Daga Aqida Zuwa Juyin Juya Hali
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Nau'ikan
3
ومع ذلك فإن المقدمات الإيمانية تعلن عن هذا الوجود المطلق الأوحد باعتباره قدرة شاملة، وإرادة مسيطرة، فهو الذي يبدئ ويعيد، وهو الذي يبدأ ويقرر، وهو الذي يحيي ويميت، ويظل العالم الأصولي القديم يتغزل في هذه القوة المسيطرة لدرجة الفناء فيها، وكلما شعر بعجزه قوي مدحه، وكلما شعر بأن الكون لا يسير وفقا لما يحب تصور وكأن «الآخر» قد قام بدلا عنه بالسيطرة على هذا الكون المفقود، وبالتالي ينشأ السلطان؛ الديني أولا ثم السياسي ثانيا، ويصبح للعالم مركز سيطرة واحد لا يتزحزح، ويكون السلطان متفردا بسلطانه، لا ينازعه أحد، ولا يشاركه شريك ، ولا يعارضه معارض، ولا يقف بجواره ند. يملك كل شيء، ويقدر على كل شيء، لا معقب على قراراته وأوامره؛
4
ومن ثم كان من السهل الانتقال من السلطان الديني إلى السلطان السياسي، ومن الحمد لله إلى الحمد للسلطان، ومن الثناء على الله إلى الثناء على السلطان، ومن طلب العون والمغفرة من الله إلى طلبهما من السلطان؛ لأن التكوين النفسي للطالب واحد، وأحد البدائل يؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها الآخر. من هذه القوة المركزية يستمد الإنسان كل شيء إن كان له فعل، أو تفعل هذه القوة بذاتها مستغنية عن الإنسان، فالله مدحض الأباطيل، وكاشف الحق، ودافع الباطل، ومعطي العلم، وواهب المعرفة، والمبرهن والمستدل والمنير الطريق، هو مصدر المعرفة وأساسها، ومعطي السعادة وواهبها، إن معرفة الحق والباطل، والصواب والخطأ، لا تأتي من عل، بل من تأمل في المعطيات الفكرية والواقعية، فالمعرفة النظرية لا تتم كهبة مسبقة، بل عن طريق التحليل العقلي الرصين للأفكار والوقائع، وباستقراء مجرى الحوادث، ذلك لا يمنع من وجود مقاييس للصدق، وأنماط مثالية للفكر، ولكن هذه المعطيات المسبقة تنبع من طبيعة العقل، ويدركها الشعور بحدسه، وليست فعلا لكائن خارجي مشخص، يفعل مباشرة أو بطريق غير مباشر من خلال الإنسان، ولا يمكن التسليم بشيء على أنه حق ما لم يعرض على العقل ويثبت في الواقع أنه كذلك.
5
والحقيقة أنه لا يحمي الإنسان المعاصر، ولا يحافظ على مصالح الجماعة إلا الوعي الفردي، وتجنيد الجماهير، وكلاهما لن يتم إلا بالثورة الفعلية. لن يتغير الواقع بفعل خارجي، قادر على دحض الباطل والدفاع عن الحق، بل بفعل الطليعة الواعية من المثقفين التي يتحول فيها الوعي الفرد إلى معبر عن وعي الجماعة، الجماهير هم الدرع الواقي، والطليعة هم رأس الحربة، لا تسليم هناك بشيء، بل لا يؤخذ شيء على أنه حق إن لم يعرض على العقل والواقع وإثبات أنه كذلك، لا يوجد صمام أمان إلا في وعي الإنسان بذاته وليس في «عقدة القبة السماوية»
6
التي تغطي الأرض، فلا وكالة إلا من الأنظمة الاجتماعية والعجز عن مراقبتها وعدم القدرة على مراجعتها. ليس المطلوب في هذا العصر أن يتوه الإنسان تحت هذا الخواء، وأن يضيع في هذه المتاهة، وأن يشعر بضآلته تحت هذا الشمول، بل المطلوب تأكيد ذاته، وإعمال عقله، وإحساسه بالمسئولية، وتحقيقه للرسالة، ووعيه بالجماهير، وإدراكه لحركة التاريخ. ليس مطلب العصر هو تبرئة «عقدة القبة السماوية» الحافظة للعالم من كل سوء، تشبيه أو تجسيم أو شرك، بل معرفة المسئول عما وصل إليه حالنا من احتلال وتخلف، وقهر وطغيان، وفقر وبؤس، وضنك وحرمان، وتشرذم وتبعثر، وذل وهوان. ليس مطلب العصر هو إبراء الذمة، ووضع الطهارة المجردة، افتراضا وأملا، هذه الطهارة التي لا تشوبها شائبة، وتخليصها من مآسي العصر، مع أنها قد تكون أحد مظاهره أو أسبابه، بل المطلب هو تحديد المسئولية عما وقع في حياتنا من مآس وأزمات، وهزائم ونكبات، وكيف يكون الخالص مسئولا عن الشائب؟ وكيف يكون البريء مسئولا عن ذنوب العصر ومظاهر البؤس والشقاء فيه؟ كيف يكون الغني مسئولا عن الفقر، والعادل عن الظلم، والقوي عن الضعف، والقيوم عن المحتل، والواحد عن المتجزئ؟ إن كل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نحن فيها ليست مفروضة علينا ولا مكتوبة من أحد، بل هي نتيجة للأوضاع ذاتها، ويخطئ القدماء عندما يجعلون العلة معلولا، ونخطئ معهم عندما نعلق مآسينا وهزائمنا على مشجب لم يره أحد ولم ينقذ أحدا، لا يعني ذلك رفض الشمول والعموم؛ فالشمول للأفكار وللمبادئ، وهي لا تعطي الإنسان أي ضمان أو أمان بل تعطيه فقط الأساس النظري للتطبيق والممارسة، وتصف له وسائل التحقيق، ولا يتوه فيها العقل، بل يدركها ويحصل منها على معرفة، ولا تضعف أمامها الإرادة بل تتمثلها وتتأكد حريتها، ولا تضمحل أمامها الذات وتفنى، بل تثبت ويتأكد وجودها.
في هذه المقدمات الإيمانية تتحدد علاقة الإنسان بالله، ليس فقط على مستوى المعرفة والنظر، بل أيضا على مستوى السلوك والعمل؛ فالإنسان يحمد الله على نعمه، ويشكره على فضله، مما يجعل العلاقة أحادية الطرف، من واهب إلى موهوب، ومن معط إلى معطى، وتجعل الإنسان مجرد وعاء للنعم، ومستقبل للعطايا، ومنتظر للجود والإحسان، قد يرفض الإنسان بطبيعته الكرم والفضل، وقد ينفر من الهبات والعطايا؛ لأنه يأبى أن تكون يده هي السفلى، ويد غيره هي العليا، وإن كثيرا من مآسي عصرنا لهو انتظار الكرم والجود، والتشوق إلى الهدايا والعطايا، والتزلف من أجل هبات السلطان حتى أصبح العصر كله عصر تعايش وارتزاق، بل إن سلبية الجماهير اليوم قد ترجع إلى أن معظم مظاهر التغير الاجتماعي في حياتها قد تمت أيضا بفعل الجود والكرم، وكأنها هبات من أعلى، وليست مكتسبات حصلت عليها الجماهير بعرقها وكفاحها، فإذا حصلت الجماهير على بعض حقوقها، فإن الحاكم لم يتفضل عليها بشيء، بل نالت حقها، وحقها ليس منة ولا فضلا عليها من أحد، وقد يكون هذا هو السبب في معاناة عصرنا من اعتبار كل حق منة أو فضلا من رئيس على مرءوس.
فإذا كان القدماء قد حمدوا الله على الكفاية، فإننا نتجه بكل قوانا نحو الناقص ونتوجه إلى ما لم يتحقق بعد، اتجاهنا نحو الحاجة أقوى من نزوعنا نحو الحمد، والحمد على ما هو موجود فيه رضاء واستكانة، والثورة على ما هو مفقود فيه غضب ومطالبة بحق، حالنا لا يتطلب حمدا ولا ثناء على أحد، بل يقتضي رفضا واعتراضا، مطالبة وثورة، نحن لا نحمد بل نتضجر، ولا نرضى بل نغضب، ولا نثني بل ننقد، ولا نشكر، فلا شكر على واجب، بل نثور ونطالب، إن الإحساس بالحق المشخص يعطي الإنسان نوعا من الرضا، ويجعل نفسه طيبة طيعة حامدة شاكرة، وهذا على خلاف مقتضيات تكويننا النفسي المعاصر الذي يشوبه القلق والغليان، وتعتريه عواطف السخط والغضب، يئن تحت ضغوط العجز والحرمان،
Shafi da ba'a sani ba