Daga Aqida Zuwa Juyin Juya Hali
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Nau'ikan
14
وإذا استحال الترجيح بين معتقدين أو تصورين نظر لنقصان الدليل، فإنه يمكن أخذ أنفعهما للناس وأقلهما ضررا دفاعا عن المصلحة العامة والأقرب إلى تحقيق مصالح الأغلبية. إن وجود شيء حقيقي تتمثله الجماهير أو تسعى لتحقيقه لهو الشرط الضروري لأي تغير اجتماعي، وإلا فلماذا يضحي الإنسان؟ ولماذا يستشهد؟ إن ضرورة العمل وثقل الحياة تستلزم أخذ المواقف. وبدلا من أن تؤخذ بالبخت والمصادفة فتكون عشوائية عابثة يلزم الترجيح إن لم يكن بالدليل النظري فبالمصلحة العامة. وقد نشأ علم بأكمله في علم أصول الفقه لهذا الغرض وهو «علم التعارض والتراجيح» بين الروايات والأدلة. موقف الشك إذن بالإضافة إلى أنه مستحيل عملا لأن الحياة تسير وفقا للاعتقاد؛ مستحيل نظرا لما تقدمه الحياة من بواعث ودوافع ولما تقوم عليه من مقاصد وغايات، تعمل كلها كمرجحات.
ولا يعني اختلاف الآراء وتضاربها وعناد الناس عدم وجود الحقائق أو إمكانية معرفتها أو إنكار شرعيتها أو صدقها؛ إذ يمكن معرفة كل ذلك بالبرهان. وهو أقل منه في العلوم الصورية والعلوم المادية منه في العلوم الإنسانية؛ نظرا لتداخل الأهواء والمعتقدات والمصالح. كما ينشأ هذا الاختلاف والتضارب نتيجة للتكاسل عن طلب البرهان أو الوقوع في التقليد والتسليم بالموروث دون نقد أو تمحيص. كما ينشأ من اختلاف مناهج التحليل ومستوياته ولغته وأسلوبه بين الخطابة والجدل والبرهان. ولا يعني عدم اتباع النفس للحق انتفاء الحق واستحالة معرفته، بل يدل على الجهل أو نقص في الوعي أو تغليب المصالح والأهواء على المبادئ العامة. كما لا يدل تخلف العمل عن النظر على استحالة النظر، بل يدل على الخوف وإيثار السلامة. ولا يعني اختلاف العلماء فيما بينهم انتفاء وجود الحقائق واستحالة معرفتها، بل يشير إلى تعدد التفسيرات طبقا لمكونات الواقع وحركة التاريخ. وكلها مشروعة طبقا للحاجة؛ إذ يتحول الوحي بمجرد نزوله في زمان ومكان معينين ولدى شعب بعينه وفي مرحلة تاريخية محددة؛ يتحول إلى حضارة. والحضارة لها بناؤها الإنساني، ونشأتها طبقا للحاجات البشرية. لا يعني التعدد في التفسيرات إذن التضارب والتناحر، بل الاجتهادات المختلفة طبقا للصالح العام وما تستطيع أن تحققه من نفع للناس. والرأي غير الهوى. الرأي له برهانه، أما الهوى فانفعال ومزاج؛ لذلك كتب الفقهاء في «ذم الهوى»، الرأي قول يقوم على دليل، والهوى دعوى بلا دليل. إن القول بتكافؤ الأدلة ثم الاعتراف بأن أحدها حق والآخر باطل دون التعيين والتخصيص هو اقتراب من اليقين وترك الشك دون أن تكون هناك ثقة بالعقل وقدرته على تعيين الحق والتمييز بينه وبين الباطل، سواء التعيين النظري أو الترجيح العملي طبقا للصالح العام. إن القول بتكافؤ الأدلة فيما دون «الله» اعتراف بتعيين واحد هو وجود مبدأ أو حقيقة يعقلها الجميع ويترك تفسيرها بعد ذلك طبقا للمجتمعات وحسب مراحل التاريخ. والقول بتكافئها فيما دون «الله» و«النبوة»؛ أي أقوال البشر وتفسيراتهم هو أيضا نزول إلى تعيينات الواقع درجة أكثر والاتفاق على وجود فكر إنساني متكامل ونظام اجتماعي يصلح للناس في كل زمان ومكان. إن القول بتكافؤ الأدلة نظرا لا يمنع من اليقين عملا؛ وذلك لأن الإنسان بموجب عقله يلتزم بمبدأ ينتج عنه إدراك الفضائل وممارستها، ويمكن إدراك هذا المبدأ بالعقل ولكنه يقين عملي خالص.
15
وخلاصة القول إن القول بتكافؤ الأدلة يؤدي إلى إنكار عدة أشياء، منها: قدرة العقل على الوصول إلى حقائق الأشياء وبداهة الحس وأوليات العقل ومعطيات الوجدان، قدرة العقل على وصف العاقل وتحليل الأوضاع الاجتماعية وهموم الناس التي تجثم على الصدور، دور الآخرين في إمكانية اطراد التحليل والوصف ولأهمية رأي الجماعة والتجربة المشتركة، حاجة الواقع إلى بناء والعمل إلى نظر، فالترجيح والتفصيل أولى من العشوائية والمصادفة، قدرة الإنسان على الاختيار بين المواقف وتفضيل مصلحة على أخرى، وحرية الحركة في الممارسة، وجود قوى اجتماعية وراء الأدلة تحسم الصراع لمصلحة الأقوى والأدل، وجود حركة التاريخ وقانون الأغلبية وحق الشعوب؛ فاليقين التاريخي لا يقل أهمية عن اليقين النظري والعملي.
أما «العندية»، وهو المذهب الثالث في الشك، فلم يفصل فيه القدماء تفصيلهم للاأدرية والقول بتكافؤ الأدلة. ومع ذلك ترى العندية أن كل الآراء صحيحة عند قائليها، ومن هنا جاءت تسميتها بالعندية، وهي على نقيض العنادية التي ترى الآراء كلها باطلة. والحقيقة أن اعتبار الاعتقادات كلها صحيحة نفي لمعيارية العلم وإمكانية إثبات حقيقة واحدة والتمييز بين الحق والباطل، ووقوع في النسبية المطلقة. وقد قلب القدماء الحجة الجدلية ضد المذهب؛ فالعندية مذهب باطل لأنه عندنا باطل، وبالتالي يكون بطلانه حقيقة. العندية إنكار للصفات الموضوعية للأشياء، وإرجاعها إلى مجرد انطباعات ذاتية وأمزجة فردية، وإحساسات خاطئة. لا توجد صفات متناقضة في الطبيعة، بل في إدراك الناس لها. كما توجد حقائق موضوعية اجتماعية، مثل ضرورة الثورة استردادا لحقوق الفقراء من الأغنياء، وحصولا على الاستقلال الوطني ضد المحتل الأجنبي، ودفاعا عن الحرية والديمقراطية ضد التسلط والطغيان، وتوحيد الأمة بعد التجزئة والتشرذم، وحفاظا على الهوية ضد التغريب، وتجنيدا للجماهير حتى تكون بثقلها الضمان الوحيد لنيل حقوقها. لا يعني اختلاف التعبيرات ضياع الحقيقة. هناك عدة مستويات لتحليل الواقع وللقدرة على الفعل ولدرجة الوعي ولصراحة التعبير، والقدرة على التعبير عن الصالح العام.
16
الشك إذن بمذاهبه الثلاثة لا يمكن أن يكون أساسا لنظرية في العلم تقوم على إنكار الحقائق أو على استحالة معرفتها أو على نسبيتها، وهذا لا يعني ألا يكون الشك مقدمة للنظر وشرطه، بل إنه عند البعض أول الواجبات على المكلف حتى يخف التقليد ويقضي على التبعية.
والظن أعلى درجة من الشك وأقرب إلى المعرفة والعلم؛ لأنه قد تحول من اعتقاد غير جازم إلى اعتقاد جازم يتجاوز التردد إلى الترجيح. ولما كان المرجح ليس دليلا برهانيا يظل الظن في مرتبة الاعتقاد غير الجازم، ولا يرقى مطلبا إلى درجة العلم. فإذا كان الراجح هو الظن فالمرجوح هو الوهم، وهو قياس أمر غير محسوس على أمر محسوس، وهو أساس قياس الغائب على الشاهد الذي هو أساس الفكر «الإلهي» كله. وقد يقوم على المخيلات؛ أي على الصور الشعرية ترغيبا للنفس أو تنفيرا لها. والحقيقة أن القياسات الشعرية قد تكون صادقة؛ نظرا لإحساس الشاعر وصدقه؛ وبالتالي لا يكون النموذج الأمثل للوهم؛ فالوهم إصدار حكم على واقع غير مطابق له، في حين أن الشعر لا يهدف إلا إلى التأثير على النفوس وإيصال تجربة إنسانية تطابقها مع نفسها ومع تجارب الآخرين بالمشاركة.
وبالرغم من أن القدماء لم يتوسعوا كثيرا في وصف الشك والظن والوهم، إلا أن لها أبلغ الأثر في حياتنا المعاصرة؛ فنحن لا نفرق بين منطق الظن ومنطق اليقين، بل نخلط بينهما، فكثيرا ما نستعمل منطق الظن على أنه منطق لليقين، كما أننا لا نميز بين أنواع الحجج، البرهاني والخطابي والجدلي. فكثيرا ما نخطب ونظن أننا نبرهن، وكثيرا ما نجادل ونظن أننا نستدل. تمثل قسمة القدماء لأنواع الحجج تقدما أكثر مما نحن عليه الآن، بل إن بعض الجوانب في فكرنا المعاصر يقوم على الوهم والمخيلة أكثر مما يقوم على العقل، ويعتمد على المغالطات أكثر مما يعتمد على الحجج والبراهين. نستعمل القياسات الظنية ونظن أنها برهانية. وكثيرا ما نسلم بالمشهورات التي تروجها أجهزة الإعلام فتصبح بمثابة معتقدات للناس بكثرة ترديدها، وتصبح جزءا من ثقافتهم تعمية لهم عن الحقائق البرهانية، كما أننا في حياتنا الثقافية نجادل الخصم دون التسليم بمقدماته ، بل نشغل أنفسنا بتفنيدها؛ ومن ثم يتحول جدلنا إلى تناطح وتنازع وخصام؛ لذلك يستحيل الحوار ولا يكون هناك مجال إلا للتقاذف والاتهامات والسباب. وكثيرا ما تغلب المغالطات على ثقافتنا الوطنية، وتغليب المرجوح على الراجح، كما أننا غالبا ما نقيس غير المحسوس على المحسوس، خطأ في أمور لا تقاس مثل فكرنا لإلهي، وتصوير الله غير المحسوس بالإنسان المحسوس، والوقوع في التجسيم والتشبيه، أو بالنسبة إلى أمور المعاد وقياسها على النعيم والعذاب في الدنيا، في حين أنه يمكن استعمال المحسوس لتفسير نشأة غير المحسوس من حيث الصورة الأدبية والنشأة. فلا يوجد تصور في الذهن إلا ما ينشأ في الواقع أولا، سواء كفعل أو كرد فعل. ولا نقيس غير المحسوس على المحسوس بطريقة صائبة على نحو ما يفعل أصوليو الفقه في قياس الغائب على الشاهد. كما تغلب على فكرنا القومي الخيالات الشعرية والأساليب الخطابية بغية التأثير على النفوس، تأييدا لشخص أو هجوما على آخر، حتى اتهمت عقليتنا على مسار التاريخ بأنها عقلية إنشائية لا خبرية، وبأن لغتنا غنائية وليست تقريرية؛ فنحن نعيش في هذا العالم خطباء وشعراء دون أن نعيش مفكرين وعلماء.
Shafi da ba'a sani ba