسا على عقب. فإذا كان الإنسان يفعل لغاية فأفعال المؤله ليست لغاية. وإذا كان الإنسان يفعل لغرض فأفعال المؤله منزهة عن الغرض. وإذا كان الإنساني خضع للأهواء فالمؤله لا يخضع للأهواء. ويمكن الاستطراد في هذا القلب إلى ما لا نهاية. وهي العبارات التي تظهر في الطريق السلبي في التعبير عن عواطف التأليه والتي تنفي مظاهر النقص عن المؤله.
يمكن القول إذن إن الجهاز العقلي لعلم الكلام يتضمن مقولات إنسانية خالصة تستعمل كتمرينات عقلية للتعبير بمناسبتها عن عواطف التأليه، بدءا من عواطف التعظيم والإجلال. قد تقترب المقولات مرة من الصورة والتجريد كما قد تقترب مرة أخرى من الحس والعيان. ويظل السؤال: هل هذه الجعبة من التنظير العقلي، وهو الجهاز العقلي، تحليل لواقع ويدل على تقدم فكري أم أنه تحصيل حاصل الهدف منه التنفيس عن عاطفة التأليه؟ وهو نفس السؤال المطروح بالنسبة للمثالية العقلية كلها. فهي بالنسبة للعقائد القديمة تمثل تقدما وعقلانية خالصة، ولكنها بالنسبة إلى الفكر العلمي تمثل عواطف ذاتية خالصة ومجموعة من الأماني والرغبات تقتضيها النفس وبالتالي لا تكون فكرا علميا. وبهذا المعنى يكون الجهاز العقلي الصوري خارجا عن نطاق المنطق البرهاني الاستدلالي أو المنطق الحسي الاستقرائي، ومن ثم لا تنطبق عليه مقاييس الصدق في الاثنين ولا يقاس بكونه تحصيل حاصل أو إفادة جديدة. فقد كانت مهمته إيجاد التوازن بين عواطف التأليه والصياغات العقلية لها حتى يكون الوعي متسقا مع نفسه قادرا على تحليل خبراته وإدراك انفعالاته، وفهم عواطفه.
42
وقد كان الدافع على إنشاء هذا الجهاز العقلي المتقدم بالنسبة إلى عواطف التأليه ليس فقط اتساق الوعي مع نفسه وإيجاد التوازن بين العقل والعاطفة، بل أيضا إثبات الأصالة والإبداع ضد التقليد والتبعية في الوعي الجماعي وإنشاء حضارة جديدة في مواجهة الغزو الحضاري الأجنبي.
43
وأحيانا ترفض عواطف التأليه كل جهاز عقلي لأنه لم يف بالغرض، ولم يعبر عن المؤله فيترك كلية. وتبقى عواطف التأليه كما هي دون أية صياغات عقلية تعطي الأمان لصاحبها، ويشعر من خلالها بالتقوى والكفاية. فالإحساس كاف دون تعبير أو صياغة كما هو الحال عند الصوفية.
44
وفي النهاية إن كل العبارات الكلامية صياغات إنسانية خالصة على الأقل على مستوى اللغة ولاتصال بين الذوات. فاللغة إنسانية بمعنى أنها مرتبطة بالأشياء، والتعبير بها لا بد وأن يوصل معا في الأشياء، والسامع لها لا بد وأن يفهم بالإشارة إلى الأشياء. فنحن هنا أمام جدل بين الذات، خاضع للمقولات الإنسانية الخالصة. لذلك وصف منهجه بأنه منهج الجدل.
45 (4) تكوين القضايا
لما كانت كل هذه الأبنية العقلية إنما تعبر عن أوضاع نفسية واجتماعية وبالتالي كانت كل القضايا حول الذات والصفات إنما تكشف عن مضمون نفسي واجتماعي وكانت أقرب ما تكون إلى التعبيرات الإنشائية التي تعبر عن مواقف انفعالية منها إلى قضايا خبرية تصدر أحكاما على واقع أصبح من السهل تتبع نشأة هذه القضايا وكيفية تكوينها ابتداء من التجارب الإنسانية الحية النفسية والاجتماعية التي يعيشها الإنسان.
والتجربة الإنسانية الرئيسية الفردية أو الاجتماعية هي تجربة النجاح والفشل، التقدم والتأخر، النهضة والسقوط، الأمل واليأس، الحركة والسكون. فالإنسان ليس إلا وجود متوتر بين هذين القطبين يظهران أحيانا كبعدين بين الأعلى والأدنى، بين المثال والواقع، وأحيانا أخرى بين الأمام والخلف، فالأعلى هو الأمام والأدنى هو الخلف. والخلاف في العبارات إنما يدل على خلاف في المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع، المرحلة الإلهية أو المرحلة الإنسانية، في الأولى يتم تصور العلاقات بين الأطراف بين الأعلى والأدنى، وفي الثانية بين الأمام والخلف. والوجود الإنساني رسالة تحقق بين هذين القطبين، إمكانية وجود بين هذين البعدين. إذا ما تحقق بين هذين القطبين، إمكانية وجود بين هذين البعدين. إذا ما تحقق وصل إلى الكمال وإن لم يتحقق ظل ناقصا. ومن ثم كانت تجربة الكمال والنقص هي التجربة الشاملة للوجود الإنساني. فالإنسان ذو علاقة بين طرفين، بين المثال والواقع. إذا تحقق المثال حدث الكمال وإن لم يتحقق ظهر النقص. الإنسان هو هذه الإمكانية المستمرة بين الحركة والسكون.
46
لذلك كان سؤال القدماء عن الأوصاف والصفات والأسماء بصيغتين الأولى مثبتة والثانية منفية، مثل: هل الله محسن؟ هل الله غير محسن؟ هل الله عادل؟ هل الله غير عادل؟ هل الله رحيم؟ هل الله غير رحيم؟ هل الله صادق؟ هل الله غير صادق؟ هل الله حليم؟ هل الله غير حليم؟ ... إلخ. وهذا يعني أن كل صفة مرتبطة على نحو ما بالصفة المضادة وأن الإحسان وغير الإحسان واجهتان لواقعة واحدة. وأن العدل وغير العدل شيء واحد من وجهتين مختلفتين وهكذا. فما هو وجه الارتباط بين الشيء ونقيضه؟ وما هو وجه الصلة بين الضدين؟
قد تبدو في الظاهر أولوية الصفات الموجبة على السالبة، ولكن في الحقيقة تبدو الصفات والأسماء السالبة على أنها المصدر والأساس. فيبدأ واقع الظلم قبل الإحساس بالعدل. ويكون هناك وضع قسوة قبل أن تنشأ الرغبة في الرحمة. وقد يقال إن الإحساس بالعدل موجود برفض الظلم ولكن الحقيقة أن الواقع سابق على الانفعالات، فرفض الظلم سابق على الإحساس بالعدل. وهذا لا ينفي وجود طبيعة بشرية، ولكن هذه الطبيعة موجودة في واقع ومتحدة به وليست سابقة عليه سبقا زمانيا أو خلقيا. ولما كانت الصفات الإيجابية تتحدد بنفي الصفات السلبية تكون الأولوية للسلب ولوجود النقص. فالذات المشخص عادل بنفي الظلم عنه، ورحيم بنفي القسوة عنه، وصادق بنفي الكذب عنه، وحليم بنفي السفه عنه ... إلخ. بل إن نفي الصفة المضادة يكفي لإثبات الصفة الموجبة دون حاجة إلى إثبات الضفة الموجبة إثباتا موضوعيا. ويكون نفي الصفة المضادة أحد الحلول لمشكلة إثبات الصفات أو نفيها. وهو إثبات الصفة بنفي الصفة المضادة. والواقع أن كل ذلك عمليات شعورية خالصة لا تثبت أو تنفي شيئا في الواقع. فحب الحلو لا يعني كراهية المر بالضرورة، بل يحدث ذلك القلب في الشعور وطبقا لقوانين التناقض والتقابل والتضاد الصورية. وصدق القضية لا يعني كذب نقيضها بالضرورة إلا في المنطق الصوري الفارغ من كل مضمون لأنه في الواقع قد يتحد الضدان في واقعة واحدة.
47
وقد تعني الصفة نفي ضدها. وقد تنشأ الأسماء من نفي الضد. فالعالم ما ليس بجاهل، والقادر ما ليس بعاجز، والحي ما ليس بميت. وذلك يدل على أن تعريف الإيجاب يتم بالسلب، وأن أساس الثبوت هو النفي.
48
وهذا يصدق فقط على كل ما له حياة حيث يكون الضد هو الأساس. وإذا كانت الصفات مجازا لا حقيقة في الله، فمعناها نفي الضد. فهذا أقرب إلى فهم المجاز وأقرب إليه.
49
والحقيقة هو النفي والمجاز هو نفي النفي، وهو الإثبات.
وحرصا على التنزيه وعلى الاتساق المطلق في تصور الذات المشخص لأن الأضداد توحي بالحركة دون الثبات وبالنقص دون الكمال جعلت الأضداد من صفات الفعل لا من صفات الذات حتى تظل الذات موطنا للاتساق والوحدة الخالية من كل تضاد. فصفات الذات لا يجوز أن توصف الذات المشخصة بأضدادها في حين أن صفات الأفعال يجوز أن توصف الذات المشخصة بأضدادها وذلك لأن صفات الذات هي الصفات الجوهرية، وأضدادها نفي لها. فإذا كانت الذات المشخص عالم قادر حي فلا يتصور أن يكون جاهلا عاجزا ميتا. أما صفات الأفعال المتصلة بالعالم والتي تتعامل مع البشر وتدخل في علاقة مع الطبيعة فيمكن تصور أضدادها كالمحبة والكراهية والرضا والسخط.
50
فإن كان السؤال: هل يوصف الله بالضد؟ تكون الإجابة بالنفي لأن الضد موجود في الواقع، والصفات موجودة في الذات المشخص كتعويض عن العجز في الواقع وكتنزيه للذات المشخص عن صفات النقص.
51
ولكن كيف يمكن التوفيق بين نفي الضد عن الذات المشخص وبين إثبات القدرة المطلقة القادرة على فعل الضد حتى ولو كان مظهرا من مظاهر النقص؟ فالذات المشخص قادر على الجمع بين الأضداد.
52
ويؤثر البعض القدرة على الصفة المضادة، ويجعل الذات المشخص قادرا على فعل الصفة المضادة بل وقادرا بقدرة قديمة. فالله قادر على الظلم! ويؤثر البعض الآخر نفي مظاهر النقص التي تمثلها الصفات المضادة على إثبات القدرة على فعلها إيثارا للتنزيه على مستوى الكمال على القدرة المطلقة.
53
وقد ينتقل السؤال من فعل الصفات المضادة إلى مستوى القدرة على قلب الأسماء، فيكون: هل يجوز أن يقلب الله الأسماء؟ فالإجابة بالإثبات تؤثر القدرة المطلقة على اللغة وارتباط الأسماء بالمسميات، والإجابة بالنفي تؤثر الثبات اللغوي وارتباط الاسم بالمسمى حرصا على المعرفة الإنسانية وصحة الاتصال بين الأفراد عن طريق لغة متفق عليها.
54
فإذا كان السؤال وضعيا بصرف النظر عن الذات المشخص وقدرته على فعل الصفات المضادة أو على قلب الأسماء فإنه يكون: هل يجوز اليوم قلب الأسماء واللغة على ما هي عليه أم لا؟ فتتغير الأسماء إذا تغيرت هذه الاتفاقات والمواضعات. وهذا التغير يحدث طبقا للتغيرات الاجتماعية. ونفي هذا التعبير يثبت وجود الأسماء العامة بضرورة الذهن أو بضرورة الأشياء، وهي النظرة المثالية التي تجعل اللغة توقيفا لا وضعا.
55
والصفات المضادة ليست فقط على مستوى الأسماء كما هو الحال في التقليب في اللغة عندما يسمى الأسود أبيض، والعالم جاهلا، والطويل قصيرا، والبدين رفيعا، بل أيضا على مستوى القلب الشعوري.
56
فضلا عن أن التقليب في اللغة ليس مجرد تغيير في الأسماء ، بل يقوم بوظيفة فنية في الرسم المضحك للشخصيات.
والتضاد كالاتساق والانسجام والتآلف، مكون من مكونات الحياة الإنسانية. هناك تضاد في الإحساسات، سواء ما يتعلق منها بالمرئيات كالمضيء والمظلم أو الألوان كالأبيض والأسود أو الأحجام كالصغير والكبير أو الأطوال كالطويل والقصير أو الأوزان كالخفيف والثقيل أو الأصوات كالضعيف والقوي، والحاد والغليظ، أو المشمومات كالكريه والحسن أو المذوقات كالحلو والمر أو الملموسات كالخشن والناعم. وهو ما حاول الطبائعيون القدماء تصنيفه، إما في دراسة العناصر الأربعة وتأليفها أو دراسة علم النفس من حيث اتصالها بالبدن ومن حيث إنها ظاهرة طبيعية.
57
كما يوجد التضاد أيضا في الانفعالات الإنسانية التي يمكن تصنيفها أيضا إلى انفعالات إيجابية وانفعالات سلبية. فهناك الشجاعة والجبن، الجرأة والخوف، الإقدام والإحجام، الرضا والسخط، المحبة والكراهة، الكرم والبخل، التواضع والغرور. وهو ما حاول الصوفية والأخلاقيون تصنيفه والاعتماد عليه في ترقي الروح والاتحاد بالذات المؤله. ويوجد التضاد أيضا في الذهن الإنساني في مقولاته عن الضد والعكس والقلب والمعارضة والقابلة والتناقض. فلكل قضية عكس، ولكل تصور ضد، ولكل شيء مقابل. والذهن هنا تابع للإحساسات بالأشياء وبالانفعالات الإنسانية. ويقدم مقولاته للتعبير عن بناء الواقع أو بناء الشعور. ويعم التضاد شتى النواحي الإنسانية. ففي الأخلاق المثالية يوجد التناقض بين الكرم والبخل، بين الشجاعة والجبن، بين الصدق والكذب، بين التضحية والخيانة، بين الغيرية والأنانية، وهو ما يسمى بقائمة الفضائل وقائمة الرذائل. وفي الجمال هناك الحسن والقبيح، العقلي والذهني، الروحي والحسي، الصوري والمادي. وفي الدين هناك الحلال والحرام، الخير والشر، الحسنة والسيئة، النفع والضرر، النفس والبدن، الآخرة والدنيا، الملاك والشيطان، الجنة والنار، الإيمان والكفر، الثواب والعقاب. وهو ما وضح في الأخلاق القديمة وتصنيف الفلاسفة للفضائل والرذائل. كما يوجد التضاد في الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فهناك الفقر والغنى، العبد والسيد، الثورة والثورة المضادة، العامل وصاحب رأس المال، التحرر والاستعمار، التقدم والتخلف، النهضة والسقوط، وهو التضاد الغالب في هذا العصر. وكل محاولة لإلغاء التضاد هي محاولة للقضاء على مصدر الحركة في الحياة الإنسانية وفي التاريخ. ولا يكون هذا الإلغاء بأفكار الوسط والتوازن والمصالحة والتحالف والاتحاد والوحدة إلا لصالح الوضع القائم خوفا من تطور الواقع تطورا طبيعيا لصالح الطرف الغائب المقهور.
وقد ظهر هذا البناء الشعوري في كل القضايا التي يعبر بها الإنسان عن آماله وطموحاته أو عن فشله وإحباطاته. وهي العبارات التي اخذ في المجتمع المتدين معاني دينية، بل وتكون علما هو علم الكلام أو علم العقائد. فلو قمنا بإحصاء شامل لكل ما قيل عن الله، وما صدر من عبارات وقضايا تجعل الله موضوعا في قضية أو مبتدأ في جملة فإنها لا تتعدى نوعين من القضايا: الأولى قضايا إيجابية مثل الله موجود، الله عالم، الله قادر، الله حي، سواء كان المحمول من أوصاف الذات الست أو من الصفات السبع أو من الأسماء التسعة والتسعين، وفي هذا النوع من القضايا يوصف الله بصفة في صيغة الإثبات. والثاني قضايا سلبية مثل الله غير معدوم أو غير حادث أو غير فان، أو ليس في محل، أو مخالف للحوادث، أو ليس اثنين أو ثلاثة إذا ما نفينا أضداد أوصاف الذات. أو أن الله ليس جاهلا، وليس عاجزا، وليس ميتا، وليس أصما، وليس أعمى، وليس أبكما، وليس خاضعا للأهواء إذا ما نفينا أضداد الصفات السبع. أو ليس ظالما، وليس قاسيا، وليس حربا، وليس مقهورا، وليس صغيرا، وليس ناسيا، وليس بخيلا ... إلخ إذا أخذنا أضداد أسماء الله التسعة والتسعين. في العبارات الأولى نثبت له صفات الكمال، وفي العبارات الثانية ننفي عنه صفات النقص. ولا يوجد طريق ثالث كما هو معروف في الفكر الديني، وهو طريق التمثيل. فالحديث عن الله بطريق القياس وضرب الأمثال وشتى أنواع المجاز والاستعارة والكناية هي صور فنية ترجع في حقيقة الأمر إلى النوعين السابقين من القضايا، القضايا الموجبة والقضايا السالبة، القضايا المثبتة والقضايا المنفية. «فالله نور» مجاز ولكن الصياغة قضية موجبة. وكذلك «الله ليس ظلاما» مجاز ولكن صياغتها قضية سالبة.
وقد عرف القدماء هذين النوعين من العبارات أو القضايا فيما يسمى بطريق التشبيه وطريق التنزيه. يثبت الطريق الأول لله صفات الكمال وينفي الطريق الثاني عن الله صفات النقص. الآيات الأولى آيات الإثبات، والآيات الثانية آيات السلوب. وظلت التمرينات العقلية مستمرة على هذا النحو في صياغة العبارات بهاتين العاطفتين، عاطفة إثبات الكمال وعاطفة نفي النقص. وقد جمعتهما الآية البليغة:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . فالأولى سلبية والثانية إيجابية، الأولى نافية والثانية مثبتة. ولما كان السلب أولا كان أساس الإيجاب وسابقا عليه، فالشعور يبدأ نافيا وينتهي واضعا كما هو الحال في الشهادتين «لا إله إلا الله». العبارة الأولى «لا إله» نافية، والثانية «إلا الله» مثبتة. لقد أوجزت هذه الآية المشهورة طريقي السلب والإيجاب على ما هو معروف في تاريخ الفكر الديني. ف
ليس كمثله شيء
تعبير عن التنزيه الذي هو في الحقيقة رغبة في التعظيم والإجلال في صياغة عقلية، وهو أيضا معنى التعالي. كل صياغة للمؤله فإنه يند عنها لأنه أعلى وأعظم وأجل من أية صياغة بشرية. وهذا الطريق السلبي هو الأسلم عادة تجنبا لكل تشبيه أو تجسيم، وهو في الحقيقة نفي لجميع الصفات الحسية التي يرمز إليها الشيء. وهي الصفات التي يعتبرها الشعور نقصا وعيبا، ولا تليق للتعبير عن العظمة والجلالة استقاها الإنسان من العالم ونفاها عن المؤله.
58
والجزء الثاني
وهو السميع البصير
يشير إلى الطريق الإيجابي في إثبات الصفات، وهي مجموع المثل الإنسانية التي عجز الإنسان عن تحقيقها، فأسقطها إلى أعلى على المؤله وتأملها إعجابا ثم عبدها وقدسها تشخيصا. فالصفات كلها سواء كانت إيجابية أو سلبية، صفات نفس أو صفات فعل هي إسقاطات من الشعور تدل على موقف الذات أو موقف الجماعة. فالولاية والعداوة تدلان على موقف إنساني خالص يتحدد فيه الشعور بعاطفتي المحبة والكراهية أو يتحدد فيه الشعور الجماعي بالنسبة للجماعات الأخرى فيقسمها إلى جماعة مؤمنة وأخرى كافرة أو إلى دار إسلام ودار حرب. ثم يسقط هذا البناء النفسي كله على المؤله المشخص. وغالبا ما يكون ذلك لمصلحة الفرد أو الجماعة. فالمؤله المشخص يواليها ويعادي سواها. يخلق الإنسان جزءا من ذاته، ويؤلهه، أي أنه يخلق المؤله على صورته ومثاله. فهو يؤله أحلامه ورغباته ثم يشخصها ويعبدها. فالمعبود دليل على العجز، والمقدس قرينة على عدم القدرة. القادر لا يعبد ولا يقدس، بل يعمل ويحقق خططه وأهدافه. فإن عجز تسربت طاقته بتحقيق ذاتي خالص، فيتصور خططه وأهدافه وأمانيه وقد تحققت بالفعل. والتحقق بالفعل في نطاق الذات وبالخيال هو التشخيص. فتتحول العبادة إلى معبود، والفعل إلى مفعول، وتنشأ الذات التي تستقبل بعد ذلك بسهولة عديدا من الصفات، وتكون مشجبا يسهل عليه تعليق باقي الأماني الإنسانية التي لم تتحقق. وتصبح الذات الإلهية صورة للإنسان الكامل. قد يكون التعبير من الصوفية ولكنه في الحقيقة يصدق أيضا على ما انتهى إليه القدماء في التوحيد. فإن اختيار باقة من الصفات المطلقة ووضعها معا في صورة معبود تشير إلى أن الإنسان إنما يؤله نفسه بعد أن دفع نفسه إلى حد الإطلاق. فالذات الإلهية هي الذات الإنسانية في أكمل صورها.
59
والسؤال الآن: هل نشأت صفات الكمال من قلب النقص أو نشأت صفات النقص من وجود الكمال بالعقل الإنساني كبناء له؟ بصرف النظر عن علاقة العلة بالمعلول أو التحليل النفسي لنشأة الأفكار، فإنه سواء في إثبات الصفات أو في نفيها يقوم الشعور بعدة عمليات ابتداء من الواقع الحسي إلى تكوين القضايا. فالمعنى هنا يعني وصف عمليات الشعور، وكيف تتكون القضية. فلا يوجد معنى مستقل عن كيفية التكوين. منطق القضايا منطق تكويني وليس منطقا صوريا.
60 (4-1) القضايا الموجبة
في القضايا الموجبة يقوم الشعور بعدة عمليات متتالية. أولا إثبات المثل العليا الإنسانية كلها ووضعها في عبارة. ثانيا: خلق الذات المشخص كمشجب تعلق عليها هذه المثل كأعز ما لدى الإنسان ومخلوق منه. ثالثا: تعليق الصفات على هذا المشجب أو إسقاطها على الذات فتصبح صفات لها. هذه هي العمليات أو الخطوات الثلاث الرئيسية وراء تكوين القضايا. وهناك عمليات أخرى تفصيلية تحدث في الشعور وعلاقته بالأوضاع النفسية الاجتماعية تظهر أيضا في تكوين القضايا، كل على حدة على النحو الآتي: (1)
الله عالم: تعني أن الإنسان يود أن يكون عالما، فالعلم أحد المثل الإنسانية، ومن منا لا يود أن يكون عالما ويريد أن يكون جاهلا؟ ولما كان الإنسان لا يستطيع تحقيق هذا الهدف وهو العلم في حياته نظرا لأنه جاهل أو نصف متعلم فإنه لا يستطيع أن يكون عالما على الإطلاق. ومع ذلك لا يتخلى الإنسان عن الرغبة في العلم كمثل أعلى مطلق أو كفاية قصوى أو كهدف أسمى فيثبته نظرا كموضوع مثالي أي أنه يتحقق تحققا صوريا فارغا من غير مضمون، فيصبح العلم ذاتا وموضوعا في آن واحد، هدفا مشخصا. وفي هذا النوع نحو الغاية تتشخص ذات الإنسان وتتحجر وتثبت لغياب حركة التحقق منها حتى تتضخم وتصبح ذاتا مطلقا في تحول الوعي بالذات إلى وعي مطلق. وفي حالة وصف هذا الذات المشخص، وهو الذات المثالية المتعالية، فإن الإنسان لا يجد أمامه إلا الأهداف السامية والغاية القصوى التي تشخصت من قبل فيصفها بها، يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، يصف ذاته بمثله، ونفسه بغاياته. وسرعان ما تجد الصفات مشجبا لها في الذات. ومن ثم يقول الإنسان: الله عالم. فمعنى الله عالم لا يأتي من تحليل اللغة والانتقال من اللفظ إلى المعنى إلى الأمام بل من تحليل الشعور والانتقال من المعنى إلى اللفظ إلى الوراء. فدلالة القضية فيما قبل تكوينها وليس بعد التكوين. فالله هو الوعي بالذات، والعلم مثله الأعلى. ولكن الظروف الاجتماعية التي يعيشها الإنسان تجعل الوعي بالذات مغتربا، والمثل الأعلى لا يتحقق فيتشخص كلاهما ويتأله بعيدا عن الذات وخارج العالم فيؤله الإنسان ذاته المغتربة ويقدس صفاته ومثله التي لم تتحقق، ويصفها بأعز أمانيه حرصا عليها وتمسكا بذكراها حنينا إليها ومناجاة لها. فإذا ما تغيرت الظروف، واسترد الإنسان وعيه بذاته وقضى على اغترابه وحقق مثله الأعلى في العلم فإنه يكون متعلما لا جاهلا ويقضي على الأمية في حياته وحياة أمته وهي ليست فقط الجهل بالقراءة والكتابة بل أيضا الأمية الثقافية والحضارية والمدنية. حينئذ لا يطلق عبارة «الله عالم»، بل يقول «أنا عالم» ومجتمعي مجتمع علم، وحياتي يسودها العلم، وتقوم على أساس العلم. ولما كانت هذه الظروف لا تتغير من تلقاء نفسها بل بفعل الأفراد والجماعات، بحركة الطلائع وثورة الجماهير، فإن العبارات والقضايا والأحكام عن «الله» تكون مشروطة بمدى إحداث هذا التعبير. فالأولوية هنا للتوحيد العملي على التوحيد النظري.
61 (2)
الله قادر: وتعني أن الإنسان يود أن يكون قادرا، فالقدرة مثله الأعلى، وهدفه الأسمى، وغايته القصوى. ولكنه لا يستطيع نظرا للموانع العديدة والظروف الاجتماعية التي يعيشها والمواقف التي يجد نفسه فيها، فالقدرة لها حدود من طبيعتها أو خارجها. ومع ذلك فالإنسان لا يتخلى عن القدرة كهدف أعلى وكامل بعيد، فيتحول الهدف إلى حلم، والغاية إلى ثمن. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في العالم فإنه يقتطع جزءا من وعيه بالذات ويجعله وعيا مطلقا في حركة فارغة نحو الإمام المسدود، أي نحو الأعلى المفتوح، وعيا فارغا من الوعي، وعيا خارجيا مطلقا يغرق الإنسان والعالم فيه. ولما أراد الإنسان الحديث عن هذا الوعي المطلق ووصفه ومناجاته، فإنه لم يجد في جعبته إلا مثله العليا. فوصف أعز ما لديه بأغلى ما لديه، وقدم للضيف العزيز أفضل ما لديه من باقات الزهور وأطباق الطعام، فوصف نفسه بنفسه، وتحدث عن وعيه بصفاته وقال: «الله قادر». فإذا ما تغيرت الظروف وأصبح الإنسان قادرا بالفعل على تحقيق مثله الأعلى وقضى على ظروف العجز وموانع القدرة فإن القدرة تصبح واقعا ملموسا، عيانيا مشاهدا، وتتوقف عن أن تكون حلما. وفي نفس الوقت يسترد الإنسان ذاته المغترب، ويعود الوعي المطلق من خارج العالم إلى وعي بالذات داخل العالم. وبعد أن كان الوعي منغلقا على نفسه يغوص في عواطف الإجلال والتعظيم والتأليه فإنه يصبح وعيا بالذات ووعيا بالعلم ووعيا بالآخرين. ومن ثم لا يحتاج الإنسان إلى وصفه لأنه مشاهد بالعيان، تجربة حية مباشرة. ولكن الذي يغير ظروف العجز إلى ظروف القدرة هي الذات نفسها في حركتها الواعية وقدرتها على فك هذا الحصار، ابتداء من نقاء الطلائع وتجنيد الجماهير، ومن ثم يصبح المجتمع كله قادرا وبالتالي لا يقولن أحد «الله قادر». (3)
الله حي: وتعني أن الإنسان يريد أن يكون حيا وأن يحافظ على حياته لأنه يتنفس ويشعر. فالحياة الكاملة مثله الأعلى، وهدفه الأسمى، وغايته القصوى. وما أكثر ما قرأ عن الحياة ورأى فنا يعظم الحياة، وما أكثر ما ينفعل لشعار «الفن للحياة» أو «الحياة للحياة». ولكن الإنسان ميت بالفعل، لا غذاء ولا كساء ولا مأوى. لا يتنفس إلا التراب، ولا يتحرك إلا بحساب، ولا يشعر بشيء أو يشعر ويخفي شعوره. ولدى أدبائنا الشبان تظهر تجارب الموت والغم والقرف والعدم والضياع. ويقارن الإنسان شعبه الميت بالشعوب المجاورة الحية فيحزن ويغتم ويزداد موتا على موت. بل كثيرا ما يتمنى الموت وهناء القبر، فالموت سكون وهدوء وطمأنينة، حتى أصبحت الحضارة كلها حضارة الموت لا ترى الحياة إلا بعد الموت. ومع ذلك لا يريد الإنسان أن يتخلى عن الحياة كمثل أعلى لم يتحقق، ويظل محافظا عليه فيتجسد ويتحجر ويتجمد ويتحول إلى حياة وكفن، إلى كنز دفين يحرص عليه، يحزن على ضياعه، ويتغنى بلحظاته. ولما كان الإنسان ذاتا مغتربا في العالم، لا وجود له ولا بقاء، فإنه يقتطع من ذاته ذاتا أخرى يضع فيها وعيه بالذات ويجد فيها بديلا عن العالم الضائع، وطرفا آخر للحوار بعد غياب كل الآخرين، ويقذف بها خارج العالم، فتصبح الذات المطلق بفعل حركتها الخاوية، من الذات إلى الذات، فارغا من غير مضمون، موضوعا للتأليه، وكيانا للإجلال والتعظيم. فإذا ما أراد الإنسان أن يتكلم ويعبر فإنه يصف هذا الذات ويناجيه ويتصل به ويتعبده ويسأله ليجيب، ويدعوه ليستجيب، فلا يجد في جعبته إلا صفاته وكنزه الثمين، الحياة المحفوظة، فيصف الذات بأنه حي، يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، يصف نفسه بنفسه، ويضع محموله على موضوعه، وخبره على مبتدئه ويقول: «الله حي». فإذا ما تغيرت الظروف، وعاد إلى الحياة، وحافظ عليها، وتمتع بها، وعشقها، وأصبح حيا، ونزع عنه الكفن، وزاح عنه رداء الموت، تتحقق الحياة بالفعل، ولا تعود مثلا أعلى، تمنيا وحلما. وفي نفس الوقت يسترد ذاته المغترب ويعي ذاته الفرد، فالشعور مستقل عن واقعه وإن كان فيه. الوعي الفردي قوامه الحرية وإن كتمت وأخمدت. وفي هذه الحالة لا يحتاج الإنسان إلى وصفها بل يحققها بالفعل. والذي يقضي على الاغتراب ويحول الإنسان من الكلام إلى الفعل، من العبارة إلى الشيء، من المفهوم إلى الماصدق، من إطلاق الوصف إلى تحققه في الموصوف هي قدرة الذات الواعي على تجنيد الجماهير، وتغيير الواقع، والإصرار على الحياة، ورفض الموت والخنوع. (4)
الله سميع: وتعني أن الإنسان يود أن يسمع وأن يدرك ما حوله وأن يعي ما يسمع. يسمع القول، ويدرك الصوت، ويحدث له بعد السمع الإدراك وبعد الحس الفهم. ولكنه أحيانا لا يسمع ولا يدرك أو يسمع ويمنع نفسه من الإدراك أو يدرك ويجعل نفسه غير فاهم إيثارا للسلامة وأملا في النجاة. ومع ذلك يظل الوعي المدرك من خلال السمع مثلا أعلى له. ويظل كل من سمع القول ويدركه بالنسبة له أملا لا يتخلى عنه أو حلما يراوده بالرغم من استحالة ذلك في الواقع. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في العالم، وعيه بالذات مشخص خارجا عنه ومجسدا فيه، فإن الشوق ينازعه إليه، والحنين يتجه نحوه، وتظهر ضرورة المناجاة، فإذا ما أراد وصفه والحديث إليه ومناجاته والابتهال إليه لحاقا بالوحدة بين الذات المسلوبة والذات المشخصة، بين الذات الفارغة في الداخل والذات الحسية في الخارج، فإنه يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، يصف ذاته المسلوبة بحلمه المجهض ويقول: «الله سميع» مبالغة في وصف السمع. فإذا ما تغيرت الظروف وأصبح الإنسان يسمع الأشياء ويدرك ما حوله، يثيره القول، وتهزه الكلمة، يتحقق الهدف من السمع ويصبح سامعا ومدركا. وفي نفس الوقت يسترد ذاته المغتربة، يرد إلى جسده قلبه المنزوع منه، ويعيد إلى بدنه رأسه المفصول عنه. يعي ذاته، ويتحول الوعي بالذات إلى وعي بالعالم، ويصبح سامعا. حينئذ لا يقول: «الله سميع». فتحقق الشيء يمنع من المبالغة والنطق به، وكأن الكلام غياب للشيء، والنطق به تعويض عن غيابه. ولما كانت الظروف لا تتغير إلا بفعل الجماهير، وبقيادة طليعتها الواعية، كانت حرية الوعي الفردي نقطة البداية لتحويل الوعي بالذات إلى وعي بالتاريخ. (5)
الله بصير : وتعني نشأة وتكوينا أن الإنسان يود أن يكون بصيرا، ويريد المحافظة على بصره ورؤيته للعالم. والبصر إدراك، والإدراك وعي بما يحيط به وفهم له. البصر شهادة على الواقع، ورؤية لأحداث العصر وإدراك لها. ولكن يحدث أحيانا أن يكون الإنسان غير مبصر، لا يسمح له بالشهادة، ويمنع من الرؤية. فيسير مغمض العينين كما سار من قبل مطرق الأذنين، شاهدا لا يرى شيئا. حماية للنفس، وإيثارا للسلامة، وبغية للنجاة، حفاظا على لقمة العيش وتربية الأولاد. ومع ذلك فإنه لا يستطيع أن يتخلى عن نموذجه ومثله الأعلى في الشعور الرائي والذات المبصر. وتظل الشهادة مكتومة في صدره، وهو أضعف الإيمان، وتظل النظرة مقلوبة إلى الداخل. محفوظة في الذاكرة، تنتظر وقت الإعلان كما تنتظر وقت الحساب. ولما كانت الذات مغتربة عن العالم. مقطوعة نصفين، نصف ميت يتحرك عليه في صورة جسد، ونصف حتى يعشقه يطلقه ويثبته وينظر إليه بعيدا عن العالم وخارجا عن محيطه، غطاء لكل شيء وستارا عليه، ولما أراد أن يناجيه ويحادثه ويجعله طرفا محاورا بعد أن عز المحاورون فلا يجد أمامه إلا أن يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه، أن يصف ذاته بمخزونه النفسي من الشهادة فيقول «الله بصير». فإذا ما تغيرت الظروف، وأصبحت الرؤية ممكنة، والشهادة واجبة، رأى بعد أن سمع، وفتحت العينان كما تطرقت الآذان، وشهد على عصره، وأصبح شاهدا عليه وربما شهيدا له. وبالتالي يسترد صفاته إلى ذاته بعد نسبها إلى وعيه المطلق خارجا عنه. وفي نفس الوقت يسترد ذاته المغترب، ويعود به إلى العالم، ويحقق الوحدة في شخصه، وتصبح ذاته واعية فردية تتصف بصفات العلم والقدرة والحياة كما تتصف بصفات السمع والبصر. والذي يغير الظروف هو هذا الوعي ذاته بأن يصبح بؤرة للوعي التاريخي المتمثل في حركة الجماهير وقدرته على الاتحاد به ومعرفة مساره ومراحله. فهو وعي حر ومستقل يستطيع أن يستل نفسه من إطار الحتمية التاريخية، وباجتماع الحرية والضرورة يتحرك التاريخ. (6)
الله متكلم: وتعني أن الإنسان يود أن يكون متكلما، يحافظ على كلماته، ويحرص على النطق بها. فكما يسمع ويبصر فإنه يتكلم. النطق تعبير عن الوعي وإبلاغ لمضمون الإدراك، وإيصال له للآخرين. ولكل الإنسان في عالم يكتنفه الصمت، ويعمه الخرس، يضع كل إنسان فيه يديه على أذنيه وعلى عينيه وفوق شفتيه وشعاره: «لا أسمع، لا أبصر، لا أتكلم»، أو «ممنوع من السفر، ممنوع من الكلام»، مسلوب الحرية، حرية التعبير وحرية القول. وإن تكلم فإنه يحدث نفسه أو يهمس في آذان الأصدقاء ويسر إلى الجيران أو ينطلق الحديث في حجرات النوم أو كتابة في دورات المياه خوفا من العيون والآذان. فإذا ما تحدث علنا فإنه لا يتحدث إلا نفاقا وتملقا دون قول كلمة أو صدى. ومع ذلك لا يستطيع أن يتخلى عن الكلام كمثل أعلى وكرغبة دفينة يتمناها، وهدف أسمى يسعى إليه ليكون صادقا مع النفس، مطلقا لطاقاته، ممارسا لحرية القول. يظل الكلام حبيسا في الصدر، كلاما ضامرا يتحدث به إلى نفسه، فهو المتكلم والسامع، المبلغ والمبلغ إليه، الرسول والمرسل إليه. ولما كان الوعي بالذات قد قذفه الإنسان خارجا عنه وشخصه في الكون عاش غريبا في العالم بلا وعي بالذات أو بالعالم، عاش متأملا لذاته خارجها دون إدراك أو وعي لأي مضمون لها. ولما أراد الحديث مع نفسه ومناجاة وعيه المشخص خارجا عنه فإنه يصفه ويتصوره بأغلى ما لديه، بمثله الأعلى المكتوم في الصدر وهو الكلام فيقول: «الله متكلم». فإذا ما تغيرت الظروف، وقضى على الاغتراب، واسترد الإنسان وعيه بذاته، وحقق الوحدة في داخله، يتحول الوعي المطلق بالذات إلى وعي بالذات وبالعالم، ويسترد الوعي بالذات صفته المسلوبة المعارة إلى الآخر ويصبح متكلما. فيفتح الإنسان فمه، وتحل عقدة لسانه، ويتفوه بالكلام وبعيون الكلام. يجهر بالصوت، يسمعه القاصي والداني، يتوجه بالنداء، ويصبح هو المتكلم. يتحقق مثله الأعلى في محيطه، يسمع صوته وينتبه الناس. والذي يغير الظروف هو مقدار الوعي بالذات، والقدرة على قيادة أمة، وتجنيد الجماهير، وأن يتقابل الوعي الفردي بالوعي التاريخي حتى تتحدد حرية الوعي بحتمية التاريخ. (7)
الله مريد: وتعني أن الإنسان يريد ويبغي ويتوق، ويريد حرا بمحض إرادته. فالإرادة تعبير عن الذات وازدهار للوجود وتحقيق له. ولما كان الإنسان يعيش في عالم قهر وتسلط يمحو إرادته، ويردها إلى نفسه، فتظل حبيسة في داخله، مطلوبة بين جنباته، ويصبح الإنسان عاجزا عن فعل شيء، وجوده غير محقق، ورغباته غير مشبعة، وطاقاته حبيسة. ومع ذلك فإن الإنسان لا يتخلى عن مثله الأعلى، ولا يتنازل عن حرية إرادته فيتكتم عليها، ويحافظ على إمكاناتها فتتحول إلى موضوع متعال غير متحقق. ولما كان الإنسان مغتربا في العالم فيتحول وعيه بذاته، وعلى غير وعي منه، إلى وعي مطلق يرى فيه نفسه الضائعة ويثبت فيه وجوده المغترب، يعيش له وبه، يخلقه مع أنه خالقه، ويفنيه مع أنه باق عليه. ولما كان يريد محادثته ومناجاته، وسؤاله ودعاءه، ووصفه وتصوره، فإنه يصفه بمثله الأعلى المكتوم الحبيس، من كنوزه النفيسة الدفينة، إفراجا عنه واستعمالا لها وكنوع من التحقق اللغوي الكلامي لها فيقول: «الله مريد». فإذا ما تغيرت الظروف، وسقطت نظم القهر والتسلط، وانطلقت إرادة الإنسان الحرة من عقالها، وتحقق مثله الأعلى فأصبح مريدا فاعلا، يزدهر وجوده، وتتأكد حياته، وتنتشر ذاته، ويسترد وعيه المسلوب المشخص خارجا عنه المتحجر فوقه، ويصبح مريدا كما أصبح سامعا بصيرا متكلما. فيصبح الإنسان في نهاية المطاف عالما قادرا حيا، سميعا بصيرا، متكلما مريدا. ويصبح وعيه بذاته هو الوعي المطلق، متحققا في التاريخ، يسير على قدمين، ومحمولا على جسد، يهز العروش والتيجان، ويسقط أنظمة الجهل والعجز والموت، ويقضي على نظم الكبت والتسلط والسيطرة. ولما كانت الظروف لا تتغير إلا بتفاعل الوعي الفردي مع الوعي التاريخي فإن تحرر الوعي الفردي أولا يحرك حتمية التاريخ، ويرجع الشعوب إلى مسارها الطبيعي حتى تأخذ مصيرها بيدها فتكتب التاريخ وتسطر حروفه.
إذن عبارات: الله أعلم، الله قادر، الله حي، الله سميع، الله بصير، الله متكلم، الله مريد، إنما تعكس مجتمعا جاهلا عاجزا ميتا، لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، مسلوب الإرادة. وبالتالي يكشف الفكر الديني الذي يجعل الله موضوعا في قضايا من هذا النوع عن الظروف الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع الذي تطلق فيه أمثال هذه القضايا. فالله كموضوع في قضية خير مشجب لأماني البشر، وأصقل مرآة تعكس أحلامهم وإحباطاتهم. علم الكلام إذن تعبير عن عجز الأفراد والشعوب عن أخذ مصائرها بيديها والدفاع عن حقوقها بأنفسها، حقوقها في العلم والإرادة والحياة، وحقوقها في السمع والبصر والكلام والإرادة، وتعبير عن أوضاع الجهل والعجز والموت والصمم والعمى والبكم والهوى. علم الكلام يكشف إذن عن وضعين، وضع قائم ووضع قادم، إقرار بواقع، رؤية مستقبلية. علم الكلام خير كاشف عن وجود الإنسان بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والأسطورة، وخير معبر عن الإنسان في تجاربه في الحياة، النجاح والفشل، اليأس والأمل، النصر والهزيمة، التقدم والتخلف، النهضة والانهيار.
ويمكن تحليل أوصاف الذات الست بنفس الطريقة عندما نقول: الله موجود، الله قديم باق، الله مخالف للحوادث، الله قائم بالنفس ليس في محل، الله واحد.
62
فقضايا الذات إنما نشأت وتكونت بنفس المنطق الشعوري التي نشأت به وتكونت قضايا الصفات، وخضعت لنفس العمليات الشعورية التي تكمن وراء تكوين القضايا، فمثلا: (1)
الله موجود: تعني أن الإنسان موجود ولكن وجوده ضائع. ومع ذلك فإنه لا يتخلى عن وجوده كمثل أعلى. وإذا أراد وصف وجوده المشخص خارجا عنه نظرا لاغترابه في العالم فإنه يصفه بأعز ما لديه فيقول الله موجود. فإذا ما تغيرت الظروف ويكون موجودا بالفعل فإن مثله الأعلى يتحقق ويصبح موجودا. عندما يقضي على اغترابه يصبح موجودا في العالم وليس خارج العالم، موجودا حقيقة لا وهما، واقعا لا خيالا، حسا لا افتراضا. يسترد الإنسان وصفه الأول وهو الموجود ويصبح الإنسان موجودا ولا يشعر الإنسان حينئذ بحاجة إلى استنباط وجود الله من الفكر إذا ما وجد الإنسان بالفعل. ولا تتغير الظروف إلا بوجوده كفرد وبوجود الجماهير كجماعة. بالتالي تتحقق حرية الفرد في حتمية التاريخ. (2)
الله قديم: تعني أن الإنسان قديم، له جذوره التاريخية وتراثه السابق وحياته الماضية من خلال الآباء والأجداد، ممتد في الزمان. ولكن في الواقع يصبح الإنسان مقطوع الصلة، مجتث الجذور، تابعا مقلدا. ولما كان الإنسان لا يتخلى عن صفة القديم كقيمة ومثل أعلى كما يبدو ذلك في الأمثال العامية، فإنه يؤله الصفة التي لم تتحقق. ولما كان يعيش مغتربا في العالم يخلق ذاتا مطلقة من ذاته، ثم يريد أن يصفها فيصفها بأعز ما لديه وهو القديم ويقول: «الله قديم». فإذا ما تغيرت الظروف وتحققت الأصالة في الوجود، واكتشف جذوره في التراث تتحقق صفة القدم في حياته. فإذا ما استرد ذاته وقضى على الاغتراب فإن الصفة تتحقق في الذات وتعود إليها. ويتم ذلك بفضل الوعي الذاتي للوعي التاريخي من خلال تجنيد الجماهير وحركتها فيه. (3)
الله باق: تعني أن الإنسان يود البقاء، وأن يظل في القلوب، حيا في ذكريات الناس، يريد أن يتجاوز الزمان، ويتغلب على الفناء، وأن يستمر في الوجود. ولكنه يعيش في ظرف يفرز فيه الفناء، ولا يبغي له البقاء، لأنه يتنكر لوجوده، ولا يعترف به. يضعه في السجون ويدعوه إلى الهجرة، ويحدد نسله، وعدم الإنسان بالنسبة له أفضل من وجوده. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في العالم قذف بنفسه خارج نفسه في ذات مشخصة يتعبدها، واحتاج إلى مخاطبتها ووصفها، فإنه يصفها بحلمه الذي لم يتحقق وهو البقاء، فيقول: «الله باق». فإذا ما تغيرت الظروف وأصبح في الدنيا خالدا، وبقي في أذهان الناس حيا في شعور الجماهير، واسترد ذاته بعد وعيه بالذات، فإن صفة البقاء تتحقق فيه بتحقق ذاته. ويتم ذلك في الوعي الفردي كإرهاص للوعي الاجتماعي. (4)
الله مخالف للحوادث: يعني أن الإنسان يود ألا يكون شبيها بالأشياء، وأن يكون فردا ليس كمثله شيء، متفردا، لا يتكرر. ولكن ظروف العصر تجعله يعيش في عالم الأرقام، كل فرد رقم، وتتكرر الأرقام، وتفقد الهويات، فأصبح الإنسان شبيها بالأشياء. ومع ذلك تظل الرغبة في التفرد لديه حلما لم يتحقق، وأمنية يصبو إليها، وهدفا أعلى يسعى إليه قدر الإمكان. ولما كان الإنسان مغتربا في العالم يعيش خارجه، آخذا من ذاته جوهرها ولبها ذاتا أخرى يشخصها، احتاج للحديث عنها ومناجاتها ووصفها وتعبدها، فلا يجد إلا حلمه الذي لم يتحقق ومثله الأعلى، فيقول : «الله مخالف للحوادث». فإذا ما تغيرت الظروف وتحقق مثله الأعلى بالفعل، فإنه يسترد وصفه ويحققه ويصبح فردا. وعندما يقضي على اغترابه ويسترد ذاته من خارج العالم إلى داخل نفسه، فإنه يصفها بوصفه وهي المخالفة للحوادث. وهذا يتم جهد الإنسان وفعله وبوعيه وإرادته حتى يستطيع بعد ذلك أن يعطي مثلا للآخرين، يلتفون حوله، ويتجندون باسمه، ويحذون حذوه. (5)
القيام بالنفس: ويعني أن الإنسان يود أن يكون قائما بنفسه، لا في محل، وإن كان يعيش في مكان، يستمد وجوده من ذاته، مستقلا عن المكان، لا يعتمد في وجوده على غيره. ولما كان الإنسان يعيش في عصره يجعله باستمرار في محل، في سجن أو دار أو شارع أو هيئة، فإنه يكون معتمدا في وجوده على غيره، ويكون له محل وسكن وعنوان وعقد إيجار. ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يحقق حلمه، فإنه لا يتخلى عنه ويظل حلما يراوده ومثلا أعلى يصبو إليه. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا عن العالم، يتعدى ذاته في غيره، في ذات مشخصة خارجة عنه، ويريد أن يصفها ويحادثها ويناجيها ويتعبدها تعويضا عن فقدان ذاته، فإنه يصفها بأعز ما لديه بحلمه المفقود وهو القيام بالنفس. فإذا ما تحقق الحلم وأصبح قائما بالنفس بالفعل، معتمدا في وجوده على ذاته، فإنه يسترد الوصف من غيره ويرجعه إلى نفسه. وفي نفس الوقت يقضي على اغترابه، ويسترد الوعي المطلق خارجه إلى داخل ذاته فيعي بذاته وبالعالم، ويصف ذاته بصفة الشرعية فيكون قائما بالنفس بالفعل ولا يطلق حكما لغويا على غيره. العبارة تعويض عن الشيء، والكلام بديل الوجود. وهذا لا يتحقق إلا بالوعي بالضروري أولا مبلورا للوعي الاجتماعي في حركة التاريخ. (6)
الله واحد: تعني أن الإنسان يود أن يكون واحدا، فردا، ذا شخصية واحدة، رؤيته واحدة، وسلوكه واحد. ولكن الواقع أن الإنسان يعيش في عصر النفاق حيث يبطن الناس غير ما يظهرون، ويظهرون ما لا يبطنون، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون، عصر الازدواجية والتملق والمداهنة والتلون. ومع ذلك فإن الإنسان لا يتخلى عن الوحدانية كمثل أعلى له قد يتحقق في يوم ما، يحافظ عليه، كامنا في نفسه. ولما كان يعيش مغتربا في العالم، يعيش في نظام لم يختره ولم يستشره أحد فيه، فإن وعيه بذاته يتحجر خارجا عنه ويتشخص فوقه، يجله ويعظمه حتى يؤلهه ويتعبده. ولما أراد وصفه ومحادثته فقد وصفه بأعز ما لديه، بحلمه الذي لم يتحقق، فيقول: «الله واحد». فإذا ما تغيرت الظروف، وتحقق الحلم وأصبح الإنسان واحدا بلا منافذ تتسرب من خلالها طاقاته، وأصبح مجتمعه واحدا بلا طبقات، بلا غني أو فقير، بلا عظيم أو حقير، بلا قاهر ولا مقهور تتحقق الصفة، وتتحول إلى واقع حي معاش. هنا يسترد ذاته المغتربة ويصبح من جديد واعيا بذاته فيرد لها وصفها المغتصب. وهذا لا يتحقق بطبيعة الحال إلا باكتمال شرطي الوعي بالذات والوعي بالتاريخ.
ويمكن تحليل الأسماء بنفس الطريقة. فما ظنه الإنسان على أنه «أسماء الله الحسنى» من أحصاها فقد دخل «الجنة» هي في حقيقة الأمر مثل الإنسان العليا النظرية من علم وخبرة وشهادة وحكمة أو العملية من عدل وقسط، وما يبغيه من رحمة ولطف وود وكرم. ولما كانت هذه المثل بعيدة المنال لم يحققها الإنسان بعد في حياته، فإنه مع ذلك لا يتخلى عنها ويظل ينظر إليها كباقة زهر يتغنى بها ويتعبدها كالكواكب الساطعة والنجوم المضيئة في ظلمة الليل البهيم. فإذا ما تحققت الحكمة والعلم والرحمة والعدل والقسط والود واللطف والحلم في حياته تتحول الأسماء إلى حالات شعورية وأوضاع اجتماعية. وعندما يستمد الإنسان ذاته المفقودة المدفوعة خارجه، والمقذوفة أعلاه، يسترد لها أسماءها فيصبح الإنسان رحيما ودودا عفوا غفورا شكورا حليما ... إلخ. وإحصاؤها هنا لا يعني عدها الحسابي، بل تحققها في حياته العملية وتشبهه بها، وتمثلها وتحويلها إلى سلوك وأبنية اجتماعية حتى يصبح المثال واقعا، والوحي طبيعة، والله عالما. والجنة هنا لا تعني الجنة الموعودة خارج الأرض، بل تعني تحقيق المثل العليا في حياته وبالتالي يتحول عالمه إلى نظام مثالي، إلى أرض موعودة جديدة، إلى دنيا تتحقق فيها الآخرة. عندئذ يصبح «ملكوت السموات» قريب، ويتحقق الوعد، ويرث الأرض العباد الصالحون، وتتحقق الخلافة، وتؤدى الأمانة، ويقابل فعل الخلق من الله بفعل الإبداع من الإنسان. فإذا كان الخلق يعني انفصام المثال عن الواقع فإن تمثل الأوصاف والصفات والأسماء كأبنية نفسية واجتماعية تعني وحدة الواقع في المثال، وبالتالي ينتهي الزمان، ويتحقق التاريخ. (4-2) القضايا السالبة
وهي القضايا التي يكون الله فيها أيضا موضوعا، ولكن يكون المحمول منفيا، فالنفي للمحمول وليس للموضوع، مثل الله ليس جاهلا، الله ليس عاجزا، الله ليس ميتا ... إلخ. وهي تعني أيضا في نشأتها وتكوينها نفس ما تعنيه القضايا الموجبة ولكن على نحو مضاد وعن طريق القلب. قد يكون النفي بحرف «لا» مثل لا في مكان، أو بالحرف «ليس» مثل ليس بجاهل، أو بكلمة «غير» أو بأداة الاستثناء مثل «إلا الله» أو بأية أداة نفي أخرى. وفي هذه الحالة يقوم الشعور أيضا بعدة عمليات رئيسية على شكل خطوات لا شعورية تكون قواعد في المنهج اللاشعوري. أولا الحكم بأن صفات الإنسان كالموت والانفعال والمعاناة والأهواء ... إلخ صفات نقص في حين أنها مكونات الإنسان وأبنيته النفسية والاجتماعية المتغيرة. ثانيا إسقاط صفات النقص هذه على المؤله المشخص القابع في الكمال ثم نفيها عنه، وهو موقف يقوم على اتهام الذات بكل صفات النقص ثم التخلي عنها وعدم تغييرها من أجل نفيها بالكامل، أي أنه موقف يقوم على تعذيب الذات وتبرئة الغير.
وتفصيلا لهاتين الخطوتين الرئيسيتين يقوم الشعور بتطبيقها على خطوات أدق. أولا: الاعتراف بالموقف الإنساني والإحساس الواقعي به على عكس القضايا الموجبة التي كان فيها الإحساس بالمثل غالبا. هنا اعتراف بأن الموقف الإنساني موقف طبيعي به الجهل والعجز والموت والصمم والبكم والعمى والانفعال، وينتابه العدم والحدوث والفناء والشيئية والمحل والكثرة، وتعتريه القسوة والعبودية والدنس والحرب والكفر والذل والانتقام والعقاب والصغار والقساوة والجحود والنسيان والإهمال والشح والفظاظة والظلم والبطلان ... إلخ إلى آخر مضادات الأسماء. بالتالي فإن الموقف الإنساني الطبيعي هذا موقف شرعي لأنه إقرار بواقع. ثانيا: الحكم على هذا الموقف الإنساني في شتى جوانبه بأنه نقص وعيب يجب التبرؤ منه والتنكر له ونفيه. وهذا هو الخطأ اللاشعوري. فالموقف الإنساني بطبيعته أقرب إلى الجهل منه إلى العلم، وإلى العجز منه إلى القدرة، وإلى الظلم منه إلى العدل. وأن عظمة الإنسان لتتجلى في القدرة على التحول من طرف إلى آخر بفعل الإرادة الحرة وبإدراك العقل المستقل. وذلك هو التحدي، وتلك هي الرسالة. فما يظن أنه نقص هو في الحقيقة كمال أو شرط كمال. وما يحكم عليه أنه عيب هو في الحقيقة شرف أو طريق الشرف. فمن عظمة الإنسان أنه يموت ليخلد، ويمرض ليصح، ويعجز حتى يقدر، ومن ثم الانتقال من الواقع إلى المثال. ثالثا: تشخيص الوعي بالذات خارج العالم وتحجره وتجميده وتثبيته خارج الإنسان ثم إجلاله وتعظيمه وتأليهه وتعبده حتى تصب الحياة كلها فيه في النهاية ويفقد الإنسان حياته ووجوده بعد أن فقد وعيه بالذات. وهي نفس المرحلة في القضايا الموجبة واستعمالها كمشجب تعلق عليه الصفات. رابعا: إسقاط كل الصفات التي حكم عليها الإنسان بأنها عيب ونقص مثل الجهل والعجز والموت وإطلاقها عليه، ورؤيته من خلالها، وكأن الإنسان يريد التخلص منها فيقذفها خارجه كما قذف وعيه من قبل خارجه. خامسا: يسارع الإنسان بنفي صفات النقص والعيب بعد إسقاطها على الذات المشخص حتى يبرئها من هذه الاتهامات التي ألقاها على نفسه ويتحمل المسئولية وحده وحتى يطهر ذاته المشخص ووعيه المغترب، طوق النجاة له وسبيل الخلاص، فيقول: «الله ليس جاهلا»، «الله ليس عاجزا»، الله ليس ميتا ... إلخ. سادسا: فإذا ما رجع الإنسان إلى الاعتراف بالموقف الإنساني وعدم إدانته، ثم عمل على تحويل الجهل إلى علم، والعجز إلى قدرة، والموت إلى حياة، لم يعد يشعر بالعيب من الأساس، من جهل وعجز وموت، بل يفخر بعلمه وقدرته وحياته. وهذا الرجوع لا يتم إلا عن طريق استرداد الإنسان لوعيه الذاتي، فيعود الذات المشخص داخل الوعي بالذات، وهذا لا يتم إلا بالوعي الفردي من داخل الوعي الجماعي.
وتطبيقا لهذه الخطوات العامة أو التفصيلية يمكن تحليل تكوين القضايا السالبة على النحو الآتي: (1)
الله ليس جاهلا: تعني أن من مكونات الموقف الإنساني الجهل. فالإنسان قد يكون جاهلا وقد يكون عالما. والتحدي أمامه هو الانتقال من الجهل إلى العلم. ثم يحكم الإنسان على الجهل بأنه عيب ونقص، وهو حكم شرعي يدل على اتجاه الإنسان وميله إلى العلم. ولما كان الإنسان مغتربا في العالم، قاذفا بوعيه بذاته خارجه، ثم أراد أن يحادث نفسه الخارجية وأن يصفها، فأسقط صفة الجهل عليه. ولكنه سرعان ما ينفيها مبرئا أعز ما لديه من أسوأ ما لديه من نقص وعيب فيقول: «الله ليس جاهلا». وفي الوقت الذي يقضي فيه الإنسان على جهله ويصبح عالما، ويسترد وعيه بذاته إلى داخله، فإنه في هذه الحالة لا يتراءى له نقصه ولا يسقطه على شيء ولا ينفيه، ولا يقول: «الله ليس جاهلا»، بل يبحث عن مظهر نقص آخر أو أن يصف الله بأعز ما لديه حينئذ وهو العلم إن لم يكن قد تحقق كلية ويقول: «الله عالم». ولكن يظل حكى النفي هو الأقوى لأن العلم في حالة التحقق ولو النسبي ليس بأعز ما لدى الإنسان؛ لأنه حصل عليه بالفعل أو في الطريق إليه. والإنسان يود وصف ذاته بحلمه وأمنيته التي لم تتحقق. (2)
الله ليس عاجزا: تعني أن الإنسان يعيش في عالم يشعر فيه بالعجز وبأنه غير قادر على تحقيق كل ما يصبو إليه. ثم يحكم لا شعوريا بأن العجز آفة وبأن عدم القدرة نقص وعيب لا بد من التخلص منه. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا مشخصا وعيه بذاته خارجا عنه وأراد أن يتوحد مع نفسه من خلال مناجاتها والحديث معها ووصفها فإنه يسقط صفة العجز عليه وسرعان ما يبرئها منها. فالإنسان لا يصف أعز ما لديه بأسوأ ما لديه وهو العجز. وإذا ما استرد الإنسان وعيه بنفسه وبالعالم واستطاع أن يقضي على عجزه وأن يصبح قادرا فإنه لن ينفي عن الله عجزه بل ينفي عنه أحد مظاهر النقص الأخرى التي لم يتخلص منها بعد. ولا يصفه بأنه قادر إما لأن القدرة قد تحققت بالفعل أو لأن النفي أقوى من الإثبات، ودفع التهمة والشبه أكثر تنزيها من الثناء والمدح. (3)
الله ليس ميتا: تعني أن الإنسان يرى الموت نقص وفناء فينزعج من الموت، ويخشى منه، ويدفعه عنه، ثم يحكم على الموت بأنه أحد مظاهر النقص مهما أله الموتى أو عبد الأموات أو حفظهم أو بنى لهم المقابر العظام وخلد آثارهم. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في عالمه يرى وعيه بذاته بعيدا عنه، متحجرا، بعيدا عن شرور البشر وآثامهم، وأراد أن يحادثه ويناجيه ويصفه، فإنه سرعان ما يسقط عليه ولو توهما، ثم يسارع بنفيه، فلا يجوز أن يصف أعز ما لديه بأسوأ ما لديه وهو الموت فيقول: «الله ليس ميتا»، فإذا ما استرد وعيه بذاته داخل العالم، وجعل الموت مظهرا من مظاهر الكمال، فالإنسان لا يخلق ولا يبدع ولا يخلد نفسه إلا لأنه ميت. والإنسان الذي لا يموت لا يصبح الخلود لديه مقصدا ولا للزمن قيمة ولا للعواطف الإنسانية دلالة. ثم يبحث الإنسان إذا ما عاد إليه اغترابه عن مظهر آخر من مظاهر النقص ليسقطه ثم ينفيه. (4)
الله ليس أصم: فالإنسان إذا ما كان أصم فإنه يصبح ناقصا في إحساسه. الصمم نقص إذ إنه لا يسمع الأصوات، ويكون الإنسان الأصم غير قادر على الحديث والاستجابة وغير قادر على سماع الوحي. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في عالمه قاذفا بوعيه خارجه ويريد الارتباط به عن طريق الحديث والحوار ويتغنى فيه، فإنه سرعان ما يسقط عليه الآفة ثم ينفيها في نفس لحظة الإسقاط، فلا يصف الإنسان كنه ذاته بعيوبه وآفاته. فإذا ما استرد الإنسان وعيه بذاته في العالم وإذا ما قضى على الصمم الحسي أو المعنوي فإن النقص يصبح كمالا ولا يقول الإنسان حينئذ «الله ليس أصم». (5)
الله ليس أعمى: وتعني أن الإنسان يعتبر العمى عيبا ونقصا، سواء العمى العضوي أو العمى الإرادي. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في العالم نازعا روحه خارجه فإنه سرعان إذا ما أراد محادثتها ومناجاتها فإنه يسقط عليها عيوبه ثم يبرئها منها كما يضحي الحبيب بنفسه من أجل محبوبه ويجعل نفسه ناقص المحامد والمحبوب كامل الأوصاف. فإذا ما عاد الإنسان إلى وعيه بذاته وبالعالم وقضى على عماه المعنوي ورأى وأبصر، فإنه لا يسقط على الله العمى بل يسقط عليه عيبا آخر لم يتخلص منه بعد. (6)
الله ليس أبكم: تعني أن الإنسان في حياته يعيش أبكم أخرس اللسان عضويا واجتماعيا لا إراديا وإراديا. وهو يعلم أن البكم العضوي إذا كان عيبا، فإن البكم الاجتماعي امتهان. ولما كانت ذاته مغتربة عن العالم مقذوفا بها خارجه يود استردادها بالكلام والحديث معها ووصفها، فإنه يسقط من نفسه صفاته. فإذا ما وجدها عيوبا فإنه سرعان ما ينفيها ويقول: «الله ليس أبكم». فإذا ما تخلص الإنسان من خرسه الاجتماعي وتكلم فإن صفة النقص تغيب عن شعوره فلا يسقطها على وعيه المقذوف خارجه، ويسقط عليه إما عيبا آخر لم يقض عليه بعد أو وصفة إيجابية حققها بجهده مع خطر المشاركة أو لم يحققها بعد وتظل مثلا أعلى لديه. (7)
الله ليس ناقصا: تعني أن الإنسان ناقص خاضع للأهواء والانفعالات، وأنه يدرك أن هذه مظاهر نقص سرعان ما يكتشف العقل حدودها وأخطاء أحكامها. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في العالم قائما بوعيه بالذات خارج العالم فإنه يود استعادته بالكلام فيضطر إلى وصفه فيسقط عليه من صفاته التي هي عيوب مثل النقص. وسرعان ما يدرك ذلك فينفيها عنه ويقول: «الله ليس ناقصا» لما كان النقص ضد الكمال الذي به يمتنع عليه كل العيوب والآفات وفي مقدمتها الأهواء والانفعالات. فإذا ما استطاع الإنسان القضاء على عيوبه وأصبح كاملا عاقلا غير خاضع للميل والهوى، فإنه يسقط على الله كمالاته دون عيوبه. ويكون السؤال حينئذ: هل يكمل الإنسان أم يظل جاهلا عاجزا ميتا أصما أعمى أخرس ناقصا؟ طالما أن الكمال غاية قصوى يظل الإنسان ناقصا، وبالتالي يظل الحديث عن الله في قضايا سالبة مستمرا وأن يتوقف إلا بتوقف مظاهر النقص الإنساني.
ويمكن بالمثل تحليل قضايا سالبة أخرى تستخدم فيها أوصاف الذات الست بعد قلبها إلى أضدادها ثم نفيها كمحمولات بنفس الطريقة على النحو الآتي: (1)
الله ليس معدوما: تعني أن الإنسان يشعر بأنه عدم وبأنه وجد من عدم ويعود إلى عدم وأن وجوده عدم نظرا لأنه يمرض ويموت. وهذه كلها مظاهر نقص، آفات وعيوب. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في العالم، يقتطع جوهره ولبه ويقذف به خارجا ثم يحاول بعد ذلك استرداده واستيعابه بالكلام بعد أن طرده بالفعل فيحادثه ويناجيه ويصفه، ويسقط عليه مظاهر عدمه. ولكن سرعان ما يفيق فينفيها ويقول: «الله ليس معدوما.» وفي اللحظة التي يصبح فيها وجود الإنسان ثابتا مقررا قائما على وجود وليس على عدم أو التي يصبح فيها العدم مظهر كمال للإنسان لأنه يكون دافعا على الوجود والبقاء، فإن هذا الوصف لن يسقط ولن ينفى. (2)
الله ليس حادثا: تعني أن الإنسان حادث، تجري عليه الحوادث، وتعرض له نوائب الدهر، ويتعرض لنوازل الزمان. يمرض ويصح، يحزن ويفرح، يفشل وينجح، وهي كلها مظاهر نقص يتبرأ منها. ولما كان الإنسان مغتربا في العالم فاصلا وعيه بالذات عنه ومجمدا إياه خارجه ثم عاشقا إياه متعبدا له، وأراد أن يناجيه فيحادثه ويصفه فيسقط عليه صفاته. وسرعان ما يكتشف عيوبها فينفيها في التو واللحظة ويقول: «الله ليس حادثا.» وفي الوقت الذي تنتفي فيه عيوبه ويستطيع مقاومة الحدوث والقضاء على مظاهره فإنه لن ينفيها بعد إسقاطها على نفسه المطلق ويعتبرها من كمالاته التي يثبتها له. (3)
الله ليس فانيا: وتعني أن الإنسان في هذه الدنيا فان، وأنه يموت، وأن عمره محدود في الزمان، وبأن لكل أجل كتاب. ولما كان الموت نقصا والفناء عيبا، فإنه ينزعج منه. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في مجتمعه فاقدا وعيه بذاته، قاذفا به خارج العالم وفي نفس الوقت يحن إليه، ويتقرب منه، ويرغب في محادثته ومناجاته فيصفه ويضطر إلى أن يصفه بما لديه من أوصاف فيسقط عليه صفات النقص مثل الفناء. وسرعان ما يدرك الأمر فينفيها عنه ويقول: «الله ليس فانيا.» وفي الوقت الذي لا يكون فيه الفناء مظهر نقص، بل مظهر كمال، فإن الإنسان لن يصف نفسه بأنه ليس فانيا . بالرغم من أن الإنسان فان إلا أنه قادر على البقاء بعمله وفكره وبالتالي لن يسقط عيبه الكامل على نفسه المطلق. (4)
الله ليس مشابها للحوادث: تعني أن الإنسان مشابه للحوادث. فهو مرئي وجسم، جوهر وعرض، له طول وعرض، يتحرك ويسكن، وهي كلها مظاهر نقص. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا بوعيه خارج العالم محجرا إياه بعيدا عنه وأراد أن يحادثه ويناجيه فيصفه بما لديه وهو المشابهة للحوادث. ولكن سرعان ما يكتشف أنه لا يستطيع أن يصف وعيه، وهو أغلى ما لديه، بحدوثه ونقصه، وهو أسوأ ما لديه فينفيه ويقول: «الله ليس مشابها للحوادث.» وفي الوقت الذي يصبح فيه الحدوث مظهرا من مظاهر الكمال فالإنسان يتحرك ويسكن، ويصح ويمرض، ولكنه يحمل أمانة ورسالة قادرا على تحقيقها فإنه لن ينفي الحدوث عن الله. (5)
الله ليس في محل: تعني أن الإنسان في هذا العالم موجود باستمرار في محل؛ أي في مكان وزمان، محدد الحركة والانتشار. والمحل نقص لأن الرؤية فيه محدودة. ولما كان الإنسان مغتربا في العالم قاذفا بوعيه بذاته خارج العالم في دائرة ضوء مركزة ويريد أن يصفها ويتغنى بجمالها فلا يجد أمامه إلا أن ينفي عنها مظاهر نقصه وعيبه ويقول: «الله ليس في محل.» وفي الوقت الذي يقدر فيه الإنسان على أن يتجاوز حدود المكان وأن يتجاوز الرؤية المحددة فإنه لن ينفي عن الله صفة النقص هذه. (6)
الله ليس متعددا: وهذا يعني أن الإنسان متعدد الجوانب والقوى وأنه متكثر. فهناك بشر عديدون، أقوام وأجناس، وهي كلها من مظاهر التشتيت والتشرذم والحرب والصدام والتقاتل والصراع. ولما كان الإنسان يعيش مغتربا في العالم، قاذفا بوعيه خارجا عنه، متحجرا جامدا متقوقعا، وأراد أن يتصل به وأن يناجيه ويسأله ويصفه فينفي عنه مظاهر نقصه وعيبه، وهو التعدد والتكاثر فيقول: «الله ليس متعددا.» وفي الوقت الذي يصبح فيه التعدد ميزة والتكثر فضيلة من خلال وجهات النظر المتعددة المتحاورة فإنه لن ينفي عن الله حينئذ صفة التعدد هذه.
ويمكن تحليل القضايا التي تستخدم فيها أسماء الله التسعة والتسعون بعد قلبها إلى أضدادها ونفيها كمحمولات بنفس الطريقة ولو أنها لا تأتي إلا في قضايا موجبة. ولكن لما كان السلب هو الأصل، فإنه يمكن تحويلها إلى قضايا سالبة. فمثلا الله رحمن رحيم تعني أن الله ليس قاسيا، وأنه ملك تعني أنه ليس مملوكا، وأنه قدوس تعني أنه ليس مدنسا، وأنه سلام تعني أنه ليس حربا، وأنه مؤمن تعني أنه ليس كافرا، وأنه مهيمن تعني أنه ليس مهيمنا عليه، وأنه عزيز تعني أنه ليس ذليلا، وأنه غفار تعني أنه ليس منتقما، وأنه قهار تعني أنه ليس مقهورا، وأنه خالق تعني أنه ليس مخلوقا، وأنه حكم تعني أنه ليس محكوما عليه، وأنه عدل تعني أنه ليس ظالما، وأنه لطيف تعني أنه ليس فظا، وأنه شكور تعني أنه ليس جاحدا، وأنه علي تعني أنه ليس دنيا، وأنه عظيم تعني أنه ليس حقيرا، وأنه كبير تعني أنه ليس صغيرا، وأنه حفيظ تعني أنه ليس ناسيا، وأنه كريم تعني أنه ليس شحا، وأنه رقيب تعني أنه ليس غافلا، وأنه واسع تعني أنه ليس ضيقا، وأنه حكيم تعني أنه ليس متهورا، وأنه ودود تعني أن ليس معاديا، وأنه الحق تعني أنه ليس باطلا، وأنه القوي تعني أنه ليس ضعيفا، وأنه الصمد تعني أنه ليس أجوف، وأنه الجامع تعني أنه ليس المفرق، وأنه غني تعني أنه ليس فقيرا، وأنه النور تعني أنه ليس ظلاما، وأنه الهادي تعني أنه ليس مضلا، وأنه بديع تعني أنه ليس مجدبا أو مقلدا ... إلخ.
63
كل هذه الأسماء المقلوبة مظاهر نقص مثل القسوة والعبودية والدنس والكفر والذل والانتقام والقهر والظلم والفظاظة والجحود والدنية والحقارة والصغار والنسيان والشح والغفلة والضيق والتهور والعداوة والبطلان والضعف والتفرق والفقر والظلام والضلال والجدب أو التقليد ... إلخ. ينفيها الإنسان بعد أن يلصقها بوعيه بالذات المغترب خارج العالم. وفي الوقت الذي يقدر فيه الإنسان على أن يبرئ نفسه من مظاهر النقص هذه ويصبح كاملا رحيما ملكا سلاما مؤمنا مهيمنا عزيزا غفارا خالقا حاكما عدلا لطيفا شكورا عليا عظيما كبيرا حفيظا كريما رقيبا واسعا حكيما ودودا حقا قويا صمدا جامعا غنيا نورا هاديا بديعا ... إلخ فإنه لن ينفي عن الله أضدادها وهي صفات نقصه بعد أن توارت ولم تعد حية في شعره، يتبرأ منها ويبرئ منها وعيه بذاته المدفوع خارجا عنه. لذلك كان موقف الصوفية أصدق بجعل هذه الأسماء الحسنى مثلا عليا يتشبه بها الصوفي حتى يحولها إلى صفاته الخاصة، ويكون التصوف هو التشبيه بصفات الله أو إسقاط صفات الخلق والتشبه بصفات الحق. وتكون غايته تحقيق الإنسان الكامل؛ أي إسقاط الصفات الإنسية والتحلي بالصفات الإلهية. ويبقى الخلاف: هل يتم ذلك بالوهم والخيال أم في الواقع الفعلي؟ هل يتم ذلك بالعاطفة والوجدان أم بالإدراك العقلي لظواهر العالم؟ هل تحققها الأفراد أم الجماعات؟ هل يتحقق ذلك في لحظة الاتحاد أم في التاريخ؟ وهل يتم ذلك في سبيل الفناء أم من أجل البقاء.
64
خاتمة
التوحيد العلمي
توحيد الذات والصفات إذن ليس توحيدا عن طريق إطلاق قضايا موجبة مثل: «الله عالم» أو سالبة «الله ليس جاهلا»، بل هو توحيد عملي عن طريق تحقيق الأوصاف الستة، والصفات السبع، والأسماء التسعة والتسعين في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. فإذا ما تحققت هذه الصفات بالفعل فلن تدخل كمحمولات في قضايا خبرية أو إنشائية يكون «الله» فيها موضوعا؛ لأن الله هو وعي الإنسان بذاته مدفوعا خارج العالم بعيدا عن الإنسان منفصلا عنه متحجرا جامدا مهما حاول الإنسان معاودة الاتصال به عن طريق الصلاة والعبادة والشعائر (الفقه) أو عن طريق الابتهال والدعوة والمناجاة (التصوف) أو عن طريق التأمل والنظر والحكمة (الفلسفة). وقد فرق الفقهاء قديما بين التوحيد النظري وهو توحيد الذات والصفات وبين التوحيد العملي وهو تحقيق الصفات في حياة الأفراد والجماعات.
1
وقد تنبهت إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة إلى التوحيد العملي، وجعلت همها إعادة بناء التوحيد الذي هو «حق الله على العبيد»، وليس الذي هو «حق العبيد على الله»، أي أن الله ما زال هو المركز والغاية، والبؤرة والقصد. فإذا كان حق الله على العبيد هو تحقيق الرسالة والدعوة المبلغة وهو كون الإنسان خليفة الله في الأرض فإن حق العبيد على الله هو حقهم في استرداد وعيهم المتحجر خارجا عنهم وأمانتهم على الرسالة وتحقيقها في العالم. علاقة الإنسان بالله علاقة حق متبادل. فإذا كان القدماء وبعض المصلحين المحدثين قد ركزوا على حق الله على الإنسان، فإن موقفنا الحالي يحتم علينا بيان حق الإنسان على الله خاصة في هذا العصر الذي ضاعت فيه حقوق الإنسان وما زالت تضيع.
2
كان التوحيد النظري قديما في خطر نظرا للالتقاء الحضاري والتشابك العقائدي بين الأديان والمذاهب والمجاورة بين الملل والنحل. ولكن التوحيد العملي كان سائرا مؤثرا فعالا محركا ومنتصرا. ولكن في هذا العصر، والتوحيد النظري في أمان، بصرف النظر عن الغزو الثقافي ومظاهر التغريب. ولكن التوحيد العملي في خطر، في موقف وسكون، وتحول إلى توحيد فارغ بعد أن ضاعت الأرض من جوفه، وهزمت الأمة، وانهارت الدولة.
3
وقد تم التركيز في الحركات الإصلاحية الحديثة على نقد الشرك العملي وليس على تحليل الشرك النظري أي نقد استعمال الرقى والتمائم وكل مظاهر التوسط بين الإنسان والله من الأموات والأحياء، من الإنس «والجن» من أجل التأثير على العالم.
4
فالعمل، والعمل وحده هو المؤثر في العالم، ويقوم على العلم بالأسباب لا على الأعمال الرمزية التي يسقطها الشعور الجاهل على الواقع. فالأول فعل والثاني لا فعل. ولا استثناء في العمل القائم على العلم بالأسباب. حتى ولو تراكمت الشواهد على حدوث وقائع معينة، فإن ذلك لا يعني وقوعها «بالعين والحجة»، بل لأسباب طبيعية ما زلنا نجهلها حتى الآن. وبتقدم العلوم والمعارف واستقرار قوانين الطبيعة يمكن معرفتها. ولا تعني الأسباب الأسباب المادية وحدها، بل يمكن أن تكون نفسية كالإيحاء والتأثير والتوجيه. ولكن في عصر يغلب عليه التركيز على العوامل النفسية فإن المصلحة العامة تقتضي عزل الموقف والتركيز على الأسباب المادية وحدها حتى ولو أدى ذلك إلى قصور في النظرة العلمية. فمصلحة الجماهير وتربيتها ثقافيا أولى من المعادلة العلمية المتزنة لمجتمع مستقر ومتقدم وعلمي. الشرك هو قطع الصلة بين الأسباب والمسببات بتمائم ورقى وتبرك بشجرة أو حجرة أو استعاذة بمخلوق أو استعمال لسحر أو استعانة وتعوذ بشيء. لا تأتي المعرفة إلا من العقل وتصدق في الشعور. لذلك كانت كل معارف الكهان والتي تقوم على الطيرة والنشرة والتنجيم معارف خاطئة من حيث النهج والقصد وإن صدق بعضها من حيث النتائج بطريق المصادفة المحضة. والقصد في الفعل شرط لصحته. وإذا كانت صحة الفعل في قصده إلا أن كماله في تحقيقه واكتماله. فإذا وقع الرياء في العمل فإنه يبطله. وإذا كان القصد هو الدنيا المباشرة فإنه قد يبطل شرعية الفعل، أما إذا كانت النتيجة تحقيق عالم أفضل فتثبت شرعية الفعل. وهذا هو جمع بين التصوف والأصول، فقد ركز التصوف على نقاء الباعث ونسى النتيجة وهو ما أكمله الأصول.
يجد التوحيد العملي إذن محله في العمل كنتيجة وفي الإيمان كمقصد. وبالتالي فموضوع التوحيد هو في حقيقة الأمر مقدمة لموضوع الإيمان والعمل.
5
فالعمل هو العمل المخطط القائم على معرفة مسبقة أو معرفة حادثة أثناء الفعل، والقائم على نقاء الباعث ووضوح الهدف. فإذا استكمل الفعل شروطه ولم تحدث نتائجه فالندم باسترجاع الماضي اتجاه سلبي. الأولى البحث عن أسباب الفشل بالفعل حتى يمكن أخذها في الاعتبار حين معاودة الفعل. أما الاكتفاء بتمني إكمال النقص بالرجوع إلى الوراء وتخيل ميدان الفعل الماضي وقد اكتمل فذلك عجز وضعف.
6
وفي عالم يغيب عنه العدل، ولا يحكمه قانون، ولا يوجهه فكر، يكون الاتكال على الرحمة تأييدا لقوى الظلم والعدوان. لذلك فإن عملية الخلق ليس هو الخلق الفني المجسم بل الخلق الإبداعي مثل دك العروش وإسقاط التيجان وتغيير النظم الاجتماعية والسياسية كما فعل الموحدون الأوائل في إيوان كسرى وعرش الروم.
7
والإيمان هو نقاء القصد واتفاقه مع القصد الكلي. «والله» يعني في السلوك قوة الباعث ونقاءه وشمول الهدف وعمومه، وبذل الجهد والطاقة، والاستعداد للتضحية والشهادة. وأول عمل للإنسان هو فعل الشعور قبل الأفعال الخارجية. فالتوحيد عمل الشعور، وفعل الشعور هو فعل الإنسان بما هو إنسان بصرف النظر عن انتمائه الديني. العمل هو التوحيد الذي يقتضي فعله للشعور، فعل نفي ورفض، وفعل إثبات وقبول، رفض كل القوى الزائفة، القوى اللاشرعية في الطبيعة مثل قوى الاستبداد والقهر، قوى الجبر والطاغوت وإثبات قوى الطبيعة الشرعية، قوى الحرية والعدل والمساواة، قوى التحرر والثورة. الأول فعل «لا إله» والثاني فعل «إلا الله». ويسبقها «أشهد» أي الشهادة على العصر وأحزانه، ورؤية هزائمه ومصائبه، وإدراك هزائمه وانهياراته. الشرك هو محو فعل الرفض والإبقاء على فعل القبول لكلا القوتين معا القوى اللاشرعية والقوى الشرعية. والإخلاص هو الواجهة الأخرى للرياء والنفاق. الإخلاص تحقيق لفعلي الشعور، الرفض والقبول، علنا وصراحة وعلى رءوس الأشهاد وأمام الناس. ولما كان النفاق توجيها للشعور على مستويين كان شركا، وذلك لفقدان الشعور وحدته وتخليه عن القيام بفعل الرفض، وقبوله القوتين اللاشرعية والشرعية في آن واحد. الشرك أيضا هي طاعة الشر الذين استحوذوا على قوى غير شرعية للتسلط على رقاب الناس والحكم في مصائرهم. والتوحيد تخليص الشعور العاقل وتحرير له من كل ما يشده إلى غير الفعل الحر فيصبح التوحيد إعلانا لاستقلال العقل وحرية الإرادة.
8
Shafi da ba'a sani ba