الباب الثالث
الفصل السابع
أولا: مقدمة من التوحيد إلى العدل
ثانيا: أفعال الشعور الداخلية
ثالثا: أفعال الشعور الخارجية
رابعا: أفعال الشعور في الطبيعة
خامسا: أفعال الوعي الفردي والاجتماعي
الفصل الثامن
أولا: مقدمة، اسم المشكلة ومكانها في العلم
ثانيا: تعريف الحسن والقبح
ثالثا: صفات الأفعال
رابعا: العقل والنقل
خامسا: الواجبات العقلية
سادسا: تنزيه الله عن فعل القبائح
سابعا: الصلاح والأصلح، الغائية والعلية
ثامنا: اللطف والألطاف
تاسعا: العوض عن الآلام
عاشرا: خاتمة، أين الإنسان؟
الباب الثالث
الفصل السابع
أولا: مقدمة من التوحيد إلى العدل
ثانيا: أفعال الشعور الداخلية
ثالثا: أفعال الشعور الخارجية
رابعا: أفعال الشعور في الطبيعة
خامسا: أفعال الوعي الفردي والاجتماعي
الفصل الثامن
أولا: مقدمة، اسم المشكلة ومكانها في العلم
ثانيا: تعريف الحسن والقبح
ثالثا: صفات الأفعال
رابعا: العقل والنقل
خامسا: الواجبات العقلية
سادسا: تنزيه الله عن فعل القبائح
سابعا: الصلاح والأصلح، الغائية والعلية
ثامنا: اللطف والألطاف
تاسعا: العوض عن الآلام
عاشرا: خاتمة، أين الإنسان؟
من العقيدة إلى الثورة (3)
من العقيدة إلى الثورة (3)
العدل
تأليف
حسن حنفي
الباب الثالث
الإنسان المتعين
الفصل السابع
خلق الأفعال
أولا: مقدمة من التوحيد إلى العدل
إذا كانت نظرية الذات والصفات هي لب التوحيد، فإن نظرية الأفعال هي لب العدل. وتشمل نظرية الأفعال موضوعين: الأول: خلق الأفعال أو حرية الاختيار، وهو الموضوع الشائع باسم الجبر والاختيار، وهو الموضوع الغالب. والثاني: العقل والنقل أو الحسن والقبح العقليان، وهو الأقل وكأنه أحد الموضوعات الجزئية الفرعية. وأحيانا ينضم الموضوعان معا في موضوع واحد دون بناء نظري له، وتعطى مسائل متفرقة في العدل يختفي فيها الحسن والقبح.
1
ولكن الشائع هو أنه في باب حرية الأفعال وارتباطها بالإرادة يظهر باب التعديل والتجوير أو الحسن والقبح العقليان مرتبطا بالقدرة. وبالتالي ينقسم العدل إلى موضوعين: حرية الأفعال، والحسن والقبيح.
2 (1) التذبذب بين التوحيد والعدل
يدخل موضوع خلق الأفعال عند القدماء في نظرية الذات والصفات والأفعال، أي في التوحيد (الأشاعرة)، في حين أنها حاولت الانفصال في أصل ثان هو العدل (المعتزلة) حفاظا على استقلال الموضوع وإثباتا لحرية الأفعال. وظل الموضوع عند القدماء متأرجحا بين التوحيد مرة وبين العدل مرة أخرى، مرة لإثبات حق الله ومرة لإثبات حق الإنسان، وكأن أفعال الإنسان وحريته واستقلاله يتنازعهما حقان، كلاهما شرعي؛ حق الله باعتباره خالقا وحق الإنسان باعتباره مسئولا. والدفاع عن حق الله دون حق الإنسان ليس موقفا إنسانيا شرعيا بل يكشف عن اغتراب الإنسان وعجزه عن الدفاع عن حقوقه ومزايدته على حق غيره، في حين أن الدفاع عن حق الإنسان دون حق الله أقرب إلى موقف الإنسان الشرعي دون مزايدة في الدفاع عن حق غيره، خاصة وأن حق الإنسان أولى بالدفاع؛ لأنه الحق المهضوم، في حين أن حق الله قائم بلا منازع، والله أقدر على الدفاع عن حقه. فإذا كان الاغتراب الإنساني النظري قد ظهر في الذات والصفات فإن الاغتراب العملي يظهر في خلق الأفعال وفي الحسن والقبح العقليين وإن كان بصورة أقل؛ نظرا لبروز الإنسان من كنف الله وظهور العدل من بطن التوحيد. فبالرغم من أن خلق الأفعال داخلة عند القدماء في نظرية الذات والصفات والأفعال (الأشاعرة) إلا أنها أدخل في العدل، أي في أفعال الإنسان (المعتزلة) لتعلقها بحرية الأفعال وبالحسن والقبح العقليين.
3
ومن ثم كان الإنسان أظهر في الأفعال منه في الذات والصفات. وهنا يبدو التذبذب بين النظر إلى الأفعال كاستمرار لنظرية الذات والصفات، أي كحديث عن الله أم كحديث صريح عن حرية الأفعال والحسن والقبح والصلاح والأصلح، أي كحديث عن الإنسان. والحقيقة أن هناك اختفاء تدريجيا لله، وظهورا تدريجيا للإنسان من الذات إلى الصفات إلى الأفعال. فأوصاف الذات أقرب إلى الله، والصفات ما بين الإنسان والله، والأسماء أقرب إلى الإنسان كتعبير نهائي عن عواطف التعظيم والإجلال، وكأن القضية أصبحت اثنين اثنين: اثنين لله؛ الذات والصفات، واثنين للإنسان؛ خلق الأفعال، والحسن والقبح العقليين. وهما الأصلان الأولان من أصول المعتزلة، التوحيد والعدل. يشمل التوحيد الذات والصفات، والعدل خلق الأفعال والحسن والقبح العقليين.
وقد بدأ التوحيد أولا ممثلا في نظرية الذات والصفات والأفعال متضمنا العدل قبل أن يتحول العدل إلى أصل مستقل على يد المعتزلة. ففي العقائد المتقدمة لا يظهر أحيانا موضوع خلق الأفعال، سواء أفعال الشعور الداخلية أو الخارجية، أو أفعال الشعور في الطبيعة. وتختفي كلية مسائل الحسن والقبح وكأن أصل العدل كان متضمنا في أصل التوحيد في الوعي الحضاري الأول فلم يكن له الأهمية نفسها التي كانت لقضايا التشبيه والتنزيه.
4
وأحيانا يدخل خلق الأفعال وأصل العدل كله في باب أفعال الله، ولكن في موضوع الحسن والقبح الذي يبتلع خلق الأفعال.
5
وفي العقائد المتقدمة يظهر الرضا بالقضاء والقدر مع الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل والبعث، كما تظهر موضوعات الكسب والإيمان متداخلة مع الأفعال.
6
كما تظهر متناثرة في إحصاء عقائد أهل السنة ورفض المعتزلة لاتهامهم بإثبات قدرة العبد على خلق الشر كالمجوس، وأن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأنهم قادرون على الأعمال.
7
وتظهر أفعال الشعور الداخلية في الإرادة،
8
وأفعال الشعور الخارجية في أعمال العباد والاستطاعة. وتضم إليها مسائل العدل والتجوير.
9
وفي النهاية تذكر الروايات في القدر.
10
وأحيانا يسمى الموضوع كله القدر.
11
وتدخل مسألة خلق الأفعال تحت موضوع القدر؛ لأنه كان من أوائل الموضوعات التي أثيرت في ذهن الجماعة إثباتا أو نفيا. وسواء ظهر نفي القدر أولا، ثم إثباته كرد فعل على الأول أو ظهر إثبات القدر أولا ثم جاء نفيه كرد فعل، فالحقيقة أن الإثبات والنفي كل على حدة يشكل رد فعل على الآخر بصرف النظر عن أولوية الظهور في الزمان.
12
وفي خلق الأفعال قد يثبت الخلق العام للطبيعة وللأفعال معا ويتم نقل قدم العالم من نظرية الوجود إلى نظرية الأفعال.
13
أحيانا لا يظهر خلق الأفعال كموضوع مستقل سواء داخل العدل أو خارجه، بل يتحول إلى جزء من التوحيد في نظرية الأفعال ويصبح التوحيد شاملا لموضوعات ثلاثة، الذات والصفات والأفعال، بعد أن كان شاملا لموضوعين اثنين فقط: الذات والصفات. وقد حدث هذا الاحتواء؛ احتواء التوحيد لخلق الأفعال في علم الكلام المتأخر بعد القضاء على التيار النظري وسيادة التيار التقليدي؛ فانزوى موضوع خلق الأفعال حتى احتواه التوحيد في النهاية. وأصبح المبدأ والأساس هو أن الله خالق لأفعال العباد وأن الفرع الدخيل هو أن الإنسان خالق أفعاله وأنه يناهض الخلق الأول ويعارضه ويرغب في الحصول على ما ليس من حقه بعد أن كان الموقف في علم الكلام المبكر أن خلق الإنسان لأفعاله هو المبدأ والأساس ثم منازعة المؤله للإنسان في أخص خصائصه، وسلبه إياه على يد السلطة السياسية القائمة ولصالحها. ومن ثم غابت حرية الإنسان تحت وطأة إلهيات السلطة.
14
وأحيانا أخرى لا يظهر الموضوع بتاتا ولا يذكر عنه شيء؛ لأنه فقد أهميته؛ فقد ضاع إحساس العصر المتأخر بالفعل الحر، فغاب الموضوع في مصنفات أهله. ويسقط موضوع خلق الأفعال بتاتا في العقائد المتأخرة، ويخلو المكان للإلهيات. ففي العقائد المتأخرة يضم التوحيد كل شيء، وتصبح أفعال العباد جزءا من التوحيد بما أن الله خالق كل شيء، ومريد لجميع الكائنات.
15
يختفي باب العدل من العقائد المتأخرة تحت وطأة التوحيد والنبوة أي الإلهيات والسمعيات، ويعم رفض الأسباب العادية وإثبات القضاء والقدر نظرا لإثبات سبق القدرة والإرادة والعلم؛ حيث لا يفتقر الله إلى أحد سواه، ويكون كل ما عداه مفتقرا إليه في شرح العقائد المتأخرة لقول «لا إله إلا الله».
16
وفي بعض الموسوعات المتأخرة تظهر بعض موضوعات العدل بعد التوحيد، مركزة كلها في معنى القضاء والقدر، وهي العقيدة التي استمرت في وجدان الأمة حتى جيلنا هذا.
17
وفي العقائد المتأخرة يضمر العدل أمام التوحيد، والنبوة أمام الإلهيات والسمعيات، ولا يظهر إلا في نظرية الجواز. ولا يظهر في الأفعال، ويسقط موضوع الحسن والقبح.
18
ثم يظهر موضوع التنزه عن الغرض ضمن أفعال العقائد كلها تحت شعار التوحيد، ويظهر استغناؤه ونفي الغرض في أفعاله ونفي الوجوب عليه، وهي موضوعات الحسن والقبح، ثم افتقار الغير إليه في وجوب الوحدانية من أوصاف الذات والعلم والقدرة والحياة والإرادة من صفات الذات من أجل إثبات عموم الإرادة وشمول القدرة على الإنسان والطبيعة معا. وقد تدخل مسائل العدل دون أن يذكر الاصطلاح في نظرية الجواز مع الرؤية ومع الحسن والقبح العقليين أولا، ثم مع كون الحادثات كلها مرادة لله ثانيا، كما كان الحال أولا. ثم يظهر باب آخر يحتوي على أركان أربعة تتناول موضوع خلق الأفعال.
19
فكأن الحسن والقبح العقليين يبدآن العدل وينهيانه. وعندها تصبح العقائد كلها داخلة في نظرية الوجوب والاستحالة، أربعون عقيدة، عشرون للواجب وعشرون للاستحالة تظهر مسائل العدل في العقيدة الواحدة والأربعين.
20
وفي بعض العقائد المتأخرة تضم مسائل العدل كلها في عقيدة واحدة من خمسين عقيدة، وهي عقيدة، فيما يجوز على الله.
21
والحقيقة أن وضع موضوع خلق الأفعال أي حرية الأفعال وعقله وبالتالي مسئوليته في أحكام الجواز يكشف عن ضياعها كلية وإخراجهما عن الوجوب؛ فالحرية والعقل محتملان وليسا ضروريين، وهما في الحقيقة يدخلان في الوجوب. فحرية الإنسان وعقله واجبان، أو في الاستحالة أي استحالة إلغاء الحرية والقضاء على العقل. وبالتالي تنقسم أحكام العقل إلى اثنين فقط، هما الوجوب والاستحالة وإخراج موضوعات الجواز، سواء الرؤية أو الأفعال بقسميها، الحرية والعقل. أما إذا كان الممكن في النهاية ليس حكما عقليا بل عملية إيجاد، وتحقيق للمشروع الإنساني، أي عملية تحرر، عملية وجودية، صيرورة عملية، قد يكون الإنسان حرا وقد لا يكون، قد يكون عاقلا وقد لا يكون، فإن وضع خلق الأفعال في الجواز يكون ممكنا بهذا المعنى كوصف لأفعال الإنسان وحريته وليس كدفاع عن الله وحقه المطلق في العلم والإرادة والقدرة. (2) موضوعات خلق الأفعال
خلق الأفعال إذن أحد مسائل العدل، ولكنه لا يبدو مستقلا متميزا عن باقي المسائل في العدل والتي تضم موضوع الحسن والقبح العقليين. بل إن بعض المسائل تظل متداخلة بين الموضوعين، يصعب معها استقرارها في أي منها مثل مسائل التوفيق والخذلان والهداية والضلال والعون والتيسير والعصمة والطبع والختم، والاستثناء في الإيمان، والآجال، والأرزاق، والأسعار التي هي حلقة الاتصال بين الموضوعين، بين حرية الإنسان ومصلحته. يشمل العدل إذن خلق الأفعال وما يتعلق بها من جبر وكسب واختيار واستطاعة وتولد، ثم الإيمان وما يتعلق به من هداية وتوفيق وعون ولطف أو طبع أو ختم أو خذلان، ثم الآجال والأرزاق والأسعار، ثم الحسن والقبح والأصلح ثم التكليف وما يتعلق به من أمر ونهي، ثم بعض الأبحاث الطبيعية الناتجة عن فعل الإنسان في الطبيعة، وأخيرا الوعد والوعيد وعذاب الأطفال والبهائم والعوض. وكلها تدخل في موضوعات منفصلة بالرغم من اجتماعها معا في خلق الأفعال، والتعديل والتجوير، والوعد والوعيد، والإيمان والعمل. وقد يدخل فيها موضوع النبوة كما هو الحال في العقائد المتأخرة عندما ألحقت النبوات بالسمعيات. بل قد تظهر أفعال الشعور الداخلية ومسائل الكسب والاستطاعة ضمن التوحيد في مساق الإرادة.
22
ثم تظهر من جديد مع ثلاث مسائل كفروع لعلم التوحيد وهي الخلق والإرادة والشفاعة والرؤية.
23
وفي هذه المسألة تظهر أساسا أفعال الشعور الداخلية وكأن أصل العدل قد انبثق من أصل التوحيد، وأنه ما زال في مراحله الأولى حيث يتداخل العدل مع التوحيد محاولا التحرر منه، ويتداخل التوحيد في العدل محاولا إعادة له. وكما تداخلت أوصاف الذات وصفاتها وأسماؤها تتداخل أيضا الذات، أوصافا، وصفات، وأسماء مع الأفعال. ويظهر العدل كأحد أوصاف الذات مرة سلبا في إحالة الحجر عليه ومرة إيجابا في أنه صانع الحوادث كلها ضد الدهرية والثانوية والمجوس والفلكية والطبائعية والمعتزلة.
24
وقد تظهر مسائل خلق الأفعال مباشرة بعد حدث العالم لإثبات شمول القدرة أو الإرادة حتى قبل أن تظهر مسائل الذات والصفات.
25
وبعد مسائل الذات والصفات كلها تظهر مسائل الحسن والقبح مستقلين أولا في فرعين، الحسن والقبح، ثم إبطال الغرض والعلة والقول بالصلاح والأصلح ثانيا.
26
كما تظهر بعد مسائل أفعال الشعور الداخلية مثل التوفيق والخذلان، والشرح والختم والطبع والأصل والرزق مختلطة ببعض الأسماء مثل الشكر. ولأول مرة تظهر مسألة العدل مستقلة بعد الذات والصفات والأسماء، وتشمل خلق الأفعال وموضوعات أخرى مثل الهداية والضلال والآجال والأرزاق وهي أدخل في موضوعات الصلاح والأصلح. بل إن موضوع خلق الأفعال لا يأخذ إلا الثلث ويأخذ موضوع الصلاح والأصلح الثلثين.
27
وتظهر مسائل أفعال الشعور الداخلية في صفة الإرادة وأنها تعم سائر المحدثات ومتعلقة بجميع الكائنات. ثم تظهر الأفعال الخارجية في نظرية الكسب في باب خاص وهو القدر ثم في باب خاص آخر من الاستطاعة لإثبات الفعل وإنكار التوليد، أي إنكار تقدم الاستطاعة على الفعل وبقائها بعد الفعل، ثم ظهور مسألة الحسن والقبح في باب العدل والتجوير.
28
ويظهر باب خلق الأعمال مضافا إليه باب آخر في الاستطاعة وحكمها منفصلين عن باب التعديل والتجوير.
29
وعندما تعرض العقائد في مسائل متفرقة دون بناء نظري يظهر العدل أولا في خلق الأفعال ثم في الحسن والقبح.
30
وقد لا يذكر مبحث الأفعال وتذكر بدله مباحث الجبر والقدر، ثم تبدأ المسائل الأولى في خلق الأفعال والمسائل الثانية في الحسن والقبح.
31
وفي العقائد المتأخرة يأتي العدل بعد التوحيد دون فصل بينهما كما كان الحال في بداية علم أصول الدين. وتظهر مسائل خلق الأفعال والاستطاعة والتوليد ثم الآجال والأرزاق والأصلح.
32
وفي بعض العقائد المتأخرة يختفي مبحث العدل كلية وينتهي بالرضا بالقضاء والقدر.
33
ويظهر العدل كملحق للتوحيد كما كان في البداية.
34
يختفي العدل كلية وتنحصر العقائد في الإلهيات والسمعيات أي في التوحيد والنبوة.
35
وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة يتحول التوحيد من النظر إلى العمل وبالتالي تختفي مسائل خلق الأفعال لأنها تكون مناط التوحيد.
36
ولكن تظل مسألة الإيمان بالقضاء والقدر موضع الدفاع،
37
وكأن حل مسألة التوحيد كامن في العدل، وهو اللقاء الصحيح العضوي بين الأصلين. ويظل الإشكال في أفعال الشعور الداخلية، هل هي أدخل في خلق الأفعال أم في الحسن والقبح العقليين، أم أنه يصعب التفرقة بينهما لأنها تدخل في أصل واحد وهو العدل أولا لأنها حلقة اتصال بين خلق الأفعال والحسن والقبح العقليين؟
38
ففي العقائد المتقدمة يصعب الفصل بين حرية الأفعال والتعديل والتجوير، ومع ذلك يدخل التوفيق والضلال والهدى في خلق الأفعال أكثر من دخوله في العدل.
39
وفي العقائد المتأخرة يظهر مستوى الإرادة لأفعال الشعور الداخلية، ثم ينفي الحسن والقبح والواجبات العقلية ويصبح التوحيد هو الموضوع الأساسي في العدل.
40
وقد تظهر كثير من مسائل العدل في إثبات الخلق ورفض استقلال الطبيعة، وكذلك في مساق ذكر صفتي القدرة والإرادة وشمولهما، ولا يظهر في الجواز إلا الصلاح والأصلح.
41
ويظل التذبذب قائما بين وضعها في خلق الأفعال وبالتالي تكون أقرب إلى حرية الإنسان وبين الحسن والقبح العقليين، فهي إذن أقرب إلى تنزيه الله عن فعل البشر. يدخل الموضوع عند الأشاعرة في الجبر والقدرة والاستطاعة، أي في التوحيد، ويدخل عند المعتزلة في الحسن والقبح، أي في العدل، نظرا لإنكار الأشاعرة الحسن والقبح العقليين، وبالتالي العدل كله كأصل مستقل. والحقيقة أن أفعال الشعور الداخلية أقرب إلى الحسن والقبح وتنزيه الله عن القبائح وباقي مسائل العدل مثل الصلاح واللطف. فمسألة التوفيق والخذلان والهداية والضلال والعون والتيسير والعصمة والطبع والختم كلها أفعال شعور داخلية، تجتمع فيها حرية الأفعال والحسن والقبح والصلاح واللطف. ولما كان الصلاح واللطف تعبيرا عن إرادة الله في الواجبات الإلهية، فإنها تكون أقرب إلى حرية الأفعال التي موضوعها تقابل الإرادتين الإلهية والإنسانية وفي الوقت نفسه رعاية الصلاح والإصلاح وإدراك الإنسان وإرادته الحرة. أما مسألة الاستثناء في الإيمان ومسائل الآجال والأرزاق والأسعار، فإنها أيضا بين خلق الأفعال وبين الحسن والقبح العقليين ورعاية الأصلح. وقد تدخل أفعال الشعور الداخلية في موضوع النظر والعمل، أي الأسماء والأحكام نظرا لأنه يتعرض للجانب النظري في العمل وهو الإيمان. ولكن الإيمان هنا ليس في علاقته بالعمل، بل في علاقته كفعل للإيمان وبخلق الأفعال بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية. ولما كان موضوع النظر والعمل من السمعيات، فإن البعض قد آثر اعتبار أفعال الشعور الداخلية أمورا زائدة لا تدخل ضمن العقليات، أي التوحيد والعدل، وأقرب إلى السمعيات وعلى أكثر تقدير نقطة انتقال من العقليات إلى السمعيات، حيث تندر فيها العقليات إلى أقل درجة وتكثر فيها السمعيات إلى أقصى درجة.
42 (3) بناء الموضوع
الموضوع هو خلق الأفعال. وهي التسمية القديمة التي تتسق مع نظرية الأفعال دفاعا عن إرادة الله المطلقة ضد إرادة الإنسان وحرية اختياره كوليد جديد يوأد في المهد (الأشاعرة). ولكن التسمية قد تعني أيضا خلق الأفعال من جانب الإنسان (المعتزلة) تأكيدا على حرية الإرادة. وقد استعمل المحدثون منا من مؤلفي الكتب المقررة تسمية الجبر والاختيار إما تحت أثر الغرب أو خضوعا للفكر الشائع. وهي تسمية تظهر الصراع بين وجهتي النظر واعتبار أن الكسب هو الحل الوسط بين الحلين المتعارضين ويجعلونه أقرب إلى الاختيار منه إلى الجبر لو كان المؤلف عاقلا أو إلى الجبر منه إلى الاختيار لو كان المؤلف تقليديا ناقلا.
والتعبير القديم «خلق الأفعال» تعبير محايد، لا يوحي بنقل القدماء ولا بتحديث المعاصرين، ولكن الخلاف في التفسير حول خلق من؟ يجعله البعض من جانب المؤله مثل كل شيء، ويجعله البعض الآخر من جانب الإنسان. وفي هذه الحالة يكون الإنسان صاحب أفعاله. أما تعبير «الجبر والاختيار» فهو مقابلة حديثة تضم لفظا قديما هو الجبر ولفظا حديثا هو الاختيار. ولكن الاختيار لا يعبر عن خلق الأفعال خاصة إذا تم بالطبع. كما أنه يوحي بفعل خارجي محض كأن الفعل يتم عن طريق مقارنة عقلية بين الدوافع وحسابات رياضية بينها ثم اختيار أحدها وكأن الحياة لا تختار بنفسها حسب الدافع الأقوى. ولما كانت «الحرية» لفظا معاصرا يعبر عن وجدان الأمة كما يعبر عن مضمون المشكلة القديمة، خلق الأفعال، أصبح الإنسان خالقا للأفعال يعني أن الإنسان حر. لم يصبح الموضوع «مشكلة الحرية» لأن الحرية ليست مشكلة بل هي أمر واقع وتجربة يشهد بها الوجدان وصريح العقل؛ حينئذ يصبح موضوع خلق الأفعال إثباتا للإنسان الحر. وعنوان خلق الأفعال مثير للذهن مثل حرية الأفعال. فالخلق يوحي بالإبداع والجدة والمسئولية، مثل الحرية تماما، بل إنه أكثر ميتافيزيقية نظرا لارتباط الحرية بأبعادها السياسية والاجتماعية. وهو لفظ أكثر أصالة مرتبط بالتراث وليس شائعا في ثقافتنا المعاصرة الناقلة عن الغرب. واستعمال لفظ الخلق بمعنى الحرية استرداد للمفهوم من الله إلى الإنسان واستعادة للحقوق الضائعة. كان يمكن إطلاق تعبير «الإنسان الفاعل» بعد «الإنسان الكامل» وقبل «الإنسان العاقل» إبقاء على وحدة التعبير وتجانسه، خاصة وأن الفعل لفظ قديم. ولكن خوفا من إمكان اللبس بين «الإنسان الفاعل» الذي يمارس حريته بطبعه «والإنسان العامل» الذي يحقق النظر في العمل وهو أحد موضوعات السمعيات،
43
بقي «خلق الأفعال» أنسب التسميات لأنه بالرغم من قدمه إلا أنه ليس به عيوب القديم.
44
أما «الإنسان الحر» فهو تعبير خطابي خارج عن منطق البرهان.
ويمكن تحديد بناء الموضوع تاريخيا أو نظريا أو وصفيا. فمن الناحية التاريخية بدأت النظريات حول الأفعال أولا بالجبر ثم حدث رد الفعل ثانيا بإثبات الاختيار وأن الإنسان خالق أفعاله. وأخيرا جاءت نظرية الكسب كمحاولة للتوفيق بين الجبر والاختيار.
45
هذا هو الجدل التاريخي السائد في معظم موضوعات علم الكلام من الفعل إلى رد الفعل ثم إلى المركب من الفعل ورد الفعل. حدث هذا في التوحيد، في التشبيه ثم التنزيه ثم إثبات الصفات بلا كيف. ولكن من الناحية النظرية الخالصة بدءا من النظريات غير المؤسسة إلى النظرية المؤسسة يبدأ الجبر باعتباره أقل النظريات الثلاث تأسيسا ثم يتلوه الكسب باعتباره أيضا أقل النظريات الثلاث تأسيسا، ثم يأتي في النهاية خلق الأفعال باعتباره أكثر النظريات تأسيسا. ويرتب القدماء المذاهب طبقا لرأيهم الخاص ابتداء من الكسب ثم الجبر ثم خلق الأفعال بما يدل على أن الجبر أقرب إلى الكسب وأن خلق الأفعال أبعد منه.
46
ولكن من الناحية الوصفية الصرفة تبدأ نظرية الجبر التي يسهل رفضها بتحليل تجارب الإنسان الحية للفعل. تتلوها نظرية الكسب التي تظل في إطار الجبر وتنشأ بدافعها الأول وهو الدفاع عن حق الله والاعتراف بحق الإنسان، ولكن من أجل الدفاع عن حق الله. وأخيرا يأتي خلق الأفعال باعتباره أقرب النظريات إلى التجارب البشرية، بداهتها وصراحتها وطبقا لمقتضيات العقل والمسئولية. وهذا الوصف يجعل طرفي النقيض أولا وثالثا، والتوسط ثانيا، وهو معارض للجدل التاريخي الذي يبدأ بالجبر ثم بخلق الأفعال ثم بالكسب. ثم تظهر هذه النظريات الثلاث في أفعال الشعور الداخلية ثم الهداية والضلال، والتوفيق والخذلان، والإيمان والكفر، ثم في أفعال الشعور العامة كالحركة والسكون والقيام والقعود، أي في الحركات والسكنات الإرادية التي تشارك فيها الأعضاء وهي أفعال الجوارح التي عناها القدماء في تحليلهم للأفعال والتي منها خرجت النظريات الثلاث، ثم في أفعال الشعور الخارجية في الطبيعة التي تظهر فيها قضية التوليد واعتباره نتيجة ثانية للأفعال في الخارج وليس إلى الداخل، استمرارا للأفعال في الطبيعة سواء في الحركة أو السكون أو الاعتماد والأكوان أو التأليف والتحليل أو في آثار الأفعال المعنوية كالسنن والتقاليد وأثرها في الأجيال التالية وهو ما لم يفصل فيه القدماء لتركيزهم على أفعال الشعور في الطبيعة وحدها. وهذا الترتيب يبدأ من الداخل إلى الخارج، واصفا أفعال الشعور من العمق إلى السطح، ومن الباطن إلى الظاهر؛ ومن ثم يكون بناء الموضوع رباعيا: أفعال الشعور الداخلية، أفعال الشعور الخارجية، أفعال الشعور في الطبيعة، أفعال الوعي الفردي والاجتماعي.
ثانيا: أفعال الشعور الداخلية
الأفعال نوعان: أفعال الشعور وأفعال البدن، الأفعال الداخلية والأفعال الخارجية. وقد سمى القدماء أفعال الشعور أفعال القلب، وأفعال البدن أفعال الجوارح. والقلب ليس آلة عضوية، بل يشير إلى حياة الشعور الداخلية، وهي أفعال لا محل لها، على عكس الجوارح التي في محل سواء في الآلة، اليد أو الرجل أو الرأس، أو في محل الفعل. وبالتالي ارتبطت أفعال الجوارح بالاعتمادات والأكوان والمماسات والحركات والسكنات وكل ما يتعلق بتوليد الأفعال.
1 (1) هل أفعال الشعور الداخلية أفعال جبرية؟
وأفعال الشعور أفعال مثل أفعال الجوارح، تنطبق عليها مقولات خلق الأفعال مثل الحركة والجبر.
2
وأول إيهام بالجبر إنما يأتي من إثبات الصفات والأسماء، خاصة صفات الفعل وأسماء الفعل المؤثرة في العالم مثل الإرادة والمشيئة والأمر والقدرة والخلق والإذن والتكليف والعلم والسخط والغضب. وما دام الأمر وضع على هذا النحو فمن الطبيعي ألا تكون هناك حرية أفعال على الإطلاق، سواء أفعال الشعور الداخلية أو أفعال الشعور الخارجية. ومن الطبيعي أن يحدث ذلك ما دامت هناك صفات مطلقة لا يقوى الإنسان أمامها شيئا، وما دام الإنسان قد وضع في مقابل الله من أجل معرفة أيهما أقدر! وكأن الحرية تتمثل في علاقة فعل الإنسان وإرادة الله وقدرته وعلمه، وليس بعلاقة فعل الإنسان في العالم، وتحقق إرادته في موقف. وقد نشأ الطرف الآخر متعاليا؛ نظرا لاغتراب الإنسان عن عالمه وإسقاطه العالم من الحساب وإيجاده بديلا آخر خارج العالم، فترك العالم إلى الله كما يترك الدنيا إلى الآخرة، يعيش خارج الدنيا، ويعيش في الآخرة قبل الأوان، يضع الدنيا آخر الزمان، ويحضر الآخرة أول الزمان، ويعيش مع الله قبل تحقيق الرسالة، وهو لم يفعل بعد ولم يستحق شيئا. يأخذ النتيجة بلا مقدمات، ويحصل على الثمرة بلا جهد، فتأتي غير ناضجة، مرة المذاق. إن إثبات صفات وأفعال زائدة على الذات يعطي للذات فاعلية مطلقة في العالم، تبدو لها من خلال الصفات والأفعال في مسار الطبيعة والفعل الإنساني. ومن ثم لا يكون الفعل الإنساني حرا لأنه خاضع إلى حرية أكبر تتدخل في مساره وفي مسار الطبيعة على حد سواء.
3
وإثبات قدم الصفات يقضي أيضا على خلق الأفعال لأنه لا يمكن أن يخرج فعل حر حادث من إرادة مطلقة قديمة.
4
قدم الصفات يستلزم قدم الأفعال مما يؤدي إلى نفي الحرية والاختيار، سواء كان ذلك في العلم أو القدرة أو الإرادة، وهي الصفات الثلاث الأكثر تدميرا لحرية الأفعال على عكس الحياة والسمع والبصر والكلام لما كان السمع والبصر تعبيرا عن العلم ووسائل له، والحياة شرطهما، والكلام إعلان عنهما. والحياة لا تشعر بها، والكلام شخصناه في القرآن ومنعناه عن أنفسنا فجعلنا الله متكلما وأنفسنا بكما. وتتعلق الصفات الانفعالية أيضا بالإرادة القديمة وبالتالي فإن أفعال الإرادة من رضا وغضب وسخط ... إلخ هي أيضا أفعال قديمة. إن إثبات قدم الإرادة يؤدي إلى نفي الحرية الإنسانية، كما أن نفي قدمها يؤدي بالضرورة إلى إثبات الحرية الإنسانية. ومعظم الحجج التي تقدم لإثبات قدم الإرادة إنما تكشف في الحقيقة عن الرغبة في تأكيد عواطف التأليه ووضعها على مستوى الكمال والإطلاق. وإذا كانت صفة واحدة قديمة مثل العلم فلا بد أن تكون باقي الصفات كذلك؛ لأن خلق الإرادة يوجب حدوث العلم وتغيره، وكأن النسق الذهني لصفات الله له الأولوية على حرية أفعال الإنسان.
5 (1-1) إثبات صفات العلم والقدرة والإرادة
وأهم الصفات التي يتذرع بها لإثبات الجبر هي صفات العلم والقدرة والإرادة مع الشيئية. والجبر نتيجة لإثبات صفتي العلم والقدرة، خاصة لما كانتا هما الصفتان الشاملتان، وإلا فجاز انقلاب علمه جهلا وقدرته عجزا ، وكأن فعل الإنسان الحر مجهول من الله ومعجز له! ينشأ الجبر في الأفعال من تصور علم الله المسبق بكل ما يحدث في الكون نتيجة لإثبات صفة العلم وقدمها وشمولها؛ لذلك كان نفي الصفات وإثبات حدوثها إثباتا لحرية الأفعال.
6
والحقيقة أن شمول العلم الإلهي حق وإلا كان الإنسان جاهلا، وأسبقيته دليل على وجود العلم القبلي وهو أحد مقولات العلم الإنساني. وأن إثبات الفعل الحر لا يعني إثبات الجهل في العلم، بل يعني إثبات العلم التجريبي المتغير تحقيقا للعلم في التجربة وقياسه عليها. علم الله في أحد جوانبه، خاصة فيما يتعلق بالشرائع والتكاليف، علم تجريبي معدل بعدي وهو ما أثبته أيضا علم أصول الفقه. إن أسبقية العلم لا تعني نفي حرية أفعال الشعور، فالعلم النظري شيء والواقع العملي شيء آخر. وإن من الحكمة التضحية بفعالية العلم ووقوعه من الله عن التضحية بحرية الأفعال الاختيارية من الإنسان. فالأولى لن تنال من الله في شيء، في حين أن الثانية تمنع الإنسان من التكليف. العلم حق نظري، ولكن حرية الأفعال حق عملي.
وينشأ الإيهام بالجبر من جعل الله قادرا على كل ممكن ومن ثم يكون الجبر نتيجة لنظرية الجائز والممكن والمستحيل. والحقيقة أن هناك فرقا بين الجواز العقلي والإمكان الفعلي. إذ إن الفعل لا يقدر على كل شيء ممكن في العقل. إن الجواز العقلي ليس مطلقا فإمكانيات العقل ليست افتراضا عشوائيا بل إمكانيات قصدية محكومة بإمكانية التحقق، وإلا كانت نظريات مجردة لا واقع لها ولا تتحول إلى واقع. وبالتالي فإن قلب المستحيل واجبا والواجب مستحيلا افتراض خاطئ؛ لأن أحكام العقل ليست عشوائية، بل هي إرادية قصدية حكيمة.
7
ولكن الصفة الغالبة في تحليل ذرائع الجبر هي صفة الإرادة. الإرادة شاملة، مطلقة وواحدة لا يند عنها شيء؛ وبالتالي انضوت جميع الأفعال الإنسانية تحتها. وتظهر في البسملات الإرادة الشاملة، وتثبت على حساب الحرية الإنسانية، كما تعقد لها أبواب خاصة في نهاية الصفات وكأن المقدمات هي النتائج، وكأن الأحكام المسبقة هو المطلوب إثباته.
8
والإرادة شاملة في الحال وفي المآل ، العبرة بالنهاية وليست بالبداية، والمحك هو المصير وليس فعلا واحدا. الإرادة هي المشيئة والاختيار والرضا والمحبة ... إلخ، وهي صفات أخرى دائمة لا تتغير بتغير الأفعال. والحقيقة أن هذا يدل على الظلم لأن أفعال العباد متغيرة وليس لها ثابت بدليل التوبة والأفعال المتجمدة؛ لذلك كانت العبرة فيها بالأفعال الختامية، بالتجارب وحصيلتها النهائية، أي بتجربة العمر كله ورصيد الإنسان النهائي. وإذا كانت الإرادة مطلقة وإلا وقع فيها النقص من وهن وضعف وتقصير عند بلوغ المراد فكأن حرية أفعال العباد تنال من إرادة الله المطلقة وشمولها وتصيبها بالسهو والغفلة أو الضعف والوهن والعجز والتقصير، وهو تصور غير كامل للإرادة الإلهية، وكأن إرادة الإنسان أقوى من إرادة الله والمسير لها والمسبب لأحداثها،
9
وجعل القضية من الغالب ومن المغلوب في تحقيق مراد الإنسان أم الله. ليست القضية معركة بين الله والإنسان؛ من الغالب فيها ومن الذي يتم مراده دون الآخر؟ فليس شرفا لله أن يدخل في معركة مع الإنسان، كما أن علاقة الإنسان بالله ليست علاقة الخصم أو الند. إن دليل الممانعة جائز لأن المراد بين إلهين متكافئين على نفس المستوى؛ إما أن يكون بين الإنسان والله فتلك علاقة غير متكافئة على الإطلاق، ومن الطبيعي إذا ما صارع الأسد فأرا أو فيل نملة أن تكون الغلبة للأسد أو الفيل، أليست القضية أيضا إرهابا لفعل الإنسان باتهام الحرية بأنها تجهيل لله وتعجيز له؟ فالمتكلم أين يقف؟ وفي صف من؟ دفاعا عن سلطة الله المطلقة أم دفاعا عن حرية الإنسان؟ دفاعا عن القوي أم دفاعا عن الضعيف؟ تأييدا للقاهر أم تأييدا للمقهور؟ دفاعا عمن ليس في حاجة إلى دفاع أم دفاعا عمن هو في حاجة إلى دفاع؟ تأكيدا على من لا تحتاج إرادته إلى إثبات أم إثباتا لمن تحف بإرادته المخاطر؟ نصرة للقادر أم نصرة للعاجز؟ وكون الإرادة واحدة محيطة بجميع المرادات على وفق علمه بها، فما علم منه كونه أراد كونه خيرا كان أو شرا، وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون، ولا يحدث في العالم شيء لا يريده الله، ولا ينتفي ما يريد الله، لا يعني كل ذلك نفيا لحرية أفعال الإنسان إنما هو إرهاب، إرهاب الإنسان بالوحدانية القاهرة وبالإرادة الشاملة لسلب الإنسان حرية الاختيار وقدرته على السلوك المتعدد المتغير طبقا للظروف.
10
ولا معنى لكون إرادة الله إرادة عامة وشاملة لا يؤثر فيها ترتيب الأفعال أو الاختصاص. وأن ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت، ومكان دون مكان، وزمان دون زمان لا يدل على إرادة خارجية بل على حكمة في الطبيعة وعلى عقل إنساني مدبر وعلى خطة عقلية سليمة. وأن إثبات الإرادة على أنها اختيار أحد الاحتمالات من القدرة المطلقة لهو إسقاط من شعور الإنسان بذاته على التأليه المشخص، سقوط موضوع الاختيار على الله. وتصور الإرادة على أنها تخصيص للقدرة لهو تصور علاقة بين العام والخاص في التأليه المشخص، وهو العالم الشامل المطلق الذي لا اختصاص فيه. وتصور أن إرادة الإنسان تخصيص لإرادة لهو وضع الإرادتين معا؛ إرادة الله وإرادة الإنسان كطرفين متكافئين في علاقة متكافئة، وهو وإن كان شرفا للإنسان أن يكون طرفا لله، فإنه قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى الله؛ وبالتالي ينتهي العدل إلى انتقاص للتوحيد. وقد ينشأ الجبر من أن إرادة الله المطلقة قد لا تعرف اختصاصا بالخير دون الشر، أو تفصيلا بين عام وخاص، وإيثارا للعام وترك الخاص لأفعال العباد نظرا لشمولها وعمومها وإطلاقها، وبالتالي تكون كالإرادة القاهرة، كالتيار الجارف الذي لا تقف أمامه إرادة أخرى. وإن عرفت الاختصاص فإنها تكون مشابهة للإرادة الإنسانية، وكأن إرادة الله تتحد بالنسبة لإرادة الإنسان، وبالتالي تكون إرادة الإنسان هي المحدد لإرادة الله عن طريق القلب.
11
والإرادة والمشيئة شيء واحد. فمن صفات الكمال نفاذ المشيئة. ونفاذ المشيئة يؤيد بإجماع السلف على قول «ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن!» والحقيقة أن نفاذ المشيئة للملك السلطان معارض أيضا بالثورة عليه وقلبه وعزله ومحاكمته وقتله. كما أن إجماع الأمة أقرب إلى إجماع في لحظة معينة، لحظة تسليم للسلطان، لحظة استسلام دون مقاومة، لحظة انكسار تاريخي وليس كل اللحظات. وهو أقرب إلى المثل الشعبي والقول المأثور، ولكنه ليس المثل الشعبي الوحيد. هناك أقوال مأثورة وأمثال شعبية تدعو إلى خلق الأفعال وإلى تحرر الإنسان وثورته على الظلم والطغيان. وما الهدف من إثبات عجز البشر وتأكيد عدم قدرتهم على الحركة، والقضاء على زمام المبادرة من أيديهم؟ لا مصلحة في ذلك إلا للسلطان. لذلك اعتمد على السلطة الدينية لتقرر له ما يريد ولتثبت له البناء النفسي الموروث للأمة منذ ألف عام أو يزيد. ليس المهم الحديث عن حق الله بل عن واقع البشر.
12
ليست المشيئة إرادة مشخصة لكائن مشخص، بل هي قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ، أي أنها هي مسار الكون بعد أن يتحقق، والزمان بعد أن يصبح حوادث ووقائع وتاريخا. (1-2) إثبات الأسماء
ويتخذ الإيهام بالجبر الأسماء أيضا ذريعة، ويعتمد عليها للإيحاء بالجبر خاصة وأنها كلها أسماء متعالية تعطي الأولوية المطلقة للفعل الإلهي، مع أنها مجموعة القيم الإنسانية النظرية والعملية ومقاييس للحكم.
13
وأكثر الأسماء شيوعا للإيهام بالجبر هو الخالق. فالله خالق كل شيء في الكون بما في ذلك أفعال الإنسان. ومن هنا يأتي اسم «خلق الأفعال» بمعنى أن الله هو الخالق لأفعال الإنسان. فإذا كان الفعل يتم بالقدرة والداعي، أي بالطاقة والباعث، فإنهما يأتيان من الإنسان. فلا يعني كون الإنسان مخلوقا أنهما أيضا مخلوقان. خلق الله الإنسان، ولكن قدراته ودواعيه من نفسه كما أن الله خلق الطبيعة ولكن قوانينها وحركتها من ذاتها. هناك فرق بين الخلق المادي التكويني للشيء وخلق الفعل الحر من الخلق الأول. فليس الإنسان خالقا لبدنه ولا لقواه ولا لموقفه الاجتماعي ومع ذلك فهو خالق لفعله، مسئول عن نشاطه.
14
قد يكون الهدف من الخلط بين الاثنين هو القضاء على استقلال الإنسان، وإيهام له بالتبعية، وأن وجوده قائم على أساس من خارجه في حياته ورزقه وأفعاله، فتنتفي المسئولية ويقضى على المعارضة، وإعطاء الأولوية المطلقة للعلة الأولى، أي السلطة على العلل الثانية أي المعارضة. إن كون الله خالق الكون هو حق طبيعي له، ولكن ذلك لا يعني أنه خالق للأفعال كحق معنوي، وكونه خالق الإنسان الحر لا يعني أنه خالق الفعل الحر. هناك حرية داخل الكون، في الطبيعة، وفي نطاق الأفعال، في الإنسان، هناك قوانين مستقلة، كمون وطفرة وظهور. إن كون الله خالق الكون والإنسان لا يمنع الإنسان من أن يكون خالقا حرا، مؤثرا في الكون ومغيرا للنظم الاجتماعية والسياسية. بل إن ضرورة أفعال الإنسان الحرة هي إكمال لأفعال الخلق وإعادة لنظامه الطبيعي. إن الاستنباط العقلي لا يحكم على التجارب الحسية، والاستدلال الصوري لا يقضي على الواقع المشاهد. فكون الله خالق كل شيء لا ينتج منه استدلالا أنه بالتالي خلق الأفعال، وبالتالي فالإنسان ليس خالق أفعاله، وبالتالي فهو ليس حرا مسئولا، وبالتالي في حاجة إلى وحي وإرادة مطلقة فتأتي السلطة السياسية المطلقة وتقوم بالدور! إن الجبر إنكار لحرية الإنسان ولتجدد أفعاله، بل وإنكار للتغير والقرار الحر والصراع والتاريخ. إذا كان كل شيء محددا من قبل، فإنه لا فعل ولا تغير ولا تاريخ، وتكون حياة الإنسان وصراعاته وهما في وهم وخداعا في خداع. إن الابتهال والدعاء والسؤال لله لا تعني أن الإنسان ليس خالقا لأفعال الشعور الداخلية، بل هي أقرب إلى تقوية الذات وتحمية الشعور وعقد العزم وإلا وقعنا في فلسفة السؤال وفي موقف الشحاذة.
15
ولما كان خلق أفعال الشعور أسهل من خلق الأجسام فإنه ليس من كمال الله أن يكون قادرا على خلق الأضعف. وما دام الاستنباط واردا فإن كان الله قادرا على خلق الأجسام فإنه طبقا لقياس الأولى يكون قادرا على خلق الأفعال ويكون إثبات خلق الله للأفعال تحصيل حاصل بالنسبة للتوحيد، ويقضي على حرية الأفعال وعلى خلق الإنسان لأفعاله بالنسبة للعدل. ويكون الهدف هو توجيه التوحيد لتقويض العدل كأسس نظري عقائدي لتصدى السلطة للقضاء على المعارضة. صحيح أن حرية الأفعال تتحقق في موقف وفي مجموع من الإرادات الخارجية، تقابلها العقبات، وتتحداها القوى، ومع ذلك تظل أفعالا حرة للشعور، ثابتة وباقية، وما الإرادة الخارجية المطلقة الشاملة إلا اختصار لمجموع الإرادات المقابلة، والعقبات المواجهة، ومكونات الموقف الاجتماعي الذي تتخلق فيه أفعال الإنسان. أفعال الشعور الداخلية أفعال حرة حتى يمكن الحكم عليها وعلى مسئولية الإنسان عنها. والخطأ في تصور الإرادة العامة المطلقة والشاملة اعتبارها مشخصة لمريد مشخص وليس إحالة مختصرة إلى «الموقف الحياتي» الذي يتم منه خلق الإنسان لأفعاله. كما أنها تشير إلى أنه لا يوجد شيء لا يمكن تطويعه أو يند عن الإرادة حتى يدرك الإنسان العالم خاضعا للفعل وإمكانيات التغيير.
وقد ينشأ الإيهام بالجبر من تصور الله ملكا والإنسان مملوكا، ومن الطبيعي أن يكون من حق الملك التصرف في مماليكه! وهذا تصور مهين لله وللإنسان على السواء؛ فالله ليس ملكا فقط، بل هو عادل حكيم، ومن سمات الملك العدل والحكمة. وهما يقتضيان أن يكون الإنسان خالقا لأفعاله حتى تصح المسئولية ويقع الاستحقاق، الثواب والعقاب. وهل المتكلم مدافع عن حق المالك أم عن حق المملوك؟ هل هو مدافع عن حق الحاكم أم عن حق المحكوم؟ لذلك سهل على المتكلم في الدنيا أن ينصب نفسه مدافعا عن حق الملوك والأمراء والسلاطين مبررا لأفعال الحكام والخلفاء والرؤساء ما داموا أصحاب سلطة، وما داموا أولى الأمر؛ مما جعل البعض الآخر يدافع عن حقوق المحكومين والمظلومين والمضطهدين ويأخذون صف الشعوب المغلوبة على أمرها. يمثل تراث السلطة الإرادة المطلقة، ويمثل تراث المعارضة خلق الإنسان لأفعاله. ودخلت معارك التفسير والمذاهب والعقائد في أتون الصراعات الاجتماعية والسياسية.
16
ومن الأسماء التي توهم بالجبر أن الله كامل، وأن تصور أي فعل حر مستقل عنه هو نيل من كماله وكأن الكمال لا يثبت إلا على حساب حرية أفعال العباد. وهو قريب من تصور الله كملك والعالم كله كملك له. وكأن الكمال الإلهي لا يثبت إلا بنقص الإنسان وخراب العالم.
17
وما أسهل الانتقال من الله الملك إلى السلطان الملك ما دامت عقائد الناس قد انغرس فيها الملك وأصبح الملك تكوينا نفسيا لهم وبناء شعوريا يوجههم، وثقافة يومية تغذيهم. وقد تكون الصورة ليس فقط المالك أو الكامل بل السيد، بالرغم من أن السيد ليس من الأسماء. فالسيد إذن أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده يأمره بالشيء ولا يريده منه. وكأن الله محتال، وكأن الله خادع للعبد، موقع له في شر أعماله، يأمره بالشيء ولا يريده منه. فالشيء لا يكون مرادا ويؤمر به! والفعل لا يكون قصدا ثم يأتي مخالفا للقصد، وإلا انفصل النظر عن العمل. وإذا اختلفت الأفعال فإنما يرجع ذلك لاختلاف الأحكام وسلم القيم.
18
والقول بالإلجاء هو أقرب إلى الجبر منه إلى الاختيار. وهو في حقيقة الأمر حاجة جدلية للرد على الجبر في أنه إذا كان مريدا لكل الأفعال، فالأولى أن يريد الطاعات وأن يلجئ العباد إليها بدلا من أن يلجئهم إلى المعاصي ويعذبهم، وتنزيها لله عن الشر وفعل القبائح. فهي حجة جدلية صرفة وليست شهادة واقعية لإثبات أن الله لا يتدخل في إيمان العباد أو كفرهم وإلا لجعلهم جميعا مؤمنين. ونحن لا نتحدث إلا عن الأفعال في الدنيا وليس عن الأفعال في الآخرة التي لا نعلم عنها شيئا والتي لم نشاهدها ولم نعشها ولم نعرفها إلا بقياس الغائب على الشاهد. خلق الإيمان بالالجاء هو أيضا جبر وليس فعلا اختياريا. وإذا كان الهدف هو إثبات قدرة الله دون قدرة الإنسان فالأولى إثباتها مباشرة دون ما حاجة إلى الإلجاء. ولماذا اللف والدوران عن طريق الإنسان؟ وهل الله يتخذ الإنسان ذريعة أو خديعة؟
19 (1-3) حجج الجبر
ويعتمد الإيهام بالجبر على عديد من الحجج النقلية أكثر من اعتماده الحلول المتوسطة بين الجبر والاختيار وأكثر من اعتماد التجربة الواقعية لخلق الإنسان لأفعاله، وذلك لأن الجبر نظرية السلطة تستعملها لفرض نفسها وقبول الناس لها؛ ومن ثم تستعمل السلطة السياسية حجج السلطة الدينية حتى يكون الموضوع والمنهج من النوع نفسه. ولأنه يصعب الدفاع عن الجبر عقلا فإنه لا سبيل إلا الدفاع عنه نقلا. وحجة النقل باعتباره سلطة هي في الحقيقة اختيار لنقل أو إسقاط من الأهواء والمصالح على النقل وابتسار ما يتفق معها منه؛ ومن ثم لا يوجد نقل إلا ومعه نقل مضاد لأهواء ومصالح متعارضة. ويكون الخلاف في التفسير هو في حقيقة الأمر تعارضا بين المصالح. ولما كان في كل مجتمع سلطة ومعارضة، قاهر ومقهور، أغنياء وفقراء، علية ودهماء، أقلية مسيطرة وأغلبية مقهورة؛ ظهر النقل نقلين. كل فريق يبتسر من النقل ما يتفق معه في مجتمعه، النقل فيه حجة وسلطة وهو مصدر للشرعية والطاعة. وما أسهل اتهام كل فريق بسوء التأويل أو سوء الفهم للآيات واستعداء النصوص على المواقف الفكرية التي تعبر عن المواقف السياسية أي استعداء السلطة على الخصوم وخاصة أن السلطة السياسة هي الحارس للسلطة الدينية وأن سلطة الحاكم هي الحارس لسلطة الكتاب والمستمدة منه. والنصوص متشابهة خاصة فيما يتعلق بالمتشابهات تعبيرا عن هذا الموقف الاجتماعي المزدوج وإعطاء كل فريق حقه في النضال السياسي والاحتكام إلى السلطة الشرعية. فإذا ما أعطى في بعض النصوص المتشابهة الأولوية للفعل الإلهي على الفعل الإنساني فإنما يكون ذلك تأدبا وتأكيدا للحق النظري الشرعي لله. كما أنه يكون في سياق خاص تدعيما للمعارضة وتشجيعا لها وتقوية لحقها ورفعا لمعنوياتها حتى لا يقع الفعل الإنساني تحت منظور قصير فيصاب باليأس والتشاؤم والإحباط. فلا تخرج الآيات من سياقها، أي من «أسباب النزول». وقد نزلت أمثال هذه النصوص في مجتمع ديني في أول عهد الناس بالرسالة دفعا للإيمان، وتأكيدا للألوهية كعامل نصر فريد ليس له وجود عند الآخر في مرحلة الفتح وليس تدعيما لفريق ضد فريق داخل المجتمع الجديد، وليس نصرة للسلطة على حساب المعارضة بعد قيام الدولة.
20
كما يعتمد الإيهام بالجبر على شبهة لا تثبت الجبر بقدر ما تثبت حرية الإنسان وتعبيره عنها بأعمال العقل وقدرته على الفرض. وهي شبهة مستمدة من قصص وليس من حكم، وهي قصة إبليس في صراعه مع الله. فالعلم السابق بوقوع الحوادث لا يمنع من اختراق الحرية الإنسانية لهذا العلم وإيقاع الحوادث على نحو غيره إثباتا لحرية العقل، وإعلانا على أن العلم الإلهي المسبق ليس جبرا للأفعال أثناء تحققها، وعلى الفرق بين الحق النظري والأداء العملي. كما تشير القصة إلى أن الإنسان سيد الكون، وله تخضع كل المخلوقات لأنه هو الفاعل الحر، وغيره من الكائنات الطبيعية أو الإلهية لا حرية لها، بل يمتثل ويطيع دون اختيار آخر أو بديل، لا فرق في ذلك بين الأرض والسماء وكل الموجودات الطبيعية وبين الملائكة والجن والشياطين. كما تدل القصة على أن لكل فعل حكما، وأن كل حكم يتضمن جزاء، وأن إنكار سيادة إنسان على الكون حكم يتطلب جزاء. وتشير أخيرا إلى أن الإنسان بين عالمين، الإقدام والإحجام، التقدم والنكوص، الرفعة والذل، والحرية هي التي توجه الإنسان إلى هذين العالمين. الإنسان هو المتحدي، وحريته تظهر في المقاومة، مقاومة الإغراء، والنظر إلى ما هو أبعد، والتضحية، وعدم الاستسلام. القدرة واحدة، والإرادة واحدة سواء على الكفر أو على الإيمان. والمحك هو الاختيار القائم على العقل والرؤية والقصد.
21
وتكون الحرية داخلية صرفة، غير مرئية، حرية الإيمان وعدم الإيمان. وهذا لا يتأتى إلا من الوعي الخالص المستقل عن شوائبه المادية عن مصلحة، وغاية قصيرة، وصغائر. أفعال الشعور الداخلية إذن أفعال حرة بقدر ما هي مرتبطة بغايات الإنسان وأهدافه واتجاهاته. للإنسان السيطرة عليها بالعلم والإرادة والقدرة والحياة. قد لا تبدو فيها حرية الأفعال ظاهرة ولكنها أفعال حرة بتحليل التجارب الشعورية واستبطان أفعال الشعور. ولماذا يثبت قياس الغائب على الشاهد في الصفات وينفى في الأفعال؟ وإذا كان هذا المقياس أساس الفكر الديني كله بصرف النظر عن موضوعاته، التوحيد أم العدل، فلماذا يستعمل في التوحيد دون العدل؟ لماذا لا يكون الشاهد هو إثبات خلق الأفعال وبالتالي قياس الغائب عليها قلبا؟ ألا تثبت التجربة أن الإنسان صاحب أفعاله؟ ولماذا ابتسار التجربة الإنسانية وأخذ ما اتفق منها مع الموقف الديني السياسي المسبق الذي يعطي الأولوية للفعل الخارجي، لله أم للسلطان على الفعل الإنساني؟ إن التجارب المضادة لحرية الإنسان وخلقه لأفعاله لا تثبت الجبر، بل تبين إمكانات القدرة البشرية وحدودها وموانعها وعقباتها من أجل إظهارها وشحذها وإعادة النظر في طرق ممارستها، فهي معها لا ضدها، وجزء منها لا خارجا عنها.
22 (1-4) خطورة الجبر
إن الإيهام بالجبر لو نجح أن يتحول إلى عقيدة ليؤدي لا محالة إلى ضياع حرية الأفعال ، وبالتالي القضاء كلية على الإنسان وعلى أحد مظاهر وجوده. كما يؤدي إلى تدمير العالم كلية وهدم قوانينه الثابتة. وكيف يعيش الإنسان بلا إرادة وفي عالم لا يحكمه قانون، وكل شيء فيه خاضع لإرادة مطلقة ومشخصة لا يقوى أمامها شيء سواء قانون الاستحقاق أو قانون الطبيعة؟ كما يجعل الجبر الله مسئولا عن الشرور في العالم، وهو تناقض مع طبيعة الله الخيرة؛ إذ إنه يضيف القبائح إلى الله ويجعله مثل الشيطان مصدرا للشرور، وبالتالي يحال موضوع خلق الأفعال إلى موضوع تنزيه الله عن القبائح أي إلى الحسن والقبح العقليين وما يتعلق بهما من صلاح وأصلح وغائية وقصد. والأخطر من ذلك كله هو تحول الجبر الميتافيزيقي العام إلى عقيدة القضاء والقدرة الخاصة وأثرها في سلوك الأفراد والجماعات، وجعل الناس راضين بهما ومنعهم من القدرة على الحركة والتغير والثورة. ثم ترسخ العقيدة في وجدان الأمة وبالتالي تستمر مرحلة التخلف بكل مظاهره من طغيان داخلي وقهر خارجي وتبعية وانحياز وضياع لاستقلال الأمة وحريتها. ثم توجد أنظمة تسلطية تقوم بالدور نفسه وتتحد مصالحها مع السلطة الدينية فيصبح الجبر الدعامة النظرية للنظم القائمة وتستأصل المعارضة التي تروج لخلق الإنسان لأفعاله باعتبارها ضد الإرادة الإلهية وهي في الحقيقة ضد إرادة السلطان. وما أسهل أن يدافع الإنسان عن الله وحقه المطلق الثابت، ولكن ما أصعب الدفاع عن الإنسان وحقه المهضوم الضائع وعن حقوق الشعوب! ما أسهل الدفاع عن حرية أفعال الله التي لا نزاع فيها! وما أصعب الدفاع عن حرية أفعال الإنسان التي تنكرها كل النظم السياسية ويسقط دفاعا عنها المناضلون والشهداء! جبر الأفعال مزايدة على الله تكشف عن مناقصة في الإنسان. تأخذ بالطريق السهل وتترك الطريق الصعب، تدخل في معركة مكسوبة سلفا اعتمادا على سلطة الدولة وتترك المعركة القائمة بالفعل اعتمادا على حق الشعوب وعلى قوى المعارضة. إن إثبات قدرة الذات المشخصة وإثبات عظمتها بالنسبة لقدرة الإنسان هو إثبات الفيل للنملة أنه قادر على ما هي قادرة عليه. وذلك يقوم على الإيحاء بأن الفيل ليس فيلا بل مجرد وهم والنملة قادرة على الفعل ولا يمنعها الفيل من شيء. والحقيقة أن كل شيء لا يقاس بشيء آخر نسبة بل يقاس في ذاته. فالنملة في عالمها قادرة على السعي والدفاع وجلب الرزق والعمل المشترك. إن النملة قادرة كما تقص الحكايات الشعبية على قهر الفيل؛ فالقدرة الجسمية أحط أنواع القدرة إذا ما قيست بقدرات العقل والحيلة والذكاء. وقد تمكث النملة في أذن الفيل حتى يهج ويقع. وبالتالي ينتهي الجبر إلى عكس ما كان يرمي إليه وهو الدفاع عن التوحيد. فلا هو دافع عن التوحيد نظرا لإثباته أن الفيل أقدر على النملة، ولا هو حافظ على العدل أي على قدرة النملة على العيش والكسب والجد والجهد والدفاع.
الجبر مجرد مزايدة من العاجز عن الفعل وإسناد كل فعل إلى الله. وهو يكشف عن اغتراب الإنسان في العالم وأنه يسقط العالم من الحساب كميدان للفعل. وهو نفاق يحيل العجز قوة، وتعويض بجد في الغير هروبا من الذات، وهو في نهاية الأمر فكر سلطة بغيته تأييد السلطان ضد حقوق الشعوب وأصحاب الحقوق. (2) هل أفعال الشعور الداخلية أفعال جبرية حرة؟
وقد يخفف الجبر قليلا وتقترب أفعال الشعور الداخلية من الأفعال الحرة، وذلك بالتقليل من أسباب الجبر وبواعثه وفي مقدمتها العلم الإلهي المسبق عن طريق التمييز بين العلم الشامل والعلم التفصيلي. فالله يعلم كل المرادات على الجملة لا على التفصيل حيث تتفصل الوقائع وتتحقق كوقائع جزئية متفردة. ففي الجزئيات هناك مكان لحرية الأفعال وليس في الكليات. وعيب هذا الحل أنه يجعل العلم الإلهي منقوصا، ويجوز الجهل على الله، وهو ما ينكره المتكلمون على الفلاسفة واتهامهم لهم من إنكار لعلم الله بالجزئيات. كما أنه يجعل إرادة الله منقوصة بإخراج أفعال البشر من شمولها؛ ومن ثم لا مكان لنقد حرية أفعال العباد. ثم إن الإنسان يبدو حرا ولكن متخفيا متلصصا من تحت الإرادة أو من وراء العلم الإلهي وليس كحق من حقوقه؛ ومن ثم ينتهي هذا الحل بإقلاله من التوحيد والنيل منه وبعدم الوصول إلى العدل كحق إنساني.
23
ويمكن فهم نظرية الكسب أيضا على هذا النحو ولكن على مستوى الإرادة وليس على مستوى العلم؛ إذ يمكن الجمع بين الإرادتين على طريقة الجملة والتفصيل. الله مريد على الجملة والإنسان مريد على التفصيل، ولا تعارض بإخراج تفصيلاتها منها. كما أنه لا ينفي جبرية الأفعال لأن التفصيل ما زال في إطار الجملة أو يثبت حرية الأفعال؛ وبالتالي لا يمكن نقدها. كما أنه يقع في تصور كمي لعلاقة الجملة بالتفصيل وكأن القسمة قد أعطت الله أكثر مما أعطت الإنسان إرضاء لله والإنسان معا مع الاحتفاظ بنسبة الشرف، فالأكثر شرفا يحصل على نصيب أكبر من الأقل شرفا. ويبدو الإنسان أيضا متلصصا بإرادة من تحت الإرادة الإلهية أو من ورائها. وكيف لا يقع جزء من العلم الإلهي أو الإرادة الإلهية؟ وهل الأجزاء والتفصيلات إلا تعينات للكليات والعموميات؟ ألا يطعن غياب الجزء في شرعية الكل؟ ألا يكون الجزء أحيانا أقوى من الكل لأن الكل لا يبدو إلا في الأجزاء؟ فلا التوحيد قد تم الإبقاء عليه، ولا العدل قد تم الوصول إليه.
24
والتفرقة بين الإرادة والرضا أحد الحلول المتوسطة؛ فقد أراد الله ضلال من ضل وشاء كفر من كفر، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر، فما أثبته الله غير ما نفاه ضرورة؛ أثبت الإرادة لكونه والمشيئة لوجوده ونفى الرضى به، وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة. والسؤال الآن: هل التفرقة بين الرضا وبين الإرادة ممكنة؟ هل يجوز أن يرضى الله عن فعل لا يريده، أو يريد فعلا لا يرضى عنه؟ إن ذلك تخيل القسمة في الإرادة الإلهية قياسا على الإرادة الإنسانية وتنازع الإنسان بين باعثين. ففي الله هناك تجانس بين الإرادة والرضا؛ فالرضا تعبير عن الإرادة وليس مضادا لها، هذا التباين بين الإرادة والرضا يوقع في تصور منقوص للإرادة باستثناء الرضا منها، كما أنه يجعل الرضا فوق الإرادة مع أنه أحد مظاهرها. فإذا ما أراد الله الكفر ولكنه لا يرضاه فإن ذلك ينقل موضوع خلق الأفعال إلى موضوع الحسن والقبح العقليين وتظل الحاجة ماسة إلى تنزيه الله عن الشرور والقبائح. وإلا فكيف يمكن حل مشكلة ثم الوقوع في مشكلة أعظم؟
25
والعجيب في محاولات التوفيق جعل الأفعال الحسنة من الله والأفعال القبيحة من الإنسان! وكأن الله له الخير والإنسان له الشر «وتلك قسمة ضيزى». وهي نظرة ثنائية تجعل الفعل له فاعلان، فاعل للخير وفاعل للشر، تعطي الأول لله والثاني للإنسان، تجعل الله مسئولا عن نصف أفعال الإنسان والإنسان مسئولا عن نصف أفعال الله؛ فلا هي أعطت كل شيء لله حفاظا على التوحيد، ولا هي أعطت كل شيء للإنسان حفاظا على العدل؛ فضاع التوحيد والعدل معا. كما أنها تضع الإنسان على نفس المستوى مع الله في مسئولية كليهما عن الأفعال، وكأن الإنسان على نفس المستوى مع الله في مسئولية كليهما عن الأفعال، وكأن الإنسان شريك لله والله شريك للإنسان، وكأنهما قرينان، إما إقلالا لله نزولا حتى الإنسان أو إعلاء للإنسان صعودا حتى الله. وهي نظرة تقوم على التطهر، وتجعل أفضل قسم في الإنسان هو الله، وأسوأ قسم فيه هو الإنسان. وهي نظرة بطولية تجعل الإنسان مسئولا عن الشر وحده والله مسئولا عن الخير وحده، اتهاما للذات وتبرئة للغير؛ نظرة سوداوية تجعل الإنسان مسئولا عن القبح وكأنه لا يفعل إلا القبيح، تقوم على تعذيب الذات والتضحية في سبيل الغير، كما تقتضي بذلك علاقة الحبيب بالحبيب. ولكن النظرة الأكثر بطولية تجعل الإنسان مسئولا عن كل شيء، عن الخير والشر، والحسن والقبح، أما من حيث الله، والله لا يحتاج إلى إثبات بطولة، أو من حيث الإنسان، فالإنسان موجود من أجل البطولة في الاستخلاف.
وكيف يتخلى الله عن مسئولية فعل القبائح والشرور بدعوى التنزيه؟ وكيف يدين الله الحبيب؟ وكيف يكون الله أنانيا يحتفظ لنفسه بالخير ويترك للإنسان الشر؟ ألا يكون الإنسان في هذه الحالة أكثر ألوهية من الله بتحمله المسئولية كاملة عن الشرور، وبتضحيته بالذات في سبيل الآخر، وبغيرته وإيثار الآخر على النفس؟ إن جعل المعبود مسئولا عن الطاعات والإنسان مسئولا عن المعاصي قسمة قائمة على الطهارة بالنسبة للمعبود وبالقسوة بالنسبة للإنسان. وأن جعل الذات المشخصة المطلقة مسئولة عن الأفعال الإيجابية دون السلبية تطهر وتنزيه للحبيب من الشر وإلصاق للشر بالإنسان خاصة لو كان ذلك يحدث بعد الإتيان بالفعل. إن كان خيرا أعطي للمطلق وإن كان شرا ترك للإنسان. ولماذا لا يكون الإنسان مصدرا للخير ويكون مصدرا للشر وحده؟ وكيف يتم فعل باتهام الذات وتعذيبها المستمر؟ وكيف يتم خلق وإبداع والإنسان محبط مهان مذنب؟
26
والحلول المتوسطة في الحقيقة أقرب إلى الجبر منها إلى الاختيار. ولا تعتمد على الحجج النقلية لأن حجج الطرفين موجودة، ولكنها تعبر عن مجرد الرغبة في إثبات شرعية الموقفين: النظرية لله والعملية للإنسان والرغبة في المصالحة بين الموقفين المتقابلين. كما تكشف عن الرغبة في تأكيد عاطفة الإيمان وضرورة العقل والفعل، رغبة في الحسنيين، وكأنها مصالحة بين فريقي الأمة توحيدا للفكر وحماية لها من الفتن والشقاق. وقد تكون محاولات التوقيف مجرد صياغات في العبارة بلا مضمون أو اتساق وكأن الأمر مجرد صياغة بيان سياسي يرضي كل الأطراف، ويحقق كل المصالح والذي ينتهي في النهاية بألا يحقق أحد منها بعد ما يفسره كل طرف على هواه. فالله أراد المحدثات دون أن يسميها كفرا ومعصية، أي الإبقاء على المبدأ العام دون الوقائع المحددة، مثل الحديث عن حقوق شعب دون الحديث عن أرض أو حدود أو هوية أو استقلال أو سيادة.
27
وعادة ما يصعب التوفيق بين أي طرفين عن طريق الالتقاء في المنتصف مثل التوفيق بين حرية الأفعال وصفات الإرادة أو أسماء الذات، فأفعال الناس إما أن تكون حرة أو لا تكون. ينتهي التوسط إلى تأجيل الصراع وليس إلى إلغائه، فيتفجر بعد ذلك. ولا يبقى إلا احتواء أحد الأطراف للآخر عن طريق التأويل. (3) أفعال الشعور الداخلية أفعال حرة
لما كان إثبات الصفات أحد بواعث نفي خلق الإنسان لأفعاله، فإن نفي الصفات يكون أحد بواعث إثبات خلق الإنسان لها ومسئوليته عنها؛ هناك إذن صلة بين التوحيد والعدل تتمثل في إثبات الصفات لله ونفي الأفعال للإنسان أو في نفي الصفات لله وإثبات الأفعال للإنسان. هذا هو النسق الدائم إلا إذا كان في غمرة الحماس للنفي يتم نفي الصفات والأفعال معا، وهو النفي الغاضب المبدئي الذي تنفى فيه صفات الله وأفعال الإنسان معا.
28
وقد يكون السبب في ذلك هو نقل صورة المعبود على الإنسان، واعتبار الحرية صفة للذات الإنسانية، فكما أنكرت صفات المعبود تنكر أيضا صفات العابد. (3-1) نفي صفات العلم والقدرة والإرادة
ومن الصفات التي يتم نفيها خاصة العلم والقدرة والإرادة، لما كانت الحياة شرطا للعلم ولما كان السمع والبصر والكلام أيضا من مظاهر العلم، سواء المعرفة الحسية، السمع والبصر، أو التعبيرات اللغوية في الكلام. والحقيقة أن نفي الصفة لإنفاذ الفعل إنما هو إثبات لحق الله النظري وحق الله العملي. فهناك فرق بين ما هو نظري شرعي وما هو واقعي حسي. فالصفة المطلقة سواء كانت العلم أو القدرة أو الإرادة حق نظري شرعي لله، وحرية الأفعال حق عملي حسي للإنسان ولا تعارض بين الاثنين. فبالنسبة لصفة العلم، علم الله علمان: علم قبلي استنباطي عن طريق المبادئ العامة، وعلم بعدي استقرائي عن طريق الوقائع الجزئية؛ فالإيهام بالجبر أو بالكسب إنما ينطلق من العلم الأول الشامل الذي لا تغيب عنه الجزئيات قبل وقوعها بينما ينطلق واقع الحرية من العلم الثاني بالأفعال بعد تحققها. العلم المطلق لا يحتاج إلى وقائع؛ فهو علم صفة لا علم وجود.
29
وهو لا يمنع من حرية الإنسان لأنه لا يوجد علم قبلي بها، بل العلم علم بعدي محض. أفعال الإنسان سابقة على العلم المطلق بها.
30
والعلم المطلق بالوقائع لا يمنع من حدوث الوقائع على نحو مخالف لهذا العلم المسبق. فالحرية الإنسانية قادرة على اختراق حاجز العلم. والعلم المسبق على نحو كلي وشامل لا يمنع من تجدد الفعل وتغيره على نحو جزئي، فالعلم إحاطة والفعل تحقق.
31
ولا ضير أن يكون علم الله مشروطا بأفعال العباد وليس للعلم الإلهي، ولا ضير أن يكون العلم الإلهي متغيرا لصالح العباد كما هو الحال في النسخ. وقد يكون الفصل بين العلم والإرادة أحد وسائل إنفاذ حرية الأفعال. فالله لم يزل مريدا لما علم أنه يكون، أي أن علمه أوسع من إرادته، وأنه على حق مطلق ولكن إرادته حق نسبي، والنظر في النهاية سابق على العمل وأعلى منه ومحيط به.
32
علم الله المسبق إذن لا ينال من حرية الأفعال، بل هو أشبه برصد النتائج مسبقا لاختيار البشر. صحيح أن العلم يوجب وجود المعلوم ولكنه لا يوجب التعلق واتجاه المعلوم نحو فعل معين. صحيح أن العلم أشمل من الأفعال ومع ذلك فليس المطلوب هو الدفاع عن شمول العلم بل عن اختيار الأفعال وإلا تم الخلط بين مستوى الحق النظري ومستوى الواقع العملي. علم الله حق نظري، وحرية أفعال الإنسان حق عملي.
33
وكما ينفى العلم تنفى القدرة على الظلم وعلى فعل الضدين وعلى خرق القانون أو على التدخل في حرية الأفعال، وذلك لأن كل هذه الصفات مشتقة من صفات الإنسان ولا وجود لها بالفعل، بل مجرد إسقاطات من الإنسان على الوعي بذاته المشخص خارجا عنه.
34
ولا يمكن تصور تعارض في صفات الذات وإلا كان نقصا في التنزيه. فالسؤال التقليدي: هل يأمر الله من يعلم أنه يحول بينه وبين الفعل؟ وضع لصفتي العلم والقدرة موضع التعارض والتضارب. والسؤال لا يعبر عن مشكلة واقعية بقدر ما هو تمرين عقلي يسمح للذهن بإظهار عواطف التأليه بالتضحية بحرية الإنسان.
35
وكما ينفى العلم والقدرة تنفى الإرادة. كما تنفى أسماء الإرادة أو صفات الانفعال مثل الرضا والسخط لإفساح المجال لحرية الأفعال.
36
فنفي الصفات إثبات للحرية الإنسانية وكسر لأغلفتها الخارجية. والحقيقة أن نفي الإرادة إنما يعني في الواقع إعادة تفسيرها بحيث تفسح المعاني الجديدة المجال لحرية الأفعال. فيعاد تفسير الإرادة إنقاذا للحرية الإنسانية على أنها علم أو أوامر أو حكم أو تسمية أو مراد أو تخلية أو ميل أو اختيار أو كراهة أو حركة أو معنى. ويعاد تأويل قصة إبليس حتى تنتهي في النهاية إلى كون الإرادة مجازا في الله، حقيقة في الإنسان، ويسترد الإنسان حريته. فالإرادة هي العلم، والعلم حق نظري وليس تحقيقا عمليا كما هو الحال في صفة العلم. العلم حق نظري وحرية الأفعال واقع عملي، والعلم النظري به حرية الأفعال، وهو لا يجبر على شيء؛ لأن الحرية مسطورة فيه. ولن يكره الله حرية الإنسان وفعله الاختياري، بل إنه يجعل ذلك مطويا تحت حقه النظري. بل إن من عظمة الملوك تحقيق إرادة الشعوب، فإرادة الملوك من إرادة الشعوب، وإرادة الشعوب تقوية لإرادة الملوك، وليست مناهضة لها، خاصة إذا كانت الملوك عادلة والشعوب واعية. وإن سخط الله وغضبه ليس إجبارا للعباد، ولكن تعاطفا معهم، وحبا لهم، وشفقة بهم، معهم وليس ضدا لهم. صحيح أن الله فعال لما يريد، ولكن ذلك حق نظري وليس واقعا علميا. وأكرم إلى الله أن يكون ملكا في عالم حر ولشعب حر على أن يكون ملكا قاهرا على شعب مقهور بلا إرادة، وأن من عظمة الملوك حريات الشعوب واستقلال إرادتها، وهي ليست صفات متضادة بل هي متحدة. ليست الإرادة ضد العلم أو العلم ضد الإرادة، بل هي صفات واحدة. ما يحدث في العالم يحدث بعلم وإرادة لا بمعنى أنه يحدث ما يجهله أو ما لا يريده. علم الله تجريبي وليس إجبارا لأفعال الإنسان، وإرادته تقوية لإرادة الإنسان وليست ضدها.
37 (3-2) تأويل الإرادة
وقد تكون الإرادة هي الأمر. ويكون رد الإرادة إلى الأمر مثل ردها إلى الخلق أو إلى العلم لإنفاذ حرية الأفعال. والأمر ليس إجبارا، بل مجرد توجيه ودعوة إلى الفعل وليس تحقيقا للفعل، وهو المنوط بإرادة الإنسان وحريته. ولا يعني ذلك الأمر بأفعال الأطفال والمجانين لأن شرط التكليف العقل والبلوغ؛ فهو أمر شرعي وليس أمرا كونيا ميتافيزيقيا غيبيا. إن التوحيد بين الإرادة المطلقة وبين الأمر المطلق ينقذ الفعل الإنساني الحر وفي الوقت نفسه لا يثبت حق التأليه. وهو أقرب إلى إثبات الحرية من نفيها. الله مريد لتكوين الأشياء يعني أنه كونها وأن إرادته للتكوين هي التكوين.
38
لذلك فإن فعل الأمر واقع. ولو ارتبط بمشيئة الله ولم يقع فإنه حنث باليمين. والفعل قبل أن يقع لا يسمى فعلا. الأمر مجرد توجيه للفعل ونداء له.
39
ليس المطلوب من الإنسان تحقيق الإرادة الخفية في الأمر الظاهر؛ فالوحي شرع وليس غيبا، وضوح وليس استنباطا، أمر ونهي وليس عقيدة. ولا يحتاج في ذلك إلا إلى الحسن والقبح وإلى علاقة الإنسان العملية بالوحي، أي بالكلام وليس بالله أي الشخص. أفعال الشعور الداخلية إذن أفعال حرية، سواء فيما يتعلق منها بالإيمان أو الكفر لأن الكافر مأمور بالإيمان، والأمر تكليف، والتكليف يقتضي حرية الأفعال وإلا كان الكافر مطيعا لأنه كفر بناء على أمر الكفر؛ فالإرادة على وفق الأمر هذه المرة لا على وفق العلم. ولو كان الرضا بقضاء الله واجبا لكان الرضا بالكفر كفرا. كما أن ذلك الافتراض يضع الله في محنة التعارض بين الإرادة والحكمة؛ مما يجعل إيمان الإنسان بالقضاء إيمانا متناقضا يبعث على الكفر، في حين أن إرادة الله عاقلة لا تقضي على أحد بالكفر أو تضطره إلى الإيمان.
40
وقد تكون الإرادة مجرد حكم على الشيء وليس جبرا له، مجرد تعلق دون فعل. ولما كان الحكم يأتي عن طريق الخبر، كانت إرادة الشيء هي الحكم عليه عن طريق الخبر. وقد يتحول الحكم المنطقي إلى حكم خلقي فتكون أحكام الله أحكاما خلقية مطلقة تخص الصفات الموضوعية للأشياء. قد تكون الإرادة إذن حكما عقليا على المراد دون أن تكون حكما فعليا، وقد تكون حكما فعليا بالإضافة إلى كونها حكما عقليا، وقد يكون الحكم لغويا، أي تسمية الإيمان حسنا والكفر قبحا. دور الإرادة المطلق هو إطلاق الأسماء والأحكام دون خلق المرادات؛ لذلك سمي موضوع الإيمان والكفر في علم أصول الدين الأسماء والأحكام.
41
وقد تكون العداوة هي المراد، أي التوحيد بين الإرادة والشيء؛ لأنها ما دامت مطلقة فكل ما تريده واقع. في حين أنه في العالم الإنساني هناك مسافة بين مضمون الإرادة وبين الشيء المراد بعد أن يتحقق. ولا يتخطى هذه المسافة إلا الفعل الإنساني. فوصف الإرادة بالشيء ليس وقوعا في التجسيم أو في التشبيه، بل توحيد بين الإرادة والشيء المراد. التوحيد بين الذات والموضوع إذن هو أحد الحلول الإنسانية ولكن تظل الخطورة على الحرية الإنسانية قائمة.
42
كذلك تكتسب الإرادة صفة المراد بها. فإن كان المراد سفها كانت الإرادة سفها، وكانت إرادة الطاعة طاعة. ولا يعني ذلك أن يكون الله مطيعا لإرادته، بل يعني اتساق الإرادة مع المراد، وهو أقرب إلى العدل من الظلم، وإلى الحكمة من السفه، وإلى العقل والاتساق من التناقض والتضاد، ومن الحكمة والقصد إلى العبث والسخف.
43
وفي بناء ذهني آخر قد يكون التوحيد بين الإرادة والشيء خطرا على الحرية وموهما بالجبر؛ لذلك فإن التمييز بينهما يكون أكثر مدعاة لإثبات الحرية. وفي هذه الحالة تكون الإرادة صفة ذات والمراد صفة فعل أو شيء. فالإرادة موجودة لا في مكان، بلا محل، والمراد هو الأمر الموجود في الزمان والمكان. إذا كانت الإرادة قديمة فالمراد حادث، وإذا كان التوحيد بين الإرادة والمراد يدل على العظمة، فإن التمييز بينهما يدل على الحرية الإنسانية. وتكون الإرادة هنا معناها الاختيار، والمريد هو المختار لا في التأليه بل في الإنسان.
44
ومع ذلك فإن اتفاق كفر الكافر مع مراد الله لا يعني أجره على ثواب الطاعة، بل يعني عقابه لسوء استخدام العقل والفعل الحر، وأن مراد الله يكون تابعا للفعل وليس سابقا عليه، والعلم به مسبقا لا يعني الاضطرار إليه.
45
وقد تكون الإرادة مجردة تهيئة المراد. ولكن حتى هذه التهيئة قد تدخل في الفعل الإنساني. وماذا لو حدث التدخل ثم جلب الفعل الإنساني الضرر لا النفع، وهو نفس معنى التخلية؟ فقد تكون التهيئة بمعنى أن الله خلى بينهم وبينها. والتخلية في الواقع إثبات الحرية أكثر من نفيها. ولكنها تفيد أيضا معنى عجز الإرادة المطلقة وتلغي دورها في الفعل، كما أنها تضع مشكلات أكثر منها مثل: كيف يخلي المؤله الموصوف بصفات الكمال بين الإنسان وبين الأفعال السلبية؟ كيف يسمح الكمال بالنقص، والخير بالشر، والحسن بالقبيح؟
46
وقد تعني الإرادة كراهة الله للفعل دون إتيانه، والقيام به بدلا عن الإنسان، هذا فيما يتعلق بالأوامر والنواهي، بالطاعات والمعاصي. أما فيما يتعلق بالمباح وما لا يدخل تحت التكليف من أفعال مثل أفعال المجانين أو الأطفال أو البهائم فلا تدخل تحت مرادات الله إرادة أو كراهية.
47
فالله غير مريد على الحقيقة، وإرادته إضافة أو سلب كما هو الحال عند الحكماء، سلب الكراهية وسلب العلية.
48
وقد لا تكون الإرادة هي الجبر بل الاختيار؛ فالمريد هو المختار وليس المجبر، أي أن العلاقة مع ذاته وليست مع غيره، العلاقة مع الذات اختيار ومع الآخر جبر، فلماذا تعطى أولوية العلاقة للغير على أولوية العلاقة بالذات؟
49
قد تعني الإرادة أن المريد غير مغلوب ولا مستكره، أي أنها الاختيار، وهو تعريف الإرادة بنفي ضدها؛ وفي هذه الحالة تعني الإرادة الاختيار وليس الجبر، ويكون الإنسان قد ظلم نفسه برؤية الجبر في الاختيار.
50
وقد تكون الإرادة هي الميل، أي مجرد الرغبة والاتجاه والقصد دون أن تكون هناك ملكة تسمى الإرادة، أي أنها أقرب إلى الوجود كله منها إلى أحد قواه.
51
وبهذا المعنى قد تكون الإرادة أيضا حركة. ولا تعني الحركة بالضرورة حركة الأجسام، بل قد تكون حركة البواعث؛ فالإرادة تشخيص للقوى والملكات النفسانية. والحقيقة أنها ترجع في الحياة الإنسانية إلى الباعث. فالباعث القوي يتحقق، والباعث الضعيف لا يتحقق؛ ومن ثم تنشأ مشكلة الإرادة؛ إرادة القوة تعبر عن الحياة وتتحقق بالضرورة، وإرادة التاريخ تعبر عن مسار التاريخ وتتحقق بالضرورة، وإرادة الشعوب تعبر عن حقيقة إنسانية ومن ثم تتحقق بالضرورة.
52
والباعث هو الشخص. وإذا كان الشخص من ناحية والباعث من ناحية أخرى يكون ذلك ضعيفا في الباعث. الباعث القوي هو الذي يملك الشخص ويحتويه. وإذا كانت الإرادة هي الباعث فإنها تكون أيضا حركة، وهي ما تساءل عنه القدماء من الصلة بين الإرادة والضمير والانتهاء إلى أن الإرادة ليست الضمير، وأن الضمير محل الإرادة.
53
فإن لم تكن الإرادة حركة فإنها تكون تعبيرا عن الذات المؤله أو خلقا منه لا بإرادة. وقد تكون الإرادة معنى يصور الجانب العقلي في الباعث أو يكشف الأساس النظري لها؛ لذلك يوحد البعض بين الإرادة والعلم.
والحقيقة أن الإرادة تشبيه إنساني خالص، لا تشير إلى شيء موجود في الواقع. ويمكن للإنسان أن يتصور أن للأشياء إرادة وأن للجدار إرادة، وهذا كله مجاز وليس حقيقة بل مجرد وسيلة في التعبير
جدارا يريد أن ينقض .
54
وإثبات المعبود فاعلا في الحقيقة والإنسان فاعلا في المجاز إنكار للحرية؛ لأنه يجعل المعبود هو الفاعل الحق، والإنسان فاعلا بالمجاز. وهذا ما لا تشهد به تجربة ولا يؤيده واقع؛ فالإنسان فاعل في الحقيقة، وفاعل فعل واع ومسبق حتى ولو تدخلت الظروف الخارجية في ميدان فعله وأثرت عليه ووجهت مساره.
55
لا توجد إرادة مطلقة مشخصة هدفها تدمير حرية الإنسان واستقلال أفعاله، فإن المشيئة الإلهية لا تمنع من حرية الأفعال؛ فهي حق نظري وحرية الأفعال واقع عملي. بل إن «إبليس» كان حرا في أفعاله واختياره بالرغم من وجود المشيئة المطلقة كحق نظري تعليما للبشر. والعبرة في النهاية بالمآل في الزمان وفي التاريخ.
56
الإيمان إذن موقوف على الاختيار، وأفعال الشعور كلها تدل على أن الإنسان حر في أن يعتقد ما يشاء وأن يتصور العالم كما يريد؛ فليس هناك من يجبره على تصور اعتقاد معين.
57
ولا يعني إثبات حرية أفعال الإنسان استحالة الحمد والشكر لأن الحمد شعور إنساني يحدث عقب تأدية الفعل ونجاح الإنسان في تحقيقه، فهو نوع من التواضع والعرفان بالجميل للنفس وللآخرين وللطبيعة، ويعبر عن رضاء النفس عن ذاتها وإلا لداخل النفس الغرور ولحسبت أنها صاحبة الأمر والقضاء، وهو شعور زائف بالنسبة لفعل صادق يرى أن الفعل داخل في مجموعة متداخلة من الأفعال؛ أفعال الأفراد وحركات الشعوب وقوانين التاريخ.
58
والاستعجاب من الأفعال يدل على أن الإنسان كان يتوقع فعلا آخر غير الذي يستعجب من أجله، ولكن تداخل الإرادات وتشابك الأفعال جعل الذي يحدث غير المتوقع.
59
والتساؤل عن الأفعال إما عن الأفعال التي لم تتم أو عن الأفعال التي تمت يدل على أن الإنسان إما فاعل أو كان لديه عديد من إمكانيات الفعل ولم يختر أكملها. وهي مراجعة مستمرة واستدراك حول سير الأفعال وإعادة أحكامها.
60
والتحسر تجربة بشرية تدل على رغبة الإنسان في العودة إلى لحظة ماضية حتى يؤدي فعلا أفضل؛ مما يدل على أنه يشعر أنه قادر على إتيان الفعل. فهذا التمني دليل على أن الإنسان لديه عديد من الممكنات يستطيع الاختيار بينها.
61 (3-3) حدوث الصفات
ويمكن مع نفي الصفات لإثبات حرية الأفعال أخذ البدائل الأخرى وهي القول بحدوثها؛ فتصور الإرادة المطلقة حادثة إثبات للحرية الإنسانية؛ لأن انتزاع القدم منها يجعلها متكافئة مع الإرادة الإنسانية، وبالتالي تستطيع الإرادة الإنسانية أن تشق طريقها من خلالها،
62
وخشية الوقوع في التشبيه والتجسيم في التوحيد والجبر والكسب في العدل حتى تكون الإرادة حادثة لا في محل. وتصنيف الصفات إلى ما يحتاج إلى محل وما لا يحتاج إلى محل يفسح المجال للحرية الإنسانية إلى تعيين محل الصفة. فالصفات التي لا تحتاج إلى محل تعطي للذات المشخصة صفاتها المطلقة، ولكنها تجعلها خارج مجرى الطبيعة ولا تتدخل في مسار الحرية الإنسانية كملك يملك ولا يحكم، كخليفة بغداد مع أمراء الأمصار، خلافة اسمية لا حكم فعلي.
63
واعتبار الخلق بالقول لا بالفعل هو محاولة أخرى لإنقاذ الحرية الإنسانية وذلك بإخراجها من نطاق الإرادة المطلقة ووضعها تحت القول. والقول أقل حدوثا ووقوعا من الفعل.
64
والتفرقة بين صفات الذات وصفات الفعل محاولة ثالثة بعد نفي الصفات وإثبات حدوثها لإثبات الطرفين معا الإرادة المطلقة وحرية الإنسان والتوفيق بين الحقين معا، حق التوحيد وحق العدل؛ فصفات الذات صفات نظرية لا تؤثر في الفعل وتحفظ حق الإرادة المطلقة، في حين أن صفات الفعل هي الصفات العملية التي تؤثر في الفعل. إن كون الإرادة المطلقة صفة ذات لا صفة فعل نظرية لا تتدخل في مسار الفعل الإنساني. وتثبت الحرية بجعل صفة الإرادة صفة فعل لا صفة ذات؛ لأن صفة الذات تعبر عن جوهر المعبود، في حين أن صفة الفعل تعبر عن أفعاله في الزمان والمكان. صفات الذات ضرورية في حين أن صفات الفعل ممكنة. الإرادة صفة فعل، أي أنها قد تقع وقد لا تقع؛ مما يترك المجال للحرية الإنسانية.
65 (3-4) إثبات حرية الأفعال
لا يحتاج إثبات خلق الإنسان لأفعاله إلى حجج نقلية قدر احتياج الإيهام بالجبر أو التسلل بالكسب ؛ لأن العقل قادر على البرهنة عليه، كما أن التجربة تشهد بحرية الأفعال، التجربة الذاتية للأفراد، والجماعية للشعوب، والتاريخية للإنسانية. ولا تستعمل الحجج النقلية إلا في الرد على الحجج النقلية المضادة لنظريتي الجبر والكسب. ويكون ذلك إما بمقابلة نصوص تدل على حرية الأفعال في مقابل نصوص توهم بالجبر أو بالدفاع عن صحة تأويل هذه النصوص ضد سوء تأويل الجبر لها أو بتأويل النصوص التي توهم بالجبر دفاعا عن خلق الإنسان لأفعاله.
66
وقد تتدخل النظرة الشرعية التي تقوم على النقل والعقل في أحكام الأفعال لإثبات حرية الأفعال في كل فعل؛ وبالتالي تفرض الإحكام الشرعية الخمسة بناءها على الإرادة المطلقة.
67
أما الحجج العقلية فإنها تقوم على استحالة إثبات مراد لإرادتين، وهي الحجة العامة لإثبات الحرية أو على استحالة إعطاء الله أمرا يأباه ويكرهه، وإلا كان ذلك جمعا بين متناقضين. فإما أن يكون الفعل للإنسان أو لغيره، ولا سبيل إلى الاشتراك وإلا وقعنا في الشرك الذي يسلب من الله حقه النظري ومن الإنسان حقه العملي. فلا هو أعطى الله كل شيء ولا أعطى الإنسان أي شيء، وأحدث الخلل بين النظر والعمل في الله وأضاعهما في الإنسان. وهو تمويه لا يجوز على الله؛ إذ إنه يأمر بالشيء وهو يضمر ضده كمن يريد إثبات عصيان العبد أمام القاضي لأوامر سيده، إذ ليس المقصود تنفيذ الأمر بل إثبات العصيان. والله لا ينصب للإنسان شراكا يوقعه فيها، بل يصدقه الإنسان دون أن ينتظر منه غير ما يأمر به وغير ما يظهر له ويحدثه فيه. ولا يعني النسخ أن المأمور به لا يكون مرادا بل الغرض منه إعادة بناء الشريعة على أساس الواقع وقدراته وليس الاستدلال النظري على حرية الأفعال. كما لا تعني قصة إبراهيم وأمره بذبح ولده إسماعيل جواز أن يكون المأمور غير المراد؛ لأنه أيضا درس في الطاعة للأمر، ودرس في أن الإنسان قيمة مطلقة، المقصود منه الدرس المستفاد وليس ما قبله. وقد تم ذلك في الحلم دون اليقظة، وأن إبراهيم كان مأمورا بمقدمات الذبح دون الذبح ، ولم يحدث أن تم الذبح والتأم القطع مرات عديدة.
68
لقد نهى الله عن الكفر والمعصية ولا يحسن أن يريد شيئا ويريد وجوده ثم ينهى عنه أو ينهى عن شيء ثم يريده، وإلا انهدم أساس الشريعة، وافترضنا في الله الكذب وسوء النية وإظهار غير ما يبطن وإبطان غير ما يظهر كما يفعل سائر البشر وكما تفعل الباطنية.
69
الله إذن لا يتدخل في أعمال العباد ولا يشاء منها فعلا إيجابا أم سلبا. لم يخلق شيئا منها وإلا كان مسئولا عن المعاصي والقبائح والشرور. لم يخلق الخير ولا الشر منها. لم يخلق الخير حتى يجعل الإنسان فاعلا له ولا الشر لأن الخير لا يفعل إلا الخير. والتقييد من إرادة المعبود وفعله هو في نهاية الأمر إثبات على استحياء للحرية الإنسانية ونقص في الشجاعة للإعلان عنها، وإحجام عن العقل والواقع وترك لبقايا المزايدة في الإيمان واغتراب الإنسان.
70
ولا يتدخل أي آخر في أفعال العباد من الجن أو الشياطين أو الملائكة. وقد أصبح الشيطان في وجداننا القوي، علة نفسر بها كل الشرور والآثام، أقوى من الله، ومشجبا تعلق عليه أخطاء العصر.
71
هناك الفطرة الإنسانية التي تشمل العقل والقدرة على التمييز كما تشمل الإرادة والفعل الحر، وهي التي تسطر الفعل على صفحة العلم الإلهي.
72
والسؤال التقليدي: هل يقال إن المعبود قوى الإنسان على الكفر؟ هو تمرين عقلي لإظهار قدرة الذات المطلقة على حساب الحرية الإنسانية لو كان الجواب بالإيجاب. ولكنه يثير إشكالا أعظم وهو كيف يقوى الخير المطلق على فعل الشر ويحث عليه؟
73
وتكون الإجابة بالنفي إلغاء للقدرة المطلقة وإثباتا للحرية الإنسانية وأكثر اتفاقا مع التنزيه. الولاية والعداوة بعد الفعل وليس قبل الفعل وإلا كانت أفعال الله غير معللة بسبب أو غاية. وإذا كان الجواب بالنفي إثباتا للحرية الإنسانية، فماذا يكون وضع قدرة مطلقة لا تفعل؟ وإن أية محاولة للجمع بين الطرفين لا تؤدي إلا إلى تحصيل حاصل. وكذلك السؤال التقليدي الآخر: هل يقدر الله على ما أقدر عليه عباده؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فهي محاولة لإثبات القدرة المطلقة على حساب الإنسان. أما إذا كان الجواب بالنفي فهو إثبات لحرية الإنسان وفي الوقت نفسه أكثر تنزيها لحق مطلق.
74
وفي قوة الدفع المتولدة عن إثبات الحرية الإنسانية قد ينتهي الأمر إلى جعل الإرادة الإلهية تابعة للإرادة الإنسانية تسير وراءها وليس أمامها بعد فك الحصار والهرب إلى رحب الفضاء. عندئذ تكون الإرادة الإلهية مثل الإرادة الإنسانية محلا للحوادث، ليس فقط إثباتا للحرية الإنسانية، بل أيضا للوجود الإنساني، وأن المعبود ما هو إلا سجل لصيرورة البشر، وأن الفعل الإنساني هو الذي يسطر علم الله ومصدره بصرف النظر عن العلم الإلهي النظري الشامل لكل شيء ومسار الكون دون لحظاته وتقلباته.
75
بل إن الأمر قد يصل إلى جعل المعبود مطيعا لفعل الإنسان بما أنه تأليه له ومتعلق عليه. فالعقل الإنساني هو الذي يحدد وصفه في العلم الإلهي.
76
وقد يبلغ الحرص على حرية الأفعال درجة إنكار القدرة الإلهية على الإطلاق ووصفه بعدم القدرة بل وبالعجز، ولا يقدر على مقدورات العباد لا الإنسان ولا الحيوان. ويتم ذلك باسم الدفاع عن قوانين الطبيعة واستقلالها وسيطرتها على مظاهر الطبيعة؛ وبالتالي فتح الطريق إلى نشأة العلم، وكذلك دفاعا عن حرية الإنسان وأفعاله في الطبيعة وثقته بالنفس وتأكيدا للعلل والأسباب ولقوانين الطبيعة في ارتباط العلة والمعلول.
77
وكيف يكون الله مسئولا عن الشرور والقبائح ومصدرا للكفر والفسوق والعصيان؟ فلا يريد السفه إلا سفيها سواء لنفسه أم لغيره؛ فالله قد يريد ما لا يكون وقد يكون ما لا يريد، وهذا لا يعني كونه مقهورا على مراده أو أنه يلحقه الضعف والوهن والنقص، أو أنه مطيع لعباده، بل يعني أن شمول إرادته لا تقضي على حرية أفعال العباد.
78
إن مسئولية الإنسان عن الشر نظرة بطولية إلى الإنسان في تحمله المسئولية وعدم إلقائها على أكتاف الآخرين خيرا أم شرا. كما أنها تجعل الفاعل في هذا العالم واحدا، فالإنسان هو الفاعل، وليس فاعلين؛ الله والإنسان، مما يضع الله على مستوى الإنسان، وهي حطة في حق الله أو رفع للإنسان إلى مستوى الله ، وهو الغرور.
79
والأفعال الحرة هي الأفعال العاقلة، أفعال الإنسان وليس أفعال الحيوان. والقول باستقلال أفعال الحيوان إنما يعني استقلال أفعال الطبيعة التي لا يمكن تدميرها بإرادة شاملة لأنها إرادة عاقلة وحكيمة خلقت الطبيعة وسيرت فيها النواميس. لا يمكن أن تدمر الإرادة الإلهية ذاتها أو أن تنقلب على نفسها أو أن تدمر ما خلقته بنفسها وإلا كانت متناقضة تريد الوجود والعدم في آن واحد. ولكن إثبات استقلال أفعال الحيوان رد فعل على إنكار حرية الإنسان وعلى إنكار إثبات قوانين الطبيعة، فالفعل يولد رد الفعل، والتطرف يؤدي إلى التطرف المضاد.
80
إن إرادة الله لشيء كراهيته لضده، إرادته للخير كراهية للشر، وإرادته للطاعة كراهية للمعصية، ودون أن تتدخل في وقوعه أو عدم وقوعه. فإذا وقعت المعاصي فإن الله لا يكون مريدا لها، أي إنه لم يفعلها، بل كان كارها لوقوعها لمسئولية الإنسان عنها. أما إذا أتت من الأطفال أو المجانين أو من البهائم فإنه لا يكون مريدا أو كارها لها بأي حال. وهذا أكرم لله وأكثر تعبيرا عن التنزيه.
81
إن أفعال الإنسان ليست فقط وقائع وحوادث، بل هي معان وبواعث، مقاصد وغايات. ليست أشياء كما هو الحال في السؤال التقليدي عن أفعال الناس والحيوان، هل هي أشياء أم ليست أشياء؟ هل هي أجسام أم لا؟ تدخل أفعال الإنسان في نطاق العلوم الإنسانية وليس في العلوم الطبيعية؛ لأنها ليست أشياء بل مواقف تتغلف فيها الحرية الإنسانية وليست حتمية القوانين الطبيعية.
82
وللإنسان القدرة التامة على الفعل، والاستطاعة التامة لتحقيقه وإلا لما صح الحساب، ولما وجبت المساءلة، ولما صح التكليف. وكيف يثبت التكليف دون حرية الأفعال بصرف النظر عن إرادة القبح، هل هي من ذاتها قبيحة أم أنها قبيحة اكتسابا؟ وإن لم تثبت حرية الأفعال يصبح الله مسئولا عن القبائح، مانعا من الطاعات، ويصبح الشيطان هو «الشريك الغالب»! العقل والقدرة هما شرطا التكليف، والتكليف شرط الحساب، واستحقاق الثواب أو العقاب.
83
وأفعال الشعور لا تتم إلا من إنسان في موقف محدد لا من فعل إنسان كامل مجرد . وهو إنسان يوجد بين عالمين، يتنازعه قطبان، إمكانية خالصة للحركة، للإقدام والإحجام. الإنسان صاحب أفعاله، لم يشأ منها أحد، سلبا أم إيجابا، طاعة أو معصية، ثوابا أو عقابا.
84
وبعد وقوع الفعل، كل رجوع إلى الوراء للبحث عن بدل أو تعبيرا عن تمن لما لم يحدث هو عملية شعورية خالصة لا تغير من الحدث الواقع ذاته. قد يؤخذ ذلك في الاعتبار في الحصول على تجربة للأفعال المستقبلية، ولكن إذا كان الأمر مجرد تمن لما لم يحدث وندم على ما حدث فهو إغراق في الخيال وإقرار بالضعف وعدم الثقة في المستقبل وتوقف للحياة. إن وجود الفعل يمنع من وجود ضده، وجود فعل الإيمان يمنع من وجود فعل الكفر لما كان الفعلان يمثلان احتمالين للشعور. فلا مجال للأفعال المزدوجة والمتناقضة والمتشابهة. إن الفعل بعد أن يتحقق يصبح تاريخا، ولا استدراك إلا بفعل آخر وإلا وقع الإنسان في الندم والحسرة والنهي والإحساس بالذنب عما تم أو العجز مما لم يتم، مما لا يغير من واقع الفعل شيئا.
85
ومع ذلك يجوز التمني من أجل عقد العزم على إثبات الفعل الثاني.
86
حرية الأفعال أقرب إلى العقل والواقع والشرع والتكليف؛ فالله لم يأمر بالشر بمعنى أنه لم يفعله بإرادته بل إنه فقط نبه عليه بالنهي عنه، وبالتوجه إلى إرادة الإنسان الحرة، كما أنه أمره بالخير ولم يجبره عليه، بل نبه وأشار إليه تاركا حرية الاختيار للإنسان، كما أنه لا يرضى بالشر ولا يريده، وإنما أيضا ينبه إليه من خلال النهي عنه والتحذير منه. إن الأمر بأفعال الشعور لا يعني الجبر عليه، بل يعني مجرد التوجيه والإرشاد والتنبيه، والإنسان لديه القدرة على الفعل وعدم الفعل، ولديه العقل للتمييز بين الحسن والقبح.
87
إن خلق الإنسان لأفعاله ليس نظرية مستوردة من الخارج لم تنبع من صميم الوحي وموطن الإسلام. فتنزيه الله عن الظلم ضرورة عقلية كما أنها في أصل الوحي، ومسئولية الإنسان عن أفعاله ضرورة عقلية وفي أصل الوحي. إنما القصد من ذلك حصار المعارضة السياسية وإخراجها من قهر الأغلبية باسم إجماع الأمة.
88
ثالثا: أفعال الشعور الخارجية
بعد أن تتحقق أفعال الشعور الداخلية وخلق الإنسان لها إثباتا لحرية الأفعال، تقوى الشخصية وتتوحد وتصبح قادرة على الانطاق من الداخل إلى الخارج، وتتحول أفعال الشعور من أفعال عكسية منطوية باطنية إلى أفعال مباشرة ممتدة خارجية. وتصبح أفعال «القلب» أفعال «الجوارح». ويتحول الشعور الخالص إلى بدن وجسم، وتتحول الحركة الداخلية إلى حركة خارجية. يصبح الشعور الخالص شعورا بالعالم؛ وبالتالي تتحقق أفعال الشعور ليس داخل الشعور فقط بل أيضا خارج الشعور في العالم. وبلغة القدماء يتم الانتقال من العقيدة إلى الشريعة، ومن الإيمان إلى العمل، ومن الإرادة إلى القدرة. وتظهر النظريات الثلاث نفسها التي ظهرت من قبل في وصف أفعال الشعور الداخلية، ونظريات الجبر والكسب وخلق الإنسان لأفعاله. يسمى الجبر عقيدة لأنه أقرب إلى العقائد منه إلى النظريات الفلسفية، حكم مسبق أو انفعال وضيق ليس له سند عقلي واضح أو تشهد له تجربة الوجدان، بل مجرد خطابة مكبوتة إلى الداخل. والكسب نظرية لأنها أقرب إلى النظريات الفلسفية المبنية نظريا عن طريق الجدل. أما خلق الإنسان لأفعاله فهي ليست عقيدة ولا نظرية، بل تجربة واقعية يشهد بها الوجدان، ووضوح نظري يشهد به العقل، وشرط تكليفي للأفعال؛ وبالتالي فهي أقرب إلى البرهان. (1) عقيدة الجبر
هل أفعال الشعور الخارجية جبرية؟ هنا تظهر عقيدة الجبر للإجابة بالإيجاب. وعقيدة الجبر لا توجد عند فرقة كلامية بعينها تسمى المجبرة بقدر ما هي منتشرة وعامة لدى عديد من الفرق، يجمعها القول بالجبر بالرغم من اختلاف الدوافع والبواعث والأسباب وبالرغم من اختلاف الحجج والأسس النظرية وبالرغم من تباين النتائج والآثار على السلوك الفردي والاجتماعي.
1 (1-1) دوافع الجبر
تختلف دوافع القول بالجبر بين نفي الصفات أو إثباتها دفاعا عن التنزيه أو التشبيه أو بين التأليه دفاعا عن التجسيم؛ فالإيغال في التوحيد بصرف النظر عن كيفية تصوره يبعد عن العدل، وكأن الإيغال في التفكير في الله يبعد عن التفكير في الإنسان، وكلما زاد الإنسان اغترابا في التوحيد وابتعادا عن العالم فإنه يزداد ابتعادا عن العدل وخروجا عن العالم. كما تختلف دوافع الجبر بين التصلب والتشدد والتعصب بناء على موقف أصلي مبدئي تمسكا بالحق الشرعي وبالمقاومة الفعلية العلنية الخارجية وبين الاستسلام والإرجاء واللامبالاة والفتور طاعة للسلطان وقبولا للنظام القائم. فبالرغم من اختلاف المواقف العملية للفرق ومواقعها من السلطة إلا أنها قد تشترك أيضا في عقيدة الجبر، إما للمقاومة والشهادة أو للخنوع والاستسلام والرضا بالقضاء والقدر.
2
وقد ظهر من قبل أن إثبات الصفات يؤدي عادة إلى إلغاء الحرية الإنسانية، وأن إنكار الصفات يؤدي إلى إثبات الحرية الإنسانية. وكان غريبا أن يخرق هذا النسق، بأن أول من قال بالجبر هو من قال في الوقت نفسه بنفي الصفات وبنفي الحرية في آن واحد، ومن ثم ينكسر القانون الأول. والحقيقة أنه يمكن فهم هذه الحالة الفريدة مرة ثانية بناء على قانون ثان، وهو إثبات الذات ونفي الصفات. إذا طبق في التوحيد على الله ثبتت الذات المؤلهة دون صفاتها، وإذا طبق في العدل على الإنسان ثبتت الذات دون صفاتها لما كانت الحرية صفة. وإذا صح هذا القانون نظرا فإن حالة الإنسان لا تكون مماثلة لحالة المؤله. إذا كانت صفات الذات المؤلهة صفات له، فإن الحرية الإنسانية ليست صفة خارجية للإنسان يمكن إثباتها أو نفيها، بل تكون هي الإنسان ذاته. ومن ثم لا يؤدي هذا القانون الثاني، إثبات الذات ونفي الصفات إلى نفي الحرية الإنسانية بالضرورة لأن الحرية ليست صفة للإنسان، بل هي ذاته وجوهره ووجوده.
3
ويعني الجبر الناشئ عن نفي الصفات، ما دامت الحرية صفة للمؤله، أن المؤله هو خالق كل شيء بما فيه أفعال الإنسان، ما دامت مخلوقة.
4
بل إن تعبير «خلق أفعال العباد» تعبير جبري محض إذا كان القصد خلق الله لأفعال العباد وليس خلق العباد لأفعالهم بأنفسهم؛ ومن ثم لا تنسب أفعال الإنسان إليه إلا عن طريق المجاز.
5
ويعني الجبر أيضا أن الإنسان ليس له قدرة أو استطاعة أو كسب، بل يكون مضطرا إلى أفعاله، وهذه هي الجبرية الخالصة.
6
وقد يثبت الجبر بإثبات الصفات، ونتيجة له، خاصة صفتي العلم والقدرة، العلم الشامل والإرادة المطلقة. لا يحدث شيء في العالم إلا مقدرا من قبل في علم المؤله وسبق إرادته. إثبات الصفات للذات المشخصة يثبتها أفعالا في العالم. وإن من حق الذات المشخص المؤله أن تكون له الأولوية على ما عداه من ذوات وأفعال. والحقيقة أن إثبات الجبر نتيجة لإثبات الصفات إنما ينتج عن موقف مغترب من العالم وتقوى مزيفة تنم عن عجز وخنوع واستسلام ورضا، والقناعة بالوهم باسم التقوى والإيمان والمزايدة العاجزة فيه؛ فيتم إيثار أفعال التأليه على أفعال الإنسان. ومن أجل التخفي وراء عواطف التأليه ومن تحت قناع الإيمان، تتم التضحية بأفعال الإنسان، فلا يكون للإنسان قدرة أو استطاعة أو تأثير.
7
وقد تم التركيز على ذلك في العقائد المتأخرة، خاصة نفي تأثير الإنسان ونفي قوانين الطبيعة المستقلة إثباتا للصفات، خاصة القدرة والإرادة، تأكيدا لأوضاع العصر وقوى القهر وسلبا لقوى الإنسان وهدما لقوانين الطبيعة.
8
والسؤال للمتكلم المتقدم والمتأخر عمن يدافع؟ عن الله أم عن الإنسان؟ من الذي تهدد حريته وأفعاله، الله أم الإنسان؟ وقد بلغت المزايدة أن جعل الله مريدا لكل شيء كما أنه مريد لذاته ومراد من غيره. وهل الله موضوع؟ هل الله موضوع لإرادة الإنسان ومتعلق بها؟ وهكذا يسلب من الإنسان أخص خصائصه وهو خلق الأفعال ومسئوليته عنها بدون ثمن إلا إثبات عواطف التأليه والتأكيد على الإجلال والتعظيم تعبيرا عن انتصار جماعة السلطة وتحدثها بلغة المنتصر؛ لغة السيطرة والقوة والعظمة والجلال. وما الحكمة في جعل الإنسان غير خالق لأفعاله إلا الرغبة في السيطرة عليه وإملاء إرادة خارجية عنه.
9
وكثيرا مما يقال تحصيل حاصل. فمن منا لا يقول بذلك اعترافا بالحق النظري؟ ولكن يستعمل أحيانا للإرهاب ومنعا للاعتراض وطلبا للتسليم وتفريغا للثورة وقضاء على التمرد.
وكما ينشأ الجبر بنفي الصفات في التوحيد، ثم نقل القانون إلى الإنسان بالمماثلة، ونفي الحرية باعتبارها صفة للإنسان، أو بإثبات الصفات، خاصة العلم والقدرة والإرادة على نحو مطلق، بحيث لا يحدث في العالم شيء، بما في ذلك أفعال الإنسان، خارجها دون علم أو بتدبير وتدخل منها. ينشأ الجبر أيضا من التأليه؛ تأليه الإنسان أو تأليه الإمام. فإذا ما تحول الإمام إلى إله وجبت له الطاعة المطلقة؛ لأنه يعلم كل شيء ويقدر كل شيء، ويطلع على خصائص العباد ويقرر أعمال الناس. وفي أساطير الخلق في التأليه يقرر الإمام المؤله أفعال العباد من قبل، ويقوم المؤله بالوظائف الإلهية في خلق كل شيء وتقديره مسبقا.
10
وكما ينشأ الجبر من التأليه في التوحيد ينشأ أيضا عن التشبيه. فاعتبار المؤله جسما، أي طبيعة، يجعله هو المسيطر على أفعال العباد باعتبارها أحد مظاهر الطبيعة.
11
ويظهر الجبر أيضا حتى عند الإمامية المعتدلة فما دام الإمام قد أعطى أكثر مما يعطي أي إنسان فإنه تكون له السيطرة على أفعال الآخرين.
12
وكما يكون الاضطهاد سببا في التأليه فإنه يكون سببا للجبر. ولكن قد يظهر الجبر في صورة تحرر ضروري؛ فالمجتمع المضطهد يبغي التحرر ورفع الظلم فيؤمن بالنصر الضروري وبالتحرر الواجب وبالخلاص كحتمية تاريخية. فهو جبر تاريخي مماثل لتحرر جبري. ولكن هذا التحرر سرعان ما يتحول إلى جبر لأنه يتم عن طريق الولاء المطلق والطاعة غير المشروطة للإمام المؤله. فالشيعة على اختلاف أصنافها غالية أو متوسطة أو معتدلة، من أنصار التأليه أو التجسيم أو التشبيه؛ تثبت القدرة وتنفي أن يكون فعل الإيمان فعل حر بإرادة الإنسان؛ فأفعال الجوارح وأفعال القلوب كلاهما من تقدير المؤله المعبود.
13
وتصبح أفعال الشعور الداخلية أفعالا مجبرة إذ تحولت إلى عمليات كونية وليست أفعالا فردية وكأن حتمية قوانين الأفلاك ومساراتها شاملة لأفعال البشر واختيارات الأفراد.
وقد ينشأ القول بالجبر في صورة القول بالقدر وإثبات علم الله الشامل وإرادته المطلقة على أفعال العباد، أفعال الجوارح وأفعال القلوب، من التعصب للإيمان ورفض كل حاجة عقلية فيه. وينتج عن ذلك أن القرار المتخذ أو الفعل المتحقق لا يكون فقط قرارا أو فعلا ناتجا عن أعمال الفكر أو شحذ الإرادة بل هو قرار أو فعل صادر عن علم أعظم وإرادة أشمل. وهنا يلتقي الضدان الجبر عن طريق الاستسلام المؤقت لحين ظهور الإمام، والجبر عن طريق الثورة والتمرد الفوري ومحاجة الإمام رأيا برأي، يلتقي السر والعلن، الخفاء والظهور.
14
والحقيقة أن الجبر هذه المرة مجرد لغة واصطلاح ووسيلة تعبير وطريقة في الحديث، ولا يفيد تصورا أو عقيدة كما هو الحال في الدوافع السابقة. كما أنه تعبير عن تقوى حقيقية وطهارة دينية وإخلاص وليس عن تقوى زائفة أو مزايدة في الإيمان. وظيفته استدعاء الإرادة الإلهية على الأعداء وبأن الله قاهر الظلم ومنصب العدل وثقة بالنصر. وهو أقرب إلى إجماع الأمة كما يتضح ذلك في الدين الشعبي؛ إذ إن الجبر بهذا المعنى هو العقيدة السائدة عند الجمهور والتصور الشائع والغالب على إيمان العوام دون جهاد مواز أو عمل مقارن؛ ومن ثم يضر أكثر مما ينفع، ويؤدي في النهاية إلى التواكل والسلبية واللامبالاة، وقد يكون مقرونا بالعمل عند بعض الخواص بناء على الحتمية التاريخية.
لذلك قد ينشأ الجبر من الطرف المقابل للتعصب في الاعتقاد، أي من اللامبالاة عن إصدار أي حكم على الإيمان أو على العمل. ولماذا الحكم وقد تم كل شيء، ولا يمكن تغيير ما وقع، وليس أمام الإنسان إلا إرجاء الحكم إلى حين؟ وما دامت المراجعة قد غابت والمساءلة قد انعدمت ففيم المسئولية؟ ولماذا الحرية؟ وفيم خلق الإنسان لأفعاله ما دام كل شيء مؤجلا إلى يوم الحساب؟
15
وهو الوجه الآخر للجبر في الدين الشعبي عند العوام في حالات السكينة والهدوء باستثناء فورات الغضب وحركات التمرد والعصيان والانتفاضات الشعبية. الجبر هنا عقيدة السلطة تعززها للسيطرة على الجماهير، وعقيدة الجماهير تعبر بها عن عجزها، وتؤجل بها صراعا مع السلطة، وتزيح بها المسئولية عن كاهلها، وتلقيها على غيرها دون انتظار للخلاص. (1-2) عقائد الجبر
ويتضمن الجبر عدة عقائد، في مقدمتها القضاء والقدر، ثم خلق الله للخير والشر، ثم الإشقاء والإسعاد، ثم التوفيق والخذلان. وإذا كانت عقيدة القضاء والقدر ضمن خلق الأفعال فإن باقي العقائد على حافتي خلق الأفعال والحسن والقبح العقليين. وقد ارتبطت العقيدة الأم وهو الجبر برأس عقائده وهو الإيمان بالقضاء والقدر حتى أصبحت العقيدتان، الأصلية والفرعية، متلازمتين. فالقول بالجبر هو إثبات للقضاء والقدر وإثبات القضاء والقدر هو قول بالجبر.
16
وأصبح كل ناف للقدر قدريا مع أن المثبت له هو أولى بالتسمية.
17 (1)
القضاء والقدر. وتعني عقيدة القضاء والقدر أن كل ما يحدث في العالم مكتوب من قبل ومسطر على صفحة الكون. يحدث بالضرورة بصرف النظر عن إرادة الإنسان. والفعل الإنساني ما هو إلا منفذ له بالضرورة. ولا تقلل التفرقة بين الوصف والحكم شيئا من الجبر، فالوصف علم، والعلم الإلهي كامل، ومن كمال العلم وقوعه كالمعلوم وإلا كان علما إنسانيا خالصا تكون فيه الفجوة بين العلم والواقع حادثة. لا يهم إذن إذا كان المكتوب وصفا أو حكما، فالحكم وصف والوصف حكم، والعلوم الوصفية علوم حكمية. و«اللوح المحفوظ» صورة فنية للتدوين والتسجيل، والعلم المحفوظ دون جهل أو نسيان وإلا كان أمرا سمعيا خالصا يدخل في السمعيات ويخرج عن العقليات طبقا لبناء العلم. وخلق الأفعال، والحسن والقبح العقليان أي موضوعا العدل مع التوحيد من العقليات.
18
والقضاء والقدر متلازمان، الأول هو الأساس والثاني هو البناء. الأول هو الخطة والثاني تحقيقها. الأول هو الممكنات (اللوح) والثاني التحقيقات في الأعيان. الأول هو الإجمال والثاني هو التفصيل. وهو ما يقابل عند الإنسان علاقة النظر بالعمل أو العام بالخاص أو الكل بالجزء أو الممكن بالواقع أي إنها علاقة إنسانية صرفة تكشف عن بنية الفعل الإنساني.
19
وإذا كانت عقيدة قال بها جميع الأنبياء فقد كان ذلك طبيعيا في مراحل الوحي السابقة قبل أن تكتمل تربية الجنس البشري حتى يستقل عقل الإنسان وإرادته أمام نظام الطبيعة الثابت.
20
وقد تخف حدة الإلزام والجبر في المعنى ويصبح القضاء والقدر مجرد إعلام وإخبار وتبيين وبيان. فهو يشير إلى النظر لا إلى العمل، وإلى العلم لا إلى الإرادة، وإلى نظام الكون لا إلى حرية الإنسان. فالقضاء هنا معناه الحكم أو الأمر أو الخبر وليس الإجبار والإقهار والتأثير. قد يكون معناه الترتيب والنظام، أي ارتباط سلسلة الحوادث فيما بينها بالعلة والمعلول، وهي الحتمية الطبيعة أساس العلم وليس جبر الأفعال أساس المسئولية الخلقية. هناك الخلق والتقدير على مستوى الكون والطبيعة، ولكن هناك أيضا حرية تامة وخلق إنساني في الطبيعة وتغير لأشكالها وصورها ومسارها، خاصة فيما يتعلق بالنظم الاجتماعية. التبيين والإعلام مجرد كشف العلم، وهذا لا يعرف مسبقا؛ فالعلم بعدي إلا من خطة إنسانية يضعها الإنسان لينفذها ويعد لها ثم ينفذها بالفعل فتكون قبلية بعدية، استنباطية استقرائية معا مثل الوحي بدليل النسخ وتطور النبوة. وقد يكون الإلزام نفسه إلزاما داخليا باطنيا صرفا أو إلزاما عقليا مبدئيا أو إلزاما أخلاقيا وليس بالضرورة إلزاما خارجيا، وهو ما يعرف الآن بلغتنا المعاصرة باسم «الجبر الذاتي».
21
وكما أن القول بالجبر كان نتيجة طبيعية لإثبات الصفات، فإن عقيدة القضاء والقدر نتيجة طبيعية لإثبات الإرادة والقدرة كصفتين لله، فالله مريد لجميع الكائنات، وقادر على كل شيء. ويصل الأمر إلى اعتبار القضاء والقدر صفاته في الأزل.
22
ويقول إذا كانا من صفات الذات وتخف الحدة إذا كانا من صفات الفعل؛ فصفات الذات أقوى لأنها ترتبط بالأزل، وصفات الفعل أقل لأنها أقرب إلى الحدوث. وقد تنشأ حلول متوسطة فيكون القضاء قديما والقدر حادثا، وهو أقرب إلى العقل، وصلة القضاء بالقدر كصلة بين العام والخاص، أو يكون القضاء حادثا والقدر قديما وهو ما يعارض طبيعة الصلة بين الكل والجزء، وبين الممكن والواقع.
23
وفي العقائد المتأخرة ضاع موضوع خلق الأفعال كلية في التوحيد، ثم أصبح معنى التوحيد المعبر عنه في «لا إله إلا الله» هو الإيمان بالقضاء والقدر الذي أصبح هو الموضوع البديل لخلق الأفعال وللتوحيد على السواء. ثم اقترب من التصوف وتوحد به وأصبح الموحد هو الصوفي الذي يؤمن بالقضاء والقدر. لم يصبح الإيمان بالقضاء والقدر فقط إحدى عقائد الجبر وأحد الحلول للفعل الإنساني بل أصبح إيمانا أعمى مكتفيا بذاته وانتهى موضوع الأفعال الأول. وبالتالي أصبحت شهادة «لا إله إلا الله» وهي شعار الرفض والتحرر المعبر عن فعلي النفي والإثبات شعار الإيمان بالقضاء والقدر طبقا لعقيدة الاستغناء والافتقار؛ استغناء الله عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه. وبالتالي أصبحت عقيدة القضاء والقدر هي كل التوحيد والعدل.
24
والعجيب أنه حتى بعض الحركات الإصلاحية تثبت القضاء والقدر وتكفر كل من لا يؤمن به. بل إن القضاء والقدر يحطان على الإنسان بسلطة النصوص دون أي عرض عقلي أو تحليل لسلوك الإنسان. ثم يتحد القضاء والقدر مع الصبر عند الصوفية ويتم الإصلاح عن طريق الصبر على أقدار الله، بل إن كل من لم يسع إلى الأقدار سعت هي إليه، وكل من سعى إلى الأقدار، لم تسع هي إليه وكأن الإنسان وجود من أجل قدره. فالحوادث تقع في الكون بفعل الأقدار لا بفعل الإنسان، وإذا سعى الإنسان باختياره الحر وإدراكه العقلي وتمييزه بين الحسن والقبيح لم يتم أي فعل ولم يتحقق شيء.
25
ولكن بعض الحركات الإصلاحية الأخرى أعادت النظر في عقيدة القضاء والقدر، والتفرقة بينها وبين مذهب الجبرية، وإعادة تفسير القضاء والقدر على أنه جبر ذاتي لا ينفي الفعل، بل يبعث على الإقدام، ويمنع من الإحجام والتردد؛ فالاعتقاد بالقضاء له أساس وجداني، ويقوم على العلة والمعلول والإيمان بالأسباب، يبعث على شجاعة الأفراد ضد التوكل والبطالة والكسل، وله سند من التاريخ؛ إذ به تقدمت الأمم ونهضت الشعوب وكأنه ضمن قوانين التاريخ وسنن الأمم في الكون.
26
وقد لاحظ بعض المحدثين في العقائد المتأخرة ذلك أيضا وحاولوا التوفيق بين عقيدة القضاء والقدر والدعوة إلى العمل.
27
كما حاولت حركة إصلاحية ثالثة النهي عن الخوض في القدر، والتأكيد على أن علم الله بعمل الإنسان الاختياري ليس ملزما؛ وبالتالي الانتقال خطوة من الأشعرية إلى الاعتزال.
28
كما حاولت حركة إصلاحية رابعة نفي العقيدة كلية على نحو أشعري دون نقد للعقيدة وتفنيد لحججها وبيان لمخاطرها وكشف عن أخطائها.
29
وكأنه يصعب الدعوة إلى العمل والحرية وعقيدة القضاء والقدر ما زالت راسخة في التراث، وإحدى مكونات الدين الشعبي وموجها لسلوك الجماهير.
ومن العقيدة الأم، القضاء والقدر، تنبع عدة عقائد أخرى في مقدمتها مسئولية الله عن الخير والشر والحسن والقبح وكل ما يحدث في العالم من نفع أو ضر للإنسان لما كان الله خالق كل شيء، والخير والشر والحسن والقبح والنفع والضر أشياء مخلوقة. وإذا كان من المعقول أن يصدر الخير عن الخير فكيف يصدر الشر عن الخير؟ وأين مسئولية الإنسان في الاختيار وفي التمييز بين الحسن والقبيح؟ يثبت القضاء والقدر إذن بخيره وشره دون حتى التساؤل كيف يكون المؤله المعظم خالقا للشر؛ وبالتالي يضيع التنزيه في زحمة إثبات خلق الله الشامل لكل شيء.
30
وقد ظهر ذلك بوضوح عند الفلاسفة في قولهم بالقضاء والقدر على مستوى الكون؛ فالنظام في الوجود أو في العالم متوجه إلى الخير لأنه صادر عن الخير، وتلك هي العناية الأزلية والإرادة السرمدية؛ فكان الخير داخلا في القضاء الإلهي دخولا بالذات لا بالعرض. ولما كان الله هو العالم عند الفلاسفة أصبحت مسئولية الله عن الشر عند الأشاعرة مسئولية الكون كله. والشر المطلق لا وجود له، وكذلك الشر بالذات لا وجود له إلا في اللفظ أو الذهن وليس في الوجود. وهو داخل في القضاء الإلهي بالعرض لا بالذات. والخير المطلق فهو في الطباع والخلقة، أما الخير الممزوج بالشر، فالتساوي بينهما لا وجود له، وغلبة الشر على الخير أيضا لا وجود لها. والموجود فقط هو الخير الغالب، وهو رنة تفاؤل لتجعل الفطرة خيرة بطبعها، وتنكر وجود الشر الوجودي؛ فالشر بالذات هو العدم.
31
أما الجهل والعجز والتشويه والوجع والألم والمرض والظلم والسرقة فكلها مظاهر نقص أي أوضاع اجتماعية يمكن تغييرها، أعراض طارئة وليست جواهر ثابتة. (2)
الإشقاء والإسعاد. وتنتج عن القضاء والقدر عقيدة أخرى تماثله قوة وانتشارا، وهو موضوع الإسعاد والإشقاء، وهو التعبير عن القضاء والقدر على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية. هي الصورة الغالبة في العقائد المتأخرة نظرا لانتشارها في الدين الشعبي، وأثرها في الحياة الاجتماعية، والترويج لها سياسيا لدى النظم القائمة ومن خلال أجهزة الإعلام والمؤسسات الدينية. وأهمية مثل هذه العقائد المتأخرة أنها تكشف عن الوضع الحالي للأمة، بنائها النفسي ووضعها الاجتماعي. فالسعادة والشقاوة أزليان، مقدران من قبل، لا يتغيران ولا يتبدلان. «السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقى في بطن أمه!» وبالتالي استحال تغيير الأوضاع الاجتماعية ، استحال أن يصبح الشقي سعيدا أو السعيد شقيا، نظاما كونيا أبديا لا يتغير. والسعادة في الإيمان والشقاء في الكفر وليس في رحابة العيش وبحبوحة الدنيا. ولما كان الفقراء من المؤمنين فهم السعداء، والأغنياء من الكافرين فهم الأشقياء. يسعد الفقراء بفقرهم ويشقى الأغنياء بغناهم! يسعد المظلومون بظلم الظالمين لهم، ويشقى الظالمون بظلمهم للمظلومين! والعبرة بالخواتيم وليس بالفواتح، العبرة بالمآل وليس بالحال. لا يهم إن عاش الشقي شقيا بل يهمه أن يموت سعيدا، ولا يهم إن عاش السعيد سعيدا يكفيه أنه يموت شقيا! وتخاف العامة من الخاتمة وتستعد لها كما تخاف الخاصة من السابقة وتخطط لها. تحرص العامة على آخرتها حرص الخاصة على دنياها. وتكاد تجمع العقائد المتأخرة على ذلك، والخلاف بينها لفظي لأنها تعبر عن أوضاع نفسية واجتماعية شائعة وعامة في الأمة.
32
والإشقاء والإسعاد صفات تتعلق بالحياة الإنسانية لا مهرب منها، بالرغم من أنها الأقل سطوة من صفات الذات والأكثر حدوثا وتغييرا واتصالا بأفعال العباد؛ فهي خلق أبدي من الله في الإنسان، ليس فقط خلق القدرة على الكفر والإيمان بل خلق الكفر والإيمان؛ فلا يبقى للعبد أي دور فيما يحدث له من سعادة أو شقاء. فإذا كانت الصفات قديمة فالإسعاد والإشقاء قديمان بقدمهما لارتباطهما بالتكوين، والتكوين صفة ذات. الإسعاد والإشقاء إذن أوضاع كونية كالخلق، في العلم الإلهي وفي الفعل الإلهي وفي الكون وفي الوجود الإنساني، أي في الأسس النظرية الكونية.
33
والسعادة والشقاء ليسا في الإيمان والكفر وحدهما بل في العمل الصالح أو الطالح؛ فالإيمان أو الكفر يمثلان النظر وحده دون العمل. والعمل الصالح أكثر اتساعا وامتدادا وانتشارا من العمل الشعائري الذي يعبر عن التقوى الباطنية أو الحياة الأخلاقية الضامرة. والإيمان والعمل اختياران وإن كانا ضمن العلم الإلهي السرمدي الذي يتحقق بتحقق الأفعال.
ومن الإسعاد والإشقاء تنبثق أمور الخذلان والإضلال، والتوفيق والهداية، وكأن العقائد المستقاة من عقيدة القضاء والقدر التي هي لب عقيدة الجبر تتغلغل في أفعال الشعور الداخلية تغلغلها في أفعال الشعور الخارجية، وربما أيضا في أفعال الطبيعة والمجتمع والتاريخ. وهي كلها مجرد إحساسات وعواطف وانفعالات، أي أوهام وتخيلات وتمنيات، ولا شأن لها بصفة التكوين. إنما تقوم على الجهل بالأسباب وبالأوضاع النفسية والاجتماعية للأفراد والجماعات. إن القول بأن الله هو الموفق للإيمان والعمل الصالح أو هو الخاذل للكافر وليس قدرة العبد إنما يعني عند العامة مجرد قانون كوني عام أشمل من سلوك الأفراد، ويعني عند الخاصة مجرد مأثور شعبي يعبر عن الدين الشعبي، ولا ينفي في الواقع حقيقة اختيار الإنسان.
34
ويتم ذلك عن طريق صدق الوعد وليس عن طريق الحق المكتسب، وحتى يكون الوعد صادقا في حياة البشر. إن الوعود تخلف، وصدق الوعد الإلهي قلب لخلف الوعد البشري وتعويض عنه. (1-3) حجج الجبر
ما أكثر الحجج النقلية التي يمكن لأي مذهب أو عقيدة أن يجدها تأييدا له وتأسيسا لنفسه عليها. وكلها ظنية نظرا لارتباطها بأسباب النزول وبالناسخ والمنسوخ وبقواعد اللغة وبأصول التفسير على ما هو معروف في نظرية العلم. والغالب عليها روايات أسطورية يتضح فيها الخيال الشعبي مع أن غاية الحديث عملية صرفة في بيان المجمل أو تفصيل أوجه السلوك. كما أن حجة الإجماع أو الصحابة أو السلف أو الصوفية إنما هي حجة سلطة، سلطة الجماعة التي تحظى باحترام وتقدير في الوعي الشعبي. وهي في النهاية حجة سلطة وليست شاهد حس أو دليل عقل أو شهادة وجدان.
35
ولكن الأهم هي الحجج العقلية التي يمكن التحقق منها ومراجعتها ومقابلتها بالحجج واستعمال البرهان. ويقوم الجبر على أسس عقلية واهية يقوم معظمها على استحالة الضد. وهي معظمها أسس لا تثبت شيئا إيجابيا بقدر ما تثبت استحالة الضد؛ فهي تقوم على برهان الخلف أي إبطال النقيض لإثبات الشيء مثل: (1)
التوهم بأن إثبات الفعل الإنساني في المستقبل أو المشترك مع فعل المؤله المشخص يؤدي إلى الشركة، والشركة تؤدي إلى الشرك؛ لأنه لا فاعل في
الحقيقة إلا المؤله المشخص.
36
والحقيقة أن اعتبار الفعل الإنساني مزاحمة ومشاركة للفعل الإلهي رفعة من شأن الإنسان وحطة من شأن الله وكأن الإنسان والله أصبحا طرفين متماثلين، ندين متعادلين يتنازعان فعلا واحدا وهو ما يعارض التنزيه. وليس حطة في الله أو انتزاعا لحقه أن يكون الإنسان هو الفاعل الحق ما دام الله خالق كل شيء ومالك كل شيء. وليس عظمة لله أن ينازع الله الإنسان فعله ويسلبه إياه ويغتصبه منه. إن هذه الحجة ليست فقط رفضا للحرية، بل أيضا رفض للكسب لأن الكسب يعني المشاركة بين الله والإنسان في فعل واحد. كما تقوم الحجة على المصادرة على المطلوب لأنها تقوم على مسلمة سابقة وهي أنه لا فاعل حق إلا الله وهو المطلوب إثباته. وقد أعاد علم الكلام المتأخر تحقيق الكلام المتقدم وانتقد خطابيته وزاد من أحكامه العقلية تحت تأثير الفلسفة التي أعطته دفعة جديدة نحو العقلانية وأعادت صياغة الحجة نفسها في شعب ثلاث. الأولى استحالة مقدور بين قادرين نفيا للشركة. ولكن حتى في هذه الصياغة، لماذا يضحى بقدرة الإنسان كي تثبت قدرة الله ولا تثبت قدرة الإنسان وهو الأقرب لبداهة الحس وواقع المشاهدة؟ والثانية استحالة جواز التأثير في الفعل وإلا جاز التأثير في الوجود. والحقيقة أن القدرة الحادثة وهي قدرة الإنسان ليس القصد منها إيجاد الأشياء بل توجيهها وإعادة نظامها. وليس هدفها تغيير الطبائع بل صورها، أو تبديل الجواهر بل أعراضها. وتوجيهها إلى الطبائع والجواهر مجرد مزايدة من أنصار الجبر على الإيمان. فما من أحد قادر على خلق الأشياء وإن أمكنه إبداع صورها. والثالثة قدرة الباري على جنس ما أقدر عليه عباده. ومن الطبيعي أن يكون الله قادرا على جنس أفعال العباد. ولكن هناك فرق بين القدرة على الجنس والقدرة على الفعل الفردي؛ فالقدرة الصورية كلما كانت عامة وشاملة فإنها لا تتحقق بالفعل في الأفعال الفردية التي تتحقق بقدرة العباد. هذا بالإضافة إلى أنها مزايدة الكل على الجزء لا ينتج منها لا تنزيه لله ولا اعتزاز بالإنسان. وفي النهاية ليس المطلوب هو إعلان التحدي والمبارزة بين الله والإنسان، أيهما أقدر على تسيير الحوادث وإيجاد الكائنات؛ فالإنسان لا يدعي أنه خالق العالم أو موجده، بل هو مؤثر في مساره، وموجه لنظمه الاجتماعية.
37 (2)
إن وقوع أفعال دون العلم بها كليا أو جزئيا لا يعني تدخل إرادة خارجية في الفعل تقرر العلم به أو تحقيقه، بل يعني أن الإنسان كثيرا ما يفعل دون وضوح نظري كاف لأساس الفعل وغايته. صحيح أن الفعل الأمثل هو ما قام على أساس عقلي واضح وكاف له غاية وهدف، والفعل القائم على استبصار كل العوامل التي في ميدان الفعل حتى يتحقق الفعل بنجاح تام. ولكن هذه الإحاطة النظرية الشاملة بجميع العوامل المتداخلة في ميدان الفعل قد تكون نسبية أو مستحيلة، فيتأتى الفعل نسبيا أيضا بقدر المعلومات التي لدى الإنسان عن الموقف. ولكن بمجرد بدء الفعل يزيد الإنسان من معلوماته، بل ويغيرها طبقا للواقع الجديد غير المعروف أو يحدث علما في التو واللحظة. وهذا موقف سلوكي خالص لا يشير إلى تدخل أية إرادة خارجية عالمة بالموقف كله من قبل ومقررة له.
38
ويجوز إتيان الفعل بأساس نظري عام دون الإحاطة بجميع التفاصيل؛ فذلك لا يقدح في صحة الفعل أو في يقين النظر، خاصة ولو كانت تلك التفاصيل غير دالة أو مستحيلة أو خيالية مثل العلم بالسكنات المتخللة للحركات البطيئة! وكأنها حجة زينون في إبطال الحركة تستخدم هنا لإثبات الجهل! وكأن الفعل لا يحدث كواقع حيوي لا يتجزأ إلى حركات ساكنة.
39
يحدث الفعل في الحقيقة على علم حاصل بقدر الإمكان؛ إذ يصعب أو قد يستحيل الإلمام نظريا بجميع العوامل الداخلة في ميدان الفعل لاحتمال تدخل الجديد باستمرار. ولكن اعتمادا على سرعة البديهة وأخذ القرار، واعتمادا على القدرة على التكيف في إتيان الفعل يمكن التغلب على عدم المعرفة بالتفاصيل. والتفاصيل هي الدالة على الفعل المؤثرة فيه لا التفاصيل غير الدالة التي لا تؤثر في سريان الفعل. ولما كان الفعل يتحدد أساسا بالأفكار والبواعث والغايات وطبيعة الموقف، فإن ما سوى ذلك تفاصيل غير دالة مثل تركيب اليد أو لونها أو عدد شعيرات جلدها!
والفعل غير المقصود وغير المروي هو الفعل الأمثل. وأفعال المصادفة والحظ ليست أفعالا تقوم على علم مسبق. وأفعال المصادفة لا تثبت إرادة خارجية ، بل لا تثبت إلا المصادفة. وحتى لو كانت كذلك فكيف تكون أفعال عدم التروي والمصادفة دليلا على المؤله المعبود؟ (3)
ولا يعني العلم الشامل كصفة للمؤله إثباتا للجبر بأي حال؛ فبالإضافة إلى أن ذاته تشخيص لعواطف التعظيم والإجلال وليس له وجود واقعي في العالم، فإن وجود علم شامل لا يعني بالضرورة وقوعه. هناك فرق بين العلم والإرادة، بين النظر والعمل. ولكن قد يقال إن من صفات العلم الكامل تحقيقه، وإن التمييز بين العلم والإرادة أو بين النظر والعمل أو بين الممكن والواقع أو بين الماهية والوجود لا يحدث إلا في الإنسان. ففي هذه الحالة لا مفر من الوقوع في التشخيص.
40
والإخبار عن شيء في الوحي بأنه سيقع أو لن يقع لا يعني إثبات أي جبر على الحوادث؛ فهذا علم مسبق معطى للإنسان كي يقيم حياته ويحقق غايته على أساس نظري يقيني. فالوحي يعطي النظرية مسبقا حتى يكون الجهد كله للعمل. الإخبار عن شيء لا يعني حدوث الشيء، بل يعني يقينا نظريا مسبقا على الإنسان أن يحققه بفعله. إن معرفة الاشتراكي المسبقة بانتصار الطبقة العاملة لا تعني تدخل أية إرادة خارجية تنصر الطبقة العاملة، بل تعني إعطاء اليقين النظري اللازم حتى تقوم الطبقة العاملة بفعل الانتصار. إن إخبار الوحي بأن أمة ما هي خير أمة أخرجت للناس لا تعني أن هذه الأمة قد أصبحت كذلك بالفعل، بل تعني كشف إمكانية خالصة تتحول إلى حقيقة بفعل هذه الأمة وتحقيق شرطها.
41 (4)
ولا يعني وجود إرادة شاملة مطلقة إلغاء الحرية الإنسانية، فهذه الإرادة معلقة بذات هو في الحقيقة تشخيص لعواطف التأليه التي هي في حقيقتها عواطف تعظيم وإجلال، إما كتعويض نفسي عن هزيمة أو كائنات سلطة في مجتمع منتصر. ولو قيل إن إرادة المؤله إرادة في ذاته، ولا تعني وقوع إرادته بالضرورة على نحو إنساني لم تعد الإرادة على مستوى الكمال. فالإرادة الكاملة هي الإرادة في الذات وفي الغير على السواء. والإرادة في الذات دون الغير إرادة ناقصة. وكيف يمكن تصور إرادة نظرية دون إرادة عملية؟ الإرادة الشاملة مثل العلم الشامل، كلاهما حق نظري لله لا ينفيان واقع الإنسان العملي كإنسان عامل ومريد.
42 (5)
والأفعال اللاإرادية ووقوعها لا تثبت تدخل أية إرادة خارجية في سير الحوادث، بل هي أفعال متوقعة من الإنسان. وكثيرا ما وقعت أفعال دون قصد، وكثيرا ما رمى الإنسان إلى فعل شيء فحدث شيء آخر. وذلك يثبت فقط أنه لا توجد صلة حتمية بين الفعل والقصد، وذلك لأن الإنسان حر حتى في داخل فعله، وأنه يصعب التنبؤ بمسار الفعل وغايته حتى لو أعدت العدة كاملة له. وكثيرا ما رمى العلماء إلى اكتشاف شيء فاكتشفوا غيره وهم بصدد البحث.
43
بل إن الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية يثبت الحرية بدليل الفعل الاختياري ولا يثبت الجبر بدليل الفعل اللااختياري؛ فالفعل غير الاختياري قد يعبر عن طبيعة الإنسان ورسالته ودعوته، أو قد يعبر عن الدافع الأقوى وهو غير شعوري لا يظهر فيه الاختيار صراحة. ولكن وجود الفعل غير الاختياري لا يثبت عدم القدرة بل يثبت فقدم عدم تأثيرها.
44
وقد تكون الأفعال اللاإرادية في حقيقة أمرها أفعالا إرادية من نوع آخر وعلى مستوى أعلى وأعمق في الشعور. فالمجاهد يستطيع إراديا أن ينتصر على آخر، ولكنه يستطيع أيضا الانتصار على عشرة أمثاله أو عشرين، طبقا للباعث والغاية. فاللاإرادي هنا إرادي يعبر عن طبيعة الإنسان وعن مدى إحساسه بالحياة وتمثله لدعوته وتحقيقه لرسالته. ولكن يظل الفعل الأمثل هو الفعل الإرادي. فإذا حدثت أشياء غير متوقعة فإنه يمكن احتواؤها بإرادة جديدة وبتغيير خطط السلوك. هناك ظروف اجتماعية تحدد من عمل الإرادة، فالإرادة ليست خالصة، بل تعمل في موقف. والأشياء غير المتوقعة والموقف ليسا هما المعبود وإلا كانا مجرد تعبير انفعالي عاطفي عن تغير الموقف.
ويقوم إثبات الجبر على نفي الصلة الضرورية بين العلة والمعلول، إذا وجدت الإرادة حدث الفعل وإذا عدمت الإرادة عدم الفعل. فقد يحدث فعل بلا إرادة، وقد توجد إرادة ولا يحدث فعل، وهذا نفي للعلم وللفعل معا. فالعلم يقوم على الارتباط الضروري بين العلة والمعلول. والفعل يقوم على استقلال العلة عن أي شيء آخر سوى الإنسان وأنه هو المحقق للفعل. ونفي ضرورة العلم يفسح المجال للأسطورة والقضاء على الفعل يفسح المجال للطغيان الذي يجمع كل الأفعال في فعل واحد هو فعل الطاغية.
45 (6)
وعدم القدرة على الإتيان بالضد لا يثبت وجود قدرة خارجية قادرة على الإتيان به. فالسلوك الإنساني سلوك موجه قائم على فكرة واضحة، ومدفوع بباعث واحد، ويرمي إلى تحقيق غاية. فالإتيان بالضد مستحيل عمليا ونفسيا وفكريا. فالعادل، إيمانا بأن العدل قيمة وباعث وغاية لا يقدر على الظلم، والصادق لا يقدر على الكذب، والأمين لا يقدر على الخيانة. السلوك الإنساني سلوك موجه يسير في خط واحد ولا يرجع إلى الوراء.
46
إن افتراض القدرة على الضد افتراض صوري محض يقوم به المشاهد المحايد الخارج عن الفعل وكأن السلوك الإنساني سلوك آلي يحدث في أي اتجاه ممكن، ويتغير من اتجاه إلى آخر ما دام الفعل حرا. لا يعني الفعل الحر، الفعل بلا غاية ولا باعث ولا فكرة، أي الفعل الذي يسير في كل اتجاه فهذه حرية اللامبالاة، وهي حرية افتراضية صورية خالصة وأقرب إلى غياب الحرية، الفعل الحر هو الفعل الهادف الملتزم القائم على باعث. إن افتراض وجود قدرة أخرى أعظم قدرة على خلق الضد افتراض صوري خالص يقوم على إثبات عواطف التأليه والتعظيم وعلى المزايدة في الإيمان، ولا يثبت شيئا في الواقع. وهناك فرق بين السلوك الموجه كنتيجة للجبر وبين السلوك الموجه كنتيجة للجبر الذاتي؛ ففي الجبر يستحيل على الإنسان أن يكون قادرا على الترك أو على فعل الضد، لا لأن فعله مرهون بفكرة أو باعث أو غاية، بل لأنه مسير بقدرة خارجية لا محيد عنها، وعادة ما يحدث الفعل في حدود الطاقة البشرية ولا يتعداها. وإعادة شجرة مقطوعة أو حمل رجل بعد الأخرى خارج عن حدود الطاقة، ولا يثبت عجز الإنسان على الإتيان بالضد. فهذا الافتراض قائم إذن على استحالة عملية؛ ولذلك فهو افتراض صوري خالص لا يثبت شيئا فوق الطاقة، ولا يقضي على الفعل في حدود الطاقة. (7)
ولا يعني خلق الأفعال خلق الشيء، بل تأدية الشيء والإتيان بفعل. لا يعني خلق الأفعال خلق ميدان الفعل، بل تحقيق الفعل فيه. لا يعني الخلق المادي للشيء بل الخلق المعنوي للفعل الذي هو مجرد تحقيقه في موقف. فالشاعر خالق للقصيدة وليس خالقا للورق أو الصوت أو الحروف أو الكلمات، والمحرر خالق للتحرر وليس خالقا للوطن المحرر. يمكن إذن الإتيان بالفعل الحر في عالم غير مخلوق فيه. إن الفعل لا يخلق من العدم الوجود، بل هو فعل يحدث في الوجود ويهدف إلى تغيير بناء الواقع. هو فعل تغيير شيء موجود من وضع إلى وضع وليس فعل خلق من عدم.
47
لقد أصبح موضوع الحرية، ابتداء من القرن السادس بعد ظهور الفلسفة وكأنها الخطر الداخلي على التوحيد بعد درء الأخطار الخارجية، أخطار التأليه والتجسيم والتشبيه؛ أصبح موضوعا للإلهيات والطبيعيات وليس موضوعا للإنسانيات، أي حرية الاختيار كأساس للتكليف. وأصبحت مسألة الحرية في الخلق والإيجاد موضوعا طبيعيا وليس موضوعا إنسانيا. ولكن ظل الله في كلتا الحالتين هو الطرف المقابل لفعل الإنسان الخارجي في العالم وفي الطبيعة. فإذا كانت الإرادة هي التي تهدد حرية أفعال الشعور الداخلية، فإن القدرة هي التي تهدد حرية أفعال الشعور الخارجية. الإرادة في صلة مع أفعال القلوب والقدرة في صلة مع أفعال الجوارح. الإرادة في علاقة الله بالإنسان، والقدرة في علاقة الإنسان مع الطبيعة. القدرة القديمة وحدها هي القادرة على إحداث الأجسام؛ فالحادث لا يصدر من حادث؛ لذلك ارتبط الموضوع بحدوث العالم. والتفرقة بين الحركة الإرادية والحركة اللاإرادية لا تثبت القدرة القديمة بدليل الحركة اللاإرادية دون الحادثة بدليل الحركة الإرادية؛ مما يدل على أن كل مذهب يأخذ من التجربة ما يتفق معه ومع مسلماته وأحكامه المسبقة.
48 (8)
وحدوث الترجيح بين البواعث لا يعني تدخل إرادة خارجية أحدثت هذا الترجيح، خاصة لو كان المرجح يحتاج إلى مرجح، وهذا إلى ثالث. وما دام لا يمكن التسلسل إلى ما لا نهاية، فيجب الانتهاء عند المؤله المشخص. فبالإضافة إلى أن هذا تفكير دائري، أي أنه مجرد عاطفة أو انفعال سابق على التفكير، يظهر التفكير فيه على أنه مجرد حركة للرجوع إلى الوراء. والتفكير العلمي في مساره تفكير إلى الأمام وإلى الكشف عن المجهول. وإن احتياج الفعل إلى مرجح كي يحدث لا يعني حدوث هذا المرجح من الخارج، بل يتم بمقارنة البواعث أيهما أقوى ثم اتباع الباعث الأقوى أو بمقارنة غاية كل فعل مع غاية الآخر ومعرفة أيهما أكثر قيمة وثباتا أو بالرجوع إلى المصلحة العامة التي ينتهي إليها التسلسل، وهذا كله لا يحدث بطريقة صورية. لا يحدث بأن يجد الإنسان نفسه محايدا بين فعلين منتظرا لمرجح يوجهه نحو الأول أو نحو الثاني، بل يتبع الإنسان طبيعته وتكوينه ودعوته وغايته. الاختيار بين فعلين في الحقيقة ليس اختيارا حسابيا، بل هو اختيار قائم على الباعث الأقوى في الحياة.
49 (1-4) نقد الجبر
الحقيقة أنه يصعب التفرقة بين الأسس والنتائج والمخاطر والأخطاء للجبر، سواء في أفعال الشعور الداخلية أو في أفعال الشعور الخارجية؛ فهي كلها متداخلة فيما بينها؛ فالأسس هي الحجج، والنتائج هي المخاطر، والأخطاء هي تفنيد الحجج. لذلك وضع الكل تحت موضوع واحد وهو «نقد» الجبر.
والأسس العقلية التي يقوم عليها الجبر أسس ضعيفة بدليل تفنيد أصحاب الكسب لها مع أن الكسب والجبر يعتمدان على الأسس العقلية نفسها، ومنها تشخيص عواطف التأليه وإثبات قدرة خارجية تتدخل في فعل الإنسان وإنكار استقلال الإنسان في فعله. وكذلك بدليل تفنيد أنصار خلق الأفعال له وهو تفنيد موجه أيضا لنظرية الكسب لاشتراكها في الأسس العقلية نفسها التي يقوم عليها الجبر. مع أنه في عقيدة القضاء والقدر يضيع الكسب ولا يمكن القول بهما معا؛ فهما بمثابة الإخوة الأعداء. ويمكن نقد هذه الأسس على النحو التالي: (1)
إثبات ذات مشخص مؤله قادر قدرة مطلقة وعالم علما شاملا يبطل كونه حكيما صادقا. وتصبح أوصافه سفيها ظالما كاذبا لأنه يفعل الظلم ويجبر الإنسان على أفعاله ويحاسبه، يسلبه حريته ويكلفه.
50
وهو في الحقيقة تشخيص عواطف التأليه ثم تصور وجود شخص مؤله له قدرة شاملة وعلم محيط يتدخل في حوادث الكون ويتحكم في مصائر البشر ويوجه أفعال الإنسان كحق مطلق وكواقع مثبت. يستطيع أن يفعل أي شيء أراده الإنسان أم لم يرده، يستطيع أن يمنع أي شيء من الوقوع أراد الإنسان حدوثه أم لم يرده، يستطيع أن يعدم الإنسان ذاته بعد وجوده وأن يوجده بعد عدمه. لا يبقى أمام سلطاته قانون ثابت، ولا عالم قائم. كل شيء يخضع لإرادته ومشيئته. يستطيع أن يجعل الثلج نارا، والنار ثلجا، أو أن يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا، وأن يطلق الأشياء في الهواء دون أن تقع، وأن يوقف السهم في الجو دون أن يصيب، وأن يعاقب المحسن ويثيب المسيء، لا راد لحكمه ولا رافع لقضائه. ما دامت هذه هي البداية فيستحيل إثبات فعل الإنسان الحر وإرادته المستقلة لأن البداية بداية نظرية وليست أمرا واقعا. وهي مقدمة تشمل الموقف والنتيجة معا ولا يمكن بعدها إثبات شيء لأنها تتعلق بالشرعية الأولية والحق النظري الأول. هي بداية تحتوي على حل مسبق هو إلغاء وجود الإنسان المستقل وفعله الحر. وبالتالي فالجبر ليس وصفا للفعل الإنساني بقدر ما هو قرار مسبق مبني على شرعية أولية هي في الوقت نفسه أساس كوني. وقد فرق الفقهاء من قبل بين إرادة التكوين وإرادة التشريع، الأولى كونية لا مرد لها، والثانية تشريعية تعطي الأمر ولا توجبه، وتفسح المجال أمام الإنسان للفعل الحر والإرادة المستقلة.
حينئذ يكون السؤال: ماذا يبقى من الإنسان لو عدم وجوده؟ ماذا يبقى منه لو قضى على فعله؟ ماذا يبقى منه لو سلبت حريته؟ ولحساب من؟ ولما كنا نعلم من التوحيد أن عواطف التأليه هي في أساسها عواطف تنشأ في ظروف اجتماعية معينة؛ إذ ينشأ التأليه والتجسيم في مجتمع مضطهد على درجات مختلفة من الاضطهاد، كما ينشأ التنزيه والتشبيه في مجتمع منتصر بصورتين مختلفتين: الأولى تثبت البؤرة المركزية المتعالية، والثانية تثبت سيطرتها على الواقع بالفعل، كذلك فإن إثبات الجبر يؤدي إلى إثبات السلطة في المجتمع المنتصر وإقامتها على الشرعية الأولى. ومع ذلك، وكما يحدث في المجتمعات المضطهدة، يتحول الجبر الإلهي الكوني إلى جبر ذاتي باطني، أي حتمية تحقيق الإنسان لرسالته في الحياة، وضرورة تحقيق عالم الفضيلة كتعبير عن كمال الطبيعة، ويتحول إلى عملية تحرر للإنسان وللكون معا. (2)
يتم تصور التأليه على أنه بقدر ما يعطي المشخص المؤله من قدرة مطلقة يسلب من الإنسان قدرته، وبقدر ما يكون المشخص المؤله حرا تلغى من الإنسان حريته؛ فالعلاقة بين المؤله المشخص وبين الإنسان علاقة عكسية وليست طردية. بقدر ما يعطى الأول يؤخذ من الثاني، وبقدر ما يؤخذ من الأول يعطى الثاني. وهي علاقة تضارب وصراع تكشف عن مزاحمة بين الله والإنسان، وكأن العالم لا يكون فيه إلا بطل واحد. وهذا تصور خاطئ لأنه لا يوجد مؤله مشخص في الواقع واقف للإنسان بالمرصاد. كلما أراد الإنسان أن يكون حرا سلبت منه حريته. ولا يأتي الإنسان بفعل حر إلا في غفلة عن المؤله أو بمرجح زائد منه.
51
والحقيقة أن العلاقة بين عواطف التأليه باعتبارها أثمن ما لدى الإنسان، والفعل وهو واقع الإنسان؛ علاقة طردية؛ إذ تتحول هذه العواطف إلى أصلها كبواعث على الفعل من داخل الشعور وليست إسقاطات على الطبيعة خارج الشعور وخارج الفعل وضده. ليس للكمال وجود خارجي بل هو باعث إنساني نحو الكمال. ليست الإرادة الشاملة صفة لذات مشخص، بل هي إرادة إنسانية تبغي أوسع نطاق لها وأكبر تأثير. ليس العلم أيضا صفة مطلقة لذات مشخص، بل هو دافع إنساني نحو العلم يعطي الأساس النظري للفعل. ويكون السؤال: لمصلحة من تصور هذه العلاقة العكسية بين الإنسان وقيمه؟ وكيف تثبت القيمة بذاتها إذا سلبت إرادة الإنسان؟ وفي أية قيمة تعمل إرادة الإنسان لو أصبحت القيمة خاوية غير قابلة للتحقيق؟ ولماذا لا تكون العلاقة طردية، بقدر إثبات حرية الإنسان تثبت فاعلية القيمة، وبقدر ما تضمحل فاعلية القيمة تضمر حرية الإنسان؟ في الجبر الذاتي وحده تكون العلاقة طردية. كلما أحس الإنسان بدعوته، وهي القيمة، ازدادت حريته، وكلما ضعف إحساس الإنسان بدعوته قلت حريته وطواه الجبر. (3)
وكما يتم تدمير فعل الإنسان وإرادته المستقلة كذلك يتم تدمير قوانين الطبيعة الثابتة، خاصة ابتداء من القرن السادس بعد ظهور الفلسفة وكأنها الخطر الداخلي بعد درء الأخطار الخارجية من التأليه والتجسيم والتشبيه. والحقيقة أن الحوادث الخارقة للطبيعة التي يظن على أنها دليل على وجود إرادة خارجية هي إرادة الذات المشخص المؤله التي تتدخل في الطبيعة هي في الحقيقة حوادث طبيعية نجهل عللها.
52
فكل ما يظن أنه يحدث من خارج الطبيعة هو في الحقيقة يحدث من داخل الطبيعة، وبتقدم العلم يمكن معرفة القانون الذي تجري طبقا له هذه الحوادث. وإن تقدم العلم مشروط بنقل النظرة العلمية من التفسير الخارجي إلى التفسير الداخلي، ومن الفهم بالقوى الخارجية إلى الفهم بالقانون الداخلي. وقد تكون الحادثة الخارقة للطبيعة إدراكا خاطئا سببه مؤثر انفعالي حاد. فالإدراك الحسن مرتبط بدرجة الشعور الانفعالي كما يرى العطشان الماء سرابا، والجوعان الحذاء دجاجة، وكما يشعر المصاب بزلزال في الأرض وبانفتاح القبور وبدك الجبال كما هو معروف في مشاهد الصلب في الأناجيل الأربعة. وعادة ما تقع أمثال هذه الحوادث في لحظات يكون الشعور فيها في حالة صدمة وفقدان توازن تمنع من الإدراك الحسي السليم. وقد تكون هذه الحوادث الخارقة للطبيعة مجرد صور فنية لا تتعدى حدود اللغة، تعبر عن قدرة مطلقة من أجل إعادة بناء اعتقاد الناس والإيحاء لهم بأن هناك حقا مطلقا وعلما شاملا وإرادة لا غالب لها؛ مما يعطي لهم ثقة بالنفس، ومما يجعلهم قادرين على العمل أكثر مما لو أوحى إليهم بأن هذا العالم هو عالم الثبات المطلق الذي لا يتغير. المقصود من المعجزة كصورة فنية هو أن الطبيعة ميدان عمل ومجال تحقق للإرادة، وأنها طيعة لا عاصية، تقبل كل فعل. وفي الجبر تؤدي هذه الصورة الفنية إلى غرض عكسي وهو اعتبار أن كل شيء في الطبيعة خاضع لسلطة مطلقة وإرادة شاملة لها؛ فتحولت من دافع على الفعل إلى مانع من الفعل، ومن باعث على الإرادة إلى ناف للإرادة. فلو انتقلنا إلى الميدان الاجتماعي قامت الصورة الفنية في الخيال الشعبي ومن خلال أجهزة الإعلام والمؤسسات الدينية بدور مؤيد للسلطة في قضائها على كل معارضة. وإن حدث بعض ما يسمى بالمعجزات فإنه قد حدث في لحظات تاريخية معينة كتغير مفاجئ في ظواهر الطبيعة وتبديل لقوانينها، وذلك في نشأة الكون الأولى. ولكن بعد أن بردت الأرض واستقر نظام الكون انتهت المعجزات، وأصبح الإنسان قادرا بعقله الكامل وبفعله المستقل على فهم العالم والسيطرة عليه. (4)
ويؤدي الجبر إلى عكس ما يقصد إليه. فلو كان المقصود إثبات أحقية المشخص المؤله على الكون فإنه يؤدي في النهاية إلى إثباته متحولا زائلا متأرجحا بين الوجود والعدم. ما دام الفعل له، والفعل المباشر منه، فإنه يرتبط بالأشياء والأفعال، يوجد حيث توجد، ويعدم حيث تعدم. حينئذ يتحول من القبلية الشرعية إلى البعدية العملية وينتقل من المطلق إلى النسبي، ومن الفعل إلى الانفعال، يكون محلا للحوادث وينقلب من النقيض إلى النقيض، ومن المسيطر إلى المسيطر عليه، من الحاكم إلى المحكوم، من القاهر إلى المقهور. يصبح هو والتاريخ شيئا واحدا مثل الكرامية أو مثل آلهة اليونان تدخل حلبة الصراع في معارك البشر.
53
وإذا كان المقصود من الجبر إثبات القدرة الشاملة والعلم المطلق وجميع صفات العظمة والكمال، فإن هذا القصد يتحول إلى نقيضه؛ فيثبت المؤله حالا في الأشياء، فاعلا فيها، قريبا منها. ويصبح حادثا محدودا نسبيا خاضعا لفعل الإنسان.
54
ففي الجبر لا الله أثبت نفسه منزها ولا الإنسان أثبت نفسه فاعلا؛ وبالتالي يضيع التوحيد والعدل، ركنا العقليات ولب العقيدة. (5)
ومما ينقص في التنزيه انتهاء الجبر، وهو بصدد حل توهم مشكلة الحق الإلهي المطلق ونيل الإنسان منها، إلى خلق مشكلة أعظم، وهو اعتبار الله مسئولا عن الشر والقبح وكل آثام العالم وأوجاع الناس ومآسي البشر؛ فهو خالق كل شيء وفاعله. وأمرنا بفعل القبيح من ظلم وجور وكذب. وكيف يكون الخير مطلقا وهو مسئول عن الشر في العالم؟ وكيف يصدر الشر عن الخير؟ لذلك أصبح موضوع تبرئة الله عن الشر أكثر إلحاحا في الجبر والكسب منه في الاختيار، بالرغم من أن الحسن والقبح العقليين نظرية مقارنة للاختيار.
55
وفي مقابل ذلك ينزع الجبر من الإنسان مسئوليته عن أفعال الشعور الداخلية من علم وجهل وظن واعتقاد، وهي أساس أفعال الشعور الخارجية، كما يسلبه مسئوليته عن أفعال الشعور الخارجية من عدل وظلم وحق وباطل، وقهر وتحرر، وفقر وغنى.
56
الجبر نفاق واحتجاج ومحاجة، وتهرب من الفعل والواجب بحجة الجبر؛ فالجبر نفي للحق وتهرب من المسئولية وتذرع بالقضاء والقدر، العقيدة الأولى في الجبر.
57 (6)
ويؤدي الجبر إلى قبح بعثة الرسل وعدم فائدتها وإبطال الغاية منها؛ فما دام الإنسان مجبرا على أفعاله، ففيم التنبيه والتبليغ؟ وفيم إرسال الأنبياء والرسل؟ وفيم إرسال رسول صادق؟ وكيف يمكن حينئذ التمييز بين الرسول و«إبليس»؟
58
كما يؤدي الجبر إلى إسقاط الشرائع وإلغاء التكاليف وعدم الالتزام بأي قانون ما دام الإنسان مجبرا على أفعاله. وهو ما حدث بالنسبة للصوفية ونقد الفقهاء لهم.
59
كما يؤدي على الأقل إلى قبح التكاليف ومنع القدرة. فما دام الإنسان مجبرا ولا قدرة له على إتيان أي فعل، ففيم التكليف الذي يتطلب القدرة على الإتيان به؟ كما يؤدي إلى قبح كل فعل بل وإلى استحالته ما دام الفعل يتطلب القدرة عليه. فالإنسان لو لم يكن مختارا لقبح تكليفه، والتكليف ليس تحصيل حاصل؛ فالإنسان قادر على الفعل ولا شيء مقررا عليه إلا في حساب عام للكون ومسار التاريخ وقانون حركة المجتمعات والشعوب. فلا يتم فعل إلا بوعي الأفراد وحركة الجماهير، وبقيادة رشيدة وبفكر عملي وبقانون تاريخ. ولا يقال إن التكليف مجرد داعية إلى الفعل الذي يخلقه الذات المشخص؛ لأن التكليف سيظل في هذه الحالة فائضا لا لزوم له ما دام الفعل مخلوقا من الله.
60
كما ينتهي الجبر إلى قبح الأمر والنهي، فما دام الإنسان مجبرا على أفعاله ففيم التوجيه نحو الفعل أو نحو عدم الفعل؟ فالأمر والنهي لا يوجهان إلا إلى القادر على الفعل.
61
وفي نفس الوقت لا يجوز الجبر تكليف ما لا يطاق ما دام الإنسان ليس هو الفاعل، وما دام الفعل ليس مرتبطا بحدود الطاقة الإنسانية.
62
وينتهي الجبر إلى إبطال النعمة أو الدعاء والشكر على التوفيق دون الخذلان. فما دام الإنسان مجبرا على أفعاله فإن لن يسأل التوفيق، ولن يسعى إلى الفعل، ولن يطلب الهداية، ولن يشكر إذا ما تحقق ما سأل وطلب ورجا.
63
كما يؤدي إلى إبطال استحقاق المدح والذم؛ فالمجبر على أفعاله لا يستحق المدح أو اللوم لأنه لم يحدث شيئا بفعله بل أحدثه غيره فيه. ولا يستحق الإنسان اللوم أو الثناء إلا إذا كان مسئولا عن فعله قادرا عليه. ولا يقال إن المدح والذم باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية لأن المحال أفعال.
64
وأخيرا يؤدي الجبر إلى إبطال الثواب والعقاب على الأفعال. يحيلهما الجبر لعدم مسئولية الإنسان على الأفعال، ومن ثم إبطال الوعد والوعيد. ولا يقال إن الثواب والعقاب مجرد عادة، فالعاديات حوادث طبيعية لا دخل لفعل الإنسان فيها. أما الأفعال فهي تتأتى بفعل الحرية. ليست الأفعال إلا مجرد علامة على الثواب دون أن تكون هي المقررة للثواب والعقاب. ليس للعلامة أية دلالة خاصة لأنها يمكن أن تكون فعلا بل أي شيء آخر. العلامة إنكار للفعل كما أن الفعل المجازي إنكار له. الفعل حقيقة واعتباره مجازا هو فقط تغيير في لفظ الجبر.
65 (7)
وفي تفنيد الجبر توجه إليه الحجج التي يعتمد عليها الكسب لإثبات الحرية وهي التفرقة بين حركة المرتعد والحركة الاختيارية لإثبات أولوية الحركة اللاإرادية وهي حركة المرتعش على الحركة الإرادية وهي حركة المختار. وهي حجة ذات شقين إما تثبت الجبر نظرا للحركة اللاإرادية أو تثبت الكسب نظرا للحركة الإرادية. ومع ذلك لا تميز عقيدة الجبر بين المستويات بين المضطر والمكتسب والمختار، بين الملجأ وما ليس بملجأ ووضع الأفعال كلها في قالب واحد وهو الاضطرار ثم الاضطرار من الخارج وليس من الداخل. وهناك فرق في السلوك. يحدث المضطر إما لعجز به أو فيه أو لصعوبة الإتيان بفعل في موقف لا يسمح بتحقيقه، وهو اضطراري يمكن معرفة علته. إذا زالت العلة زال المعلول. ويحدث المكتسب بالممارسة وبتكرار الفعل بالتربية داخل الجماعة الداعية. ويحدث المختار طبقا للباعث الأقوى نتيجة لاختلاف القيم بين الشدة والضعف في التمثل. يؤدي الجبر إذن إلى إلغاء المستويات وعدم التمييز بين الأفعال وإثبات أن العالم واحد والفعل واحد وبالتالي يمحى الفرق بين الله والإنسان، بين إرادة الله وإرادة الإنسان، بين قدرة الله وقدرة الإنسان، وجعل الله على مستوى الإنسان، والإنسان على مستوى الله في حين أن العقيدة والشريعة كلتيهما تقومان على التمييز بين المستويات.
66
في حين تثبت حرية الاختيار عندما تتم التفرقة بين المستويات، ويقضى عليها بإرجاعها كلها إلى مستوى واحد.
67
لذلك يخلط الجبر بين فعلين فعل التأليه وفعل الإنسان. فعل التأليه واجب نظرا طبقا لعواطف التأليه، وفعل الإنسان واجب نظرا وعملا. كما يعطي الأولوية لفعل التأليه على فعل الإنسان. وفعل التأليه هنا يعني الموقف الذي يمارس الإنسان فيه حريته، ثم ينكر فعل الإنسان ويثبت فعل التأليه وكأن الإنسان يضحى بحقه كلية في سبيل الإحساس بالغموض والتوهمات المستقبلية. ثم تفسير الأفعال وكل مظاهر الطبيعة بالعلة الأولى دون العلل الثانية؛ وبالتالي تنتهي حرية الإنسان كما يقضي على العلم. وبالرجوع إلى الفعل الإنساني وتحليل السلوك البشري يمكن اكتشاف أن الفعل الإنساني الحر ليس هو الفعل العقلي وحده بل فعل الشعور.
68
وكل إنكار لذلك إنما هو توهمات وأخطاء في استعمال الألفاظ مثل الجواز والصحة والتوهم. فالجواز قد يفيد الشك إذا كان المقصود به الفعل الإنساني، وقد يعني الصحة إذا كان المقصود به فعل التأليه؛ فكل لفظ يحتمل معنيين يصح أحدهما على فعل الإنسان والآخر على فعل التأليه.
69 (8)
ويقوم الجبر على إبطال العادات والعرف والمألوف. يفنده الإحساس بالحرية والشعور البديهي بالمسئولية، وما هو أساس للحياة الخاصة والعامة. فحدوث الحرية بالفعل في الواقع أكبر دليل على وجودها. وما الحاجة إلى إثبات شيء هو موجود بالفعل؟ كما أن الجبر إبطال لحكم العقل واعتماد على اللامعقول، ومنع السؤال والتساؤل والفهم، والاعتماد على السلطة والطاغوت والأسطورة.
70
مع الجبر تستحيل المعرفة؛ وماذا تجدي المعرفة ما دام العقل لا يتم بأساس نظري عن وعي وتدبر؟ وما الحاجة إلى العقل والبحث والنظر والإنسان مفعول فيه؟
71
والجبر شهادة زور؛ لأنه دفاع عن الذي يحتج بالجبر وينكر شهادة الحس والوجدان، ويقول غير ما يشعر به.
72
ويتجاوز الجبر حدود المعرفة الإنسانية، بداهة العقل والحس وشهادة الوجدان، فيمتد إلى العالم الآخر؛ وبالتالي يقع في خطأ مزدوج، الجبر في الدنيا والجبر في كل العوالم الممكنة الأخرى في الحياة أو بعد الموت. فالجبر في هذا العالم لا يؤيده عقل أو تجربة أو حياة. والجبر في العوالم الأخرى هو استمرار للجبر في هذا العالم حتى ولو كان في عالم أفضل يجد فيه الإنسان تعويضا عن عالم البؤس والحرمان، في عالم من النعيم والاكتفاء، ومن عالم الظلم والقسوة إلى عالم العدل والرحمة؛ فهو عالم نفسي مسقط مشخص يعبر عن حرمان الإنسان وضيقه بالظلم ورغبته في التعويض وأمله في الخلاص. وكل القوانين التي يتصورها الإنسان تحكم هذا العالم الآخر هي قوانين بالتمني.
73
إن الحرية تثبت في هذا العالم، وإثباتها أو إنكارها في عالم آخر لا يزيد ولا ينقص من ثبوت الحرية في هذا العالم بل يكون مجرد تشويش عليها وإفساح مجال للجبر الأخروي. وما فائدة إنكار الحرية في عالم آخر ما دام التكليف قد انتهى بانتهاء الحياة؟ حتى ولو أمكن تصور حياة أخروية كيف يمكن تصورها بلا حرية؟ وكيف ينعم الناس عندما لا يكونون قادرين بل عندما يكونون مضطرين حتى إلى النعيم الأبدي؟ حتى الجزاء لا يكون جزاء إلا إذا كان نتيجة فعل حر، ويكون الفعل حرا دون عصمة. فالعصمة أيضا جبر؛ لأن الإنسان لا يقدر على فعل الخطأ. والجبر في النعيم الأخروي عذاب النسبة للحرية في العذاب الدنيوي.
74
يبدو أن الاستحقاق كواجب عقلي جعل المثاب مضطرا إلى الثواب، والمعاقب مضطرا إلى العقاب، وهو اضطرار القانون. والحقيقة أن العالم الآخر ليس عالم فعل بل عالم ثواب، ليس عالم امتحان واختبار بل عالم يتم فيه حصر النتائج. ففي هذا العالم يتم الكشف فيه عن حصيلة الفعل بعد أن يكون قد تم كل فعل. (9)
ويبطل الجبر تعلق الفعل بالإنسان ووقوعه حسب دواعيه، وإلغاء البواعث على الفعل ومسئولية الإنسان عنه، بل القضاء كلية على الإنسان الفاعل الحر القاصد المحقق. فالجبر تسوية للإنسان بظواهر الطبيعة وتحويله إلى آلة تحقق مقاصد الغير.
75
يؤدي الجبر إلى نفي حرية الإنسان وقدراته وبواعثه ودواعيه وصوارفه، وأهدافه ومقاصده وغاياته، وتخطيطه وتعلمه وتجاربه، وأخطائه ونجاحه وفشله، وسلبه حياته ووجوده، وفعله ورسالته وكل شيء، وإبداعه وخلقه وفنه وشعره، وجهاده ونضاله. وإذا كان كل فعل حكمه قضاؤه، وأفعاله ليست معللة بغاية أو سبب فإنها تصبح غير مفهومة ولا قصد لها ولا غاية ولا سبب، وهي الأفعال العشوائية المتناقضة التي تقوم على العبث والسخف واللامعنى والتناقض. ويؤدي الجبر إلى القول بالطبع وأن كل إنسان يفعل ما هو مطبوع عليه، وجوهر الطبع هنا هو الجبر في حين أنه إذا كان الطبع هو الطبيعة فإن الطبيعة حرة.
76
وينفي الجبر التولد في الطبيعة واستمرار القدرة لنفيه القدرة أصلا؛ وبالتالي ترك العالم وتوقف الفعل فيه.
77 (10)
ويؤدي الجبر في عقيدته الأم، القضاء والقدر إلى الرضا والاستكانة وقبول الخير دون زيادة، والشر دون نقصان. يصبح الرزق معدا من قبل، لا تغيير في وضع الإنسان ولا تبديل. يتم الرضا بالشر وقبوله وإيجاد العلل له كالامتحان والاختيار فالمؤمن المصاب، وينتهي الإنسان إلى تبرير الشر وتعقيله ثم قبوله والرضا به.
78
وبعد أن يتحول الجبر إلى موروث في الدين الشعبي تظهر سلبياته العملية ويختفي الحق الإلهي النظري الذي كان الدافع على صياغته. يصبح الجبر السبب الرئيسي في استكانة الشعوب ومنعها من الثورة والغضب والتمرد والمعارضة والدفاع عن الحقوق فتنتهي إلى الاستسلام والرضا، وقبول الأمر الواقع، وما به من فقر وجهل وتخلف وقهر، ما دامت الشرور والآثام واقعة حتما، لا يمكن تغييرها إلى نفع وصلاح. ويكون ذلك في الماضي والحاضر والمستقبل، في كل الزمان؛ ومن ثم تنعدم الثورة في الحاضر ولا يعد لها في المستقبل وتدان في الماضي، ويغيب النموذج التاريخي فيصبح الإنسان خارج الزمان والمكان وخارج التاريخ. معنى الرضا بالقضاء والقدر هو عدم الاعتراض على حكم الله السابق وإرادته الأزلية. وما أسهل بعد ذلك أن يأتي الحاكم ممثلا لإرادة الله ويطالب الناس بالتسليم والرضا والقبول فيمتنعون عن الاعتراض . وكأن الإنسان في مواجهة حاكم قاهر وسلطان جائر تجب مشيئته وإرادته مشيئة المحكوم وإرادته؛ وبالتالي يؤدي تبرير الشر على أنه خير، وتحريم السخط على أنه رضا إلى عدم الثورة على الظلم، ونهاية الغضب من القلوب، والثورة في الشعوب.
79 (2) نظرية الكسب
مع أن الكسب هو النظرية الثالثة تاريخيا بعد الجبر وخلق الأفعال، يحاول الجمع بينهما على التوسط، إلا أنه هو الخطوة الثانية لأفعال الشعور الخارجية كما كان الحال في أفعال الشعور الداخلية في الحلول المتوسطة لأنه يحاول الخروج من الجبر والاقتراب من خلق الأفعال بصرف النظر عن مدى نجاح المحاولة. والقول به اتجاه عام لا يميز طائفة عن أخرى وإن كان أصبح ممثلا لكبراها ومميزا لها، وبالتالي أصبح مرادفا لعقائد الجمهور، وعقيدة رسمية للدولة.
80
وقد ظهر الكسب في العقائد المتأخرة وكأنه النظرية التاريخية الدائمة والنظرية الدينية الشرعية التي لا يستطيع أحد الخروج عليها، طبقا لعقائد أهل السنة، استسهالا للأمر؛ فالعقائد المتأخرة عندما غاب عنها الأساس النظري لم يبق منها إلا هذه النظرية التي تخاطب الإيمان ويسهل عرضها بالعقل،
81
أو تملقا للجماهير لأنها تزايد على الإيمان مثل الجبر أو دفاعا عن السلطة ما دامت الأولوية للقدرة ليست للإنسان، وما دام الإنسان مازال تابعا للإرادة الخارجية. والنظرية بالنسبة إلى الجمهور تعطي له الحسنيين معا، الله وذاته، وتجعل الله عمادا لذاته وأساسا لها، ومن ثم يجد له مستقرا ومتاعا، ويركن إلى ركن أمين. (2-1) تعريف الكسب
هل نظرية الكسب منفصلة عن عقيدة الجبر؟ إن الكسب في الحقيقة لا يختلف عن الجبر، وهو يوضع في كثير من الأحيان معه.
82
يعتمد على التحليلات نفسها التي يعتمد عليها الجبر؛ فإثبات أحدهما يسهل إثبات الآخر، ونقد أحدهما يسهل نقد الآخر. وتتوقف كثير من تحليلات الكسب عند إثبات خلق المعبود للأفعال دون اعتناء بإثبات الكسب وكأن إثبات خلق الأفعال للمعبود وإثبات الكسب للإنسان شيء واحد مما يدل على أن الكسب مجرد تنوع صغير داخل الجبر. يبدأ الكسب بمسلمات الجبر وبقضيته الأولى وهو لا خالق إلا الله ولا فاعل إلا الله ، سواء كان من أكساب العباد أو من غير أكسابهم وكأن الأمر مجرد تغيير لفظ بلفظ أو إعطاء الإنسان الفتات إيهاما وخداعا.
83
بل إن لفظة الكسب قد لا تعني شيئا على الإطلاق إنما أريد بها التمويه على الجمهور أنها تفيد شيئا غير الجبر وهي في الحقيقة لا تفيد إلا الجبر.
84
الكسب اسم بلا مسمى، لفظ بلا معنى، كلمة تشير إلى لا شيء، وتكشف عن مجرد الرغبة في إثبات الجبر بطريقة ملتوية توحي بأنها لا تنفي خلق الإنسان لأفعاله وإثبات مسئوليته عنها. فهو مجرد وسيلة للقيام بتفكير مقنع يكشف عن موقف نفاق على عكس خلق الأفعال كموقف عقلي صريح.
85
كذلك يمكن استعمال حجج الجبر تأييدا للكسب، وحجج الكسب تأييدا للجبر. كما يمكن تفنيد حججهما معا بالطريقة نفسها؛ نظرا لتداخل النظريتين.
والحقيقة أن الكسب نظرية في الجبر لأن كليهما ينفي استقلال قدرة العبد وتأثيرها في العالم أو أنها تؤثر بفضل سبب أعلى، وتسلسل الأسباب إلى أن يصل إلى السبب الأول؛ لذلك يقوم تصور العالم عند الفلاسفة أيضا على الجبر نظرا لرفض واجب الوجود المشاركة في أفعاله؛ ومن ثم استبعاد الحرية الإنسانية. توضع إذن نظريات الفلاسفة في الصدور والثنوية في ثنائية النور والظلمة والمنجمين في الأفلاك مع الجبر. ويكون الجبر هنا علاقة بالكون أكثر منه علاقة بالسلوك الإنساني.
86
لا يقوم الكسب على القدرة المؤثرة أو على الإيجاد؛ لذلك يكون أقرب إلى الجبر منه إلى الاختيار لأنه معلق على شرط لا دخل لحرية الاختيار فيه وهي القدرة التي توجد في الإنسان إلا إذا كانت هذه القدرة نابعة من باطنه: القفز على العمل، رؤية للغاية وقد تحققت بالفعل، استعداد للتضحية والتوتر في اللحظة، الخلق المستمر الناشئ عنها. وكأن الكسب كان مجرد وسيلة للهروب من المشكلة لما كان الله هو الخالق والعبد هو الفاعل. وقد اقترن في العقائد المتأخرة بالجبر وكأن الكسب أحد نتائجه أو أحد فروعه أو أحد تطبيقاته. ربما كان الكسب في البداية؛ نظرا لقوة خلق الأفعال وحرية الاختيار، يعترف بتأثير القدرة. أما الكسب في العقائد المتأخرة فإنه يقوم على القدرة غير المؤثرة وبالتالي لم يعد هناك فرق بينه وبين الجبر. قد يكون الفرق بين الجبر والكسب أن الجبر لا يثبت قدرة على الإطلاق في حين أن الكسب المتقدم كان يثبت للقدرة أثرا. أما الكسب المتأخر فهو أقرب إلى الجبر المتوسط فيثبت قدرة للإنسان ولكنها غير مؤثرة.
87
والحقيقة أنه لا وسط بين الجبر والحرية. الكسب نفسه صورة أخرى من صور الجبر، أقل عقلانية وأضعف نظرا.
88
ومع ذلك يظل للجبر ميزة هي وضوحه النظري؛ فالمعبود خالق أفعال الإنسان. أما الكسب فإنه وإن كان يشارك الجبر إلا أنه يحاول الخروج منه فلا يستطيع. ويظل يدور حول الألفاظ والأسماء دون معان أو مسميات حتى لقد أصبح الكسب مثالا للغموض والصعوبة وعدم الوضوح فقيل: «أصعب من الكسب».
89
الكسب لا يختلف عن الجبر في أي حال، بل إنه خرج من الجبر ليكون أكثر اتفاقا مع العقل ولكي يكون هناك أساس للتكليف والمدح والذم ثم صار الكسب أكثر تعارضا مع العقل. وأصبح الجبر القديم بالنسبة إلى الكسب أكثر اتفاقا مع العقل لأنه على الأقل أوضح وأصرح.
90
وكثيرا ما يثبت الكسب بطريقة إثبات الطرفين دون أية محاولة لبيان الأساس العقلي للجمع بينهما.
91
وقد يثبت الكسب بإثبات طرفي النقيض دون أي أساس نظري أو تحليل عقلي لوجه الجمع وكأن الأمر واضح بذاته. وهذا أكثر أمانة لأن أية محاولة نظرية يسهل تفنيدها عقلا وواقعا، حسا ووجدانا، فيترك الأمر تعبيرا عن مقتضيين، إثبات حق المؤله المشخص وإثبات حق الإنسان. ولما كان الكسب لا يعني إلا الجبر فإنه ينتهي إلى إثبات حق المؤله المشخص دون حق الإنسان.
92
والجمع بين الجبر والاختيار بصورة مجردة خالصة وعلى أساس منطقي لا يحكم على الفعل بشيء مثل جواز وقوع حكمين مختلفين على شيء واحد من وجهين مختلفين. فهذا منطق الجهة الذي لا يفيد في الحكم على الفعل ووصف نشأته وتمامه. فالفعل في الواقع لا يكون إلا فعلا من قادر واحد، ولا يكون له إلا قصد واحد وغاية واحدة ومحل واحد .
93
والكسب وسيلة لجعل مقدور لقادرين، والبرهان على ذلك الفرق بين الحركة الإرادية وحركة المرتعش؛ الأولى تثبت الإرادة والفعل والقدرة، والثانية تثبت الجبر مع أنها حركة عضوية خالصة طبقا لقوانين الطبيعة الحية، ولا تثبت أية قدرة خارجية.
94
ويستحيل إثبات مقدور لقادرين؛ فالمقدور واحد، والقدرة واحدة، والقادر واحد. ولما كان الإنسان بالتجربة يشعر أنه القادر فهو خالق أفعاله. لا يمكن في هذه الحالة أن يكون القادر هو الله لأنه الخالق؛ لأن هذا استدلال وليس تجربة، حق كلي وليس فعلا جزئيا. إن إثبات جواز مقدور واحد لقادرين على البدل محاولة لإعطاء الطرفين حقهما، حق الذات المشخص وحق الإنسان الحر. ولكنها تؤدي إلى مشاكل أعظم مثل مساواة الإنسان بالله، وهو ضد عواطف التأليه، وجعله قادرا على ما يقدر عليه، وهو أيضا ضد تمييز الإرادة المطلقة.
95
فإن ثبتا حكما لوجهين يكون السؤال: من أي موقف يصدر الحكم، من الله أم من الإنسان؟ ولما كان المتكلم إنسانا، فإنه لا يستطيع أن يصدر حكمه إلا بناء على الموقف الإنساني فيرى نفسه قادرا.
96
ويحاول الكسب أن يكون وسطا بين الإيجاد والخلق، ولكن يظل كل وسط أقرب إلى طرف منه إلى الطرف الآخر، ويظل الكسب أقرب إلى الإيجاد منه إلى الخلق.
97
وهناك فرق بين الخلق والكسب؛ فالخلق موجود بإيجاد الموجد يلزمه حكم وشرط. الحكم هو ألا يتغير الموجد بالإيجاد فيكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة، والشرط أن يكون عالما به من كل وجه. أما الكسب فهو المقدور بالقدرة الحادثة ويلزمه أيضا حكم وشرط. الحكم أن يتغير المكتسب بالكسب فيكسبه صفة ويكتسب عنه صفة، والشرط أن يكون عالما ببعض وجوه الفعل. ويبدو أن الكسب هو جمع لعدة أفكار دون رباط عقلي أو اتساق. وهي صفة كل الأفكار الوسطية لإرضاء جميع الأطراف. وقد اختلف في تعريفها وفي عرضها. يحاول الكل الاقتراب منها ووصف كيفية الجمع بين هذه الأطراف المتعارضة. يقوم الكسب أحيانا على أمور أربعة: إرادة سابقة، وقدرة، وفعل، ورابطة بينهما. فالكسب هو فعل القدرة الحادثة أو فعل الإرادة الحادثة. وما يهم في هذا التعريف أن يكون الفعل حادثا مخلوقا، أي تابعا لقدرة أو إرادة أخرى. وهذا يعني وقوع المقدور دون انفراد بالقادرية؛ فالكسب لا تأثير فيه لقدرة الإنسان.
98
لذلك ينفي الكسب عن نفسه المشاركة؛ مشاركة الإنسان للمؤله المشخص في أي فعل من الأفعال؛ لأنه لا فعل له، والفعل كله للمؤله المشخص.
99
ونظرا لصعوبة وجود أي أساس عقلي لنظرية وسط تجمع بين الجبر والحرية، رغبة في إثبات الطرفين واقتضاء لكلا المطلبين؛ حرية الإنسان وحق المؤله المشخص، يثبت الكسب ويتوقف عن الحكم فيه لعدم الوقوع في الاضطراب العقلي والخلخلة النظرية. ويجوز التوقف عن الحكم في المسائل الموضوعة وضعا خاطئا حتى لا يدخل العقل في متاهات لأسئلة خاطئة وشباكها. ولكنه في هذه الحالة يكون رفضا للمسألة ذاتها دون إثباتها ورفض الدخول في الأساس العقلي للإثبات. التوقف عن الحكم العلمي هو رفض السؤال والجواب معا لا إثبات الإجابة ورفض البرهنة عليها؛ لأنه يكون قبولا بلا برهان.
100
وأحيانا تتحول عواطف التعظيم إلى النقيض. فإذا كانت الغاية من القول بالكسب إعطاء المؤله المشخص فعله والإنسان حريته، فإنه ينتهي إلى جعل المؤله المشخص كالحاوي أو اللاعب يظهر شيئا ويخفي أشياء، يبيح بسر ويكتم آخر، وبالتالي ينتهي التوسط إلى سر مغلق مستحكم.
101
ونظرا لصعوبة إيجاد حل وسط بين الجبر والحرية عقلا، فإنه يتم التوحيد بينهما بالإيمان. والإيمان ليس برهانا ما لم يكن إيمانا نظريا؛ فالعقل أساس الوحي. واللجوء إلى الإيمان تملق للعوام ومحو للفكر وإثبات للغموض. والعجيب أن يكون هذا موقف بعض حركات الإصلاح! وكيف يحدث إصلاح على أساس الإيمان دون العقل، والتقليد دون الفهم، خاصة لو كان الملجأ في النهاية هو التصوف الذي به يستطيع الإنسان هتك الأسرار ورفع الحجاب! صحيح أن العقل قد تتغلف بديهته، وقد لا يعطي معاني بقدر ما يستخدم الألفاظ. ومع ذلك فالبديهة ممكنة والعبارة الواضحة جائزة. ليس العقل هبة معطاة، بل إمكانية عقل تمارس بالنظر. ويمكن إثبات الحرية للجمهور إثباتا عمليا دون التقيد بالضرورة بالأساس النظري وتحليل الخبرات، حرية الدفاع عن الحق ، وحرية تقرير المصير، وحرية الحصول على الخبز. فهذا يمنع من التقليد لأن التقليد في ذاته محو لحرية الفكر والحركة.
102
ومع ذلك فالكسب في اللغة هو كل فعل يستجلب به نفع أو يندفع به ضرر، أي إنه لفظ يصف حياة الإنسان العملية فيما يتعلق بالمصالح العامة وبوسائل العيش. أما الكسب الاصطلاحي فلا معنى له، ولو كان له معنى مخالف للمعنى اللغوي لاصطلح عليه؛ فالكسب الأشعري ليس تصورا وليس مشتقا من المعنى اللغوي بل مجرد لفظ لا يدل على شيء إما لغة أو اصطلاحا.
103
الكسب الأشعري في ذاته غير معقول وليس له أي أساس نظري؛ لذلك لا يمكن حده لأن الشيء يعقل أولا ثم يحد ثانيا. ولا يقال إن إنسانا بعينه لم يعقله لأنه لم يعقله أي أحد على اختلاف المذاهب والفرق وطول الجد وقدم العهد. ولا يقال إنه عقل ولكنه لم يعبر عنه؛ فهذه وسيلة الضعيف الذي لم يعقل شيئا ويتحجج بصعوبة اللغة. وما أسهل التعبير عن الفكر الواضح بلغة واضحة. إنما تدل عدم القدرة على التعبير على أن الشيء المراد التعبير عنه إن هو إلا مجرد عاطفة أو انفعال.
104
إن أقصى ما يمكن معرفته من الكسب هو أنه لا يمكن معرفته إلا بالإضافة، أي بإضافة الفعل إما إلى المؤله المشخص وإما إلى الإنسان، في حين أن الشيء يجب أن يعرف في نفسه أولا قبل أن يعرف بالنسبة إلى غيره. وهذا مستحيل بالنسبة إلى الكسب؛ لأنه غير معقول في ذاته.
105
واعتبار القدرة مخلوقة لا يعطي أي أساس عقلي؛ لأن السؤال ليس نشأة القدرة ومصدرها، فذلك سؤال عام عن مصدر كل شيء بما في ذلك الإنسان، بل عن أثر القدرة وفعلها.
106
واعتبار أصل الفعل من المؤله المشخص ونوع الفعل من الإنسان؛ لا يجعل الكسب أكثر وضوحا في معنى الأصل إذا كان هو القدرة فقد عاد إلى الجبر. وماذا يبقى للعبد من الفعل إن لم يكن صاحب القدرة عليه؟
107
ومع ذلك فقد قيلت عدة تحديدات للكسب لا تفيد شيئا، يرفضها العقل والحس، وتناقضها التجربة والمشاهدة. قيل مثلا في تعريف الكسب. (1) «ما حله مع القدرة عليه». وهو لا يفيد شيئا ولا يعني شيئا. وإن عنى شيئا فإنه لا بد أن يؤدي إما إلى الجبر وإما إلى الحرية. فإن أدى إلى الحرية تثبت الفاعلية والقدرة والتأثير والاختيار.
108 (2) «ما وقع بقدرة محدثه». لأن ما وقع بقدرة محدثه قد يقع إما اختيارا وإما كسبا، ولا يعني وقوعه كسبا بالضرورة. ولما كان الكسب مجهولا فإنه لا بد وأن يقع اختيارا. وهذا التعريف يثبت القدرة ولا ينفيها. فضلا عن أنه يقتضي أن يكون للفاعل قدرة وتأثير. وما دام للإنسان قدرة وتأثير فإنه يكون صاحب فعله. وإن كان الكسب لنا ومتعلقا بغيرنا فكذلك القدرة، وهذا يثبت القدرة ولا ينفيها.
109 (3) «ما وقع باختيار الفاعل». وهذا إثبات للفعل القصدي وللحرية لا نفيا. واقتضى أن فعل الساهي لا يكون كسبا ولا يدل على تدخل أية إرادة داخلية فيه لأنه فعل سقط عنه الاختيار وغاب منه القصد. ويكون الفعل المتولد الناتج عن الفعل الأول فعلا للإنسان؛ لأنه وقع باختياره وليس بتدخل قدرة خارجية سببت وقوعه أو منعت من وقوعه. وهذا تعريف يوهم بأن الاختيار يتعلق بالفاعل في حين أن الكسب لا يتعلق بالفاعل. وكيف يتعلق بالفاعل ولا فاعل في الشاهد يدل على الكسب؟
110 (4) «التفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية»، وهذا ليس تعريفا بقدر ما هو وصف واقعة، أي إنه يشير إلى سلوك ولا يعطي معنى عقليا. والسلوك الاختياري واقع، والاضطراري واقع. والسلوك الاضطراري له مسبباته وهي الموانع التي تمنع الفعل من أن يقع اختيارا. والموانع إما بدنية أو نفسية أو اجتماعية. والتفرقة بين الحركتين لا تثبت إلا في الاختيار، ولا تثبت في الكسب، ولا تثبت شيئا في الكسب لأن كليهما بفعل خارجي سواء في الفعل المباشر أو في الفعل المتولد؛ فالتفرقة لا تثبت شيئا في الكسب بل لا تثبت إلا حدوث الأفعال بقدرة الإنسان.
111 (5) «وقوع هذه الحركات المختلفة المتباينة سواء أفعال الجوارح أم أفعال القلوب»، ولا يثبت هذا التعريف أكثر من حدوث الأفعال لا كسبها، وحدوث الأفعال واقع بالقصد والإرادة وتباينها تباين القصد والإرادة، وأجزاء الفعل لا تكتسب، فالفعل تحقيق للقصد، والقصد باعث على الفعل.
112 (2-2) حجج الكسب
ويعتمد الكسب على عدة حجج كلها خاطئة. وكلها تثبت أن الإنسان ليس صاحب أفعاله، وأن هناك قوة أخرى مسيطرة عليها، فهي حجج تشكك في قدرات الإنسان على الفعل وتجعله مجرد مستقبل لقدرة أخرى تتحكم في أفعال وهي صاحبتها. مهمة هذه الحجج إثبات عجز الإنسان وزحزحته عن مكانه وانتزاع مسئوليته منه؛ فهي حجج لتدمير الإنسان والقضاء على أفعاله مثل: (1)
الفعل اللاإرادي أو اللاقصدي.
113
إن وقوع الأفعال بخلاف القصد ليس دليلا على تدخل إرادة خارجية، وأن الإنسان ليس هو الفاعل، فكثيرا ما قصد الإنسان إلى فعل شيء وحدث فعل آخر مخالف لقصده. وهذه هي طبيعة الفعل الحر وليس فعل الجبر أو الكسب. قد يرجع وقوع الفعل على خلاف القصد إلى عدم المعرفة بالفعل وغايته، فيقصد بالفعل إلى غاية أخرى كمن يجهل أن الكفر قبيح وأن الإيمان حسن ويريد أن يسعد بالكفر وأن يمرض بالإيمان. والفعل غير المروي لا يدل على وقوع الفعل من فاعله، بل على وقوع فعل غير مقصود، سواء كان ذلك في الأفعال الداخلية أم الخارجية. وهل الإنسان لا يفعل إلا وهو في غفلة أو سهو أو عن غير قصد أو جهل وإن كان كل ذلك دليلا على وجود فاعل قاصد عالم قادر مخترع لها، وكأن أفعال الإنسان لا تحدث إلا عن فوضى وعبثية، وأن ذلك يثبت وجود فاعل متقن ومنظم وحكيم لها، وكأن إثبات الله لا يتم إلا بتدمير الإنسان؟ ولما كانت الغاية هي البحث في الفعل الإنساني، فإن هذه الغاية يتم تدميرها منذ البداية باكتشاف عناصر في الفعل الإنساني لتثبت أن الإنسان ليس صاحب أفعاله، أي إن الغاية الحقيقية هي الغاية العكسية. ليست الغاية إثبات فعل الإنسان له، بل نزع فعل الإنسان منه. ثم تتحول هذه الأفعال الاستثنائية وتصبح هي القاعدة، وتصبح كل أفعال الإنسان أفعالا لا قصدية، وتختفي الأفعال القصدية مع أنها هي الأساس والأفعال اللاقصدية هي الاستثناء؛ فالمتكلم واقف للإنسان بالمرصاد، متربص به كي يعصف بإرادته وقدرته وفعله الحر. وهذا الفاعل الآخر الذي يعزو إليه المتكلم أفعال الإنسان ليس إرادة خارجية إنسانية أخرى أو دوافع خوف أو مصلحة أو رغبة أو عقبة، بل يجعله المتكلم أقدر فاعل وأشمل إرادة وهي قدرة الله وإرادته، فينتقل من المتناهي في الصغر إلى المتناهي في الكبر، ويجعل الله داخلا في كل شيء حتى لو قصد الإنسان أكل خيار فأكل كوز ذرة! أو إذا قصد الإنسان الذهاب إلى العمل فذهب إلى المتجر، وكأن المقاصد لا تتغير ولا تتشابك، وكأن الإنسان ليس مجموعة من المقاصد المتداخلة. وهل تثبت إرادة الله وقدرته من الأفعال اللاقصدية؟ وأيهما أكرم وأشرف، إثبات الله من الطبيعي أم من الشاذ؟ من القاعدة أم من الاستثناء؟ بتأكيد الإنسان أم بتدميره؟ وكيف يثبت الله من الفوضى والعبث والضعف والمرض ولا يثبت من الإحكام والحكمة والقوة والثبات؟ أليس ذلك في نهاية الأمر تبريرا للشر وإثباتا للفوضى وتأكيدا على الضعف والعجز والوهن بدلا من إثبات ذلك كله نقصا وعارضا طارئا؟ أليس ذلك أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل؟ أليس ذلك سوداوية و«ماسوشية» تقوم على تعذيب النفس وكأن إثبات الكمال لا يتم إلا بعد الإقرار بالنقص، وأن إثبات البراءة لا يتم إلا بعد الاتهام بالخطيئة كما هو الحال في عقائد النصرانية؟
والحقيقة أن الفعل المروي دليل على حرية الإنسان لا على خلق غيره. لما كان الإنسان حرا فإن حريته تتعدى حدود تخطيطه وقصده، ولكن يظل الفعل غير المروي في نطاق الحرية.
114
وما الحكمة من تدمير القصد؟ وهل تنتهي كل الأفعال القصدية إلى هراء وعبث؟ وهل كان كل تخطيط إنساني مسبق مصيره إلى الفشل؟ فإذا ما تم فعل قصدي يظل الإصرار قائما في نظرية الكسب من أن الإنسان ليس صاحبه وكأن الإنسان مهما فعل فعلا قصديا أو غير قصدي ومهما أوتي من جهد وبذل من مجهود فإنه لن يكون صاحب فعله في نهاية الأمر؛ يقف له المتكلم الأشعري بالمرصاد لينتزعه منه ويسلبه إياه ويعطيه لغيره. ويكون السؤال لحساب من يعمل المتكلم، لحساب الإنسان أم لحساب غيره؟ وماذا سيكسب نظير هذا السلب؟ أسلطة دينية ومنصبا وزاريا وترؤسا على رقاب العباد ينتهي بالثورة العارمة من الجماهير عليه وعلى أصحابه ورؤسائه وعلى السلطة بأكملها تأكيدا لحرية الإنسان وحرية الشعب، ورفعا للوصاية، وتحررا من كل صنوف القهر والتبعية؟ ومع ذلك فالفعل الواقع بخلاف القصد ليس هو الفعل الأمثل كالفعل المروي المقصود. ولكن تعتبر نظرية الكسب أن الفعل غير الفعل غير المروي فعل حقيقي لأنه مخلوق من المؤله المشخص. الكسب هنا هدم للعلم والعقل وللدليل وللنظر، وكأن وقوع الفعل من الإنسان حسب العلم ليس ضرورة عقلية بل مجرد عادة، في حين أن وقوعه من المؤله المشخص بداهة لا تحتاج إلى دليل.
115
وهناك فرق بين أفعال الشعور وأفعال الجوارح، بين أفعال الأعضاء وأفعال الوجود. كل منها يقع طبقا للقصد أو على خلاف القصد؛ فكثيرا ما رمى الإنسان إلى تذكر شيء فيتذكر شيئا آخر أو إلى تخيل شيء فيتخيل شيئا آخر. وكثيرا أيضا ما أراد الإنسان أن يصيب أحدا فيصيب شخصا آخر، أو أن يفعل شيئا حسنا فيحدث شيئا قبيحا. وكثيرا ما قصد الإنسان أن يسير يمنة فيسير يسرة على غير وعي منه. بل إن كثيرا من أفعال الأعضاء أفعال شرطية وخالصة أو ردود فعل عكسية. وكثيرا ما كانت أفعال الوجود التي تعبر عن المصير قائمة على تعصب وليست على القصد المطلوب. ولا يحتاج الإنسان إلى إثبات فاعل آخر غيره بجدل طويل قائم على أن لكل فعل محدثا بطريقة الرجوع إلى الوراء. كما لا تحتاج الدواعي إلى إثبات دواعي أخرى سببتها وأنشأتها حتى تصل إلى دواعي بدون دواعي. هذا التفكير عن طريق الرجوع إلى الوراء والانتهاء إلى نقطة بداية لا بداية لها هو في الحقيقة عاطفة تأليه وليس فكرا عمليا؛ لأن الدواعي تنتهي في الجماعة؛ فهي مصدر بواعث الإنسان على الفعل. وفي النهاية ما المطلوب إثباته؟ الجبر أم حرية الإنسان؟ إن كل هذه التجارب الموصوفة لا تعني بالضرورة وجود أية إرادة خارجية، بل تعني أن الإنسان نسيج وحده، وأنه هو حريته التي يظهر فيها القصد وغير القصد، الوعي وغير الوعي. فالإنسان حر أيضا في حريته، وهو إمكانية فعل تتحقق بتحقق الدعوة، وفي هذا التحقق تأكيد لحريته وتحرره من بقايا القهر الاجتماعي.
والتفرقة في نظرية الكسب بين الفعل الإرادي والفعل اللاإرادي مثل التفرقة بين الكسب والاضطرار أو بين الفعل المروي وغير المروي مع التركيز هذه المرة على دور الإرادة وليس القصد. فالفعل الإرادي هو الفعل الذي تتدخل فيه قدرة الإنسان بالإتيان أو بالمنع، بالزيادة أو بالنقصان، في حين أن الفعل اللاإرادي هو الفعل الشرطي الذي يحدث نتيجة لبناء العضو. فإذا كان الفعل الإرادي يثبت للإنسان القدرة، فإن الفعل اللاإرادي لا يثبت للإنسان الضعف أو تدخل أية قدرة خارجية تحيل الضعف إلى قوة أو تحدث الفعل؛ لأنه فعل عكسي خالص مرهون ببناء العضو.
116
ولماذا الالتجاء إلى فاعل آخر يفعل أفعال الإنسان مطابقة لقصوده ودواعيه؟ لماذا لا يكون الإنسان نفسه صاحب أفعاله والقائم بها مطابقة لمقاصده ودواعيه؟ إن التفسير بالإنسان كاف، واللجوء إلى علة أخرى بعيدة فائض عن الحاجة. بل إن هذا اللجوء ذاته نقص في تصور المؤله المشخص الذي إن أراد أن يخلق فعلا فإنه ما زال يحتاج إلى خلق دواعي وقصود للتمويه على الإنسان بأنه الفاعل أو يهدم الدواعي والقصود للتشفي من الإنسان والركوب عليه. إن الفعل القصدي أثمن ما لدى الإنسان من فعل، فهو الفاعل المتأمل، فكيف حتى هذا الفعل يكون حادثا بفاعل آخر؟ وكيف تثبت التفرقة إذن بين الفعل المروي والفعل غير المروي ما دام كلاهما من خلق فاعل آخر؟
117
ولماذا تكون الأفعال والدواعي من خلق خارجي؟ الأفعال تتحقق بالإرادة وتثبت من موقف الإنسان من الجماعة. وإن خلق الدواعي من الله في الإنسان يجعل الفعل ضروريا ولا محالة واقع.
118
إن إثبات فاعل خارجي يبطل إثبات الصانع القائم على الشاهد، وهو أن لكل فعل فاعلا، فكيف لا يكون الإنسان فاعلا لفعله وهو الشاهد؟ وكيف يمكن إثبات الغائب على شاهد غير حاصل؟
119
وهل المقصود من الكسب إثبات وجود الله أم حرية الإنسان؟ هل الإنسان مجرد سلم يستخدم لإثبات غيره ثم يرفض هذا السلم بعد ذلك؟ هل هو مجرد آلة للاستخدام؟ هل الإنسان وسيلة أم غاية؟
ولا يدل نقص العلم بالفعل على أن الفعل حين يحدث قد حدث من فاعل آخر غير الإنسان؛ فكثيرا ما يبدأ الفعل بمعرفة أولية تكتمل إبان الفعل وأثناء حدوثه. ولا تتأتى المعرفة التفصيلية إلا أثناء تحقيق الفعل. فلا يوجد نظر مسبق على الفعل إلا الأساس العام له. ولكن ضبط النظر لا يحدث إلا أثناء عملية التحقيق ذاتها. وقد استعمل الجبر من قبل هذه الحجة لنفي قدرة الإنسان، في حين أنها دليل على إثبات القدرة التي تكشف عن النظر وهي تحقق الفعل.
120
وهذا العلم ليس علما آليا أو طبيعيا بالتكوين المادي للأشياء، بل هو العلم الإنساني المتعلق بالسلوك. ليس الفعل هو التحريك العضلي أو حساب الحركات وما يتخللها من سكنات؛ فهذه مجرد افتراض عقلي ليس لها وجود واقعي. الفعل هو الفعل الحي ومكوناته من بواعث ودوافع وموانع وعقبات، الفعل في موقف. وهناك فرق بين العلم الإنساني المحدد والعلم الشامل؛ فالعلم الإنساني بطبيعته ناقص لأنه تابع للتجارب وللمعرفة ولوسائلها، في حين لو افترضنا علما شاملا موجودا في مصدر معين أو كصفة للمؤله المشخص فإنه يكون غير العلم الإنساني. ولا يعني عدم اكتمال العلم الإنساني أنه غير علم أو أنه ناقص أو أنه جهل. وكثيرا ما يحدث الفعل دون علم كامل بالتفاصيل؛ حيث تترك التفاصيل لسرعة البديهة أو للمواقف الفجائية أو للقدرة على التكيف ساعة الفعل. بل إن طبيعة العلم الإنساني أنه علم شامل، والعلم الشامل هو علم بالكليات. ولو كان الإنسان قادرا على العلم بالتفاصيل لكان قادرا على خلق كل شيء. أما أفعال النائم والساهي فهي ليست أفعالا مثالية، الفعل المثالي هو الفعل المروي المقصود؛ ومن ثم كانت أفعال النائم والساهي لا تدل على نقص في العلم بتفاصيل الفعل لأنها أساسا ليست أفعالا. والعجيب أن تقوم بعض الحركات الإصلاحية على إثبات هذا الفعل غير المروي الذي يحدث على غير قصد الإنسان وكأن الإصلاح يحدث عفويا بدون قصد الإنسان، وكأن التغيير ما هو إلا من قبيل المصادفة.
121
وما الحكمة في وضع المتكلم الأشعري الإنسان والله عدوين يتربص كل منهما بالآخر؟ أيعطي لطرف ما يسلبه عن الطرف الآخر؟ أليس الأولى أن يكونا متكاملين متعاونين متآزرين، والإنسان خليفة الله في الأرض، والله أحن عليه من حنين الأم على فلذة كبدها؟ ولماذا تحقير الإنسان وتدميره وإعدامه، ونحن بشر، ونحن أولى بالاحترام وبالدفاع؟ ولماذا نكون خصماء لله، إما نحن وإما هو؟ إن إثبات قوة أعظم وسلطان لا يقهر أعلى من الإنسان وأقدر منه؛ يفسح المجال لقوى الطاغوت للتدخل في إرادة الإنسان وإلغاء حريته ما دام الإنسان كما يقال ليس حرا مطلقا، وما دام الإنسان مجرد قزم صغير في هذا العالم. يدخل كل طاغية من هذا الباب، ويقع كل قهر بهذه الحجة، وتسود الكآبة على البشر، ويتحولون إلى آلات للتنفيذ تسمع وتطيع، ويتأصل القهر فيهم، ويعيشون في العبودية إلى الأبد. (2)
المضطر والمكتسب. يقوم الكسب على افتراض تماثل بين الاضطرار والاكتساب، فكما أن المضطر مخلوق فكذلك المكتسب. وهو تماثل مفترض ليس له ما يؤيده. بل إن الاختلاف بينهما أكثر وضوحا من التماثل.
122
وافتراض التشابه بين الاضطرار والاكتساب يجعل جميع الأفعال اضطرارية أو جميعها اكتسابية. التشابه توحيد يلغي التفرقة والتمييز. ولما كان الاضطرار هو المشبه به والاكتساب هو المشبه، كان إلغاء الفرق في صالح الاضطرار، وأصبح كلاهما من المؤله المشخص على مذهب الكسب. كما أن افتراض التشابه بين الاضطرار والاكتساب يلغي التفرقة بينهما من أن الاضطرار فعل للعضو والاكتساب فعل للإرادة. لا يستطيع الإنسان تغيير أفعال الاضطرار لأنها واقعة ببناء العضو، ولا يستطيع أحد أن يغير من بناء العضو. ويظل اكتساب فعل للعضو فعلا عضويا عن طريق المران. في حين أن أفعال الكسب أفعال إرادية تقوم على بذل الجهد وممارسة الحرية. قد تتحول بعد ذلك إلى أفعال عادية. ولكن العاديات هنا يكون مرجعها إلى حرية أولية نشأت عليها. ويجوز أن يحدث التماثل بين الذوات دون الصفات لأن التماثل في الصفات يلغي التمييز بين الأشياء. فلا فرق بين إنسان وآخر من حيث هو ذات. ولكن هناك فرق بين إنسان وآخر من حيث هو سلوك. والحقيقة أن الأفعال تحدث بالنسبة لتصورنا ودواعينا وأحوالنا، ولا يمكن تسميتها بأنها مخلوقة أو مضطرة لأنها تعبير عن هذه المقاصد والدواعي والأحوال. والاضطرار في الحركات الاضطرارية قائم على إثبات محدث في الشاهد، أما الاضطرار في الحركات الاختيارية فقائم على إثبات محدث في الغائب. وهذا لا يجوز لأنه إثبات بلا برهان. والاشتراك في الحدوث لا يقتضي الاشتراك في الحاجة إلى محدث معين بل إلى محدث ما غير معين بالدلالة، والدلالة على أن الإنسان هو المحدث لا غيره.
ولماذا يكون الاضطرار من الخارج؟ قد يكون الاضطرار من بناء العضو ذاته كما هو في حالة العجز أو القيد. قد يكون في حالة لا تسمح بالفعل من ضغط سياسي أو حياء اجتماعي. وفي كل الحالات، الاضطرار فعل للإنسان. بل إن السيطرة على الإرادة هي في نفسها إرادة، وعدم الفعل هو نوع من الفعل. قد يكون الاضطرار طبيعيا كحركات الأفلاك. ولكن هذا الاضطرار أيضا داخلي لأنه ناشئ عن قوانين الطبيعة التي يدركها العقل من الأشياء. أما الحركات الضرورية للموجودات غير الطبيعية فلا نعلم عنها شيئا بل هي مجرد افتراضات ناتجة عن عواطف التأليه وتشخيصها في موجود أسمى أو في موجودات أخرى خاضعة له.
123
صحيح أن أفعال الساهي والنائم أفعال اضطرارية لا إرادية، ولكن وقوعها لا يتم بتدخل إرادة خارجية، بل بفعل الشعور عن أفعال اللاشعور، وإن كانت تتم فيه لأنها لا تتم بالإرادة الواعية. ولا يعني الساهي والنائم أنهما غير قادرين على الإطلاق، بل هما قادران ولكن في لحظة معينة؛ لحظة غياب الشعور، لا تؤثر في قدرتهما. ولا يعني عدم تأثير القدرة في لحظة معينة إبطال القدرة في كل لحظة. إن الدواعي المقصودة لا تكون مؤثرة بطبيعتها لأن صحة المؤثر في وجود القدرة.
124
ولا خوف من أن يكون العالم فاعلا ومن أن تكون علة الفاعلية في العالم وليست خارج العالم. فالعلة المباشرة مثل الإرادة الإنسانية علة في العالم.
125
إن افتراض إرادة وقدرة وعلة خارج العالم لهو وقوع في السر والغموض واللامباشرة إيهاما للعوام بالعظمة والتجلي وإيقاع لها في الصغر والدونية. ولماذا الاكتساب إذن؟ أليس القادر على البعض قادرا عليها كلها؟ ولماذا الاختيار إذن؟ وهل الفاعل اضطرارا يكون فاعلا اضطرارا على الإطلاق؟ (3)
اكتساب المهارات. لا يعني اكتساب المهارات بالتعلم تدخل إرادة خارجية في فعل الإنسان تجعله قادرا على الإتيان بالفعل بدليل يدل على أن الإنسان بالممارسة والتعليم يستطيع أن يكسب فعلا عندما يتحول الفعل الأول إلى طبيعة ثانية. يقتضي التعليم الاستعداد النفسي والبدني، ولكنه استعداد موجود بالفعل وليس مقذوفا به من الخارج. فإذا لم يحدث التعليم واكتساب المهارة فإن ذلك لا يعني نفي القدرة. القدرة موجودة ولكن التعلم هو الغائب، ويمكن حدوث التعلم بالممارسة.
126
ولا يعني وجود شروط للفعل كي يتحقق كالجارحة والحياة أن الفعل متوقف على شرط وأن هذا الشرط يتحقق بتدخل إرادة خارجية، أو أن الفعل يتحقق بتجاوز الإرادة الخارجية للشرط، وتحقيقها للفعل دون توسطها بالشرط. فهذا إنكار للفعل وللعلية ومناف للعقل وللمشاهدة. العين شرط فعل الإدراك، ولا إدراك دون عين. الحركة بفعل القدمين ولا حركة دون متحرك. العلم فعل الشعور ولا علم دونه. ليس الشرط هو الجارحة فحسب، بل هو الجارحة والباعث النفسي والقدرة البدنية وطواعية الواقع للفعل. لا يعني عدم تحقق الفعل أن القدرة حادثة وأنها غير مؤثرة، بل يعني وجود موانع موضوعية بدنية، نفسية أو اجتماعية.
127
ولماذا يجب أن يكون الفاعل مخالفا لفعله؟ الأقرب إلى العقل والبداهة والحس أن يكون الفاعل من جنس فعله. يصدر الفعل الإنساني عن إنسان، والحيواني عن حيوان، والجماد عن جماد. أما إثبات الاختلاف بين الفاعل وفعله فهو تفكير ديني إلهي مقلوب، الغرض منه إثبات الاختلاف بين الفاعل والفعل من أجل العثور على المؤله المشخص في العالم وإعطاء كل القوة والقدرة له. فهي وسيلة للحصول على الضائع أو إعطاء مضمون لصورة أو البحث عن وجود لانفعال. وبالحديث يقع التماثل والاختلاف. ولا يجب بالضرورة إذا كان الفعل محدثا أن يكون صادرا عن قديم. فقد يرجع الاختلاف إلى صفة راجعة إلى الذات.
128 (4)
الترجيح. وكما لم يثبت الترجيح الجبر فإنه لا يثبت الكسب. فالفعل الضروري لا يمكن تركه لأنه تعبير عن طبيعة وليس فعلا تجاريا. العالم بدون فعل عالم خاو متقلص. الفعل ضروري للعالم ولا يتأتى الترك بأي حال. ومن لا حاجة إلى مرجح يجعل الفعل واقعا لا متروكا. يعبر الفعل عن طبيعة الإنسان ورسالته، والإنسان هو طبيعته ورسالته؛ ومن ثم كان الإنسان هو الفعل. يترك الإنسان فعلا لا يعبر عن طبيعته. وفي هذه الحالة يكون الترك ممكنا، ولكن أيضا يكون معبرا عن الفعل الحر وهو فعل الترك.
129
فعل الإنسان من خلق الإنسان ومتحقق بقدرته ورويته وقصده لأنه لو كان من فعل الآخر لكان الإنسان مجبرا على فعله لو وجد، ومجبرا على الترك لو لم يوجد، ويكون الإنسان كالجماد تجري عليه الأفعال وهو مستقبل لها موجه لمسارها. ولا توجد حرية استواء الطرفين لوجود الباعث. الإنسان باعث وفاعل وقصد وهو المحدث. ووقوع الحدث بالقصد ينفي وجود المحدث لأن المحدث هو القائم بالحدث، والمحدث هو الإنسان المشاهد. الإيجاب هنا ليس إيجابا خارجيا بل هو إيجاب القصد.
130
وحتى إذا احتاج الفعل إلى مرجح، فلماذا لا يكون المرجح من الإنسان، ويكون هو الباعث الأقوى حسب شمولية الفكر والقصد والغاية؟ ولماذا يحتاج المرجح إلى مرجح، وهذا إلى ثالث حتى تتسلسل المرجحات إلى ما لا نهاية؟ إن المرجحات كلها ترجع إلى الموقف الإنساني الذي هو مصدر البواعث كلها، وهو مصدر مباشر لا يحتاج إلى تسلسل. ولماذا الانتهاء إلى مرجح مرجوح بنفسه لا يحتاج إلى مرجح آخر إذا كان الموقف الإنساني هو مصدر كل البواعث؟ هنا يكون الخطأ في العقل نفسه الذي تلاشى تحت عواطف التأليه، ثم استخدمته في التعبير عن نفسها بالفكر اللاهوتي القائم على التسلسل والرجوع إلى الوراء لإثبات حلقة أخيرة ليس وراءها حلقات أخرى؛ ومن ثم يقضى على الفكر لحساب الانفعال وعلى تحليل الواقع رجوعا إلى الوراء.
ويستعمل دليل التمانع لإثبات وحدانية الله في الفعل لإثبات الكسب؛ فهو إذن فكر ديني إلهي مقلوب. وإذا جاز هذا الدليل بالنسبة لإثبات مؤله مشخص واحد من عواطف التأليه فإنه لا يجوز بالنسبة لفعل الإنسان لأن الموقف مختلف. فلماذا يوضع الفعل الإنساني وفعل المؤله المشخص على طرفي نقيض، إذا تحقق أحدهما لم يتحقق الآخر؟ أليس الأولى بالخالق والمخلوق اتفاق مرادهما كما هو أولى بالآلهة؟ وهل يجوز تصوير الفعل الإنساني وفعل الآخر في علاقة تحد مثل متسابقين في حلبة سباق؟ وحتى على فرض صلة التعارض: لماذا لا يكون الفعل الإنساني هو المتحقق لأنه هو الفعل المراد والمقصود المروي، وهو الفعل الثابت بالحس والمشاهدة والوجدان، في حين أن الفعل الثاني مجرد افتراض فرضته عواطف التعظيم والإجلال؟ وإذا لم يتحقق فعل الإنسان فإنه لم يتحقق لموانع بدنية أو نفسية أو اجتماعية لا لتحقق فعل الآخر. وهل من عظمة المؤله المشخص أن يتحقق فعله دون فعل الإنسان؟ وأي تعظيم هذا الذي يثبت فيه الفيل أنه مساو للنملة وقادر على الحركة مثلها؟
وقد يستخدم الترجيح لا لإثبات الكسب بل لإثبات القضاء والقدر كما هو الحال في الجبر. فما دام الترجيح ضروريا لا واقعا فقط يثبت القضاء والقدر. وهذا خاطئ لأن الفعل يتم بقصد الإنسان، ومتى حصل الفعل بقصد الإنسان فإن الإنسان يكون فاعلا على الحقيقة فحسب، ويكون فعل الإنسان كله له. حتى الموانع والعقبات التي توجد في ميدان الفعل هي كذلك بالنسبة إلى الإنسان. وكل ما قيل عن الترجيح باطل لأن الإنسان بطبيعته باعث ولا تستوي هذه البواعث، ولا توجد لديه حرية استواء الطرفين.
131 (5)
الخلق. يسمى الإنسان خالقا، فهو صاحب الفعل الشعوري، وهو مصدر الإبداع الفني. ولماذا لا يكون الإنسان خالقا وهو في فعله اليومي يبدع ويخلق؟ هناك فرق بين الخلق الطبيعي لجسم الشيء وبين الخلق الإنساني لتكوين الشيء أو بنائه. لا يوجد الإنسان شيئا من لا شيء، بل يوجد شيئا من شيء آخر ، تمثالا من حجر، موسيقى من صوت، أدبا من حروف، وحزبا من جماعة، وهذا أيضا خلق.
132
والخلق لغويا لا يعني بالضرورة المعنى الأول وهو الخلق من عدم، بل قد يعني أيضا المعنى الثاني وهو التقدير؛ ومن ثم فلا مانع من وصف الإنسان بأنه خالق. يمكن إثبات الخلق، وفي نفس الوقت يمكن القصد به معنيين مختلفين. ويكون خطأ لو وصف الإنسان خالقا بالمعنى الأول. أما إذا كان الخلق يعني تطابق الفعل مع المصلحة فيكون الإنسان أحيانا خالقا حتى تكون أفعاله مطابقة للمصلحة. فإن حدث عدم التطابق فذاك من فعل الحرية. أما المؤله المشخص فإن تطابق أفعاله مع المصلحة غنى خالص أو تبرير لكمال أو تعبير تطهري، وإلا فكيف يمكن تفسير الشر والظلم في العالم؟
133
إن كثيرا من العبارات هي مجرد مدح لا تعبر إلا عن عواطف التعظيم والإجلال مثل: «خالق كل شيء»، «قادر على كل شيء»، «عالم بكل شيء»، «مالك لكل شيء». فالأمر كله في الحقيقة في التنزيه، ولكن هذه المرة مع الفعل وليس مع الذات، تمثيلا لما يحدث في العالم الإنساني لو كان يسمح تحليله بالتنزيه، أو نفيا لما يحدث في العالم الإنساني وتجاوزا للمشابهة إلى حد الإطلاق.
134
إن الفعل الإنساني خارج مقولات الشيء والجسم والجوهر والعرض. وهو ليس كالألوان والطعوم والروائح، بل هو فعل إنساني خالص يهدف إلى تغيير البناء الاجتماعي للواقع أو فعل فني خالص يبدع الإنسان فيه ويعبر به عن وجوده في الزمان والمكان لحظة تحقيق رسالته. (6)
الخاطر. لا يعني وجود الخاطر في النفس تدخل أية إرادة خارجية في صورة عقل أو وحي أو إلهام من أجل إعطاء الإنسان إما الأساس النظري للفعل أو واقعا مرويا عليه. بل إن هذا الخاطر يكون نتيجة تفكير إنساني سابق في الموضوع، وانشغال الذهن به، وتوقد الشعور فيه. هو حصيلة كسب من الإنسان. وتنشأ الخواطر في النفس بطبيعتها، وتشير إلى قدرة الشعور على الخلق والإبداع، وتثبت الحرية ليس فقط في الأفعال الخارجية بل أيضا في أفعال الشعور.
135
ولكن هل يلزم خاطران حتى يصح الاختيار؟ الشعور ذاته حرية، والحرية تعني إمكانية الحركة. فإذا كان الخاطر يعني الباعث، فالبواعث تتدافع فيتحقق الفعل طبقا للدافع الأقوى. وإن كان الخاطر يعني الفكر، فالأفكار تتصارع فيتحقق الفعل طبقا للفكرة التي تتحول إلى باعث قوي. والشعور بطبيعته يتجاذبه طرفان؛ حركة وسكون، إقدام وإحجام، تقدم وتأخر، يقظة وغفلة، ازدهار وتقلص، نمو ونكوص، حياة وموت. وهذان الطرفان لا يعرضان إلى الشعور من الخارج ليختار الإنسان عقليا بينهما بعد عدد من العمليات الحسابية بأية مقاييس ذاتية أو نفعية، بل حياة الشعور ذاتها تسري بين هذه الأطراف، والحرية هي التي تحدد المسار. ليست الحرية ملكة أو قوة أو عضوا، بل هي طبيعة بممارستها فرديا وجماعيا مع الذات ومن خلال الجماعة. قد يحدث الخاطران؛ خاطر الإقدام وخاطر الإحجام. ولكن هذين الخاطرين ينشآن من الموقف الاجتماعي. فما الداعي أن ينشأ خاطر الإقدام من العالم وخاطر الإحجام من الخارج؟ صحيح أن الطبيعة خيرة وفاعلة بطبعها، ولكن خاطر الإحجام قد ينشأ من إغراء في العالم أو من تقلص في الطبيعة ونقص في الازدهار. ويكون السؤال: وكيف ينشأ خاطر الإحجام من الخارج والمؤله المشخص خير كله؟ ولماذا يحدث خاطر الإقدام من الخارج وخاطر الإحجام من العالم؟ وهنا تكون الطبيعة فاسدة لأنها لا تقدم على فعل بل تحجم عن كل فعل. ويبقى السؤال: كيف يصدر عن المؤله المشخص، وهو خير كله، الشر في العالم؟ أما إذا كان الخاطران من الخارج، الإقدام والإحجام معا، فهنا لم يعد يبقى شيء للإنسان، بل إن الإنسان نفسه لم يعد موجودا. الخاطران من الخارج وما هو إلا آلة. أما الخاطر الذي يأتي بفعل خارجي حتى يعين الإنسان على الإتيان بفعل تكرهه النفس وتعافه فهو إلغاء وضع خاطئ بمثله. فالفعل الذي تكرهه النفس لا يمكن أن يكون أمرا، فأوامر الوحي كلها طبيعية، تعبر عن طبيعة الذات في حال كمالها. حتى ما يظن أنه صعب على النفس الإتيان به ما أسهله عليها لو توافر الباعث عليه. وعلى فرض أن النفس تأتي بأفعال تعافها وتكرهها، كيف يأتي العون من الخارج؟ كيف يأتي المؤله المشخص ليصحح وضعا خاطئا كان من السهل أولا عدم إيجاده؟ كان من الممكن أن يأمر بفعل تحبه النفس وتميل إليه بدل أن يأمر بفعل تعافه النفس، ثم يخلق الدواعي للعون عليه! قد يحدث أن يأتي الإنسان بفعل مكرها عليه، ولكن في هذه الحالة لا يكون فعلا حرا، ولا يعبر عن طبيعته لأنه يفعله رغما عنه بلا شوق أو فرح وبلا ارتياح أو حماس. حتى لو أتى الإنسان به فإنه قادر على أن يأتي بفعل حر، وبإرادته المستقلة، وفي هذه الحالة يصبح الإنسان نفسه موضوعا للإرادة أو مقدورا للقدرة. إن جعل خاطر الإقدام من النفس بطبعها يمنع كونه بفعل خارجي. ولكن النفس ليست عالما قائما بذاته، بل هي وجود اجتماعي، وما يجعلها تقدم أو تحجم هو باعث اجتماعي. أما إذا تشخص الخاطران، وأصبح داعي الإحجام شرا مشخصا وداعي الإقدام خيرا مشخصا؛ يصبح الإنسان ألعوبة بين شخصين، كل منهما يود أن تكون الغلبة له. وسواء غلب هذا أم ذاك فالإنسان في كلتا الحالتين هو الخاسر لأنه هو الفاقد حريته، المسلوب إرادته، يفعل فيه ولا يفعل؛ لذلك قد ينكر البعض الخاطر كلية. ويكون الإنكار في هذه الحالة إنكارا للخاطر بفعل خارجي، ويكون الخاطر حينئذ هو الباعث النفسي أو الدافع على الفعل الذي ينشأ من موقف نفسي واجتماعي.
136
إن احتياج الفعل إلى سبب مهيج أي إلى باعث لا يعني على الإطلاق حدوث هذا الباعث من إرادة خارجية تتدخل في الفعل الإنساني بإحداثها هذا الباعث، وما على الإنسان إلا التنفيذ الآلي له. فالباعث هو الفعل نفسه كفعل ضمني. وهو الفعل الشعوري أي الوجود الأولي للفعل قبل أن يتحقق. والحقيقة أن الباعث ينشأ في الإنسان كموجود اجتماعي. الإنسان في موقف، والموقف يحتاج إلى تغيير، ومن ثم ينشأ الباعث على التغيير في الإنسان. الموقف الاجتماعي هو مصدر الباعث. وبمجرد حدوث الباعث في الشعور يتحول إلى طبيعة. الطبيعة هي مجموعة البواعث، والبواعث أبنية ممكنة للعالم تتحول إلى أبنية واقعية بالفعل الإنساني .
137
وإذا كان السبب المهيج فكرة، فالفكرة من الوحي ولكنها تحولت إلى طبيعة بمجرد فهم الإنسان لها وظهورها على أنها بناء مثالي لموقف يريد أن يتغير. (7)
الابتهال والدعاء والسؤال والشكر. كل ذلك ليس دليلا على وجود قدرة خارجية يستدعيها الإنسان كي تتدخل في فعله وتعينه على الإتيان به، بل مجرد موقف نفسي يدل على انحراف في السلوك. ففي مجتمع مهزوم تكثر مثل هذه الابتهالات والدعاءات لطلب النصر لعجزه عن الإتيان بالنصر بالفعل. وفي خضم هذه الانفعالات الحادة ينشأ فعل جاد ولكنه منحرف وهو الابتهال والدعاء. وفي اللحظة التي يدرك فيها المهزوم خطة عمل وباعثا وغاية يبطل دعاءه وابتهاله ويحقق ما يريده بفعله الخاص، وهو قادر عليه. الابتهال فعل الضعيف العاجز، ونشاط انفعالي حين يعجز عن الفعل، وإغراق في الأدب والتصوف حين يطمس العقل ويزيف الوعي.
138
وقد انتشرت الأدعية والتواشيح والابتهالات في عصور التخلف والانحطاط مع الفرق الصوفية وبعد تشخيص الوحي في محمد كما تم من قبل تشخيص الوعي الخالص في المؤله. وقد يحدث الابتهال أو الدعاء أو السؤال في مجتمع منتصر. وفي هذه الحالة يكون موجها من العامة إلى السلطة المنتصرة. بدلا من أن تطلب حقها بالفعل تدعو وتبتهل وتتبرك بالسلطة كما تفعل بالأولياء. وكثيرا ما يتحول التضرع والابتهال إلى تملق ونفاق وتقرب وإذلال للنفس باسم الدعاء،
139
ويكون أقرب إلى الشحاذة أو السؤال، الكفان إلى أعلى للاستجداء، والدموع في العينين للاستعطاف، وحشرجة الصوت وانسداد الأنف من البكاء، وإنما البكاء للنساء! إن الدعاء في لحظات الضعف والعجز وقلة الحيلة لا ينفي قدرة الإنسان، بل يثبت قدرة أعظم مكمونة في الحاضر كي تتفجر في المستقبل. الدعاء مقدمة الفعل وإعداد له. ولا يتحقق الفعل إلا بعد أن يتحول الدعاء من مجرد الأماني والأحلام إلى التحقق بالفعل حسب القصود والدواعي.
140
إن وضع الإنسان بين الحركة والسكون، بين الإقدام والإحجام، بين النشاط والخمول، بين اليقظة والغفلة وضع طبيعي. وهما ليستا ملكتين نفسيتين بل حالتان وجوديتان تعبران عن موقف الإنسان في العالم وأن وجوده فعل وإمكانية تحقيق . يجد الإنسان نفسه بينهما في شد وجذب يتصارعانه ويهددان وحدته فيتجه نحو أحدهما بطبيعته واختياره عندما يتبع الدافع الأقوى وتمييز العقل، لأنهما متماثلان ويظل واحدا. ويتحدد مصير الإنسان بنوعية هذه الحركة من ذاته دون تدخل أية إرادة خارجية سواء في صالح السكون أو لصالح الحركة. لو تدخلت لصالح الحركة للبعض ولصالح السكون للبعض الآخر يكون تميزا مسبقا وجبرا على الإنسان وتدخل طرف جديد في معركة غير متكافئة الأطراف. وإذا تدخلت لصالح السكون والإحجام ضد حركة وتقدم أحد الأطراف يكون السؤال: كيف يصدر الشر عن الخير، والقبيح عن الحسن خاصة إذا كان الخير والحسن مظهرين للكمال المطلق، أي صفتين كاملتين مطلقتين؟ كيف تتدخل الإرادة الخارجية في حركة الإنسان دون أن تنكر فعله واستقلاله؟ ولا يعني وجود الإنسان بين واقعين: الإقدام والإحجام، الأمام والخلف، التقدم والتخلف، النهوض والسقوط أية ثنائية متعارضة قائمة على تطهر جانب وسقوط جانب آخر، تؤدي إلى الكبت أو الشذوذ أو النفاق أو التصوف كما هو الحال في الثنائية الرأسية بين الأعلى والأدنى، بل هي ثنائية أفقية يوجد فيها الإنسان حسب قوة الباعث فيه ووعيه الفردي والاجتماعي، فهو ساكن أو متحرك، خامل أو يقظ، مصمت أو حي.
كما لا يدل الشكر على نفي قدرة الشاكر وإثبات قدرة المشكور، بل قد يكون الشكر على تهيئة الفعل وعلى اللطف وحسن المعاملة. هدفه الاعتراف للآخر بفعله وبإعلان أداء واجبه وبحضور المبدأ العام الذي هو أساس سلوك الجميع. الشكر ليس تملقا ولا مدحا فلا شكر على واجب. ولا يدل على وجود يد عليا تعطي ويد دنيا تأخذ، بل هو إعلان لمساواة الأطراف جميعا تحت مبدأ عام هو الواجب وإمكانية تحققه بالفعل.
141 (8)
الوحي. إن القول بأن إثبات الحرية يقتضي بالضرورة إثبات العقل والتمييز والحسن والقبح الموضوعيين، وهذا يكون بالضرورة ضد الوحي الذي يعطينا صفات الأشياء وأحكام الأفعال، هو قول نصفه حق ونصفه باطل. صحيح أن إثبات الحرية يقتضي بالضرورة إثبات العقل والتمييز ووجود الحسن والقبح صفات موضوعية في الأشياء، ولكن ذلك لا يعارض الوحي لأن الوحي هو العقل والواقع، هو القدرة على التمييز. وهو قيم موضوعية وصفات في الأشياء. وهي حجة في نهاية الأمر تخرج من موضوع خلق الأفعال إلى موضوع الحسن والقبح، وتحل مسألة بالإحالة إلى مسألة أخرى، وتثبت شيئا بشيء آخر يحتاج إلى إثبات. فكون الوحي مصدر صفات الأشياء وليس العقل موضوع آخر يحتاج إلى إثبات في مسألة أخرى هي مسألة العقل والنقل أو العقل والسمع أو الحسن والقبح.
142
حتى ولو كان إثبات الحرية يتضمن إثبات العقل وأنه مصدر صفات الأشياء والتمييز بين الحسن والقبح كأساس للفعل الحر المختار، فما العيب في ذلك؟ هل لأن العقل أساس الفعل الحر المختار يلغي هذا الفعل ويثبت الجبر؟ يبدو أن إثبات الجبر يتضمن بالضرورة إلغاء العقل لأن الجبر في الأفعال والأسرار في الأفهام شيء واحد. إن إثبات حرية الفعل للإنسان لا يعني تغيير صفات الأشياء لأن الحرية قائمة على وجود صفات موضوعية في الأشياء يدركها العقل تجعل الفعل حسنا لصفات فيه وقبيحا لصفات فيه، كما أن الفعل في ذاته حسن وقبيح. إن إنكار الحرية يقتضي بالضرورة إنكار الحسن والقبح كصفتين في الأفعال يدركهما العقل.
143
لا حرية بلا عقل، ولا عقل بلا حرية. وكل إثبات لأولوية النقل على العقل هو قصد نحو إثبات الجبر وإلغاء الحرية، وكل إثبات للجبر هو قصد نحو إلغاء العقل؛ لذلك قام العدل على ركنين رئيسيين: إثبات الحرية والعقل، إثبات الإنسان الحر والإنسان العاقل. (9)
العلم الشامل. إن العلم المطلق الشامل كصفة للوعي الخالص لا يمنع الحرية الإنسانية من الوقوع؛ فالعلم المطلق كصفة مطلقة لموجود كامل كما ظهر في التوحيد تشخيص يقوم به الإنسان في حالة الانفعال الشديد الناتجة عن الكرب والإحساس بالضياع والهزيمة والوقوع تحت الظلم والاضطهاد أو نتيجة لشعور بالزهو والانتصار والرغبة في تأكيد السلطة المطلقة على أساس من الشعور بالرهبة والخوف أمام سلطان مطلق. فالذات المشخص وصفاته المطلقة من فعل الشعور.
144
إن العلم شيء والقدرة شيء آخر. يعلم الإنسان أكثر مما يستطيع أن يقدر، ويقدر أحيانا أكثر مما يستطيع أن يعلم. لا يوجد تطابق تام بين العلم والقدرة. العلم عام والقدرة خاصة، العلم شامل والقدرة فردية، العلم لا نهائي والقدرة نهائية، العلم نظري والقدرة عملية. لا يمكن إذن الجمع بين العلم والقدرة أساسا.
145
وعلى فرض إعطاء التوحيد وجودا واقعيا في ذات بصفات كاملة لا يكون العلم بما يحدث في العالم بالضرورة نفيا للحرية أو تدخلا فيها من قبل هذا العلم لأن العلم نظر والإرادة عمل. لا يعني كون أفعال الإنسان معلومة من قبل أنها بالضرورة مفروضة عليه لأنه في هذه الحالة ماذا تكون صفة علم مطلق لا يقع بالفعل وغير مطابق للواقع؟ وماذا يكون مصير العلم إن حدث الفعل الإنساني على خلافه ما دام الفعل الإنساني فعلا حرا.
146
وقد كانت هذه الحجة في عقيدة الجبر من قبل. فإن اعتراض المجبرة: كيف يمكن فعل شيء مخالف لما هو معلوم ومقدور من قبل قائم على تشخيص عواطف التأليه في علم مطلق حاو لكل شيء، له الأولوية على القدرة الإنسانية في حين أن تحليل السلوك الإنساني يؤدي إلى إثبات القدرة وإنكار أي قدر مسبق إلا قوانين التاريخ التي تعرف بالاستبار وبالخبرات الماضية. يحتوي الوحي على هذه القوانين معطاة من قبل، وهو العلم المطلق الواقع بالفعل لا المتوهم.
147
ولما كان الفعل الإنساني واقعا وكان العلم المطلق الشامل صفة مشخصة وقدرا مسبقا غير واقع؛ أدى الفعل الإنساني إلى العمل ضد عواطف التأليه، وأصبح إثبات أولوية العلم الشامل كصفة مشخصة على الفعل الإنساني الواقع يعمل ضد الغاية منه وهو إثبات عواطف التأليه وجعل المؤله المشخص صفات على البدل وهو مضاد للكمال. القدرة على خلاف المعلوم تجهيل للعلم المطلق المشخص للمؤله ولا يمكن رفع الإشكال إلا بإثبات القدرة. ولكن وجود الرسالة وإبلاغ الوحي يمنعان من أن تكون القدرة مجبرة من قبل وإلا ففيم كان الوحي وفيم كانت الرسالة؟
148 (10)
القدرة. واعتبار كون الإنسان قادرا ولكن المؤله المشخص أقدر منه لا ينفي قدرة الإنسان على الإطلاق؛ فالمؤله المشخص كما ظهر في التوحيد خلق من الشعور الانفعالي وإسقاط منه ورغبته في تثبيت عواطف التعظيم والإجلال عن طريق التشخيص والتجسيم. وهذه العواطف نفسها ناشئة عن موقف نفسي واجتماعي غير سوي، موقف اضطهاد أو موقف تسلط. فتصوره على أنه واقف للإنسان بالمرصاد يتدخل في فعله ليس تفكيرا بل عودة للانفعال لطمس الفكر. وكون الإنسان قادرا وغيره أقدر لا ينفي كون الإنسان قادرا. ولا يوجد أي وجوب عقلي أو حسي ذهني أو واقعي، على أن وجود غير قادر يمنع الإنسان من أن يكون قادرا. الخلاف فقط في الدرجة وليس في النوع. ومع ذلك قد يكون الإنسان بإمكانياته العقلية والإبداعية أقدر من الظواهر الطبيعية؛ لأنه قادر على السيطرة عليها والتحكم في مسارها من خلال معرفته بقوانينها.
149
وهذا قياس صوري خالص وليس قياسا عليه. هو قياس صوري يبدأ بافتراضات واحتمالات معبرا عنها بلو كان، فالنتيجة التي تنتج منها نتيجة صورية خالصة. كذلك مقياس صدقها اتفاقها مع المقدمة الافتراضية ودون أن تثبت شيئا في الواقع. إن جعل المؤله المشخص قادرا على ما يقدر عليه الإنسان يجعله أيضا مكتسبا بالأفعال ما دام الإنسان مكتسبا لها. وهو ما ينافي عواطف التعظيم والإجلال. وليس هناك من يقدر الإنسان على فعله إلا قدرته وباعثه وفكره وغايته. فتلك هي العوامل التي تكون فعله. ولو كانت قدرته مستمدة من غيره لما كان قادرا بذاته أو فاعلا بذاته، ولما كان صاحب فعله، ولما كان السؤال ذاته قد وضع.
ويكون السؤال الآن: ما الغاية من الفعل الإنساني؟ إثبات قدرة الإنسان أم إثبات قدرة غيره؟ وأي القدرتين في خطر إذا نيل منها؟ وإذا كانت قدرة الذات المشخص شاملة قادرة على كل شيء، فلم الحاجة إلى إثباتها ونفي قدرة الإنسان التي لا تستطيع أن تفعل أمامها شيئا أو تبقى لحظة واحدة؟ إن عدم قدرة الإنسان على كل شيء لا تعني أن هناك قدرة أعظم تقدر على ما لا يقدر عليه الإنسان؛ فالقدرة الإنسانية لها مداها وهو مدى الفعل ومدى القدرة. يقدر الإنسان على تغيير بناء الواقع الاجتماعي، ففعله فعل إنساني حيوي وليس فعلا طبيعيا. ولا يعني عدم قدرة الإنسان على تحريك الجبال أو إغراق الكون عدم قدرته على الأفعال؛ لأن القدرة لها مستواها ومداها، مستواها هو البناء الاجتماعي ومداها هو الأثر. لا يستطيع الإنسان أن يغير من قوانين الطبيعة، أن يجعل الحر باردا أو البارد حارا أو المؤلم ملذا أو الملذ مؤلما أو أن يسقط الحجر إلى أعلى أو أن يعيش السمك خارج الماء. إن الطبيعة، سواء كانت الطبيعة الخارجية أم الطبيعة الإنسانية، واحدة لها بناؤها. يمكن تصور المؤله قادرا على تغيير قوانين الطبيعة وقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا ولكن ذلك تخيل وانفعال، وفكر بالتمني، إما تعويضا عن عجز أمام الطبيعة أو تخويفا برهبة السلطان. ومع ذلك يستطيع الإنسان من خلال العلم السيطرة على مظاهر الطبيعة وإخضاعها لإرادته. يمكنه حينئذ أن يطير في الهواء بالآلة وأن يسير فوق الماء بالآلة وأن ينزل إلى قاع المحيط بالآلة أيضا طبقا لقوانين الطبيعة وليس خرقا لها. يمكنه أن يهبط المطر وأن يجعل الحر باردا والبارد حارا بالتبريد والتكثيف. وأن يحول الحجر ذهبا بالضغط والعصا ثعبانا بالكيمياء. فلا حدود لقدرة الإنسان على الطبيعة. ووضع الحدود أمامه إيقاف لتقدم العلم وإحباط مسبق لإرادة الإنسان. أما أفعال الشعور كاللذة والألم فيستطيع الإنسان أن يجعل من المؤلم ملذا بفعل التضحية والشهادة، أو أن يجعل من الملذ مؤلما إذا كان فيه فقدان الذات وضياع الكلمة وأذى الآخرين. يمكن أن يكون لقدرة الإنسان أثر غير محدود بزمانه ومكانه؛ فأثر كبار الفلاسفة والعلماء والفنانين والقادة غير محدود، وما زالت الإنسانية تسير بفعل السابقين وتحت أثرهم. هناك من البشر من أثر في تاريخ الإنسانية إلى الأبد كالأنبياء. حتى على فرض أن أثر القدرة الإنسانية محدود، فذلك لا يعني وجود قدرة أخرى أعظم وأجل وأسمى في مقدارها أن تدك الجبال وتجعل الأرض محيطا والمحيط أرضا وأن تشرق الشمس من المغرب وأن تغربها من المشرق؛ فذاك قلب لقوانين الطبيعة الثابتة وهدم للعلم وإنكار لاطراد العادات وزعزعة لثقة الإنسان بالعالم وبفعله فيه، ولا يكون تعبيرا إلا عن عاجز يود أن يرى الكون في قبضته بالتمني أو قاهر يود السيطرة على الآخرين بالإرهاب أو الخديعة.
150
ولا تعني عدم قدرة الإنسان على الإعادة أن الإنسان غير قادر؛ فالفعل الإنساني فعل موجه مقصود مسبب، له غاية ونهاية. الرجوع إلى الوراء إنكار لغائية الفعل ولقصد الإنسان، والغائية جوهر الحياة، والقصدية أساس الفعل. والتاريخ لا يرجع إلى الوراء، والتراكم الكمي يتحول إلى كيف. الفعل الإنساني بطبيعته فعل لا يتكرر لأنه فعل إنساني أي فعل خلاق. والخلق الفني لا يتكرر؛ لأنه مرهون بلحظة الخلق. الفعل الإنساني بطبيعته فعل جديد، والجدة في الخلق تعبير عن الحرية في الفعل، ولو كان الإنسان مجبرا لتكررت الأفعال؛ لأنها تحدث بنفس القدرة المخلوقة وعلى نفس المنوال. ولا توجد أية ضرورة على الإنسان حين يأتي بفعله تجعله قادرا على إعادته من جديد، لا ضرورة عقلية أو حسية، بل توجد ضرورة توجب النقيض. المؤله المشخص وحده هو القادر على الإعادة؛ لأنه افتراض نظري، وفكر بالتمني، وتخيل حالة لا وجود لها. أما الإنسان فإن ممارسته لفعله واقعة بالفعل. ومع ذلك فبعض الأفعال يمكن إعادتها بالممارسة. وتختلف درجة التكرار حسب مستويات الفعل. لو كان الفعل آليا أمكن إعادته كالعامل الذي يقوم بنفس الفعل آلاف المرات إذ تحول الفعل لديه إلى طبيعة ثانية، وإذا لم يحدث التكرار في الفعل الآلي فإنه لا يدل بالضرورة على نقص في القدرة، بل على نقص في التمرين والتعود والممارسة أو على نقص في الآلة. أما الفعل البدني فإنه ممكن تكراره. قد لا يكون نفس الفعل من حيث الحركة الطبيعية ولكنه يكون نفس الفعل من حيث الدلالة. يمكن مثلا كتابة نفس الحروف آلاف المرات والسير بين نقطتين عشرات المرات، ويكون الفعل في نفس المرة هو نفس الفعل، نفس الحرف أو نفس المسافة. ولكنه قد لا يكون الحرف تماما هو نفس الحرف من حيث الرسم، وقد لا تكون الخطوة تماما هي نفس الخطوة من حيث المسافة. ولكن هذه الفروق المكانية لا دلالة لها على الفعل ومصدره وهو الإنسان القادر الحر. والإعادة فرع على مبدأ، ومن يثبت الفعل يثبت التولد. الإعادة ممكنة لأن الفعل ممكن أولا. ومن قدر على الفعل الأول يقدر على الفعل الثاني. وقد استعمل الفكر الديني الإلهي هذا التحليل لإثبات البعث بإثبات الخلق؛ فالقدرة على الخلق تتضمن القدرة على البعث لأن القادر على الفعل أولا يكون أقدر على إعادته ثانيا. والقول باستحالة الإعادة مبني على أن العلم لا بد وأن يكون علما بالتفاصيل، وهذا غير لازم؛ فالإعادة ممكنة بفعل الممارسة عندما يتحول الفعل الأول إلى طبيعة ثانية. كما تصح الإعادة من المؤله المشخص؛ لأنه عالم بكل شيء وقادر على كل شيء.
ولا يعني فرض أن قدرة الإنسان مخلوقة معه فهو أيضا مخلوق؛ أن أفعال الإنسان مخلوقة لأن خلق القدرة لا يستلزم بالضرورة خلق الأفعال. يمكن خلق قدرة قادرة حرة في الإنسان الذي هو محقق قدرته في أفعاله. ولا يعني اعتبار المؤله المشخص مالكا لكل شيء بما فيه الإنسان وفعله نفيا لقدرة الإنسان. إن القول بأن المؤله المشخص مالك لكل شيء مجرد عبارة تعبر عن عواطف التعظيم والإجلال. والمعاني والحقائق والوقائع لا تثبت بالعبارات والألفاظ.
151
ولا يعني إثبات كون الإنسان قادرا أنه يسلب الآخر حريته أو يشاركه فيما ليس له، بل إن القادر على أفعاله هو المحقق لها. وهذا أيضا ينفي بالضرورة أن يشارك آخر في أفعاله إلا من مشاركة الجماعة والعمل المشترك داخل الجماعة أو الحزب.
152
لا يعني اختلاف الألسنة والألوان وجود قدرة مشخصة خارجية جعلت الألوان والألسنة متباينة على هذا النحو؛ فتباين الألوان يرجع إلى درجة بعد الجماعة البشرية عن الشمس، وتباين الألسنة يرجع إلى اختلاف نشأة اللغة حتى لو كانت لغة الوحي توفيقا. لقد حدث ذلك مرة واحدة ولم يتكرر بوجود أول إنسان على الأرض، وهذا الحال ليس حالنا، نحن بقية البشر.
153
وما المقصود في النهاية، نفي قدرة الإنسان من أجل رفض مشاركة أحد مع المؤله المشخص في فعله أم إثبات قدرة الإنسان ورفض مشاركة أي أحد مع الإنسان في فعله؟ ما المطلوب في النهاية؟ إثبات قدرة الإنسان حتى لو كان ذلك بنفي قدرة الغير أم قدرة غيره حتى ولو كان ذلك بنفي قدرة الإنسان؟ حرية الإنسان أم حرية غيره حتى ولو كان ذلك بالقضاء على حرية الإنسان؟ وكيف تثبت إرادة الإنسان وقدرته وفعله وحريته مع قرار مسبق بأنه لا شيء مخلوق له الخيار في أمره في عالم ليس له؟ وإذا كان القرار المسبق هو الحل فلماذا وضع السؤال؟ (2-3) القدرة والاستطاعة
تثبت نظرية الكسب القدرة بإثبات التفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية. وتثبت القدرة كواقعة للإنسان كما تثبتها تجربة الفعل الحر. ولكن نظرية الكسب لا تجعل القدرة من نفس الفاعل، بل من مصدر خارجي. وترفض إحالة التفرقة إلى ثبوت الإرادة أو البواعث أو صفة في الجارحة أو بنية مخصوصة. ولكن ما فائدة إثبات قدرة للإنسان ثم نفي أن الإنسان مصدرها؟ إن ذلك كمن يعطي شيئا بيد ويأخذه باليد الأخرى. يثبت الكسب الاستطاعة ولكنه لا يجعلها من الإنسان بل من مصدر خارجي.
154
والقدرة في الكسب صفة متميزة عن البدن؛ لأنها من خلق فاعل خارجي. ليس المزاج أو الاستعداد البدني بل صفة توجد في البدن دون أن تكون هي البدن، صفة مخلوقة من الخارج. والحقيقة أن القدر مجموع لاستطاعات البدنية والنفسية والاجتماعية لأن الفعل مرهون بالبدن وبالباعث والموقف الاجتماعي في آن واحد.
155
وقد يشار إلى القدرة أحيانا بلفظ آخر أخص، وهو الاستطاعة، والاستطاعة مخلوقة في الإنسان من الخارج مثل القدرة. الإنسان مستطيع باستطاعة هي غيره. وهذا يماثل ما يقال في الفكر الديني الإلهي من إثبات ذات المؤله المشخص وإثبات صفات هي غيره. وهذا غير صحيح. فإذا كان العجز نقيض القدرة فكون الإنسان عاجزا مرة لا يعني أنه مستطيع باستطاعة غيره بل لآفة في الجارحة أو لضعف في الباعث أو لعدم وجود باعث على الإطلاق أو لتقييد حركته. ولو كان ذلك كله يسمى الغير يكون الغير مرتبطا بالبدن أو بالنفس أو بالذهن، وذلك ليس خارجا عن الإنسان.
156
ولم تعرض عقيدة الجبر لموضوع الاستطاعة؛ لأنها تنكر أن يكون للعبد استطاعة؛ فهو مجبور في أفعال الشعور الداخلية والخارجية.
157
ثم تتصف القدرة أي الاستطاعة، بأهم ما يميز الكسب وهو أنها لا توجد فقط من الخارج إلى الداخل، من الله إلى الإنسان ولكنها توجد أيضا في لحظة الفعل وساعة وقوعه لا قبله ولا بعده. ما دامت القدرة ليست من الفاعل لا الإرادة ولا من البواعث ولا من العضو فليس لها وجود سابق على الفعل، بل توجد في لحظة مع الفعل.
158
وما دامت القدرة تحصل مع الفعل فإنه لا يجوز الترك؛ ومن ثم يصبح الفعل ضروري الحصول، ويكون الإنسان مجبرا على الفعل؛ لذلك كانت القدرة في الجبر أيضا مع الفعل، أي مقارنة القدرة لمقدورها.
159
الله وحده هو الذي تتقدم فيه القدرة على الفعل وكأنه معتزلي! وكما لا تتقدم القدرة المقدور، فكذلك لا يتقدم العجز المعجوز. العجز قائم بالعاجز ولا يتقدم عليه.
160
والحجة في ذلك أن الاستطاعة عرض، والعرض لا يبقى زمانين. العرض يجيء ويذهب، يوجد ويعدم، وهو ليس كالجوهر، قائم بذاته؛ لذلك توجد القدرة ساعة التكليف لا قبله.
161
والحقيقة أن صلة القدرة بالفعل ليست صلة عرض بعرض. فالقدرة توجد الفعل أو معه عندما يعزم الأمر وتجتمع الطاقة ويبدأ التنفيذ. فالصلة بين القدرة والفعل صلة عضوية حركية، وليست صلة علة بمعلول. وبالتالي يستحيل وجود المعلول بلا علة أو العلة بلا معلول. وقد تكون الاستطاعة مع الفعل بأن يقرر الإنسان بناء على حريته فعل شيء ثم تنشأ الاستطاعة من قدرة الإنسان على الخلق، ومن حدوث ما لا يمكن التنبؤ به، وهو دليل آخر على الحرية. الأول هو القرار حتى على ضعف الإمكانيات والثاني حدوث استطاعة غير متوقعة أثناء إتيان الفعل. فحدوث الاستطاعة مع الفعل قد يكون من فعل الحرية. وحدوث قدرة غير متوقعة وقوة غير محسوبة تقوي العمل وتعمل على تحقيقه على أكمل وجه.
162
ولماذا تكون الاستطاعة في اللحظة؟ لماذا لا تكون في الزمان؟ لماذا تكون في الحال ولا تكون في الديمومة؟ لماذا لا يكون القادر على شيء في لحظة قادرا عليه في كل لحظة؟
قد يكون الفعل اللحظي ليس أدل الأفعال على ممارسة الإنسان حريته. الفعل اللحظي قد لا يتكرر وهو الفعل الذي يحدث في ظروف قد تكون عفوية. الفعل الحر هو الفعل الدائم الذي يحدث نتيجة لتدبر ووعي وقدرة على الاستمرار في كل لحظة، لا تنتهي قدرته ولا يتوقف باعثه، ولا تغيب غايته.
وهناك عدة حجج أخرى تفصيلية تقدمها الأشاعرة لإثبات وجود الاستطاعة مع الفعل. وهي كلها حجج خاطئة، إما من حيث الصورة أي الجدل أو من حيث المضمون أي المعنى أو الشيء. فكثيرا ما تكون الحجة المقدمة لإثبات أن الاستطاعة مع الفعل هي نفسها المطلوب إثباته، ويكون الفكر كله مصادرة على المطلوب؛ مما يدل على أن الفكر هنا مجرد انفعال يريد إثبات ذاته سواء كمقدمة أو كنتيجة أو أنها محاولة فقط لتفنيد الموقف المعارض، الاستطاعة قبل الفعل، وهو المعروف باسم برهان الخلف.
163
وقد يقال إن امتناع وجود الاستطاعة قبل الفعل هو أنها لو كانت كذلك لزاحمت قدرة المؤله المشخص الموجودة قبل الفعل. ولما كانت قدرة الإنسان أقل إجلالا وعظمة، فمقدارها ألا توجد إلا في لحظة إتيان الفعل عندما تسمح لها القدرة الأعظم بذلك وتفسح المجال لها. والحقيقة أن هذا التفكير انفعالي خالص يريد إثبات أولوية قدرة المؤله المشخص على قدرة الإنسان وقدمها وتقدمها عليها. وكيف تكون هناك قدرتان قديمتان موجودتان ومتساويتان؟ ولما كانت الكفتان غير متساويتين بين القدرة الإلهية والقدرة الإنسانية، والإنسان لا يقوى على الوقوف أمام الله، إقلالا للذات، وإكبارا للغير لم يكن له استطاعة سابقة على الفعل. والسؤال هو: هل فعل الإنسان مشروط بالقدرة الإلهية أم القدرة الإلهية ذريعة للسيطرة عليه من السلطة السياسية المدنية أو الدينية؟ والحقيقة أن تقدم القدرة الإنسانية لا يعني بالضرورة نفيا لقدرة الإلهية، بل يعني فقط تقدم القدرة الإنسانية ووجوها كإمكانية تتحقق ساعة القرار بإتيان الفعل.
164
ولا يقال إن القدرة عون على الفعل، وبالتالي فهي مقارنة؛ لأن القدرة ليست عونا، بل هي تمكين وإرادة. ينشأ العون من تحقق شروط الفعل كالصحة البدنية وصدق الباعث وكمال الغاية وعدم الموانع البدنية أو النفسية أو الاجتماعية. وكيف يتأتى الفعل وقدرته مقارنة له وليست سابقة عليه، وحساب القدرات السابق على تحقيق الفعل شرط لإتمامه وقرار تحقيقه؟ وقد تكون القدرة المقارنة عمياء إن نشأت وقت الفعل، أكبر من الفعل فتتجاوزه أو أقل منه فلا يتحقق الفعل.
165
إن إثبات الاستطاعة مع الفعل بحجة أن العلة لا تكون إلا مع معلولها لا قبلها غير صحيح؛ لأن العلة تكون موجودة قبل معلولها. والإنسان هو الذي يسبب فقط اتصال العلة بالمعلول. العلة باقية قبل المعلول، كما أن الاستطاعة باقية قبل الفعل. ولا يعني ذلك تقدمها المطلق وبقاءها الأبدي بل هو بقاء مشروط بحياة الإنسان وبقدرته على الفعل، قدرته البدنية والنفسية والذهنية وحضور الباعث ووضوح الفكر والغاية وإمكانية العمل الحركي.
166
فإن قيل: لما كانت الدلالة مقارنة للمدلول، وصحة الفعل دلالة على القدرة كانت القدرة مقارنة للمقدور، يكون المثل هنا مختلفا في حالة الكسب؛ فليست كل دلالة مقارنة للمدلول بل قد تكون متقدمة عليه، فدلالة الغمام سابقة على وجود المطر.
167
أما القول بأن القدرة قدرة على شيء، ومن ثم لزم كونها مع الفعل لا سابقة عليه فإنه يكون إنكارا للتفرقة بين الممكن والواقع، بين القوة والفعل. صحيح أن القدرة قدرة كل شيء ولكن قد تكون هذه القدرة ممكنة وليست قائمة بالفعل؛ فالقادر على الحركة قادر عليها وإن لم يتحرك، والقادر على الكلام قادر عليه دون أن يتكلم. ولا يتم الفعل فجأة بناء على قدرة مخلوقة فجأة وإلا كان الإنسان يسير في هذا العالم نطاطا! وكيف يمكن تصور الفعل الإنساني معدوما إلا إذا حلت فيه القدرة فتجعله موجودا وكأن الإنسان قطعة من جماد لا تدب الحياة فيه إلا إذا لاحقته القدرة على دفعات كطلقات رصاص!
168
وهناك فرق بين القدرة والباعث؛ فالقدرة سابقة على الفعل ولكن الباعث أو السبب هو الذي يجعل الفعل يتحقق في هذه اللحظة أو في تلك. كما أن الغاية باقية بعد الفعل، يصب فيها الفعل بعد أن يتحقق.
169
والقول بأن الفعل يحتاج عند الصحة إلى أمر يحتاج بدوره عند الوقوع إلى أمر متجدد؛ وبالتالي يحتاج الفعل إلى قدرة متجددة كما هو الحال في الكسب غير صحيح، لا في حالة المشبه به ولا في حالة المشبه؛ فطلب تكرار الأمر عند كل فعل مستحيل عملا وغير وارد نظرا. يصدر الأمر مرة واحدة. وما لم يأت أمر آخر بإلغائه أو بأمر آخر بديل لظل الأمر الأول سائر المفعول كما هو الحال في الواجبات الشعرية وفي التكليف بوجه عام. وهل يحتاج كل فعل إنساني لكل فرد من أفراد البشر إلى أمر متكرر يصدر لكل فعل ولكل فرد، وكأن العالم هو مجموعة من الأفراد وسلسلة من الأفعال لا رابط بينها، وكأن الاستغراق والكليات لا وجود لها في الحياة الإنسانية. وبالرغم من أن التمثيل واقع في الحياة الإنسانية بدليل اعتماد الحجة عليه إلا أنه يخطئ في الجمع بين أمرين. فالصحة والأمر لا جامع بينهما. وحتى لو صح التمثيل فالمؤله المشخص، وهو الكامل، لا يحتاج إلى إصدار أمر متكرر، فعلمه علم كلي كما يقتضيه كمال العلم بالنسبة للعلم الإنساني الجزئي. ولو احتاج إلى تكرار الأمر لوجب قدم الإرادة ومن ثم قدم العالم. وكيف تتعلق الإرادة بالنواهي في حين أن الإرادة لا تتعلق بنفي؟ هذا يدل على أن الأمر الأول لا يحتاج إلى أمر زائد متجدد.
170
ولا تؤدي بالضرورة التفرقة بين الحركة الاضطرارية والحركة الاختيارية إلى أن القدرة قد تفارق الأولى بينما فارقت الثانية. لا تثبت هذه التفرقة مقارنة القدرة وقت إثباتها وتقدمها. وليس إثبات المقارنة بأولى من إثبات المفارقة؛ فكلاهما واقع، وليس لأحدهما حجة زائدة على الآخر. والقول بأنه يستحيل وقوع الفعل عند عدم القدرة؛ وبالتالي يجب الفعل عند وجودهما، فالاستحالة والوجوب طرفا نقيض لا يمكن الجمع بينهما هو خلط بين الصحة والوجوب. فنقيض الاستحالة هو الصحة لا الوجوب. إذا كان الإنسان قادرا على فعل يصح منه الفعل ولا يوجب بتدخل قدرة خارجية مقارنة للفعل.
171
أما القول بأنه لو استحال الفعل بالقدرة في الحال، فإن هذه الاستحالة لا ترجع إلى القدرة لأنها موجودة، ولا إلى المقدور لأنه مقدور، بل لاستحالة المقارنة؛ مما يثبت عدم الارتباط الضروري بين القدرة والمقدور؛ وبالتالي تنتفي القدرة قبل الفعل، وتحل فيه وقت وقوعه. هذا القول يتحدث عن استحالة افتراضية وليس استحالة واقعة بالفعل. فما دامت القدرة موجودة، وما دام المقدور داخل حدود الطاقة، وامتنعت الموانع فلا استحالة هناك، ولا حاجة إلى قدرة مقارنة تجعل الفعل واقعا. وإن استحالة الفعل فإما لأنه لا قدرة هناك، أو لعدم وجود باعث أو غاية، أو لوجود مانع بدني أو نفسي أو اجتماعي. ولا تعني الاستحالة في الحال الاستحالة في كل حال؛ بدليل الفعل المتولد. هناك أحكام عقلية عديدة في الاستحالة قد لا تطابق استحالة فعلية؛ فاستحالة المؤله المشخص على فعل ما لم تزل استحالة تنال من الإطلاق وإن كانت حكما. ومع ذلك فلا شيء يحدث بلا سبب. وإن استحال الفعل فهناك سبب للاستحالة وإن لم يكن بالضرورة حكما عقليا؛ فالأحكام العقلية هي نفسها علل واقعية.
172
والقول بأنه لو جاز الفعل بالقدرة المتقدمة لجاز بالقدرة المعدومة، بل ويجوز في حالة العجز قول مستحيل وافتراض نظري صوري صرف؛ لأن الفعل لا يجوز بقدرة معدومة، خاصة إذا كان الفعل الأول. أما الفعل المتولد، فإنه يجوز بقدرة معدومة؛ لأن القدرة في هذه الحالة وإن عدمت من ناحية البدن والمباشرة، فإنها تظل باقية من حيث المعنى والأثر، والقدرة هي الأثر.
173
فإن قيل: لو جاز أن تكون القدرة متقدمة لمقدورها في وقت لجاز أن تكون متقدمة في أوقات كثيرة، وهذا يقتضي التكليف والاحترام وعدم استحقاق المدح والذم قيل إن التقدم بأوقات كثيرة مشروط بحياة الإنسان. فالقادر على الفكر لا تتقدم قدرته حتى ترجع إلى عهد الصبا، والقادر على الحركة لا تتقدم قدرته حتى ترجع إلى المهد. إن القادر على الفعل تتقدم قدرته في الحقيقة في دور حياته المحقق لهذا الفعل؛ فالتكليف مشروط بالحياة، واستحقاق الذم والمدح مشروط بتحقيق الأفعال المشروطة بالإنسان الحي.
174
يكفي تقدم القدرة المعينة على الفعل الخاص في موقف معين وليس افتراض أمور نظرية لا وجود لها إلا افتراضا وكأن الفكر الديني مهمته تبخير الوقائع والقضاء على الأفعال لحساب القدم المطلق والبقاء المطلق والتسلسل إلى ما لا نهاية من البداية أو من النهاية.
إن احتياج الفعل إلى القدرة ليس كاحتياجه إلى الآلة حيث تجب فيها المقارنة؛ لأن الآلات تنقسم إلى متقدمة ومقارنة. وليس تمثيل القدرة بالآلة المقارنة أولى من تمثيلها بالآلة المتقدمة.
175
كما أن القول بتقدم القدرة لمقدورها يوجب انقطاع الرغبات عن المؤله المشخص، وذلك بخلاف رغبات المسلمين التي لا تنقطع بل تكون ممتدة. حتى المؤله المشخص خلط بين العلة الفاعلة والعلة الغائية. القدرة علة فاعلة. صحيح أن الفعل يتحقق بمجموع علل فاعلة وغائية، ولكن القول بتقدم العلة الفاعلة لا يعني بالضرورة انقطاع العلة الغائية، بل إن العلة الغائية هي المحرك للعلة الفاعلة؛ لما كان الإنسان مجموعة من الغايات تنظمها غاية واحدة. يحدث كل ذلك في حياة الإنسان، وبدون حياة الإنسان لا يكون هناك فعل أو غاية. وإن تخيل حياة مطلقة تمتد فيها الغايات إلى ما لا نهاية مجرد فكر بالتمني، تضحية بالواقع في سبيل الممكن، وقضاء على النسبي في سبيل المطلق.
176
وإن قيل: لو كانت القدرة صالحة للضدين لما كان أحدهما بالوقوع أولى من صاحبه إلا بأمر مخصص؛ وبالتالي خلق القدرة للإتيان بأحد الضدين دون الآخر كما هو الحال في الكسب هو هذا الأمر المخصص، فإن ذلك القول لا يعني بالضرورة خلق قدرة مقارنة تجعل أحد الضدين واقعا دون الآخر، بل يعني وجود أمر مخصص وهو الباعث على تحقيق أحد الفعلين. والباعث موجود دون حاجة إلى أمر زائد. تحدث القدرة من الباعث ولا تحتاج إلى شيء آخر توجد به؛ لأنها لا تحدث على سبيل الإيجاد بل على سبيل التأثير.
177
ولا يقال إن المتعلقات بالأغيار مشتركة في أنها لا تتعلق بالضدين، ولما كانت القدرة متعلقة بالأغيار، فإنها لا تتعلق بالضدين وبالتالي تكون مقارنة للمقدور كما هو الحال في نظرية الكسب؛ وذلك لأن تعلق القدرة بالضدين جائز، ولكن وقوع أحد الضدين دون الآخر لا يتعلق بالقدرة وحدها السابقة على الفعل بل أيضا بالباعث المصاحب للفعل، وبالغاية التي يهدف إليها الفعل.
178
إن الأفعال المتماثلة والمختلفة والمتضادة، كل منها محتاج في نظرية الكسب إلى قدرة خاصة، فالقدرة الواحدة في الكسب لا تكون على إرادتين أو حركتين أو مثلين؛ لأن كل قدرة مصاحبة لفعل، وكل فعل يحدث بقدرة. وما دام الإنسان قدر على الفعل مرة فإنه لا يقدر على فعل آخر مشابها له ومساويا إياه إلا بقدرة أخرى. وهكذا يحتاج الإنسان في كل مرة يفعل فيها فعلا إلى قدرة جديدة. لا توجد الحركتان في لحظة واحدة لأنهما تكونان إما حركة واحدة أو حركتين متضادتين، فإن كانتا حركة واحدة امتنع التماثل، وإن كانتا متضادتين وقعت إحداهما دون الأخرى لأن القدرة لا تتعلق بالضدين ولا تقعان واحدة تلو الأخرى لأن القدرة لا تبقى في الزمان ولا توجد إلا في اللحظة. تقع حركة واحدة بقدرة واحدة في لحظة واحدة. وتحتاج الحركة الثانية إلى قدرة ثانية في لحظة ثانية. والحقيقة أن هذا التصور كله للتماثل والاختلاف والتضاد في الأفعال على ما تعرضه نظرية الكسب ينافي الحس والمشاهدة والعادة ويضاد التعلم والممارسة التي يتحول فيها الفعل بالتكرار إلى طبيعة ثانية. صحيح أن الجدة في الفعل أكثر إشراقا وحيوية من الفعل المتكرر ولكن هذه الجدة مرتبطة بتجدد الباعث نفسه وحضور الغاية ماثلة باستمرار والشوق إلى الفعل الذي يحقق رسالة الإنسان وغايته.
179
وكما لا تقع المتماثلات في الكسب بقدرة واحدة، فالأولى ألا تقع المختلفات وإلا لاستطاع الإنسان بقدرة واحدة أن يفعل كل شيء. وهذا افتراض محض لأن قدرة واحدة لها مداها، وكل فعل يحتاج إلى قدرة مساوية له حتى يتم الفعل. فلا يمكن رفع حجر بأصبع واحد ولكن يمكن رفعه باليد.
180
وكما أن القدرة الواحدة في الكسب لا تقدر على المتماثلات والمختلفات، فإنه أولى بها ألا تقدر على المتضادات؛ فالقدرة على شيء ليست قدرة على ضده؛ لأن كل قدرة تحتاج إلى قدرة خاصة في وقت الفعل، ولأن القدرة قدرة بشيء ولا بد من تعلقها بمقدور، والمقدور لا يكون مقدورين وإلا كانت هناك قدرة بلا مقدور أو فاعل بلا فعل وهو محال. وإذا كانت القدرة مقارنة للفعل فالمقارنة لا تكون للضدين وإلا لاستحال الفعل، ومن ثم كانت المقارنة لأحد الضدين فحسب. والخطأ هنا عدم التفرقة بين الممكن والفعل؛ فهناك قدرة ممكنة وإن لم تكن متعلقة بفعل، فإذا تحققت القدرة تعلقت بفعل. وعندما يتحقق أحد الضدين فمعنى ذلك أنه تحقق طبقا للباعث الأقوى. وتتحدد قوة الباعث بالفكر والغاية ودرجة التمثل له. أما أفعال النائم والساهي فإنها ليست أفعالا لأنه ينقصها الروية والتدبر والقصد والغاية. وإذا وقع فعل الإرادة دون الكراهية أو فعل الكراهية دون الإرادة، فلاختلاف الباعث والغاية والفكر أي لاختلاف الأساس النظري للفعل أو إن شئنا لاختلاف القيمة. لا تعني القدرة على الضدين القدرة على متناقضين طبيعيين كالسواد والبياض بل القدرة على فعلين مختلفين في القيمة من حيث الشرف كالظلم والعدل، أو القهر والتحرر. وهذا هو مناط الحرية، التحرك بين سلم القيم واتباع أعلاها أي أوسعها مدى وأكثرها تحقيقا لكمال الطبيعة. وإذا كانت القدرة بالضرورة متعلقة بأحد الضدين استحالت الحرية.
181
لذلك في الجبر أيضا القدرة غير صالحة للضدين لمقارنة القدرة بأحدهما ضرورة ووجوبا. ولا ينفع تجويز البدل في الأفعال لإثبات قدرة الإنسان؛ لأن البدل لا يجوز في الماضي الذي تم، بل في الحاضر المستدرك أو في المستقبل المنتظر الذي لم يتم. وما فائدة حرية في الماضي الذي وقع؟ ولماذا يكون أحدهما أولى بالوقوع من الآخر؟ وما المخصص؟ أليس ذلك كله تكليفا بما لا يطاق؟
182
ولا تفيد التفرقة بين نوعين من القدرة البدنية مثل الصحة وسلامة الحواس والأعضاء وبين ارتفاع الموانع النفسية، وهي مجموعة البواعث والأفكار والغايات، فتكون الأولى قادرة على الضدين في حين تقدر الثانية على فعل واحد فقط لإثبات الكسب. وذلك لأن تحريك اليد أو تسكينها ليس فعلا كاملا، بل هو فعل بدني خالص وليس له أية دلالة على السلوك الإنساني، في حين أن الفعل القائم على البواعث والغايات هو الفعل الإنساني الذي يعبر عن طبيعة الإنسان ووجوده . الفعل الحقيقي هو فعل الباعث والغاية، وهو ما زال في هذه التفرقة لا يقدر على فعل الضدين لمقارنة قدرته لأحد الفعلين.
183
ولا يمكن إثبات أن القدرة لا تقدر على الضدين مع الإبقاء على القدرة الممكنة قبل تحقق الفعل ودون حاجة إلى خلق قدرة جديدة للإتيان به؛ فطبيعة الإنسان واحدة، والقادر على تحرير الشعب لا يقدر على استعباده، والقادر على العلم لا يقدر على الجهل. الطبيعة موجهة للفعل كما أن الفكر موجه للسلوك، وكما أن الطبيعة لا تتغير فكذلك المبادئ لا تتغير، وكما أن الغاية باعث على الفعل، والغاية واحدة ماثلة حاضرة لا تغيب؛ فالفعل كذلك واحد. لا تصبح القدرة قادرة على الضدين إلا إذا تغيرت البواعث والمقاصد والأهداف. يستطيع الإنسان بقدرته أن يفعل الشيء ونقيضه باستثناء البواعث والغايات؛ فالقادر على الحركة قادر على السكون، والقادر على الكلام قادر على الصمت، ولكن القدرة البدنية ليست إلا إحدى مكونات الفعل، بالإضافة إلى الباعث والغاية. بل إن عدم وجود الباعث والغاية يصيب الإنسان أحيانا بالعجز عن الحركة؛ وبالتالي بتراخي القدرة البدنية؛ فالأفعال تتخلق بالبواعث والغايات. لو خلقت القدرة في لحظة الفعل كما هو الحال في الكسب بصرف النظر عن البواعث والغايات لحدث فعلان متضادان في وقت واحد. وإذا قيل إن الفعل لا يصلح إلا لذاته دون ضده رجع الكسب إلى الجبر، وأصبح الإنسان يخلق قدرة خارجية فيه غير قادر إلا على هذا الفعل دون غيره.
184
وفي الكسب أيضا القدرة على الفعل ليست قدرة على الترك؛ لأن الفعل يحدث بقدرة خارجية تجعل الفعل واقعا ومهيئا. ولا يجوز بعد ذلك ألا يحدث الفعل. وهو نوع من الجبر لأن الفعل الحسن هو الفعل الذي يقدر الإنسان فيه على الفعل والترك على السواء مع اعتبار الطبيعة وأنها موجهة برسالتها، وهذه هي الحرية الباطنية.
185
ولما كانت القدرة، في نظرية الكسب، مخلوقة في الإنسان من الخارج، فإن الفعل الإنساني لم يعد داخلا في نطاق القدرة الطبيعية، ومن ثم يجوز أن يأتي الإنسان بفعل أكثر من طاقته الطبيعية ما دامت القدرة اللازمة لذلك قد خلقت فيه. يجوز إذن التكليف بما لا يطاق، وأن تكون الاستطاعة أقل من التكليف. وهذا هدم لأساس التكليف وتقويض لأساس التشريع وقضاء على أساس الاستحقاق بالمدح والذم؛ فقد قام التكليف على أنه لا تكليف بما لا يطاق. وكل ما يتجاوز حدود الطاقة الإنسانية لا يدخل ضمن الفعل الإنساني. وتكليف ما لا يطاق بدنيا مستحيل. كيف يستطيع الإنسان تحريك جبل بأصبعه أو إمساك القمر بقبضته؟ التكليف بما لا يطاق لا يجعل هذا العالم أفضل العوالم الممكنة.
186
أما أفعال الشعور مثل الإيمان والعلم والاعتقاد، فإنها أيضا لا تحدث إلا داخل حدود الطاقة والاستعداد؛ فالقادر على علم شيء لا يقدر على علم كل شيء، ولا يوجد علم مسبق بما سيحدث في المستقبل إلا بطريق التنبؤ، وهو احتمال خالص؛ ومن ثم التكليف بالرسالة واقع على البشر سواء فهم من حققها أو لم يحققها. صحيح أن الإنسان في موقف، والموقف يعطيه البواعث ولكن ذلك لا يعني أن الموقف والبواعث معا أكبر من طاقة الإنسان وأنها ضد التكليف بالضرورة. ويمكن للإنسان بحريته تحويل الموقف لصالحه.
187
وماذا يحدث لو خلقت القدرة على فعل شيء ليس الإنسان مستعدا له أو قادرا عليه؟ لو حدث ذلك لفعل الإنسان ضد طبيعته وضد قدرته؛ وبالتالي تضيع حريته الذاتية وتصبح أفعاله مملاة عليه من الخارج وفوق حدود الطاقة.
188
وإذا جاز لأفراد قلائل لحماسهم للرسالة ولشدة الباعث على الفعل القيام بأعمال تكون في حكم العادة خارقة للعادة، كما يحدث ذلك من عباقرة التاريخ وأبطال الشعوب فإن هذه الأفعال تدخل في حدود الطاقة، ولكنها الطاقة الفردية والجماعية المتميزة، وهي ما تسمى بلغة التشبيه إتيان المعجزات أو القيام بالمستحيلات. ولكن في نظرية الكسب ما دام المؤله المشخص هو الفاعل فلم لا يجوز التكليف بما لا يطاق؟ الله هو الفاعل وهو المكلف وما الإنسان إلا قناع وحاشية.
إن شرط حرية الأفعال أن تكون الاستطاعة قبل الفعل وليس معه؛ لأن الفعل في حاجة إلى تخطيط وتدبر مسبق. ليست كل الأفعال بنت التو واللحظة .
189
لذلك قد يثبت الكسب نوعا ما من الاستطاعة قبل الفعل وهي الاستطاعة البدنية فحسب، سلامة الحواس والصحة واعتدال المزاج وارتفاع الموانع. أما الاستطاعة النفسية فإنها تظل مع الفعل وليدة اللحظة.
190
وباجتماع القدرتين البدنية والنفسية (الداعية الجازمة) يحدث الفعل. فإن قيل: إن من الاستطاعة ما هو قبل الفعل وما هو في حال الفعل وما هو بعد الفعل، فإن أقصى ما يستطيعه الكسب من إثبات استطاعة قبل الفعل هي الاستطاعة البدنية فحسب دون سواها. الاستطاعة عرض يخلقه الله في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية، وهي علة الفعل عند المعتزلة. وعند الجمهور شرط أداء الفعل لا علة له، صفة يخلقها الله عند قصد اكتساب الفعل بعد سلامة الأسباب والآلات. وحتى في هذه الحالة الضيقة التي لا تتعدى فيها الاستطاعة القدرة البدنية الحالة في البدن قبل إتيان الفعل يكون الكسب قد انتهى إلى أن خلق الله للقدرة على الفعل مشروط بسلامة البدن، وبالتالي النيل من قدرة الله المطلقة. وهنا يبرز سؤال: ألا يقدر الله على خلق القدرة في العاجز والمشلول والمبتور والقعيد؟ هل يجوز إذن تكليف العاجز؟ وهل يؤدي هذا الدفاع النسبي عن الفعل بإثبات مجرد الاستطاعة البدنية السابقة على الفعل إلى النيل من التوحيد بالضرورة؟
191 (2-4) نقد الكسب
بالإضافة إلى تفنيد حجج الكسب السابقة، فإنه يقع في عدة أخطاء، سواء في التوحيد أو في العدل، تنال من حق الله في التنزيه وحق الإنسان في الحرية منها. (1)
المشاركة أصلا مستحيلة، مشاركة الله للإنسان في الفعل، ومشاركة الإنسان لله في الفعل لأنه ضد التوحيد، فإذا كان الكسب يرفض الحرية لأنها مشاركة من الإنسان في فعل المشخص المؤله فإن الأولى بالحرية أن ترفض الكسب لأنه مشاركة من المشخص المؤله في فعل الإنسان. المشاركة شرك، ويكون حينئذ الجبر أولى بالتوحيد لأنه يوجد في الأفعال، يجعلها كلها مخلوقة من الله دون أن يكون للعبد فيها شيء.
192
والشركة في الكسب تتعدى أن يكون الإنسان مشاركا في الفعل إلى أن يكون لا فعل له على الإطلاق. ما دام الإنسان قادرا على الفعل، فالمؤله المشخص عليه أقدر لأنه أعظم. وإذا كان الإنسان قادرا على تحريك شيء فالمؤله المشخص قادر على تحريك الجبال. وإذا كان الإنسان قادرا على بناء منزل صغير، فالمؤله المشخص قادر على بناء مدينة كبيرة في غمضة عين. وهكذا يتحول الأمر من إثبات قدرة الإنسان إلى إلغائها وإثبات قدرة المؤله المشخص؛ لأنه أعظم وكأن الغاية هي إثبات قدرة عظمى لموجود أعظم وليس إثبات قدرة الإنسان. وذلك فعل عواطف التأليه التي يريد المهزوم تشخيصها تعويضا لهزيمته، وتشبثا بقدرة عظمى يفتقدها أو عواطف التأليه التي يريد المنتصر إثباتها إمعانا في إثبات سلطته، ومحوا لأفعال الآخرين. في حين أن إثبات قدرة الإنسان، والإنسان وحده دون أن يقدر عليها آخر حتى ولو كان المؤله المشخص، أكثر احتراما للإنسان وأقدر تعبيرا عن عواطف التأليه على السواء؛ فهي تؤكد فعل الإنسان، وتثبت عظمة التأليه الذي لا يكون من كماله فعل شيء أقل منه، وهو فعل الإنسان. وما أتفه فيل يريد أن يثبت أنه أقدر من النملة على تحريك قشة!
193
ويدافع الكسب عن نفسه بأنه لا يعني المشاركة. ولا يعني إثبات قدرة الإنسان مشاركة المؤله المشخص في فعله، وكأن إثبات قدرة للإنسان تهمة يجب إبعادها أو ذنب يجب التكفير عنه، وكأن المطلوب إثباته قدرة عظمى فوق قدرة الإنسان؛ لأن قدرة الإنسان هي الطاغية، والقدرة العظمى هي المقهورة! ما دام الإنسان يسعى بالعلل المباشرة إلى تحقيق أفعاله، فكل محاولة لإدخال عنصر ثالث بين الفعل والأثر، أو بين العلة والمعلول ضرب من الأسطورة والغيب والطاغوت. وحتى إذا حدثت العلة دون المعلول أو حدث المعلول دون العلة فذلك لا يعني مشاركة الإنسان في فعله، بل يعني أن هناك علة أخرى قد دخلت فأحدثت الفعل وهي علة غير متوقعة، أو أن العلة التي ظن الإنسان أنها مؤدية إلى الفعل ليست هي العلة المؤثرة؛ ومن ثم يجب البحث عن العلة الصحيحة للفعل المطلوب. هذا التفاوت بين العلة والمعلول واقع في السلوك البشري، ولا يشير إلى تدخل أية علة من الخارج، بل يشير فقط إلى أن طبيعة الإنسان هي القصد والإرادة والتخطيط والمراجعة والبدء من جديد والتجريب والمحاولة والخطأ والإعادة. وما دامت هناك السنن والإرادات تحدث الأفعال دون ما حاجة إلى عنصر ثالث فوقهما.
194 (2)
يستحيل أن يكون الإنسان فاعلا على الحقيقة ومكتسبا في آن واحد؛ فهذا جمع بين ضدين. فإما أن يكون الإنسان صاحب فعله وبالتالي يكون فاعلا على الحقيقة، وإما أن يكون مكتسبا وبالتالي يكون فاعلا بالمجاز.
195
فإذا استوى الفعلان؛ فعل الإنسان وفعل المؤله المشخص، أصبح كلاهما فاعلين على الحقيقة، وهذا يستحيل أيضا؛ لأن الفعل لا يكون إلا لقادر واحد. بالإضافة إلى أنه لا مبرر هناك لفاعلين ما دام الإنسان فاعلا قادرا، وما دام المؤله المشخص فاعلا قادرا.
196
ومن المستحيل تصور وجهين للفعل، يقع أحدهما بقدرة والآخر بقدرة أخرى؛ فالفعل له وجه واحد من جهة الفاعل. ولما كان الفعل لا يحدث في فراغ بل يحدث في واقع، ويتحقق في موقف، فإن هذا الموقف ليس وجها آخر للفعل بل هو ميدان للفعل الذي يحتوي على عوامل محددة للفعل وموجهة له. ولكنها ليست واجهة أخرى للفعل تستقبل فاعلا آخر وقدرة أخرى. الشيء ذو وجه واحد، والفعل ذو وجه واحد لا يتغير ولا يتبدل، لا يتعدد ولا يتكاثر وإلا تميع وساب، وتشعبت المسئولية واستحال التوجه والقصد.
197
كما أنه يستحيل تصور فاعل واحد بقادرين؛ لأنه إما أن يحدث الفعل كله بقادر واحد، فما وجه الحاجة إذن إلى القادر الثاني؟ وإما أن يحدث الفاعل بالقادرين معا، وفي هذه الحالة ما وجه التمييز بين القادرين؟ وماذا يكون الحال لو اختلف القادران على إتيان الفعل؟ ولو تحقق الفعل فإنه يتحقق بقادر واحد الذي غلب على القادر الآخر. بل إن هذا هو أساس التوحيد، وهو ما يستعمل عادة في إثباته. فكيف يستعمل دليل التمانع في الذات والصفات ويرفض في الأفعال؟ كيف يستعمل في التوحيد ويرفض في العدل؟
198
كما أنه من المستحيل تصور فاعل واحد بقدرتين، قدرة منه وقدرة من خارجه. كل فاعل له قدرة، وقدرته واحدة، وأية قدرة أخرى تدخل في فعله تكون قدرة لفاعل آخر. (3)
ينتج الكسب من احتياج المعبود المشخص إلى قدرة يخلقها في الإنسان من أجل الكسب. ولماذا لا يفعل الله كل شيء ما دام قادرا؟ لماذا التمويه على العبد بأن يجعله فاعلا في الحقيقة وهو ليس إلا فاعلا بالمجاز؟ إن كان الكسب يرمي إلى التوحيد وإثبات قدرة المؤله المشخص المطلقة، فإنه ينتهي إلى الإقلال منه بإثبات حاجته إلى خلق قدرة يكسب بها الإنسان فعله. وهنا يكون الجبر أكثر اتساقا مع عواطف التعظيم والإجلال من الكسب. يجعل الكسب المؤله المشخص مكتسبا لأنه يتدخل في فعل الكسب. وما دام قادرا على كل شيء وقادرا على الكسب؛ فيكون إذن مكتسبا، ويكون تعلقه بالفعل على جهة الكسب يجعله مكتسبا، حتى ولو لم يحتج إلى آلة لأن اسم الفاعل لا يتضمن بالضرورة آلة.
199
وإذا كان الإنسان قادرا على الكسب، فلماذا لا يكون قادرا على كسب كل أفعاله؟ لماذا تكون قدرته منتقصة، وثقته بالنفس مزعزعة، وأنه غير قادر إلا أن يقوم بالأفعال إلى منتصفها؟ وما أسهل بعد ذلك أن يقوم بها إلى الربع ثم لا يقوم بها على الإطلاق اعتمادا على الكسب وخلق الله أفعاله فيه؛ وبالتالي ينتهي الكسب إلى الجبر المطلق. (4)
والكسب لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى الحدوث، لا حدوث القدرة بل حدوث الشيء بفعل قدرة الإنسان. ليس الحدوث هو القدرة أو الإنسان، حدوث من أجل إثبات محدث وهو المؤله المشخص، بل يعني الحدوث إحداث الشيء بقدرة الإنسان.
200
يثبت الكسب إذن بإثبات قدرة حادثة. ولكن لماذا إلغاء تأثير القدرة لكونها حادثة؟ أليس إثبات قدرة لا أثر لها نفيا لما أثبت أولا؟ أهي خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف؟ إقدام ثم إحجام مثل إثبات الصفات بلا كيف في التوحيد بعبارات مثل عين لا كأعيننا وبصر لا كبصرنا ويد لا كأيدينا!
201
وما دام الفعل يقع بقدرة الإنسان، فلماذا الإصرار على أنها محدثة؟ كما أن هذا وصف لنشأة الشيء المادية أو الفعل وليس مجرد الإتيان بالفعل. لماذا وصف القدرة بعد أن تحدث بوصف ينفيها ويلغيها ويقضي على استقلالها؟
202
ولا يعني عجز القدرة عن فعل شيء نفي القدرة، بل يعني حدوثها في نطاقها وحدودها. لا تعني القدرة على إحداث شيء القدرة على إحداث كل شيء. تفعل القدرة الإنسانية على مستواها وفي مداها. لا تعني قدرة الإنسان على الحركة أنه قادر على تغيير بناء الشيء أو على إيجاد الشيء من عدم. لا تعني القدرة على السيطرة على ظواهر الطبيعة تغيير قوانين الطبيعة وعلى إحداث ظواهر تحدث على خلافها.
203
وما دامت القدرة حادثة وليست خالقة، وما دام الفعل لا يتم إلا بقدرة خارجية أخرى، فلماذا لا يريد الإنسان تحريك الجبال ولا تأتي القدرة الخارجية لخلق الفعل فيه وتهيئة الكسب له؟ لماذا تأتي القدرة الخارجية في بعض أفعال الخاصة بالطاعة والعصيان المدني دون البعض الآخر الخاصة بالطبيعة والكون؟ أليس من شيمة المؤله المشخص الكرم والجود واللطف؟ ألا يعطي العون ويهب التوفيق؟ يدل ذلك على أن قدرة الإنسان تؤثر في مداها وحسب الطاقة لا أقل فتعجز ولا أكثر فتتبخر. وما التفرقة بين حالة الفعل وجهة الفعل وصفة الفعل إلا وسيلة لإفساح المجال لإثبات إرادة خارجية مؤثرة على جهة من جهات الفعل لا على كل الجهات أو في حالة من حالات الفعل لا على كل الحالات، ولكي يلغي كون الإنسان هو المعطي لصفة فعله وجهة حاله أي لنفي استقلال إرادته وفعله. (5)
إن إنكار قدرة الإنسان المحدثة لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى إنكار الصانع؛ لأن إثبات الصانع قائم على إثبات الحدوث، ومنها حدوث القدرة. كيف يمكن إذن إثبات قدرة الله ونفي القدرة الحادثة؟ إذا كان حدوث القدرة نفسه نتيجة لحكم مسبق هو وجود قدرة مطلقة هي قدرة القديم، فإن إثبات قدرة القديم يظل افتراضا في حاجة إلى إثبات.
204
وإن إثبات قدرة المؤله المشخص قبل الخلق وبدون القدرة الحادثة مجرد إثبات من حيث الشرف والقيمة لا من حيث الواقع؛ لأن عواطف التعظيم والإجلال تفرض صفة كاملة له. إن تصور المعبود مالكا لكل شيء وخالقا كل صورة فكر إلهي مركزي من مجتمع منتصر، ولكن من مجتمع مهزوم تكون صورة للقهر أو تعويضا عنه. فما أجمع عليه المؤلهون في مجتمع منتصر أنه مالك لكل شيء قد يجمع عليه المؤلهون في مجتمع يود الانتصار. إن الإنسان هو القادر على كل شيء.
205
هناك فرق بين الفكر في موضوع موجود وبين تخيل حالة غير موجودة ولا سبيل إلى معرفتها ثم إصدار أحكام عقلية عليها. كيف يمكن الحديث مثلا عن حال المؤله المشخص قبل الخلق أو معرفتها؟ إنه ليستحيل التفكير فيها لأن التفكير أصبح ممكنا بعد الخلق وليس قبله. إن الدليل في حقيقته مصادرة على المطلوب لأنه يبدأ بعواطف التعظيم والإجلال التي تشخص مؤلها موجودا قبل الخلق قادرا على كل شيء ثم تنتهي بإثبات نفس المشخص المؤله ونفس القدرة وكأن نقطة البداية هي نفسها نقطة الانتهاء، وكأن الغرض نفسه هو المطلوب إثباته، وكأنه لا فرق بين الخيال والواقع، بين الرأس والقدمين. (6)
ولا يعني خلق الفعل إيجاد الشيء من عدم أو إحداثه، بل تغيير بناء الواقع؛ وبالتالي فإن الجبر والكسب معا يقومان على افتراض خاطر، وهو أن الإنسان إن كان صاحب أفعاله فإنه يكون لها خالقا ومحدثا. وهذا غير صحيح، فالإنسان لا يخلق العالم بل يعمل فيه، ولا يحدث المجتمع بل يغير بناءه. يعني الخلق هنا الأثر لا الشيء الذي يقع عليه الأثر، الخلق هنا هو الخلق المعنوي لا الخلق المادي، الخلق هنا هو خلق أفعال الشعور لا خلق الأشياء في العالم.
206
هناك إذن فرق بين خلق الإنسان للشيء وفعله في العالم. الخلق تفسير لنشأة الكون، والإنسان بفعله لا يدعي أنه يفسر نشأة الكون، بل يغير فقط البناء الاجتماعي للواقع. وهذا هو معنى تأثير القدرة.
207
وما دام الأمر لا يتعلق بخلق الشيء من عدم، بل بتغيير بناء الواقع، فإن عدم قدرة الإنسان على إعادة الشيء بعد إن لم يكن لا يثبت أنه غير قادر على الفعل. وما دام الفعل الإنساني يتحقق في حدود الطاقة، فإن خلق الشيء أو إعادته ليس مثلا للفعل المقصود، وهو الفعل الذي يهدف إلى تغيير في البناء الاجتماعي. الفعل المقصود هو الفعل الإنساني لا الفعل الطبيعي.
208
لا يرجع الفعل الإنساني إلى الوراء، بل يسير في اتجاه واحد لا عن طريق النكوص. النكوص غياب للفعل وليس إحداثا للفعل. ولكن إذا توافر القصد والداعي فإن الفعل لا ينكص من تلقاء نفسه. وعدم القدرة على النكوص لا تعني استحالة التطور.
209
تحدث القدرة إذن أثرا في الوجود بمعنى تغيير في بناء الواقع وليس بمعنى أنها خالقة للوجود أو محدثة له، بل مجرد فاعلة فيه. وهي قدرة من الذات، من فعل الذات في العالم وليس مجرد انتظار فعل في نفسها. ولا يعني فعل القدرة في العالم وتعلقها بالوجود أنها قادرة على خلق الوجود أو إعدامه أو على قلب قوانينه أو عكسها، بل يعني أنها قادرة على تغيير البناء الاجتماعي للواقع. ليس الوجود هو الوجود المادي، بل الوجود الإنساني الاجتماعي. وإذا كانت القدرة تعبر عن طاقة الإنسان ومداها فإن هذه الطاقة تسري في البناء الاجتماعي للواقع لا في الوجود المادي له.
210
والبناء الاجتماعي للواقع هو ما أطلق عليه صفة الوجود. ولما كانت القدرة هي المؤثرة في البناء الاجتماعي للواقع كانت الصفات التي يختلف بها موجود عن آخر متعلقة بالقدرة. وإنكار أثر القدرة في الوجود وتعلقها بالصفة هو إنكار للفعل على الإطلاق. وما وجه الصلة بين القدرة ومقدورها إن كانت غير مؤثرة فيه؟ إن إلغاء أثر القدرة في الوجود إن هو إلا وسيلة لإرجاع الأثر إلى قدرة أخرى خارجية هي قدرة المؤله المشخص.
211
ولا يوجد ارتباط ضروري بين الوجود والصفة. وإذا وجد الوجود وجدت الصفة، وإذا وجدت الصفة وجد الوجود؛ لأن الموجود قد يوجد بلا صفة قائمة إذا لم يحدث عليه تأثير من قدرة. ولكن الموجود باق، والواقع قائم تتراءى عليه الصفات وتتبدل.
212
ليست القدرة مجرد إثبات حال، بل إثبات أثر فعلي في الوجود. الحال غير قائم ويتغير باستمرار. بل إن تغييره خاضع لإرادة خارجية إن شاءت حدثت وإن شاءت لم تحدث. بل إن شاءت حدثت ولم يحدث الأثر في الواقع، وإن شاءت لم تحدث وحدث الأثر في الواقع! وكأن الأثر يحدث مباشرة في الواقع بفعل الإرادة الخارجية، وما قدرة الإنسان إلا واجهة لا حول لها تتستر وراءها قوة أخرى خفية هي الفاعلة الحقيقية.
213
الفعل الحر هو فعل الشعور وحريته في الاعتقاد والحكم، وهو الفعل الذي يحدث تغييرا في بناء الواقع الاجتماعي. أما أفعال الطبيعة أو الغريزة فليست أفعالا حرة إلا بقدر تنظيمها والسيطرة عليها، أي بإرجاعها إلى أفعال الإرادة.
214 (7)
كيف يمكن التوفيق بين المؤله المشخص الكامل وبين حدوث الشر في العالم؟ وإذا كانت القدرة على فعل الشر مخلوقة، فكيف يصدر عن الكمال خلق الإرادة على الشر، ولو كان الشر من كسب الإنسان؟
215
لذلك ارتبط موضوع الحسن والقبح بخلق الأفعال كشقين للعدل، كارتباط الذات والصفات كشقين للتوحيد؛ لذلك آثر البعض جعل الشر من العبد والخير من الرب، وآثر التضحية بالذات في سبيل تبرئة الغير كموقف إنساني بطولي يبعث على الإعجاب والاحترام! وكيف يمكن التوفيق بين القدرة المخلوقة لإتيان الفعل وبين استحقاق المدح والذم، والثواب والعقاب؟ وإذا كان لهذه القدرة تأثير، فإن تأثيرها ما زال يرجع إلى كونها مخلوقة، ولا يستحق مدح أو ذم إلا على فعل حادث بقدرة الإنسان كلا وجزءا. كيف يمكن التوفيق بينها وبين التكليف وإرسال الرسل والبعثة؟ كيف يمكن التوفيق بينها وبين الحكمة واللطف والكرم وسائر الصفات والأسماء.
216
إن الحرية هي طبيعة الإنسان، وهي التي تميزه عن غيره من الموجودات، بل إنه يمكن تقسيم الموجودات إلى وجود مصمت ووجود حر، ويكون الإنسان وحده هو الموجود الحر. والوجود ليس حرا لأنه مخلوق، بل لأن الحرية هي الوجود الإنساني ذاته بصرف النظر عن أصل الجود المادي. الوجود أساسا وجود في العالم وليس من العالم أو من خارج العالم.
217
والحرية هي المسئولية الفردية والجماعية عن الفساد والصلاح في العالم بلا ذريعة للتهرب منها أو اتهام للذات وتبرئة للآخر حتى يعم الاستحقاق.
218 (3) تجربة الحرية
مع أن القول بخلق الإنسان لأفعاله أي بالحرية قد ظهر تاريخيا بعد عقيدة الجبر وقبل نظرية الكسب ، إلا أنه فكريا هو البديل للجبر والكسب على السواء، لما كان الجبر يجمعهما معا، كانت حرية الأفعال هي الطرف المقابل للجبر والمتربص به، وظلت كذلك حتى بعد ظهور الكسب الذي لم تر فيه الحرية إلا صورة معدلة للجبر.
219
وهي نهاية المطاف في وصف أفعال الشعور الخارجية من عقيدة الجبر إلى نظرية الكسب إلى تجربة الحرية. ولا يقف أمام الشعور فيها أي عائق يمنعه من أن يكون خالق أفعاله مسئولا عنها حتى يصح الاستحقاق في أصل العدل. ويتأكد إثبات الحرية حتى يتأكد إثبات الذات وحين يستطيع الإنسان التخلص من أنماط الفكر الإلهي، وحين تتقدم الحضارة وتؤدي دورها في التعقيل والتنظير؛ فإثبات الإنسان خالقا لأفعاله أزهر أنماط التعقيل وأعلى ما وصلت إليه الحضارة من تقدم وفعل الزمن. يصبح الإنسان فاعلا على الحقيقة لا مجرد ستار أو قناع يتخفى وراءه فاعل آخر هو الفاعل على الحقيقة، ولا يكون الإنسان إلا فاعلا بالمجاز.
220
وهكذا يبدو أن الحضارة قد مرت بثلاث مراحل في الدورة الأولى لها. أولا: بداية خروج حرية الأفعال من داخل الفكر التقليدي في إجماع الأمة الأول على أنه لا خالق إلا الله. ثانيا: استقلال حرية الأفعال عن الفكر التقليدي وبداية الصراع الفكري. ثالثا: عزل استقلال الأفعال واعتباره خارجا عن إجماع الأمة وسيادة الأغلبية. وفي بداية الدورة الثانية للحضارة منذ الإصلاح الأخير يخرج خلق الأفعال من جديد من بطن الإجماع تحقيقا لصالح الأغلبية الصامتة ضد الأغلبية القديمة التي أصبحت على مدى التاريخ الأقلية الحاكمة. (3-1) الحرية الإنسانية
الحرية ليست مقولة طبيعية، بل تعبير إنساني خالص. وإذا كان هناك جبر في الطبيعة سواء في الطبيعة الحية أو في الطبيعة الصامتة، فإن الإنسان هو ميدان الحرية. وقد يتجاوز الفعل الإنساني الحر القادر جبر الطبيعة ويخضع الطبيعة له ويسخر قوانينها لصالحه ويعدل مسارها طبقا لغاياته. ويبدو أن الحرية الإنسانية تتضمن الحتمية في الطبيعة، في حين أن الجبر يكون في أفعال البشر وحدها بفعل القضاء والقدر، ويترك أفعال الطبيعة حرة بخرق قوانينها الثابتة وسننها المطردة بفعل تدخل الإرادة الخارجية. ويؤكد ذلك معظم حركات الإصلاح إذا بعثت حرية الأفعال في الإنسان ظهرت الحتمية في قوانين الطبيعة، وإذا ظهرت جبرية الأفعال في الإنسان ظهر اللاتحدد في قوانين الطبيعة. وكانت معظم حركات التجديد والإصلاح التي تحولت بعد ذلك إلى نهضة شاملة دون أن تكبو وتنكص على عقبيها من النمط الأول، حرية في الأفعال وحتمية في الطبيعة.
والأفعال الإنسانية لها جانبان، جانب حر من حيث العقل والتروي والقصد والباعث والغاية، وجانب طبيعي من حيث إنها تتحقق في موقف تتشابك فيه أفعال أخرى وتقع فيه موانع وتتصارع فيه إرادات. فأفعال الحيوانات من «تدبير» الحيوانات ذاتها ولكنها ليست أفعالا لأنها ينقصها الروية والتدبر والعقل والغاية. هي أفعال بدنية آلية تقوم على بناء العضو وعلى غرائز الكائن الحي: المحافظة على الحياة، التغذي، النمو، التوليد، الحركة ... إلخ. لذلك امحى التكليف والمسئولية واستحقاق المدح والذم. بل كانت الحيوانات لنفع الإنسان.
221
والفعل الحر يكون حرا من جانب الفاعل، أي من الإنسان، ولكنه يكون واجبا من جانب الطبيعة، لا من ذاته، بل طبقا لمجرى العادات. يستطيع الإنسان مثلا أن يعمل على إقامة ثورة بحرية تامة وبقرار حر وبوعي فردي واجتماعي كامل. فإذا تحقق الفعل وشروطه بوجود البواعث والغايات والأفكار وارتفاع الموانع البدنية والنفسية والاجتماعية، وبتحقيق إمكانيات الثورة وحركيتها المادية من خلال الجماهير؛ تحققت الثورة بالفعل، إلا إذا تدخلت موانع غير متوقعة أو ظهر خطأ في حساب الإمكانيات النظرية الأولى أو في نقص الوعي بحركية الثورة وتنظيمها. في هذه الحالة يمكن أخذها في الاعتبار، إما في الحال والتكيف طبقا للظروف الجديدة، وإما في المستقبل استعدادا للثورة القادمة. وهذا هو معنى عدم الوجوب في الأفعال من ناحية الطبيعة.
فإذا كان الإنسان حرا، فهل يمكن القول بأنه خالق أفعاله؟ هل هناك فرق بين الفعل والخلق؟ حرصا على الحفاظ على المستويات كل اسم يشير إلى مستويين. الفعل إما إنساني كالحركة أو تغيير البناء الاجتماعي، أو طبيعي كفعل الظواهر الطبيعية. والخلق اسم يشير إلى نفس المستويين أيضا. هناك الخلق الفني من الإنسان، وهناك خلق الأشياء من عدم حين السؤال عن مصدرها. وسواء قلنا الإنسان فاعل في العالم أو خالق لأفعاله فلا فرق بين القولين لو عنينا المستوى الأول وهو الفعل الشعوري. ولا يجوز وصف الإنسان بالفعل والخلق على المستوى الثاني؛ لأن الإنسان ليس ظاهرة طبيعية فحسب وليس خالقا للأشياء من عدم. يوجد الإنسان حرا في العالم. وقد يتم فعل الإنسان وخلقه بآلة كما هو الحال في العمل الفني. وقد يقع منه مقدرا كما هو حال الفنان حين يخلق طبقا لما في ذهنه وطبقا لإحساساته ومشاعره.
222
وكانت حرية الأفعال أحد المواقف الرئيسية للمعارضة السياسية، سواء في الخارج أو في الداخل، العلنية منها أو السرية، دفاعا عن استقلال الإنسان وإرادته الحرة ورفض تدخل أية إرادة خارجية في مصيره تحدده له، سواء كانت إرادة إلهية مشخصة أو إرادة سياسية قائمة، إرادة الله أم إرادة السلطان، فالسلطة الدينية والسلطة السياسية صنوان.
223
الفعل الإنساني قائم مستقل، لا يقدر أحد على القضاء عليه. ومن يشكك في حرية الإنسان يصل إلى حد الكفر. وكلما كان الرفض جذريا كان إثبات الحرية أساسيا. وكلما رغب الإنسان السلوك الأمثل ازدهرت الحرية حتى تصبح حرية خالصة تبحث عن الكمال الخالص ويصبح كل سلوك نسبي قائم على تقدير نسبي للأمر الواقع أقرب إلى الجبر الناشئ من ثقل وتقلص في تمثل الكمال.
224
حتى المعارضة السرية تثبت الحرية إثباتا لحق الإنسان في الرفض، ومنها اشتق اسم «الرافضة». الحرية هي سبب الرفض، والرفض فعل من أفعال الحرية. يعني الرفض أن الإنسان قادر على التمييز والحكم والفهم الصحيح والقدرة على رفض السلوك الذي لا يطابق هذا الفهم؛ ومن ثم ينشأ سلوك غيره حين يتحول السلوك الأول القائم على التقليد إلى جبر بفعل الطاعة.
225
بل إن بعض الأتقياء من دعاة الأمر الواقع واستتباب النظام والرضا بالقضاء والقدر تثبت الحرية نظريا على مضض، ولكن الوقت عصيب، والظرف غير ملائم، والزمان غادر، ومن ثم يعلنونها سرا بالرغم من رفضهم الخروج والاعتزال والرفض واستسلامهم للأمر الواقع وطاعتهم للنظام المستتب. تثبت الحرية إذن في السلوك البسيط كما تقوم به عامة الناس دون إصدار حكم صريح على الأفعال. فالحرية تثبت عند الأقوياء وعند الضعفاء على حد سواء.
226
والذين أحق بتسميتهم بالقدرية ليسوا هم أنصار الحرية بل أنصار الجبر؛ إذ تثبت التسمية من إثبات الشيء أولى من ثبوتها من نفيه، كما تثبت حين يتكرر اللفظ باستمرار عند من يثبته لا عند من لا يذكره أو ينكره.
227
وذم القدرية واقع لمن يثبت القدر وينكر الحرية لا لمن ينفي القدر ويثبت الحرية. القدر مذهب مذموم لأنه كمذهب المجوس يلحق الشر والظلم وكل مظاهر النقص بالكمال.
228
وقد يكون كل ما روي في ذم القدرية بهذه التسمية التي لا تصدق على المسمى بعد أن لقب أنصار الحرية بالقدرية؛ عملا سياسيا خالصا باستعمال سلاح الألقاب حتى تخمد مقاومة السلطان، وحتى يقتنع الجمهور بأن الحال الحاضر من فعل الله وبقضائه وقدره.
229
فالمعتزلة لا يعبثون بالشرائع باسم قضاء الله وقدره، ولا يقولون بصدور القبح والشر عن الله، ولا بجواز تكليف ما لا يطاق، ولا بالجبر في أفعال الشعور الداخلية، ولا بالقضاء والقدر والاحتجاج به على المعاصي، ولا بتأييد حجج إبليس في الغواية، ولا بالكلام في القدر. يفصلون بين القدر والقدرة، ويقولون بالاختيار وبتنزيه الله عن القبائح وبجعل المعرفة شرطا للفعل الحر. ترى النبوة ممكنة، وتضع الدواعي والمقاصد وراء الأفعال، وتضع قانون الاستحقاق. (3-2) إثبات الحرية
في الحقيقة لا تحتاج الحرية إلى إثبات؛ فهي أمر بديهي يشهد به الحدس والوجدان، ويفضل الإنسان أن يضحي بحياته في سبيل أن يكون حرا هو أو شعبه. وهو ما حاولت بعض الحركات الإصلاحية الحديثة إبرازه.
230
فإن قيل: إذا كانت الحرية موجودة يقينا وبداهة، فلم إثباتها؟ قيل هناك من ينفيها ويثبت عقيدة الجبر أو نظرية الكسب. فحجج إثباتها هي في الحقيقة حجج مضادة تجاه خصومها. حجج جدلية لتفنيد حجج الخصم وليست حججا برهانية لإثبات موضوع ليس في حاجة إلى إثبات. فإن قيل: كيف ينظر في شيء ابتداء وهو غير يقيني؟ قيل: ينظر فيه حتى يتحول إلى يقين. وهذا هو طريق العلم والبرهان. فإن قيل: إن إثبات الحرية يؤدي إلى إثبات فعل حر، ولكن المطلوب هو الفعل الحر المتجدد قيل: الوجود المتجدد للفعل الحر حاصل بالتولد دون أن يؤدي التجدد إلى إنكار للحرية أساسا كما هو الحال في نظرية الكسب.
231
ومع ذلك، فنظرا لوجود الاشتباهات التي أثارها الجبر والكسب، يمكن إثبات حرية الأفعال بصياغة براهين عقلية على الطراز القديم ضد الجبر والكسب ودفاعا عن الحرية. وقد تكون بعض الحجج بينها مشتركة يتم تأويلها مرة لحساب الجبر أو الكسب ثم يعاد تأويلها لتفنيدهما ولإثبات الحرية. منها: (1)
التفرقة بين الحركة الاضطرارية والحركة الاختيارية. وهي تفرقة تثبت الحرية بناء على الحركة الاختيارية، كما أخذ الجبر والكسب نفس التفرقة لنفي الحرية بناء على الحركة الاضطرارية.
232
والحقيقة أن وجود الحركة الاضطرارية لا ينفي الحرية؛ فالحريات لحظات أفعال وليست حرية طول الوقت. هناك أفعال تتم بالبدن وبالمران وبالعادة وبالتقليد، هناك أفعال أخرى، أفعال الرؤية والعزم، هي أفعال حرة. بل إن حركة الارتعاش قد تكون انعكاسية عضوية صرفة، لا تثبت جبرا أو كسبا ولا تنفي حرية. وكثيرا ما تتجاوز الأفعال الحرة أفعال الجوارح إلى أفعال القلوب أو أفعال الشعور التي هي من أساس الأفعال الإرادية التي تبدو في آخر مراحلها كأفعال للبدن. (2)
وجود الباعث أو القصد هو أكبر دليل على أن الإنسان صاحب أفعاله؛ فالفعل تابع للقصد والداعي. ولا يعقل وجود الباعث أو القصد أو الداعي ثم يكون الفعل من فعل غيره، وإلا ففيم كان هذا القصد وذلك الداعي؟ إن كل الأفعال المقدورة هي الأفعال القصدية، والأفعال غير المقدورة هي كذلك لأنها ليست قصدية. لا يعني أنها غير مقدورة للإنسان أنها مقدورة لإرادة خارجية مشخصة؛ فذاك افتراض محض. بل إن قدرة الآلة على ما يقدر عليه الإنسان وإن كانت قدرة فعلية إلا أنها ليست فعلا لأنه لا يتوافر فيها القصد إلا من خلال الإنسان الذي صنع الآلة لهذه الغاية، وأفعال الآلة ذاتها خالية من القصد.
233
ولا يقال إنه حتى لو حدثت الأفعال طبقا للباعث والداعي والقصد، فإنها تحدث طبقا لمجرى العادات، لأن مجرى العادات يثبت أن الإنسان صاحب الفعل. وليس معنى اطراد الحرية أنها أصبحت من فعل العادة وأن الأفعال تتحقق بطريقة آلية حسب مجرى الأمور؛ لأن الحرية أحيانا تخرق سير العادات وتبطلها إذا ما تحولت العادة إلى ضغط وقهر، أي إذا ما تحولت ضد الحرية. يثبت الشاهد تعلق الفعل بالإنسان، وهذا هو حكم العادة.
234
ولا يقال إن في الفعل الحر تتدخل إرادة خارجية مع الباعث والقصد والداعي تجعله ممكنا لأنها ليست واقعة في الشاهد، ولم تطرأ به العادات.
235
ولا يقال إن فعل الساهي ليس فعلا حرا لأنه ليس به شرط الفعل وهو الوعي والروية؛ فهذا هو العكس لا الطرد. الفعل الحر هو الفعل الإرادي المروي لا الفعل اللاإرادي.
236
وجهة تعلق الفعل بالإنسان هي جهة الحدوث. وليس أدل على ذلك من تجارب الإنسان نفسه ومشاهداته لأحواله؛ فالإنسان صاحب فعله يحدث أفعاله.
237
ولا يجوز أن تكون جهة النطق هي الحلول؛ لأن هناك فرقا بين الأشياء والأفعال. حلول الألوان في الأشياء جائز، أما الحلول في الأفعال فإنه لا يجوز؛ الأفعال صادرة عن البواعث والقصود والدواعي.
238
وإضافة فعل الإنسان إليه نفي لأن يكون الإنسان صاحب فعله. ولا يعقل أن يضيف الإنسان إليه ما ليس له إلا زهوا وفخرا أو احتيالا ونصبا، وهذا أيضا واقع ولكنه ليس عاما.
239
واعتراف الإنسان بأفعاله يدل على أنه صاحبها، خاصة ولو كان اعترافا بأفعال يخجل منها ويدينها.
240
ولما كانت أفعال الإنسان قد تحدث وقد لا تحدث، قد تنجح وتفشل، قد تصيب وتخيب، فإنه لا يمكن إضافتها إلا في الإنسان نفسه، لا يمكن إضافتها إلى أي كمال وإلا كان كمالا ناقصا.
241 (3)
وما دامت الأفعال واقعة بالقصود والدواعي، فإنها تكون صادرة عنها لا طبقا لإرادة مسبقة على البواعث أو لاحقة عليها، وهذا لا يمنع من الاستبصار في السلوك والتنبؤ بما يقع في المستقبل وإحصاء تجارب الماضي ومعرفة مصير الحوادث وكيفية وقوعها. ولكن كل تنبؤ نسبي لأنه يتوقف على درجة العلم إما بتجارب الماضي أو بالقدرة على الاستخلاص والتفسير والفهم للحاضر.
242
وإثبات الحرية ينفي أية شبهة للقضاء والقدر أو الجبر، أو أي قدر مسبق، بل يعني القضاء إتمام الفعل والفراغ منه أو الإلزام الذاتي أو الإخبار والإعلام.
243 (4)
التمييز بين الحسن والقبيح، بين الإحسان والإساءة، بين المدح والذم يدل على أن الإنسان له قدرة على الحكم ومن ثم على الاختيار. لو كان الإنسان مجبرا لما لزمت هذه القدرة. وفيم التمييز والفعل واقع لا محالة دون حاجة إلى تدبر ووعي وإحكام نظر؟ هذا هو حكم العقل، والعقل لا يشوه نفسه لعلمه بحسن الأفعال وقبحها إن لم يكن في الشرعيات، فعلى الأقل في العقليات.
244
فتمييز الإنسان بين الحسن والقبح إثبات للحرية واختيار لأحدهما دون الآخر. يثبت العقل الحرية كما تثبت الحرية العقل إذا كانت حرية عاقلة قائمة على التمييز. (5)
ولا يعقل تكليف بلا قدرة أو أمر بلا إرادة.
245
يدل حسن الأمر والنهي وغيرهما من الأحكام على أن الإنسان قادر على الفعل وعلى أن يكون فعله موضوعا للحكم.
246
وما دام الإنسان مطالبا بالطاعة فإن الفعل ممكن، وما دام الفعل ممكنا فإن الإنسان حر.
247
والأمر هو خطاب لآخر، ولا يكون هناك أمر للنفس بل للآخر. وما دام الآخر موجها بالخطاب فهو قادر على الفعل.
248
والأوامر معللة بعلل، ولا توجد أوامر بلا علل. والقدرة علة الفعل. فلا يمكن إنكار التعليل في الأحكام؛ لأن الأحكام قائمة على التعليل. كما لا يمكن القول بأن هناك علة واحدة لكل شيء هي سبب كل الأفعال، فذلك انفعال وليس تفكيرا، إيمان وليس عقلا، تمن وليس واقعا.
249 (6)
وإثبات الحرية أدعى إلى إثبات العدل ونفي الظلم في عواطف التأليه. لو لم يكن الإنسان صاحب أفعاله، وكان في الوقت نفسه مكلفا محاسبا لكان واقعا تحت ظلم وجور. الحرية إذن هي المؤدية إلى العدالة في الكون ونفي صفات الظلم والجور عن صفات الكمال؛ لذلك كانت الحرية المبحث الرئيسي في مباحث العدل.
250
كما أن إثبات الحرية أدعى إلى إثبات عواطف الكمال والإجلال والتعظيم من نفيها. في الحرية يكون الإنسان صاحب فعله، مسئولا عما يأتي به من قبح أو شر. فلو كان فعله مخلوقا لكان الخالق هو المسئول عن هذا القبح أو ذاك الشر. وكيف يكون الكمال مسئولا عن النقص؟ وكيف يصدر النقص عن الكمال؟ إن مدح المؤمن على الإيمان، وذم الكافر على الكفر، ووعد الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية يدل على أن الإنسان صاحب فعله ومسئول عنه. فلا حكم دون استحقاق.
251
وما دام هناك حساب وعقاب، فلا حساب ولا عقاب بلا حرية أو مسئولية.
252 (3-3) الإرادة
إذا ثبتت الحرية يظهر الفعل الإنساني ومكوناته، الإرادة أو الاختيار، الروية، القدرة، الاستطاعة، الزمان، التولد ... إلخ، وكلها تقوم على تحليل الفعل الإنساني تحليلا موضوعيا إنسانيا بلا أفكار مسبقة ودون فكر إلهي مقلوب. فالإرادة في الفعل الإنساني إرادة اختيار وذلك بفعل الروح؛ فالروح هي الباعث على الاختيار، ولولا أن الروح في بدن لكان الإنسان كله اختيارا ولكن البدن تحديدا له.
253
الإرادة اختيار ولكنها ليست مختارة لأنها لا تختار نفسها. الإيثار هو الاختيار والإرادة. والمراد لا يكون إيثارا ولا اختيارا؛ لأنه تعبير عن طبيعة.
254
الإرادة تعبير عن الذاتية الخالصة والتي لا تكون موضوعا لنفسها. والإرادة هي الباعث على الفعل، أي إنها ليست قوة منفصلة تزيد على الباعث بل هي الباعث نفسه في حالة التوتر والانفعال. الإرادة إرادة الحياة أو إرادة القوة أو إرادة النصر لا تزدوج ولا تتزاوج.
255
ولما كانت الإرادة هي الباعث، والباعث هو النفس، ومن ثم لا تدعو النفس إلى الإرادة ولا يدعو إليها الخاطر لأنها تعبير عما بالنفس ولا تنتظر الدعوة.
256
والإرادة هي الضمير لأن الفعل يتضمن في باطنه قيمة وحكما خلقيا. ولا يهم تعيين محل للضمير في النفس أو في الإرادة أو في الروح؛ فالضمير ليس في محل.
257
الإرادة خلقية، والفعل خلقي. فإن كانت الأخلاقية هنا تبدأ من الداخل إلا أنها تنتشر إلى الخارج، وإن كانت تبدو فردية إلا أنها جماعية. فإن قيل: هل الإرادة موجبة لمرادها أم أنها ليست كذلك؟ قيل: من حيث المبدأ الإرادة موجبة لمرادها. ولكن المراد موجود في مواقف وبه موانع، وله شروط، وهذا هو تحدي الإرادة.
258
ولكن في حال الإيجاب هل يقدر الإنسان على فعل المراد؟ هذا سؤال صوري خالص لأنه إذا ما توفرت الدواعي والبواعث والمقاصد وامحت الموانع وتوافرت الشروط، فليس هناك ما يدعو إلى أن تأتي الإرادة بغير المراد وإلا كان عبثا وتحولا فجائيا لا مبرر له. وليس الأمر مجرد حركة وسكون واختبار عقلي بل هو فعل إنساني مصيري.
259
والفعل الحر هو الفعل المروي المقصود. وتختلف درجات الفعل طبقا للقصد والروية. الفعل البدني الخالص كالفعل الشرطي ليس فعلا قصديا؛ ومن ثم ليس فعلا حرا لأنه يفتقد الروية والقصد. وأفعال الساهي والنائم، وإن كانت أفعالا لا إرادية إلا أنها أفعال غير شعورية يغيب منها القصد والروية، ومن ثم فهي ليست نموذجا للفعل الحر. وإذا تم فعل شعوري ولكن عن إكراه وإلجاء فإنه لا يكون أيضا فعلا حرا لأن الفعل الحر هو الفعل الشعوري القائم على قصد وروية واختيار.
260
ولما كانت أفعال السهو والنسيان والنوم ليست أفعالا حرة لا يتوافر فيها القصد والباعث، فلذلك أفعال الاضطرار والإلجاء ليست أفعالا حرة لوجود موانع الاضطرار، قيد بدني لعضو أو تكبيل الإنسان وسجنه أو وضع السيف على رقبته.
261
لا يتحقق الفعل المروي بطريقة آلية بلا وعي أو قصد لأمر وطاعة عمياء وإلا تحول البشر إلى مجرد آلات تسيرها الأوامر. والقصد سابق على الفعل حتى يتم التدبير وتحصل الروية. ولكن قد يحدث في حال الفعل أن يحقق الإنسان فعلا آخر بقصد متجدد كما هو الحال في الفعل الفجائي، ولكنه فعل عارض وليس هو الفعل الأول.
262
ليس الفعل الحر فعلا عفويا بل هو الفعل القصدي، وبالقصد الأول. قد يأتي الإنسان بفعل لا يقصده فلا يكون فعلا، والقصد هو غاية الفعل عندما يتمثلها الشعور. ليس القصد متعاليا بل هو تغيير للواقع وتطوير للطبيعة كي تصل إلى كمالها. والطاعة التي لا يراد بها الله ضد الأعمال بالنيات.
263
وهذا لا ينفي حسن الطوية والمشاعر الإنسانية الطبيعية. ولو كان الفعل قائما على القصد مع خلاف في فهم القصد فإن الفعل يكون فعلا حرا. فسواء تم الفعل لذات الفعل أو تحقيقا لرسالة الذات وتعبيرا عن طبيعتها أو تغييرا للواقع أو دفاعا عن حقوق البشر ودفاعا عن الإنسانية، فالقصد واحد ولكن يختلف فهمه. والمؤله المشخص كما ظهر في التوحيد مجموع الغايات والمقاصد التي يهدف الإنسان إلى تحقيقها، ولكنه لا يحققها بالفعل، إما لعجزه أو لكسله ونفاقه؛ فيشخصها ويتصورها متحققة في عالم آخر خارج هذا العالم ويقف أمامها موقف المتعبد المعجب الولهان، الباكي الشكيان. أما إذا تحققت هذه الغايات بالفعل، وكانت الغايات مقاصده، فإن الفعل يكون حرا يتوافر فيه القصد والروية وإن لم يكن طاعة للمؤله المشخص، بل كان تحقيقا للغايات الإنسانية العامة. وهما في الحقيقة الشيء نفسه ولكن على نحوين مختلفين؛ الأول رمزي تشخيصي أسطوري، والثاني عملي علمي. صورتان مختلفتان ومضمون واحد، لغتان متباينتان وشيء واحد.
264
والنظر جزء من الروية؛ لأن الروية قصد ونظر. وإعمال الفكر والنظر والبحث عن الحقيقة وتأسيس العلم، كل ذلك بنفسه فعل، حتى وإن لم يحقق غاية. النظر مقدمة للفعل وشرط له. هو الفعل الممكن قبل الفعل المتحقق.
265
وهنا يبرز سؤال: هل الإنسان قادر على ما لا يخطر بباله؟ فهناك فعلان: الأول: الفعل المروي المختار القائم على أساس عقلي واضح وهو الفعل الأمثل. والثاني: أنه قد يحدث في ساعة تحقيق هذا الفعل أو في ساعة أخرى أن تحدث قوى غير متوقعة لشدة تمثله للباعث أو لضعف الباعث عند الفعل المعارض، أو يطرأ على ذهن الفاعل فجأة أساس فعل مستقى من الموقف فيقع فعل ولم يتأمله من قبل. هذا الحادث غير المتوقع دليل على الحرية وعلى أن الإنسان مجموعة من الإمكانيات، خاصة إذا كان متميزا بشعور يقظ، متمثلا صحة الهدف وواعيا بإمكانية تحقيقه في هذه اللحظة التاريخية.
266
وهنا ينشأ السؤال الثاني: هل يحس الإنسان ما لا قدرة فيه؟ هناك أيضا حالتان: الأولى واعية تعبر عن وجود الإنسان؛ فالوجود محل الإحساس، ولا يمكن الإحساس بشيء غير موجود. الإحساس بالقدرة الموجودة ممكن، ولا يمكن للإنسان أن يشعر بقدرة غير موجودة. ولكن هناك حالة أخرى لا يشعر الإنسان فيها بقدرته الموجودة، حالة صاحب الحق المهضوم الذي يمكنه بالتنظيم والمقاومة الحصول على قدرة تجعله ينال حقه. فهو إمكانية غير مستغلة، وأغلبية شعب مهضوم الحق قوة كامنة لا تشعر بها الأغلبية، ولا توجد بالفعل إلا بالتنظيم، فهذه قدرة لا يشعر بها أحد.
267
وهناك حالات أخرى تكون القدرة موجودة ولكن ينقصها الباعث. فالناكص على عقبيه يشعر بأن لديه قدرة ولكنه لا يريد استعمالها؛ لعدم توافر الباعث. والعاجز المستجيب لنداء الجهاد يشعر بألم النكوص مع أن القدرة غير متوافرة لديه لوجود المانع، وكذلك السجين. هذه القدرة المفاجئة غير المتوقعة الناتجة من صحة الهدف وقوة الباعث هي ما يسمى بالتوفيق والسداد والفضل والنعمة والإحسان واللطف. وهي قوة نابعة من الإنسان، ولا تعطى من خارجه بفعل إرادة خارجية لو فعلت حمدت ولو لم تفعل ذمت.
268
القدرة هي مجرد التعبير عن طاقة الإنسان وقدرته على الفعل. فإذا كانت الإرادة هي فعل الروح في البدن فإن القدرة هي فعل الإنسان من حيث وجود اجتماعي. وتكون الاستطاعة فيما بعد هي القدرة اللازمة لفعل معين في لحظة معينة وفي مكان بعينه.
269
لذلك يجوز أن توجد في الإنسان قوة ولا يقال هو قوي؛ لأن القوة ليست موضوعا مجردا يثبت أو ينفي، بل إمكانية تحقق في موقف. فالقوة في موقف لا تتوافر فيه الشروط أو بوجود موانع أقوى لا تكون مؤثرة. قد توجد قوة نظرية ولكنها غائبة عمليا وليس الأمر دراسة تحليلية كمية لأجزاء القوة ونسبها.
270 (3-4) القدرة
ظهرت الحرية الإنسانية من قبل في بطن القدرة الإلهية في الصفات الثلاث: العلم والقدرة والحياة. وكان إثبات صفة القدرة يؤدي إلى إلغاء الحرية الإنسانية، كما أن إثبات الحرية الإنسانية يؤدي إلى إلغاء القدرة. ظهرت الحرية الإنسانية في مقابل القدرة الإلهية تعلن عن وجودها وتثبت حقها في الفعل الإنساني وإن لم يكن الحق كله. ولم يكن ذلك حجرا على الله بل كان إطلاقا لحرية الإنسان. فالموقف الإنساني يحتم علينا الدفاع عن حرية الإنسان؛ فهي المهددة من كل جانب، وليس الدفاع عن حرية الله؛ فهي المصونة فوق كل اعتبار.
271
القدرة أمر واقع يجده الإنسان من نفسه. وهي ليست موجودة طول الوقت، بل تظهر بوجود الباعث والغاية والفكرة الموجهة.
272
ليست القدرة القوة البدنية وحدها بل القدرة التي تعبر عن الوجود الإنساني كله؛ هي القدرة على إحداث الفعل الاجتماعي وليست مجرد القدرة على تحريك الأعضاء. وكما أن القدرة ليست قوة بدنية، فإنها أيضا ليست ملكة نفسية أو حاسة، بل تعبير عن طبيعة الإنسان ودعوته في الحياة. هي تعبير عن الوجود والطبيعة أكثر منها تعبيرا عن قوة الفعل وملكات النفس. القدرة هي الحياة، والحياة هي القدرة. لا تأتي القدرة إلا من حي، والحي لا يكون إلا قادرا، ليست الحياة هي الحياة العضوية؛ لأن القدرة ليست هي القوة العضلية بل الحياة الفعلية، حياة الخلق والجهد والمقاومة. ليست الحياة هي مجرد الحياة الوظيفية كالتغذي والنمو والتوليد والإحساس والحركة بل هي حياة الوعي والشعور. فإن قيل: هل يكون الإنسان حيا مع قدرته؟ قيل: لو كانت الحياة هي الحياة الوظيفية لجاز أن توجد مع عدم القدرة. أما لو كانت الحياة حياة الشعور والوعي والفعل والجهد والغاية، فإنه لا توجد حياة بلا قدرة، بل تكون الحياة هي القدرة، والقدرة هي الحياة. فلا حياة لعاجز ولا عجز لحي. ولا يعني استقلال الجواهر هذا الوجود المنفعل، بل يعني عدم ازدهار الجواهر.
273
وإذا وجدت قدرة بلا حياة كما هو الحال في التولد، فإن ذلك لا يعني غياب الحياة على الإطلاق، بل وجود الحياة أولا ثم صدور القدرة منها ثم استمرار القدرة كدليل على الحياة؛ لذلك كانت الحياة شرط العلم والقدرة في الصفات. وتزيد القدرة وتنقص، تشتد وتضعف شأنها شأن ظواهر الحياة. وتتحدد الزيادة والنقصان بتوافر وجود عوامل الفعل على الوجه الأكمل: شدة الباعث، وضوح الرؤية، كمال الغاية، طبيعة الموانع ... إلخ.
274
وهذا لا يعني أنها عرض لأنها تتغير، بل القدرة جوهر؛ لأن الإنسان بلا قدرة يتحول إلى جماد لا يؤثر بل يقع عليه التأثير. ولماذا يكون الجوهر بالضرورة هو الجماد الذي لا يتغير ؟ لذلك آثر البعض جعلها جوهرا مستقلا توجد أو لا توجد دون أن تتراوح بين الشدة والضعف. وإذا كانت القدرة هي الوجود فإنها تكون أقرب إلى الجوهر؛ فالوجود جوهر.
وتعلق القدرة بالوجود تعلق الفاعل بميدان الفعل؛ فالقدرة تفعل في العالم، وهذا هو تعلقها به ودون أن تكون مصدره. سؤال النشأة سؤال مادي خالص، والقدرة لا تبغي إلا التأثير في الواقع لا البحث عن نشأته المادية. وعدم تعلق القدرة بالوجود المادي هو أنه تعلق خاطئ وإغفال لغاية القدرة وفعلها لا حرصا على تنزيه قدرة أخرى من التعلق بالموجود أو حرصا على الإبقاء على النشأة من عدم. لا يحتاج وصف الكمال إلى تشبيه بقدرة الإنسان وإن كان ما يحدث بالفعل هو التشبيه، إعطاء الكمال صفات الكمال الإنساني ونفي مظاهر النقص عنه.
275
ليس الفعل مجرد وجود شيء بعد أن لم يكن؛ فهذا وصف للفعل على مستوى الوجود بعد إسقاط الفعل ذاته، وبإسقاط الفعل يسقط الفاعل. لا يوجد الوجود بلا فاعل. ولا يعدم العدم بلا فاعل. وإذا حدث تغيير في الوجود فذلك يعني وجود فاعل وغاية وقصد بالإضافة إلى القدرة والأثر.
276
تثبت القدرة بإثبات الفعل، ويثبت الإنسان قادرا بإثباته فاعلا على أن يتحقق الفعل بشروطه: الروية والقصد والباعث. فقد يحدث الفعل بلا روية أو قصد أو باعث ولا يثبت أية قدرة إلا بقدرة عقلية عمياء هوجاء. ولا يثبت الفعل بإثبات القدرة وحدها بدليل التولد وهو فعل بدون قدرة.
277
قد توجد قدرة دون فعل، وهي القدرة السابقة على الفعل قبل إتيانه انتظارا لتحقيقه، أما إذا وجدت الموانع فإن القدرة في هذه الحالة لا توجب الفعل لوجوب الموانع.
278
والفعل هو الفعل الموضوعي، والقدرة هي القدرة الموضوعية. فالفعل والقدرة هما اللذان يوجدان عند الآخرين.
279
والقدرة حادثة قادرة على الإيجاد. والدليل على ذلك التجارب الحية عند الإنسان؛ إحساسه بوقوع الأفعال حسب الدواعي والصوارف، يشعر الإنسان بذلك في نفسه ضرورة. وجحد الضرورة جحد للدواعي وللصوارف. كما أن المقدرة الحادثة مناط التكليف، وهو بدوره مناط الثواب والعقاب.
280
والقدرة من جنس واحد ، تظهر في محال مختلفة لأن الباعث واحد، والغاية واحدة؛ فالقادر على نصرة المظلوم في جماعة قادر عليه في كل جماعة، والقادر على قول كلمة حق في وجه حاكم جائر قادر عليه في أية جماعة وفي أية لحظة بشرط ارتفاع الموانع.
281
ويمكن للقدرة الواحدة أن تحدث عديدات من المقدورات؛ فالقادر على التضحية يمكن أن يضحي بنفسه في سبيل عديد من الأفراد والجماعات. ولكن هذه المقدورات جميعها تهدف إلى غاية واحدة.
282
ويمكن أن تأتي القدرة بعديد من الأفعال المتماثلة دون أن تتحول هذه الأفعال إلى تكرار آلي، وذلك لحيوية الباعث، وشوق الفاعل إلى الفعل والاستمرار في الفعل تعبيرا عن كمال طبيعته. ولا يعني ذلك أن جزءا من القدرة يأتي جزءا من الفعل تعبيرا عن كمال طبيعته. ولا يعني ذلك أن جزءا من القدرة يأتي من الفعل لأن القدرة لا تتجزأ كما وكذلك المقدور. تتفاوت القدرة شدة وضعفا، طبقا لشدة الباعث وضعفه، والمقدور طبقا لوجود الموانع أو عدمها.
283
وكما تكون القدرة قدرة على المتماثلات فإنها تكون أيضا قدرة على المختلفات. ولا يعني الاختلاف هنا اختلافا في الباعث أو القصد أو الغاية، بل تباين عديد من البواعث والمقاصد والغايات وتفاوت درجاتها من حيث القيمة والشرف؛ فالقادر على منفعة فرد بعينه قادر على منفعة المجموع طبقا لمدى وقوة الباعث وكمال القصد.
284
وكما أن القدرة تأتي بالمتماثلات والمختلفات، فإنها تتعلق أيضا بالمتضادات. ولا يعني التضاد هنا أن الإنسان قادر على إتيان الشيء ونقيضه؛ لأن الغاية توجه السلوك نحو القصد. ورسالة الإنسان ذات خط واحد تعبر عن طبيعته ووجوده، بل تعين إثباتا للحرية لأنه لو لم يكن الإنسان قادرا على الشيء وضده لكان مجبرا على الشيء وغير قادر على سواه. إثبات القدرة على الضد ضرورة نظرية لإثبات الحرية، ثم تأتي الطبيعة فتقدر عمليا على فعل الشيء المحدد بالغاية.
285
وقد تكون القدرة على الضدين لاتحاد الباعث والغاية والقصد واختلاف الوضع. القدرة على حب الشعب المضطهد قدرة على كراهية الطاغية. والقدرة على حب العدل قدرة على كراهية الظلم. والقدرة على فعل الإيمان في واقع مبني على الإيمان قدرة على مقاومة الكفر في واقع يدعو إلى الكفر. فإذا كانت القدرة قدرة على شيء واحد لا على ضده يكون ذلك وصفا للفعل الموجه الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يتوقف والذي يعبر عن رسالة الإنسان وطبيعته ومقصده وغايته. إذا كان الموقف نابعا من طبيعة الإنسان فلا يستطيع الإنسان أن يغير طبيعته. أما إذا استوى الطرفان، فإن الدافع الأقوى هو الذي سيحدد أي الفعلين.
286
وقد يطرح السؤال بالنسبة للترك أيضا: هل ترك الشيء هو فعل ضده؟
287
والقول بأن القدرة على الشيء هي أيضا قدرة على تركه في حال حدوثه قول مبدئي خالص حتى تكون الحرية ممكنة نظريا. لو لم يكن الإنسان قادرا على الفعل والترك لما كان حرا. الترك هنا دليل على الحرية. والفعل بلا ترك قد يوقع في الجبر. وقد تكون القدرة على الامتناع عن الفعل أكثر تعبيرا عن الاستطاعة والحرية من القدرة على إتيان الفعل. القدرة هي قدرة على الفعل وعلى عدم الفعل. بل إن عدم ذاته نوع من الفعل لأنه إحجام عنه.
288
الترك هو فعل عن طريق الغياب كما أن التولد فعل عن طريق غياب الفعل المباشر. الترك قبل الفعل المباشر والتولد بعده. ليس المهم في الفعل والترك دراستهما على نحو ميتافيزيقي، هل الترك غير التارك وهي قضية الذات والصفات، أو على نحو طبيعي هل هما حركتان للإنسان في الفعل وعدم الفعل على حد سواء.
289
المهم دراستهما على نحو سلوكي إنساني خالص. كل فعل إقدام وإحجام. والإحجام أي عدم الفعل هو نوع من الفعل يتطلب جهدا وقدرة واستطاعة وباعثا وقصدا وروية ولكن من الناحية الفعلية، القدرة على شيء طبقا للباعث والغاية والقصد لا تكون قدرة على تركه. فالقادر على التضحية لا يقدر على النكوص، والقادر على خدمة الشعب لا يقدر على الإساءة إليه، والقادر على الجهاد لا يقدر على القعود وإلا ضعف الباعث وضاع القصد وعدمت الغاية. أما الذي لا باعث له ولا قصد ولا غاية فهو قادر على فعل الشيء وتركه. الترك هو مثل الضد أو نصفه. فما أن يحدث الفعل طبقا للغاية والقصد لا يمكن تركه أو تبديله لأنه أصبح تعبيرا عن وجود الإنسان وحياته. إن كان الترك ممكنا قبل الفعل كدليل على الحرية فإنه بعد الفعل يكون قد عبر عن طبيعة الإنسان وحقق غايته ومقصده.
290
وكما يسأل: هل الفعل فعل لفعلين؟ يسأل أيضا: هل الترك ترك لمتروكين؟ ولا إجابة إلا بتحليل تجربة بشرية؛ إذ يمكن للإنسان أن يمتنع عن فعلين في آن واحد.
291
وكما سئل من قبل: هل يفعل الإنسان ما لا يخطر بباله؟ كذلك يكون السؤال في الترك: هل يترك الإنسان ما لا يخطر بباله؟
292
ولما كان شرط الفعل الروية والقصد، فكذلك شرط الترك. والترك فعل من أفعال القلوب أو الجوارح كما كان الفعل أيضا.
293
وكما يحتاج الفعل إلى إرادة يحتاج الترك أيضا؛ فالإرادة إما للفعل أو الترك.
294
وقد يتحول الفعل إلى ترك والترك إلى فعل إذا ما تغيرت البواعث والمقاصد.
295
وكما يثار في الفعل موضوع استمرار الفعل وبقائه في الفعل المتولد، كذلك الترك هل هو باق ومتولد؟ فطالما ذهب الباعث والقصد من الترك الأول يظل في الترك الثاني.
296
وقد يثار الموضوع نفسه على نحو آخر وبتعبيرات أخرى بدل الفعل والترك مثل الأمر والنهي، والإرادة والكراهة، والإثبات والنفي. وذلك في صيغة مثل: هل الإثبات نفي؟ ويتراوح التحليل بين التحليل للشيء المادي والتحليل للفعل الإنساني أو الجمع بينهما، مثل تحليل الأمر والنهي وكأنهما حركتان وليسا فعلين. ويرجع الخلاف في ذلك إلى إحالة الفعل الإنساني إلى بناء صوري عقلي أو الإبقاء على فرديته وخصوصيته، كما هو الحال في علم الأصول والتوتر فيه بين العقل والواقع.
297
ولما كان الفعل واقعا بالقدرة، فإنه يستحيل تكليف ما لا يطاق، سواء في أفعال الشعور الداخلية أو الخارجية، نظرا لمقارنة الإرادة بالمراد، والقدرة بالمقدور، ولأن تكليف ما لا يطاق قبيح ولا يجوز على الله فعل القبح.
298
ونظرا لأهمية القدرة بالنسبة إلى الحرية، وعلى نقيض الطاقة في عدم جواز التكليف بما لا يطاق أصبح العجز، وهو نقيض القدرة، أحد مباحث الحرية دون أن يكون كذلك في الجبر أو الكسب اللذين لا يتعلق المقدور فيهما بقدرة الإنسان، بل بقدرة خارجية لا ينتابها العجز بأي حال؛ إذ إنها قادرة على الإطلاق. العجز نقيض القدرة، وهو حالة طارئة على الإنسان تمنعه من ممارسة القدرة. الإنسان حي قادر مستطيع بنفسه لا بغيره، حتى تحدث به آفة وهو العجز. والعجز غير الإنسان. الإنسان من حيث المبدأ قادر على الفعل، وقدرته ذاته، في حين أنه عندما تعرض له آفة يكون الوهن غيره. لا يعني حدوث العجز أن الإنسان مستطيع بغيره، وأن الاستطاعة غيره، بل يعني أن الإنسان مستطيع بنفسه والعجز غيره. القدرة هي المبدأ، والعجز هو الاستثناء.
299
ولا يعني العجز أنه ضرورة ما دام حالة عارضة على القدرة، كما لا يفيد أي جبر من البدن أو من العالم الخارجي.
300
العجز حالة للإنسان القادر الممنوع من إتيان الفعل، هو حال العاجز.
301
وقد يكون العجز منعا من الفعل إما لقيد وحبس وذلك لزيادة قوة القيد أو لعارض أو لفقد الآلة.
302
العاجز عن شيء قادر على أشياء أخرى. يتعين العجز في فعل، لا في كل الأفعال. وما دام العجز حالة طارئة في وقت معين لفعل معين لوجود مانع معين، فإنه إذا ما تغيرت الحالة والوقت ونوع الفعل ظهرت القدرة من جديد.
303
العجز الوحيد الدائم هو العجز الذي يستمر لغياب الوعي والهدف والقصد. ولما كان الإنسان رسالته فإن الإنسان نفسه يكف عن الوجود والحياة. الموانع البدنية عارضة كالقيد والحياة العضوية.
304
ولا يعني توقفها نهاية القدرة واستمرار العجز لأن الإنسان يكون مؤثرا بعد حياته بعمله وسنته وأفكاره وآثاره وسيرته وقدوته ومثله وغاياته ونموذجه. العجز الدائم ليس توقف الحياة بل توقف الوعي؛ فالحياة هي حياة الشعور.
305
إن أفعال الإنسان سواء كانت أفعال القلوب أم أفعال الجوارح لا تتوقف بعد الموت؛ فالذين يقومون بتحرير شعوبهم أو تأسيس نظم يتحرر فيها الناس باقون. أفعال الإنسان ممتدة إلى ما بعد حياته الظاهرة، وكذلك أفعال القلوب كالعلم. إن ما يترك وراءه علما يظل هذا العلم ساريا، مقروءا ومؤثرا وموجها وأصلا للإبداع.
306
لذلك قد تكون في الإنسان قدرة ولا يقال قادر لأن القدرة غير ظاهرة، في حالة من الإمكانية لوجود موانع أمامها بدنية أم اجتماعية، داخلية أم خارجية.
307
وتختلف أشكال ظهور القدرة باختلاف درجات الموانع؛ فالموانع البدنية كالقيد والحبس تمنع من الحركة التامة؛ والموانع الفكرية كالإرهاب والرقابة تمنع من القول. ومع ذلك، لا تعدم القدرة حيلة للظهور مهما تعددت الموانع. ويظل الإنسان قادرا باستمرار على إظهار قدرته على أي نحو. وإن لم تظهر القدرة لكان ذلك تبريرا للعجز أو هروبا من الفعل. الممنوع من الفعل قادر عليه بمجرد غياب الموانع.
308
يحدث العجز بمجرد وجود المانع، فإذا وجد المانع في الحال الأول لم يحدث الفعل، وإذا وجد في الحال الثاني حدث الفعل في الأول ولم يحدث في الثاني.
309
ولا يعدم الفاعل بالرغم من الموانع استعمال طاقاته الكامنة لرفع الموانع ثم الإتيان بالفعل؛ فالقدرة لها الأولوية المطلقة على المانع. هناك قدرة أولى وليس هناك مانع أول. والمقدور لا يتجزأ كما؛ فلا يقال مثلا إن القادر على شيء يقدر على الأقل منه أو على الأكثر منه؛ لأن القدرة والمقدور ليسا كما فحسب. الفعل مجموعة من العوامل البدنية والنفسية معا؛ فالقادر على شيء قد يقدر على أعظم منه لو توافر الباعث القوي. وقد لا يقدر على أقل منه لو ضعف الباعث. ومن الناحية البدنية هناك حدود للطاقة الإنسانية، ولكنها من الناحية النفسية لا حدود لها.
310
القدرة لا تتجزأ والمقدور لا يتجزأ بل تتفاوت القدرة بين الشدة والضعف حسب قوة الباعث وكمال الغاية. ليست القدرة كما فحسب بل هي أيضا كيف.
311
وإذا لم يتحقق الفعل كله وتحقق جزء منه يكون أيضا أقرب إلى الفعل الكامل من غياب الفعل كله. مهمة الفعل الكامل احتواء الفعل الجزئي وجعله جزءا منه. فالدفاع عن القومية مثلا جزء من الفعل الكامل يمكن احتواؤه في الدفاع عن الإنسانية. وهذه الموضوعات في الحقيقة كما عرضها القدماء بالرغم من أهميتها في تحليل القدرة والطاقة والفعل والمانع، وبالتالي الإبقاء على مستوى الفعل الإنساني دون وقوع في الاغتراب والتعمية في الآخر تظل صورية عقلية افتراضية أكثر منها عملية واقعية تشير إلى موضوع معين. ونظرا لهذا الطابع الصوري الافتراضي يصعب الإجابة على كثير من هذه التساؤلات إجابات صورية خالصة. بل إنه ليس لها أية إجابات صورية خالصة دون الإشارة إلى مواقف اجتماعية معينة تظهر فيها القدرة أو العجز ودون الإشارة إلى تجربة خاصة تظهر فيها البواعث والمقاصد والغايات. وهل تستطيع الإجابة الصورية على موضوع صوري سواء نفيا أم إثباتا تغيير واقع أو تقرير مصير البشر؟ (3-5) الاستطاعة
الاستطاعة أظهر في أفعال الجوارح منها في أفعال القلوب.
312
وهو لفظ آخر يعبر عن معنى القدرة ولكن بصورة أخص وفي فعل يعينه. فإذا كانت القدرة مرتبطة بالوجود والحياة، فإن الاستطاعة مرتبطة بالفعل والطاقة والزمان. وإذا كانت القدرة تعبيرا عن فاعلية الإنسان العامة كتعبير عن وجوده وحياته ورسالته، فإن الاستطاعة هي التعبير الخاص عن قدرته على فعل محدد في الزمان. فما الاستطاعة؟
إن تعريف الاستطاعة بأنها الصحة والسلامة، أي القدرة البدنية اللازمة للقيام بالفعل تعريف مادي خالص. وتكون الصحة أحيانا بديلا عن القدرة أو على الأقل مساوية لها. ويكون الإنسان القادر هو الإنسان صحيح البدن.
313
وتشمل الصحة التخلي عن الآفات والأمراض والموانع. والحقيقة أن الاستطاعة أكثر من مجرد سلامة البدن لأن سلامة البدن ما هي إلا محل للاستطاعة البدنية. تشمل الاستطاعة الباعث والقصد والغاية فهي ليست مجرد عرض بل جوهر. وهي أكثر من اعتدال المزاج بل قدرة زائدة على سلامة البنية والمزاج معا.
314
كما أن الاستطاعة ليست مجرد الآلة التي يقام بها الفعل؛ آلة بدنية كاليد أو الرجل أو آلة خارجية. فالآلة وسيلة لإيصال القدرة وأثرها دون أن تكون هي ذاتها قدرة بالآلة والقدرة حتى يصح الفعل.
315
أما إذا كانت الاستطاعة هي التخلية، تخلية الشئون، فإنها في هذه الحالة لا تتعدى ارتفاع الموانع، أما إذا عنت بالتخلية مجرد تخلي أية إرادة خارجية عن التدخل في قدرة الإنسان وترك الإنسان القيام بالفعل فإنها تكون رجوعا إلى الكسب ولكن على نحو سلبي. فالكسب هو تدخل إرادة خارجية في قدرة الإنسان. وفي كلتا الحالتين يفترض التدخل والكسب أن الجبر هو الحال الدائم وأن الاختيار حال عارض ينشأ من الكسب بخلق قدرة على الفعل في لحظة القيام بالفعل أو في التخلي بتخلي الإرادة الخارجية المشخصة عن الجبر الدائم والسماح بحرية وقتية للإنسان للقيام بالفعل.
316
وقد تكون الاستطاعة مجموعة هذه العوامل كلها كالصحة وتخلية الشئون والمدة والآلة والباعث.
317
كذلك قد تتحدد الاستطاعة تحديدا شاملا فتكون كل ما ينال الفعل به. ومع أن هذا التحديد مأمون من الخطأ، إلا أنه لا يعطي هذه العوامل ولا يشير إلى أي شيء معين.
318
وقد تعرف الاستطاعة تعريفا معنويا خالصا دون الإشارة إلى أي محل مادي. حينئذ تكون الاستطاعة مجرد معنى. والمعنى المجرد لا وجود له. أما إذا كان المعنى هو الإشارة إلى الأساس النظري للفعل فإنه يكون معنى موجودا مؤثرا في الفعل.
319
وعلى الطرف المقابل للتعريف الصوري الخالص هناك التعريف المادي الصرف الذي يجعل من الاستطاعة مجرد الجسم أو أحد أبعاض الجسم أو نفس المستطيع.
320
وتقتضي حرية الأفعال أن تكون الاستطاعة قبل الفعل حتى يكون الفعل ممكنا بعد الاستطاعة، وحيث يتأتى الفعل بإرادة الإنسان الموجودة من قبل وبقراره الذي هو صنعه وبباعثه الذي يدفعه وبغايته التي يسير نحوها.
321
ولا يعني تقدم الاستطاعة على الفعل أن الفعل متحقق بالضرورة؛ إذ لا يتحقق الفعل إلا بتوافر شروط الفعل كلها. لا يوجب تقدم الاستطاعة على الفعل بالضرورة وإن كانت تمهد له إمكانياته.
322
وبالتالي تكون الإجابة على سؤال: هل الفعل واقع بالاستطاعة؟ كالآتي: إذا وجدت الاستطاعة وتوافر الباعث والداعي ووضح المقصد وكملت الغاية وامتنعت الموانع وقع الفعل. أما إذا توافرت الاستطاعة، ووجدت الموانع، فإن الاستطاعة تظل إمكانية خالصة دون تحقق. قد توجد الاستطاعة دون فعل إذا لم تتوافر شروط تحقيق الفعل.
323
كما لا يعني تقدم الاستطاعة على الفعل أن تكون الاستطاعة قادرة على فعل أي شيء ممكن أو غير ممكن ما دامت هناك استطاعة ؛ فالاستطاعة موجودة في حدود الطاقة الإنسانية، والفعل ممكن في حدود القدرة الإنسانية، موجها بالباعث والقصد والغاية.
324
ولا يعني تقدم الاستطاعة على الفعل تقدما مطلقا أي تقدما سابقا على وجود الإنسان؛ فقبل الإنسان لم تكن هناك استطاعة.
325
كما لا تعني الاستطاعة قبل الفعل أنها عرض؛ لأنها لا توجد في حالة إمكانية لم تستعمل بعد، بل إنها وجود كامن، وأن الإنسان هو الذي يحول هذا الكمون إلى واقع.
326
والأمر أيضا كالاستطاعة واقع قبل الفعل. وكيف يأتي أمر في التو واللحظة ويكون مضمون الوقوع؟ ومتى يتم التأمل والتدبر فيه حتى يمكن التخطيط له؟ ومتى يتحول الأمر إلى أساس نظري للفعل؟ ومتى يحلل ميدان الفعل طبقا للأمر المتوقع؟ قد يحدث ذلك في صدور الأمر لأول مرة حيث يتحقق إلى فعل مباشرة. ولكن بعد وجود الزمن قد يوجد في الزمن قبل وجود الفعل التالي، وهو ما تحقق في حال الأمر. وقد يتأخر الفعل لنقص في الفهم أو لضعف في الباعث، ومع ذلك يكون الأمر قائما.
327
والتقدم والمقارنة للاستطاعة والفعل لا يتمان على مستوى الفعل الطبيعي أو الفعل الآلي، بل في الفعل الحيوي أي في الفعل الاجتماعي.
328
ولهذا توجد علتان: علة قبل الفعل وعلة مصاحبة للفعل. الأولى هي الاستطاعة السابقة على الفعل والتي لأجلها صدر الأمر، والثانية الاستطاعة في حال الفعل التي بها يحقق الإنسان الفعل والتي بها يحول الإمكانية الأولى إلى واقع متحقق. العلة الأولى اختيارية خالصة، فالإمكانية موجودة لمن يحققها، والثانية اختيارية ناشئة عن شدة الباعث ووضوح الفكر.
329
الأولى قبل الفعل والاستطاعة المبدئية، والثانية في حال الفعل وهو الاستطاعة المتجددة التي هي على حافة الإمكان والوقوع.
330
والحقيقة أن الاستطاعة واحدة قبل الأفعال ومعها وهي الاستطاعة الناشئة من تحمل الإنسان لرسالته ومسئوليته عنها. وهي موجودة دائما كإمكانية حتى ولو لم يوجب الفعل. ولا تغني مطلقا حتى ولو لم يتحقق أي فعل، بل تظل حتى بعد تحقق فعل واحد كي تتحقق بها أفعال أخرى. ليس الإنسان مجموعة متفرقة من الاستطاعات يتمكن بها من إتيان مجموعة أخرى متفرقة من الأفعال. الإنسان رسالة يعبر عنها بأفعال متصلة تكون حياته.
331
ويكون كمال الغاية تعبيرا عن رسالة الإنسان وازدهار الطبيعة وتحقيقا لوجوده إذا وضح الموقف وتوتر الشعور وإذا ما ابتعد الواقع إلى أقصى حد عن الموقف الطبيعي، وهو الموقف المثالي، وإذا ما اشتدت الرسالة في الإنسان إلى أقصى حد حتى الحلقوم. ليس الفعل لحظة واحدة بل هو وجود في الزمان. ولا يتم في مرحلة واحدة في آن واحد بل يتم في الروية، ويبدأ بوجود الباعث وضوح الفكر وكمال الغاية وغياب الموانع واختيار لحظة التاريخ طبقا لمسار التاريخ ودرجة تحمل الواقع. ليس الفعل إذن واقعة واحدة تتم في آن واحد، بل هو وجود مستمر في الزمان.
332
والأمر باق إلى حال الفعل، ولا يوجب التكرار، بل يظل نداء إلى الفعل وتوجيها له. وإن لم يوجد العمل يبقى النظر فعلا لم يتحقق وإمكانية لم تتحول بعد إلى واقع.
333
ولا يوجد أمر إلا إذا كان متحققا، ولا يكون الأمر متحققا إلا إذا آن الزمن واستعد الواقع لتقبله. ولو أتى الأمر قبل أن يحين الزمن لما تحقق ولكان تكليفا لما لا يطاق. ولو أتى الأمر بعد أوان الزمن لكان تخليا عن الواقع وتركه بين المد والجزر إلا من طبيعة خالصة توجهه. قد توجد في كمالها وقد لا توجد، ما دامت خالية من الفعل الإنساني.
334
إذا تم الفعل في زمانه وبغاية متحدة مع كمال الطبيعة ومسار التاريخ لا تنشأ الحركة الارتدادية ولا الحركة القافزة على المراحل. الفعل استطاعة وزمان وتاريخ. (3-6) التمرينات العقلية
والحقيقة أن معظم المشاكل حول القدرة الإلهية والقدرة الإنسانية هي في حقيقة الأمر تمرينات عقلية، القصد منها المزايدة في الإيمان وإثبات أولوية القدرة الإلهية على القدرة الإنسانية؛ مما أوجب الدفاع عن القدرة الإنسانية دون ما نفاق أو مزايدة. وكلها مشاكل موضوعة وضعا خاطئا ولا حل لها إلا بعد تصحيح وضع السؤال أو وضع السؤال الصحيح. حلها في المنهج لا في الموضوع. والسؤال الصحيح يأتي من الموقف الصحيح للمتكلم، هل هو إله أم إنسان؟ هل وظيفته الدفاع عن حق الله أم الدفاع عن حق الإنسان؟
335
وتظهر هذه التمرينات في عدة أسئلة مثل: (1)
هل يقدر الله على فعل المحال؟ وطبعا تكون الإجابة بنعم في المحالات الأربعة، المحال بالإضافة والمحال في الوجود والمحال في بنية العقل والمحال المطلق في ذات الله.
336
ولماذا تتوقف المزايدة؟ ألا يقدر الله أن يغير ذاته؟ وكيف يكون المحال في العقل وفي الطبيعة ممكنا؟ ألا يكون ذلك هدما لبنية العقل وقضاء على قوانين الطبيعة؟ كيف يثق الإنسان حينئذ بقدراته الفكرية وبعالمه الذي يعيش فيه لو أمكن تغيير قوانين العقل وانقلاب قوانين الطبيعة؟ هل إثبات القدرة الإلهية يكون بالضرورة على حساب استقلال العقل وثبات قوانين الطبيعة؟ وهل يرضى الله أن يكون إثبات قدرته على حساب الإنسان والعالم؟ أليس ذلك مزايدة في الإيمان أو تملقا للسلطة أو كلاهما معا؟ ولماذا يكون عقل الإنسان وعلمه وعالمه ومجتمعه هو الضحية؟ وفي سبيل من: الله أم السلطان؟ وهو السؤال التالي نفسه: هل يقدر الله على أن يجعل شيئا موجودا معدوما في وقت واحد أو جسما في مكانين أو جسمين في مكان واحد؟ ولما كانت الإجابة بنعم بطبيعة الحال كانت صورة الله أشبه بصورة الحاوي أو الساحر الذي يوهم الناس بأشياء في اليقظة أو في النوم. وكذلك السؤال حول قدرة الله على أن يمسخ الكافر قردا وكلبا، مجرد سؤال لإعطاء المزايد الفرصة للتعظيم والتأليه والإجابة المسبقة بنعم! (2)
هل الله قادر على جنس ما أقدر عليه عباده؟ وفي هذا السؤال تنتقل التمرينات العقلية من الطبيعة إلى الإنسان، ومن الرغبة في القضاء على الأجسام وقوانين الطبيعة لإثبات القدرة المشخصة المعظمة إلى الرغبة في القضاء على الحرية الإنسانية لإثبات القدرة المطلقة الحرة التي لا تقف أمامها قدرة حرة أخرى. وقد يكون إثبات القدرة رغبة في عدم الوقوع في التشبيه. فبالرغم من أن الفعلين من جنس واحد إلا أنهما غير متشابهين.
337
ويتجاوز السؤال فيتعدى كونه مجرد إعطاء فرصة للشعور لأنه من الطبيعي أن يقدر الله على جنس ما أقدر عليه عباده. وإثبات ذلك في الحقيقة لا يدل على عظمة زائدة، بل يكون مجرد تحصيل حاصل؛ لأن الله يقدر بطبيعة الحال على ما يقدر عليه الإنسان حتى لو كانت الإجابة المرجوة إثباتا للتعظيم، فلا يجوز عليه أن يقدر على ما يقدر عليه الإنسان، بل على أعظم منه، فإن القدرة على جنس الفعل لا تزيد كثيرا على القدرة على الفعل نفسه إلا درجة لا نوعا إن لم تكن أقل. فما أسهل الفعل عن طريق المبدأ العام الذي تندرج تحته الأفعال الخاصة! وما أصعب الفعل الخاص الفريد الذي لا يندرج تحت جنس معين! ويصبح للسؤال مدلول حقيقي إذا واجهت القدرة الفعل الإنساني الحر؛ وبالتالي يكون السؤال: هل تستطيع القدرة المعظمة أن تسيطر على الفعل الحر وتقضي عليه؟ والرد بالإثبات يعني أن القدرة المعظمة لها الأولوية والسيطرة على كل شيء حتى على الفعل الحر.
338
والرد بالنفي يكون إما لأن ذلك يثبت عظمة زائدة فما أسهل أن يقدر الله على ما أقدر عليه عباده، وإما إثباتا للفعل الحر واستقلاله كاستقلال الطبيعة.
339
ولإثبات الحرية يكون السؤال نفسه موضوعا وضعا خاطئا، فإن الله لا يقدر أحدا من العباد على فعل شيء بل يفعل الإنسان من ذاته طبقا لقدرته.
340
ومن الطبيعي أن تكون الإجابة إثباتا حتى عند المدافعين عن حرية الأفعال وقدرات العباد. فالمزايدة بديهية، وتملق الحس الديني لا يتنازل عنه العلماء أو العامة، بل إن الأعظم هو إثبات أن الله أقدر على فعل أجناس أخرى لا يقوى على فعل أفرادها قدرات العباد، أجناس غير مرئية يجهلها العباد أو مرئية يعلن العباد عن عجزهم أمامها مثل الطيران في الهواء أو اختراق حجب الفضاء أو السير على الماء.
341 (3)
هل الله قادر على ما أقدر عليه عباده؟ ثم يتعين السؤال أكثر ويتوجه ليس إلى جنس الفعل بل إلى ذات الفعل. فإذا كان المقصود به إعطاء فرصة للشعور للتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، فإن السؤال لا يعطي هذه الفرصة؛ لأنه ما أسهل على القدرة المعظمة أن تقدر على ما يقدر عليه الإنسان. وإذا كان المقصود هو إثبات قدرة مطلقة تحتوي على أية قدرة أخرى خارجها أي القدرة الإنسانية، فإن ذلك يكون تحصيل حاصل؛ لأنه ما أسهل من إثبات قدرة مسيطرة على قدرة الإنسان كقوى الطبيعة مثلا، ولكن ما أقساها على الإنسان ذاته بالرغم من استطاعة الإنسان السيطرة عليها!
342
وقد يعطي الرد بالنفي هذه الفرصة لأن الله لا يقدر على ما يقدر عليه الإنسان لأنه يقدر على أعظم منه. يفعل الإنسان الممكن ولكن الله يفعل المستحيل. وفي هذه الحالة يكون المقصود هو تجاوز الممكن إلى المستحيل. وقد يكون المقصود إثبات الحرية الإنسانية التي تعادل على المستوى الطبيعي استقلال الطبيعة عن تدخل أية قوة مشخصة من خارجها.
343
وقد يكون الرد بالإيجاب دون تعد على الحرية الإنسانية، فتثبت القدرة الأولى مطلقة ويكون الفعل منها بالضرورة، وتثبت القدرة الثانية محددة ويكون الفعل منها كسبا.
344
إذ تحاول نظرية الكسب الجمع بين إثبات القدرة المعظمة والفعل الإنساني المستقل، ويكون الإنسان حينذاك قادرا على الكسب، عاجزا عن الخلق.
345
وقد يتعدى السؤال إلى تعلق قدرة الله بأفعال العباد جميعا من الحيوانات والملائكة والجن والإنس، وإثبات قدرة الله المطلقة؛ فلا خالق ولا مخترع سواه، خاصة وأن قدرات العباد لا تعلم الخلق ولا تجد في حركاته وسكناته حتى تكون قادرة عليه. والحقيقة أن كل ما يحدث في الطبيعة، امتصاص الثدي من فعل الحي ونسج بيوت العنكبوت بأشكال هندسية لا يقدر عليها المهندسون، إنما يتم طبقا لقوانين الطبيعة.
346
ولا حل لذلك إلا الكسب، أي إثبات مقدور لقادرين؛ تجنبا للجبر الذي ينفي مقدورات العباد، وتجنبا لحرية الأفعال التي تنفي القدرة الإلهية. ولماذا يعطى الإنسان أقل من حقه بافتراض أن غيره قادر على ما هو قادر عليه، بل وأعظم منه يتدخل في شئونه ويسير له حياته؟ وكيف تصبح قدرة الله قادرة على أفعال العباد، وأفعال العباد بها من الشرور والآثام ما لا يعد ولا يحصى؟ هل الله قادر على فعل الزنا وشرب الخمر وقتل الأبرياء وظلم العباد؟
347
إن إثبات قدرة إنسانية هو إثبات لواقعة إنسانية وتجاوز لانفعالات عواطف التأليه. وقد يكون ذلك على نحو آخر إثباتا لتنزيه أعظم يقدر الحرية الإنسانية ويرد إليها اعتبارها. ليس المقصود من أمثال هذه الأسئلة المصالحة بين القدرتين كما هو الحال في نظرية الكسب بل المقصود تدمير الإنسان الواقعي وإثبات الإنسان «السوبرمان»، أي لله.
348 (4)
هل يقدر الله على أن يقدر أحدا على فعل الأجسام، الحياة أو الموت؟ ثم يخصص السؤال أكثر فأكثر ويتوجه نحو الطبيعة من جديد. وهنا لا تظهر القدرة المعظمة في فعل جنس الفعل أو ذات الفعل، بل داخل الفعل، فتوجهه وتقويه وتجعله قادرا على الخلق كالقدرة والعظمة. فإذا كان المقصود هو إتاحة الفرصة للشعور للتعبير عن عواطف التأليه، فما أسهل ذلك! أما إذا كان المقصود إثبات قدرة فاعلة ضد طبائع الأشياء، فالإنسان لا يميت ولا يحيي؛ فإنها تكون فرصة عظيمة تسمح بإثبات هذه القدرة. الإنسان بمفرده يسير طبقا لطبائع الأشياء، ولكنه بتدخل القدرة المعظمة يسيطر عليها ويقلبها رأسا على عقب، يحيي الميت ويميت الحي.
349
وفي هذه اللحظة يكون إثبات مثل هذه القدرة نفيا للحرية الإنسانية ولاستقلال الطبيعة، ويكون نفيها إما إثباتا للتنزيه؛ فإن تدخل القدر المعظمة في الفعل الإنساني لا يثبت تنزيها أعظم، وإما إثباتا للحرية واستقلال قوانين الطبيعة.
350
أما نفيها لأن الله أعجز الإنسان فهو رجوع إلى إثباتها ما دام الله قد أعجز الإنسان.
351
وقد يجمع بين الإثبات والنفي لا في الفعل الإنساني بل في التمييز بين الموضوعات.
352
وكما تسلب الصفات المطلقة الإنسان حريته وتحيله إلى أقل من إنسان لا فعل له ولا خيرة له من أمره. لم يكن الإنسان هو نفسه بل كان مرة أقل من إنسان ومرة أخرى أكثر من إنسان.
وبالرغم من كل محاولات الفكر العلمي الذي يقوم على طبائع الأشياء، والفكر الإنساني الذي يقوم على إثبات الحرية الإنسانية وفعل الأصلح، فإن القدرة المعظمة تفرض نفسها من خلال عواطف التأليه وتمثل شبح السلطة الرهيب. فكما أن العلم المطلق لا يغيب عنه شيء، فكذلك القدرة المطلقة لا يند عنها شيء. وإذا كان شبح العلم المطلق يظهر في الحياة الإنسانية في صورة المخابرات العامة، فإن القدرة المطلقة تظهر في صورة الدكتاتور الذي يفعل كل شيء والذي يمتد سلطانه على كل صغيرة وكبيرة.
353
ويكون الموقف الشعوري الذي يرفض الدخول في أمثال هذه التمرينات العقلية للتعبير عن عواطف التأليه، هو الموقف الذي يرفض النفي والإثبات والحلول الوسط، ويتوقف عن الحكم، ويلغي المشكلة التي يقدمها العقل طوعا للشعور.
354
وبالرغم من أن التوقف عن الحكم لا يعطي الأسباب خوفا من الدخول في المتاهات العقلية التي يرفضها، فإنه أسلم المواقف الشعورية وأكثرها أمانة. يكفي بعدها تحليل المتاهات العقلية وبيان دورها كتمرينات يقدمها العقل للشعور دون أن يشير إلى أي موضوع خارجي.
هذا الموقف في الحقيقة يكشف عن البناء النفسي للقائل أكثر مما يحتوي على إجابة موضوعية أو إقرار حقيقة. ويتلخص هذا البناء النفسي في الإحساس بالضعف ثم في الرغبة في التستر عليه أو تقويته باللجوء إلى قوة أعظم. وهنا يفترض الإنسان قوة أعظم من قوته وحقا أكثر من حقه، وكأنه لما لم يستطيع أن يكون إنسانا أصبح أكثر من إنسان! ويحدث ذلك تعبيرا عن عجز الإنسان بالضد عن طريق التعويض وإعطائه قوة أعظم منه. وثبات ذلك في الحقيقة وقوع في التشبيه؛ تشبيه الله بالسلطان القاهر وتدمير الحرية الإنسانية. كما أنه إعلاء للإنسان إلى درجة الله وجعل قدرته مساوية لقدرة الله ومشاركته في الخلق معه، وهو غير المقصود منه؛ مما يدل على أن عواطف التأليه والتعظيم والإجلال عواطف عمياء هوجاء، مناقضة لنفسها، تعمل ضد مقاصدها. وبالرغم من ذلك تظل قدرة الإنسان محدودة؛ فالله أقدر منه. وإن ما يبدعه الإنسان يلحقه الكون والفساد، في حين أن ما يبدعه الله لا يلحقه الكون والفساد حتى يظل الله متقدما على الإنسان ولو بدرجة واحدة. كما أنه إبطال للخلق، ودلالة الخلق على الخلق ووحدانيته، وإثبات للشركة فيه بين الله والإنسان. فالإثبات يؤدي إلى غير المقصود منه، ويدل على نقص في النظرة العلمية، وتحليل الأشياء بالرجوع إلى علل خارجية وليس من باطنها، وكأن الظواهر الطبيعية في يد إرادة قاهرة تسيرها كيفما تشاء، تقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا. وإن تفسير النشأة الطبيعية للكون لا يحدد من سلوك الإنسان؛ فخلق الكون شيء وخلق الفعل شيء آخر. وكيف يسلب من الإنسان فعله وهو حي ويعطى له وهو ميت؟ قد يبلغ التعظيم مداه على حساب الإنسان عندما يكون المعبود قادرا على خلق إنسان ميت قادر! وهذا في الحقيقة تعبير عن عواطف التأليه وإلغاء للموقف الإنساني من أجل التأليه لدرجة افتراض المستحيل عمله، ثم من أجل إثبات المؤله وحده قادرا على فعل المستحيل مثل فعل الأجسام أو خلق الحياة أو الموت. إن الإنسان لا يفعل إلا في موقف إنساني ولا تظهر قدرته إلا في مستواها. وإن عدم القدرة على السير في الهواء أو التنفس في الماء ليس نقصا في القدرة، ولكنه إخراج للقدرة عن مستواها. السؤال إذن من أوله سؤال خاطئ بالنسبة إلى الواقع وإلى حدود القدرة الإنسانية التي لا تثبت أي عجز أو نقص في مقابل قدرة أعظم وأشمل.
355
وقد تكون هناك محاولة للتوفيق بين القدرتين، القدرة الإلهية والقدرة الإنسانية، أو القدرة الإلهية وقوانين الطبيعة، فتستثنى الحياة والموت والجواهر والأجسام ولا يبقى لله إلا الأعراض، وهذا حطة في شأن الله. كما أنها محاولة خاسرة لأنها تجعل الطبيعة صامدة من حيث هي جواهر وأجسام أمام القدرتين معا، فيثبت عجز القدرة الإلهية ويظهر مستوى القدرة الإنسانية في خلق الأفعال لا في خلق الأجسام.
356
أما الإجابة بالنفي فإنها تكون في نفس الوقت إثباتا للتنزيه وإثباتا للحرية الإنسانية.
357 (5)
هل أفعال الله مختارة؟ يظهر هذا السؤال الأخير كعود على بدء ليطرح موضوع الإطلاق والتقييد. الفعل المختار هو الفعل المقيد الذي اختير بباعث آخر سوى الفعل كالأصلح مثلا، في حين أن الاختيار نفسه مطلق غير محدود بباعث آخر سوى القدرة المطلقة. إثبات المختار حد من القدرة المعظمة وتأكيد لوجود طرف آخر له استقلاله وحريته وهو الإنسان. وإثبات الاختيار إثبات للقدرة المطلقة وللحرية التي لا تقوم على أي باعث إلا كمظهر للقدرة والتي تلغي أمامها كل حرية إنسانية أخرى . بل قد وصل الحد في تأكيد صفة الاختيار إلى اعتبارها صفة. من الحياة والعلم والإرادة والقدرة تتولد قدرة خامسة وهي الاختيار للتأكيد على الفعل الحر ولكن كل ذلك لله وليس للإنسان. وهو اختيار على مقتضى العلم والإرادة، ولا يصدر عن أية علية أو استلزام وجودي أو تكليف أو قصد أو مصلحة. ولكن أية عظمة في مثل هذا الاختيار الذي لا يحكمه قانون ولا تحدده غاية؟
358
والحقيقة أنها مشكلة إنسانية خالصة، وهي مشكلة الاختيار يسقطها الإنسان خارج ذاته على التأليه لمشخص ولا تحل إلا بإرجاعها إلى أصلها في التجربة الإنسانية. أما الحلول المتوسطة فإنها تكشف عن استحالة تصور الاختيار المطلق حتى في الله وكأن الجبر لا بد وأن يتسرب، وكأن الضرورة هي الجوهر والحرية هي العرض، وكأن الضرورة هي الوجود والحرية هي العدم.
359
وعجبا! إذا كان المقصود هو البحث في الحرية الإنسانية، فإن محاولة إثبات الضعف الإنساني لإثبات قدرة أعظم هي تخل عن القضية الأساسية وتملق للقدرة الجديدة المراد إثباتها على حساب قدرة الإنسان المنكرة. إنها ليست مجرد مسألة لفظية، بالرغم من قدرة تحليل اللغة على تحديد أشكال التعبير، ولكنها أعمق من ذلك، وتعبر عن عواطف التأليه والتعظيم والإجلال التي تفرض على العقل مقولاتها وعلى اللغة ألفاظها، وتعطي لله كل الحقوق وتسلب الإنسان جميع الحقوق. إن علم الله لا يعني الجبر، بل الحق النظري لله؛ لأن الجبر هو سلب الاختيار، والاختيار واقع بالمشاهدة والحس والتجربة. ولا يتعلق الاختيار بالإيجاد بل بالتأثير، بالفعل والترك فيكون حسنا مرة وقبيحا مرة أخرى؛ لذلك تتفق جميع فرق العقلاء على الاختيار كمناط للتكليف وكفعل للإنسان.
360
رابعا: أفعال الشعور في الطبيعة
إذا كانت أفعال الشعور الداخلية هي أفعال القلب وأفعال الشعور الخارجية هي أفعال الجوارح، فإن أفعال الشعور في الطبيعة هي أفعال الشعور في العالم وأثرها في الأشياء وهو ما عرف عند القدماء باسم التولد، فالتولد مرتبط بأفعال الشعور في الطبيعة أكثر من ارتباطه بأفعال الشعور الداخلية أو أفعال الشعور الخارجية؛ نظرا لارتباطه بالعلم الطبيعي. وكأن المقصود منه ليس دراسة الأفعال وعلاقاتها بالبواعث والدوافع، أي بدايات الفعل، بل بالنتائج والغايات أي ثمرات الأفعال في الطبيعة.
1
لذلك يظهر التوليد عند القدماء جزءا من خلق الأفعال، تنطبق عليه نظريات الجبر والكسب والحرية، سواء في أفعال الشعور الداخلية أم في أفعال الشعور الخارجية، سواء في نظرية العلم في توليد النظر للعلم كفعل داخلي للشعور أو في نظريات الحركة، توليد الحركة في المتحرك كفعل خارجي للشعور.
2
ويؤدي الجبر والكسب إلى التوليد نفسه، وتؤدي الحرية إلى إثبات التوليد. (1) نفي التوليد
وطبيعي أن تؤدي عقيدة الجبر إلى نفي التوليد؛ فإذا كانت الأفعال مخلوقة من الله وأنه صاحب كل فعل في العالم سواء في أفعال الشعور الداخلية أم أفعال الشعور الخارجية أم أفعال الشعور في الطبيعة، فإنه لا يبقى شيء في العالم بعد الفعل يمكن أن ينسب إلى الفاعل لأنه لا قدرة للعبد أصلا؛ فالجبر ينفي التولد. ويؤدي هذا النفي إلى الملاحقة المباشرة لقدرة المؤله المشخص لكل ما يحدث في الطبيعة من أفعال البشر الداخلية أو الخارجية أو أفعال الطبيعة.
3
وتقترب نظرية الكسب من عقيدة الجبر في نفي التوليد. فالله وحده هو الخالق، وهو فاعل كل شيء في العالم بلا واسطة. ولا ينطبق الاكتساب إلا على أفعال الإنسان الفردية بشرط خلق القدرة من الله في ساعة الفعل. أما التولد فلا اكتساب فيه لأنه أفعال الطبيعة مباشرة ودون خلق قدرة فيها. فإذا كان للقدرة تأثير في أفعال الكسب فإنها لا تأثير لها على الإطلاق في أفعال الطبيعة. والخوف من تأثير القدرة الحادثة في أفعال الطبيعة أن تكون حادثة في كل شيء وخالقة ومبدعة لها، وهو افتراض نظري خالص مهمته الاصطدام بمواقف التعظيم والإجلال حتى يتم رفض الفعل في سبيل الانفعال.
4
وكما يتم إنكار تأثير القدرة الحادثة في الطبيعة يتم أيضا إنكار تأثير العلل الطبيعية ويقضى على السببية وحتمية قوانين الطبيعة. ثم يمتزج ذلك كله بالتصوف عند المتأخرين، فيتحول إلى مجرد توكل بالرغم من أن مباحث العلة والمعلول من الأمور النظرية العامة في نظرية الوجود عند المتقدمين. وبدلا من أن يرتبط الاكتساب بالعلية تم القضاء على الأسباب العادية وإلغاء تأثيرها. وعاد علم أصول الدين سنيا أشعريا، وانتهى موضوع خلق الأفعال والتولد مع انتهاء الاعتزال. فالله هو الفاعل لكل شيء، ولا توجد علاقة ضرورية بين العلة والمعلول أو بين السبب والمسبب. ويكفر كل من يقول بالسببية والعلية وفي مقدمتهم الفلاسفة أهل الضلال! بل رفض المتأخرون من الأشعرية اعتراف المتقدمين منهم بالتأثير بقوة أودعها الله في العباد وفي الأشياء، وكأن دليل التمانع يثبت الآن وحدانية الأفعال كما كان يثبت من قبل وحدانية الذات أو الصفات؛ مما يدل على أن مسألة الحرية هي إحدى تعينات الإلهيات.
5
انتهى نفي الأسباب إلى الوقوع في التوكل وإلحاق الكسب بالجبر والتوحيد بالتصوف؛ لذلك كثر عن المتأخرين الاستشهاد بأقوال الصوفية.
6
ثم غلبت النزعة الصوفية على الأشعرية المتأخرة وأصبحت الدافع الأساس على نفي التوليد؛ فالله قادر على كل شيء في الإنسان وفي الطبيعة. وأصبحت المعجزات وخوارق العادات هي الظواهر الطبيعية وليس مجرى العادات وما يتفق مع المحسوسات والمشاهدات كما تقضي بذلك نظرية العلم.
7 (1-1) حجج نفي التوليد
وقد فصلت نظرية الكسب مثل عقيدة الجبر حججا في نفي التولد. فإذا كانت القدرة غير سابقة على الفعل، بل توجد فقط مع الفعل، ومع فعل واحد لا يتكرر ولا يتماثل ولا يختلف ولا يتضاد، فمتى تم الفعل فإن القدرة لا تبقى بل تذهب معه؛ ومن ثم لا يتولد فعل من فعل آخر ببقاء القدرة. وكما أن الاستطاعة في الكسب غير متقدمة على الفعل، فإنها أيضا لا تبقى بعد الفعل. ويحتاج الفعل في كل لحظة إلى استطاعة متجددة، لا هي سابقة على الفعل مهددة له، مستوفية لشروطه، ولا هي تالية له يمكنها أن تقوم بفعل آخر لأنها في هذه الحالة تكون سابقة عليه وهذا محال. الإنسان مجرد مستقبل لقدرات لحظية كشرارات كهربية تدفعه إلى الفعل ثم يعود إلى جموده من جديد. والحقيقة أن هذا الخلق المتجدد للقدرة على الأفعال هو القدرة الجديدة الناشئة عن الفرح بالقيام بالفعل والقوة غير المتوقعة التي تأتي للإنسان وهو بصدد تحقيق الفعل. هذه القوة غير المتوقعة نتيجة لبراءة الإنسان وطهارته، والتزامه برسالته من داخل الإنسان وليست من خارج الإنسان، من طبيعة شعوره ومخزون طاقته وليست من أي مصدر خارجي أو إرادة مشخصة.
8
وتتفصل حجج نفي التوليد على النحو الآتي: (1)
الاستطاعة عرض، والعرض لا يبقى زمانين. وهي حجة خاطئة؛ لأن الاستطاعة ليست عرضا بل هي من مقومات الجوهر. والإنسان غير القادر لا يكون إنسانا بل جمادا. ووجود مضادات للقدرة لا يعدم القدرة. القدرة لها شروط وموانع. وإذا عدمت لوجود الضد فإن الضد يعدم لوجودها. وإن عدمت لانتفاء شرط لها فإن الشرط عرض مثل القدرة. وإن كان جوهرا فكيف يبقى العرض مع انتفاء الجوهر؟ ولا يقال إن القدرة عدم محض؛ لأن العدم نفي، والنفي عدم وجود على الإطلاق. هذا كله نسيان أن القدرة الباقية هي الأثر، أي هي البناء الجديد الحادث من القدرة الأولى. فالبحث عن القدرة كعرض أو كجوهر أو كفعل عدم معرفة بطبيعة القدرة الباقية التي هي انفعال وليست فعلا. أما التولد الطبيعي، فإنه يدرس في علم الطبيعة، خاصة علم الآليات (الميكانيكا) فيما يتعلق بالجذب والطرد والقوة والمقاومة والفعل ورد الفعل. يظل السهم متحركا أو الحجر جاريا إلى أن تخف الحركة بالمقاومة أو بالاصطدام. وكذلك فعل الإنسان القائم على القصد والدواعي يظل أثره قائما إلى أن يضعف بقدم العهد أو بوجود أثر مضاد.
9 (2)
الأفعال في المستقبل كلها ممكنات، والممكنات واقعة تحت قدرة أخرى أعظم من قدرة الإنسان، وهي قدرة المؤله المشخص. والحقيقة أن ذلك هو المطلوب إثباته؛ وبالتالي تقوم الحجة على الدوران. كما أن الممكن لا يستند إلى شيء آخر غير الفعل الإنساني، وأن تحوله إلى فعل مرتبط بالقصد والباعث والغاية. الممكن إمكانية خالصة غير محددة، طاقة مخزونة في النفس لا تتحقق إلا بفاعليتها الداخلية وإمكانيات تحققاتها الخارجية.
10 (3)
إن اعتبار مقدور لقادرين لا يبطل التولد بل يثبت الغلبة. إن كان هناك شيء تجذبه قدرة وتدفعه قدرة أخرى، فإن حركة الشيء تتحدد بالقدرة الغالبة المؤثرة في الشيء المتحرك. وإن لم يتحرك الشيء تعادلت القدرتان وامحى الأثر على الشيء. كما أن ذلك افتراض مسبق وليس حجة بديهية. فالمقدور مقدور لقادر واحد بالإضافة إلى الموانع، ما دام الفعل لا يكون فعلا إلا في موقف.
11 (4)
إن القول بأن التولد نتيجة لمجرى العادات لا ينفي التولد، بل يثبته ثم يفسره تفسيرا طبيعيا. وهذا ما يرفضه الكسب الذي يجعل مجرى العادات أيضا من خلق قدرة خارجية. ولا يمكن نفي مجرى العادات لأنه يثبت بالحس والمشاهدة والتجربة. ولا يمكن أن يكون من فعل إرادة خارجية وإلا لما كان مجرى العادات. فالعادة والإرادة نقيضان. العادة إرادة الطبيعة الكامنة فيها، وليست إرادة مشخصة خارجة عنها، معها أو ضدها.
12 (5)
وإذا كانت القدرة لا تبقى لا لنفسها ولا لبقاء يقوم بها، فإنها تبقى على الأقل في الأثر الذي يتركه الفعل وفي السنة التي يتركها الإنسان وراءه بعد الاخترام. تقوم الحجة على فكر ديني إلهي مقلوب وهو الاختلاف بين الذات والغير. بل إن قسمة الأشياء إلى جوهر وعرض فكر ديني إلهي مقلوب. الأشياء أشياء دون قسمة فيها إلى أولي وثانوي.
13
وقد تتحول الحجج الإيجابية لنفي التولد إلى شبهات سلبية ضد إثبات التولد، وهي شبهات يسهل الرد عليها على النحو الآتي: (1)
لا يعني التولد أن الفاعل فاعل وهو ميت أو غير قادر أو معدوم؛ لأن الفاعل هو مقدوره، والإنسان هو أثره، وبالتالي يظل فعل الوحي قائما حتى بعد الاخترام من خلال الأثر والسنة. بل إن فعل الإنسان قد يكون أكثر تأثيرا من خلال سننه وآثاره وأفكاره بعد الاخترام منه قبل ذلك. فقد يؤدي الحصار المضروب حول الفاعل الحي أثناء حياته إلى تقليص أثره، ولكن سرعان ما ينفجر هذا الأثر بعد فك الحصار وبعد الاخترام بفعل قوانين الطبيعة وفي مسار التاريخ.
14 (2)
لا يعني التولد إثبات مقدورات لا تتناهى للإنسان؛ لأن التولد كالفعل الأول داخل في حدود الطاقة. ومتى انتهى أثر الفعل الأول انتهى التولد، إما لضعف السبب الأول أو بمعارضته بسبب آخر أو لقدم العهد عليه. ولما كان التولد يتم في الزمان، والزمان متناه كان التولد متناهيا كذلك، إما بزمان الفعل أو بالأجل أو بالحياة.
15 (3)
ولا يعني التولد استحقاق المدح والذم بعد الموت استحقاقا مباشرا، ولكن يظل الحكم صادرا على الإنسان في التاريخ، إما مدحا إذا سن سنة حسنة وإما ذما إذا سن سنة سيئة ودون أن يلغي ذلك مسئولية الأفراد بتوجيه أفعالهم في أفعال التولد لأنهم باستطاعتهم توليد أفعال أخرى وإيقاف الأفعال المتولدة الأولى، مقابلة سنة بسنة، ومعارضة أثر بأثر.
16 (4)
ولا يقال إن ما يتراخى لا يقدر عليه العبد؛ لأن الإنسان قادر على الفور وعلى التراخي معا. واستمرار الفعل يبدأ بفعل. وقدرة الإنسان على الفعل قدرة في الزمان. ولما كان الزمان متصلا فإن القدرة على الفعل، بل والفعل ذاته يكون متصلا كذلك دون ما حاجة إلى تدخل إرادة خارجية. بل يتم ذلك من طبيعة الفعل ذاته وأثره في الزمان.
17 (5)
ولا تعني المشاركة تقسيم العالم إلى قسمين؛ قسم للإنسان، وقسم لغيره. فهذا إنكار لقدرة الإنسان وإمكانياتها، وإنكار لعواطف التأليه والتعظيم التي تود إثبات قدرة شاملة وحاوية لكل شيء. وكيف ينكر التولد والكسب نفسه قائم على التولد؟ الكسب مشاركة اجتماع إرادتين على شيء واحد؛ وبالتالي يكون فعل الإنسان في الكسب متولدا عن فعل المؤله المشخص؟ فالكسب يثبت التولد رأسيا بمشاركة الله الإنسان في الفعل في حين أن التولد يثبت أفقيا باستمرار فعل الإنسان في الطبيعة.
18 (1-2) مخاطر نفي التوليد
وينتج عن نفي التوليد عدة مخاطر على حياة الإنسان وأفعاله في الطبيعة وسيطرته على مظاهرها وعلى نشأة العلم القائم على العلية وأهمها: (1)
إنكار فاعلية الإنسان في الطبيعة كإنكار الجبر والكسب لها، وكأن الله هو الفاعل الحق في ظواهر الطبيعة وليس فقط في أفعال الإنسان، في حين أن إثبات التولد إثبات لقدرة الإنسان وإثبات لفعله في الطبيعة. إنكار التولد إثبات لعجز الإنسان وعدم استطاعته فعل شيء وإنكار لاستمرار الفعل الإنساني في الطبيعة على مظاهرها. والحقيقة أن ذلك خلط بين مستوى الحق ومستوى الواقع. فالله صاحب كل شيء حق نظري، والطبيعة مستقلة واقع عملي ، كما أنه تفسير حرفي للصور الشعرية التي تعبر عن هذا الحق النظري تأكيدا على وحدانية العالم من أجل ترسيخ وحدانية الشعور.
19 (2)
تصور الفعل في محل أي في مكان لا قبله ولا بعده وكأنه نقطة ساكنة على خط ساكن. في حين أن الفعل تعبير عن القدرة، والقدرة حركة، والفعل حياة؛ ومن ثم كان أثره أقرب إلى الحركة منه إلى السكون، ومن الكيف منه إلى الكم. إنكار التوليد إذن نظرة تقوم على الانقطاع لا على الاتصال، على التجزئة في الكم لا على التواصل في الكيف؛ مما يجعل الفعل الإنساني مبتورا من النهاية، محاصرا منذ البداية، نهرا مغلق المصب. (3)
نفي قانون العلية وإنكار الصلة الضرورية بين العلة والمعلول. فالسهم يصدر ولا يصيب، والحجر يقع ويتعلق في الهواء، والنار تسري في القطن ولا تحرق! وهذا هدم لقوانين الطبيعة وقضاء على العلم. حينئذ تعظم الخرافة بإثبات أن المؤله المشخص هو الذي يتدخل لإيقاف السهم أو إيصاله أو في تعليق الحجر أو إسقاطه أو في إحراق القطن أو تبريده! وكأن هذا التدخل المتوهم هو أعظم دليل على وجوده وقدرته وإرادته! إن نفي التوليد إنكار لقانون العلية وإنه طالما وجد السبب وجد المسبب، ويكفي أن تحدث القدرة السبب أولا ويظل الفعل للسبب بعد ذلك. التوسط بالأسباب في أفعال الطبيعة هو قوام الفكر العلمي والعملي. ولكن الفكر الديني الإلهي ينازعه سلطانه ويجعل فعل الأسباب من المؤله المشخص يتعامل مع الطبيعة مباشرة دون توسط بالأسباب. إنكار التولد يسلب الإنسان فعله، ويعطي المؤله أخص خصائص الإنسان. وأي التفسيرين أقرب إلى العقل والمشاهدة؟ تدخل المعبود المشخص في ظواهر الطبيعة لإحداثها أم إحداثها بفعل الإنسان؟ إن إنكار التولد يعني زحزحة الإنسان عن مكانه لإفساح المجال لقدرة المؤله المشخص وإثبات أفعال الإنسان والطبيعة له.
20 (4)
يحدث الله في المعلول مرة واحدة ولا ضمان لحدوث المعلول مرة ثانية إلا بقدرة متجددة في العلة؛ فالسهم يصدر ولا يصيب، والحجر يقع ويتعلق في الهواء، والنار تسري في القطن ولا تحرق، وهذا إنكار لقوانين الطبيعة واطرادها وإبطال للحياة الإنسانية. ولا يعني التولد غياب السبب مطلقا وزحزحة الإرادة الإلهية، بل يعني استمرار أثره. فالسبب مصدر الفعل أو القوة المؤثرة الناشئة عنه، وهي سنن الكون التي تحكم بها الإرادة الإلهية مسار العالم. تحكم الإرادة العالم بتوسط الأشياء وليس مباشرة.
21 (5)
مزاحمة الفكر الغيبي للفكر العلمي. إذ يتضح في موضوع التوليد الصراع بين الفكر الديني الغيبي، والفكر الديني العلمي. وهي المعركة الرئيسية في الطبيعيات. ويظل الفكر في التولد متذبذبا بين العاطفة والعقل، بين الخرافة والعلم. ويظل المؤله المشخص متحفزا باستمرار لسلب الإنسان كل ما يختص به، يعطي له أخص خصائص الإنسان. يظل الإنسان بلا عمل أو قدرة أو اختصاص. وإذا كان من وظائف التوحيد كونه فكرة محددة مهمتها التمييز بين المستويات، بين المادة والصورة، فإن المؤله المشخص يلغي عمل الفكرة المحددة ويخلط بين المستويات.
22 (2) إثبات التوليد
لما كانت الاستطاعة لا توجد فقط قبل الفعل أو مع الفعل، بل أيضا بعد الفعل ثبت التولد.
23
فالإنسان بعد أن يقوم بفعل مبدئي يبقى أثر هذا الفعل قائما، وتظل فاعليته سارية إلى أن تحدث موانع توقفها كفاعلية مضادة أعظم أو كضعف في تمثل الفاعلية أو تآكلها بمرور الزمن. الفعل المباشر هو الذي لا تبقى استطاعته في وقتين، في حين أن الفعل المتولد يحدث بأثر القدرة الأولى دون حاجة إلى بدء ثان. وكما أن القدرة في المبتدأ سابقة على الفعل فكذلك القدرة في المتولد سابقة على الفعل. والفرق بين القدرتين أن الأولى مباشرة والثانية متولدة. ولا يعني غياب الفاعل غياب الفعل؛ لأن الفعل مشروط بالقدرة لا بالفاعل. وما دامت القدرة موجودة فالفعل موجود. ولا يهم أن تكون القدرة المتقدمة باقية بفعل الابتداء أم باقية بإرادة خارجية. فلا معنى لإثبات إرادة خارجية تبقى على القدرة واستمرار الفعل ما دامت موجودة. والاستمرار في الوجود أسهل من الوجود ابتداء. لا يقع الفعل المباشر على الإطلاق بقدرة معدومة لأنه هو الفعل المبدئي. والأمر فعل. وطالما كان موجها فهو فعل، وفعله باق ما بقي الزمان، ولا يحتاج إلى أمر مجدد. الفعل للتكرار على ما يقول الأصوليون. التوليد إذن إما أن يحدث في الحال أو يحدث في الاستمرار. الأول كالفعل الناتج عن فعل آخر، والثاني كالفعل الذي يحتاج إلى وقت يختمر فيه وينضج ويظهر بعد مدة من الزمان.
24 (2-1) حجج إثبات التوليد
ومع أن إثبات التوليد لا يحتاج إلى أدلة؛ فهو تجربة واقعية وشهادة حسية ضرورية، إلا أن هناك عدة أدلة تثبت وجوده سواء كانت نقلية أم عقلية، منها: (1)
يثبت التوليد بإثبات العلية أو السببية؛ لأنه يقوم عليها وعلى التوسط بالسبب. يحدث الفعل بتوسط سبب لا بطريق مباشر، خاصة إذا كان الفعل يتطلب قدرة أعظم من القدرة الأولى ولا يمكن أن يحدث بالقدرة في الحال الأول. فكثيرا ما أثرت فكرة في التاريخ، وامتد أثرها أضعاف ظهورها في الحال الأول. إن الفعل الأول القائم على صفاء الباعث وكمال الغاية متطور بطبيعته وقادر على احتواء أكبر قدر ممكن من الواقع.
25
وقد يكون السبب نوعين، سبب معنوي فكري نظري خالص مثل الأفكار والسنن والقوانين وأثرها في التاريخ، وسبب مادي مباشر وهو العلل المادية في الظواهر الطبيعية.الأولى أسباب غير مباشرة أو معنوية والثانية أسباب مباشرة أو مادية. لا يحتاج إثبات التولد إذن إلى إثبات التوسط بالسبب المادي وحده؛ فالتولد بقاء معنوي للفعل الأول واستمراره في الزمان. ليس الفعل هو الفعل الطبيعي فحسب الذي يحتاج إلى مسبب مادي متوسط حتى يحدث أثره بل هو أيضا الفعل الإنساني الذي يحدث أثره بتحوله إلى باعث مستمر في شعور الآخرين أو إلى إبداع مستمر في شعور الإنسان كما هو الحال في أفعال الشعور من اعتقاد ونظر وخلق؛ ومن ثم يكون السؤال عن سبب الفعل، هل هو السبب أم القادر؟ سؤالا بغير ذي دلالة لأن الفعل هو صاحب الأثر. والأسباب لا تؤثر بنفسها دون فعل إنساني. النار تطهى وتحرق، والفعل الإنساني هو الذي يجعلها إما تطهى أو تحرق. وكل سؤال عن السبب المباشر في الطهي والإحراق، هل هو الإنسان كفعل أم النار كسبب؟ سؤال تحت الدلالة، وما تحت الدلالة أو فوقها لا معنى له.
26
المتولد هو الفعل الذي بسبب مني يكون في غيري. وقد يقع في نفسي وقد يقع في غيري. وقد تتولد الأفعال في الثاني والثالث والرابع إلى ما لا نهاية حتى يضعف أثر الفعل ما دام السبب الأول قائما، وما دامت القدرة ما زالت مؤثرة. يحدث التولد آليا دون توافر القصد والنية والغاية وإلا كان فعلا مباشرا.
27
فإذا ما ترك السبب هل يبقى المسبب؟ يمكن بقاء المسبب حتى بفناء السبب ما دامت القدرة حالة في الأشياء.
28
تبقى الحرارة وتنتقل بالمجاورة والمماسة بالرغم من انطفاء النار الأولى. لا يهم السبب الأول في الفعل، فقد تتداخل في الفعل عدة أسباب، اليد والآلة وطبيعة الجسم المضروب، وليس سببا واحدا.
29
وقد تنعدم الأسباب والمسببات وقد تكون مصاحبة لها، وقد يكون التقدم بأكثر من وقت.
30
والعلاقة بين السبب والمسبب علاقة حتمية ضرورية، إذا وجد السبب وجد المسبب.
31
ولكن هل يوجد السبب دون فاعل؟
32
هل يوجد السبب دون قدرة؟
33
هل يجوز أن يقع الفعل من الله بلا سبب؟
34
إن موضوع السببية هو موضوع العلية؛ فالصلة بين السبب والمسبب هي الصلة بين العلة والمعلول، مرة بألفاظ المتكلمين ومرة أخرى بمصطلحات الحكماء. ونظرا لتقدم الاستطاعة على الفعل فإن العلة تكون متقدمة على المعلول كتقدم السبب على المسبب.
35
العلة عند القدماء هي العلة الفاعلة مع أن العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقيقية؛ فالغايات هي المحركات كبواعث. السبب الحقيقي للإرادة هو الباعث، والباعث هو السبب الإرادي. ويشمل الباعث الدواعي والمقاصد والغايات، وهي الأفعال الإنسانية المستمرة في العالم الإنساني.
36
لذلك هناك فرق في التوليد بين السبب الطبيعي المادي الذي يحدث بقاء الشيء مثل الجهد الإنساني، والسبب المادي الصرف. فنبات البذرة تعني أن جهد الإنسان هو الفاعل الإنساني ولا تعني أن الإنسان قد دخل البذرة وأنبتها. يحدث الفاعل الطبيعي طبقا لقوانين الطبيعة.
37
ولا يهم حدوث التوليد بسبب متوسط أو بعدة أسباب تؤدي كلها في النهاية إلى الفعل المتولد؛ فالفعل عادة عملية واحدة، واقعة سلوكية واحدة لا يمكن تجزئتها إلى أول ووسط ونهاية أو إلى أسباب تتركب وتتألف تؤدي في النهاية إلى المسبب. فهذه نظرية كمية لموضوع كيفي وتجزئة لكل، وتركيب لبسيط.
38
إن تعليل الظواهر ذات الأسباب المجهولة بفعل المعبود فكر أسطوري. فالظواهر التي لا تعلل بالعلل المباشرة يمكن تعليلها بعلل غير مباشرة وتكون أيضا عللا طبيعية. فإذا تم إدراك دون حواس فلا ريب أن هناك حاسة داخلية قد تم الإدراك بها، قد يكون حدسا أو معرفة طبيعية أو فكرة فطرية. وإذا تهيأت العلة وقع المعلول بالضرورة. وإن لم يقع المعلول فإما أن العلة ليست علة أو لوجود مانع آخر وهي علة معارضة أقوى من وقوع المعلول. وإرجاع غياب العلة مع وجود المعلول إلى تدخل إرادة خارجية مشخصة يظل فكرا أسطوريا.
39 (2)
نسبة الفعل إلى الإنسان دون الله، وذلك لأن البواعث ليست متولدة بفعل إرادة خارجية، بل هي من طبيعة الإنسان، من وجوده في العالم، ومن حضور الفكر فيه، وتمثله للغايات والمقاصد التي هي حقائق إنسانية عامة ممكنة تمثل بناء مثاليا للعالم، وهو البناء الواقعي الدائم الذي يمكن أن يتحقق بفعل الإنسان، والذي يعبر عن كمال الطبيعة، والذي لا يبقى واقعا إلا إذا حققه فعل الإنسان وظل حارسا له.
40
التوليد فعل إنساني خالص وليس فعل أية إرادة خارجية مشخصة. وعلى فرض أن هناك إرادة كاملة موجودة على الإطلاق تفعل فعلا مباشرا لأنها حياة مطلق فإنه ليس هناك ما يمنع من وضع الكون على نحو معين ابتداء ثم ترك الحوادث فيه لفعل التطور ولقوانين الطبيعة لما في الطبيعة من فعل وكمون. كل فعل لا يبدأ من عدم. وفعل الآخر إنما هو استمرار لفعل الأول ما دامت الأفعال كلها موجبة نحو غاية واحدة، وتصدر عن باعث واحد. ولولا الاستمرار في الفعل لكان الإنسان يفعل في هذا العالم نطا ويؤثر قفزا، لكل فعل قدرة، وهو إنكار لوجود الإنسان مع الآخرين ولوجوده في التاريخ.
41
ولا يحتاج التوليد لتدخل إرادة خارجية مشخصة تضمن بقاء الاستطاعة بعد الفعل لتوليد أفعال أخرى، بل يعني وجود عوامل جعلت الاستطاعة باقية مثل توافر الباعث عند الآخرين وارتفاع الموانع. ولا يختلف السبب الموجب باختلاف الفاعلين لأن السبب يفعل من جهة الإنسان.
42
التوليد وصف للفعل الإنساني وبقائه في الزمان أو هو وصف للفعل الطبيعي. وكل محاولة لوصف أي فعل خارجي عن الفعل الإنساني والفعل الطبيعي بالتوليد ما هو إلا إسقاط من الإنسان على غيره. وهذا الإسقاط ذاته ضد عواطف التأليه لأنه يجعل المعبود في حاجة إلى توسط بالسبب. وإثبات قدرة أعظم من السبب وقوع في الجبر وإلغاء للعلية ولاطراد قوانين الطبيعة وإنكار للتولد؛ أي وقوع في التناقض بإثبات شيء يؤدي إلى نفيه. ولا يقال إن القادر على الفعل ابتداء قادر عليه توليدا بطريق أولى لأن ذلك فكر ديني إلهي وليس فكرا دينيا علميا، وإسقاط لعاطفة وليس تحليلا لعقل. لا يعني حدوث التوليد من الإنسان أنه لا بد وأن يحدث من المعبود وإلا لكان أضعف قدرة لأن التوليد ليس وسيلة لإثبات قدرة أحد أعظم أو أقل، بل هو وصف لفعل الإنسان وأثره في الواقع وعلى الآخرين. ولا يعني عدم وقوع التوليد من المعبود عدم وقوعه من الإنسان؛ لأن التوليد واقعة إنسانية لها ما يثبتها في استمرار الفعل واطراد الأسباب والعلل. ولا تحتاج قوانين الطبيعة واطرادها إلى إثبات توليد في افعال المعبود؛ فهذا وضع طبيعي وجريان للعادة.
43
لذلك كانت الشبه التي قيلت في أفعال المعبود شبها حقيقية تبين أن إثبات التوليد تناقض ينافي عواطف التعظيم والإجلال. فالتوليد يدل على أن المعبود في حاجة إلى سبب آو آلة. وإثبات الفرق بين الإنسان والمعبود في أن الأول يحتاج إلى آلة، في حين أن الثاني لا يحتاج تمنيا لا يمنع من قوة المعارض، كما يؤدي القول بالتوليد إلى نفي الإرادة وإعطاء القدرة للسبب تفعل محل الإرادة، بل وتكون الإرادة خاضعة للسبب.
44
ولما كان يفترض في المعبود العزم، فإن التوليد في أفعاله حد من قدراته وإعطاء القدرة للسبب؛ فتكون أفعاله مشابهة لأفعال الإنسان القائمة على اطراد العادات وارتباط الأسباب بالمسببات.
45
ولماذا يفعل المعبود التولد وهو قادر على الأفعال ابتداء؟ وما الغاية من وضع الأسباب في الطبيعة إذا كانت لا تفعل بذاتها ولا تستقل، ومهددة بالتوقف والاضطراب، بل والانعكاس في أية لحظة؟ ألا يؤدي التوليد إلى الشرك وإثبات مقدور لقادرين، المعبود والسبب؟ وإن كانت لا حاجة للمعبود للسبب يكون وضع السبب إذن عبثا. وإذا كانت المصلحة تقتضي في هذا العالم وضع الأسباب؛ فما المصلحة في وضعها في عالم آخر؟
46
لذلك فضل البعض جعل أعمال المعبود كلها ابتداء لا توليدا؛ لأن المعبود لا يحتاج إلى سبب في مقابل الإنسان الذي لا يقدر أن يفعل ابتداء ما يفعله بالتولد؛ لأنه في حاجة إلى الأسباب. وزيادة في التعظيم فإن ما يفعله المعبود يصح منه بدؤه. وحينئذ يكون السؤال: فما الداعي إلى التوليد؟
47 (3)
وقد ورد الأمر والنهي بالأفعال المتولدة كما ورد بالأفعال المباشرة، وذلك كحمل الأثقال في الحروب والإيلام. هناك أثر لفعل الإنسان بعد الموت في حياة الآخرين، مثل أثر القدوة على التغيرات الثورية وطاعة الجماهير، وأثر الفكر الثوري في تحقيق الثورة.
48
كما أن التوليد، بما أنه فعل الإنسان ومناط التكليف ويستحق عليه المدح والذم. النظر والعلم والاعتقاد وجميع أفعال الشعور قائمة على التوليد. ولا يعني وقوع ذلك في حياته فقط، بل يعني أيضا ترتب نتائج سيئة وضارة لفعله عند الآخرين. ليس الفعل المتولد هو الفعل الساهي والنائم، بل هو فعل إرادي مقصود من حيث الأثر والاستمرار. إن استحقاق الذم والمدح لا يتم على الفعل الوقتي، بل على الفعل المستمر، فلا يتغير المدح والذم بعد ظهور الأثر لأنهما حكمان قائمان على الفعل في الزمان وليس على الفعل اللحظي. وهذا لا ينفي إمكانية تغيير الإنسان لفعله حين يشعر بإمكانية فعل أفضل، فإذا غير الفعل تغير الحكم. ولكن يتم ذلك في حياته. فبعد الحياة لا توجد إمكانية تغير أو استدراك لا عن طريق التمني أو في حياة الآخرين.
49 (2-2) أقسام التوليد
تنقسم أفعال التوليد إلى ثلاثة أقسام: الأول عندما يفعل الإنسان في نفسه شيئا يتولد عنه فعل في غيره. وفي هذه الحالة يكون الفعل هو المولد والغير المولد منه ، ويكون الفعل هنا منتقلا من الذات إلى الآخر. والثاني عندما يفعل الإنسان في غيره أفعالا تولد عن أسباب يفعلها في نفسها. فالتولد هنا يخضع لقانون السببية دون ما حاجة إلى فاعل ومفعول. يكون الطرفان في هذه الحالة على المستوى نفسه، وتكون العلاقة مساواة بين علة ومعلول. والثالث عندما تكون المتولدات أفعالا لا فاعل لها، بل تخضع لقوانين عامة أو أن تكون الأعراض متولدة من أفعال الأجسام.
50
ولما كان التوليد ظاهرة إنسانية خالصة تشير إلى أن الإنسان هو في الحقيقة إمكانية تتعدى وجوده الزمني وحدوده البدنية وتعييناته في المكان، كما أنها ظاهرة طبيعية تشير إلى الكمون في الطبيعة وإلى أن الطبيعة تحوي في ذاتها أصل نمائها، وتكوينها وانتشارها، انقسمت أفعال التوليد إلى قسمين: التوليد في أفعال الشعور، والتوليد في أفعال الطبيعة. وشمل الأول أفعال التوليد بين الأنا والآخر. (1)
التوليد في أفعال الشعور. وهنا يكون التوليد في أفعال الشعور الداخلية؛ فالتركيز على فعل يولد فعلا آخر، وذلك لأن الشعور الداخلي حر الأفعال. وقد يعني هذا التوليد استمرار القدرة على الفعل، إما في حياة الإنسان بعد عجزه عنه أو بعد مماته بما يتركه من سنن وأفكار واتجاهات وجماعات وأحزاب وقوانين وتنظيمات وتشريعات؛ فأفعال الإنسان مستمرة حيا أو ميتا، وبقاؤه مستمرا غير محدود بالآجال. فمن سن قانونا بأن كل من يعترض أو يتظاهر فإنه يسجن، ثم يموت واضع القانون فإن أثره يظل من خلال قانونه، ويكون هو المسئول عن كل سجين ومعتقل إلى أن يتغير القانون بقانون آخر يبطل فعل القانون الأول. وقد لا تحدث آثار الفعل أثناء حياة الفاعلين قدر حدوثها بعد مماتهم في آثارهم وسننهم وقوانينهم بشرط توفر الهدف والقصد والنية.
51
ويمكن ترك الفعل المتولد والإنسان على قيد الحياة بتغيير فعله المبتدأ مصححا إياه؛ ومن ثم يمحي أثره، والإنسان قادر على ذلك ما دامت الغاية واضحة والنية متوافرة. والقدرة على السلوك موجودة، والمانع غائب. فإذا ما تحقق من أن فعله ليس هو الفعل الأمثل، غير الفعل الأول إلى فعل ثان ومن ثم يتغير أثره معه. ويمكن للآخرين بعد حياة الفرد القيام بتغيير فعله أو إدخال تعديل عليه أو تركه إلى فعل آخر وتصحيح فعله؛ وبالتالي يتغير أثر الفعل الأول ويحل محله الفعل الثاني.
52
بل إن مجرد الاحترام المعنوي لشخص غائب نوع من بقاء الفعل بعد الاستطاعة الأولى. فاستطاعة الغائب فاعلة، إما لاحترام شخصه أو تقدير أمره أو تخليدا لذكراه. التوليد هو إثبات لفعل الجماعة ولوجود الجماعة ولحضور الجماعة وتأكيد لجماعة الحياة والخلق والانتشار. لا يضير الإنسان أن يبدأ فعله من فعل غيره أو أن يؤثر الغير في فعله. وما دام هذا الفعل قائما على نفس القصد ويهدف إلى نفس الغاية، فإن اتفاق الباعث والهدف يجعل اتفاق الفعلين أولى من الاختلاف. وإن حدث اختلاف في الأفعال فالفعل الأصح والأكمل يعدل ويصحح الفعل الآخر. وإن كان أحد الفعلين خطأ على الإطلاق غيره الفعل الثاني ونفاه وبدله إلى فعل صحيح. ولا يعني عدم وقوع الفعل إبطال التوليد، بل دخول فعل آخر أكمل من الفعل الأول وابتلاعه له في ميدان السلوك.
53
ليس الوقت الثاني والثالث في الأفعال هو وقت الحركة، بل توالي الأجيال. يستمر فيها طالما بقيت القدرة عليه حتى تأتي أفعال مضادة أو يضعف الأثر أو تتغير الظروف.
54
يتضح بقاء الفعل في العالم بعد الاستطاعة الأولى في أثر الأفعال وبقائها بعد حياة الفاعل. بل إن كثيرا من الأفعال لا يظهر أثرها الإيجابي أو السلبي إلا بعد حياة فاعلها. وهذا هو معنى الحضارة أو الإنسانية. الحضارة تراكم أفكار البشر وأفعالهم بعد انتهاء قائليها وفاعليها. تلك هي قدرة الإنسان على الخلود وتخليد ذاته بأفعاله الباقية. فلا تناقض إذن في وجود قدرة مع الموت لأن الموت في هذه الحالة قد تم التغلب عليه، فتحول إلى حياة دائمة. كما تم التغلب على العجز فتحول إلى قدرة دائمة. ذاك هو وضع الإنسان في الحياة؛ يحقق رسالته فيتحول وجوده النسبي إلى وجود مطلق، ووجوده الزماني إلى وجود أبدي.
55
وتبقى الأفعال أيضا بعد الاستطاعة الأولى؛ إذ يكفي أن يقرر الإنسان شيئا وهو على فراش الموت ثم يبقى فعله بعده كما هو واضح في الوصية أو في آخر توجيهاته. لا يعني العجز أو الموت نهاية القدرة أو الاستطاعة بل يعني استمرارهما وفعلهما في الآخرين. لا يعني العجز والموت والعدم نهاية الفعل، بل يكشف عن استمرار الفعل عند الآخرين. خطأ الشبهة إذن ناتج عن تصور الفعل على أنه فردي خالص وعلى أنه فعل بدني ينتهي بانتهاء الفرد أو بعجز العضو وليس الأثر المعنوي عند الآخرين وفي التاريخ.
56
ولا يوجد واقع خارج عن بقاء الاستطاعة يؤثر فيه الإنسان إذا كان الواقع ممتدا تحت طاقة الإنسان وعلى مداها. أما الظواهر الطبيعية الصماء التي تخرج عن نطاق الفعل الإنساني ومدى الطاقة فهي تتبع نظام الطبيعة الثابت.
57
الفعل مرهون بالقدرة وحدها وليس بالمقدور عليه. إذا توفرت قدرة الكتابة فإنها لا تعني الكتابة على الهواء؛ لأن الفعل له ميدان تحققه الموضوعي وشروطه الموضوعية. كما أنه يتحقق بالقدرة وهي شرطه الذاتي مع الباعث والغاية. لا تزال الأفعال المتولدة أفعالا مقصودة مروية؛ فهي ليست مجرد أفعال آلية. ويظل أثر القدرة طالما تمثلتها أفعال بشرية مقصودة مروية. لا يقع الفعل بقوة معدومة بل بقوة موجودة مستمرة بعد الفاعل الأول.
58
ولا يعني بقاء القدرة في الحال الثاني أنها تبقى آليا من نفسها بل تتجدد القدرة بحيوية الباعث المستمرة وبالوضوح الفكري الدائم وبمثول الغاية. يوجد العلم والإرادة مع الموت وذلك بتبني الآخرين الأحياء لهذا العلم ولهذه الإرادة. ليس الفعل فعلا فرديا فحسب بل هو فعل جماعي.
59
ويجوز أن يبطل التولد إذا ما حدث العجز في الثاني أو الثالث. ودون ذلك تبقى الاستطاعة بلا قدرة متجددة. الفعل التام هو الذي يحدث في حال واحد دون أن يتخلله زمان. هو فعل تتزامن فيه القدرة والباعث والغاية والفكر وغياب الموانع. لا يوجد فعل غير مقدور عليه أو قدرة عاجزة. الفعل هو الفعل الواقع وإلا لما سمي فعلا.
60
وإذا حدث العجز في الحال الثاني فإن القدرة لا تبقى، والفعل ينقطع ولا يتم. والعلم بالعجز لا يتم بإسقاط العجز عن القدرة الأولى، أي بالرجوع إلى الوراء كما هو الحال في العدم المعبر عنه بأداة الشرط «لو». إذا حدث العجز فإما لضعف القدرة بناء على ضعف الباعث أو ضمور الغاية أو غموض الفكر أو وجود مانع. ويظل الإنسان في حال العجز الثاني قادرا على الفعل كإمكانية خالصة وذلك بتغيير الموقف النفسي والاجتماعي إلى موقف الفعل في الحال الأول.
61
والإنسان قادر على الفعل والترك، قادر على فعل الشيء وضده تعبيرا عن حريته. لو كان قادرا على الفعل وحده أو الترك وحده أو على أحد الضدين فقط لما كان حرا. ولما كان عمله ذا فعل موجه يعبر عن طبيعته ويحقق غايته؛ كان الترك وفعل الضد لديه مستحيلا عملا.
62
كذلك يقدر الإنسان على فعل أو أكثر من الديمومة حين بقاء الاستطاعة نظرا، ولكن عملا يكون فعلا من النوع نفسه، وإلا كان فعلا غير صادق، ولانقلب السلوك الواحد إلى نفاق وتواطؤ ومساومة. يفعل الإنسان شيئا واحدا طبقا لطبيعته. وإذا تصارعت الدوافع طبقا لدرجة كمال الغايات تحقق الدافع الأقوى الذي يعبر عن شدة الباعث وكمال الغاية.
63
والبدل في السلوك ليس هو البديل المنطقي أو الآلي، بل هو الذي توجهه الطبيعة نحو غاية واحدة لا تتبدل.
64
وكلما بعدت القدرة عن الحال الأول انتابها الضعف والوهن بفعل الزمن والرتابة ما لم تتجدد باستمرار بحيوية الباعث ووضوح الفكر وتمثل الغاية. إن بقاء القدرة إمكانية خالصة قد تبقى إذا توافرت عوامل بقائها وهو التجدد الدائم. ليست القدرة واقعة مادية تبقى حاضرة على الإطلاق، بل هي واقعة إنسانية تتأرجح بين الحضور والغياب. والحقيقة أن هناك فرقا بين الفعل الإنساني والفعل الطبيعي في التولد. فالفعل الطبيعي وإن كان يشابه الفعل الإنساني من وجه إلا أنه لا يشابهه من كل وجه؛ نظرا لاختلاف المستويين. يمكن للآلة أن تفعل في الأول والثاني ما دامت الطاقة موجودة ومستمرة دون ضعف ووهن. وفعل الإنسان أيضا بتوافر الطاقة. ولكن احتمال التكرار في الآلة أكثر من احتماله في الإنسان، وديمومة الفعل في الآلة أكثر منه في الإنسان ، واحتمال وجود الشرط في الإنسان أضعف من احتمال وجوده في الآلة. الفعل الطبيعي متكرر إذا توافرت الشروط، فالمطر يسقط كلما تحمل الجو بالبخار وتشبع به وانخفضت درجة الحرارة أو خف الضغط، والحديد يتمدد بالحرارة كلما توافرت الحرارة الكافية. استمرار الفعل الطبيعي قائم على أفراد القانون الطبيعي، والفعل الكوني مثل حركة الكواكب قائم على اطراد قوانين حركة الأفلاك، أما الفعل الإنساني فبالرغم من أن له قانونه كذلك، إلا أن هذا القانون نفسه تعبير عن الحرية الإنسانية دون أن يحتم عليها شيئا. في الفعل الطبيعي لا استثناء، وفي الفعل الإنساني تحدث استثناءات طبقا لقانون آخر هو حرية الإنسان التي تفرض في كل وقت قانونا جديدا. فالحرية قانون ذاتها وممارستها وواقعها. والحقيقة أنه تصعب الإجابة على معظم أسئلة التوليد وبقاء الاستطاعة في الحال الثاني أو الثالث أو الرابع إجابة صورية خالصة دون الإشارة إلى تجارب إنسانية يمكن أن تعطينا مادة لتحليلها، وتكون في الوقت نفسه مصدرا يمكن الرجوع له والاحتكام إليه. وليست المادة أفعال البدن وحدها أو أفعال الشعور وحدها أو أفعال الفرد وحده، بل الأفعال كلها ومسارها في الجماعة.
وهناك أفعال لا تكون إلا متولدة، ولا تحدث ابتداء، مثل النظر المتولد عن العلم أو العلم المتولد عن النظر أو الفكر المتولد عن الباعث أو الباعث المتولد عن الفكر، وذلك لأن وجود المسبب مشروط بوجود السبب.
65
وأفعال القلوب المبتدأة هي أفعال الشعور. وقد يحدث فيها التولد حين تتولد فكرة من أخرى أو ظن من فكر أو إرادة من كراهة. وإذا كانت بعض الأفعال متولدة فذلك لا يعني أن تكون كل الأفعال متولدة وإلا وقعنا في مغالطة وهي تعدية حكم الجزء على الكل. لا تنقسم الأفعال المتولدة إلى أفعال شعور وأفعال جوارح، بل الذي يحدد البدء والتولد هو مدى أثر الفعل. الفعل القصير المدى يحدث منذ الحال الأولى، ولكن الفعل الطويل المدى هو الفعل المتولد. ويتحدد قصر المدى أو طوله بغاية الفعل، خاصة أم عامة، وبكمال الغاية، حسية أو معنوية، وبقوة الفعل، فردي أم جماعي، وبوضوح الرؤية، سطحي أم علي، افتراضي أم واقعي، مفروض أم يعبر عن مطلب حقيقي.
66
الإرادة متولدة من الباعث؛ لأنها ليست شيئا آخر إلا قوة الباعث الذي يتولد منه المراد؛ لذلك جعل البعض الأفعال المتولدة هي أفعال الشعور لا أفعال الجوارح؛ لأن الفعل الإنساني هو فعل الشعور، أما أفعال الجوارح فهي أفعال بدنية خالصة تحدث بطبيعة العضو وتكوين الكائن الحي. والسبب في الأفعال المتولدة هو بقاء الاستطاعة الأولى في الحال الثانية، وهي أقرب إلى أفعال الشعور.
67
وقد تكون أفعال الشعور وأفعال الجوارح معا أفعال الإرادة، وتقع كلها حسب الدواعي والقصود. كما أن الأفعال ابتداء أو الأفعال المتولدة كلاهما يقعان حسب الدواعي والقصود. وقد ثبت التولد بإثبات أفعال متولدة تقع حسب القصود والدواعي.
68
ويؤثر البعض جعل أفعال الإنسان أفعال الجوارح أي أفعال الإرادة لأنها هي التي تظهر فيها الحرية وما سوى ذلك من أفعال الشعور فإنها تحدث طباعا.
69
وربما تترك أفعال الجوارح وأفعال الشعور معا بلا تحديد لفعلها، فكلاهما قد يحدث مرة طباعا ومرة أخرى اختيارا. وتثبت الأفعال المتولدة بإثباتها ناشئة عن القدرة كالأفعال ابتداء.
70
وأحيانا يصعب التفرقة بين الاثنين كما هو واضح في سؤال: هل المقتول بإرادة القاتل أم بقتل المقتول؟
71
وقسمة الأفعال إلى بدنية من فعل الإنسان وشعورية من فعل الله قسمة تقوم على الرغبة في الجمع بين الفعلين كمحاولة أخيرة قبل خروج الفكر العلمي واستقلاله. وكان من الطبيعي إعطاء الإنسان الفعل البدني الخالص، والله الفعل الشعوري الخالص؛ فهو أكرم وأشرف.
72
وقد يكون هناك خلاف على الأشرف؛ فقد يكون الأشرف لله أن ننسب إليه أفعال الطبيعة وليس أفعال الإرادة؛ تنزيها له عن فعل القبيح وحرصا على حرية الإنسان. ولما كانت الطبيعة أقوى من الإنسان، فإنه يكون شرفا أن تعطى لله أفعال الطبيعة دون أفعال الإنسان.
73
ولما كان الإنسان قادرا على الأفعال المتولدة، فإنه يقدر على الصفات الثانية للأشياء في الطبيعة كالألوان والأصوات والطعوم والأراييح.
74
فالإحساسات الخمس متولدة فيما بينها، أي مولدة إحساسات وليست أفكارا حسية. وكثير من أفعال الإنسان تصدر بالتوليد مثل الأصوات والآلام والتأليف، بل إن أعمال الخلق كلها قائمة على التوليد.
75 (2)
التوليد في أفعال الطبيعة. ويظهر التوليد أيضا في أفعال الطبيعة وفي أفعال الكائن الحي باعتباره موجودا طبيعيا؛ فالطبيعة قائمة على تسلسل العلل واعتماد بعضها على البعض.
76
يحدث التولد في أجسام الطبيعة طبقا لقوانين الطبيعة. ولا ينفي التوليد أنه حاصل في الطبيعة كظاهرة طبيعية. التوليد ليس خلقا من الله أو اكتسابا للعبد أو حتى فعلا حرا له؛ لأنها أفعال طبيعية صرفة تخضع لقوانين الطبيعة، فالأفعال المتولدة لا فاعل لها.
77
والاعتماد وصف بديهي لأثر حركة اليد أو الجسم على الأشياء.
78
ولكن هل يولد الاعتماد أم يتولد بالحركة والنظر والمجاورة؟ هل الاعتماد جسمي أم معنوي؟ هل يستطيع الإنسان أن يفعل من غير مماسة؟
79
الحقيقة أن تحليل الفعل على المستوى الطبيعي هو خروج على المستوى القصدي. فسواء كان الإدراك يتم بفتح إرادي للجفن أم لا، فذلك وصف خارجي محض لعملية الإدراك أو التأليف الحاصل عن المجاورة وأنواع المجاورة. والألم الحادث عن الوهن، كل ذلك أوصاف لا دلالة لها بل افتراض عقلي خالص، كقسمة التأليف الحادث عن المجاورة إلى خمسة أجزاء، وتقسيم القدرة إلى خمسة أجزاء لكل جزء قدرة.
80
وبصرف النظر عن أنواع التوليد الطبيعي لأفعال الجسم أو الكائن الحي، فإنها تجري جميعا بالعادة أو بالطباع، أي طبقا لقانون. والقول بالعادة هو أيضا قول بالطباع، ولكن بلفظ آخر مثل لفظ الخلقة.
81
وحدوث الأشياء في المحل شبيه بحدوثها بالعادة أو بالطبع. ولا يعين المحل الكائن الطبيعي كواقعة مصمتة، بل هو موقف إنساني تتداخل فيه عوامل الفعل الإنساني كالباعث والقصد. ولا يعني نفي المحل كموقف مصمت أنها واقعة تحت فعل إرادة خارجية.
82
ولكن يظل لفظ «الطباع» هو اللفظ المفضل.
83
ولا تعني الطباع نفي السبب؛ فهي ليست ضرورة أو حتمية عمياء، بل تخضع لقانون طبيعي تجعل الحوادث تحدث طبقا له وتسمى طباعا.
وبالرغم من أن الأفعال المتولدة قائمة على القصود والدواعي، إلا أنها أيضا تثبت بالطباع.
84
فإثبات القصود والدواعي لا شأن له بإثبات القديم عن طريق الغائية، بل هو تحليل علمي موضوعي لبواعث الأفعال ومقاصدها.
85
والطبع لا ينافي القصد. يقوم الإنسان بفعله الذي يعبر عن طبعه وهو قصده. ويحقق الإنسان قصده وهو طبعه. ومقاصد الوحي طبيعة وفطرة، والفطرة لا تعارض القصد.
86
ولا يمنع الترجيح بين الدوافع بالطبع. ليس الطبع منافيا للغائية، إنما كان إثبات الأفعال حسب القصود والدواعي موجها ضد نوعين من الجبر، الجبر الديني الإلهي الذي يجعل المعبود فاعلا لكل شيء، والجبر العلمي الذي يثبت الأفعال بالطبائع. ومع أن الجبر العلمي أكبر رد فعل على الجبر الديني الإلهي القائم على التشخيص، إلا أنه ينكر القصد والباعث والغائية التي هي أيضا من الطباع. ليست الطبيعة عمياء، بل هي طبيعة عاقلة هادفة.
87
وكل محاولة للتوفيق بين فعلين لا تأتي بجديد؛ فالفعل الباقي باق بالاستطاعة الباقية. وهذا تفسير كاف ولا يحتاج إلى علة زائدة. والوصف العلمي يقوم على التفسير بعلل أقل لا بعلل أكثر.
88
فالقول بالطباع وبفعل المعبود في آن واحد تفسير لظاهرة بعلتين، الأولى كافية والثانية زائدة. بل إن القول بالسبب بالإضافة إلى الطبيعة رغبة في إثبات أفعال المعبود وخوف من الاستقلال التام للطبيعة. وفي هذه الحالة تحدث الأفعال المتولدة باجتماع السبب والطبيعة معا. والقول بالطباع وإن كان يمثل تقدما هائلا بالنسبة للفكر اللاهوتي في الطبيعيات إلا أنه حين يفسر بقاء الفعل والاستطاعة يغفل أثر القدرة الأولى وكأن الواقع يتحرك بنفسه دون ما تدخل من إرادة الإنسان المستمرة في الأثر. ليست حركة الواقع فقط نتيجة طبيعة الأشياء، بل نتيجة طبيعة الأشياء والفعل الإنساني معا. لا يتغير الواقع بنفسه. ولا يغير الإنسان الواقع ضد طبيعة الأشياء. لا يحدث شيء في الواقع إلا وله محدث وهو الإنسان أو طبيعة الأشياء. ولا يحدث من شيء من الخارج، فالإنسان وطبيعة الأشياء كلاهما في العالم.
89
لذلك فإن القول بالطباع دون التوليد هو إنكار لأثر الإرادة في الواقع واستحالة لشكر الإنسان وثنائه وإحساسه بالتوفيق في إتمام مهمته.
90
وهو قول بطبيعة غير عاقلة وغير مريدة وإعطاء الطبيعة كل القوة وسلبها عن الإنسان
91
هو فعل للطبيعة خارج الشعور واعتبارها إما قديمة لا شأن للإنسان بها أو حادثة بلا سبب وتحتاج إلى محدث.
92
يؤدي القول بالطباع دون الاختيار إلى إنكار البعثة والوحي. صحيح أن الواقع يتأزم ويستدعي الفكر ويمكن للطبيعة أن تبدع فكرها ويكون في الوقت نفسه مطابقا للوحي، ولكن ذلك يحتاج إلى طبيعة كاملة وإلى وقت طويل، ولا يبرأ من احتمال الخطأ؛ فالوحي هو عقل الطبيعة وفعل مع الطباع.
93
ولا يؤدي القول بالطبائع إلى إنكار الصانع، بل إلى إثبات حكمته. ليس الصانع حاويا أو ساحرا، بل حكيم خلق الأجسام وجعلها تتحقق طباعا طبقا لقوانين الكون من طبيعة الخلق. وموضوع التوليد هو تحليل لأفعال الطبيعة وليس الهدف منه صياغة أدلة على وجود الصانع. هو موضوع موجه إلى أسفل وليس إلى أعلى، وبالتالي تظل المحافظة على المستويات قائمة. وهو أكثر مدعاة للتنزيه؛ تنزيه الله عن القبائح والشرور، وأكثر مدعاة للعدل بالتأكيد على مسئولية الإنسان عن أفعاله واستمرارها في الكون. كما أنه أكثر مدعاة إلى تأسيس العلم الآلي وجعل الأفعال كلها متولدة عن بعضها البعض تجنبا للتشخيص. كل شيء خاضع لقانون سواء الأفعال الإرادية أم غير الإرادية، العضوية البدنية أم الشعورية الخالصة.
وإثبات المتولدات في الأفعال الإنسانية بإرجاعها للإرادة وترك أفعال الطبيعة متولدة لا فاعل لها هو إثبات لحرية الإنسان ولاستقلال الطبيعة في آن واحد؛ ومن ثم يمتد فعل الإنسان الحر إلى العالم من خلال حتمية قوانين الطبيعة.
94
وقد يصل الأمر إلى حد اعتبار أن أفعال الإرادة أيضا خاضعة للأسباب وأن الإنسان قادر متى أخذ بالأسباب على إتيان كل الأفعال، أفعال الإرادة وأفعال الطبيعة، على سبيل التولد. وهنا يتأسس العلم الطبيعي الآلي، وتصبح الإرادة الحرة جزءا من قوانين الطبيعة وأحد عوامل الخلق فيها.
95
وقد يكون التولد بالطبع دون تفصيل في الأسباب. كما قد يصل القول بالطبع إلى أن تكون أفعال الإرادة ذاتها بالطبع وأن يكون الإنسان قادرا حتى على خلق أفعال الشعور الداخلية بالطبع.
96
وقد يقع فعل واحد من فاعلين لما كان الفعل يحدث في الطبيعة وكانت الطبيعة قابلة لأفعال الإنسان، ودون أن يكون أحد الفعلين خلقا والآخر كسبا، أحدهما لله والآخر للإنسان. فكلاهما للإنسان، لفاعلين مختلفين.
97
وإذا ما فعل الله يفعل طباعا، طبقا لقوانين الطبيعة وليس ضدها.
98
وقد يؤثر البعض جعل التولد في أفعال الإنسان وحدها في نفسه وليس في غيره خوفا من حتمية الطبيعة وإيثارا للحرية. موضوع التولد إذن هو مبحث في الطبيعة كما أنه مبحث في الفعل الإنساني، في حرية الأفعال وبقائها في الطبيعة بقوتها الذاتية الكامنة وبآثارها في الأغيار. يصارع فيه الفكر الإنساني الطبيعي الفكر الديني الإلهي حفاظا على حرية الإنسان وإثباتا لاستقلال قوانين الطبيعة.
خامسا: أفعال الوعي الفردي والاجتماعي
أفعال الوعي الفردي والاجتماعي هي أفعال الشعور في ذاته وفي الآخر، في الفرد والمجتمع؛ فهي متجهة هذه المرة ليس إلى الطبيعة وعالم الأشياء، بل إلى المجتمع وعالم الآخرين، فالتوليد هو استمرار لأفعال الشعور ليس فقط في الطبيعة من خلال حركة الأجسام في الأكوان والاعتماد والتأليف والمماسة والمجاورة، بل أيضا من خلال أفعال الآخرين في المجتمع، وقد كان يبرز سؤال باستمرار: لماذا يوجد توليد الطبيعة ولا يوجد توليد في المجتمع والتاريخ؟ وقد سميت أفعال الوعي وليس أفعال الشعور؛ لأن الأفعال هنا ليست مجرد موضوع لإثبات الحرية، بل لأنها تكشف عن الحرية القائمة على الوعي، سواء في أفعال الشعور الفردية أو في أفعال الشعور الاجتماعية، فالشعور هنا هو الوعي الفردي والوعي الاجتماعي.
والعجيب أن أفعال الوعي هذه عند القدماء ليست مهمة ولا تدخل في صلب موضوع خلق الأفعال، وكلما كان الأمر مهما تعم به البلوى وتتوقف عليه مصالح الناس أبعده القدماء مثل هذه الأفعال ومثل موضوع الإمامة. فهي مجرد أمور «صرح بها القرآن وانعقد عليها الإجماع».
1
وهي مجرد أمور تخرج عن حيز المختصرات إلى المطولات، وهي أمور لفظية خالصة تخرج عن العقائد والشرع ولا تحتاج إلا إلى تفسير لغوي، وهي أمور لا داعي لأن تخطر بالبال، وإن خطرت بالبال فلا معصية في عدم معرفتها وعدم العلم بأحكامها؛ لأن البحث فيها يتطلب معرفة حقائق الأمور ، وهو أمر غير لائق بالعقائد التي يراد منها مجرد تهذيب الاعتقاد! هي أمور غير مهمة في الدين؛ إذ يكفي إبعاد الشك عن النفس في الذات والصفات والأفعال، أي في التوحيد. أما ما يتعلق بحياة الناس، ومصالح الأفراد والجماعات، فلا يجوز الخوض فيها؛ لأنها مضيعة للوقت وانشغال بما لا يهم، فلا فرق في ذلك بين أفعال الوعي الفردي والاجتماعي حتى يحتكرها السلطان ويقررها وفق هواه.
2
وهي أمور تدفع إلى الغلو أو التقصير وتبعد عن التوسط والاعتدال.
3
صحيح أنها مسائل يصعب إصدار الأحكام عليها أو التعرف إليها؛ نظرا لأننا لم نشق قلوب الناس، ومع ذلك فإنه يمكن معرفة أوضاعها الاجتماعية وأبنيتها النفسية. فهي أمور عقلية مثل القدرة والاستطاعة والفعل، كما أنها مسائل نفسية واجتماعية تكشف عن أوضاع سياسية يريد السلطان السكوت عنها، ويتبعه عالم الكلام بإبعادها عن حريات الناس وتهميشها في العقائد حتى يتم إحكام مؤامرة الصمت عمليا ونظريا، سياسيا ودينيا.
وتنقسم هذه الأفعال إلى قسمين، أفعال الوعي الفردي وأفعال الوعي الاجتماعي؛ الأولى مثل النصر والسداد، والتوفيق والخذلان، الشرح والطبع، الفتح والختم، الهداية والضلال، النعمة والفضل والإحسان، العصمة، القوة والعون، الحول والتيسير ... إلخ، والثانية مثل: الأجل والرزق والسعر مفردا، أو الآجال والأرزاق والأسعار جمعا. ويلاحظ أن أفعال الشعور الفردي أكثر من أفعال الشعور الاجتماعي. الأولى متعددة تقرب من الثمانية عشر فعلا، والثانية محصورة في ثلاث. الأولى باستمرار أفعال في صيغة المفرد، في حين أن الثانية تكون أفعالا في صيغة الجمع؛ مما يدل على الطابع الفردي للأولى والاجتماعي للثانية، ولكن أهم ما يفرق الفعلين هو أن الأفعال الفردية مزدوجة الطابع في معظمها، في حين أن الأفعال الاجتماعية ليست كذلك. (1) أفعال الوعي الفردي
تنتظم أفعال الوعي الفردي في مجموعات ثنائية مزدوجة إيجابا وسلبا، وكأننا أمام فعلين متضادين أشبه بأحوال الصوفية، وذلك مثل: التوفيق والخذلان، الشرح والطبع، الفتح والختم، الهداية والضلال. وقد تختلف أطراف الأفعال المتضادة؛ فقد يكون النصر بدلا من التوفيق في مقابل الخذلان، وقد تكون الأفعال المزدوجة متماثلة متشابهة وليست متعارضة متضادة، إما إيجابا مثل التوفيق والسداد، العون والتيسير، أو سلبا مثل الطبع والختم، وقد يقع التجانس في أفعال ثلاثية وليست ثنائية، وغالبا ما تكون إيجابا لا سلبا مثل النعمة والفضل والإحسان، وقد تكون رباعية وغالبا ما تكون أيضا إيجابا لا سلبا مثل القوة والعون والحول والتيسير، وقد يكون فعلا واحدا بمفرده وغالبا ما يكون إيجابا مثل العصمة، فالأفعال في معظمها يغلب عليها الإيجاب (أربعة عشر فعلا هي: النصر، السداد، التوفيق، الشرح، الفتح، الهداية، النعمة، الفضل، الإحسان، العصمة، القوة، العون، الحول، التيسير) أكثر من السلب (أربعة أفعال وهي: الخذلان، الطبع، الختم، الضلال) مما يدل على أن الوعي الفردي أكثر إيجابية وتفاؤلا وقدرة على الخلق والإبداع والنجاح منه على السلبية والتشاؤم والاستسلام والرضوخ والفشل.
ويصعب تحديد المعاني الدقيقة لكل الألفاظ المتجانسة إيجابا مثل: الهداية والعون والتيسير والتوفيق، أو لكل الألفاظ المتجانسة سلبا مثل: الخذلان والضلال والطبع والختم. إنما المقصود منها شيء واحد وهو: هل يتم الوعي الفردي من داخله بفعل إرادته الحرة، أم من خارجه بفعل إرادة خارجية؟ وقد تكون الألفاظ أقرب إلى الترادف وإلى التمرينات العقلية للإجابة على هذا السؤال المبدئي. فالإجابة بعدم قدرة الوعي من داخله على الأفعال تفرز تراث السلطة التي تتمثل الإرادة الخارجية مشخصة في الله أولا ثم في السلطان ثانيا، والإجابة بقدرة الوعي من داخله على أفعاله تفرز تراث المعارضة التي تتمثل في جموع المحكومين وعامة الرعية؛ لذلك قد يذكر منها البعض دون البعض، وقد يتم التركيز على البعض دون البعض. يذكر التوفيق والخذلان والهداية والضلال والعون والتيسير والعصمة والطبع والختم، ولا يكاد يذكر الشرح والفتح والنعمة والفضل والإحسان والقوة والحول، ولكن يمكن فهمها قياسا، كما يمكن إضافة غيرها قياسا.
وقد ظهر بعض هذه الأفعال مثل الإيمان والكفر في أفعال الشعور الداخلية، كما ظهر موضوع التوفيق والخذلان والإشقاء والإسعاد كعقائد فرعية من العقيدة الأم، عقيدة القضاء والقدر. وقد يدخل البعض منها في موضوع الحسن والقبح، أي في الشق الثاني من العدل وبوجه خاص في موضوع اللطف أو الصلاح، ومع ذلك فمكانه الطبيعي هو آخر باب خلق الأفعال وبداية الحسن والقبح؛ وبالتالي يكون هو الانتقال الطبيعي من شق العدل الأول خلق الأفعال، إلى شقه الثاني الحسن والقبح. (1-1) التوفيق والسداد
وتتصارع كل أفعال الوعي الفردي ابتداء من التوفيق والسداد مع إرادتين، إرادة الله وإرادة الإنسان، هل التوفيق والسداد فعلان لله أم فعلان للإنسان؟ وكيف تكون أفعال الوعي الفردي لغير الإنسان وهي مرتبطة بالتمييز والعقل، وهما أخص خصائص الإنسان؟ إن التردد بين نسبة أفعال الوعي الفردي إلى الله أم إلى الإنسان إنما هو ناتج عن الخلط بين الانفعال والعقل، بين العاطفة والذهن، فليس الأمر مزايدة في الإيمان وابتهالات لله، بل تحليل لأفعال الشعور ودفاع عن استقلال الإنسان.
4
ليس الأمر منافسة أو مبارزة أو تحديا بين الله والإنسان، ووضع الله مكان القادر والإنسان مكان العاجز دفاعا عن الله وتضحية بالإنسان أمام السلطان أكثر منه أمام الله، ونفاقا أكثر منه إيمانا؛ إذ يعجز الإنسان عن الإجابة المضادة وإلا وقع تحت شتى ألوان الضغط النفسي والإرهاب السياسي وتملق إيمان العوام،
5
لا يعني جعل أفعال الوعي الفردي مسئولية الإنسان أي تعجيز لله، بل تثبيتا لحكمته وغايته، وهو الدفاع عن حرية الإنسان واستقلاله ومسئوليته، ويزداد الأمر صعوبة إذا ما كان التوفيق والسداد بناء على الدعاء والابتهال والسؤال والاستعطاف والاستجداء والمناجاة والطلب والبكاء؛ وبالتالي يقع الوعي في خطأين؛ الأول التخلي عن الفعل إلى الانفعال ثم الطلب الفعل من الآخر وليس من الذات. وهل الدعاء قادر على استجلاب الطاعة أم أن الفعل هو القادر على ذلك؟ إذا كان الفعل فالإنسان حر وإلا احتاج إلى قدرة ولزم الدور.
6
وكيف يتم التوفيق والسداد للبعض دون البعض؟ أليس من سمات صفات الذات أو الفعل الإطلاق؟ وإذا كان مقياس التمييز هو العمل الصالح فيكون فعل الإنسان هو علة التوفيق والسداد وليس فعل الله؟ إن التوفيق والسداد هما في حقيقة الأمر الميل النفساني المصاحب للفعل نتيجة لقوة الباعث وصدق النفس وكمال الغاية من داخل الشعور وليس من خارجه، وما يسمى بالتيسير والعون والتوفيق أو العصمة أو القوة أو الفضل أو النعمة أو الإحسان كل ذلك هو القوة التي يشعر بها الإنسان أثناء عمله بعد تخطيطه وبذل جهده. هي قوة الفعل الذاتي وهي تحقق والإمكانيات الجديدة التي تظهر، قوة الحق على الباطل، قوة حضور المبدأ على غيابه، وقوة الطبيعة على مناقضتها، وقوة التاريخ على مناهضته، هي ذلك التثبت والبرهان الذي يجده الإنسان في نفسه والثقة بالنفس ساعة الفعل. التوفيق أو العصمة أو التأييد أو الهداية، كل ذلك شعور إنساني بأن الفعل قد تم على أكمل وجه أكثر مما كان الإنسان يتوقع في البداية، وهو شعور موجود بالفعل ولكنه لا يدل على تدخل إرادة خارجية مشخصة أحدثت هذا التوفيق، بل تدل إذا كان الفعل مرويا على حدوث الفعل بإرادة الإنسان طبقا لباعثه وتخطيطه وغايته، أما إذا لم يكن الفعل مرويا وحدث الفعل فإنه يدل على وجود علة أحدثته، أما إرادة إنسان آخر أو تداخل الأحداث وتشابكها كما تتداخل الأمواج لحمل غريق على الشاطئ أو مجرد مسرى التاريخ الذي يتحقق بالإرادة البشرية العامة والتي يصل تأثيرها حتى هذا الفعل غير المروي فيجرفها أمامه كشيء طبيعي، فإذا ما حدث الفعل دون ما توقع من الإنسان الذي لم يقصده ولم يفعله حسب ذلك توفيقا وعصمة وسدادا وعونا وقوة وحولا وتيسيرا أو فضلا ونعمة وإحسانا!
7
إن التوفيق والسداد هما وقوع الأفعال حسب إرادة الإنسان وقصده ودواعيه، يفعل الإنسان في الحاضر والمستقبل ويظل مشروطا بتدخل عوامل أخرى منها تدخل إرادات إنسانية أخرى في توجيه الفعل أو حدوث وقائع جديدة لم تكن في الحسبان يسارع بأخذها ووضعها في مجال الفعل كعناصر إيجابية جديدة.
8
وليس هذا هو اللطف أو الصلاح لأن ذلك يشير إلى تدخل إرادة خارجية، كما أنه يثير إشكالات أكثر مما يحلها، فما مقياس اللطف أو الصلاح؟ ولماذا يعطى لإنسان دون غيره؟ وإذا كان مشروطا بالفعل، فالفعل هو الأساس؟ وكيف يكون فعل الله، اللطف أو الصلاح مشروطا؟ فإذا ما كان التوفيق والسداد الثواب بعد الفعل فإن ذلك يحدث طبقا لقانون الاستحقاق ولا يكون تدخلا قبل الفعل باستطاعة زائدة ولا أثناء الفعل بقدرة إضافية، وإذا كان يعني مجرد الحكم فإنه يحدث أيضا بعد إتمام الفعل وليس قبله أو أثناءه، وهو حكم يقوم على تصور إلهي كما يمكن أن يقوم حكم على تصور إنساني خالص. وإذا كان يعني مجرد اللطف دون الإلجاء أي خلق قدرة دون جبر، فإنه يصطدم بعموم اللطف وخصوصه وشروطه، ويكون بمثابة حل مشكلة بإثارة مشكلة أعظم، فإذا ما كان يعني علم الله فإن علم الله بعدي وليس قبليا، لا يجبر على فعل بل يسجل نتيجة أفعال؛ وبالتالي يستحيل فهم التوفيق والسداد بمعنى اللطف أو الصلاح.
9 (1-2) النصر والخذلان
إذا كان التوفيق والسداد فعلين متجانسين، فإن النصر والخذلان فعلان متضادان، وقد يأتي التوفيق في مقابل الخذلان، وإذا كان من الطبيعي، على أكثر تقدير، أن يوفق الله ويسدد الخطا فكيف به يخذل؟ وإذا كان من الطبيعي ألا يصدر عن الخير إلا الخير، فكيف يصدر عن الله الشر؟ إذا كان الله فاعلا للخير فكيف يكون فاعلا للشر؟ وإذا كان مقياس النصر والخذلان هو إيمان الإنسان وصدقه في الفعل تصبح الإرادة الإلهية مشروطة بالفعل الإنساني، ويصبح الإنسان هو الذي يحدد اختيار الفعل الإلهي إما النصر وإما الخذلان. وإذا كان الأمر كله مرهونا بالاستطاعة التي يخلقها الله في ساعة الفعل، فإن هذه الاستطاعة لا تكون محايدة يستعملها الإنسان بعد ذلك إما للخير أو الشر إما للعمل الصالح أو العمل المفسد، إما للنفع أو للضر، بل تتوجه إيجابا أم سلبا بفعل الله، تنصر أو تخذل، تهدي أو تضل، تشرح أو تختم، تفتح أو تطبع، ويستحيل أن يتم هذا التوجه بتميز مسبق أو عفويا عشوائيا بالمصادفة. وإذا كان المقياس هو حسن النية والصدق في أفعال الإنسان يكون الإنسان هو الذي حدد اختيار الله ووجهة أفعاله، وإذا كانت الاستطاعة محايدة، تكون للخير وتكون للشر، بفعل الإنسان ودون توجيه من الله يكون الإنسان قادرا على التمييز بين الحسن والقبح وقادرا على توجيه الاستطاعة نحو الخير أو الشر، وبالتالي ينصر نفسه أو يخذل نفسه، وتظل الاستطاعة التي يجدها الإنسان من نفسه على غير توقع مجرد تحقق لإمكانيات الفعل وطاقاته أثناء الفعل، لما كان الفعل يولد باستمرار طاقات جديدة غير المتوقعة أولا في بداية الفعل، وهل الإنسان غير قادر من نفسه على الطاعة وغير مسئول عن المعصية؟ وهل تكون القدرة التي يخلقها الله ساعة الفعل محايدة، قدرة على الخير أو قدرة على الشر بصرف النظر عن البواعث والغايات؟ وكيف يعطي الله الإنسان القدرة على الشر؟ وإذا كان الخير من الله والشر من الإنسان، فالإنسان حر قادر على الإفلات من إرادة الله وقدرته، ولكن في الشر دون الخير، بالإضافة إلى أنها قسمة تقوم على تبرئة الآخر واتهام الذات، تقوم على التطهر والبراءة بالنسبة إلى الوعي الخالص، وعلى تعذيب الذات بالنسبة للوعي المتعين. أليست هذه قسمة ضيزى؟ لله البنين وللإنسان البنات؟ وكيف يدعو الإنسان على الآخرين بالخذلان ويستجيب له الله إن كان من الصالحين؟ أليس هذا تمنيا للشر للآخرين واستجابة لله لفعل الشر؟ ألا يدل ذلك على عجز الإنسان على المقاومة؛ مقاومة الشر بالفعل دون استعداء أحد عليه يكون أقوى منه بالمقاومة بدلا عنه، ويكتفي الإنسان بأضعف الإيمان وهو الدعاء على الأعداء وطلب النجدة من الأقوياء؟ إذا كان النصر والخذلان من الله يسلب من الإنسان فرحه بالتوفيق وحزنه من الإخفاق، فإنه يعيش في الدنيا بلا رجاء أو خوف، بلا فرح أو حزن، بلا أمل أو يأس، ويظل مجرد آلة طيعة في يد فاعل أعظم ينصره ويخذله كيف يشاء.
10
ويصعب إيجاد الحلول المتوسطة بين الفعلين. لا يوجد إلا «إما ... أو». فإن قيل إن القوى التي تحدث للإنسان أثناء الفعل ثلاثة أنواع: الأولى موفقة هي التوفيق، والثانية خاذلة وهي الخذلان، والثالثة محايدة وهي القوة أو العون أو الحول أو التيسير، أمكن إذن وجود قوة محايدة لا تتدخل في أفعال الوعي إيجابا أو سلبا، والحياد على أية حال أقرب إلى المحافظة على حرية الأفعال من القوة الموجهة. إن كانت تسلب الإرادة إلا أنها تبقي على الحرية .
11
قد تعني مثل هذه القوة في أحسن الحالات مجرد حضور الأسباب وسلامة الآلات، وبالتالي تكون قوة إنسانية مرئية بدنية أو شعورية يعرفها الإنسان، ويعمل بها قبل الفعل أو أثناء الفعل كقوة متولدة من حركة الفعل ذاته وطبيعة الطاقة المتولدة منه،
12
فإن أمكن تقسيم التوفيق إلى عموم وخصوص بالنسبة إلى الخلق، فعموم التوفيق شامل للخلق وكذلك نصب الأدلة والأقدار والاستدلال وإرسال الرسل وتسهيل الطرق لئلا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل، وخصوص التوفيق لمن علم الله منه هدايته وإرادته الاستقامة، وهذه قد تكون على أصناف، منها كمال الاعتدال في المزاج، من جهة الطبيعة أو الشريعة، النفس والنطفة والخلقة، أو من جهة تربية الأبوين أو الأستاذ أو المعلم أو أهل البلد أو القرابة، وحتى في هذه الحالة تكون الأفعال غير مكتسبة؛ فالإنسان غير مسئول عن الخلقة كما أنه غير مسئول عن تعليم الأبوين، وفي هذه الحالة يكون جبر التوفيق العام متفقا مع جبر التوفيق الخاص، ومع ذلك يمكن للوعي الفردي أن يخترق جبر الخلقة والتعلم نظرا لاستقلاله؛ فالطبيعة أقوى من الخلقة، وحرية الفعل أقوى من التعليم.
13
ومع ذلك فالتخصيص خارج الأمور الطبيعية كالمزاج والتعلم تميز أو فعل بلا مبرر.
14
ويتم النصر والخذلان على مستويين؛ معرفي مثل النظر بالحجج والأدلة وشرح الصدر، وعملي أي التدخل الفعلي المباشر في أفعال الإنسان، فإذا كان التوفيق هو اللطف فإنه في هذه الحالة يشمل اللطف النظري، أي إظهار الآيات الدالة على الوحدانية والنبوة، ويتم ذلك عادة دون حاجة إلى لطف وقتي لكل فعل على حدة وهو التوفيق العملي، والأول أقل خطورة على حرية الأفعال من الثاني؛ لأنه مجرد توليد أفعال نظرية مثل توليد النظر للعلم ويترك الإرادة حرة لتحقيق الفعل، في حين أن الثاني يهدد حرية الأفعال تهديدا مباشرا؛ لأنه يكون بديلا عن الفعل الإنساني وأقوى منه إيجابا أم سلبا.
15
واللطف الخاص في نهاية الأمر تعجيز لله وكأن الله لا يتصف بالاقتدار على اللطف بجميع الخلائق.
ولا يعني الخذلان أي عدم حدوث فعل، تدخل أية إرادة خارجية منعت الفعل من الوقوع أو امتناع تدخلها، بالرغم من الدعاء والابتهال، بل يعني الخذلان إذا كان الفعل مرويا أن هناك عوامل في الموقف كانت غائبة عن الفاعل وأن هناك نقصا إما في الباعث أو الفكرة أو الغاية. قد يكون الأساس النظري للفعل غير محكم، وقد يكون الباعث ضعيفا أو معدوما، وقد تكون الغاية غير طبيعية أو وقتية. وفي مثل هذه الحالات لا يحدث الفعل من الإنسان بل يحدث فعل آخر من إنسان آخر باعثه أقوى وفكرته أوضح، وغايته أعم وأشمل وأكثر تعبيرا عن اكتمال الطبيعة. أما إذا كان الفعل مرويا وذا أساس نظري سليم وقائما على باعث قوي، له غاية تعبر عن اكتمال الطبيعة، ثم لم يحدث، فهذا أيضا لا يعني تدخل إرادة خارجية منعت الفعل من الوقوع، بل يعني وجود عوامل أخرى في ميدان الفعل هي التي منعت الفعل من الوقوع، وقد حدثت هذه الموانع في لحظة إتيان الفعل، وكيف تأتي في الخذلان إرادة خارجية تساعد الإنسان على فعل الشر، وهي صفة من صفات الكمال المطلق؟ كيف يصدر الشر عن الخير؟ كيف تساعد الإرادة الخارجية على فعل الشر وهي الإرادة الكاملة؟ (1-3) الهداية والضلال
مفهومان متضادان مثل النصر والخذلان، وقد يكون التوفيق مع الهداية، وقد يوضع الضلال مع الختم والطبع. يثبتان بحجج نقلية كثيرة لتبين أن الله هو الذي يؤتي كل نفس هداها، أو عقلية بدليل دعاء الإنسان لله وطلبه الهدى، والحقيقة أن الحجج النقلية كلها لا تثبت شيئا لأنها ظنية؛ إذ يمكن إعادة تأويلها لصالح حرية الأفعال ومعارضتها بحجج مضادة على ما وضح في نظرية العلم.
16
كما أن الدعاء بهما عجز وتخل عن تحقيقات الغايات بالفعل. الدعاء سلوك شعبي عام وليس من سلوك العقلاء، من صفات العاجزين وليس من شيمة المناضلين، وما الضامن أن يكون الدعاء أو الابتهال ليس موجها إلى المؤله المشخص بل إلى الإنسان ذاته الذي يشخص انفعالاته، إلى شخص حقيقي ذي سلطة أو من يعطيه الإنسان نفسه سلطة بتوهمه أنه من الأنبياء والأولياء والصالحين؟ وإذا كان التوفيق والخذلان والعون والتيسير نتيجة للابتهال والدعاء، أي نتيجة لفعل الإنسان في السؤال والطلب، سواء أعطى إليه أم لم يعط، فقد تتدخل الإرادة الخارجية حتى بلا سؤال أو طلب تدخلا مجانيا خالصا بالإضلال أو الطبع أو الختم في حالة منع اللطف! والحقيقة أن هذا إسقاط من شعور سوداوي على المؤله المشخص، ولماذا يبدأ المؤله المشخص بلا سبب أو باعث منه أو سؤال أو طلب من الإنسان بالإضلال والختم والطبع؟ أليس الأكثر اتفاقا مع طبيعته الكاملة إعطاء اللطف بلا سؤال؟ وكيف يصدر الإضلال والختم والطبع عن الكمال المطلق؟ وكيف يصدر بلا داع إنساني أو استحقاق؟ وإذا حدث فكيف يمكن تبرير استحقاق الإنسان للمدح والذم إذا ختم وطبع على قلبه؟ وكيف يمكن فهم التكليف إذا بدأ بالختم والطبع والإضلال الذي ليس للإنسان حيلة فيه؟
وقد تنقسم الهداية إلى عامة وخاصة مثل التوفيق واللطف؛ الأولى هداية نظرية، مجرد بيان الحق ونصب الأدلة عليه، والثانية هداية عملية تقوم بفعل الهداية، الأولى يقدر عليه الله كما تقدر عليه الرسل، في حين أن الثانية لا يقدر عليه إلا الله. الأولى عامة للناس جميعا والثانية خاصة للمهتدين.
17
وهنا تبرز نفس الإشكالات السابقة في التوفيق والسداد واللطف، فمع أن الهداية النظرية أقل خطورة على حرية الأفعال من الهداية العملية، إلا أن كلتا الهدايتين يضعان سؤالا: ما مقياس الاختيار بين العام والخاص؟ وإذا كان الفعل الإنساني هو المقياس تكون له الأولوية على الفعل الإلهي وتثبت حرية الأفعال، وكيف يمكن التفريق بين هداية الله وهداية الرسول؟ أليس ذاك وضعا لله والرسول على المستوى نفسه من الفعل؟ وإذا ما حدث توفيق أو هدى، ما المانع أن ينسبه الإنسان إلى الأشخاص الموجودين بالفعل وليس إلى المؤله المشخص؟ لا يستطيع الأشخاص إلا التوجيه أو الإرشاد، حتى الأنبياء تعلم وتعطي الفكر ولا تفعل أكثر من ذلك، ولما كان من الصعب على الإنسان التمييز بين المشخص والتشخيص، حدثت الوساطة وطلب الهدى والتوفيق من الأشخاص، وهروبا من الإرادة المشخصة وتدخلها إثباتا للحرية أو اقترابا منها تصبح الأفعال إما من الكون أو من الطبيعة أو من الخلقة، ولما كان الكون إثباتا للشر الكوني خارج الفعل الإنساني لم تبق إلا الطبيعة أو الخلقة، والطبع هو في الحقيقة فعل الطبيعة وليس فعل إرادة خارجية. قد يكون الإنسان بطبعه يقظا أو خاملا، متوقدا أو باردا. قد يزدهر هذا الطبع أو يتقلص بالتربية داخل الجماعة نسبيا، قد يصبح المتألق أقل إشراقا إذا لم تحدث التربية الاجتماعية، وقد يصبح الخامل أكثر نشاطا بالتربية الاجتماعية، ولكن التربية الاجتماعية لا تخلق شيئا من عدم ولا تعدم شيئا بعد وجود.
18
إن الهداية والضلال تجربتان نفسيتان بناء على موقف اجتماعي؛ الهداية هي القدرة على النظر السليم والحكم الصائب والتخطيط الدقيق قبل تحقيق الفعل، وهي قوة مفاجئة أو طاقة غير متوقعة ساعة تحقيق الفعل يشعر بها المناضل، يشعر بأن قوته زادت ساعة النضال إلى مائتين؛ إذ يأتي الإنسان في لحظات التوتر الانفعالي الشديد بأعظم مما يأتي به في اللحظات العادية، تظهر هذه القدرة غير المتوقعة كغيرها من العوامل ساعة الفعل، في التو واللحظة. الإنسان حرية، بالرغم من تدبيره المسبق وتخطيطه لما سيحدث ساعة الفعل، إلا أن عوامل جديدة تدخل في ميدان الفعل أو تظهر في الفاعل تجعل تخطيطه الأول مجرد تقدير مسبق لا يطابق الواقع تماما، وهذا هو الفرق بين العمل النظري المسبق والعلم الحيوي الحركي.
وإذا كان تجوز من الله الهداية فكيف يجوز منه الإضلال؟ وإذا كان الإضلال بالشيطان فهل يوضع الله على المستوى نفسه مع الشيطان في الإضلال كما وضع من قبل على المستوى نفسه مع الرسول في الهداية؟ وكيف يخلق الله الضلال في القلوب ويقضي على العقل والقدرة على التمييز وعلى إمكانية الوعي منذ البداية؟ وإذا كان الضلال جزاء واستحقاقا، فإن الأولوية تكون لفعل الفشل الإنساني وليس لفعل الإضلال من الله. وإن كان الإضلال مجرد ضيق النفس وحرج الصدر وانتهاء السبل بالإنسان، فإنه يكون مجرد حالة نفسية من الفشل والضياع، وعدم القدرة على السيطرة على ميدان الفعل، وقد يصل الأمر إلى حد الهزيمة والنكوص والتراجع، ولكنها حالة مؤقتة، إذ سرعان ما يستعيد الإنسان قواه، ويكسب من تجاربه، ويعيد تخطيطه ويراجع حساباته حتى يعاود الكرة؛ فالفشل أحد تجارب النجاح، والنكوص أحد مراحل التقدم.
19
وقد توضع المسألة كلها على مستوى اللغة وتحليل الألفاظ دفاعا عن الحرية وإثباتا لأفعال الوعي الفردي؛ فالهداية والضلال مجرد أسماء أو أحكام أو أخبار وإعلام خارج القدرة والفعل، هي مجرد إرشاد نظري وليس تدخلا عمليا في أفعال الإنسان، والإرشاد النظري موجود في الوحي سلفا بفهمه وتأويله والكشف عن مضمونه في المصالح العامة، وليس فعلا جديدا من الله. وقد يكون مجرد تفويض من الله للإنسان أن يفعل مكانه وأن يحقق أفعاله باسمه طبقا لخلافة الإنسان لله على الأرض.
20
وفي أصل الوحي الهداية مشروطة بالإدراك وبالإيمان وبالعمل الصالح وبالاعتصام وبالاتباع وبالجهاد، وهي اختيار إنساني خالص وفعل حر للإنسان، كما أنها فعل للرسول وللأئمة وللأمة، وقد يكون الطريق إليها تأمل الإنسان في آيات الطبيعة أو قراءته لآيات الوحي، فكلاهما يؤديان إلى الهدى.
21
أما الضلال فإنه لا يعني بالضرورة فعل الله، بل هو فعل حر للإنسان واختيار مشروط بالإدراك والنقل، وقد يأتي الضلال من التبعية والتسلط ويكون سببا للعقاب والاستحقاق؛ لأنه نتيجة لفعل الإنسان، ولا يكون إلا فعل شر؛ ومن ثم لا يكون فعلا إلهيا، بل هو إنساني اجتماعي سياسي يظهر في وضع إنساني خالص.
22
ولا يتعدى الفعل الإلهي كونه العلم البعدي بالفعل الإنساني، ومجرد البيان بالوحي، فالله لا يفعل الضلال ولا الرسول، بل هو أساس الاستحقاق بعدما تتكشف الحقائق.
23 (1-4) العون والتيسير
وهما لفظان متجانسان إيجابيان، مثل التوفيق والسداد، ويقرن بهما لفظا الحول والقوة، ولا تعني هذه الألفاظ أيضا تدخل إرادة خارجية مشخصة في أفعال الوعي الفردي لتعينه وتيسر له. العون أو التيسير هو مجرد إحساس النفس بقوتها وقدرتها قبل الفعل، ولتحقيق الأفعال العادية وليس الخارقة للعادة. وهل يحتاج الإنسان إلى إرادة خارجية مشخصة أو غير مشخصة للإتيان بالأفعال العادية، القيام أو القعود، الحركة أو السكون؟ وهل أصبح الإنسان مجرد آلة صماء تحركها إرادة خارجية ؟ قد تكون هذه القوة بدنية خالصة تتغلب على الوهن البدني، وقد تكون نفسية تتغلب على الضعف النفسي، ولكنها في كلتا الحالتين قوة في الإنسان.
24
وهل يلزم العون لدرجة أن يفقد الإنسان حريته كلية فلا يستطيع الإتيان بفعل إلا بوجود هذا العون الخارجي، في حين أن الإتيان بالفعل أو تغييره بفعل آخر سواء كان من أفعال الشعور أو من أفعال البدن إنما يحدث بتغير الفكر أو الباعث أو الغاية؟ ليس العون تدخلا من إرادة خارجية، بل هو فعل الإرادة الإنسانية وحدوث أفعال غير متوقعة نتيجة لشد الباعث وقوة الدافع وصدق الطوية. والاستعانة تجربة بشرية. فعندما يطلب الإنسان العون لا يعني ذلك فقط وجود إرادة خارجية محتملة قد تعطيه العون كما هو الحال في الكسب، بل يعني أن لديه إرادته الخاصة، وأنه يطلب مزيدا من القوة لها بالاستعانة، لا يأتي العون هنا بالضرورة من مصدر خارجي، بل قد يأتي من الإرادات الإنسانية الأخرى، ويكون الفعل حينئذ فعلا جماعيا، وقد يأتي من شدة الباعث أو من تغير الموقف إلى موقف أفضل أو من ارتفاع بعض الموانع أو كلها.
25
إن البناء الفردي أو الجماعي الذي يقوم على العون الخارجي يفقد حريته واستقلاله بالضرورة، فالعون في هذه الحالة تبعية، وفقدان للإرادة المستقلة وارتهان لها طالما استمر العون، والعون الخارجي بطبيعته مشروط بالطاعة والولاء له، يقابل العون إذن الاعتماد على النفس، وتقوية الذات، والاستعانة بالآخرين.
وليس صحيحا أن العون محايد غير مشروط وغير موجه، وإلا فما مقياس إعطاء العون لهذا دون ذاك؟ لذلك قد يرفض العون أحيانا إن كان مشروطا، يهدف إلى القضاء على استقلال الإرادة وحرية الفعل، والتيسير مثل العون، مجرد قدرة الإنسان على فعل أي شيء، وهو أيضا ليس من فعل إرادة خارجية من حيث هي إرادة مسيطرة، بل هو فعل الإنسان من حيث هو إنسان فاعل، وكأن مجرد إتيان الإنسان لفعل وحدوث ذلك الفعل أمر غريب لا يتأتى إلا بتدخل قوة خارجية تجعل فعله ممكنا وتسهل له الأمور وتذلل له العقبات.
26
وقد يكون التيسير أيضا مثل العون استدراجا لارتهان الإرادة المستقلة، إعطاء للقليل بيد وأخذ بالكثير باليد الأخرى.
27 (1-5) الطبع والختم
وهما لفظان متجانسان سلبا، يقابلهما الشرح والفتح، ولكن التركيز عليهما سلبا أكثر من التركيز عليهما إيجابا، وكأن الله يفعل الشر أكثر من فعله للخير، أليس ذلك سوداوية وتشاؤما وعداء للإنسان؟ وكيف يصدر عن الله الشر؟ كيف يصدر الشر عن الخير؟ وهل يتم الطبع والختم بأفعال الله مباشرة من الخارج أم أنها تتم بفعل الطبع والخلقة؟ وهل الخلقة طبع مستمر ودائم لا تغيير فيه؟ وهل الطبيعة شر أكثر منها خير؟ إن الطبيعة مفتوحة متغيرة وقابلة للتعديل والتقدم والازدهار، الطبيعة متجهة نحو الكمال، الطبيعة خيرة يولد فيها الإنسان خيرا حرا قبل أن يصبح شريرا مجبرا، ليست الخلقة شعورا مبهما مستغلقا خاملا، بل هي شعور واضح مفتوح يقظ لا يتحول إلى شعور مضاد إلا بفعل التربية وبضغط المجتمع وبقهر السياسة، ليست الخلقة حتمية أبدية مطردة، مرة واحدة وإلى الأبد، بل هي خلقة متحولة متغيرة متبدلة، طيعة لخلق الأفعال. وأي معنى للحرية وأية فرصة لها إذا كان الطبع هو السائد، والفعل الإلهي هو الخاتم؟ ومتى يتميز الطبع من الشرح والفتح من الختم؟ إذا حدث التمييز طبقا لفعل الإنسان واختياره يكون لفعله الأولوية على الفعل الإلهي ويفرض اختياره الحر على الاختيار الإلهي المجبر، وإذا كان بما لا مقياس للتمييز فإن الفعل الإلهي يصبح بلا مبرر، عشوائيا بالمصادفة أو تمييزا بلا سبب، وهو ما يناقض الاستحقاق وتكافؤ الفرص والعدل، وإن انتظر الإنسان الشرح والفتح، ودعا برفع الختم والطبع، فإن ذلك يكون إدانة لكل جهد وإلغاء لكل محاولة ذاتية للفعل، ولا يكون أمام الإنسان إلا انتظار المخلص أو الاستسلام للقدر المحتوم، إن الختم والطبع تجربتان نفسيتان للغموض النظري ونقص الوعي الفردي أو الاجتماعي، وليسا نتيجة مسبقة لتدخل إرادة خارجية مشخصة، وليس الشرح والفتح معطيين مسبقين أبديين، بل هما نتيجتان يتحول فيهما الغموض إلى وضوح وغياب الوعي إلى حضوره من خلال الفعل الذاتي وليس نتيجة لإرادة خارجية مشخصة. إن أفعال الشعور الفردية مرتبطة بكيانه الذاتي وتعبر عن استقلال الإرادة والقدرة على التمييز والاختيار الحر.
28 (1-6) العصمة
وتعني العصمة في الأصل اللغوي المنع، أما في معناها الاصطلاحي فتعني وقوع فعل مع غياب الموانع أمامه، وكأن الإنسان مدفوع بجبره الذاتي وبفعل طبيعته وبتوجهه نحو هدفه ومصيره، وبهذا المعنى يكون اللطف عصمة لأنه امتناع عن القبيح. والحقيقة أن فهم العصمة على أنها طبيعة وليس على أنها لطف لا تقضي على حرية أفعال الوعي الفردي، بل تكون عاملا مساعدا ومقويا تقوم على قوة البواعث الداخلية والإحساس بالرسالة واتباع الطبيعة، ومع ذلك يظل الإشكال قائما؟ كيف يكون الإنسان مكلفا ومعصوما؟ وكيف تتم محاسبة فعل العصمة ما دام الاختيار بين الحسن والقبح ليس قائما؟ وماذا لو احتج البعض بالإمام المعصوم وأعطوه العصمة المطلقة وهو نوع من الجبر نحو الخير وبالتالي تنتفي المسئولية وتضيع حرية الاختيار؟ قد تعني العصمة مجرد الاسم أو الحكم أو الإبلاغ والإخبار أي الوصف الخارجي للشيء دون فعله، وقد تكون ثوابا وجزاء بعد الفعل وليس فعلا قبل الفعل، ولا تأتي العصمة نتيجة للدعاء أو للوعد والوعيد، فذلك مجرد تمن نظري وجداني انفعالي لا يأتي بشيء فعلي، إنما الزيادة في الفعل تأتي من الطبيعة، ومن القدرة على اتباعها، وهنا يتفاضل الناس في صدق الفعل. قد تكون العصمة ما يعطي صلاحا عاما للناس بدافع الطبيعة، وهو أمر مشاهد في سير الأنبياء والزعماء والأبطال.
29 (1-7) الاستثناء في الإيمان
هو نتيجة للسؤال عن أفعال الشعور الداخلية، وهو إرادة الكفر والإيمان، وفيه تتحول القدرة الإلهية تحولا مباشرا ضد الحرية الإنسانية من أجل إثبات سلطان القدرة المطلقة، حتى ولو ابتلعت الحرية الإنسانية وقضت عليها نهائيا، فالرد بالإيجاب يعطي للقدرة الإلهية كل سلطانها على حساب الحرية الإنسانية مغالاة في عواطف التأليه وهي المغالاة التي تتحول أحيانا إلى عكس المقصود، ولما كان باستطاعة العقل التمرد ضد القدرة الإلهية دفاعا عن الحرية الإنسانية يحدث إثبات القدرة لا بالقياس بل بالاتباع، ودون العقل بل بالنقل، هذا فضلا عن أن مقولتي الإيمان والكفر أكثر غموضا من السؤال المطروح، ويجيبان عن الغامض بغموض أكثر، وهل العبرة بالنهاية وحدها دون أخذ في الاعتبار تجربة الحياة الإنسانية ومسار التاريخ؟
30
أما الرد بالنفي فإنه يقيم التنزيه على أساس إنساني وهو إثبات الحرية الإنسانية دون ما مزايدة في الإيمان، اعتمادا على العقل دون النقل، وتأكيدا على شرعية الموقف الإنساني ومقاومة لكل اغتراب ديني؛ فالإنسان يعيش في هذا العالم إنسانا وليس إلها، والله يخاطبه في وحيه إنسانا وليس إلها، والغرض في كلتا الحالتين إثبات الحرية الإنسانية.
31
وقد يتم الجمع بين الإثبات والنفي بالإقلال من حدة القدرة، لا من حيث السلطان بل من حيث المعنى؛ فالإرادة الإلهية هنا لا تعني التدخل المباشر، بل تعني الحكم النظري، وبالتالي تصبح الإرادة حقا نظريا لله وليس إجراء عمليا منه، ولكن حتى في هذه الحالة فإن تحول الإرادة من العمل إلى النظر قضاء على أحد مظاهر سلطانها، وبالتالي يكون الجمع بين الإثبات والنفي أقرب إلى النفي.
32
وقد ينقلب السؤال على نحو آخر، وبدل أن تتدخل القدرة الإلهية لصالح الإنسان تتدخل لغير مصلحته، فيكون: هل الله مريد للمعاصي؟ ويؤكد الرد بالإيجاب على سلطان القدرة المطلقة، ولكنه من ناحية أخرى يقضي على الحرية الإنسانية، كما أنه يجعل الله مصدرا للشر ومسئولا عنه ويجعله مضادا للمصلحة الإنسانية وضارا بحاضر الإنسان وبمستقبله.
33
وقد يجمع بين الإثبات والنفي لإثبات المطلبين معا، القدرة المطلقة ومصلحة الإنسان؛ وذلك بالتفرقة بين فريقين: من يستحق المدح وهو المؤمن ومن يستحق الذم وهو الكافر، يأتي الأول نفع في الحقيقة ويصيب الثاني ضرر في الحقيقة.
34
والحقيقة أن هذه التفرقة لا تقوم على أساس واضح، فما هو الإيمان وما هو الكفر؟ تصوران يصعب تحديدهما، وبالتالي يكون ذلك بمثابة توضيح مسألة بمسألة أخرى أكثر منها غموضا، كما أنها تفرقة قد تثبت الضرر الفعلي للإنسان وتجعل المؤله مصدرا للضرر، وهو ما يتنافى مع عواطف التأليه في أن الله مصدر للنعمة والعفو والرحمة، وهي أيضا تفرقة لا يقوم بها إلا من استحق المدح حتى يستأثر بالنعمة بمفرده ويفرح بأضرار الغير، فهي قسمة إذن تقوم على إحساس «صادي»، حب الذات، وكراهية للغير. وقد يتم الجمع بين الإثبات والنفي بالتفرقة في ميدان الضرر، فالضرر لا يقع في الدين بل في الدنيا، ولا يقع في عالم الأرواح بل في عالم الأبدان.
35
والحقيقة أن هذه القسمة أيضا تثبت الضرر، وتجعل الله أيضا مصدرا للشر، وتواري عنه صفات الرحمة والعفو كما تقتضي بذلك عواطف التأليه؛ وهي قسمة تثبت الضرر المادي مع أن الضرر المادي ليس أقسى أنواع العذاب، بل هو مجرد تخويف في الدنيا من السلطان لحرص الناس على مصالحه في الدنيا، وهي أيضا نظرية صادية تقوم على التلذذ بتعذيب بدن الآخرين، إن هذه الأسئلة التقليدية حول موقف قدرة الله ممن علم أنه لا يؤمن تضع صفتين مطلقتين كاملتين؛ القدرة والعلم موضع تعارض تمرينا للذهن في عملية التأليه، وتثير إشكالات أعظم مما تحل التمرين، وإذا كان الرد بالإيجاب فكيف لا تمنع القدرة المطلقة الكاملة الإنسان من فعل الشر؟ وكيف يخص الله أحدا بنعمة الإيمان ابتداء ولا يخص الآخر قبل انقضاء الحياة ونفاد تجربة العمر؟ ألا يؤدي ذلك إلى الاختيار المسبق بلا سبب وإلى الاختيار العشوائي، وبالتالي يؤدي إلى التحيز وعدم تكافؤ الفرص.
36
ويكون السؤال أصعب عندما يكون: هل يجوز القول: أنا مؤمن «إن شاء الله»؟ هل يجوز الاستثناء في الإيمان؟ هل يمكن أن يقال «أنا مؤمن حقا» في الحال دون الاستقبال؟ إن تعليق الإيمان في الحال أو في الاستقبال هو وقوع في الشك وعدم الثقة بالنفس وربط أفعال الشعور الفردية بأسس خارجية، وبالتالي تضعف القناعات ويحدث التردد في الأفعال، والثقة في التخطيط تجعل الإنسان قادرا على أن يرى المستقبل دون شك أو تردد مع توقع عوامل غير متوقعة قد تحدث أثناء الفعل يقدر الإنسان على احتوائها وإعادة أخذها في الاعتبار. إذا قال الإنسان: «أنا مؤمن إن شاء الله»، ولم يحدث الإيمان في المستقبل يحنث الإنسان بوعده، إذا ما حكم الإنسان على الماضي في فعل الشعور فإنه يقوم دائما بقراءة جديدة للماضي طبقا لتجارب الحاضر، وإذا ما حكم على الحاضر فإنه يكون بناء على معرفة الذات وتحليل النفس، وإذا ما حكم على المستقبل فإنه يكون تعبيرا عن العزيمة وعقد العزم دون الوقوع في التصلب والتخشب وترك الميدان مفتوحا لمزيد من التجارب والخبرة وإعادة النظر والمراجعة من أجل مزيد من الإحكام النظري والدقة العملية في السلوك، صياغة وتحقيقا، إنما يقال ذلك عادة تعبيرا عن إيمان شعبي موروث بالأعراف، وأحيانا يعبر عن العجز عن السيطرة على الجهد لنقص في حسابات المستقبل وضعف في رؤيته، ويتضح ذلك بصورة خاصة في أفعال الشعور في الطبيعة كالتوليد أو أفعال الشعور الاجتماعي كالآجال والأرزاق والأسعار وعدم القدرة على السيطرة عليها في المستقبل.
37
أما المشيئة في أصل الوحي فإنها لا تعني الاستثناء في الإيمان والشك فيه، بل تعني مجرد جعل الفعل الإلهي محتملا ومتوقفا على وضع إنساني نظري أو عملي، فردي أو اجتماعي مستحيل، والمتوقف على المستحيل مستحيل مثله.
38 (2) أفعال الوعي الاجتماعي
تشير أفعال الوعي الاجتماعي إلى ما أورده القدماء في نهاية أصل العدل في موضوعات ثلاث: الآجال والأرزاق والأسعار، سواء في كتب التوحيد الأولى أو في كتب العقائد المتأخرة.
39
ويدخل في موضوع حرية الأفعال بعد أفعال الوعي الفردي؛ لأنها تتعلق بوجود الإنسان وحياته ورزقه ومعاملاته، وظهورها في خاتمة التوليد، أي أفعال الإنسان في الطبيعة، يجعل منها أيضا جزءا من التوليد، ولكن هذه المرة توليد الأفعال في الحياة الاجتماعية، وظهور الوعي الفردي كوعي اجتماعي في المجتمع وفي التاريخ، والآجال أكثر الموضوعات تناولا تتلوها الأرزاق ثم الأسعار، وكأن عمر الإنسان أهم من رزقه وكسبه، ثم تأتي أسعار السوق في النهاية، وإن شئنا فإن موضوع الأسعار أقل الموضوعات الثلاث تناولا، فكلما اقتربت العقائد من المصالح العامة توقفت واقتصرت على النظر دون العمل، مع أن الأرزاق والأسعار تعم بهما البلوى، ثم تدخل مسألة الفقر والغنى في «اللطائف» مع بعض المسائل الطبيعية وكأنها لا أهمية لها أو كأنها مسألة طبيعية كونية قدرية وليست مسألة اقتصادية اجتماعية سياسية.
40
وتظهر مسألة الآجال والأرزاق والأسعار في مباحث العدل والتجوير بعد الختم والاستثناء والهدى والضلال.
41
وقد تظهر الأرزاق في أول مسألة العدل كما يظهر الغنى والفقر في وسطه أو في آخره.
42
وقد تظهر في ختام خلق الأفعال قبل موضوعات خلق الأفعال مثل شمول الإرادة للكائنات والقضاء والقدر، وبعدها تأتي الحسن والقبح مما يدل على أنها إحدى موضوعات العدل، وهي جزء من السمعيات لاعتمادها على الأدلة السمعية أكثر من اعتمادها على الأدلة النقلية.
43
مما يدل على اعتمادها على حجة السلطة وليس على حجة العقل، ولما كان السلطان هو المثل للسلطة، فإنه قام بتفسيرها لحسابها؛ ومن ثم ظلت خارج التعقيل والتنظير دون برهان.
44 (2-1) الآجال
الأجل لغويا هو الوقت، والآجال هي الأوقات، أوقات مخصوصة نحو الحياة والموت، ويتفاوت الوقت أحيانا بين أن يكون وصفا للوجود الإنساني أو وصفا للموجود الطبيعي.
45
ولكن المقصود هنا بالأجل هو الوقت الإنساني أي العمر؛ يعني الأجل إذن الحياة الزمنية والوجود الزماني وليس الوقت الطبيعي زمان الأفلاك وولوج الليل في النهار والنهار في الليل. الزمان توتر وطاقة وجهد وليس حسابا وعددا وحركة طبيعية، ومع ذلك يحاول القدماء عدم تخصيص الزمان بالوجود الإنساني وحده، بل تعميمه على جميع أجناس الموجودات، ربما لإثبات العالم ونهاية الأشياء بنهاية الزمان الطبيعية أو لإثبات قدم الصانع وخلود النفس، وتجديد الوقت في الحقيقة ليس مقولة للأشياء، بل وصف للشعور الداخلي بالزمان، ولماذا إثبات أوقات لا نهاية لها والإنسان متناه في الزمان؟ وقد يفيد الأجل أيضا قضاء الدين للمعسر، وكأن الحياة هي المال، وكأن عمر الإنسان هو قضاء للدين، وكأن انقضاء أجل الدين هو انقضاء العمر، فأداء الدين حياة قبل الأجلين، أجل الدين وأجل الإنسان!
ويحلل القدماء الآجال بطريقتين لتحديد السبب في البداية وهو الموت أو السبب في النهاية وهو انقضاء الأجل، فهل الموت قتلا بالسكين يكون موتا بالأجل أم موتا بالآلة أم موتا بالقتل أو موتا في المقتول أو موتا في القاتل؟ وهنا يسار إلى التولد من جديد لمعرفة سبب القتل؛ الله أم تولد الفعل عن القاتل، وفي هذه الحالة يمكن وصف عملية القتل وصفا طبيعيا جسميا خالصا. فالقتل حز الرقبة، أعراض أي حركات في يد الضارب بالسيف وافتراقات في أجزاء رقبة المضروب اقترب بها عرض آخر وهو الموت، فإن لم يكن بين الحز والموت ارتباط لم يلزم من تقدير نفي الحز نفي الموت، فالاقتران بالعادة، وللموت علل أخرى وأسباب باطنة غير الحز عند القائلين بالعلل إلا إذا انتفت العلل، وهنا يبدو أن الأمر ليس موضوعا طبيعيا صرفا، بل الغاية منه إثبات قدرة خارجية تكون سبب الموت دون ما نظر في حياة الإنسان وسبب الموت المباشر، وهو على هذا النحو هروب من الموضوع وفقد لمدلوله، ويمكن تحليل الموت الطبيعي بدقة وتفصيل أكثر ثم الانتهاء إلى مجموعة من العلل تؤدي إلى علة أولى، وبالتالي ترجع المشكلة إلى أصلها.
46
إن الموت الطبيعي بانقضاء شروط الحياة وتحلل الأجسام، أي الموت العضوي؛ هو من حيث العلم لا من حيث الإنسان والمجتمع والحياة، وحديث حز الرقبة إنما يشير إلى السبب المباشر في المعامل الجنائية مثل أسفكسيا الغرق أو نزيف المخ.
47
وعلى الطرف النقيض من تحديد الأجل بالموت يتم تحديد الأجل بالقضاء والقدر؛ فكل مقتول ميت بأجله، وبالتالي يكون الموت هنا أحد موضوعات الجبر والاختيار قبل أن يكون بداية موضوع آخر بلحظة الموت أو ما بعدها وهو موضوع المعاد.
48
فالمقتول ميت لأجله والأجل واحد، والله خلق الآجال وقدرها.
49
ومن مات رغما عنه، حتف أنفه أو قتل، فقد مات بأجله، وكان يمكن ألا يموت وأن يزيد الله في عمره، ولكن ما دام أجله قد حان يجب عليه الموت، فلكل أجل كتاب، سبب القتل هنا هو سبق العلم وشمول الإرادة، وإن لم يمت بقدر الله مات بغيره حتف أنفه، وبالتالي يتحول الأجل إلى جبر أو إلى موت جبر، ويصبح الموت مطاردا للإنسان كما يصبح طريد الموت أينما يفر منه الإنسان؛ فهو ملاقيه كما في أسطورة أورفيوس عند القدماء، فلا زيادة ولا نقصان في العمر، وإذا كانت الزيادة بركة فهل النقص قلة في البركة؟
50
إن استخدام الأجل والقضاء لتبرير الموت والتعمية عن حوادث الطريق والفقر والاغتيالات وكل الشرور والآثام؛ لهو تعمية عن الحقائق في سبيل مزايدة في الإيمان يرضى عنها السلطان ليتستر وراءها إخفاء للأسباب المباشرة لموت الرعية.
51
مع أن المحافظة على الحياة أساس الشرع.
52
إن عدم الالتفات إلى الأسباب المباشرة للموت جهل بالأوضاع الاجتماعية وعدم حرمة لحياة الناس وتعمية وتغطية على حوادث الطرقات وأسلاك الكهرباء العارية والبالوعات المفتوحة والمنازل الآيلة للسقوط والبنايات الهشة رغبة في الربح وسرقة للأموال، والأغذية الفاسدة والأمراض العضالة، والقتل من أجل السرقة والفقر والجوع، والحروب العدوانية، ويستعمل «لكل أجل كتاب» في الدين الشعبي لتبرير كل شيء للسلوى ولدفع الأحزان، ولماذا تفريغ الغضب؟ أليست مسئولية الحاكم في المدينة أن يسوي الطريق لبغلته حتى لا تعثر في الطرق؟ فما بال أمم بأكملها تتعثر بأيدي الحكام قبل أن تكون بأيدي الأعداء؟ وما الفائدة من إعطاء الله الحق النظري لإطالة العمر ثم لا يطيله بالفعل؟ ما الفائدة من نية لا تتحقق في فعل أو قدرة لا تخرج في قرار؟ ولماذا لا يعيش الإنسان أكثر حتى ينتج أكثر ويعلم أكثر ويحقق الرسالة في مراحل أخرى؟ ولماذا الدفاع عن الموت وعن القتل والقاتل؟ ولماذا لا يبقى طول العمر وإطالة الحياة؟ وإن فن العيش كله في إطالة الحياة ومحاربة الأمراض وتقوية البدن واكتشاف العقاقير، وكثيرا ما صاغ الشعراء والفنانون شعر الحياة وفن الحياة وحب الحياة، ونحن نقدس الموت والمرض، فيموت الإنسان رغم أنفه ويلاقي حتفه، فنتمنى العدم أكثر مما نعشق الوجود.
53
إن رفض الموت قتلا على الأقل يبقي على الحياة كقيمة، ولماذا لا يتمنى الإنسان حياة أكبر دون موت يقضي على رسالته؟ قد يقبل الإنسان على الموت اختيارا لا رغما عنه حتف أنفه لإكمال الرسالة، قد يموت الإنسان شهيدا باختياره وليس رغما عنه، تضحية بحياته وليس رغما عنه للقاء حتفه مدفوعا إليه دفعا، وهل القتل فردي أم جماعي؟ هل قتل الشعوب المناضلة من أجل حرياتها والثائرة من أجل تحررها موت بآجالها أم أن الله هو الذي قتلها أم أنها ضحت بالملايين في سبيل حريتها؟
لولا أسباب الموت لكان ممكن للإنسان أن يعيش أكثر، ولولا الجوع وحوادث الطريق والأمراض لعاشت كثير من الشعوب، ولقلت نسبة الوفيات وزادت نسبة الأحياء، وبالصحة ترتفع نسبة المعمرين، المقتول غير ميت لأن الموت من الله أو من القاتل وكان يمكنه أن يحيا، المقتول مقطوع عليه أجله، فوجب على القاتل أن يقطع عليه أجله في القصاص، لو لم يقتل الإنسان لما مات في ذلك الوقت، ولا يمكن أن يموت الإنسان بلا قتل، إن معنى أن تزيد الطاعات في العمر أن وفرة الصحة والسعادة تطيل في العمر؛ فالطاعات سبب أول يؤدي إلى أسباب أخرى ثانية مثل الاستيقاظ المبكر للصلاة، وعدم التخمة والصوم، والاطمئنان الداخلي؛ أي الصحة النفسية، أما في أصل الوحي فيتدرج الأجل من الأجل بين الزوجين إلى أجل الدين إلى أجل الفرد في عمره إلى أجل الأمة وحياتها في التاريخ إلى أجل الكون كله وانتهاء الزمان.
54 (2-2) الأرزاق
ليس خلق الأفعال مسألة فلسفية نظرية خالصة، بل يتعداها إلى موضوعات عملية ترتبط بمصالح الناس مثل الرزق والكسب والمال والسوق والأسعار والغنى والفقر، إلا أن موضوع الأرزاق أهم من موضوع الآجال؛ لأن قدرة الإنسان على السيطرة على الحياة والموت محدودة نظرا لتشابك وجوده في عديد من العلاقات البدنية والبيئية والاجتماعية، أما الأرزاق فللإنسان قدرة أعظم للسيطرة عليها، وإذا كانت الآجال، على أكثر تقدير، أقرب إلى الإرادة الإلهية، فإن الأرزاق على أقل تقدير أقرب إلى الأفعال الإنسانية، والعجيب أن يعتبرها القدماء غير مهمة وهي موطن الصلة بين التوحيد والنشاط الاقتصادي، والانتقال من توحيد الذات والصفات والأفعال إلى توحيد الثورة والمجتمع والنشاط الإنساني والإنسان في العالم.
55
ومع ذلك يذكرها القدماء وكأنها من أفعال الله بقضاء الله وقدره! وأن كل المصائب والمحن والشدائد وما يصيب الإنسان من فقر وبؤس وحرمان كلها بتقدير الله وقضائه، وكيف يكون الرزق بقضاء الله وقدره وليس بجهد العباد في إطار النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يوجد فيه الإنسان؟ ولما كانت جماهير الأمة فقيرة وبائسة ومحرومة يضرب بها المثل بالقحط وسوء التغذية والجوع، وتصنف ضمن الشعوب المتخلفة أو العالم الرابع، أي عالم ما تحت خط الفقر، فإن جعل الرزق بقضاء الله وقدره تبرير للفقر والبؤس والحرمان وقبول للضنك وشظف العيش، ولماذا تكون جماهير الأمة ضحية القضاء والقدر ويكون الحكام من محظياته؟ إن ذلك يؤدي لا محالة إلى الإبقاء على الأوضاع القائمة من استغلال وفقر واحتكار وتفاوت شديد بين الطبقات والقضاء على أية إمكانية في التغيير وتحقيق العدالة بين الناس وتطبيق النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للشريعة، وهنا تكون العقيدة ضد الشريعة وليس أصلا لها، وتكون الأوضاع الاجتماعية مناهضة للشريعة والعقيدة معا. والقضية من جديد هي العلة الأولى التي تعلق عليها أخطاء البشر والتي تمثلها الأقلية ضد الأغلبية في مواجهة العلل الثانية التي تعجز الأغلبية حتى عن تمثلها.
56
ولتثبيت ذلك إلى الأبد تكتب الأرزاق في «اللوح المحفوظ» الذي لا يمحي فيه شيء؛ فلا يمكن الزيادة في الرزق أو النقصان منه، زيادة رزق الفقير والنقصان من رزق الغني؛ فالله هو الخالق والرازق، وكأن الخلق هو الرزق مع أن الخلق حق الله والرزق حق الإنسان، لله كل شيء وللإنسان بعض الشيء، وبالرغم من أن الله هو الرازق الحق للخلق وأن السلطان هو الرازق بالمجاز للرعية والأمير هو الرازق بالمجاز، إلا أنه ما أسهل التوحيد بين الله والسلطان والأمير، وما أسهل أن تتحول الحقيقة إلى مجاز والمجاز إلى حقيقة، خاصة في نظام يعتمد على حجة النقل والتأويل الحرفي للنصوص، وأن الاستدلال بالنقل على أن الأرزاق مقسومة تمنع الفقير من المطالبة بحقه في مال الغني، فتفسير النص موكول لفقيه السلطان.
فإذا ما كان لجهد الإنسان دور في تحديد رزقه، فإن هذا الجهد لا يظهر في أفعال التقوى أو الفجور، فيزداد رزق التقي ويقل رزق الفاجر، بل في الأفعال الاقتصادية من إنتاج وربح ومشاركة وأجر؛ فالأخلاق في باطن الاقتصاد وليست بديلا عنه، وإن تصور الأخلاق بديلا عن الاقتصاد هو حل للقضية الاجتماعية عن طريق الأخلاق الفردية دون ما تغيير بجوهر النظام الاجتماعي، وإن الإقرار بالظلم لا يكفي للتغير الاجتماعي، فقد ينتج عنه مجرد الندم دون تغير اجتماعي أو ثورة، وإن عدم استيفاء الرزق لا يكون بالضرورة مشروطا بالموت، فهناك من الأحياء ما لا تستوفى أرزاقهم؛ ومن ثم فلا سبيل لهم إلا الموت انتظارا لاستيفاء الرزق!
57
وقد تحول ذلك كله إلى دين شعبي يؤمن به الناس، فقد تحولت عقيدة السلطة إلى عقائد الجماهير بفعل السيطرة على أجهزة الإعلام وتوجيه التربية الدينية في المدارس، وحتى في هذا الاعتراف بالزيادة والنقص في جهد الإنسان، هل الموضوع دراسة علمية للدخول والأجور أم مجرد تمرين عقلي مقلوب لإظهار القدرة الإنسانية في مقابل القدرة الإلهية، كرد فعل على اعتبارها من أفعال الله وليست من أفعال الإنسان نتيجة لعمله وأنماط الإنتاج في مجتمعه وتوزيع الدخل القومي فيه وسياسة الأجور ونوع النظام الاقتصادي؟ وإذا كانت الأرزاق من أفعال الله، فكيف يقتر الرزق على المؤمنين ويبسطه على الكافرين؟ وهل بسطه الرزق لدى المؤمنين وضيقه على الكافرين من الله؟ وهل زيادة رزق المؤمن من ممارسته للشعائر والعبادات وأدائه للصلوات وذهابه مع الحجيج سبع مرات؟ إن الأرزاق أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية لها قوانينها في أحوال المعاش كما يبدو ذلك في أصل الوحي وتنظيمه لسيولة الأموال في المجتمع، ويعتمد القدماء على الحجج النقلية دون العقلية حتى يمكنهم الارتكان إلى حجة السلطة وإبعاد العقل عما يمس الناس ومعاشهم طالما أن فقيه السلطان هو المفسر الأعظم لنصوص الوحي!
وهناك ثلاثة تعريفات للرزق: الأول: الرزق هو الملكية، ورزق الإنسان هو ما يملكه الإنسان؛ ومن ثم لا ترزق البهائم لأنها لا تملك، أما مصدر الملكية فهي إما الحيازة أو الإرث أو المبايعة أو الهبة، وكلها مصادر شرعية! والسؤال الآن: ألا توجد ملكية عن طريق السرقة والاغتصاب؟ وماذا عمن لا يملك؟ أليس له رزق؟ وكيف يأكل ويعيش؟ وماذا عن الملايين المعدمة التي لا تملك شيئا؟ إن تحديد الرزق بالملكية أي بالاستحواذ هو تأكيد على الملكية كمصدر رزق بصرف النظر عن أنماط الإنتاج أو علاقات الإنتاج كطرق للكسب.
58
مع أنه في أصل الشرع لا وجود إلا للملكية العامة، فالله وحده هو المالك، والله وحده هو الوارث، والإنسان مستخلف فيما أودعه الله بين يديه، له حق التصرف والانتفاع والاستثمار وليس له حق الاستغلال أو الاحتكار أو الاكتناز، يبدو أن الأشعرية تنسى أن علم الأصول واحد بشقيه، أصول الدين وأصول الفقه، وتذكر الله عندما يتعلق الأمر بحق الله وتنساه إذا ما تعلق الأمر بحقوق الناس!
والمعنى الثاني هو كل ما يأتي الإنسان، سواء كان حلالا أم حراما، وأحيانا يتم التضييق فيصبح فقط ما لم يحرم تناوله، في المعنى الواسع الرزق كسب حلال أم حرام؛ لذلك نشأ السؤال التقليدي: هل يرزق الله عباده الحرام؟ والغرض من السؤال ليس الإجابة عليه بنعم أو بلا، بل إعطاء فرصة أخرى لعواطف التأليه؛ فالذات المشخصة تمثل القيمة المطلقة ولا تفعل إلا الخير، فلا يرزق الله إلا الحلال، كما يدل على رغبة في البحث عن أساس نظري للفعل خارج الفعل ذاته وبعيدا عن الموقف الإنساني الذي يحدث فيه الفعل، فهو سؤال يقوم على افتراض الجبر وعلى إمكانية تدخل قدرة مشخصة من تقدير الإنسان للموقف وسلوكه فيه، وكيف يكون الحرام رزقا وهو يستحق عليه العقوبة؟ وكيف يكون الحرام رزقا خاصة وأن كل ما هنالك هو أنه يستحق العقوبة؟ ولماذا لا يمنع الرزق الحرام من الأساس؟ إن اعتبار الحرام رزقا يفصل بين الواقع والقيمة، ويكون ذريعة للكسب الحرام واعتباره رزقا، إن الدفاع عن الرزق الحرام وجعله جزءا لا يتجزأ من الرزق يعطي ذريعة للمجتمعات الحالية لتحليل الحرام وتحريم الحلال، وهي التي تعاني من أوضاع الفقر والغنى، والشبع والجوع، والاستغلال والاحتكار، إن الحلال والحرام من المسائل الاقتصادية يفيدان معنى الفعل القائم على الجهد والقيمة في مقابل الفعل القائم على الاستغلال، كما يشيران إلى قوانين السوق وقواعد الكسب ونظم الاقتصاد وقوانين الدولة، إن الذي يسمح بالتلاعب في الأرزاق والأسعار والتحايل على القوانين من أجل سلب الغير عملهم ومن أجل استغلالهم هي طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يعيش فيه الإنسان ومدى ولاء الإنسان له أو تحايله عليه وتمثيله لحقوقه أو استغلاله، وليس قوة خارجية تمنع الفاضل منه وتدفع الشرير نحوه، هو النظام الذي يعيش الإنسان فيه والذي يعمل الإنسان إما على إبقائه أو على تغييره، إن الحديث عن الرزق الحرام باعتباره رزقا هو إحساس بفعل الاستغلال إما نفيا أو إثباتا، نفيا بالإيحاء بالاقتراب عنه وإثباتا بالإيحاء بالابتعاد عنه طبقا للمثل الشعبي «يكاد المريب يقول خذوني»، ومهما كانت هناك من حجج عقلية فإنه يبدو فيها التشريع للنهب والسلب مثل الاعتماد على أن ما أكلته الدابة وما أخذه اللص رزق، فالإنسان ليس دابة وليس لصا، الإنسان ذو عقل ووعي وعمل وجهد، وكيف تدافع الأشعرية عن الرزق الحرام دون التأكيد على أن الرزق الحلال وحده هو الرزق، وهل انعدم الرزق الحلال وعم الرزق الحرام؟ وماذا عن المحرومين الذين ليس لديهم لا هذا ولا ذاك، لا رزقا حلالا ولا رزقا حراما؟
59
وكيف يرزق الله الحرام؟ لذلك استعمل المتأخرون مفهوم الحلال المباح الذي لا يبحث عن أصله واعتباره رزقا هكذا بفعل الوجود، ثم تضفي عليه الشرعية ويصبح مباحا بنص أو إجماع أو قياس جلي حتى يحدث الاطمئنان الداخلي الإيماني الشرعي الضروري للوضع الخارجي الاجتماعي اللاشرعي. فتحدث السرقة باسم الدين، ويتم الكسب الحرام تحت غطاء الإيمان، والحاكم مطمئن والمحكوم قانع.
60
لذلك كان من الطبيعي أن يكون الرزق هو الحلال وحده دون الحرام توحيدا بين الشيء والقيمة، فالحرام ليس رزقا يتغذى به الجسم كموجود طبيعي. ليس الرزق هو المواد الغذائية، بل طريقة كسبها والعمل وراءها، أي أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج قبل أن يكون هو الشيء المنتج، ليس الرزق غذاء وملكا، أي غذاء ومسكنا وملبسا، ما يدخل في بطن الإنسان، وما يكون فوقه أو تحته أو يمينه أو يساره أو أمامه أو خلفه. الرزق هو جهد الإنسان ونتيجة عمله وفائض قيمته، ليس الرزق ما يقيم الأود فحسب، بل هو أيضا رغد العيش ورحابة الحياة رفعا لمستوى الفقراء ومساواة لهم بالأغنياء لو وجهت الدعوة إلى الجميع فقراء وأغنياء وليس إلى الأغنياء وحدهم، إن الذي يحدد كون الكسب من الجهد الذاتي أو من الاستغلال للآخر هي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو ما لم يتعرض له القدماء قصدا لأنها من الفروع أو من المطولات، وكأن الأصول هي مجرد الموضوعات النظرية الخالصة كالذات والصفات، وأن كل ما يمس صالح الناس من المطولات، ويكفي أنها من اختصاصات الله أو السلطان، والحقيقة أنه يمكن معرفة منطق أحكام الشعور الاجتماعي، الأرزاق والأسعار، وما يتعلق بها من نشاط اقتصادي وتوزيع الثروات ومعرفة مظاهر الاغتصاب والاحتكار والاستغلال. وبالتالي يكون علم أصول الفقه أقرب إلى تحقيق التوحيد من علم أصول الدين عند الأشعرية.
61
والمعنى الثالث للرزق هو المنتفع به؛ فالرزق ما ينفع الإنسان ولا يرزق الإنسان ما يضره، ولكن ما مدى هذا الانتفاع وحدوده؟ متى يتحول الانتفاع إلى أثرة وأنانية واستغلال؟ وهل ترتزق البهائم لمجرد انتفاعها؟ وما هي شروط الانتفاع؟ هل يجوز الانتفاع بما ليس ملكا؟ هل يجوز الانتفاع بالاغتصاب وهل كل انتفاع رزق؟ هل الأطعمة والأشربة والأقوات رزق أم حق طبيعي؟ ومع ذلك قد تبدو للانتفاع بعض المزايا على تحديد الرزق بالمعنى الأول، أي بالملكية؛ إذ إنه يمنع الاحتكار لأنه ملكية بلا انتفاع، وهو أقرب إلى تحديد المعنى الشرعي للملكية بأنها حق التصرف والاستثمار والانتفاع، وتعريف الرزق بالانتفاع هو تنويع على تعريفه بالملكية؛ فالرزق اثنان، انتفاع وملك، مشاع وخاص.
62
وينقسم الرزق إلى عدة أنواع؛ منه ما هو ظاهر على الأبدان كالأقوات، ومنها ما هو باطن في القلوب كالعلوم والمعارف، والأرزاق المقصودة فقط من النوع الأول لأنها تتعلق بأفعال الشعور الخارجية وبأفعال الوعي الاجتماعي.
63
وقد تكون الغاية من ذلك الإيحاء بأن الرزق هو العلم، رزق القلب وليس هو الأجر والكسب أي الرزق الخارجي، رزق الجوارح، وبطبيعة التكوين الديني تؤثر العامة رزق القلوب على رزق الجوارح، وتفضل العلم على الكسب تعويضا عن جهلها راضية بفقرها، أما قسمة الرزق إلى ما يحدث ابتداء من الله بالإرث وما يحدث كسبا من العبد، فإنه يجعل القسم الأعظم من الرزق خارج التساؤل؛ لأنه هبة للوارث من الله أو من الأب، أما القسم الثاني وهو الأقل فإنه متروك للتوكل، فما لم تقض عليه الأشعرية قضى عليه التصوف؛ فالطلب والجهد والكسب والعمل قبيح؛ لأنه ضد التوكل ولأنه قد يوقع في الخطأ وفي ظلم الناس؛ فالأولى إذن عدم الطلب والكسب.
64
والحقيقة أن الرزق الأول لم يأت عن طريق الجهد والكسب، والإرث احتمال قد يقع وقد لا يقع بدليل الصياغة الشرطية له في أصل الوحي، كما أنه في الأوضاع القائمة وحاجة الأمة إلى الاستثمار يصعب ترك مال دون استثمار، وإذا كانت الأنبياء قدوة، فإنها لا ترث ولا تورث؛
65
لذلك قامت الحركات الإصلاحية الحديثة بنقد التوكل في التصوف دون أن تذهب إلى جذوره في العقيدة في علم أصول الدين، وفي أصل الوحي صحيح أن الرزق فعل الله كحق نظري وكنتيجة للخلق إلا أنه مشروط ب«لو» التي تعبر عن الاستحالة، كما أنه مشروط بالهجرة والجهاد والتقوى والإيمان والعمل الصالح والمغفرة، هدفه الشكر وليس الاغتناء عن طريق الاغتصاب وأكل المال الحرام، وهو أيضا فعل للإنسان في الكسب الحلال دون الحرام، ينفق منه الإنسان دون اكتناز حتى يأخذ المال دورته في الاستثمار مما يحقق النفع العام.
66 (2-3) الأسعار
وهو أقل الموضوعات تناولا من الآجال والأرزاق، مع أنه هو الذي يكشف التلاعب في الأسواق وأسباب زيادة الأسعار، ومشاكل التضخم والبطالة والفقر كلها ترجع إلى غلاء الأسعار، وهو الذي يحرك الجماهير؛ لأنها تمس لقمة العيش والحياة اليومية.
67
لم يتناولها القدماء إلا لأن الله هو الذي يحددها وليس السوق، وكأن الله هو الذي ينزل إلى الأسواق وإلى تجار الجملة ويتحكم في الأسعار من أجل مزيد من الربح، وغالبا ما يكون التحكم في طريق الزيادة أي ارتفاع الأسعار ولا يكون أبدا من أجل خفضها أي رخص الأسعار، وكأن التحكم الإلهي في الأسعار يسير طبقا للتضخم وارتفاع مستوى المعيشة باستمرار، ولصالح التجار ضد مصالح المستهلكين، وما دام الرزق يكون حلالا أو حراما، فإن الأسعار بالتالي تكون أحد مصادر الرزق الحرام، فكل ارتفاع في الأسعار يدخل في جيوب التجار فهو ربح، وكل ربح رزق، وكل رزق ينتفع به بصرف النظر عن الحلال والحرام !
68
ويتم الاعتماد في ذلك على بعض الأحاديث الآحاد أو الضعيفة التي يمكن تأويلها على معنى آخر، وهو عدم إزعاج المسلمين بارتفاع الأسعار وخفضها؛ بعثا للطمأنينة في نفوسهم ولاستقرار الأسواق أو طبقا لقوانين السوق وحاجات المسلمين وكما هو مقرر في علم أصول الفقه في أحكام السوق، والمعنى الحرفي للنص معارض بالاقتصاد الإسلامي وحق الحاكم في التأميم والمصادرة للمال المستغل دفاعا عن المصالح العامة.
69
الأسعار من أفعال العباد ومن وضع الناس طبقا لحاجات السوق.
70
وهناك فرق بين السعر والثمن؛ فالسعر اتفاق بين المشتري والبائع في حين أن الثمن هو علاقة السعر بقيمة الشيء، الأسعار تعلو وتهبط طبقا للحاجة، ولكن الثمن يظل كما هو، ويمكن التحكم في الأسعار بقوانين السوق ووضع حدود على الربح فيما عمت فيه الحاجة، فإذا ما تم التوحيد بين السعر والثمن يحدث البيع بسعر التكلفة دون هامش للربح، ويعظم الربح ويتحول إلى استغلال للتجارة كلما زاد الفرق بين السعر والثمن، وتحول الثمن في السعر إلى أضعاف مضاعفة.
71
وإذا ما جعل التسعير من أفعال العباد أمكن معرفة أسباب الغلاء والرخص التي رآها القدماء في عاملي البلد والوقت فقط؛ أي المكان والزمان، دون بيان لأنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وكأن المكان والزمان هما المحددان الوحيدان لمظاهر النشاط الاقتصادي في المجتمع، أما قانون العرض والطلب إن لم يكن هو المقصود بعامل الوقت فما زال من الله ولا يتوقف على حاجة السوق وكم المعروض، وإذا كان السلطان قادرا على التحكم في التسعير وذلك بتثبيت الأسعار، فهنا يظهر الله والسلطان معا متداخلين في النشاط الاقتصادي دون ما تحليل للنشاط الإنساني في الإنتاج وللبنية الاجتماعية وأثرها في توزيع الدخول.
72
وهل النشاط الاقتصادي كله مركز في الأسعار؟ ماذا عن الإنتاج والأجر ورأس المال والربح وتوزيع الدخل ومقدار العمل كقيمة للشيء؟ يبدو أن تحديد الأسعار فيها كان عند القدماء هو الوسيلة الأولى للتحكم في الأسواق في المجتمع التجاري القديم، والعجيب أنه في أصل الوحي لا وجود لمفهوم السعر، أما الثمن فلا يعني إلا القليل.
73 (د) الفقر والغنى؛ وهو الموضوع الأخير في خلق الأفعال، وأحيانا يكون الغنى والفقر، يبدو أحيانا أصلا مستقلا، ويبدو أحيانا فرعا على الأرزاق، وهو موضوع اقتصادي يظهر البعد الاجتماعي لأفعال الشعور والأوضاع الاجتماعية الناتجة عنها، وقد وضعه القدماء في صيغة تفاضل، أيهما أفضل: الفقر أم الغنى، دون تحديد لمعاني الفقر ومعاني الغنى، ودون وصف للبنية الاجتماعية التي يظهر فيها الفقر والغنى، ودون تحليل لأسبابهما أو لمقدارهما أو لكيفية التقريب بينهما أو تركهما على ما هو عليه، يوضع السؤال هكذا على العموم دون تفصيل، وعلى الإطلاق دون الإشارة إلى مجتمع معين أو حالة معينة، فالتفضيل نظري خالص، وكأن الأمر مجرد استحسان وتذوق لحالي الغنى والفقر كما هو الحال في الأمثال العامية والآداب الشعبية التي تقرظ الفقر أو تلك التي تمدح الغنى، والحقيقة أنه لا يمكن التفاضل بين مقولتين مجردتين، الغنى والفقر، أو حتى بين شخصين معينين، الغني والفقير؛ لأنهما وضعان اجتماعيان يوجدان في زمان ومكان معينين، وقد يوجد فقير مناضل ثوري، وغني مستغل محتكر، وفي هذه الحالة يكون الفقير الأول أفضلهما، وقد يوجد فقير كسول خامل متواكل، وغني نشط منتج يستثمر أمواله للصالح العام، لا يحتكر ولا يستغل ولا يكتنز، وفي هذه الحالة الغني الثاني أفضل.
74
وماذا يعني الغنى؟ هل هو غنى المال أم النفس أم الحق أم النبوة؟ وما هو الفقر؟ قد يكون الفقر هو فقر النفس والروح والعقل والقلب. وما هي حدود الغنى وحدود الفقر؟ كل غني يريد أن يزيد غناه فهو فقير، وكل فقير يزداد فقرا كان غنيا من قبل ثم افتقر، ما هو الحد العاقل بين الغنى والفقر؟ هل هو خط الفقر؟ هل هو إشباع الحاجات الأولية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن؟ وماذا عن طبيعة المجتمع ومقدار الدخل القومي فيه؟ إذا كان ناتجه القومي ضئيلا وسكانه كثر. فالكل فقير، وإذا كان سكانه أقل يزداد الدخل الفردي، وإذا كان الدخل القومي مرتفعا والعدد كثير فالكل غني، وإذا كان سكانه أقل فالكل أيضا غني ولكن بدرجة أقل، ليس المهم التفاضل في الآخرة بل في الدنيا، التفاضل في الآخرة جزاء وثواب، في حين أن التفاضل في الدنيا كسب وعمل، الأول لا يمكن تغييره في حين أن الثاني يجب تغييره، والأول مشروط بالثاني لما كان الجزاء من جنس العمل طبقا للاستحقاق، والتفاضل في الدنيا أساسا في العمل وليس بالغنى أو الفقر، قد يؤدي العمل إلى الغنى، ولكن يكون الغنى في هذه الحالة مشروطا بقيمة العمل من ناحية وبمقدار الإنتاج والدخل القومي من ناحية أخرى، فلا يمكن لعمل أن يؤدي إلى غنى في بلد محدود الدخل مهما كان هذا العمل فاضلا، ولا يمكن لعمل فاضل أن يؤدي إلى فقر أو إلى ما تحت خط الفقر، وهل اعتبار العمل الصالح مقياسا للتفضيل وليس الفقر أو الغنى هروبا من النشاط الاقتصادي إلى العمل الأخلاقي، أو إيهاما للفقير بأنه أفضل من الغني بالعمل الصالح وبأن الغني أشر منه بعمله الفاسد؟ ولماذا لا تطرح قضية العدالة الاجتماعية مباشرة في مجتمع به الأغنياء والفقراء لإعادة توزيع الدخل القومي طبقا لقيمة العمل وحده؟ ليست المشكلة أخلاقية، بل هي مسألة اقتصادية تعبر عن مضمون العقيدة وعن مضمون التوحيد، ولا توجد حجج نصية لها فحسب، بل تقوم على تحليل النشاط الاقتصادي في المجتمع ونسبته إلى العمل والقيمة والربح والدخل.
ومع ذلك فقد أجاب القدماء على الأخلاق بأفضلية الغنى على الفقر، وأن الغني مطالب بالشكر، وأن الفقير الذي لا غنى له مطالب بالصبر،
75
وكيف يكون الغني الشاكر خيرا من الفقير الصابر؟ وهل الشكر على الغنى فضيلة أم تستر على مصادر الغنى طلبا للمزيد؟ وهل الصبر على الفقر فضيلة أم تسكين وتخدير للفقراء؟ وكيف يتساوى الاثنان في التقوى؟ وهل تقوى الغني صادقة أم ظاهرة؟ وهل تقوى الفقير ممكنة أم عزاء وسلوان وتعويض عن حرمان؟ ألا تعني الاستعاذة من فتنة الفقر وفتنة الغنى ضرورة تغيير الأوضاع الاجتماعية ودرء الفتنتين معا، فتنة الغنى وفتنة الفقر؟ إن كل الحجج النقلية والتاريخية لتفضيل الغنى على الفقر إنما يرددها الأغنياء ترويجا للغنى وتأكيدا عليه كفضيلة، فإغناء الله للرسول لم يكن بالمال بل بالقناعة والزهد والعلم والنبوة، ولم يكن كل الأنبياء أغنياء، بل كان فيهم الفقراء المعدمون الذين لا يملكون شيئا من حطام الدنيا، ولم يكن الصحابة أغنياء بل كان فيهم فقراء المهاجرين، وإن إدانة الفقر ليست لطلب الغنى ولكن للصراع ضد الأوضاع الاجتماعية التي تنتج الفقر ولتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين الناس، وليست حرصا على مكسب خاص أو زيادة ربح أو تراكم ثروة شخصية لغني.
ويستحيل أن يكون في الغنى جمع بين عبادة النفس وعبادة المال، فلا بد أن تطغى الثانية على الأولى ويتحول الإيمان إلى ستار ليخفي عبادة المال، صحيح أن المال الصالح ينتج مع الرجل الصالح، ولكن ما الضمان على أن المال الصالح يكون باستمرار بين يدي الرجل الصالح؟ إن المعروف اجتماعيا وتاريخيا أن المال مفسدة، وأن المال في غالبيته فاسد، بل ويفسد الرجل الصالح، والمال الصالح لا يكفي الرجل الفاسد، والأخلاقيات لا تغير من الوضع الاجتماعي والنشاط الاقتصادي والنظام السياسي شيئا،
76
وفي أصل الوحي يشير الغنى إلى أنه فعل أكثر منه اسم، أي أنه نشاط أكثر منه شيء، وهو وإن كان فعل الله إلا أنه أيضا فعل الإنسان، فالغنى صفة لله ومطلب للإنسان، ولكن معظم الاستعمالات الفعلية نافية؛ فالغنى والكسب والمال والأولاد والمتاع كل ذلك لا يغني. والنذر والشفاعة والمولى والآلهة كلها لا تغني، فالغنى زائل. ويظهر البعد الاجتماعي للموضوع في حث الأغنياء على التعفف وعلى ضرورة دورة المال في المجتمع دون أن يكون حكرا على حفنة من الأغنياء. وأموال الأغنياء وإنفاقها في الحرب ضرورة لا استئذان فيها.
77
وكيف يكون الفقر أفضل من الغنى، والفقير أفضل من الغني؟ كيف يكون الفقير الصابر خيرا من الغني الشاكر؟ ألا يعني ذلك بقاء الفقير في فقره واستمرار الغني في غناه؟ ولماذا لا يكون الفقراء أفضل من الأغنياء لا بمعنى التسكين والتخدير، ولكن لثورتهم على الأغنياء ومطالبتهم بحقوقهم ولتحقيق مجتمع العدل والمساواة. فهم أكثر إنتاجا وجهدا وعملا ومقاومة. والأغنياء أكثر بطالة ورخاء وبطنة وترهلا. ولا تعني أفضلية الفقراء على الأغنياء دخولهم الجنة قبلهم ، بل تغيير حالهم في الدنيا. كما لا تعني أن الإنسان يولد فقيرا ويعيش فقيرا ويموت فقيرا، وأنه قد استغنى عن الغنى، فالاستغناء عن العالم المادي ليس تخليا عن المبادئ فيه. والزهد في العالم ليس انعزالا عنه، بل تقوية للنفس واستعدادا للجهاد كنوع من البساطة وضرب المثل لجماهير الفقراء بشظف العيش وقدوة للناس. وإن الدعوة بالحياة مع المساكين والموت والبعث معهم إنما تعني الالتحام بجماهير الأمة، وبأغلبيتها الصامتة وأن تكون القيادة معهم مثلهم كالسمك في الماء وليست أعلى منهم تتكسب على قضاياهم وتعيش على حسابهم؛ ولذلك كان الأنبياء فقراء باعتبارهم قادة أمم ومحرري شعوب. قد يسعد الغني بغناه في الدنيا، ولكن إذا ما قامت ضده الثورة فقط تطاح الرقاب. وشقاء الفقير في الدنيا إنما هو مؤقت ريثما تتحقق العدالة والمساواة. وهناك عالم يتساوى فيه الجميع ليس فقط في الآخرة ضرورة بل في الدنيا إمكانا.
78 (3) خاتمة. هل الحرية مشكلة؟
يبدو أن موضوع العدل إنما يجد حله في أصل التوحيد؛ فقد أدى إثبات أن الصفات زائدة على الذات إلى القضاء على استقلال الطبيعة وإثبات خضوعها إلى إرادة وقدرة خارجية عنها؛ فالذات فعالة في العالم من خلال الصفات والأفعال، وهي علة الكون وسيد الطبيعة. في حين انتهى إنكار كون الصفات زائدة على الذات إلى استقلال الطبيعة وحتمية قوانينها وارتباط العلة بالمعلول ارتباطا ضروريا؛ لأنه لا توجد صفات مطلقة، إرادة أو علم تتدخل في مسارها. فالمؤله ذات خالصة لا يتدخل في قوانين الطبيعة؛ لأنه لا صفات له، وهو التصور العلمي للطبيعة، كما تنشأ المشكلة في إثبات الصفات مع تصور تضاربها وتصور أن العلم مضاد للإرادة أو أن الإرادة معارضة للقدرة: هل ما يعلمه الله يكون أو هل يكون ما لا يعلمه مع أن الأقرب اتفاق الصفات وليس تضاربها ووحدة الله وليس تعدده. (3-1) الطرف الآخر المقابل للحرية؛ الله أم العالم؟
وأحيانا تتشعب الموضوعات كلها حتى يغيب الموضوع الأساسي والتحليل الدال؛ وذلك لأن الحرية ليست في العالم، وأن الطرف الحقيقي لها لفعل الإنسان هو الله وليس العالم ، وأن القيد هو إرادة الله الشاملة وليس الموقف والعقبة والقيد والنظم الاجتماعية والسياسية. وقد أدى ذلك إلى تصور الإنسان والله أعداء، بقدر ما يكون الله حرا يكون الإنسان مجبرا، وبقدر ما يكون الإنسان مجبرا يكون الله حرا بدلا من تصورهما متعاونين كإخوة أعداء.
79
والسؤال الآن: هل هناك مشكلة حقيقية تسمى مشكلة الجبر والاختيار أو مشكلة القضاء والقدر أو مشكلة الحرية؟ لقد أفاض القدماء فيما سموه مشكلة أو مسألة، وتضاربت الآراء بين جبر وكسب واختيار، كل رأي يعتمد على نصوص وحجج لتأييده. والحقيقة أن هذه المشكلة، كباقي مشاكل علم الكلام الأخرى، إنما تنشأ من هذا الوضع المقلوب للعلم ذاته «علم الله» بدلا من «علم الإنسان». فالسؤال الآتي: كيف تتفق إرادة الله المطلقة مع إرادة الإنسان أو علم الله المطلق وقدره المسبق مع حرية الإنسان؟ صياغة خاطئة لموضوع إنساني هو الفعل. لا يستطيع الإنسان إلا أن يشعر بإرادته وليس لديه أية وسيلة للشعور بإرادة خارجية تحد من قدرته وتقف أمامه بالمرصاد أو تساعده وتؤيده. صحيح أن هناك عقبات أمام الفعل الإنساني وهي الموانع الموجودة بالفعل، في الواقع، من قيد بدني أو ضعف باعث أو عدم وضوح فكر أو نقص في كمال غاية أو وجود موانع في البناء الاجتماعي أو عدم حلول لحظة الفعل المواتية كي يتحقق بنجاح، ولكن هذه العقبات عوامل مادية موجودة بالفعل يمكن معرفتها. وتصورها على أنها إرادة خارجية تحد من الفعل وتفرض نفسها عليه تشخيص لها، والتشخيص الانفعالي ضد التحليل العقلي؛ فالأول إدراك خاطئ ووهم بينما الثاني علم ويقين. فإذا لم تقف هذه الإرادة الخارجية للحرية الإنسانية بالمرصاد - مع أن هذا هو الشائع في التراث القديم كله - فإنها تأتي للعون والمساعدة والتوفيق. وهذه المساعدة في حقيقة الأمر ما هي إلا القوة المفاجئة التي تحدث للإنسان صاحب الحق ومحقق الرسالة أثناء الفعل ودون توقع من طبيعة الحركات ومكونات الموقف. هي قوة نفسية خالصة تعبر عن درجة تمثل الإنسان للغاية وشدة الباعث. وهنا لا يكون الكم هو المقياس، بل يضاف إليه الكيف. وكم من مرة انهار كم أمام كيف. كل ذلك تحليل للإرادة الإنسانية ووصف لمضمونها وتحققها في أفعال. ويستطيع الإنسان أن يعلم ذلك بتحليل شعوره ورؤية ما يدور في باطنه واستقراء مسار التاريخ ومعرفة قوانين تطور المجتمعات البشرية.
فإذا أخذ الإنسان هذا الموقف الإنساني بدافع من الأمانة الفكرية والتواضع العلمي، والعلم بمصادر معرفته وبعمليات الشعور، لم ير إلا حريته من خلال وصفه لشعوره وأفعاله، ولم يقع في تشخيص عوامل موجودة بالفعل كالعقبات أو ظهور قوى مؤيدة لم تكن في الحسبان نتيجة لطهارة الوعي، ونقاء الضمير، وصفاء النفس، وكمال الغاية. ولم ير إلا الحرية من خلاله، ولم يشخص إرادة خارجية مطلقة تقف له بالمرصاد. ذلك لا يتم إلا من نقصان في الوعي وسيادة الانفعال على العقل، والإحساس بالضعف أمام العقبات، فيشخصها إلى إرادة أقوى منه مضادة له أو إلى مصدر قوة أخرى يأخذها في صفه ويستمد منها قوته ويعوض فيها عجزه، يتعبدها ويتقرب إليها ويتزلف لها ويرضيها إلى حد النفاق ببناء البيوت كما يفعل لأميره أو لأسرته أو لحبيبته. صحيح أن الوحي المتضمن في الكتاب أخبر عن قدرة مطلقة وإرادة شاملة تعم كل شيء كصفة، ولكن هذه القدرة ضمن وظيفة التوحيد العامة، وهي الإحساس للإنسان بأنه في عالم واحد يشمله قانون واحد. ومهمة الإنسان في معرفة هذا القانون وتحقيق فعله طبقا لمساره وليس مضادا له لأنه هو طبيعة الأشياء، بل إن إرادة الإنسان، بنص الوحي، هي الموجهة والمحققة للإرادة الشاملة. وتنشأ الحركة في هذه الإرادة الخارجية بفعل الإنسان الذي يفعل فيها بفعله. يفعل الإنسان الخير ثم يعطى الجزاء. ولا جزاء قبل فعل الإنسان للخير. ويفعل الإنسان الشر وينال العقاب، ولا عقاب قبل فعل الإنسان للشر. ويستغفر الإنسان وينال المغفرة، ولا مغفرة قبل أن يستغفر الإنسان، ويتوب الإنسان فينال التوبة، ولا توبة قبل أن يتوب الإنسان. ويمكن أن يقال نفس الشيء على مستوى الانفعال لا على مستوى الفعل فحسب، فإذا فعل الإنسان الخير حدث الفرح والسرور عند الآخر، ولا يفرح الآخر أو يسر قبل أن يفعل الإنسان الخير. ويحزن الآخر ويأسى إذا فعل الإنسان الشر، ولا يحزن الآخر ويأسى قبل أن يفعل الإنسان الشر.
مهمة الوحي الإيحاء للإنسان بأن هناك قدرة في الكون أقوى من كل قوة طبيعية أو إنسانية أخرى، بمعنى أن لا شيء في هذا العالم بمستعص على الحركة والتغير. فيتمثل الإنسان حريته ويغير بناء واقعه. فلا شيء بثابت في هذا العالم، وكل شيء خاضع لإرادة عامة، هي الإرادة التي يتحد بها الإنسان بسيره وفق طبيعة الأشياء ومسار التاريخ. مهمة الوحي الإيحاء للإنسان بأن الطبيعة عاقلة، وأن الإنسان يعيش في عالم من المعاني. وأنه لا يوجد شيء في هذا العالم بلا سبب أو غاية. رسالة الإنسان قائمة على وجود سبب هو أنه ليس من طبيعة الأشياء وليس على مستواها؛ لذلك فهو سيد الكون، وأنه كلما تأمل في حياته وجد أنه بقدرته أن يفعل كل شيء وأن يكون سيدا مطلقا في هذا الكون. والسبب قد يؤدي إلى الغاية؛ فالإنسان يعيش في هذا العالم لغاية. فهو رسالة، والكون غاية. والإيحاء بأن هناك قدرة شاملة تعم كل شيء، تعني أن الرسالة موضوع قوة وصراع شامل يوجهه الإنسان لتحقيق رسالته. ولما كان الوحي موجها نحو الإنسان ومعطى له، فهو قصد إنساني موجه إلى الإنسان كغاية. الوحي والإنسان معا غاية واحدة موجهة نحو العالم. كيف إذن يحاول عالم الكلام أن يتصور أن إرادة الوحي وإرادة الإنسان يسيران وجها لوجه في اتجاهين متعارضين، كل منهما يقابل الآخر ويقف له بالمرصاد؟ هذا القلب المبدئي هو سبب هذا التراث العريض من النظريات والحجج لحل مشكلة وهمية لا وجود لها ناتجة عن وضع خاطئ لعلاقة إرادة الوحي بإرادة الإنسان حتى يظهر الصراع بالقيام بمعركة في الهواء تتم في خيال المتكلم وتعبر عن عجزه في الواقع، وعلى سيطرة الانفعال على عقله، وعلى أنه يعيش في عالم حسي خالص. كل ذلك ناشئ عن الوهم بأن الطرف المقابل للحرية هو الله وليس الموقف، وأن الله هو ميدان الحرية وليس الطبيعة، وأن الإرادة الإلهية هي التي تقف للحرية بالمرصاد وليست صنوف القهر وأنواع العقبات التي تمنع الإنسان من التحرر. (3-2) نظرية أم موقف؟
إن الجبر والاختيار في واقع الأمر ليسا نظريتين مبدئيتين، بل موقفان سياسيان كل منهما يحاول أن يجد تبريرا نظريا له بالاعتماد على النقل أولا ثم على التعقيل ثانيا. الموقف الأساسي موقف سياسي يكشف عن صراع قوى سياسية واجتماعية متناحرة من أجل السلطة والحكم، موقف السلطة وموقف المعارضة، موقف الحاكم وموقف المحكومين. والجبر والاختيار من أولى المشاكل التي ظهرت في الجماعة، ليس كموضوع نظري فحسب، بل كدلالة عملية وبوجه خاص كطرح سياسي. فإذا ما أراد الحاكم أن يتسلط وأن يتحكم بلا بيعة أو شورى، فإنه سرعان ما يجد مبررا له في الدعوة إلى الجبر في أفعال العباد، والحرية المطلقة لإرادة شاملة يتمثلها الحاكم حتى يصعب بعدها التفرقة بين إرادة الله وإرادة السلطان، فكما أن الله حر يفعل ما يشاء فكذلك السلطان يفعل ما يريد، وكما لا يجبر الله على الشيء فكذلك لا يجبر السلطان على شيء.
80
أما إنكار القدر وإضافة الخير والشر إلى الإنسان، فإنه يعطي الإنسان مسئولية ويجعله مسئولا عن كل ما يحدث في الواقع من أنظمة. فالحاكم مسئول، والرعية مسئولة. ويمكن التعامل بينهما على قدم المساواة. لا يوجد قدر خارجي يجعل من الحاكم حاكما أو يملي عليه أفعالا لا يعترض عليها. ولا يوجد قدر خارجي يجعل الرعية ساكنة مطيعة للحاكم وكأن الحاكم قدرها.
81
نظريات الجبر أو الكسب أو الحرية لها وظيفة في كل عصر، سواء من حيث النشأة أو من حيث الغاية. فهي تنشأ تعبيرا عن طبيعة المجتمع وصراع القوى فيه. فإذا كان مجتمع ضغط وإرهاب تنشأ نظريات الجبر لتبرير وجوده ولمطالبة الجماهير بالتسليم والإيمان بالقضاء والقدر والترويج لمعتقدات القسمة والنصيب والحظ. تنشأ أولا كتبريرات عبقرية ممن جعلوا أنفسهم منظرين للأنظمة الاجتماعية والذين في العادة يقلبون الحق باطلا والباطل حقا كما تهوى السلطة وكما يريد النظام، وقد يقوم الأفراد بذلك لمصلحتهم الشخصية لنيل الحظوة لدى الحاكم ثم تتبنى السلطة مقالاتهم للاستفادة بها على نطاق أوسع لإضفاء الشرعية على النظام وفرض الطاعة والولاء على العباد.
82
ثم تظهر صور المقاومة في هذه المجتمعات الضاغطة في الإيمان مثلا بظهور مخلص يأتي ليخلص الناس من القهر والضغط والظلم ولينشر لواء العدل، وهي صورة خيالية للتحرر الفعلي أو عن طريق الحركات السرية لتحقيق انتصار عن طريق الخيال والتعويض النفسي حتى يتحول الضعف إلى قوة، والهزيمة إلى نصر. وتنشأ عند الجماهير الأخرويات أي أمور المعاد وتتخيل عالما آخر في نهاية الزمان يسود فيه العدل ويمحق الظلم. ينال فيه الجائع خبزه، والفقير غناه، والعاري ملبسه، والشريد مأواه، والمهضوم حقه، والضعيف قوته. وهي كلها مذاهب وعقائد تدل على أن الإنسان رسالة وأنه يضاد الظلم بالعدل، والباطل بالحق، والضعف بالقوة، والهزيمة بالنصر، ولكنه في موقف عاجز لا يستطيع أن يقوم بالرسالة الآن بالفعل فيحولها إلى معتقدات وإيمان انتظارا للفرج القريب. وفي المجتمعات المنتصرة، ولدى سلطة واثقة من سلطانها وإحساسها بأنها سلطة شرعية قامت على حق وليست بناء على اضطهاد وقمع، فإنها قد تنشر نظريات الحرية المطلقة للإرادة الشاملة للحصول على مزيد من التأييد ما دامت السلطة شرعية، وحث الناس على الكسب والعمل، كل حر فيما يريد باستثناء التعرض لسلطة الحاكم. ثم تظهر المقاومة في مثل هذا المجتمع المنتصر بإعطاء معنى آخر للحرية وهي حرية الإنسان في الاختيار حتى في الحكم وفي العمل من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الاختيار الحر في السياسة والاقتصاد، في الحكم والمال. المقاومة هنا سياسة اجتماعية في مواجهة النظام القائم، علنية وليست سرية، داخلية وليست خارجية. وفي المجتمعات المموهة التي تبغي إبقاء الوضع الحاضر على ما هو عليه دون تغيير تروج نظريات تجمع بين الجبر والاختيار حتى يغمض الفكر، ويتراخى الباعث، وتضمر الغاية، فلا يعود الناس يدرون شيئا من عالم يحيط به الغموض وتغلفه الأسرار. ويصبحون أنصاف مجبرين، أنصاف أحرار، ويصعب التمييز حينئذ بين الرضوخ والتمرد، بين الإذعان والثورة، وفي الغالب ما يمتد نصف الجبر فيحتوي نصف الحرية، وينتهي الأمر كله بالرضوخ والإذعان والتسليم ، ويصبح نصف الحرية مجرد غطاء نظري يعبر عن حق لا وجود له. (3-3) حرية أم تحرر؟
إن ما سماه القدماء امتحانا أو اختبارا أو ابتلاء هو في الحقيقة إعادة لوضع السؤال الوضع الصحيح؛ فالحرية ليست موضوعا نظريا يسأل عنه ثم يجاب عنه بالإثبات أو بالنفي، بل هو موقف نفسي اجتماعي تظهر فيه وقد لا تظهر. فالإنسان يوجد في موقف، ويجد في نفسه بواعث عديدة، ويشعر بإمكانيات عديدة للسلوك، يحقق الإنسان إحداها عندما يتبع الباعث الأقوى النابع من رسالته؛ لذلك آثر البعض إلغاء المشكلة النظرية كأحد حلولها وكأن حلها الوحيد هو إعادة وضع السؤال أو الانتقال من الحرية النظرية إلى الممارسة العملية.
83
لا تظهر الحرية إلا في موقف، كما لا يوجد الإنسان إلا في عالم. فالحرية في العالم. الموقف أو العالم هو الطرف الآخر لحرية الإنسان وليست أية إرادة خارجية مشخصة. وعلاقة الطرفين، الحرية والعالم، ليست علاقة رأسية كما هو الحال في الوضع القديم بين إرادة الإنسان وإرادة العالم المشخصة، بل علاقة أفقية يتحدد فيها سلوك الإنسان بين الإحجام والإقدام، بين الوراء والأمام. فما ظنه القدماء على أنه علاقة بين الإنسان والله هو في حقيقة الأمر علاقة بين الإنسان والعالم العريض، بين الإنسان والتاريخ بسلوك الإنسان فيه بين التأخر والتقدم. كما أن القيم لا تتفاوت رأسيا بل تتفاوت أفقيا. القيمة الأكمل هي التي تحقق أكبر قدر ممكن من العدالة لأكبر عدد ممكن من الناس، وأكبر قدر ممكن من الحركة والتقدم لأكبر قدر ممكن من البشر. القيم مادية، في مادتها وصورتها وليست صورية فارغة. القيم محسوسة ملموسة وليست مضمرة متطهرة يتستر وراءها الشبق المادي. والقيم اجتماعية وليست فردية، عامة وليست خاصة، تعبر عن وجود الإنسان وكماله وطبيعته وليس عن عدمه ونقصه وزيفه وافتعاله. ولا يعني الابتلاء أو المحنة وقوع المصائب وأن الحياة هي مجموعة من المآسي تقع على رءوس البشر، بل تعني المحنة أو الابتلاء أن الحياة مجموعة من المواقف أو التجارب أو الصعاب أو العقبات يتخطاها الإنسان بحريته. لا يثبت الفعل إلا بالمقاومة والجهد ولا يصقل إلا بالعقبة. ليست المحن هي المصائب البدنية أو المادية أو النفسية، بل هي التجارب التي يمر بها الإنسان والتي يوجد فيها وهو يحقق رسالته. المحنة في الدين شاملة لمحن الدنيا.
84
وهذا هو معنى التكليف؛ إذ يعني التكليف أن للإنسان رسالة في الحياة، وأنه هو الذي قبلها باختيارها بما أنه سيد الكون وملك الطبيعة بما لديه من قدرة على القرار والاختيار الحر، وبما لديه من قوة على التحقيق، قوة معنوية تطلق من حدوده البدنية وتجعله أقوى من السموات والأرض والجبال.
85
وكما تم هذا التكليف بحرية الإنسان وبإرادته، فإنه في الوقت نفسه يتحقق بحرية تامة دون قدر مسبق في علم مسبق أو بإرادة شاملة لوجود مطلق تفعل كل شيء. إن هذا التكليف ذاته عملية تحرر لولاها لارتكن الإنسان إلى بدنه، وتحول إلى طبيعة خالصة كسائر الموجودات ولأصابه الوهن والثقل واعتراه الخمول والسكون.
86
وقد يعبر عن رسالة الإنسان في الحياة فنيا بالصورة فتنشأ الأخرويات وتكون الحياة الدنيا دار عمل والأخرى دار جزاء. وقد تتحول رسالة الإنسان في الحياة إلى صورة كونية أخرى، فينشأ الإنسان في الوجود غافلا ويستمر كذلك في جو من النعيم الدائم كالملاك، ثم يختار البعض منهم رسالته ويأتي إلى الحياة ليحققها؛ فمن حقق رسالته ارتفع إلى أعلى عليين في مكانة أفضل من الذين استمروا في النعيم الدائم لأنهم حصلوا على جزائهم بجهدهم لا بخلقهم. وإذا لم يحققوا الرسالة هبطوا أسفل سافلين. تسلب منهم الرسالة ويتحولون إلى أقل مرتبة في الوجود، وهي مرتبة غياب الوعي وانعدام حياة الشعور. ثم تعطى لهم فرصة ثانية للاختيار والتكليف، وهكذا تستمر الحياة تكليفا برسالة ونجاحا أو فشلا في التحقيق، بلا نهاية وبلا يأس، وتستمر العملية طالما بقي الزمان.
87
وتحقيق رسالة الإنسان في الحياة تعبير عن طبيعته وحريته دون انتظار أي جزاء. يكفي كمال الإنسان وازدهاره، وخلقه وإبداعه، وشوقه إلى الغاية وعمله لها. الإنسان بطبيعته حياة وحركة، وخلق وإبداع، وتمدد وازدهار.
88
يحقق الإنسان رسالته طبقا لطبيعته، ويتحدد سلوكه طبقا للدافع الأقوى، ويتحدد الدافع الأقوى باختلاف شدة البواعث أو بتفاوت الوضوح الفكري أو باختلاف درجات الكمال في الغاية. لا تعني الطبيعة نفي الحرية، بل تأسيس الحرية على أساس واقعي من التجربة وبناء على الإحساس بالحياة كدافع حيوي. ليست الحرية اختيارا عقليا صوريا بين طرفين متساويين في البواعث، بل هي اتباع للطبيعة، أي للباعث الأقوى، تعبيرا عن الدافع الحيوي. ولما كان الإنسان رسالته، وكانت رسالته وجوده، فإن الحرية تحقيق لهذه الرسالة، وحياته تعبير عن هذا الوجود، الحرية كمال للطبيعة.
89
ليست الحرية واقعة مادية توجد أو لا توجد، بل هي عملية تحرر يشعر بها الإنسان، قد توجد وقد لا توجد، وكذلك الوجود الإنساني قد يشعر به الإنسان وقد لا يشعر، وكما أن الوجود إيجاد، فالحرية تحرر. ولما كان الإنسان مجرد إمكانية تحقق أو مشروع وجود، فكذلك الحرية مجرد إمكانية حرية أو مشروع تحرر. فالموقف الإنساني يفرض على الإنسان وضعه، ولكن الفعل الحر قادر على أن يظهر من خلال هذا الوضع. تقف الحرية في مواجهة الحتمية، والاختيار الحر في وجه الأوضاع القائمة. ممارسة الحرية إذن هي في القدرة على إيجاد البدائل المفروضة وتحرير الفعل الإنساني من نطاق الفرض إلى نطاق الاختيار، ومن ميدان الضرورة إلى ميدان الحرية. ولا ينشأ الجبر إلا إذا تخلى الإنسان عن وجوده الذي هو حريته، ولا ينشأ الطاغية إلا إذا تخلت الجماعة عن حريتها التي هي وجودها. صحيح أن هناك صلة بين الحرية والخبز عامة وشائعة، إلا أنها ليست صلة حتمية. قد يتنازل الإنسان عن الخبز ولا يتنازل عن الحرية.
90
فالوعي مملكة الإنسان، مهما كانت هناك من تحديدات خارجية له، إلا أنه يظل فعل الإنسان الحر واختياره الأول.
ويستطيع الإنسان أن يمارس حريته بعدد من الصور، ومهما تعددت العقبات أمامه، فإن الحرية تظل ممارسة لا تغيب عنه أبدا إلا برغبة في النكوص أو تبريرا لضعف أو هروبا من موقف أو تخليا عن رسالة. الممارسة المثلى للحرية هي الممارسة لها في أكمل صورها، ممارسة فعلية بالعمل لتغيير الواقع، والجهر بالقول، وتمثل الشعور المستمر للغاية، فإن استحال العمل في الواقع لوجود موانع بدنية أو لصعوبة الحركة مارس الإنسان حريته بالقول الجهور، ونشر الوعي، وإيضاح ضرورة التغيير. يكون الحق على الأقل واضحا على مستوى النظر، وإذا انتشر النظر وضح الفصم بين النظر والواقع، فظهرت ضرورة الفعل لتجاوز هذا الفصم والتوحيد بين النظر والعمل، بين المثال والواقع. إذا صعبت حرية العمل، وقامت العقبات، واستحالت الحركة فإن الحرية تمارس بالقول ورفض الواقع بالكلمة. فإذا صعبت حرية القول أيضا، وقامت العقبات أمام حرية التعبير تمارس الحرية بالشعور، ويظل الشعور حرا بإحساساته وعواطفه وانفعالاته، فالشعور مملكة الإنسان الخاصة التي لا تستطيع العقبات الخارجية أن تنال منها. ولا تضمر حرية الشعور إلا إذا خفت البواعث واضمحلت الغاية وخفت الطاقة. فإن ضاعت حرية الضمير ضاع الإنسان، وعدم الوجود، وانتهت الغائية، وتحولت إلى تناقص أو عشوائية، وانتهى كل شيء.
91
الفصل الثامن
العقل الغائي (الحسن والقبح)
أولا: مقدمة، اسم المشكلة ومكانها في العلم
(1) اسم المشكلة
يصعب إيجاد عنوان دقيق لهذا الفصل مثل باقي الفصول، بالرغم من وجود الاسم القديم للمشكلة، الحسن والقبح أو العقل والنقل. فالحسن والقبح العقليان عنوان من المعتزلة وأحد أصولهم الخمسة، وليس أصلا عاما من أصول الدين تجتمع عليه كل الفرق وإن كانت المسألة معروضة عليهم، إما من الاعتزال أو من طريقة التعامل مع النص، حرفيا أم مجازا؛ لذلك يكون اسمها أيضا العقل والنقل أو العقل والسمع أو العقل والوحي. ويتضح من هذا العنوان أيضا أنه مفروض من الاعتزال على بنية العلم، بدليل أولوية لفظ العقل على اللفظ الثاني النقل أو السمع أو الوحي. وهي مشكلة المنهج ليس فقط في علم أصول الدين بل في باقي العلوم دون أن تكون إحدى قواعد علم العقائد. ومع ذلك تشمل هذه المشكلة المنهجية عدة موضوعات أشبه بالعقائد، ولكنها أقل إلهية وأكثر إنسانية، أخف إيمانية وأقوى عقلانية، مثل الصلاح والأصلح واللطف والغائية دون أن تظهر هذه الموضوعات كعناوين في المسألة. كان يمكن تسميتها إذن «الإنسان العاقل»، لما كان باب العدل كله هو الإنسان المتعين وظهر الإنسان الحر في خلق الأفعال أولا وها هو الإنسان العاقل يظهر ثانيا كشق ثان للإنسان المتعين. فلا حرية بلا عقل، ولا تقوم الحرية إلا على العقل القادر على الإدراك والتمييز بين صفات الأفعال. ولما كانت الغائية من أهم موضوعاتها كان يمكن تسميتها «العقل المصلحي»، لما كان موضوع الصلاح والإصلاح في مقابل موضوع اللطف من أهم عناصرها. بل إن هذا العنوان قد يعيد الوحدة الباطنية في الأصل وفي الموضوع بين علمي الأصول، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، اللذين يقومان معا على المصلحة؛ فالمصلحة ليست فقط أساس الشرع ومصدره، بل هي أيضا أساس العقيدة وغايتها. ونظرا لأن الموضوع ألصق بعلم أصول الفقه، فقد ترك في مكانه الطبيعي القديم. ولما كانت الغاية من أهم عناصرها كذلك فيمكن تسميته لذلك «العقل الغائي». ولما كانت المصلحة غاية، فإنه يتضمن موضوع المصلحة، وهو يؤكد على وحدانية العقل دون طرف آخر مقابل له في النص وبالتالي فإنه يضع «الإنسان العاقل» كما وضع خلق الأفعال الإنسان الحر؛ ومن ثم يكون عنصرا التعين في الإنسان؛ الحرية والعقل. وسبق الحرية للعقل ناتج من أن تعين الإنسان من كمال، وخروج الإنسان المتعين من الإنسان الكامل إنما هو فعل الحرية الأول. ثم يأتي بعد ذلك العقل كي يجعلها حرية عاقلة وليست مجرد هوى أو تعبير عن إرادة ونزوع. الحرية والعقل إذن جانبان لأصل واحد هو العدل، كما أن الذات والصفات مظهران لأصل واحد هو التوحيد. تثبت الحرية أولا قبل العقل لأن الحرية موضوع ممارسة، ثم يأتي العقل بعد ذلك لتوجيهها وجهة عاقلة. الحرية تجربة وجدانية والعقل اكتساب من داخل الممارسة، فتصبح الحرية عاقلة؛ ومن ثم ثار سؤال: هل الموضوع كله جزء من التوحيد أم جزء من العدل؟ فالأفعال بين الأصلين شمول إرادة الله وقدرته وبزوغ الفعل الإنساني من خلاله مثل شمول الوحي وعمومه ثم بزوغ العقل الإنساني من خلاله. (2) هل هي جزء من التوحيد؟
يدخل الموضوع أحيانا كجزء من التوحيد في الأفعال بعد الذات والصفات، وليس كمسألة مستقلة في نفي الغرض والعلة.
1
وفي العقائد المتأخرة تختفي مسألة العقل من التوحيد باختفاء العقل كلية من حياتنا المعاصرة، وكأن التوحيد يعقل نفسه وليس في حاجة إلى إنسان أو إلى أمة تعقله.
2
كما تختفي مسألة العقل والنقل كلية أمام التوحيد والنبوة والسمعيات.
3
فقد أصبح التوحيد كله نظرية في الواجب والممكن والمستحيل، ودخلت مسألة العقل كجزء منها.
4
والعجيب أنه حتى في بعض حركات الإصلاح الحديثة لم تبرز مسألة العقل والنقل. لم يوضع العقل موضع الصدارة، ولم تحدد وظيفته.
5
وفي البعض الآخر ينقسم الموضوع قسمين، فيدخل الأصلح في أفعال الله والحسن والقبح في أفعال العباد.
6 (3) هل هي جزء من العدل؟
وقد تكون المسألة تطبيقا أو نتيجة لمسألة خلق الأفعال، وهو المظهر الأول للعدل.
7
وبالتالي يظهر الموضوع في باب العدل. فخلق الأفعال والحسن والقبح واجهتان لشيء واحد. وحرية الإرادة والعقل الغائي مظهران للعدل، وأحيانا يوضع الحسن والقبح كمقدمة لخلق الأفعال، فالنظر أساس العمل، والعقل شرط الحرية، وأحيانا أخرى يوضع كنتيجة له في سياق البرهان عليها. يكون الأساس هو خلق الأفعال، ولكن الشائع والأغلب أن يكون الحسن نتيجة لخلق الأفعال وليس مقدمة له، ونتيجة طبيعية للحرية وليس شرطا لها. الحرية تجربة بديهية وجدانية لا تحتاج إلى إثبات أو دليل. وإنكار الحسن والقبح إنكار للحرية. الحرية مقدمة والحسن والقبح نتيجة، ولا يمكن التسليم بالمقدمات وإنكار النتائج. وقد يتضخم أصل العدل حتى يضم السمعيات، النبوات والمعاد والأسماء والأحكام بالإضافة إلى خلق الأفعال. ويصبح علم أصول الدين قائما على أصلين: التوحيد أي الذات والصفات ثم العدل، ويشمل ثلاثة أرباع العلم.
8
وقد يتضخم أصل العدل فيصبح شاملا لكل شيء.
9
ويبدو التعديل والتجوير بعد الإرادة ويدخل معها خلق القرآن والمخلوق والتوليد والتكليف والنظر والمعارف واللطف والأصلح واستحقاق الذم والتوبة والنبوات والمعجزات وإعجاز القرآن والشرعيات قبل أن ينتهي الكل بالإمامة؛ لذلك يشمل لفظ العدل تجاوزا عند المعتزلة الأصول الخمسة كلها، فهي كلها علوم العدل وكأن أصل التوحيد ذاته قائم على العدل. أصل العدل هو الشامل لكل شيء وكأن العقائد كلها عقائد العدل، والحضارة كلها حضارة العدل وإن لم يكن المجتمع كله مجتمع العدل.
10
والعدل هو إلحاق النفع بالغير لا بالنفس. العدل تحقيق علاقة بين طرفين؛ طرف عادل وطرف معدول به أو علاقة تساو في العدل بين الطرفين، ولكن من هما الطرفان؟ الإنسان الكامل والإنسان المتعين؟ الذات المشخص والوعي بالذات؟ هل العدل صفة لأفعال الذات المشخص وصلتها بالإنسان؟ ولماذا لا تكون صفة العدل وصفا لأفعال الإنسان في علاقاته بالآخرين؟ محال على الله أن ينفع ذاته أو يمنع الضرر عن نفسه. العدل إذن بالنسبة إلى الإنسان وليس بالنسبة لله. العمل مجاز في الله وحقيقة في الإنسان.
11
وهو مبدأ عام بدليل وجوده كاسم فعل «عدل» وليس مشخصا في اسم فاعل «عادل». والعدل لا يتغير في الله أو في الإنسان؛ فالفعل لا يكون عدلا من الله ظلما من الإنسان أو ظلما من الله عدلا من الإنسان، فالعدل صفة في الأفعال، أفعال الإنسان باعتباره موجودا في العالم وذلك إحالة للحسن والقبح إلى موضوع الحرية من جديد. العدل هو التسوية بين العباد، فالإنسان طرف مساو للإنسان، لا طرف أعلى ولا طرف أقل. العدل وضع طبيعي للأشياء في حين أن الظلم وضع غير طبيعي، وضع مؤقت يتغير إلى وضع العدل كوضع طبيعي، ولكن هذا التغير لا يحدث إلا بفعل الإنسان أي بإرادته الحرة، والعودة إلى المقدمة الأصلية التي يرتكز عليها العدل، وهي الحرية. (4) هل هي أصل مستقل؟
تعتبر مسألة السمع والعقل إحدى الأصول الكبار التي تختلف عليها الفرق مثل التوحيد والعدل والوعد والوعيد أو الإمامة.
12
والحقيقة أن مسألة السمع والعقل ليست موضوعا مستقلا يظهر في مصنفات علم الكلام كما يظهر التوحيد، بل هي منهج وليست موضوعا، منهج يتخلل الموضوعات كلها دون أن يفرد له باب خاص، أو على الأقل هي أقرب إلى المنهج منها إلى الموضوع الذي يحدد وسائل المعرفة ومصادرها وميادينها ... إلخ.
13
فالأدلة نوعان: سمعية وعقلية. ولإثبات شيء لا بد من الاعتماد على هذين النوعين من الأدلة، ولنفيه لا بد من تفنيد الأدلة النقلية أولا، ثم العقلية ثانيا. مسألة العقل والنقل إذن مسألة منهجية خالصة، ومنها جاءت تسمية مشكلة «العقل والنقل» من أجل حل التعارض بين الدليل العقلي القاطع والدليل النصي المتواتر، وتكون أفضل نظرية في التفسير منها في الحسن والقبح العقليين.
14
فإن اختلفت الأسماء فإنها تدل على مسألة واحدة وهي الصلة بين العقل الإنساني والوحي أو إن شئنا تضع من جديد مشكلة المعرفة، الصلة بين المعرفة عن طريق الوحي والمعرفة عن طريق العقل تدخل في جميع مسائل علم أصول الدين، في نظرية العلم في مسألة النظر والمعارف، والمسائل التي عرفتها المؤلفات المتأخرة في نظرية العلم والبحث عن المعرفة الضرورية وبداهات العقول والأخبار المتواترة، والصلة بين الدليل النقلي الفعلي والدليل العقلي القطعي.
15
كما تظهر في المقدمات النظرية في نظرية التكليف ضمن واجبات المكلف وأساسها في المعرفة أو النظر والاستدلال. وتدخل في التوحيد في تأويل الصفات عقلا وفي الاعتماد في خلق الأفعال على الأدلة النقلية أو الأدلة العقلية، النقل أساس العقل أو العقل أساس النقل، بل إن القرآن نفسه يدخل في باب العقل.
16
بل إن السمعيات أيضا مرتبطة بموضوع العقل والنقل، فالنبوة ووجوبها، والمعاد ومعناه، والإيمان والعمل والإمامة كلها، هل تثبت نصا أو إجماعا أو عقلا؟ بل ويمتد موضوع العقل والنقل خارج علم الكلام؛ إذ يستعمل النص في نقد النصوص في «تاريخ الأديان». إذا كان الموضوع نصرانيا استعملت نصوص الإنجيل، وإذا كان يهوديا استعملت نصوص التوراة.
17
كما تتدخل كثير من مسائل السمع خاصة فيما يتعلق باللغة من مباحث الأصول، هل اللغة توقيف أم اصطلاح، وكذلك في الأدلة الشرعية الأربع التي تبدأ بالنص، القرآن والسنة، وتنتهي بالعقل في الإجماع والقياس. وظهر الموضوع في علوم الحكمة في الصلة بين العقل والوحي أو بين الفلسفة والدين، كما ظهر في علوم التصوف في التعارض بين علوم العقل وعلوم الذوق، ويمكن أن يقال إن التراث كله نظرية في العقل أو نظرية في التأويل، أي صلة العقل بالنقل؛ لأنه عرض لمسائل الوحي عرضا عقليا خالصا حتى يبدو الوحي وكأنه نابع من طبيعة العقل وحده ومبادئه العامة وقوانينه الكلية، ويبدو ذلك حتى في الأسلوب «فإن اعترض معترض وقال ...»، «فإن قال قائل»، «فإن قيل»، «فإن قال الخصم»، «فإن اعترض أو قال»، وكأن المعارض العقلي مفروض مبدئيا، ومهمة عالم الكلام الرد عليه حتى يمكن العثور على بنية الموضوع واتساق العقل؛ ونظرا لأن العقل والنقل هما منهجان عامان للتراث كله، لم يدخل عند القدماء ضمن موضوعات العقل الغائي.
18
ثانيا: تعريف الحسن والقبح
تختلف النظريات في الحسن والقبح طبقا للفرق، وتتفاوت التعريفات لهما بين الحسن والقبح الكونيين الوجوديين أو الحسن والقبح الذاتيين النسبيين أو الحسن والقبح العقليين الفعليين. الأولى تثبت الوجود الموضوعي للشر والثانية تثبت الوجود الذاتي الحسي له، والثالثة تجعله أقرب إلى أحكام العقل الثابتة والقيم المعيارية. (1) النظرية الكونية
وهي النظرية التي تثبت الحسن والقبح كموضوعات أو أشياء أو وقائع، داخلة في نسيج الكون سواء في الخلق أو في التكوين أو في المصير والتاريخ. وفي هذه الحالة يكون الحسن والقبح العقليان هما الخير والشر الكونيان على ما هو معروف في الديانات الشرقية القديمة، خاصة المانوية، وكما نقل الحكماء أو المتكلمون المتفلسفون. فالخير والشر مطلقان، كائنان ماديان في الوجود. هناك خير مطلق وشر مطلق، وخير وشر ممتزجان. الخير المطلق هو العقل ذاته والشر المطلق فوضى العقل، الصراع بين العلم والجهل، بين الفضيلة والرذيلة. ولما كان العقل الإنساني يتوق إلى الخير المحض ويتصل به، تنتهي النظرية الكونية في الحسن والقبح إلى نظرية إشراقية في المعرفة، كما تنتهي إلى نظرية في الفضائل تعطي الأولوية للفضائل النظرية على الفضائل العملية. وقد يتشخص الخير والشر في الكون في الثقافة الدينية فيصبح الخير المحض ملاكا والشر المحض شيطانا. وفي حال الامتزاج قد يكون الخير أكثر والشر أقل كما هو الحال في الكون، وفي الحال الغالبة. ولا توجد حالات في الكون يكون الشر فيها أكثر والخير أقل، فهذه نظرة تشاؤمية تجعل الشر أساس الخير كما هو الحال في عقيدة الخطيئة الأولى في النصرانية. ولا توجد حالة أخرى في الكون يتساوى فيها الخير والشر. فهذه المانوية وفرق الثنوية . ولا تختلف عن ذلك نظرية العقول العشرة ومراتب الكون عند الحكماء وتقابلها مع درجات المعرفة ومراتب الفضيلة ومراتب السعادة والشقاء في المعاد، ولكنها أدخل في علوم الحكمة، بعد أن انتشرت في علم أصول الدين عند المتأخرين.
1
وقد يتخصص الكون ويصبح عالم الأفلاك وقسمة العالم إلى عالم سفلي تحت أثر الكواكب وعالم علوي، عالم مادي وآخر روحاني مدبر الكواكب، وأن لحركاتها آثارا في العالم من سعد ونحس، وخير وشر، وحسن وقبح في الخلق، يستطيع كل ذي عقل سليم إدراكها. فالبشر متساوون في العقل دون ما حاجة إلى شارع متحكم في العقول.
2
ثم زادت التناسخية على الصابئة درجة أكثر في التخصيص بالتركيز على النوع الإنساني وحده، صاحب الأفعال الاختيارية والنطق والعقل في العلوم، والقدرة على الارتفاع عن الدرجة الحيوانية إلى الدرجة الإنسانية أو إلى الملكية أو إلى النبوة، ويكون الارتفاع والهبوط نتيجة أو جزاء لأفعاله. ليس الحسن والقبح من الشرع ولا من العقل، بل من الصور الحيوانية أو الإنسانية التي تتراءى للإنسان، ولا شيء يحدث من ثواب وعقاب خارج العالم.
والحقيقة أن هذه النظرية إنما ترمز على نحو كوني حسي أسطوري إلى عدة حقائق؛ فالخير والشر بعدان للوجود. وهما في حقيقة الأمر إسقاط لأحكام الأفعال الخمسة في علم أصول الدين على الوجود؛ فالحسن والقبح في الأفعال وليس في الموجودات. وإن موضوعية القيم التي تركز عليها النظرية لا تعني بالضرورة وجودا شيئيا. فالوجود قد يكون شعوريا كمعان مستقلة ومناطق وجود في الشعور. أما تشخيص القيم فإنه يحدث نتيجة الفكر الأسطوري الذي يمتزج فيه العقل بالإشراق، والفلسفة بالتصوف كما هو الحال في الفلسفة الإشراقية. والشيطان تجسيم للشر وصورة فنية له تشير إلى القبح كصفة للفعل أو كوضع اجتماعي. فالشر لا صانع له، بل هو بناء اجتماعي أو فعل في موقف إنساني دون ما حاجة إلى إرجاع ظواهر الوجود إلى علة خارجية.
3
وإن إثبات الوجود الموضوعي للخير حق ولكن الخطأ في إثبات الوجود الموضوعي للشر. ولا يعني ذلك إثبات وجودين، وجود الأشياء ووجود الخير، بل هو وجود واحد لأن الخير طبيعة الأشياء والشر طارئ عليه، والحسن هو الأصل والقبح غياب له أو إحدى درجاته. إن إثبات خير شيئي يتضمن إثبات شر شيئي، في حين أن الشر لا وجود له في العالم أو في الشعور لأن الشر ليس معنى، بل هو غياب معنى، ليس وجودا بل عدم. وإثبات خير وشر شيئين ممتزجين يخرج الحكم القيمي من الأفعال إلى الأشياء، أي أنه يقوم على خلط بين عالم الإنسان وعالم الأشياء، وتشخيص للطبيعة على مستوى القيم أو تشخيص للقيم في الطبيعة، كما أن موضوعية القيم تنفي ذاتيتها الخالصة وكأن الإنسان خارج اللعبة وأن الخير والشر كونيان غير ذاتيين، يظهران في وجود الإنسان كظواهر كونية وليس كأفعال إنسانية نتيجة لحرية الإنسان واختياره وبناء على عقله وقدرته على التمييز، كما أن موضوعية القيم ليست نتيجة لأثر الكواكب العلوية على الكوكب السفلي وهو الأرض. فالأفلاك موضوع لدراسة علم الفلك. وكل ما يقال عن أثرها في الأرض ما هو إلا تشخيص لها. فالأعلى يحكم الأدنى. والحقيقة أنه على الأرض يسود الفعل الحر، ويقرر الإنسان مصيره. ولا مكان فيها للحظ أو النحس. الحظ وقوع نتيجة غير متوقعة يرضى عنها الإنسان لفعل حر، والنحس حدوث نتيجة لفعل حر لا يرضى عنها الإنسان. إن النظرية الكونية سواء عند الفلاسفة أو الصابئة أو التناسخية نظرية غيبية تقوم على الإيمان بالغيبيات، لا يساندها عقل ولا يؤيدها برهان، ولا تنتج عن ممارسة الحرية الإنسانية. كما لا تعني موضوعية القيم حصول أفعال في الإنسان ليس هو صاحبها كما هو الحال في نظرية التناسخ. فإذا كانت القيم تفعل فيه فذلك إسقاط للحرية أو تنكر لها. الحسن والقبح حكمان للأفعال التي يأتي بها الإنسان ممارسا لحريته معتمدا على عقله وتمييزه.
وفي الوقت نفسه لا يعني إثبات صفات موضوعية وقيم مستقلة وجود مثل أفلاطونية يتأملها العقل ويبغيها الروح وينسقها الفكر، بل هي معان مستقلة في الشعور وبواعث على السلوك وأنظمة مثالية للعالم يتحقق فيها نظام الطبيعة الإنساني في كماله. ولما كانت القيم نظريات سلوك وتوجيهات فعل، فهي ليست للتأمل والتعبد لكائنات مشخصة قيمتها ليست في معرفتها، بل في تحقيقها. إن إثبات صفة موضوعية لا تعني انحراف الذات في تأملها، بل تعني تمثل الجماعة لها. والوجود الموضوعي للقيم ليس من أجل تمتع الفرد بها تمتعا فرديا وتلذذا شخصيا، بل من أجل تحقيق الجماعة لها. بل إن هذا التمتع الفردي تطهر وانعزال وتصوف وإشراق. فجماعية القيم امتداد وانتشار وتحقق ثان لفرديتها. إن حركة القيم ليست حركة رأسية من أسفل إلى أعلى، في التعبد والتأمل حتى تحدث حركة مقابلة من أعلى إلى أسفل في الإشراق والرؤية، ولكنها حركة أفقية من الأمام إلى الخلف في التأخر أو من الخلف إلى الأمام في التقدم. (2) النظرية الحسية
وهي النظرية النسبية الذاتية على عكس النظرية السابقة، والتي تجعل الحسن والقبح هما اللذيذ والمؤلم والنافع والضار وهي النظرية النفعية الحسية. فعلى مستوى الحس يكون الحسن هو اللذيذ والقبح هو المؤلم. وعلى مستوى النفع يكون الحسن هو النافع والقبيح هو الضار، وقد يعبر عن ذلك بالمصلحة والمفسدة، فالحسن هو المصلحة والقبح هو المفسدة. وقد يتحدد الحسن والقبح بمدى ملاءمة الغرض ومنافرته. فما اتفق مع الغرض يكون هو الحسن وما نافره يكون هو القبيح.
4
وبطبيعة الحال لا يوصف فعل الله بالحسن والقبح بهذا المعنى لتنزهه عن الغرض وأنه لا تجري عليه الملاءمة والمنافرة، وبالتالي فهي صفات للأفعال الإنسانية. ويدل ذلك على ضرورة إثبات الحرية قبل العقل، والاختيار قبل الحسن والقبح. وهي النظرية نفسها التي سادت في كبرى الحركات الإصلاحية الحديثة مع تأسيسها على العقل والبداهة والوجدان، بالإضافة إلى الجمع بين القيم الثلاث: الحق والخير والجمال. فالحسن هو الجميل والنافع والخير، والقبيح هو القبيح والضار والشرير. وهذا هو الذي يميز بين الإنسان والحيوان.
5
الحسن والقبح خبرتان حسيتان وعقليتان معا. هناك الحسن والقبح الحسيان في الجمال وفي الطبيعة، والحسن والقبح المعنويان في السلوك والعلاقات الإنسانية، وتتراوح مراتب الحسن والقبح. فالحسن الحسي قد يكون قبحا معنويا مثل الإفراط في الطعام، والحسن المعنوي قد يكون قبحا حسيا مثل مشاق العمل. ينطبق الحسن والقبح على الأفعال كما ينطبقان على الأشياء. فإن كان الحسن والقبح هما اللذيذ والمؤلم أو النافع والضار، فهما إحساسان بديهيان يشارك فيهما كل موجود حي يتميز بهما الإنسان عن الحيوان، خاصة قوة الوجدان ومرتبة الجمال والقبح. لقد عرف العقل البشري هذا التمييز بين الضار والنافع، بين الشر والخير، بين الرذيلة والفضيلة، وهو تمييز يقوم النظر به نظرا للتفاوت الفكري بين العقول. بهما شقاء الإنسان وسعادته، وقام عليهما العمران البشري.
ويمتاز هذا التعريف بأنه مادي حسي قريب، يجعل الحسن والقبح قريبين من الأفعال وواقعين في الحياة المادية بعيدا عن الصورية والشرعية والقانونية، وعلى عكس النظريات الكونية الأسطورية، كما أنه تعريف غائي نظرا لأن الملاءمة والمنافرة طبقا للغاية. فالفعل المحايد فعل عابث، خال من الغاية، بل إنه لا يسمى فعل؛ لأن الفعل هو بالضرورة الفعل الغائي، وهو تعريف إنساني خالص يجعل الحسن والقبح إنسانيين، لا يصفان أفعال الله أو أفعال الجمادات، بل أفعال الإنسان.
6
ولكن عيوب هذا التعريف أكثر؛ فهو تعريف فردي يجعل الفرد هو مدرك الحسن والقبح دون الجماعة، في حين أن الحسن والقبح إدراك جماعي ووجود في التاريخ. يوقع هذا التعريف في الفردية، وليس القبح الفردي قبحا عينيا. ثم يحدث بعد ذلك خطأ في التعميم والانتقال من الفردي إلى العام ومن الجزء إلى الكل، بل إن الفرد ذاته قد يتغير من حال إلى حال طبقا لأحواله النفسية ويغير احتياجاته ومصالحه وأهدافه طبقا لمراحل عمره وأوضاعه الاجتماعية. بل وتتغير طبقا لإدراك الفرد من حين إلى حين وانتقال الأحكام من الغموض إلى الوضوح، ومن الخفاء إلى الجلاء أو العكس.
7
وهو تعريف نسبي وذلك لأن الملاءمة والمنافرة تختلف باختلاف الأفراد والجماعات والعصور والأمكنة، وليس لهما أساس موضوعي شامل، كما أن الغاية هي الوجود والطبيعة والتاريخ، ولا تأتي فقط من نسبية الأهواء والانفعالات والمصالح. هي أقرب إلى المبادئ العامة والغايات القصوى. وهي تعريف مادي يقصر الحسن والقبح على اللذيذ والمؤلم وعلى الضار والنافع وعلى المصلحة والمفسدة وعلى الملائم والمنافر دون أن يكون له أساس عقلي. فالغرض ليس بالضرورة الغرض المادي المباشر، بل قد يكون تحقيق الغاية والرسالة في الحياة. وقد دعا ذلك إحدى الحركات الإصلاحية إلى تأسيس التعريف القديم على العقل حتى يكون أكثر تأسيسا وثباتا وشمولا، ولا تنقسم الغاية إلى دنيا وآخرة، الغاية واحدة تهدف إلى الحفاظ على الوجود الإنساني الذي هو وجود مستمر من خلال الأفراد. الحياة واحدة والغاية واحدة. ولا يوجد في التعريف ترتيب للغايات أو سلم للقيم؛ إذ تترتب الغايات بين ما هو قصير المدى وما هو بعيد المدى أو بين أغراض محددة وأغراض شاملة أو أغراض خاصة وأغراض عامة. وهو تعريف ذاتي غير موضوعي يقضي على موضوعية الصفات ووجودها في الأشياء، ويبرر غضب الناس إن لم يوافق الفعل أغراضهم. والصفات العينية ليست فقط صفات نفسية، بل هي صفات طبيعية للأشياء وتعبر عن أوضاع اجتماعية. وهي أيضا صفات للأفعال ليست قائمة على الوهم والارتباطات الشرطية، بل تحددها الغايات وتؤسسها الطبيعة. فموضوعيتها مؤسسة بالعقل والغاية والطبيعة، في الذهن الإنساني وفي ميدان القيم وفي عالم الطبيعة.
8
وإن الرجوع إلى الطبع كمحل للصفات الذاتية للأفعال لا يعني إسقاطها على الطبيعة الخارجية وأنها وجود ذاتي خالص. فللصفات وجود موضوعي من طبيعة الإنسان. وطبيعة الإنسان ليست ذاتية فحسب، بل هي حقيقة الوجود. والصفات النفسية وإن كانت كذلك فإنها لا تنشأ من التكوين البدني للجسم والإثارة الحسية واختلال النسب في مكونات الدم وزيادة طراوة الدماغ، بل هي صفات شعورية تجاوز الوهم ولها استقلال موضوعي بحكم الفطرة والطبع والعقل والقيمة؛ إذ يتضمن الموقف الخلقي الباعث والحكم والواقعة الخاصة والنتيجة. وهذا كله لا يعني غياب صفة الموضوعية للفعل والبناء الموضوعي للواقعة الخلقية. وهو تعريف لا عقلي ليس له أي مقياس آخر شامل وعام. فالصفات النفسية ليست وهما أو خيالا وإنما هي قائمة على الترابط الشرطي وتداعي المعاني، وهي أيضا ماهيات مستقلة في الشعور. ويغفل قيما أخرى مثل التضحية والإيثار القائمة على قبول التكليف بأفعال تجر الآلام والمتاعب والمشاق والأوجاع عن رضا. فالاتفاق مع الغاية قد يسبب المضرة الوقتية، ومن هنا كانت ضرورة سلم القيم. قد يجعل هذا التعريف الإنسان يكفر إذا ما أدى الفعل الشرعي إلى عدم اتفاق مع الغرض. فالنافع والضار أحد أوجه الحسن والقبح، ولكنهما ليسا مساويين للحسن والقبيح. ولم يحدث استقرار كامل للعادات والقوانين حتى يمكن إصدار الأحكام العامة على الحسن والقبح والملاءمة والمنافرة. فقد تنقضها بعض الوقائع حتى ولو كانت واقعة جزئية واحدة. وماذا عن الحكمة الإلهية، وهي الغائية في الطبيعة، والعلم المسبق والإرادة المسبقة التي تشملهما الحكمة ويظهران في قوانين الطبيعة الثابتة، الحكمة التي تجعل الحسن والقبح أقل مباشرة وأبعد نظرا من الملاءمة والمنافرة للغرض؟ ويضع هذا التعريف الحسن والقبح متقابلين، ويثبت وجود كل منهما على المستوى نفسه، في حين أن القبح ليس ما يقابل الحسن. هذا تعريف بالضد، ولكن القبح أصلا لا وجود له؛ فالقبيح درجة من درجات الحسن أو هو غياب مؤقت للحسن أو هو وجهة نظر فردية خالصة قائمة على الهوى أو الغرض أو المصلحة. ليس القبيح أعم من الحسن، وليس الحسن أخص من القبيح؛ لأن الحسن هو الأساس والقبيح هو الاستثناء. والأخطر من ذلك هو نسبة الشر إلى غير مصدره مثل الدهر أو الفلك، وبالتالي اللحاق ببعض الجوانب الأسطورية في النظرية الكونية، مع أن الشر مصدره اجتماعي. يغفل التعريف الأوضاع الاجتماعية، وأن الحسن والقبح مشروطان بالاستعمال الاجتماعي وبالاتفاقات والمواضعات.
9
تنشأ القيمة في المجتمع، وتلقن في مناهج التربية، ومع ذلك تظل الصفات النفسية للأفعال وإن كانت مكتسبة من التجارب في نشأتها، وينقصها العموم، مستقلة بذاتها، يمكن للعقل إدراك عمومها وشمولها. إن الصفات الموضوعية للأشياء أو الذاتية للأفعال لا تأتي من التقليد أو التعصب أو الهوى أو التحزب أو التحيز، بل هي صفات تأتي من الغايات وتنبع من طبيعة الإنسان الأولى.
10
وقد يكون الهدف من النظرية الحسية توجيه وعي الناس نحو الحسن المباشر دون الذهاب إلى ما وراء ذلك من غايات بعيدة يدركها العقل وتتجاوز اللذة والألم والنفع والضرر كحاجات للبدن. (3) النظرية العقلية
وتمثل رد فعل طبيعي على النظريتين السابقتين الكونية الأسطورية، والحسية النفعية المباشرة، تجعل الحسن والقبح عقليين، إما تعبيرا عن الكمال والنقص النظري العام أو كأحكام للأفعال؛ فقد يكون الحسن والقبح تعبيرا عن صفتي الكمال والنقص. فالعلم حسن والجهل قبيح. ولا نزاع في أن العقل يدركه بصرف النظر عن الملاءمة والمنافرة والمدح والذم. فهي صفات حقيقية وليست إضافية، وبالتالي فهي كذلك عند جميع العقول ولا تختلف بالنسبة إلى الأشخاص على عكس الملاءمة والمنافرة التي تختلف بالنسبة للأفراد وبالنسبة إلى المدح والذم اللذين يختلفان بالنسبة إلى الشرائع. فكمال الطبيعة أو نقصها نتيجة للفعل الإنساني الإيجابي أو السلبي وليس كمالا أو نقصا مباشرا. والطبيعة الإنسانية قادرة على مثل هذا الكمال.
11
وهو تعريف أقرب إلى العقل ولكنه يظل عاما دون تفصيل في السلوك البشري وأنواع الأحكام للأفعال والتروك على حد سواء، كما أن الأحكام تنقصه، أحكام المدح والذم، أي قيمة الأفعال الذاتية في السلوك البشري.
لذلك تبدو النظرية العقلية أكثر أحكاما وتفصيلا في الأحكام الخمسة في علم أصول الفقه. وهنا تبدو وحدة علم الأصول. فالحسن والقبح وما يتعلق بهما من مدح وثواب. وينطبق على الأفعال الشرعية الخمسة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام (المحظور). فالحسن هو الواجب والقبيح هو المحظور، وهما القطبان اللذان يشملان المدح والذم عند الفعل أو الترك؛ لذلك ركزت عليهما النظرية العقلية دون المندوب والمباح والمكروه باعتبارها فرعية. فالمندوب فرع على الواجب، والمكروه فرع على المحرم، والمباح هو فرع على نفس الأصل.
12
فالفعل الإنساني يتراوح بين الفعل والترك في موقف من المصلحة أو المفسدة. فما تركه مفسدة فهو الواجب، وما فعله مفسدة فهو الحرام. وما تركه مصلحة فهو المكروه، وما فعله مصلحة فهو المندوب. وما لا يدخل في الفعل أو الترك في المصلحة أو المفسدة فهو المباح. فالواجب فعل ترك وليس فعل إتيان لدرء المفاسد قبل أن يكون لجلب المصالح، والحرام فعل إتيان وليس فعل ترك لجلب المصالح قبل أن يكون لدرء المفاسد، ومن ثم يكون الترك أولى من الفعل، ويكون الترك فعلا أولى بالفعل من الفعل. والواجب والمندوب متقابلان في الترك والفعل وفي المفسدة والمصلحة لما كان الواجب تركه مفسدة والمندوب فعله مصلحة. كما أن المحروم والمكروه متقابلان أيضا في الفعل والترك وفي المفسدة والمصلحة لما كان المحرم فعله مفسدة وكان المكروه تركه مصلحة. ويتفق الواجب والمكروه في أن كليهما ترك ولكن يختلفان في المفسدة والمصلحة، فالواجب تركه مفسدة، والمكروه تركه مصلحة. كما يتفق المندوب والمحرم في أن كليهما فعل ولكن يختلفان أيضا في المصلحة والمفسدة، فالمندوب فعله مصلحة والمحرم فعله مفسدة، أما المباح فهو خارج الفعل والترك كما أنه خارج المصلحة والمفسدة هو الفعل الطبيعي الذي يعبر عن وجود الإنسان في العالم خارج العقل وخارج الإرادة باللجوء إلى الفطرة وبالعودة إلى الأشياء.
13 (3-1) بنية الأحكام الخمسة
وتنطبق هذه الأحكام الخمسة على أفعال الإنسان وليس على أفعال الله؛ لأنها أحكام لأفعال القصد والإرادة، وإن كان لا بد من وصف أفعال الله بالحسن والقبح، فإن ذلك يكون نتيجة لإسقاط الإنسان وصف أفعاله على غيره وليس لأنه يصح من الله أن تقع أفعال حسنة لها صفات زائدة على حسنها إلا العقاب، ثم تكون في هذه الحالة تفضلا ورحمة وإحسانا وليس وجوبا، فذلك أيضا إسقاط مقلوب، أي إسقاط أفعال الإنسان على الله ثم قلبها بدلا من أن تكون وجوبا إيجابا أم سلبا تكون عطاء وكرما. وكيف يكون الله لطيفا بنفسه إن كان اللطف للغير؟ فإن لم تجز عليه الأفعال صلاحا مثل النوافل فذاك أيضا إثبات لوجوب الأفعال صلاحا عند الإنسان ثم نفيها عن الله كأحد مظاهر النقص، مع أن أفعال الله اختيار لا وجوب، أي أنها تشارك أفعال الإنسان في حرية الاختيار، وكأن الحرية إسقاط مقبول من الإنسان على الله والوجوب إسقاط مقبول من الله على الإنسان. إن موضوعات الفعل الإرادي القصدي الذي يتصف بالحسن والقبح وأنواع الأفعال المستقبلة لأحكام الوجوب والندب والإباحة كلها أحكام للفعل الإنساني وليست لأفعال مطلقة للذات المشخص إلا بالإسقاط. فإذا ما أدى الإسقاط إلى التشبيه ترك الإسقاط واستعمل التنزيه المطلق بالفصل بين المستويين. فأفعال الله لا يصح فيها وجوب أو إلجاء أو ضرر أو نفع أو تستحق المدح والذم أو تجوز عليه المشقة والنصب. ولا توصف أفعاله بأنها ندب. ولا يفعل القبيح بل لا يختار بين الحسن والقبيح. أفعاله تفضل ويدخل في ذلك بداية الخلق والتكليف. لا يجب عليه إلا ما أوجبه بالتكليف والتمكين والألطاف والاستحقاق والآلام والأعواض. والخلاف فقط في وجوب الأصلح، وكأن وجوب الأصلح وحده هو الذي لا يتم الإسقاط فيه من الإنسان على الله، ولا يجوز عليه الترك لاستحالة كونه قادرا بقدرة حالة في محل أو ينتابه العجز. كل ذلك في الحقيقة تنزيه لله عن الوقوع في التشبيه بالإنسان في الأفعال. ويكون في هذه الحالة كل خطاب الإنسان عن الله مجازا مقلوبا. أحكام الأفعال إذن هي أحكام إنسانية خالصة تصف الأفعال، وهي تتحقق وتتحول إلى أبنية في الواقع، وليس منها وصف لله سواء كانت حسنا أم قبحا. هي أفعال إنسانية خالصة وليس منها لله شيء لطفا أو صلاحا. اللطف إن وقع فإنه لتحبيب الأفعال إلى النفس والصلاح إنما يقع تحقيقا لصلاح الإنسان. بل إن الخلق ذاته إنما هو لإثبات أن الذات لا بد لها من موضوع يدركه وأن الموضوع لا بد له من ذات تدركه، وأن الحقيقة هي علاقة بين الذات والموضوع. وإن كان الموضوع ذاتا تكون الحقيقة علاقة بين الذوات. والواجب لا يثبت ابتداء إلا لعلة بما في ذلك التكليف. فغاية التكليف الفعل والتحقيق وأداء الرسالة وتحقيق المثال إلى واقع، والواقع إلى مثال. والإثابة والتعويض كل ذلك داخل في بنية الفعل الإنساني الذي هو مقدمة لنتائج، والذي تتداخل فيه الأفعال سلبا وإيجابا طالما تتم في الزمان.
14
وكل فعل حسن أو قبيح ينقسم إلى قسمين: فعل يحسن لأمر يخصه مثل الإحسان وفعل يحسن لكونه لطفا أو مؤديا إلى فعل حسن مثل ذبح البهائم. والقبيح أيضا على ضربين: أحدهما يقبح لأمر يخصه لا لتعلقه بالغير مثل كون الظلم ظلما والكذب كذبا، وإرادة القبح والجهل وتكليف ما لا يطاق وكفر النعمة ، والثاني لتعلقه بما يؤدي إليه مثل القبائح الشرعية التي تؤدي إلى قبح عقلي أو الكف عن الواجبات. فكذلك الواجب باعتباره فعلا حسنا ينقسم إلى قسمين: واجب لأمر يخصه مثل شكر المنعم والإنصاف والتفرقة بين المحسن والمسيء، وواجب لأمر يتعلق به مثل الواجبات الشرعية وكونها مصلحة ولطفا.
15
فاللطف هو الذي يمنع أن يكون الفعل مصلحة للفرد ومفسدة لغيره، وكأن اللطف هو تبرير للشر ودعوة لقبوله ما دام الصلاح للفرد والفساد للغير، قسمة غير عادلة في أصل العدل! يأخذ الإنسان النصيب الأوفى ويطلب من الآخر الصبر والسلوان.
وقد تكون القسمة ثلاثية، وبالتالي تنقسم الواجبات العقلية إلى ثلاثة أضرب: ما يجب لصفة تخصه مثل رد الوديعة وشكر النعمة، وما يجب لكونه لطفا في غيره كالنظر في معرفة الله والشرعيات، وما يجب من حيث كونه تركا كالقبيح وتحرزا من فعله، وهو الواجب عن طريق نفي الضد، فالترك فعل كالفعل. وكذلك تنقسم القبائح إلى ثلاثة أضرب: ما يقبح لصفة تخصه مثل كونه ظلما وكذبا وعبثا، وما يقبح لكونه مفسدة في غيره، وما يقبح لأنه ترك لواجب معين وناف لوجوده، فالترك أيضا فعل.
16
ولماذا لا ينقسم الترك أيضا في كلتا الحالتين إلى ترك لأمر يخصه وإلى ترك لأمر يخص الغير؟ إن ما يهم في هذه القسمة هو التفرقة بين فعل الذات للذات، وفعل الذات للغير. فالحسن والقبح ليست فقط أفعالا فردية، بل هي أيضا أفعال اجتماعية. (3-2) تعريف الأحكام الخمسة
الأحكام الخمسة يمكن إدراكها بالعقل. فبالرغم من أن الواجب والمحظور من وضع الشرع، إلا أن العقل يمكن إدراكهما كطرفين متقابلين بين الإيجاب والسلب، بل إن الأحكام المتوسطة اختيارا مثل المندوب والمكروه يمكن أيضا معرفتها بالعقل كذلك دون أن تكون محظورة كلها أو مباحة كلها، ودون أن تكون كلها على الإباحة أصلا كالمباح. هناك فرق بين الوجوب والاستحالة والإمكان. فالوجوب والاستحالة هما الواجب والمحرم، والإمكان من طرف الوجوب هو المندوب، والإمكان من طرف الاستحالة هو المكروه. والمباح هو الفعل الطبيعي القائم على التوحيد بين شرعية الأشياء ووجودها دون حاجة إلى حكم قيمة من خارج طبائع الأشياء.
17
والأحكام الشرعية الخمسة نموذج للأفعال الإرادية القصدية بصرف النظر عن تعريفاتها المتعلقة باستحقاق الثواب والعقاب عند الفعل أو الترك في حالة الأمر أو النهي أو حتى في فعل المباح على ما هو معروف في علم أصول الفقه. فالحسن والقبح مقولتان للأفعال، سواء كأفعال اختيارية أو كأفعال عاقلة. أما ما يترتب عليها من وعد ووعيد فمكانها أمور المعاد، وهو موضوع لاحق في علم أصول الدين يدخل في السمعيات ولا يدخل في العقليات.
18
ولا تهم صيغة الأفعال هل هي الأمر أم لا، فتلك بحوث لغوية تفيد في كيفية استنباط الأحكام من النصوص وليس في ممارسة الأفعال وإدراكها. ولا يهم أيضا ما يعلم منها باضطرار أو باكتساب، بل المهم كيفية إدراكها عقلا. ولا يهم هل المباح داخل في التكليف مثل باقي الأفعال الإرادية والقصدية، إذ إنه فعل إرادي قصدي ولكنه طبيعي فطري بلا أمر أو نهي وجوبا أو إمكانا.
19
والواجب عند القدماء ما يستحق المدح على فعله والذم على تركه. ويوصف بأنه فرض. ولا يختلف حده من جهة العقل أو السمع لأنهما طريقان للعلم به وليس اختلافا في حده. والعلم بالواجب كما أنه علم بأن تركه قبيح لأن الواجب هو ما يكون تركه مفسدة على الأقل عقلا إن لم يكن أحيانا شرعا. ويشترط أن يكون القادر على الترك والمتروك واحدا وأن يكون بينهما تضاد وأن يحلا محل القدرة وأن يكون الفعلان مباشرين غير متولدين.
20
والواجب هو الحسن والحسن هو الواجب.
21
وينقسم إلى ما يخص المكلف وإلى ما يكون حقا لغيره، وهو على ضربين، حق الله مثل شكر المنعم والثاني حق العباد. شكر المنعم معلوم عقلا، ودفع الضر عن النفس والدين من الواجبات العقلية؛ لذلك يلزم على العباد المصالح والألطاف.
22
ويتم الواجب في الزمان. وفي الزمان موسع ومخير وفيه معين مضيق. الأول كقضاء الدين والثاني كرد الوديعة. الأول يستحق الذم عندما لا يفعل مقامه، والثاني يستحق الذم بعدم فعل بعينه. معرفة الله من الواجب الموسع المخير .
23
ليست القدرة على الواجب أو تركه بتحريك الجسم، ولكنها قدرة شاملة تضم الباعث والغاية والقصد والداعي بالإضافة إلى القدرة البدنية، وإلا فقد تحليل الفعل شموله ومستواه الإنساني وأصبح فعلا طبيعيا محضا. فمن حق القادر أن يكون فاعلا.
24
ويصح أن يعلم المكلف بما لم يفعل وإن لم يحدث منه فعل ولا ترك، أي يظل الوجوب على مستوى المعرفة الخالصة علما صحيحا مثل العلم باستحقاق المدح عند الفعل، والذم عند الترك مع زوال الموانع.
والمندوب هو الفعل الذي يقتضي حكما بالمدح عند فعله، وبالتالي يكون حسنا ولا يقتضي حكما بالذم عند تركه، وبالتالي لا يكون قبيحا. المندوب هو الفعل الحسن عند الفعل وغير القبيح عند الترك. هو فعل تطوعي اختياري. لا يقال إنه نعمة إلا إذا كان إحسانا. وهي النوافل تسهيلا لفعل الواجب.
25
والمباح هو الفعل الذي لا يقتضي المدح أو الذم عند الفعل أو الترك. ويوصف بالحسن وبالحق إذا كان المراد المذهب الصحيح والخبر الصادق والفكر الصائب. والفرق بين المباح والأحكام الشرعية الأربعة الأخرى هو أنه ليس به صفة زائدة يتعلق بها مدح أو ذم. هو فعل محايد يحتوي على صفة في ذاته لا في حكمه، وكأن الفعل طبيعي خالص يكشف عن اتصال الإنسان بالطبيعة بلا صفات أو أحكام، ويكشف عن إمكانية العيش على الفطرة كالإنسان البدائي. وكل أفعال الاشتباه أصلها الإباحة، الأفعال التي يجوز حسنها أو يجوز قبحها والتي ليس لها حكم؛ فالأشياء في الأصل على الإباحة، والشعور على البراءة الأصلية.
26
والمكروه يقابل المندوب طبقا للنسق وإن لم يظهر في تحليلات المعتزلة، وهو الفعل الذي يستحق المدح عند تركه ولا يستحق الذم عند فعله، وهو أيضا فعل تطوعي اختياري من حيث الترك.
والمحرم أو المحظور هو القبيح أو الضار مثل الكذب، يستحق الذم لفعله والمدح لتركه. وتترادف الأسماء على القبيح فيقال المحظور والباطل والفاسد والشر والخطأ والمعصية والمنهي عنه. والقبيح أدل على المحرم وبديل عنه على عكس الواجب الذي يجتمع فيه الشرع والعقل، فيقال الواجب هو الحسن، في حين يقال القبيح هو المحرم وليس المحرم هو القبيح، أي البداية بالعقل نظرا للمعنى الناهي في المحرم؛ فالظلم قبيح لأنه يؤدي إلى ضرر للغير. والضرر يقبح لكونه عبثا وإن يكن ظلما، والظلم قبيح لأنه عبث. وقد يقبح الكلام لأنه عبث أو أمر بقبيح أو بما لا يطاق أو نهي عن حسن وعما يطاق. والأمر بما لا يطاق قبيح وكذلك الأمر بالقبيح. وتقبح الاعتقادات لأنها جهل، ويقبح الظن لأنه عبث أو مفسدة، ويقبح الاعتقاد؛ لأنه تقليد، ويقبح ويقبح؛ لأنه عبث ومفسدة. ويقبح تصرف العبد إذا كان ظلما أو عبثا أو مفسدة. ويقبح الكذب لأنه كذب والظلم لأنه ظلم والكفر بالنعمة لأنه كذلك، ويقبح تكليف ما لا يطاق وإرادة القبح والجهل والأمر بالقبيح والعبث. وتقبح الإرادة لكونها عبثا، ويقبح الندم إذا كان ندما على حسن، وتقبح الآلام لكونها ظلما وعبثا، ويقبح الغم لأنه كذلك، وتقبح الملذات إذا ما أدت إلى ضرر أو دون استحقاق.
27
ثالثا: صفات الأفعال
هل صفات الحسن والقبح التي تستوجب المدح والذم في الأحكام أم في الأفعال؟ هل هي صفات خارجية تأتي من خارج الأفعال ومن مجرد الحكم عليها بالحسن والقبح، أم هي صفات داخلية في طبيعة الأفعال تجعلها حسنة أو قبيحة؟ هل هي صفات ذاتية ترتبط بالحاكم وبالحكم، أم هي صفات موضوعية ترتبط بالفاعل والمفعول؟ ويمكن استعمال لغة التوحيد في الصلة بين الذات والصفات في وضع السؤال: هل الأفعال ليس لها صفات زائدة عليها تجعلها حسنة أم قبيحة، أم أن لها صفات زائدة عليها تجعلها كذلك؟ هل هناك صلة بين إثبات الصفات زائدة على الذات في التوحيد وإنكارها زائدة على الأعمال في العدل كما هو الحال عند الأشاعرة؟ وهل هناك صلة بين إنكار الصفات زائدة على الذات في التوحيد وإثباتها زائدة على الأفعال في العدل كما هو الحال عند المعتزلة؟ هل ما وجب على الأشاعرة تصوره في التوحيد وضعوه في العدل وما وجب عليه وضعه في العدل تصوروه في التوحيد؟
1
إن الحسن والقبح صفة للأفعال الإرادية القصدية، الأفعال الشرعية وليست الأفعال اللاإرادية اللاقصدية، أفعال الساهي والنائم. ولا يكفي تحديد الفعل بأنه الكائن بعد أن لم يكن لغياب عنصري الإرادة والقصد. أما الفعل الطبيعي فهو بوجوده قصد الطبيعة وإرادة الغاية. القصد ضروري لوجود الفعل وليس مجرد النفع والضرر بلا قصد. الحسن والقبح صفتان للأفعال الإرادية الواعية العاقلة. والأفعال التي تتصف بالحسن أو القبح هي الأفعال الإرادية الواعية، والأفعال الإرادية الواعية هي الأفعال التي تتعلق بها أحكام الحسن والقبح، وهي الأحكام الشرعية؛ لذلك ارتبط موضوع الحسن والقبح كنتيجة بموضوع الحرية كمقدمة، فلا حسن وقبح في الأفعال إلا بعد حرية الأفعال؛ وبالتالي كان القول بالجبر إنكارا لحسن الأفعال وقبحها نظرا لوقوع الأفعال طبقا لإرادة الله وأمره دون إعمال العقل ودون إدراك لصفات الأفعال والتمييز بينها؛ لذلك يستحيل الحكم الخلقي في نظرية الجبر لعدم وجود معيار للحكم الذي لا يصدق إلا على الفعل الحر. يتطلب الحكم الخلقي التفرقة بين الذات الفاعلة والموقف حتى يكون الحاكم غير المحكوم، والخبر يخلط بينهما. العلم والقصد شرطان لصحة الحكم.
2
وإذا كانت الأفعال إما ملجأة بقوة الدواعي أو تكون مخلى بينهما وبين فاعليها، فإنها في كلتا الحالتين تكون حسنة أو قبيحة؛ فالأفعال الملجأة بطبعها أفعال حسنة لأنها تعبر عن قوة الهدف وتمثل المبدأ. ولما كانت الطبيعة خيرة فالأفعال الملجأة أفعال حسنة، والطبيعة هنا هي الطبيعة العاقلة وليست طبيعة الهوى.
3
وليس السؤال عن صفات الأفعال هل هي خارجية من الأحكام أم داخلية في تكوين الأفعال سؤالا عن الحسن والقبح عامة بل الحسن والقبح في الأفعال الشرعية. وهذا هو الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة، بين الاختيارين السابقين. ولا ينكر أحد إمكان معرفة الحسن والقبح في الأفعال عامة وإلا كان إنكارا للإنسان ذاته وعقله البديهي ونوره الفطري. الفعل الحسن أو القبيح ليس فعلا مطلقا، ولا هو فعل من جنس مطلق، بل هو فعل يجمع بين الخاص والعام. هو فعل خاص لأنه موجود جزئي وليس عاما لأن الصفات تختلف حسب الصفات الجزئية. هو فعل عام لأن الأفعال الخاصة تجعلها صفات عامة هي صفات الحسن والقبح؛ فالفعل لا يحسن أو يقبح لجنسه فقط ولا لعينه فقط، بل لأنه فعل خاص وعام. ليس الحسن والقبح معاني مجردة يدركها الإنسان لا في مكان ولا في زمان، وليسا أفعالا ضرورية جزئية خالصة ولا يشاركان أفعالا أخرى في زمان آخر ومكان آخر. الصفات العامة حالة في الأفعال الفردية. الحسن لذاته والقبح لذاته حامل للعام في الخاص وللشامل في الجزئي، وللمعنى في الفعل، وللصفة في الشيء. تشترك أعمال الظلم الفردية في الظلم كمعنى أو كصفة، وكذلك تشترك أفعال العدل كصفة أو معنى. وبالتالي يمكن إدراك الأفعال الحسنة والقبيحة تحت أجناسها وهي ليست كالأفعال الشرعية الخالصة التي هي أفعال خاصة طبقا لقدرات الفرد وأحواله.
4 (1) هل يمكن إنكار صفات الأفعال؟
إن إنكار صفات الأفعال من طبيعة الأفعال هو إلحاق لها بأحكامها، أي بإرادة خارجية هي إرادة الحاكم. فإذا تغيرت الإرادة تغيرت الصفة. الفعل الحسن هو مستحق المدح والفعل القبيح هو مستحق الذم، فالأفعال تعرف بأحكامها وليس بصفاتها.
5
ومعظم الأدلة التي يقوم عليها هذا الرأي ضعيفة. فلا يعني وقوع الأفعال اضطرارا أنها لا صفات لها من حسن أو قبح لأنها تصف الأفعال الاختيارية وليس الأفعال الاضطرارية، سواء كان هذا الاضطرار بدنيا أو اجتماعيا؛ فحرية الأفعال شرط اتصافها بالحسن والقبح، وإن تفاوت الصفات في الأفعال بين الخفة والثقل لا ينفي الصفات بل يثبت ارتباطهما بالأفعال وبالقدرة عليها وفي دخولها فيما يطاق. كما أن تغير الفعل من حسن إلى قبيح مثل القتل قد يكون ظلما في حالة الاعتداء وعدلا في حالة الدفاع عن النفس، لا يعني إنكار الحسن والقبح الذاتيين، بل يعني أن الأفعال تتم في موقف، وأن الصفة تكون في موقف، وأن الأفعال تتحدد في موقف. لا يعني تغيير الأفعال إنكار الصفات الذاتية، بل تغير الظروف والقاعدة باقية. كما أن اختلاف الأفعال بين النية الأولى والإرادة المسبقة وبين الأفعال بعد تحققها لا يرجع إلى نفي الصفات، بل إلى المسافة بين النية والفعل، بين القصد والمتحقق. فالأولى أكثر رحابة وإمكانية واتساعا من الثانية. النية تحتوي على عدة احتمالات، في حين أن التحقق لا يكون إلا احتمالا واحدا. كما أن اختلاف الحكم عن الواقع لا يعني نفي الصفات، بل يعني فقط الصدق أو الكذب المنطقي بالمعنى التقليدي، أي اتفاق الفكر مع الواقع أو المفهوم مع الماصدق. وقد يعني الصدق والكذب في الخبر ككل وليس في كل حرف أو في كل كلمة، والصدق في الخبر مثل الصدق في المنطق يقوم أيضا على التطابق بين الخبر في القضية وبين الواقعة كحادثة. ولا يتطلب وجود المعنى أن يكون قائما بمعنى، وهذا بثالث مما يلزم قيام المعنى بالمعنى إلى ما لا نهاية، فذاك جدل يقوم على التسلسل الطولي واستحالته نظرا لضرورة وجود ما لا أول له، وما لا آخر له، وهو فكر ديني لاهوتي مقلوب وليس حجة عقلية وفكرا منطقيا يقوم على بنية العقل ومنطق الفكر المستقل الدائري الذي لا يعتمد إلا على ذاته، منطق خالص لا يحتاج إلى وجود.
6
والحقيقة أن إنكار الصفات الموضوعية للأفعال يؤدي إلى هدم العقل والشرع وإنكار حرية الأفعال. فإذا نهى الله عن العدل والإنصاف فإنه يكون قبيحا، وإذا أمر بالظلم فإنه يكون حسنا يكون هذا قلبا للحقائق، وهدما للعقل وللمعرفة الإنسانية. إن إنكار موضوعية القيم وإلحاقها بإرادة مشخصة وقوع في النسبية الإنسانية المطلقة التي يدينها الوحي والتي تؤدي إلى إنكار القيم واستقلال القوانين وثبوتها، ويؤدي الأمر كله إلى تحكم الله في عالم نسبي، يكون هو المسئول عن نسبيته، بتبعية العالم لإرادته. كما أن اعتبار الوجود خاليا من القيمة لهو فضل للقيمة عن الوجود واعتبار الوجود ماديا صرفا والقيمة من خارجه.
7
ويظل عقل الإنسان قاصرا في حاجة إلى وحي ليخبره عن الحسن والقبح دون ما اعتماد على العقل. ولما كان العقل أساس الشرع بطلت الشرائع. كما لا يكون الله حكيما عاقلا، بل يخضع لمجرد إرادة هوائية انفعالية صرفة وهو ما يعني العبث. بل ويلزم اتصاله بالجهل لما كان الجهل ليس قبيحا في ذاته، مع أن وصفنا له بصفات الكمال إنما لأن العلم والقدرة صفات حسنة في ذاتها.
8
وقد سمي الحكيم حكيما لاتصافه بالفضائل واجتنابه الرذائل. ولو تشبه الحاكم بالله وأخذ مكانه وتخفى وراءه وحكم باسمه ونفذ إرادته وكان خليفته كما هو الحال في مجتمعاتنا المعاصرة فتضيع الحقائق وتخضع لإرادات الحكام وقرارات الرؤساء. فالحسن ما يقرره الحاكم والناس وراءه، والقبيح ما ينهى عنه الحاكم والمنظرون يؤولون ويبررون.
9
ونظرا لغياب الصفات الموضوعية للأفعال فقد يصبح الشيء حسنا وقبيحا في الوقت نفسه، يؤمر به البعض وينهى عنه آخرون، وبالتالي تبطل العلل والصفات، وينتهي الحوار والإجماع، ولا يتبقى إلا صراع الإرادات المتنافرة والقوى المتصارعة، فنعيش في عالم القوة وليس في عالم العقل. ويهدم الشرع إذ يمكن حينئذ أن يقوم على الجمع بين الصفات المتناقضة، وأن يكون هذا الفعل حسنا وذاك الفعل قبيحا بالرغم من اشتراكهما في الصفات نفسها، أو أن يكون هذا الفعل حسنا وذاك الفعل الآخر حسنا، أو هذا الفعل قبيحا وذلك الفعل الآخر قبيحا بالرغم من اختلافهما في الصفات. وإذا استحال إدراك صفات الأشياء ومعانيها فإنه يستحيل الاستدلال منها على الصانع. وأن وجود شيء ليس بذي دلالة حاضرة لا يعني أنه خال من الدلالة في المستقبل. فكل ما في هذا العالم للاعتبار، في كل شيء آية، ولكل شيء معنى، ولا شيء بدون معنى وإلا كنا في عالم العبث واللامعقول.
10
فإن كان في إنكار صفات الأفعال الذاتية قضاء على العقل وهدم للشرع فإن فيه أيضا هدما للحرية لما كان الفعل اتفاقا مع الأمر دون الإرادة؛ وبالتالي يكون هدما كليا وشاملا لأصل العدل بشقيه، الحرية والعقل. إن إنكار موضوعية القيم واستقلال القوانين الخلقية لتضحية بالوضع الإنساني في إثبات الحق الإلهي على حساب الإنسان؛ فهي خيانة للإنسان وجنابة عليه، وتقرب إلى الله وزلفى إليه. (2) إثبات صفات الأفعال
الحسن والقبح صفتان للأفعال وليسا مجرد أوامر ونواهي خارجية تعبيرا عن إرادة مطلقة، يتغيران بتغيرها، بل وكل منهما صفة مستقلة لا تتحدد إحداهما بغياب الأخرى أو بالغلبة عليها.
11
لا يعني الحسن مجرد غياب القبيح كما أن القبيح لا يعني مجرد غياب الحسن. الحسن حسن لصفة زائدة على الفعل، والقبيح قبيح لصفة زائدة على الفعل. الحسن صفة زائدة، ولا يأتي تعريفه بالرجوع إلى أحكامه، بل إلى الفعل ذاته. الأحكام تالية للصفات والصفات سابقة على الأحكام وأساس لها.
12
الصفة الزائدة على وجود الفعل والتي يكون بها الفعل حسنا أو قبيحا هي ما سماه الأصوليون العلة بأقسامها المختلفة، المؤثرة أو المناسبة أو الملائمة والتي حاولوا معرفتها بطرق استقصاء العلة المعروفة في أبحاث القياس والاجتهاد. هذه الصفات الزائدة ليست عقلية مجردة بل مواقف حسية كما هو الحال في العلل في علم الأصول. وتعليل الأحكام ضروري لاكتشاف الأساس الواقعي للنص وبالتالي يكون إنكار صفات الأفعال إنكارا للتعليل وهدما لعلم الأصول. وتوجد الصفة الزائدة في الأفعال التي تستحق المدح أو الذم عند الفعل أو الترك مثل الواجب والمندوب والمكروه والمحرم. أما المباح فليس له صفة زائدة يتعلق بها حكم بل حكمه في وجوده وشرعيته في طبيعته. الصفات الزائدة في الأوامر والنواهي المطلقة مثل الواجب والمحرم، أو الاختيارية؛ المندوب والمكروه. أما المباح فحسنه في فعله لا في صفته، في طبيعته لا في حكمه.
13
والذي يميز بين الحسن والقبح، وبين الواجب والمحرم هي الصفات الموضوعية الزائدة على وجود الأفعال، وهما مستقلان عن المدح والذم والثواب والعقاب، صفتان للأفعال بصرف النظر عما يترتب عليها من نتائج خارجة عن الفعل. ولا تعارض بين إثبات الصفات الموضوعية للأفعال وبين كونها حسية تقوم على جلب النفع ودفع الضرر. بل إن هذه الصفات الزائدة يمكن معرفتها عن طريق إفادة النفع ودفع الضرر وتحقيق المصالح ودرء المفاسد وتكليف ما يطاق. يختار الإنسان إذن الحسن لذاته ويترك القبح لذاته، لا جلبا لنفع أو دفعا لمضرة، وكذلك أفعال الله لأنه غني عن النفع والضرر، ومع ذلك قد يحدث عن فعل الحسن جلب منافع وعن ترك القبح درء مضار. وقد يحدث عن فعل الحسن درء مضار وعن ترك القبيح جلب منافع. فلا تعارض بين إثبات الصفات الموضوعية للأفعال، الحسن لذاته والقبح لذاته، وكونها حسية مادية. المهم أن يكون النفع والضرر من الفعل ذاته وليس من إرادة خارجية، وتكون مشروطة بالفعل وليس بإرادة خارجية، وتكون ثابتة ودائمة ثبات العقل ودوامه وليست متغيرة بتغير الإرادة، لا يحكمها قانون ولا تقوم على عقل. هناك إذن إمكانية في التعريف العقلي للحسن والقبح لإثبات موضوعية الصفات دون الوقوع في الصورية الفارغة. الملاءمة والمنافرة حسيتان، والمدح والذم شرعيان في حين أن الكمال والنقص العقليين تدركهما كل العقول ويتسمان بالشمول، والشمول يقتضي الموضوعية.
14
الحسن والقبح إذن صفتان ذاتيتان للحسن والقبح، ومع ذلك قد يكونان كذلك لمعنى أو لعلة في الفعل نفسه وليس معنى أو علة خارجا عنه زائدا عليه.
15
فشمول العقل لا يقضي على بنية الفعل وتحققه في موقف. وجلب النافع ودفع الضار لا يقضي على وجود الصفات والمعاني المستقلة عن الأفعال حتى يمكن تعميمها والمشاركة فيها؛ فالصفات الخلقية صفات موضوعية موجودة في الأشياء وليست مجرد إسقاطات ذاتية تختلف باختلاف أحوال الفرد وثقافاته وعقائده وقيمه وتربيته وظروفه وحياته. وهي ليست فردية فقط يمكن إدراكها بالعقل، بل هي أيضا اجتماعية يمكن إدراكها بالحس الاجتماعي المشترك. هي وصف للشيء وفي نفس الوقت بنية اجتماعية له، صفة للفعل ووضع اجتماعي كما هو الحال في معاني العدل أو الظلم. ولا تختلف الصفة عند الإنسان وعند الله، فالصفة واحدة لا تتغير، العدل عدل عند الله والإنسان، والظلم ظلم عند الإنسان والله، «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» على ما هو معروف أيضا في علم أصول الفقه. لقد بلغت قمة العقلانية في نظرية الحسن والقبح العقليين في إثبات أن الأشياء ذاتها ليست أشياء محضة بل هي أشياء وقيم وأن حكم الواقعة هو ذاته حكم القيمة. الواقعة قيمة والقيمة واقعة، وكلاهما موجودان في الفعل. في الحسن والقبح، وفي الأخلاق والجمال يقوم اعتبار الصفات في الأشياء على افتراض التوحيد بين الذات والصفات؛ فتكون الذات في هذه الحالة هي الجوهر. الشيء حسن لأن فيه صفات الحسن، وقبيح لأن فيه صفات القبح، في حين يقوم اعتبار الصفات خارجة على الأشياء على افتراض الفصل بين الذات والصفات، وأن الصفات زائدة على الذات وأنها من مصدر آخر غير الذات نفسها. وهناك حجج عديدة لإثبات الصفات المستقلة للأفعال. فالنهى دلالة على القبح، والقبح أصل النهي. يعطي النهي الإدراك الحدسي ويعطيه القبح الدليل العقلي. والحدس أيضا قادر على إدراك القبح العقلي أحيانا لدى الشعور اليقظ وفي لحظات الصفاء.
16
ولا تتوقف معرفة الحسن والقبح معرفة حدسية على تصور العالم أو على الإيمان بمبدأ عام؛ وذلك لأنها معرفة واقعية قائمة على إدراك مباشر للأمور. وإن لم يتقدم العلم بالقبح على النهي لما كان هناك كمال للعقل ولما صح النظر والاستدلال. فمن كمال العقل العلم بالقبائح. ولو كان العلم بها عن طريق الأمر والنهي لتساوت في الخفاء والجلاء. وهي ليست كذلك مما يدل على أنها من إدراك العقل الذي يختلف الناس فيه بين الجلاء والخفاء.
ولا يعني شمول الحكم الخلقي تغييره حسب أوجه الأشياء أو وقوع في النسبة؛ فالقبائح قبائح لأنها تقع على وجه. وليس الوجه مجرد وجهة نظر ذاتية في الشيء، بل جانب من جوانبه. إن اختلاف الأحكام حسب الأوجه اختلاف وجودي وليس فقط معرفيا، اختلاف موضوعي وليس فقط ذاتيا. ولا ترجع عمومية الحكم أو الوجود الموضوعي للصفات وليس فقط ذاتيا. ولا ترجع عمومية الحكم أو الوجود الموضوعي للصفات إلى مبدأ عام خارجي أو إلى وجود مطلق بل هو اقتضاء إنساني خالص يجعل الحكم الخلقي أو الوجود الموضوعي للصفات ممكنا، وهو الواجب لصفة زائدة. وكذلك يحسن الحسن لوجه نفعا بالنفس أو بالغير أو دفعا لضرر بالنفس أو عن الغير أو أمرا بالحسن أو نهيا عن القبح أو إرادة للحسن وكراهة للقبح. وإذا اجتمع وجهان الحسن والقبح على فعل واحد، فالحكم لوجه القبح تفاديا للشبهات أو لوجه الحسن فالأشياء في الأصل على الإباحة. وإن كان ندبا فالحسن صفة زائدة تستحق الشكر، وإن كان كراهة فالقبح صفة زائدة تستحق الذم. أما الواجب فله وجه معقول يجب لأجله وهو واجب معياري لا زيادة فيه ولا نقصان أقرب إلى الحكم الصوري، وكذلك المحظور.
17
والصفات الذاتية للأفعال مستقلة عن حال الفاعل ووضعه الإنساني، سواء كان مخلوقا مربوبا أم حزينا بائسا. ليس الإنسان محدثا أو مملوكا أو مربوبا أو مقهورا أو مغلوبا على أمره حتى يكون قبيحا، بل يكون فعله قبيحا إذا رضي أن يكون مملوكا مربوبا مقهورا مغلوبا. أما إذا ثار على الملكية والقهر والغلبة فإن فعله يكون حسنا. والإنسان السوي الذي لا هو قاهر ولا مقهور ولا غالب ولا مغلوب، ولا مالك ولا مملوك، لا محدث ولا محدث تتضمن أفعاله صفات موضوعية للقبح. تنتزع الصفات منه بسبب أوضاعه الاجتماعية ثم يستردها بفعله الحر. بل إن أفعال القهر والغلبة والسيطرة لا تكون حسنة من الله لأنها مضادة للإنسان، ونفي لحريته وقضاء على وجوده.
18
كما أن الصفات الموضوعية للأشياء مستقلة عن الإرادة الذاتية للأفعال. فإرادة الفعل ليست العلم به، والصفة المستقلة تأتي من العلم لا من الإرادة. وقد يعلم الفاعل صفة القبح للفعل ويأتي به. كما قد يعلم صفة الحسن للفعل ويأتي بفعل قبيح. العلم صفة موضوعية سواء كان مشعورا به أو غير مشعور به.
19
ولا تعني الإرادة القضاء على الصفات الموضوعية للأشياء؛ فعلاقة الإرادة بالصفة ليست علاقة العلة بالمعلول أو الشرط بالمشروط. إذا أسقطت المسألة على الذات المشخص أصبح الحسن والقبح تعبيرين عن العلم المطلق الموضوعي وليس عن الإرادة المطلقة. وكما أن المعلوم له وجوده الموضوعي بالنسبة لحال العالم فكذلك الحسن والقبح لهما وجودهما الموضوعي بصرف النظر عن حال الفاعل سواء كان إنسانا في العالم أم إنسانا مسقطا مشخصا في ذات متعالية مفارقة. فالقياس لا يصح بين صلة العالم بالعلم ودوره الإيجابي في تحويله من اعتقاد إلى يقين بالأدلة وحال فاعل القبح الذي لا يجعل الفعل قبيحا. أما العلم بالنبوات فهو شرط الفعل وليس شرط العلم. العلم شرط الفعل وليس شرط القبح. وإن تأثير أحوال العالم في العلم والقدرة والإرادة ليس كتأثير الفاعل للقبح. فالحالات الأولى من جنس العلم، بينما الثاني من جنس الفعل. وإذا كان العالم يستحق المدح على علمه والذم على جهله، فإن ذلك استحقاق فعل وترك، ولا يعني تأثير العالم أو الجاهل في الحسن أو القبح. أما تأثير الطاهر أو الحائض في فعل الصلاة أو تركها فذلك شرط للعبادة وليس كذلك فاعل الحسن أو القبح. أما تأثير حال الفاعل في شرط الفعل مثل العقل والبلوغ فذلك شرط للفعل وليس تأثيرا فيه. أما الدواعي والغايات والمقاصد فهي من مكونات الفعل وليست من مؤثراته. وكذلك خضوع الفاعل لله وطلبه القرب، أحد الغايات والمقاصد. وكذلك تأثير حال اليقظة والنوم والتذكر والسهو من شروط الفعل. وتأثير الإرادة شرط للفعل وليس كذلك فاعل القبح، وكذلك فعل الصغائر والكبائر. وهذا لا ينفي القول بأن لحال الفعل تأثيرا في بعض أفعاله ولكنه فقط لا يكون مقياسا لفاعل القبح والقضاء على موضوعية الحسن والقبح.
20
ولا يعني تغيير الأفعال طبقا للظروف والأحوال تغيير الحقائق ذاتها بل تبني حقائق أخرى مثل الكذب في بعض المواقف حرصا على الحياة والكذب على الأعداء وخداعهم. فالكذب يظل قبيحا ولكن يدخل تحت قيمة أخرى أعلى وهي الحفاظ على الحياة والدفاع عن النفس.
21
إن تغيير السلوك في المواقف لا يعني هدم القانون العقلي العام أو الوجود الموضوعي للقيمة. وما الحكمة في تصور الله ضد القوانين وضد الحقائق وضد القيم دون مراعاة للظروف؟ إن كل شريعة مرتبطة بظروفها وأسبابها، ولها غاياتها ومقاصدها. قتل من قتل في ظاهره قتل وفي حقيقته حياة،
ولكم في القصاص حياة . ويظل قتل الناس وأخذ أموالهم وإيذاؤهم وقتل المرء نفسه أو التشويه بها أو إباحة حرمة الناس حقائق إنسانية ثابتة وعامة. وتعارض المعاني يشير إلى سلم القيم وليس إلى إلغاء بعضها البعض. فموت الشهيد حياة. وعلى الإنسان أن يختار بينها تفضيلا وترجيحا أقل الأضرار وأكثر المنافع.
22
لا يعني النسخ أي تغيير في الصفات العينية للأشياء حتى ينجح التغيير ويتحقق. النسخ منهج في التغيير من الناحية العملية وليس تغييرا للمعاني من الناحية النظرية. كما أن اختلاف الأحكام طبقا للأوقات تحليلا وتحريما لا يعني تغييرا في صفات الأشياء بل يعني تطورا في الوعي الإنساني ساهم في رقيه تطور الوحي منذ الإنسان الأول حتى العصر الحاضر. فنكاح الأخوات أيام آدم وعبر التاريخ أصبح محرما اليوم؛ نظرا لتطور الوعي الإنساني.
23
ولا يعني اختلاف الشرائع باختلاف أوضاع الأفراد نفي صفات الأفعال، بل تطابق الحكم مع الموقف. فالحفاظ على حياة أهل الذمة والاكتفاء منها بالجزية ليس كقتل المسلمين بناء على الكفر. يحاكم المسلم نظرا وعملا في حين أن الذمي يحاكم عملا فقط.
24
ولا يعني خلق الإنسان وخلق العقل أي نفي للصفات الموضوعية للأفعال؛ لأنه لا يكون هناك شيء يعقل أو يوصف قبل الخلق، أي إنكار لهذه الصفات فذلك تدمير لكل شيء. ليس الحديث قبل الخلق بل بعد الخلق. وقبل الخلق لا نعلم عنه شيئا إلا إذا قمنا بقياس الغائب على الشاهد ونحن الآن بعد الخلق، وما كان يمكن لهذا الحديث ولهذا التفكير أن يحدث إلا بعد الخلق. فافتراض ما قبل الخلق من صنع الوهم وليس العقل؛ وبالتالي لا يكون حجة. والقانون العقلي العام متضمن في العلم وليس صفة عينية مشخصة لذات مشخصة بل مجموعة من الأفكار والنظم والقيم أعطيت في الوحي وبلغت للناس في الرسالة. فلم يزل القبيح قبيحا في علم الله ولم يزل الحسن حسنا في علمه. والقانون العقلي العام ليس قانونا مشخصا، عقلا كليا قديما أو ذاتا مطلقة أزلية بل هو قانون عقلي من ضرورة العقل وموجود بوجود الإنسان.
25
وإن كان القول بإثبات صفات الأفعال إسقاطا من قانون العقل على الفعل فإنه ليس بأسوأ من إسقاط مظاهر النقص الإنساني. ويظل على أية حال قانون العقل المسقط أقرب إلى التنزيه.
26
ولا يسأل: من الذي حسن الحسن وقبح القبح في العقول؟
27
فلا يسأل عن وظيفة العقل وكأن العقل موضوع يحتاج إلى عقل آخر يفعل فيه ويملي عليل المعقولات! هو سؤال يقوم على سوء فهم لوظيفة العقل وجعله موضوعا لا ذاتا. والهدف منه هدم العقل وجعل الله أي الوحي المشخص هو الذي يحسن ويقبح في العقول وكأن العقل لا وظيفة له. الهدف منه هو المزايدة على الإيمان وجعل الله هادما للعقل، مرعبا له، واقفا له بالمرصاد، يغير قوانين العقل، ويبدل صفات الأشياء. إن وجود القيم وجودا موضوعيا مرتبط بعالم الإنسان وليس بعالم الحيوان. وإن عدم اعتبار الحيوان عدوان بعضه على بعض ظلما وقبحا لا ينفي اعتبار الإنسان ذلك. وإن التشكيك في القيم بدعوى عدم وجودها في الحيوان استمرار في الرغبة في تدمير الحقائق الإنسانية مرة باسم الله ومرة باسم الحيوان، وكأن الإنسان موجهة إليه السهام مرة من أعلى ومرة من أسفل، مطعون مرتين!
28
ولا تعني موضوعية الصفات موضوعية المثل كما هو الحال في الفلسفة وإنكار الحدوث واختلاف الأفعال طبقا للأشخاص والأزمان والحالات النفسية، بل تعني إثبات استقلال القيمة وتحققها في أفعال الأفراد.
29
كما لا يعني إثبات الحسن والقبح العقليين كصفتين موضوعيتين للأفعال، أي إجبار على الله أو أي وقوع في التشبيه بأن الله يحسن ويقبح ما يعقله الإنسان لأن قانون العقل العام صادق على كل العوالم الممكنة، ليس تشبيها بل قضاء على ثنائية الموضوع، هذا العالم والعالم الآخر، وقضاء على ثنائية المنهج، العقل لهذا العالم والنقل للعالم الآخر، والحكم بالشاهد على الغائب على أساس المعرفة البشرية، وثنائية الشخص، الإنسان من جانب والله ومن جانب آخر.
30
وليس المطلوب زحزحة الإنسان عن معرفة واستبدال الله به أو المزايدة في الدفاع عن الله وكأن الإنسان يمثل خطرا عليه! ذاك حطة في الله وإعطاء للإنسان أكثر مما يستحق، وتدمير للإنسان وإخراجه عن وضعه الطبيعي في العالم واستعمال لعقله في الإدراك لصفات الأفعال.
وقد تنشأ حلول متوسطة ولكنها في أغلب الأحيان أقرب إلى إثبات الصفات الموضوعية للأفعال منها إلى نفيها. مثلا أن يكون وصف الشيء بالحسن والقبح، لا لذاته ولا للأوامر والنواهي، بل لوصفه بمعنى هو صفة له. فكل معنى وصف به الشيء فهو صفة له وهو ما يسمح بالتعليل والغائية،
31
فالحقيقة أنه لا فرق بين المعنى والصفة ما دام كل منهما قيمة مستقلة توجد في الفعل وتنبع من بنيته الداخلية ولا تتغير بتغير الإرادات المشخصة. وقد يترك لله إمكانية أن يأمر بالقبيح ولو جوازا فيكون قبيحا للنهي، وما لا يجوز فإنه يكون قبيحا لنفسه، وكذلك في الحسن كل ما جاز أن يأمر الله به فهو حسن للأمر وما لم يجز فهو حسن لذاته.
32
وذاك في الحقيقة ترك حق نظري ممكن له وانتزاع الحق العملي منه، وما دمنا في نطاق الفعل فإننا نكون على مستوى الحق العملي وليس على مستوى الحق النظري.
وأخيرا، هل يمكن نقد إثبات الصفات الموضوعية للأفعال؟ بالنسبة للخير لا إشكال هناك، فالإنسان خير بطبيعته، والخير في الفطرة، والحسن في الطبيعة. ولكن ماذا يكون الحال بالنسبة للشر؟ هل القبح صفة موضوعية في الشيء والفعل أم مجرد وجهة نظر أي إنها معرفة وليست وجودا؟ ألا يؤدي ذلك إلى إثبات الشر الكوني على ما هو معروف في الديانات الشرقية القديمة وعند الفلاسفة أنصار النظرية الكونية؟ إن القبح ليس في الوجود بل في الأفعال التي تتحقق وتصبح أوضاعا اجتماعية. ولما كانت الأفعال حرة فالأوضاع الاجتماعية تتغير طبقا لها. فإن وقع القبح في الوجود من الأفعال فإنه يكون قبحا طارئا متغيرا سرعان ما يأتي الحسن مكانه بالفعل الحر؛ فالحسن أقرب إلى طبائع الأشياء وتكوين الفطرة. والحرية أقرب إلى الممارسة اليومية من القهر والغلبة. فلا خطورة إذن من إثبات الصفات الموضوعية للأفعال من إثبات الوجود الموضوعي للقبح؛ فالقبح عرض والحسن جوهر. واحتمال وجود القبح تحد لحرية الإنسان ودافع على ممارستها.
رابعا: العقل والنقل
لما ثبت وجود الصفات الموضوعية للأفعال تحول السؤال من الموضوع إلى المعرفة وأصبح: كيف يمكن إدراك هذه الصفات بالعقل أم بالنقل؟ وكان الاختيار واضحا. فكل إنكار للصفات الموضوعية يجعل طريق إدراكها النقل لأنه لا يوجد شيء يمكن إدراكه بالعقل. فالموضوع والمعرفة كلاهما يأتيان من الخارج؛ من الإرادة المشخصة للآمر الناهي. وكل إثبات للصفات الموضوعية يجعل طريق إدراكها العقل لأنه قادر على التعامل مع الموضوعات المستقلة. والطريق إلى معرفة صفات الفعل إنما يتحدد فقط في المعاني الثالث للحسن والقبح، أي تعلق المدح والثواب بالفعل إن عاجلا أو آجلا ألزم الثواب والعقاب لأن المعنى الأول وهو الملاءمة والمنافرة للغرض يدركه الحس، والمعنى الثاني وهو الكمال والنقص يدركه العقل سواء ورد بهما الشرع أم لا.
1 (1) هل يمكن هدم العقل؟
إن اعتبار النقل أساسا لإدراك الحسن والقبح هو في الحقيقة هدم للعقل؛ لأنه في هذه الحالة لا وظيفة له في الإدراك ولا موضوع له للإدراك. فما دامت الصفات ليست ثابتة في الأفعال، فبطبيعة الحال يخبر الشرع بها في النقل وتقتصر وظيفة العقل حينئذ على فهم النقل ليدرك بدوره حسن الأفعال وقبحها،
2
وهذا في حد ذاته هدم لنظرية العلم التي يقوم عليها علم أصول الدين والتي تجعل العقل إحدى وسائل العلم وأن شرطه النظر، وأن الحجة العقلية تظل ظنية ولا تتحول إلى يقينية إلا بحجة عقلية ولو واحدة.
3
إن تفاوت الناس في استخدام العقول لا يعني طعنا فيها، بل يعني وجود فروق فردية بينها. وتظل بداهة العقل واحدة في جميع البشر، ولكن تختلف درجات تغليفها الاجتماعي. الاستعداد الطبيعي واحد ولكن فروق النشأة والتربية ونظم الحكم ومقدار المجتمع في التخلف والتقدم كل ذلك يحدث تفاوتا في استخدام العقول. وهذا لا يعني أن الله هو الذي جعل العقول متفاوتة وإلا كان ظلما وجورا.
4
إن حقائق العقل بالرغم من كونها عادات الناس إلا أنها تظل حقائق للعقل، ووجودها في مجرى العادات لا ينفي كونها حقائق عقلية.
5
ولماذا التشكيك في الحقائق البشرية والقيم العامة؟ ولماذا لا يكون القبح في قتل الناس وأخذ أموالهم وأذاهم وقتل المرء لنفسه وإباحة حرمات الناس؟ لماذا تصور الله وكأنه يقف لهذه الحقائق بالمرصاد، يهدمها ويقلبها ويغيرها وكأن الشريعة عبث وتناقض لا تهدف إلى رعاية مصالح الناس والدفاع عن الحرمات والأخذ بحقوق المظلومين؟ ولماذا يتصور الله وكأنه ضد الحياة وعقل الإنسان؟ ولماذا تصور الشرائع لا معقولة؟ المقتول في سبيل الله يضحي بنفسه في سبيل قيمة أعظم، حياة الجماعة وبقاء الأمة، حرصا على الحياة. والختان قوة جنسية. والركوع رياضة بدنية. ولماذا ندرس في مدارسنا إذن حكمة الصيام والصلاة والصوم؟ والإحرام رفض لمظاهر المدنية في اللباس وعود إلى الإنسان الطبيعي. فالإنسان بدن وروح وليس حلة وثيابا وزينة.
6
إن القضاء على إدراك العقل هو قضاء على الحكمة من الشريعة وقضاء على التعليل وهو أساس الشرع في الجمع بين المتماثلات والفرق بين المختلفات. إن هدم العقل هدم للشريعة؛ فالشريعة تقوم على العقل. ويؤدي هدم العقل والشريعة إلى الوقوع في التماثل بين الإنسان والله. فإذا قال الله اعبدوني واسجدوا لي فإن الإنسان لا يقول ذلك عن نفسه، وبالتالي يؤدي هدم العقل والشريعة إلى تمثيل الله بالإنسان، في حين أن إثبات العقل وحكمة الشريعة يؤدي إلى تنزيه الله.
7
الكفر قبح لأنه إنكار للمبادئ ولحقائق العقول وليس لأن الله حرمه. وإباحة الكفر تقية حفاظ على الحياة وليس هدما للحقائق.
8
وكيف تستوي الحقائق بالنسبة إلى الله؟ وكيف لا تكون أفعاله مرجحة بالنسبة إلى الإنسان لصالحه؟ إن كلامه معلل بالهدى والصلاح؛ ولذلك أرسل الأنبياء. وإن أسوأ أنواع الأفعال الحرة هي حرية استواء الطرفين التي يستحيل فيها الفعل من الأساس. وإن هدم العقل في إدراك الحسن والقبح هو عود إلى الإرادة والعلم والمسبق وبها ينتفي الفعل الحر أساسا وليس العقل وحده. وإن جعل العقل تابعا للإرادة الإلهية، أي للرضا والسخط هو جعله عقلا تابعا لشيء آخر سواه، وبالتالي يفقد قدرته على الإدراك ويتحول إلى عقل مبرر تابعا لإرادة الآمر والناهي. بل ويظل العقل حائرا تبعا لتقلبات الإرادة وتغيراتها؛ وبالتالي يفقد ثباته واتزانه. وهل غاية الأمر والنهي الإدراك أم التنفيذ؟ هل غايتهما نظرية أم عملية؟ إن الأمر والنهي لا يمكنهما أن يعطيا حسنا أو قبحا بل يعطيان فقط توجيهات عملية للسلوك. وإذا ما تم السلوك تنفيذا للأوامر والنواهي بلا عقل مدرك للحسن والقبح، فإن ذلك يحيل الإنسان إلى مجرد آلة للتنفيذ أو متفرج يفعل به ما يشاء وهو طيع مطيع. لا يعترض لأنه لا يفهم، ويكون جوهر الإيمان في هذه الحالة الطاعة العمياء وليس العقل المستنير. وهل يتحدد الحسن والقبح بالثواب والعقاب المترتبين على طاعة الأوامر واجتناب النواهي؟ إن الجزاء والعقاب بعديان لاحقان بالفعل بعد أن يتم. وما فائدة أن يعرف الإنسان الحسن والقبح في الأفعال بعد أن تتم وينال الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية؟ ولماذا هذا الصراع بين الله والعقل وتحديد أيهما حاكم وأيهما محكوم عليه؟ ولا يقال إن العقل قد حكم أن الله هو الحاكم؛ فالعقل لا يهدم نفسه، ولا يرضى بسلطان سواه. وهذا نوع من لوي الحقائق وقولها إلى المنتصف والتشدق بالدفاع على العقل والرضا بحكمه، فلو كان العقل هو الحكم فهو الحكم بأنه هو الحاكم ولا حاكم سواه.
9
إن خلق الله للعقل مسلم ومعترف به، ولكن ذلك لا يعني أنه لا وظيفة له ولا حكم، وأن العقل بمجرد خلقه لا يدين بالولاء إلا لنفسه، ولا يظل أسير خلقه حتى تمحى وظيفته؛ لذلك يشكر المنعم، ويصبح شكر المنعم واجبا وكأن الله قد خلق العقل ليعيره به أو ليقضي على استقلاله؛ فيصبح نقصه دليلا على كمال الله وتبعيته دليلا على استقلال الله، وكأن خلق العقل كان مجرد ذريعة للقضاء على حكمه.
10
إن ضبط الوقائع بقانون عقلي خير من ضبطها بإرادة مشخصة، فقانون العقل ثابت في حين أن الإرادة متغيرة. صحيح أن الإرادة ضد الهوى والانفعال ولكنها أيضا رضا وسخط وهي أمور متغيرة ومتقلبة. وإن كانت ثابتة فحكمها حكم العقل ويكون العقل بها أولى. لا شك أننا لو شئنا المزايدة في الإيمان والدفاع عن الله وهدم العقل وتدمير الإنسان لقلنا إن الله حاكم على العقل وهو المحكوم. الله هو الخالق له، وهو المالك لكل شيء، وهو الحاكم على كل شيء. وأين مكان الخطر؟ وأي موقف نوجد فيه نحن؟ هل الله في خطر أم أن العقل في خطر؟ هل ندافع عن حاكمية الله أم حاكمية العقل؟ هل نحن المدافعون عن الله أم نحن بشر ندافع عن حقوق البشر؟ قد لا يملك الإنسان أمام المزايدة إلا الصمت خوفا من قهر العامة وثقل التاريخ وسطوة الحكام. ومع ذلك فالدفاع عن حكم العقل هي مهمة الجيل دفاعا عن حقوق الناس وأعمالا لعقولهم.
11
وهل هي قضية سلطة من الحاكم؟ وهل صورة الحاكم باستمرار هي صورة الحاكم المطلق الذي يفعل ما يشاء، ما حسنه حسن وما قبحه قبيح؟ وإن لم يفعل فهل ذلك يكون أحد مظاهر نقصه وطعن في كماله ونيل من سلطانه؟
12
وهل هذه هي صورة الله أم صورة الدكتاتور؟ صورة الله أم صورة الطاغية؟ وما أسهل أن يأتي الحاكم بعد ذلك ويأخذ مكان الله في قلوب العامة فيحسن ويقبح، ويصبح العقل خاضعا له وتابعا لإرادته، ويصبح الحسن تابعا لرضاه والقبح تابعا لسخطه. ولا معقب على إرادته ولا مراجعة عليها من أحد. يفعل ما يشاء، يسالم من يشاء ويحارب من يشاء، يصالح من يشاء ويعادي من يشاء، وليس في العالم سواه، وليس في الوجود إلاه. (1-1) هل يمكن إنكار العقل قبل النبوة؟
وقد بلغ هدم العقل إلى حد إنكار وظيفته كلية قبل النبوة وكأن الإنسانية كانت قبلها أحط من الحيوان لم تعرف إلى العقل سبيلا. وصحيح أن الإنسانية قد تطورت وبلغت استقلالها واكتمل وعيها بانتهاء النبوة، ومع ذلك فطليعة الإنسانية الممثلة في فلاسفتها ومفكريها وحكمائها قادرون على التوصل إلى الحقائق البشرية العامة. فقد امتنع قابيل عن قتل أخيه هابيل حتى لا يبوء بإثمه، لأن تحريم قتل النفس حقيقة إنسانية عامة. قد يقال لقد عرفت الإنسانية النبوة من آدم، فآدم إنسان ونبي؛ وبالتالي لا توجد فترة زمنية استقل فيها العقل بنفسه. العقل والوحي متزامنان. ولا توجد إنسانية قبل آدم كان العقل فيها بمفرده. وبالتالي يكون الحديث فقط قبل بعثة محمد وقبل ختام النبوة وقبل ظهور الإسلام أي في المراحل السابقة على الوحي التي لم يكن العقل قد اكتمل فيها بعد. فإثارة السؤال الآن والعقل قد اكتمل، والإنسانية قد استقلت لا معنى له، سؤال نظري خالص، وافتراض صرف، ورجوع إلى الوراء، وإسقاط من الحاضر في الماضي، من مرحلة كمال العقل إلى مرحلة نقصانه كعقل جمعي عام، وتوهم فترة قد انقضت ولم تعد موجودة بالفعل. والإنسانية لا ترجع إلى الوراء، ولا يمكن إسقاط الحاضر على الماضي أو التفكير بشعور مستقل في مرحلة سابقة عليه. ولا يكون القصد من ذلك إلا ضياع استقلال الوعي الحالي والإيهام بأننا في مرحلة سابقة؛ فيطغى الماضي على الحاضر، ويضيع التقدم، ويسقط التاريخ من الحساب، ويضيع نضال الإنسانية في سبيل تقدمها واكتمالها هباء.
فالعقل قادر قبل البعثة على أن يدرك الفائدة في الحال وفي المآل، وأن يدرك أن الأفعال تحاسب وتجازى، تثاب وتعاقب، وقد كانت قوانين الجزاء معروفة في تاريخ البشرية قبل ورود الشرع، وأن التكليف لا يبدأ إلا بوجود الشرع، وكأن الإنسان عاجز عن التمييز بين الخير والشر، وبين الصواب والخطأ اعتمادا على العقل وحده قبل ورود الشرع.
13
إن الحقائق الأخلاقية مثل الحسن والقبح مثل الحقائق الرياضية يقدر العقل على الوصول إليها دون تعليم أو شرع أو نبوة أو اكتساب؛ فهي أقرب إلى الحقائق الفطرية. إن إنكار الحسن والقبح العقليين إنكار لاستقلال القوانين الخلقية وهدم لموضوعية القيم.
14
ولا يمكن أن يثبت الحسن والقبح بالشرع لأن الشرع لا يثبت إلا بالعقل، وبالتالي يقع الفكر في الدور.
15
فالعقل أساس الشرع، والقدح في العقل قدح في الشرع بإجماع علماء الأصول وجمهور الأمة. ولو كان الحسن والقبح من الله لحسن منه الكذب وذلك إبطال للنبوات. ولا يمكن أن تكفي المعجزة في إثبات صدق النبي لإمكانية صدورها على يد كاذب، هذا إذا كانت المعجزة، وهي الدليل الخاص، دليلا على صدق النبوة أصلا.
16
وكيف يجوز في الشرع الزيادة والنقصان وكأنه لا أساس له من عقل أو واقع؟ إن مرحلة التجريب قد انتهت أثناء الوحي عن طريق النسخ. واستقر الشرع واستتب وتأسس في العقل وفي الطبيعة. وكيف يبلغ التغيير والتبديل درجة قلب الحق باطلا والباطل حقا، وقلب الحلال حراما والحرام حلالا بمجرد تغيير إرادة الشارع؟ ذلك بالضبط ما يحدث في مجتمعاتنا الحالية عندما تسن القوانين وتبدل بإرادة الشارع دون أن تؤسس في العقل أو في الطبيعة ودون ابتغاء مصلحة أو اتقاء مفسدة. فإذا ما اكتمل الشرع بعد أن يتحقق في الواقع أصبح تعبيرا عن العقل والطبيعة، وثابتا بثباتهما.
17
قد يكون العقاب وحده هو الذي يرد به الشرع أي جزاء الفعل القبيح ، أما الثواب على الفعل الحسن فلا يحتاج إلى ورود الشرع، ويمكن معرفته بالعقل قبل ورود الشرع؛ فالعقل لا يقر بالعقل على الفعل القبيح وكأن العقاب كالثواب ينشأ من طبيعة الفعل. الثواب على الحسن بالطبيعة والعقاب على القبح بالشرع.
18
ولماذا يكون إثبات الشرع وحاجة الإنسان إلى النبوة على حساب العقل وابتداء من حدوده؟ إن اختلاف قوى الإنسان، الذاكرة والتخيل والتفكر بين الشدة والضعف لا تعني حاجته إلى من يقويها، فإنها من سمات الإنسان. وقد تكون على هذا النحو أحد مظاهر قوته وأعمال حريته. كما أن تفاوت الناس في إدراك النافع والضار أو الحسن والقبيح ليس ذريعة لفرض الوصايا عليه وإعلان قصور العقول، بل يمكن تجاوزها بتعاون البشر والخبرات المشتركة وتبادل المعارف والعلوم، والنصيحة المشتركة والتنبيه والتذكير، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أحد مظاهر ممارسات الحرية. ولماذا الشعور بالدونية أمام قوة أخرى أسمى وأعظم عقلا وإرادة مع أن الإنسان سيد الكون وأعظم من الجبال والمحيطات والأنهار؛ لأنه قادر على تسخيرها لصالحه، ولديه عقل قادر به على معرفة أسرار الكون وإدراك قوانين الطبيعة، وهو الوحيد الكائن الحر الذي قبل تأدية الأمانة وتحقيق الرسالة؟
19
لماذا الإعلان عن قصور العقل وبيان حدوده والأكرم للإنسان بيان قواه وإمكانياته اللامحدودة؟ لماذا الإعلان عن أن الإنسان في حاجة إلى هاد يهديه، ومرشد يرشده؟ لم هذا الإحساس بالتقصير والقصور وأن الإنسان في حاجة إلى وصي وهو النبي؟ ولماذا تثبت النبوة على أنقاض العقل؟ إن إرجاع الحسن والقبح إلى الذات العاقل ثم إيقاعه في نسبية الأهواء والانفعالات وتفاوت الأمزجة والطبائع واختلاف الظروف والمواقف كل ذلك يفضي إلى إلغاء العقل والإغراق في الإشراق أو يؤدي في النهاية إلى هدم العقل لإفساح المجال للنبوة وكأن النبوة مكملة للعقل إن لم تكن مضادة له. وذلك في الحقيقة تدمير للعقل من أجل إفساح المجال للنبوة؛ فالغاية البداية بالعقل لهدمه، وإثبات الحسن والقبح لإثبات النبوة، العقل مجرد وسيلة وليس غاية، بداية وليس نهاية، مقدمة وليس نتيجة، وهو أقرب إلى النفاق منه إلى العلم ، وتضحية بالعدل أيضا من أجل التوحيد بطريقة أذكى من الجبر الذي لا يعترف بشيء أصلا لا في التوحيد فينكر الحرية ولا في العدل فينكر الحسن والقبح العقليين.
20
والعجيب أن يتم ذلك في كبرى الحركات الإصلاحية التي قالت بالحسن والقبح العقليين إلى منتصف الطريق، أشعرية في التوحيد اعتزالية في العدل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، دعوة عملية على دعوة نظرية غير مطابقة؛ لذلك كبا الإصلاح.
21
إن وجود موضوعات قد تتجاوز حدود العقل، ولا يتناولها العقل، لا يطعن في العقل وقدرته على إدراك الحسن والقبح في الأفعال. فهما في الأفعال وليسا في المعتقدات، في السلوك وليسا في النظريات، في الحسيات وليسا في المجردات، في هذه الدنيا وليس في العالم الآخر. ولماذا تكون العبادات مثل النظريات والعقائد والأخرويات خارجة عن حدود العقل؟ إذ لا يوجد في العبادات شيء لا يعرف وجه الفائدة فيه مثل أعداد الركعات ومناسك الحج. العبادات الإسلامية كلها مفهومة ومعروفة دلالاتها والحكمة منها حتى دروس الدين الأولية مثل النظافة والرياضة والإحساس بالفقراء ووحدة الأمة ... الخ. الشرع قائم على العقل. وليس الشرع هو مظاهره الخارجية، بل هو قوانينه وأهدافه من مقاصد إلى آخر ما هو معروف في علم أصول الفقه في مقاصد الشريعة وإلا استحال الاستدلال. ولماذا إرجاع الإسلام إلى المراحل السابقة للوحي وقياس العبادات على بعض الاحتفالات في الديانة الموسوية وضروب التوسل والزهادة في الديانة العيسوية «لإثبات أنه» لا يمكن للعقل البشري أن يستقل بمعرفة وجه الفائدة فيه؟ قد تكون المراحل السابقة لتطور الشرع في التاريخ أقل عقلانية من الشرع في آخر مراحله بعد اكتماله. ولماذا تكون الجهود الإنسانية الخالصة في الإبداع والخلق مفسدة سواء قبل الوحي أو بعده؟ فالوثنية لها مآثرها كما أن لها نقائصها. فلماذا تفسد الوثنية العقول وتنحرف بها عن مسالك السعادة وقد كان فيها كبار المصلحين وقادة الفكر الإنساني؟ وهل الدهري الذي لا يؤمن بالشرائع أو الذي لم تصله الشرائع لا يعلم الحسن والقبح وأنه لا يقدر على اجتناب الرذائل وممارسة الفضائل؟ هل كان البشر كالحيوانات والبهائم قبل الشرع؟ إن كامل العقل قادر على معرفة الحسن والقبح في الأفعال قبل ورود الشرع، فالوعي الفردي مستقل عن الوعي الاجتماعي، وإلا فكيف يظهر الأنبياء دعاة ومصلحين في أقوامهم؟
22
ولماذا يتم إنكار الحقائق العقلية العامة وبداهاتها باسم الله وإمكانية تدميره لها والقضاء عليها؟ ولماذا تنكر ضرورات العقل وهو أساس نظرية العلم، وكأن الله واقف لها بالمرصاد يرى في شمول الحقائق وعمومها تهديدا له؟
23
لماذا إنكار الحقائق مثل عدم جواز تكليف ما لا يطاق، استحقاق الذم والمدح، والثواب والعقاب على الطاعة والمعصية؟ ولماذا لا يكون القبح محظورا على الإطلاق في العقل مثل كفر النعمة؟ أليس الكذب والظلم والكفر قبحا؟ وماذا يستفيد الله من قولنا إنه هو المنعم وهو المقبح للكفر والظلم وإن العقل لا يقبح شيئا وإنه هو الحاكم بأحكام العقل؟ وما أسهل أن يأتي الحاكم فيما بعد ويزحزح الله أو يأخذ مكانه ويجعل نفسه هو المحسن والمقبح للأفعال. ولا يؤدي القول بالحسن والقبح العقليين إلى الشرك؛ الشرك بين العقل والله، فالله لا يجعل أحد مخلوقاته، وهو العقل، شريكا له. إن الله نفسه قد عرف بالعقل، وهدم العقل هدم لأساس معرفتنا بالله. وكيف لا يحسن العقل شيئا ولا يقبح شيئا؟ وكيف تنفي الحقائق وكأن الله قد أدى إلى هدم الحقائق وأوقع البشرية في اللاإرادية والشك وإبطال الحقائق، وهو ما نفاه علم أصول الدين من قبل في نظرية العلم، وهل الله سوفسطائي؟
24
وهل يستعلي الله ويثبت قوته بتدمير أحد مخلوقاته - وهو جزء منها وهو العقل - وذلك بأن يصبح الله حاكما على العقل وينفي حكم العقل على نفسه وعلى الأشياء وعلى الأفعال؟ لماذا هدم الحقائق الإنسانية العامة والتشكيك في القيم وإبعاد الظروف الاجتماعية وكأن الله لا يعترف بحق ولا يسلم بقيمة، يفعل الظلم، وتقوم شرائعه على التناقض والعبث؟ إن إنكار العقل هو هدم للمصالح وجلب للمفاسد وقضاء على التعليل وهو أساس التشريع، وبالتالي جعل المتكلم الأشعري الله عاملا ضد نفسه، وهادما شريعته بيده، وقاضيا على العقل بحكمته.
25 (1-2) هل يمكن تحديد العقل قبل السمع؟
ويمكن إعطاء العقل دورا محدودا قبل السمع كأحد الحلول المتوسطة بين هدم العقل كلية قبل السمع وبين جعل العقل مستقلا بذاته مدركا قبل السمع ودون ما حاجة إليه.
26
فقد يكون العقل قادرا على إدراك المعارف العقلية وحدها دون الشرعية. فقد تكون المدركات العقلية مثل حسن العلم والإيمان وقبح الجهل والكفر سواء بديهية أو نظرية، وقد تكون سمعية مثل حسن الإثبات بالطاعات وقبح ارتكاب المنهيات.
27
وإذا كانت القبائح العقلية تعرف ضرورة أو استدلالا، فإن القبائح الشرعية قد لا تعرف ضرورة على الإطلاق، بل تعرف استدلالا لأنه لا مدخل فيها للضرورة إلا إذا ارتدت إلى الأصول. أما القبائح العقلية مثل الظلم والكذب فهي ضرورية. قد تعلم القبائح الشرعية على الجملة وعلى التفصيل بالاستدلال. تعرف القبائح العقلية ضرورة والشرعية استدلالا.
28
والحقيقة أن الفصل بين الأفعال العقلية والأفعال الشرعية فصل لا مبرر له؛ الأفعال وحدة حية في الشعور وقائمة على العقل وهادفة إلى غاية. ويمكن معرفة جنس الأفعال الشرعية عقلا إما من الناحية البدنية أو الشعورية أو الاجتماعية. ولا يهم أن يكون ذلك عن ضرورة أو استدلال، فكلاهما طريقان للمعرفة. وإذا كانت العلوم الشرعية جزءا من العلوم النظرية الاستدلالية، فكيف يحدث أن بعض الموضوعات تعلم بالعقل والأخرى بالشرع؟ ولو جاوزت بعض الموضوعات العقل لانهدم العقل وانهدمت العلوم النظرية. وكيف تعلم العلوم النظرية بالعقل والأمور العملية بالشرع في حين أن الموضوعات العقائدية أصعب فهما من الموضوعات العملية؟ وإذا كانت غاية الوحي هي تعقيل السلوك وتنظير حياة الإنسان، فكيف يتم ذلك في الأمور النظرية دون الأمور العملية؟ وهل العقائد أكثر استعدادا للتنظير من الشرائع؟
ويمكن للعقل أن يصل إلى حقائق الشرع دون الاعتماد في ذلك على النقل، وإلا فلا مكان لإثبات وجود الصانع وصفاته عقلا بشرط المطابقة مع النقل وإلا كانت كتأملات الفلاسفة التي يعتمد فيها على العقل الخالص دون شرط المطابقة. والمطابقة هنا خارجية صرفة مع شيء آخر غير العقل، وكأن العقل لا يتطابق مع ذاته في نظرية الاتساق مع الواقع وهو المعنى الشائع للمطابقة.
وقد يأتي حل متوسط بأن تحصل المعارف بالعقل ولكنها لا تجب إلا بالشرع.
29
ومناط التحقيق هو المعرفة لا الوجوب. وسؤال الوجوب تال على المعرفة. فإما تجب عقلا أو تجب شرعا. والقول بأن الله هو الذي حسن وقبح في عقول بني آدم هو مسك للعصا من المنتصف، لا يرضي العقل ولا الشرع.
30
إذ لا حاجة لله لأن يحسن ويقبح من خلال العقول؛ فهو قادر على التحسين والتقبيح من خلال الأوامر والنواهي مباشرة ما دام على الإنسان وجوب الطاعة واجتناب المعصية. وهو أيضا هدم للعقل وكأن العقل غير قادر على أن يحسن ويقبح بنفسه، وكأن العقل مجرد انفعال دون فعل، مستقبل دون أن يكون مرسلا، مفعول دون أن يكون فاعلا، وكأنه مجرد ذريعة للغير، مظهر للعقل وليس حقيقة. ومع ذلك لا يرضى عن ذلك دعاة هدم العقل، وينسب القول إلى دعاة إثبات العقول وكأن الوسط يكون باستمرار أقرب إلى أحد الطرفين. وما القول فيمن لم يشعر بذلك بعقله فيقبح ما يحسنه العقل ويحسن ما يقبحه العقل ما دام الأمر ليس منه وليس من حكم العقل؟ أين تكون إرادة الله؟ ألا يعتبر ذلك طعنا في إرادة الله وتشكيكا في مرادها؟ وما القول في ضعاف العقول؟ وكيف تعمل إرادة الله في العقول؟ وكيف تعمل إرادة الله في العقول الضعيفة؟ ولماذا لم تقو عليها فتصححها إذا ما اعتذر الإنسان بضعف العقل؟ وقد تكون الحكمة هي طريق الوجوب التي تجمع بين العقل والله. ولما كانت الحكمة تعبيرا عن العقل يكون العقل طريق الجمع بين نفسه وبين الله، ويكون هو المقياس وهو أحد الطرفين في نفس الوقت ينال الثلثين والله الثلث.
31
وقد تأتي حلول وسط أخرى عن طريق إيجاد وظيفة أخرى للشرع غير وظيفة العقل، فلا تتنازع الاختصاصات، ويبقى تقسيم العمل بينهما. وعلى هذا النحو قد تكون مهمة الشرع الإخبار لا الإثبات، والإعلام لا التقنين.
32
وقد يقتصر دور الله على فعل الأسماء لا الأشياء. فالله له اللفظ، والإنسان له الشيء، والمعنى مناصفة بينهما. ولكن تظل الأشياء لب الألفاظ وجوهرها.
33 (2) إثبات العقل
ولا يحتاج العقل إلى إثبات؛ فهو بديهية لا ينكرها أحد حتى ألد أعداء العقل. معرفة الحسن والقبح إذن معرفة بديهية عقلية وليست مجرد ظن أو اعتقاد، مثل المعارف الرياضية، فالاثنان أكثر من الواحد قضية صحيحة مثل أن الظلم قبيح. وسواء كانت معرفة الحسن والقبح بديهية أو نظرية، ضرورية أو استدلالية، فطرية أو مكتسبة، فكلاهما معرفة عقلية بديهية أو تستند إلى بديهية يجتمع عليهما كل العقلاء اضطرارا. وكلاهما معنى، ولا فرق بين غياب المعنى ووجود اللامعنى أو وجود معنى غير معقول؛ إذ إن إثبات معنى بلا موقف وقوع في التجريد ونسيان للإنسان.
34
والحجج لإثبات الحسن والقبح العقليين كثيرة من طبيعة العقل والمعقول وباتفاق العقلاء على حقائق عامة واحدة لا تختلف من فرد إلى فرد أو من زمان إلى زمان أو من مكان إلى مكان. الحسن معياري لا يتغير من فرد عاقل إلى فرد آخر عاقل. واعتقاد المجبرة حسن القبح لا ينفي قبحه لأنه خطأ في المعرفة. واختلاف القبيح بالنسبة إلى العادات لا يعني عدم وجود القبح المعياري؛ فالمعيار أساس الحكم.
35
والحسن الخلقي غير الحسن الجمالي في الفن أو في الطبيعة؛ الحسن الخلقي معياري موضوعي والحسن الجمالي ذوقي نسبي ذاتي. وفرق بين القبح الخلقي والقبح الجمالي. القبح الخلقي موضوعي، قبح معياري يعلم باضطرار عقلاني، في حين أن القبح الجمالي ذاتي يختلف باختلاف حال الفرد وباختلاف أذواق الأفراد سواء كان ذلك في مجال الفن أم في مجال الطبيعة. ولا قبح في الطبيعة إلا من حيث وجود الإنسان فيها؛ فالأكوان والاعتمادات والتآليف ليس فيها قبح، وإنما تقبح لكونها عبثا أو ظلما أو مفسدة.
36
إن اختلاف الناس على بداهات العقول لا يقدح في هذه البداهات نفسها، بل يعني عدم إحكام في استخدام العقول أو أن البداهة المتنازع عليها ليست من أوليات العقول، بل ما زالت أهواء أو مصالح أو آراء أو انفعالات أو منازع.
37
إن هدم العقل بحجج جدلية لا يقضي على بداهته؛ فالحجة الجدلية القائمة على القسمة العقلية لا تثبت شيئا لعيوب في المنهج الجدلي ذاته، مثل احتمال كون القسمة غير جامعة ولا مانعة أو عدم التوازي بين القسمة العقلية وجوانب الشيء أو استعمال الخصم للمنهج نفسه، كما أن نفي المعارض العقلي لا يعني إثبات الشيء.
38
وبالإضافة إلى الحجج الجدلية السابقة دفاعا عن العقل وردا على الاتهامات له، هناك حجتان إيجابيتان رئيسيتان؛ الأولى وجود حقائق عامة يجتمع عليها كل العقلاء وأمور يتفق عليها كل الناس، ليس فقط بحكم العادة وميل الطباع إلى اللذات ونفورها من الآلام، بل كحقائق بديهية عامة تكشف عن وجود موضوعي للقيم ولأحكام السلوك العامة. لا خلاف بين العقلاء وإن جاز فإنه إنما يرجع إلى قلة العدد أو إلى قبيل الهوى، ولكن الحقائق متفق عليها على عكس السوفسطائيين ومنكري الحقائق. يختار الإنسان الحسن ويترك القبيح لذاتهما بصرف النظر عما ينتج عن ذلك من جلب المنافع ودفع المضار. يعرف ذلك العقلاء والصبيان دون ما حاجة إلى شرع. ويستطيع الخاصة الوصول إلى ذلك إن لم تستطع العامة الوصول إليه. فاتفاق العقلاء على حقائق بديهية يوجب الملاءمة والمنافرة والكمال والنقص، ويدل على بداهة هذه الحقائق وإلا أصبح السلوك الأخلاقي نفعيا أو ذاتيا صرفا وهدم الأساس الموضوعي له.
39
والثانية أنه إذا ما تساوى الصدق والكذب كطريقين للوصول إلى هدف، فإن الإنسان إلى الصدق أقرب دون أي فرض من نفع أو كسب أو دفع ضرر؛ نظرا لحسن الصدق وقبح الكذب. وبالرغم من أن هذه الحالة قد تكون افتراضية خالصة، إذ لا يتساوى الحسن والقبح تماما، إلا أن الحسن يكون باستمرار أقرب إلى الباعث الأقوى. بل إنه في حالة غلبة القبح فإنه يمكن للحسن أن يغلب بإرادة أقوى والعود إلى الذات والقدرة على تجاوز الظرف المادي وممارسة الحرية في الموقف من أجل تغييره والإفلات من حصاره وضغطه. وعلى هذا النحو ينقلب الحسن إلى القبح بالعود إلى ممارسة الحرية الأولى التي منها انبثق الحسن والقبح أول مرة. إن إمكانية التمييز بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب يثبت موضوعية القيم واستقلال المعاني وشمولها وإمكان الحكم والاختيار.
40
وعند استواء الطرفين ينزع الشعور إلى صفة موضوعية في الشيء يدركها العقل إدراكا حدسيا. لا يعني استواء الطرفين إذن ضياع الصفات الموضوعية في شيء، بل اختيار الإنسان الحر بين الخير والشر.
والعقل قادر على احتواء كل ما يعرض للإنسان من مواقف وسد حاجاته؛ فهو ذات عاقل قادر على التمييز بين الأشياء. لديه قواه مثل التذكر والتخيل والتفكر، يعتمد عليها في سعادته. قد تشتد فيلتذ الإنسان بالذاكرة أو بالخيال أو بالفكر، وقد تضعف هذه القوى فتؤثر في قدرة الإنسان على الإدراك فيختلف الناس في تمتعهم بها وفي إدراكهم للأشياء. إن إثبات أن حقائق العقل مطلقة وعامة وشاملة لا ينال من الله شيئا؛ فالله هو الإطلاق والشمول، وهو القانون وهو العقل. بل إن هذه الحقائق العقلية العامة الشاملة لأحد مظاهر الوجود الإلهي في الحياة الإنسانية وأحد الأدلة عليه. بل يمكن القول إن صفات الله العامة المطلقة الشاملة هي نفسها هذه الحقائق الإنسانية العامة؛ وبالتالي فإن إنكار الحسن والقبح العقليين إنكار لصفات الله.
41
إن الإعلاء من سلطان العقل ليس أثرا خارجيا، بل من طبيعة العقل وحكمة الشرع، وإلا كان كل شيء حسن فينا وافدا من الخارج، وكل شيء سيئ فينا نابع من الداخل. وشتان بين مصادر المعتزلة في العقل ومصادر الدهرية والمنانية والبراهمة. وإن كان هناك اتفاق في العقل فالطبيعة البشرية واحدة والروح الإنسانية واحدة.
42 (2-1) إثبات العقل قبل السمع
والعقل قادر قبل السمع على الحكم، وقادر على أن يكشف الواجبات العقلية مثل تعلق الأفعال بالمدح والذم والثواب والعقاب، أي قانون الاستحقاق وشكر المنعم. كما يمكن للعقل إدراك صفات الأفعال إدراكا مستقلا عن أي ثواب أو عقاب خارج الأفعال ذاتها وإدراك النتائج المترتبة عليها وأثرها في توجيه الواقع وإعادة بنائه. وقد كانت الأخرويات آخر مكتسبات الفكر الديني كما كان أولها التوحيد كما هو واضح في تطور الوحي وتاريخ النبوة.
43
وقد يصل الأمر إلى حد جعل التقصير في المعرفة يستوجب العقوبة وكأن هناك تكليفا عقليا قبل التكليف الشرعي. وإذا كانت صورة العقوبة وشكلها بمعنى التخليد بالنار لا تعرف إلا بالسمع إلا أن الجزاء على الأفعال يعرف بالعقل مثل وجوب الشكر. وقد يكون الجزاء في مرحلة ما قبل السمع نتائج الفعل في الطبيعة وأثره في العالم، أي الجزاء الدنيوي قبل أن يضاف إليه الجزاء الأخروي. وإذا كان شكل المعارف النظرية بعد السمع هو معرفة الله ذاته وصفاته وأفعاله أو الشرائع العملية وطرقها مثل الصلاة والصوم والحج، فإن المعارف الخلقية والاجتماعية القائمة على المصلحة والمفسدة يمكن إدراكها بالعقل قبل السمع، ما يجب وما لا يجب، الحسن والقبح، وهما أساس الشرائع البدائية. قد تختلف وتتطور طبقا لرقي الوعي الإنساني حتى تتحد بالأحكام الشرعية وتصبح أساسا عقليا وطبيعيا للحلال والحرام، للواجب والمحظور. ومهما تغيرت الأحكام والأشكال والتصورات والقوانين فستظل مقولتا الحسن والقبح قائمتين كمقولتين فطريتين عقليتين طبيعيتين. وإن أمكن عذر الإنسان في عدم معرفة الله المعرفة النظرية المفطورة فإنه لا يعذر إذا ما جهل الله على الإطلاق في أشكاله البدائية الأولى. إن لم يكن العقل قادرا على إدراك المعارف النظرية أو التشريعات العملية، فإنه قادر على إدراك الحقائق الأخلاقية والاجتماعية؛ لذلك لا يهم إذا كان العقل لا يدرك الذات المجرد أو عدد الركعات والسعي بين الصفا والمروة وتحميل العاقلة الدية دون القاتل فهي تشريعات تتدخل فيها العادات والأعراف والتقاليد. أما الحكمة منها فيمكن إدراكها بالعقل قبل السمع وإن تفاوتت الأشكال والرسوم قبل السمع وبعده.
44
لم يكن العقل قبل ورود الشرع صفحة بيضاء، بل كان قوة قادرة على التمييز بين الأشياء. وكان غرض الوحي منذ بدايته إلى نهايته كمال العقل. العقل قادر على معرفة الأشياء بلا شرع. والمعرفة ليست غيبا. الشرع مقرر ومثبت لحكم العقل وليس بادئا أو نافيا له. أما أحكام العقل الصادرة عن عاطفة تطهر مثل تحريم إيلام الحيوان، فليست صادرة عن طبيعة العقل بل عن مزايدة في الموقف الإنساني الوجداني، ووقوع في الإنسانية الفارغة ووضع الإنسان على مستوى الطبيعة وليس سيدا لها. لقد تنازع الناس في أمور معقولة قبل ورود الشرع، وانتهوا إلى أحكام عقلية. وإلا فكيف كان يحكم القاضي قبل الشرع بين المتخاصمين؟ وفيم كانت القوانين القديمة؟ ألم يدخل كثير من القوانين القديمة في الشرائع الإلهية إما تمثيلا لعدالتها أو إقرارا للأعراف السائدة؟
45
إن الجدل الذي قام حول القيم قبل ورود الشرع يثبت موضوعيتها. هناك حقائق عقلية عامة يدركها العقل دون ما حاجة الشرع، مثل استحالة الشرك وكل صفات النقص في الكمال. وإذا كانت المعرفة النظرية الخالصة لا يقدر عليها إلا العقلاء، فإن الصور الفنية إحدى وسائل التعبير عن الأحوال النفسية والظروف الاجتماعية التي تفرض أشكالها من تأليه وتجسيم وتشبيه إذا كان التنزيه أعلى مراحل التجريد والعقلانية في المعارف النظرية الخالصة.
46
ولكن المعارف النظرية الخالصة ليست شرطا للمعارف الخلقية العملية؛ تحتاج الأولى إلى عقل خالص، بينما تقوم الثانية على صدق النية وحسن الطوية.
47
وإذا كان العقل قادرا على أن يصل إلى كل المعارف والحقائق حتى قبل أن يبلغه السمع، فعليه الحجة ومطالب بالبرهان سواء بلغته الرسالة أم لم تبلغه. إن ما يعلمه العقل اضطرارا لا يفتقر إلى سمع، كالعلم بقبح الظلم وقبح الكفر بالنعمة، ووجوب الإنصاف والشكر. ما دل عليه مدلول من جهة العقل لا يفتقر إلى سمع؛ وإلا لافتقر السمع إلى سمع إلى ما لا نهاية، وبالتالي لن يثبت شيء بالعقل. السمع دليل خارجي في حين أن العقل دليل داخلي.
48
المكلف هو العامل، سواء بلغته دعوة الرسل أم لم تبلغه. فالإنسان مطالب بالمعارف العقلية حتى لو عاصر النبوة، ولكن لم تبلغه الدعوة. فهو معذور بجهله بالرسل والشرائع، أما الذي جهل التوحيد والعدل فإنه كافر معاقب وكأن أحكام الإيمان والكفر تصدر على أصول نظرية خالصة وليس على الأفعال المترتبة عليها، الفردية والاجتماعية، وكأن الجزاء الأخروي هو الشكل الوحيد للنتائج المترتبة على الفعل دون أثرها في الدنيا ونتائجها المباشرة في سلوك الناس.
49
وقد يصل الأمر إلى حد التبليغ فقط دون البرهان وكأن الإعلان عن النبي كاف لتصديقه.
50
وكيف يكون الخبر بديلا عن العقل؟ قد يصدق الخبر ويكذب. كما أنه يعتمد على الفهم والتأويل وتصديق الراوي للخبر مصدر المعرفة، وينتج عنه التكليف بالشرائع بالضرورة، سواء حمل هذا الخبر تشريعا أم لم يحمل.
51
والشرع له أسسه الموضوعية بصرف النظر عن الشارع والمبلغ. فعندما تحول الجماعة الشرع إلى دافع تفرز الجماعة من بينها المنظر والقائد، ويكون التنظير والقيادة جماعية. فإن كان التكليف عقلا وشرعا، فإنه في هذه الحالة لا يستقل العقل ويصبح أيضا مفعولا به وليس فاعلا. فإذا كان الله هو الذي خلق وهو الذي ركب وهو الذي هيأ وأعطى الوسائل وهو الذي ساعد، فماذا يبقى للعقل؟
52
والعجيب أن الصوفية والأشاعرة والفقهاء وكل أعداء العقل يثبتون العقل قبل البعثة ويجعلونه متزامنا مع الخلق، ومع ذلك ينكرون عليه استقلاله في معرفة الحسن والقبح كما ينكرون على الإنسان خلق الأفعال.
53
والعقل هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان. ومن لم يعرف بالعقل أصبح كالحيوان خادما للإنسان العاقل لا حرج عليه ولا تثريب، ولا ثواب ولا عقاب في الآخرة! العقل إنساني خالص، ملكة إنسانية وقوة بشرية لا تعطى إلى الحيوان إلا إسقاطا من الإنسان ووهما؛ لذلك فإن الأفعال الحرة وحدها هي التي توصف بالحسن والقبح لا الأفعال الاضطرارية أو أفعال الصبيان والمجانين أو أفعال الحيوان والنبات والجماد. الفعل لا يكون فعلا عاقلا إلا إذا كان فعلا حرا. ولو كان الحيوان حرا فإنه لا يكون مكلفا لأنه غير عاقل، فشرط التكليف الحرية والعقل.
54
والعقل هو العقل الكامل القادر على العلم. وعلمه نوعان: علم اضطراري ناشئ من طبيعة العقل وعلم كسبي ناشئ من الحواس والتجربة والمشاهدة. وقد يدخل الخاطر في تحديد كمال العقل، وهو عمل العقل المولد للأفكار، العقل المعبر عن الشعور الخلاق. قد يكون كمال العقل هو الاضطرار إلى علوم الدين؛ لأنها لا تفهم إلا بالعقل. وسلامة العقل دليل البلوغ. لا يهم بعد ذلك تحديد العمر العقلي كما هو الحال عند الفقهاء، سلامة العقل عند الاحتلام أي البلوغ العضوي؛ لذلك لا يصح إسلام الصبي أو كفره لأنه في مرحلة ما قبل البلوغ. كما أن تحديد العقل تحديدا كميا بعدد السنين تحديد خارجي خالص. كمال العقل صفة كيفية لا تحدد إلا كيفا. يكمل العقل باستقلال الشعور ووعيه. وقد يختلف العمر الزمني من فرد إلى فرد، ومن حال إلى حال، ومن جماعة إلى جماعة، ومن عصر إلى عصر. فهو عامل فردي أكثر منه تحديدا موضوعيا بالرغم من وجود عوامل موضوعية تؤهل للوعي وإن لم تحتم ظهوره مثل التعليم والحوار وممارسة الرأي والمشورة والعمل الجماعي. يكفي للآخرين التحقق من صدقه بالمراجعة والتحقيق، ويمكنهم المعارضة والإثبات؛ منهج العقل إذن منهج عام يمكنه ضم الفكر البشري.
55
العقل هو كل شيء؛ الحس والمشاهدة والإدراك والإحساس الداخلي ومشاهدة الوجدان ومجرى العادات واستقراء الحوادث.
56
إذا عمل العقل في الطبيعة وحلل ظواهرها فإنه لا بد وأن ينتهي إلى ما جاء به السمع.
57
لذلك كانت الأفعال قبل الشرع على الإباحة طبقا للقاعدة الشرعية في أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص بتحريمها.
58
وكان الناس قبل الشرائع على حكم العقل أي على البراءة الأصلية ومحبة الأشياء الطبيعية. الأفعال قبل اكتمال الوحي على الإباحة إن لم يرد فيها شرع، ولكن بعد اكتمال الوحي تكون الأفعال طبقا لأحكام العقل وقوانين الطبيعة. قبل الوحي كان يمكن للعقل أن تسوده الأهواء والانفعالات وللطبيعة أن تسودها قوة خارجية عنها، ولكن أحكام العقل وقوانين الطبيعة ثابتة منذ اكتمال الوحي. ليس وجوب العقل مساومة على الشرع في أنه لا يجب شيء من قبل العقل في مقابل أنه لا يجب شيء قبل ورود الشرع، وكأن الله يدخل في مساومة مع الإنسان، لا يوجب العقل على الأول شيء ولا يوجب الشرع على الثاني شيء قبل وروده.
59
وهنا يبرز سؤال: ماذا كانت ديانات الأنبياء قبل نبواتهم؟ هل كان كل نبي على دين النبي الذي قبله قبل أن تأتيه النبوة الجديدة؟ هل كان على دين إبراهيم؛ الحنيفية السمحة التي أكملها الإسلام؟ هل كان على دين العقل؟ أم هل كان على البراءة الأصلية على الفطرة والطبيعة؟ والحقيقة أن هذا سؤال ليس مجردا، بل ينطبق على كل حالة على حدة. كان أنبياء بني إسرائيل على دين الأنبياء السابقين. ولا تنشأ إلا مشكلة آدم على أي دين كان قبل أن يبلغه الله الرسالة؟ فإذا كان آدم منذ وجوده في الأرض قد تلقى الوحي تكون النبوة معاصرة لوجود الإنسان. أما خاتم الأنبياء فقد كان على دين أبي الأنبياء إبراهيم، وهو دين العقل والطبيعة والفطرة.
60 (2-2) إثبات العقل بعد السمع
والحقائق العقلية هي أساس الحقائق الشرعية، وإن إبطال الأولى يرفع الثانية. وموضوعية القيم سابقة على حكم الشرع. وما حكم الشرع إلا تأييد لها وتقوية للبواعث الإنسانية وتحويل لها إلى دوافع للسلوك ومقاصد وأهداف. العقل ضروري لفهم النقل، وإلا نزل النقل على خواء وهبط الوحي إلى فراغ. معرفة صحة السمع متوقفة على العقل. وما تفتقر صحة السمع إليه لا يجوز أن يحتاج فيه إلى سمع لأنه يؤدي إلى الدور؛ وبالتالي إلى إبطال الاثنين. وإن إثبات العلوم الضرورية سمعا تناقض لأن العقل مكتف بذاته ولا يمكن إثباته إلا بالعقل. فلا يمكن معرفة صحة الكتاب والسنة إلا مع العلم بأن الله حكيم لا يفعل القبيح، وذلك لا يعرف إلا عقلا. يمكن معرفة الله إذن بالعقل دون السمع. وهناك الدواعي مع النظر والخواطر؛ لذلك كان النظر أول الواجبات.
61
أما المعجزة فهي تصديق لا تصور، والنظر في صدق النبي متوقف على العقل؛ إذ إن العقل شرط صحة السمع، وذلك يوجب كون العقل مستقلا بذاته دون سمع، وليس في حاجة إلى كرم لطف أو بيان مصلحة. لو لم يكن الواجب عقلا لزم إفحام الأنبياء الذين يعتمدون على البرهان والعقل. فصدق النبوة ليس بالمعجزة الخارجية بل بالبراهين الداخلية، كما أن جلب المصالح ودرء المفاسد وهو أساس الشريعة من استنباط العقل.
62
بل إن قانون الاستحقاق ذاته الذي تترتب عليه أمور المعاد من وضع العقل.
63
إن معرفة النقل قائمة على معرفة العقل ووجوب النظر. وإن إيجاد الأدلة والبراهين لا يعني الاعتماد على العقل، بل هو بحث عن أساس عقلي للنص. وفي الغالب ما يكون أساسا خطابيا انفعاليا تصويريا في حاجة إلى نقد عقلي للنص حتى يتحول إلى برهان محكم. ومثال ذلك دليل الحدوث ودليل التمانع ومعظم الأدلة التي صاغها الأشاعرة. يمكن معرفة القانون العام من الوحي ومن العقل على السواء. ولكن نظرا لأن معرفة الوحي قد تتغير بفعل النسخ؛ فتظل المعرفة العقلية قائمة وثابتة، فهي الضابط والمحك والمقياس. وإذا ما ورد دليل الشرع في ظاهره مخالفا لدليل العقل فإنه يتم تأويله؛ فالعقل أساس السمع، ولا يجوز وقوع تناقض بينهما.
64
إذا تعارض النقل والعقل فإنه يمكن حل هذا التعارض بالتأويل، إما تأويل النصوص بعضها بالبعض أو تأويلها جميعا بحيث تتفق مع العقل على ما هو معروف في علم أصول الفقه في باب «التعارض والتراجيح».
65
وإذا ثبت شيء بالسمع فإنه يجوز من جهة العقل؛ فالعقل أساس النقل. وتظل الحجة النقلية ظنية ما لم تؤيدها حجة عقلية ولو واحدة طبقا لنظرية العلم الأولى.
66
أما عندما يكون النقل أساس العقل فإن تطابقهما يتم لحساب النقل أو يأتي اليقين من النقل ويفترض تطابق العقل معه، في حين أن النقل لا يعطي اليقين بمفرده. إذا كان النقل أساس العقل فأين بداهات العقول وأولياتها؟ وماذا عن نظرية العلم التي ظهرت فيها أوليات العقل كإحدى ركائزها؟ وكيف يمكن الاستدلال والمحاجة دون أوليات العقول؟
67
وعلى هذا النحو، وطبقا لبناء العقل، يمكن تحديد الصلة بين العقل والسمع في الأفعال. فالواجب بالشرع هو الحسن بالعقل، والمحرم بالشرع هو القبيح بالعقل. ولا يمكن أن يكون الواجب بالشرع قبيحا بالعقل أو أن يكون المحرم بالشرع حسنا بالعقل. أما المباح فإنه يلتقي فيه العقل والشرع معا. وقياسا على ذلك أيضا يمكن إدخال المندوب والمكروه في البناء النظري. ونظرا لأنه لا توجد إلا مقولتا الحسن والقبح المطلقتين، فإنه يمكن ضم الحرية إلى العقل، وبالتالي يتوحد شقا أصل العدل. وفي هذه الحالة يكون المندوب بالشرع حسنا بالعقل اختيارا، ويكون المكروه بالشرع قبيحا بالعقل اختيارا. لا يوجد واجب بالسمع يكون قبيحا في العقل ولا محظور في السمع يكون حسنا في العقل. ولا يكون مندوب في السمع قبيحا في العقل ولا مكروه في السمع حسنا في العقل. ولا يوجد مباح في السمع يكون قبيحا في العقل لأنه في حالة استواء الطرفين في الحسن والقبح يكون الفعل إلى الحسن أقرب. وفي حالة استواء الطرفين في الضرورة والاختيار يكون الفعل أقرب إلى الطبيعة والبراءة الأصلية.
68
وقد أسيء فهم هذا العمل العقلي في النص، واتهم بأنه تأويل، أي إخراج النص من معناه الحقيقي إلى معنى مجازي بلا دليل، في حين أن هذا العمل العقلي في النص عمل طبيعي لإيجاد المعنى وتحويل النص إلى اتساق عقلي ثم توجيهه إلى إحدى وظائفه وهو التأثير على النفوس بعد تحويل المعاني إلى بواعث. وهو ضروري أيضا لإيجاد نسق لأحكام الشرع وتأسيس النقل على العقل حتى يكون الإنسان صاحب موقف عقلاني في العالم وفي نفس الوقت تكون أفعاله تحقيقا طبيعيا وعقلانيا لأحكام الشرع. والتأويل كعمل للعقل لا يكون تقليدا للقدماء واعتمادا على الروايات، بل بناء على العقل الخالص. ولا يخرج عن السنة، بل يوصل مراحلها ويجعلها مستمرة متصلة بلا انقطاع. وليس جرأة على الله، بل اعتزاز بخلقه، فالله ليس إرهابا للعقل وإيحاء له بالقصور وعدم الفهم والعجز حتى يستسلم، وهو مناط الاجتهاد، والاجتهاد أصل الشريعة. وهو ليس تحكيما للهوى بل يقوم على قواعد عقلية محكمة كما هو الحال في قواعد الاجتهاد في علم الأصول.
69 (2-3) ما هو دور السمع؟
إن القول بالمعارف العقلية ليس إنكارا للنبوة، أو إقلالا من شأن السمع، أو خروجا على الرسول، أو تحكيما للهوى مكان الوحي، أو قولا بالقياس في مقابل النص أو بالرأي في مقابل الأمر؛ فالعقل هو الموضوعية والنزاهة في مقابل الهوى والتحيز.
70
ومن ثم يكون من الخطأ تسمية القائلين بالمعارف العقلية منكري النبوات. فإمكانيات العقل البشري في الإدراك ومعرفة الحقائق لا تنفي وجود السمع كواقع تاريخي وكإمكانية نظرية.
71
السمع تأييد للعقل وتقوية ليقينه وزيادة للثقة به. الشرع تأكيد للعقل وتقوية له وإعطاؤه مزيدا من اليقين؛ ومن هنا تأتي نظرية اللطف وقسمة الناس إلى خاصة وعامة. فإن لم يحتج الخاصة إلى السمع نظرا في المعرفة أو عملا في الممارسة الحرية، فقد تحتاجه العامة في إدراكها للحقائق وكتقوية لعزائمها. للسمع إذن وظيفة معرفية نظرية في إعطاء افتراضات سابقة للبرهنة عليها مع يقين مسبق بصحة الافتراض وتوجيه العقل لصحة البرهان. قد يكون مقياسا إذا ما اختلف العقلاء، وحكما بين الخصوم. قد يكون تأكيدا وتثبيتا لحكم العقل منعا للشك وتأسيسا لليقين في مقابل الخطأ الإنساني والتردد والتقلب بين وجهات النظر. قد يعطي الوصف الكامل ووجهة نظر شاملة متكاملة في مقابل التجزئة الإنسانية والتيه في المتناهيات في الصغر وفقدان النظرة الكلية. قد يساعد السمع على تقصير مدة البحث بالتوجه مباشرة نحو الافتراض الأقرب إلى التحقيق بدلا من تبدل الافتراضات مرات عدة، وقد لا يقع الناظر على الافتراض الصحيح. قد تكون مهمة السمع عملية صرفة؛ توجيه الإنسان إلى العمل وتقصير مدة البحث النظري عن الأسس العامة حتى يخصص باقي الوقت للتفصيل وباقي العمر للتحقيق. ودور السمع تشريعي وإن لم يكن معرفيا، عملي وإن لم يكن نظريا.
72
وكما أن السمع محكوم من العقل من أعلى، فإنه أيضا محكوم من الواقع من أسفل. وكما أن النقل مؤسس في العقل فإنه أيضا مؤسس في الواقع؛ ومن ثم تكون صلة التأسيس بين أطراف ثلاثة: النقل والعقل والواقع. كان الوضع التقليدي للمسألة هو العقل والسمع، موضوع ذو شقين. وكان السؤال أيهما الأساس وأيهما المؤسس؟ هل السمع أساس العقل أم هل العقل أساس السمع، وكأن العلاقة هي علاقة أدنى بأعلى وأعلى بأدنى، علاقة تابع بمتبوع أو متبوع بتابع، علاقة مرءوس برئيس أو رئيس بمرءوس، علاقة فرع بأصل أو أصل بفرع، وهي العلاقة الشائعة في علم أصول الدين، بل وفي التراث كله، سواء في الحكمة علاقة الطبيعيات بالإلهيات وعلاقة الإلهيات بالطبيعيات أو في التصوف، علاقة المخلوق بالخالق أو علاقة الخالق بالمخلوق أو في علم أصول الفقه، علاقة الفرع بالأصل وعلاقة الأصل بالفرع كما هو الحال في القياس الفقهي.
والحقيقة أن العلاقة بين السمع والعقل هي علاقة اتحاد كامل أو حتى لا علاقة بالمرة لغياب طرفين متمايزين منفصلين؛ فالعقل هو السمع ، والسمع هو العقل. تحليل العقل يؤدي إلى اكتشاف أوليات السمع، وفهم السمع يؤدي إلى اكتشاف المبادئ الأولية للعقل والحقائق الثابتة في الحياة الإنسانية. العلاقة هي علاقة الحدس بالبرهان، وكلاهما من عمل العقل، علاقة الافتراض بالقانون وكلاهما من عمل العقل، علاقة النظر بالعمل وكلاهما من عمل الإنسان.
73
والحقيقة أيضا أن هناك طرفا ناقصا في هذه العلاقة الثنائية في معادلة العقل والنقل، وهو الواقع محك التفسير والذي إليه يحتكم الطرفان السابقان. فالواقع هو عنصر التوحيد بين النقل والعقل. لا يفسر النقل إلا باللجوء إلى الواقع، فقد خرج النقل منه بدليل تطور الوحي وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ. وفي علم أصول الدين تسبق نظرية الوجود نظرية الذات والصفات والأفعال، أي أن العالم سابق على الله في البحث والتأصيل. وفي علوم الحكمة تسبق الطبيعيات الإلهيات. وفي علم أصول الفقه تقوم الشريعة على تحقيق المقاصد، جلب المنافع ودفع المضار. وفي علوم التصوف يتجلى الحق في الخلق والله في العالم؛ ومن ثم يحضر الواقع في بطن النص وقلبه، ووظيفة العقل إيجاد الوحدة بينهما، الوحدة بين المضمون والشكل، فالواقع هو المادة والنص هو الصورة.
74
خامسا: الواجبات العقلية
لما كان العقل أساس النقل سواء قبل البعثة أو بعدها، تظهر الواجبات العقلية من طبيعة العقل؛ ومن ثم كان الوجوب عقليا وليس عاديا يتم بجريان العادات وبتكرار المجريات.
1
فماذا يعني الوجوب؟ إن تحليل اللغة المستعملة في التعبير يكشف مستويين؛ المستوى الإنساني حيث تكون فيه اللغة تعبيرا عن موقف إنساني ثم مستوى إنساني أيضا يقوم على ادعاء أن اللغة تعبر عن موقف غير إنساني، موقف مطلق مشخص.
2
ومن ثم فالواجب ليس صفة لوجود مشخص ضروري بل صفة لمعنى إنساني، وجوب القيم وموضوعاتها واستحالة عدمها. ليس الوجود الضروري وجودا صوريا ولا يتحدد بالاستحالة المنطقية ولا وجودا ماديا يتحدد بالاستحالة الطبيعية، بل هو وجوب إنساني يتحدد باستحالة غياب القيمة. الوجوب هو الباعث على الفعل والإحساس بالدعوة وتحقيق الرسالة. الوجوب هو الوجود، والوجود هو الوجوب.
3
يطلق الواجب إذن على مستويات أربعة: الأول الواجب الإلهي بمعنى واجب الوجود، وهو افتراض وجود القيمة وجودا موضوعيا ومشخصا تعبيرا عن وجودها الذاتي في الأفعال. الثاني الواجب الطبيعي بمعنى ضرورة الظواهر الطبيعية وحتمية قوانينها، وهو يقابل الوجوب الأول. قد يتحدان معا في وجوب واحد كما هو الحال في وحدة الوجود أو قدم العالم، وقد ينفصلان في وجودين مستقلين كما هو الحال في نظرية الخلق أو حدوث العالم. والثالث الواجب الإنساني، أي ما يترجح فعله على تركه بناء على جلب المنافع ودفع المضار. وهي ليست الأفعال الطبيعية البدائية مثل شرب العطشان وأكل الجائع، سواء كان ذلك في هذا العالم أم في عالم آخر، بل الأفعال الإرادية القصدية التي تكون نتيجة لممارسة الحرية. والرابع الواجب المنطقي الذي يؤدي وقوعه إلى أمر محال أو انقلاب الشيء إلى ضده. ولما كان الوجوب في الطبيعة ضرورتها وحتمية قوانينها، والوجوب في العقل الضرورة المنطقية، بقي الوجوب بمعنى واجب الوجود، أي الله، والوجوب بمعنى الواجب الأخلاقي في الأفعال. وهما في الحقيقة وجوب واحد ووجود واحد. وليس الإشكال في الوجوب الطبيعي مثل الحجر الساقط أو وجوب الشمس أو الوجوب المنطقي وهو ما يلزم من فرض عدمه المحال، ولكن الإشكال في الوجوب الإلهي والوجوب الإنساني، في وجوب الله ووجوب القيمة، إلى أي حد يتحدان وإلى حد يتمايزان؟ وإن كان من الجائز أن يطلق الوجوب على الإنسان، فهل من الممكن إطلاقه على الله؟ ولما كان الوجوب الإنساني يتحدد بجلب المنافع ودفع المضار، فإنه لا يطلق على الله، فالله لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة عن نفسه. وإن فعل ذلك فإنما يفعله من خلال الشريعة لصالح الإنسان ومن خلال الوجوب الإنساني. فالغاية أساس الوجوب الإلهي أو الإنساني بناء على تحقيق المصالح ودرء المفاسد من خلال تحقيق مقاصد الشريعة التي يتحدد فيها القصد الإلهي والقصد الإنساني، وإن كان الوجوب الإنساني يعني ما يستحق تاركه الذم، فذلك مستحيل في حق الله لأنه المالك والمتصرف. وإذا كان الوجوب يعني ما تركه مخل بالحكمة، فإن ذلك أيضا مستحيل على الله لأن أفعاله كلها حكمة ومصلحة . وإذا كان الوجوب يعني ما قدر الله على نفسه ألا يفعله ولا يتركه وإن كان تركه جائز فإنه أيضا لا يجوز على الله لامتناع صدور خلافه عنه.
4
فالوجوب إذن إنساني محض يتم من خلال الحرية والاختيار ومن خلال الترجيح والمقارنة بين البواعث قوة وغلبة. ليس المطلوب إذن المزايدة في الإيمان والتمحك بالألفاظ وتملق شعور العامة وإيمان البسطاء بأن هناك من يقول: «يجب على الله أن يفعل كذا!» وهو المجنون المأفون! فكيف يجوز أن يحكم العقل أو العاقل على الله أو الخالق؟ وكيف يوجب الله على نفسه بعد أن لم يزل غير موجب وكأنه كان مباحا له أن يعذب؛ فأوجب على نفسه غير ذلك؟ وكيف يكون الله موجبا ذلك على نفسه منذ الأزل وهو قول الدهرية؟ ليس الأمر في صياغة الألفاظ. فما من أحد يرضى أن يقال يجب على الله، بل ولا حتى على الإنسان؛ فالوجوب من العقل ومن الطبيعة، من الحكمة ومن الأشياء، وجوب الحقائق العامة الذاتية وليس الوجوب الخارجي. وكأن المزايدة تهدف إلى استدعاء الشرطة وخفراء الدرك للقبض على المجرمين الخارجين على القانون الذين يشككون في سلطة الحاكم ويدبرون مؤامرة لقلب نظام الحكم.
5 (1) الخلق والتكليف
وأول الواجبات العقلية هما الخلق والتكليف. وهما إن بدوا لفظين إلا أنهما يدلان على واجب عقلي واحد هو التكليف. ولا تكليف بلا خلق؛ فالتكليف يتضمن الخلق بالضرورة. ولا يجوز أيضا خلق بلا تكليف؛ لأن التكليف غاية الخلق، والخلق بلا تكليف خلق بلا غاية، وبالتالي يكون عبثا. يستحيل إذن الخلق ابتداء لمجرد الخلق، بلا غاية أو هدف وبلا تكليف.
6
الخلق بلا تكليف إنكار للغائية. وما الغاية من خلق غير مكلف وما الهدف منه؟ وكيف ينكر التعليل بالغائية، والتعليل أساس الشرع، والعلة الغائية عند القدماء هي العلة الفاعلة الحقة؟ لا تعود الفائدة على الله، وليس جلب المنافع لله ودرء المضار عنه. الفائدة للإنسان وجلب المنافع له ودرء المضار عنه.
7
فلا خلق بلا حرية وعقل وهما مدار التكليف. وإذا ما تمنى الإنسان أن يخلق في الجنة متنعما من غير ضرر وغم وألم، وإذا ما تمنى العقلاء أن يكونوا في هذا العالم عدما وأن يكونوا نسيا منسيا أو أن لم يكونوا شيئا، فإن ذلك إنكار للوجود وتمن للعدم ومحو للحياة وللإنسان، بل ولله؛ لأنه حينئذ لن يعرفه أحد. ويكون إلغاء للوجود وتدميرا للذات ونهاية لكل شيء ونتيجة للإحساس بالغثيان وبالعبث وباللاغائية واللاهدف. وقد يأتي ذلك نتيجة للأعمال السيئة التي يقترفها الإنسان، ونتيجة لعدم القيام بالواجب ولعدم إعمال الحرية والعقل. والكافر وحده هو الذي يقول: «يا ليتني كنت ترابا»، ولكن المؤمن يجد ما وعده ربه حقا. ويتمنى الشهيد أن يقتل ويحيا ويقتل ويحيا حتى لا يحرم من لذة الشهادة. وقد يكون هذا التمني صورة مجازية للإحساس بالمسئولية والتبعة والخوف من عدم تأديتها ومحاسبة النفس محاسبة دقيقة، وذلك مثل: «ليتني ما ولدتني أمي». وكيف يأتي هذا الإحساس للأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين وهم أرباب الرسالات وأصحاب الدعوات؟
8
لا يعني وجوب الخلق إيجاب شيء على إرادة مطلقة، بل الإيجاب في الحياة الإنسانية حفاظا على عنصر الثبات فيه.
وقد يؤدي رفض الواجبات العقلية، أي الوجوب الإنساني، إلى صياغة الأمر المطلق والحاكم المطلق والسلطان المطلق الذي لا يراجعه أحد. العدل في طاعته والجور في عصيانه. هو الذي يحدد مقياس العدل والظلم لا مراجعة عليه ولا قانون يخضع له.
9
ولا يجوز الخلق ثم تخلية العباد بلا تكليف.
10
ولا يعني قول الكل بخلق الله وإرادته التكليف؛ فالتكليف جوهر الخلق، والخلق مرتكز على التكليف. الخلق مجرد إشارة إلى معنى، ودليل إلى مدلول. وما دام كل معلوم موجودا فالتكليف هو السبيل لتحقيق العمل وتحويله إلى موجود. وفي التكليف لا يستوي الفعلان؛ لأن حرية استواء الطرفين غير موجودة؛ نظرا لوجود البواعث. وترجيح فعل على آخر لا يمنع التكليف بل يؤكد حرية الاختيار وقدرة العقل على التمييز؛ لذلك يوجد تفاوت في الأفعال بين المثال والواقع أو بين العزيمة والرخصة كما يقول الأصوليون. ولذلك أيضا كان موضوع الإيمان والعمل من موضوعات علم أصول الدين، وقد يكون التكليف أحد أسباب الترجيح عن طريق الفكرة الموجهة للفعل. لا يقع التكليف مع الفعل أو قبله، فتلك هي الاستطاعة. التكليف مقرون بالخلق. بمجرد الخلق يحدث التكليف؛ فالخلق تكليف. ليست القضية حجة عقلية ووقوعا في تناقض منطقي، بل القضية تأسيس مشروع إنساني وجودي فعلي يشكل العقل فيه أحد الوسائل لتحقيق المشروع ولا يشكل نقيضا له. الغرض من التكليف إظهار الحرية والعقل، فالخلق مشروع خلق، والوجود مشروع إيجاد. والتكليف هو هذا النداء للخلق من أجل ممارسة الحرية وإعمال العقل.
11
ومن ثم كانت بعثة الرسل واجبة من أجل التكليف لعامة الناس.
12
وإن أكثر حجج نفي التكليف مستمدة من الجبرية، مما يدل على أن التكليف مرتبط بحرية أفعال الإنسان. وإن كان الجبر نفيا للتكليف فذلك لأن الله هو الذي يقوم بكل شيء، وبالخلق وبالتكليف وكأن الإنسان لا هدف له ولا غاية، مجرد موجود كوني كالأرض والنبات والحيوان والأفلاك، مجرد زينة، وجود كغيره من الموجودات، لا ميزة له ولا فضيلة. وإذا ما أثبتت الجبرية جواز التكليف فإنها تمنع من بيان صفته. وهذا إنكار للعقل وقدرته على فهم الوحي. فالجبر إلغاء لحرية الأفعال ولقدرة العقل في آن واحد. والمثل المشهور في تكليف أبي جهل وأبي لهب بالإيمان وهو معلوم أنه سيكفر؛ وبالتالي يبطل التكليف بنفي حرية الأفعال أساسا ويجعل أفعال الإنسان كلها اضطرارية.
13
إن تكليف أبي لهب كان لكونه مختارا. والإخبار عنه بأنه لا يؤمن نتيجة للعلم وليس للإرادة. ولو حدث على خلاف العلم فليس ذلك انقلاب العلم جهلا أو الجهل علما، بل لأن هناك حرية إرادة إنسانية داخل الإرادة الإلهية وليس داخل العلم الإلهي. بالإضافة إلى أن علم الله علم تجريبي يحدث بعد الوقائع. والحياة امتحان؛ ليعلم الله الفرق بين العاملين والمثبطين. والنسخ دليل على هذا الطابع البعدي للعلم الإلهي. ولما كان العبث على الله محالا، فالعبث هو فعل ما لا فائدة منه وما لا عقل فيه، فيستحيل تكليف أبي جهل بالإيمان وهو يعلم أنه يكفر ويجبره على الكفر.
ليس الهدف من التكليف النعيم والثواب، بل أداء الرسالة وإظهار إمكانيات الوجود الإنساني في ممارسة الحرية وإعمال العقل.
14
وليست الغاية من التكليف استحقاق التعظيم؛ لأن التفضيل بالتعظيم قبيح لأن الثواب ليس هدفا إنما الغاية منه تأكيد الإنسانية وتحويلها من مشروع ممكن إلى واقع متحقق. قد يعني التعظيم إمكانية أن يتحول الإنسان إلى إله والقضاء على محدودية الإنسان بفعله، وبالتالي التشبه بالخالق والعودة إليه، فيصبح الخالق وكأن لا أحد معه كما كان. التكليف بهذا المعنى خط مقابل للخلق. فإذا كان الخلق حركة من الله إلى العالم، فإن التكليف يكون حركة من العالم إلى الله. ليس عيب التعظيم أنه يقوم على الحسن والقبح العقليين، بل عيبه أنه يربط الفعل بالجزاء وهو ربط خارجي. نتيجة الأفعال مرتبطة بالأفعال ذاتها. بل إن غياب الاستحقاق لا يطعن في وجوب الفعل. وحدوث الضرر والمشقة والجهد والمعاناة قد يكون كل ذلك أحد مظاهر التحدي الإنساني وإقدامه على الفعل.
15
التكليف نابع من طبيعة الإنسان، والوحي ما هو إلا تأكيد لها. ولا يوجد إنسان، والأولى ألا يوجد نبي أو ولي، ويتمنى ألا يكون إنسانا ذا رسالة، ويتمنى أن يكون جمادا أو طبيعة. ولا يمكن أن يأتي الوحي إلا مؤيدا للطبيعة. وفي إنكار الوحي للتكليف إنكار للوجود الإنساني. كيف يوجد إنسان بلا تكليف؟ ما دام الإنسان قد وجد فرسالته توجد معه. ومن الذي سيقوم بتحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم؟ إن الفرق بين الإنسان والجماد هو التكليف، أداء الرسالة والأمانة. وما دام الإنسان حرا عاقلا فإنه يكون بالضرورة مكلفا؛ لذلك يقرن الخلق بالتكليف، فيكون الوجوب للخلق والتكليف معا. وجود الإنسان أداؤه رسالته.
16
وماذا يعني العالم بلا خلق ولا تكليف؟ وكيف يعرف الله بلا خلق ولا تكليف؟ لا تعرف الذات إلا من ذات أخرى ترى في الذات الأولى نفسها كموضوع كما ترى الذات الأولى نفسها في الذات الثانية كموضوع، خروجا من الوحدة الصورية الفارغة.
17
والتكليف داخل في حدود الطاقة الإنسانية لأنه تعبير عن بذل الجهد، وبالتالي يستحيل تكليف ما لا يطاق. وكيف يكون التكليف مجرد كلام من متكلم إلى آخر ليس له شرط إلا الفهم؟ ألا يتضمن الكلام طلبا للفعل، والفعل في حاجة إلى قدرة واستطاعة؟ هل الوحي مجرد كلام مفهوم وليس نداء للفعل ونظاما مثاليا للعالم يتحقق بقدرة الإنسان؟ التكليف قائم على فهم الخطاب وعلى بذل المجهود وليس مجرد فهم نظري دون تحقق عملي. وإذا كان النقل أساس العقل، فإن حتى شرط الفهم لا يكون مطلوبا. صحيح أن التكليف لغويا يكون من أعلى إلى أدنى، وأن الالتماس يكون من المثل، وأن الدعاء والسؤال يكونان من أدنى إلى أعلى، ولكن المسألة ليست علاقة أعلى بأدنى أو أدنى بأعلى أو مثل بمثله، بل التأكيد على وظيفة العقل وغاية الفعل وقدرة الإرادة دفاعا عن الوجود؛ فالوجود نفسه مشروع إيجاد يثبت بالحرية والفعل. إن دعاءنا لله بألا يكلفنا ما لا طاقة لنا به قد تم تحقيقه بالفعل في فرض الصلوات الخمس وليس الخمسين، وفي الناسخ والمنسوخ والانتهاء إلى سماحة الشريعة والاعتراف بالتخفف والضعف والوهن. وهو ما وضعه علماء الأصول في قواعد معروفة باسم: «لا ضرر ولا ضرار»، «الضرورات تبيح المحظورات» ... إلخ. وحجة تكليف إيمان أبي لهب في الجبر وتكليف ما لا يطاق وهدم العقل. وكيف بواقعة واحدة تكون أساسا لعلم بأكمله وهو علم العقائد في العقليات، في أصلي التوحيد والعدل؟
18
لا يجوز إذن تكليف ما لا يطاق، لا فرق في ذلك بين تكليف العاصي الذي علم بعصيانه من قبل كما هو الحال في حال أبي لهب وأبي جهل، وبين تكليف يقوم على الجمع بين الضدين وقلب الحقائق أو التكليف بأمر ممكن غير متعلق بالقدرة.
19
إن تكليف ما لا يطاق سفه وعبث، وكلاها قبيح يجب تركه. وإذا كانت الغاية من التكليف التحقيق، فكيف يتم التكليف بما لا يطاق؟ وإذا كانت الغاية من التكليف تنفيذ الأحكام، فكيف يخرج الفعل عن حدود الطاقة؟
20 (2) شكر المنعم
قد يكون «شكر المنعم» من الواجبات العقلية؛ فشكر المنعم حسن وعدم الشكر قبيح. ويظهر في مقدمات الأول الخمسة في الاعتزال مثل النظر.
21
فالقصد من النعمة الإحسان؛ لذلك استوجبت الشكر. ولكن يبقى سؤال: هل الإنسان محسن إليه؟ النعمة هي المنفعة أي اللذة والسرور، والمنفعة بها مصالح العباد أساس الشرع وليست هبة أو تفضلا. وهي من الطبيعة وليست من إرادة مشخصة. الشكر الوحيد هو تمثل الطبيعة أو معارضتها ونفيها ورفضها والتنكر لها. والاعتراف بالشكر لا يكون باللسان أو بالقلب بل بالعمل، والقلب عمل للشعور. العبادات أعمال رمزية لا تكفي للشكر ولا تدل عليه؛ لأنها صورية بلا مضمون. إنما الأعمال المباشرة هي التي تفي بالشكر، الأعمال ذات المضمون التي تحقق رسالة الإنسان في الحياة. الأعمال شكر. والشكر الوحيد هو العمل وتأدية الواجب بصرف النظر عن إرضاء أحد في أن يحقق أوامر الله ونواهيه.
22
لا شكر ولا جحود، ولكن مجرد أداء الواجب وتحقيق الرسالة. ولا يمكن التوفيق بين الطاعة التي تكون شكرا والطاعة التي تسعى لنيل الثواب، فهما فعلان متضادان. والنعم منها ما لا يقدر عليها إلا الله مثل الحياة والموت، ومنها ما يقدر عليها غيره مثل نعمة المعرفة ونعمة الجهاد. فإذا استوجبت الأولى الشكر؛ لأنها من فعل الغير فإن الثانية لا تستوجبه؛ لأنها من فعل الذات. وإذا كانت المنافع ثلاثة: التفضل وهو النفع الموصل إلى الغير أولا، والعوض وهو النفع المستحق لا على سبيل التعظيم والإجلال ثانيا، والثواب وهو النفع المستحق على سبيل الإجلال والتعظيم ثالثا، فإن الشكر يكون في الأول فقط، أي في التفضل ابتداء ولا يكون في العوض والثواب لأنهما استحقاق. الشكر إذن إحدى صور الاستحقاق، أي ربط الإنسان بغيره بقانون متبادل لأداء الحقوق المتبادلة. إن الحقائق موجودة في الطبيعة والشكر إسقاط إنساني عليها وخلط بين الحقائق الطبيعية الضرورية والمعاملات الإنسانية الحرة. إذا كانت نعم الله ابتداء تستوجب الشكر، فإن نعمه التي تتم بجهد الإنسان وفعله نتيجة طبيعية للعمل. وكيف يكون الشكر وهو قليل على نعم كثيرة متجددة لا يمكن استيفاء حقها من الشكر؟
23
وكيف يتم الشكر على أداء الواجب وفي الأمثال العامية: «لا شكر على واجب»؟ وإذا كان الشكر لطلب الثناء وتجنب العقاب، فكيف لا يقع الشاكر في التملق؛ تملق طرف واقتضاء من طرف آخر؟ وإذا كان الشكر ليس فقط للنعم بل للتوفيق، فإن الإنسان سيتحول من كونه فاعلا إلى كونه شاكرا، يلهث لسانه بالحمد والشكر، ويصبح صوفيا ذليلا أسير النعمة، ويتحول موقف الإنسان في العالم من موقف الفاعل إلى موقف المستجدي والسائل أو الشاكر والحامد. ويصبح الشكر بديلا عن الفعل بل وقضاء عليه وقبولا للأفعال الخارجية خيرها وشرها، فما على الإنسان إلا الشكر. إن تعارض الخاطران، أحدهما بالشكر والآخر بعدم الشكر يجعل كليهما واردين في السلوك الإنساني.
24
وكون الشكر عادة لا يعني غياب أي أساس عقلي له؛ فاختلاف العادات لا يعني اختلاف معانيها. التجربة الإنسانية واحدة بالرغم من اختلاف ظروفها.
25
إن إنكار الشكر قد يضع الإنسان أيضا في علاقة آلية مع الغير ومع مبادئه، ويتحول إلى مجرد آلة لتنفيذ الأحكام. وقد يحتاج الإنسان أحيانا إلى الاعتراف بالفضل والجميل كنوع من الاعتراف بالحق تقوية للعزيمة واستمرارا للفعل الحر؛ لذلك لا تثار القضية في الجبر لأن الله خلق العالم اضطرارا لا لغرض، جلب نفع أو دفع ضرر، وكأن الله خلقه بلا غاية منه أو فيه.
سادسا: تنزيه الله عن فعل القبائح
إذا كانت الواجبات العقلية مثل الخلق والتكليف وشكر النعم واجبات من جانب الإنسان، فقد تمتد الواجبات العقلية فتشمل أيضا الله؛ نظرا لأن لفظ الوجوب يطلق على الإنسان والله معا، على الوجوب الأخلاقي والوجوب بمعنى واجب الوجود. بل إن الواجب العقلي الأول، أي الخلق والتكليف، يصعب الحكم عليه، هل هو واجب إنساني أم واجب «إلهي». فالله هو الخالق وهو المكلف والإنسان هو المخلوق وهو المكلف. والواجب الإنساني، شكر المنعم، يصعب التمييز فيه أيضا بين الإنسان وهو الشاكر، وبين الله وهو المشكور؛ فالشكر فعل مشترك بين الشاكر والمشكور وإلا كان هناك جحود ونكران.
وهناك واجبات عقلية أخرى يتضح فيها هذا التوتر بين الجانبين، جانب الله وجانب الإنسان، وذلك مثل تنزيه الله عن فعل القبائح والشرور والآثام والمعاصي، وتبرئته عن فعل الظلم. وكيف يمكن إضافة القبائح إلى الله؟ كيف يمكن تجويز الظلم والجور عليه؟ إن لم تكن هناك واجبات عقلية، فما هو الطريق إلى تنزيه الله عن فعل القبيح؟ تجمع الأمة على أن الله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب، ولكن الخلاف في الأساس والتصور. هل يرجع ذلك إلى ذاته وصفاته، فهو الحاكم يفعل ما يشاء في حكمه، وملك يفعل ما يريد في ملكه، أم لأن ذلك حكم العقل رعاية للصلاح والأصل وإعمالا للغائية والعلية وتعويضا عن الآلام أو على أقل تقدير لطفا بالعباد؟ التنزيه الأول يرجع إلى طبيعة الذات، في حين أن التنزيه الثاني يرجع إلى مصالح العباد. الأول مفروض من جانب الله، والثاني مفترض من جانب الإنسان. (1) هل الله خالق الخير والشر؟
إن أول طريق لتنزيه الله عن فعل القبائح يرجع إلى أن الله خالق كل شيء، يفعل ما يريد، فلا واجب عليه ولا قبيح في فعله. وذلك راجع إلى طبيعته وذاته. هو مالك كل شيء، يتصرف في ملكه كما يشاء. لا يوجد مقياس لفعله ولا حكم بأمر ولا بنهي.
1
ولكن ألا يضل المالك؟ أليس له من يراجعه؟ ألا يوجد مقياس موضوعي آخر عن عقل أو طبيعة أو جماعة، من مصلحة أو مفسدة؟ وهل العالم مملوك أم هو موجود؟ هل يقع العالم في مقولة الملكية أم في مقولة الوجود؟ ألا يؤدي ذلك إلى الجبر المطلق وبالتالي يرجع موضوع الحسن والقبح إلى الموضوع الأول وهو خلق الأفعال؟ أليس في ذلك إثبات للقبح كحق للمالك دون تبرئته منه؟ وكيف يكون الله مسئولا عن الشر والآثام والظلم والقبائح التي لا يمكن نفيها وإن أمكن تبرئة الذات منها؟ وهل يتم حل قضية، وهي قضية تنزيه الله عن فعل الشرور، بخلق قضية أخرى وهي الوقوع في القضاء والقدر وإنكار الشرور في العالم عن طريق هدم خلق الأفعال الذي تم إثباته أولا في الشق الأول من أصل العدل؟ إن قبول كل شيء من الله هو قضاء على خلق الأفعال والحسن والقبح معا لأنه إنكار لمسئولية الإنسان عن الشر وجعل الله مسئولا عنه. كما أنه إنكار للشر ليس لأنه نقص في الخير في الإدراك الإنساني، ولكن تبرئة لله منه عن طريق نسبة كل شيء إليه؛ وبالتالي محو التفرقة بين الخير والشر والتمييز بين الحسن والقبح.
2
والحقيقة أن ذلك تضخيم للسؤال الأول وإحالته إلى سؤال أعم تحاشيا من الإجابة الخاصة، فبدل أن يكون السؤال على مستوى الفعل الإنساني، فإنه يصبح على مستوى الكون والخلق. بدلا من أن يكون السؤال: هل الله هو خالق القبح في أفعال الإنسان؟ يصبح: هل الله خالق الشر خلقه للخير في الكون؟ هل يضر الله كما ينفع؟ والسؤال يتوجه إلى الشر وليس على الخير لأنه من الطبيعي أن يصدر الخير عن الخير، بالرغم مما يثير ذلك في موضوع خلق الأفعال. ويتوجه نحو الشر لتبرئة الله عن الشر، فينتهي بإثباته له لما كان خالقا لكل شيء. ويدل السؤال التقليدي: هل يقال خلق الله الشر؟ على البناء النفسي نفسه الذي يدل عليه سؤال: هل يرزق الله الحرام؟ في آخر موضوع خلق الأفعال، في الآجال والأرزاق والأسعار. وبدلا من أن يكون الهدف تبرئة الله من الشر فإنه ينتهي إلى تبرئة الإنسان منه وجعل الله مسئولا عن كل شيء كما هو الحال في الجبر.
3
إن أخطاء الجبر كثيرة، وعلى رأسها إضافة القبيح إلى الله مع أن الهدف كان هو تنزيهه عن فعله. وكيف يصدر القبح عن الحسن والشر عن الخير؟ والجبر أيضا إنكار لحرية الإنسان ومسئوليته عن القبح، هذه الحرية التي تم إثباتها من قبل في خلق الأفعال وأصبحت أحد مكتسبات العدل، ومن ثم يهدم علم أصول الدين ما بناه من قبل، ويعود من البداية لإثبات الحرية. كما أنه إثبات الوجود الموضوعي للقبيح لأنه مخلوق، والخلق شيء، ولا يمكن أن يخلق العدم أو النقص أو الغياب. وبدلا من تبرئة الله من فعل القبيح فإنه يثبت مرتين، كفعل إلهي وكوجود موضوعي، مرة في الله ومرة في الكون، والإنسان كموجود بين عالمين غائب وحريته ساقطة. وفي الوقت نفسه ينتفي القبح الإنساني نظرا لتسليم الإنسان بكل شيء واعتباره القبح من نسيج الوجود وأحد مخلوقات الله. ويصبح الجبر سلاحا ذا حدين، ينقلب من الإنسان إلى الله، فالقبح ضرورة كونية لا يستطيع أحد أن يغير منها. فتسلب الحرية من الإنسان كما تسلب الحرية من الله، وكأن الله يفعل الشر ضرورة فعله للخير. إن إثبات قدرة مشخصة على فعل القبيح إلغاء لقوانين العقل وحرية الإنسان، ويقوم على التشبيه وعلى إسقاط الإنسان لنفسه خارجا عنه.
4
وإذا كان من الصعب إيجاد حجج عقلية على الجبر وجعل الله خالقا للخير والشر، فإنه يسهل إيجاد حجج نقلية ومنها قصة غواية إبليس لآدم كجزء من الخطة الإلهية. وهذا إنكار للحرية الإنسانية، إنكار لقدرة الإنسان على الدخول في التحدي مع الآخر الغاوي. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعيش في عالمين، عالم الخير والشر، عالم الضرورة والحرية، في حين تعيش باقي المخلوقات في عالم واحد، الحتمية للخير أو الحتمية للشر، وهما العالمان اللذان سميا عالم الملائكة والشياطين اعتمادا على الصورة الفنية.
5
والحقيقة أن الحجج النقلية معارضة بأخرى تنزه الله عن فعل الشرور والقبائح والآثام والمعاصي، وتنسب ذلك كله إلى الإنسان إثباتا لحريته وتثبيتا لمسئوليته.
6
وهل يكفي تنزيه الله عن القبائح ذاتا وصفات، وتنزيهه عن الشهوة والغضب حتى لا يكون هناك شر في العالم؟ والحقيقة أن تنزيه الله عن فعل القبيح بالعودة إلى الذات والصفات ليس استدلالا، بل إثباتا للتوحيد دون تعامل مع القبائح والشرور والظلم والجور في العالم، أي تناول أفعال الإنسان ومسئوليته عنها. وهو عجز عن الانتقال من التوحيد إلى العدل وحل مسائل العدل بالعود إلى أصل التوحيد.
7
بالإضافة إلى أن هذا التصور المثالي للذات إنما هو ناشئ عن نفي صفات النقص عن الإنسان وبالتالي فإن منشأه العدل. فكيف يأتي التوحيد كحل لمسألة العدل؟ اللهم إلا إذا جعلنا التوحيد ناشئا من العدل، وكأن العدل أساس التوحيد! وكيف يتم تبرئة الذات المشخص عن فعل القبيح وفي الوقت نفسه يكون قادرا على كل شيء بفعل الخلق؟
8
إن إثبات الصفات والأفعال على ما بان في التوحيد يؤدي إلى القضاء على حرية الأفعال، كما أنه يؤدي إلى إنكار الصفات الموضوعية في الأشياء.
وقد يتم تنزيه الذات المشخص وذلك بالتمييز بين الذات والصفات وإثبات صفات زائدة على الذات؛ فتكون صفات أفعال وليست صفات ذات.
9
ولكن في هذه الحالة تفعل الصفات في العالم وتهب الأشياء صفاتها من الخارج. وبالتالي تكون الأشياء تابعة في صفاتها إلى قدرة خارجة عنها. فإذا ما كانت الصفات مساوية للذات، فإن الصفات لا تفعل في العالم، وترد إلى العالم موضوعيته، وتصبح صفاته ذاتية ثابتة لا تتغير. فتظهر صفات الأشياء في ذاتها وكأن صفات الذات تصبح صفات الأشياء. ويكون الأمر والنهي من الله كاشفين عن الحسن والقبح في الأشياء. ولا يثبت حسن الفعل أو قبحه بحسن الفاعل أو قبحه، بل يثبت حسن الوضع الناشئ عن الفعل أو قبحه. فالفعل وإن كان صادرا عن فاعل، إلا أنه يهدف إلى تغيير بناء الواقع. فحسنه وقبحه موضوعيان لا شخصيين.
10
وليس المقصود من طرح مسألة الصفات الذاتية للأفعال تبرئة الذات المشخص واتهام النفس، فهذا موقف بطولي عاجز، بطولي لأنه يقوم على اتهام النفس وتبرئة الغير، وعاجز؛ لأنه غير قادر على إدراك الصفات الذاتية للأفعال. ودفاعا عن الله الخير وإثباتا لمسئولية الإنسان عن الشر تكون الإجابة أن الله ليس خالقا للشر. الخير والشر صورتان عامتان لمواقف اجتماعية، نافعة أو ضارة، وليسا شيئين مجسمين. هي أوضاع اجتماعية ناشئة عن ممارسة حريات الأفراد وضغوط الجماهير. ومع أن النفي أكثر تنزيها لأنه يضع عواطف التأليه في حيز الكمال إلا أنه يؤدي إلى إثبات الحرية الإنسانية. فالإنسان يتحمل أفعاله وهو مسئول عنها حتى ولو لم يكن عنها راضيا. وتلك طبيعة الفعل الحر والإحساس بالمسئولية عنه.
11
قد يكون الشر مجرد عرض أو يكون عقابا في الآخرة نتيجة للأفعال وطبقا للاستحقاق وقد يكون مجازا لا حقيقة. وفي كل الحالات تثبت مسئولية الإنسان عنه. الأفعال الحسنة والقبيحة هي أفعال الإنسان، والإنسان مسئول عنها في العالم وأمام الناس. (2) هل الله قادر على فعل القبيح؟
وهو السؤال نفسه السابق ولكن مركز على الصفات، وخاصة القدرة على الفعل الإنساني. وإثباتا لحق الذات ومطلق الصفات يكون الرد بالإيجاب؛ فالله قادر على فعل القبيح. ويمكن إثبات ذلك بعدة حجج عقلية منها القسمة العقلية. فإما أن يفعله ويقبح منه فعله وبالتالي تلزمه الحجج لتنزيهه عن فعل القبيح أو يحسن منه وهو غير معقول.
12
ولما كان إثبات قدرة ذات مشخص على القبيح طعنا في التنزيه وضربا للصفات بعضها بالبعض الآخر وإعلاء للقدرة فوق الحكمة، فإن إثبات أفعال لا واقع لها، بل لمجرد إثبات قدرة هو إثبات قدرة ينقصها الوعي والعقل والحكمة؛ وبالتالي يكون إثبات القدرة أولى. لا توجد إذن أفعال بلا قدرة. يثبت حسن الأفعال وقبحها الإرادة الواعية وراء الأفعال. القدرة والعلم كصفتين مطلقتين لذات مشخص واحد لا يتعارضان.
13
والقادر على الفعل قادر على جنسه. ولما كان الحسن مثل القبح فالقادر على الحسن قادر على القبح. تتعدى قدرة الذات المشخص من القدرة على القبيح وجنسه إلى القدرة على جميع الأجناس في الطبيعة. بل إن الإنسان إذا كان قادرا فإنه يكون قادرا على مقدور غيره؛ إذ تساعد الرغبة في البطولة من لا يستطيع أن يكون بطلا في تحويل عجزه إلى قدرة مشخصة يجعلها قادرة على عمل ما هو عاجز عنه أو أقدر مما هو عليه قادر.
14
ولو استوى الصدق والكذب فإن الإنسان يكون أقرب إلى فعل الصدق. وهو الدليل نفسه لإثبات الحسن والقبح العقليين، وأن الفاعل قد يفعل الفعل لحسنه، وأن الإنسان قادر على التفرقة بين من أحسن وبين من أساء إليه. ولو قال فعلت الحسن لحسنه لكان الجواب مقنعا.
15
وحكم القادر لنفسه أقوى من حكم القادر بقدرة في أن مقدوره لا ينحصر في جنس واحد. الفعل تعبير عن ضرورة.
16
وفعل لا يقع ضرورة، بل قد لا يقع ولا يقع فعل لا يهدف على عكس البشر.
17
والحقيقة أن هذه الحجج كلها إنما تثبت القدرة النظرية دون تخصيصها بالقبح. وتؤدي إلى ظهور الواقع الإنساني الهش ثم تدعو الحاجة إلى إجراء تنزيهي مضاد وقياسا للغائب على الشاهد وهو أساس الفكر التشبيهي. وما الحكمة من إثبات القدرة النظرية على فعل القبيح ثم حدها بعد ذلك بحكم العقل، فالله لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب بحكم العقل؟ وكيف يتم التوفيق بين القدرة على فعل القبح وأنه ما هو قبيح منه يتركه وما يجب عليه يفعله، إذ لا حاكم بقبح القبيح ووجوب الواجب إلا العقل؟
18
وكيف يكون قادرا على فعل القبيح وهو صادق لذاته؟ ألا يفترض ذلك تناقضا بين الذات والصفات؟
19
وما الحكمة من إثبات القدرة النظرية على فعل القبيح ثم تقييدها بوجوب الصلاح والأصلح في الدنيا والتعويض عن الآلام في الآخرة وباللطف؟
20
إن إثبات القدرة على ما إذا فعله كان قبيحا إثبات نظري خالص دفاعا عن حق الذات الخالص. وإن إثباتا نظريا لقدرة الذات على فعل القبيح لا يثبت شيئا بالفعل. فما الفائدة من قدرة نظرية لا تتحقق عملا؟ وكيف تكون قدرة ذات مطلق غير متحققة بالفعل؟ إن إثبات قدرة نظرا ونفيها عملا أقرب ما يكون إلى تحصيل الحاصل أو إثبات الشيء ونفيه أو إثبات العلة ونفي المعلول. إن إثبات قدرة للذات المشخص على فعل القبيح إخراج للإنسان من موقفه وتنصيبه مدافعا عن غيره وليس مدافعا عن نفسه. وإن إثبات قدرة للذات المشخص على فعل القبيح قد لا يثبت قدرة بقدر ما يثبت طغيانا. صحيح أن القدرة قدرة عاقلة وليست قدرة غاشمة، وهي قدرة مدركة للقبيح وفعله ولكن تظل القدرة أعلى من الحكمة. إن جواز القدرة على الكذب تغليب للحرية على العقل وهو غير معقول تماما مثل جواز عدم القدرة على الكذب وتغليب العقل على الحرية.
وتوجد حلول متوسطة تحاول الجمع بين إثبات القدرة وإثبات العدالة الإنسانية، منها إثبات الأولى نظرا والثانية عملا، الأولى كحق نظري والثانية كواقع عملي. وعيب ذلك الحال هو اعتبار الحق النظري غير واقع، واعتبار الواقع العملي غير قائم على حق نظري، وبالتالي الفصل بين النظر والعمل وهو ما لا يجوز لا في علم الله الواقع ولا في فعله الحكيم.
21
وقد يحدث الجمع بين القدرة المطلقة والعدالة الإنسانية بإثبات حق القدرة المطلقة ثم وضعها في نطاق الكمال. فالمطلب الخلقي يوجب الحق الطبيعي. والكمال هنا هو الحسن العقلي والعلم. فالعلم فضيلة وصفة من صفات الكمال، والظلم جهل وآفة يعبر عن حاجة، جلب منفعة أو دفع مضرة، وهو ما يستحيل على الله.
22
وقد يعاد وضع المسألة من جديد دون الدخول في المتاهة العقلية ثم يفرض الشعور بالتنزيه صياغة عقلية جديدة. وهنا لا تفعل القدرة العدل اضطرارا بل اختيارا، أي إن الحرية العاقلة التي تميز الإنسان أعطيت للقدرة المشخصة فأنارتها.
23
ومن ضمن الحلول المتوسطة الأخرى أن يخلق الله الظلم للظالم والجور للجائر. فالظلم والجور ليسا فعلين صوريين بل فعلان ماديان.
24
ويصبح الأمر أكثر إشكالا إذا ما تدخل الله في أفعال العباد وأجبرهم على الجور أو الظلم. فمن أجل حل قضية العدل تثار من جديد قضية الحرية وينتهى فيها إلى الجبر.
25
فإذا كان الرد بالإيجاب، أي إثبات القدرة كتعبير عن عواطف التعظيم والإجلال، فإن ذلك يقضي بتاتا على العدالة الإنسانية وعلى مثالها في العدل الإلهي.
26
ويكون التنزيه قد أراد تأكيد جانب فقضى على جانب آخر. بل إنه يقضي على الفعل الإلهي ذاته لأن القدرة المطلقة قادرة على فعل ما أخبر عنه أنه لا يفعل! وهذا طعن للإنسان في العدالة البشرية وقضاء على ما يمكن للإنسان أن يجعله رسالته. وتكون النتيجة في السلوك البشري القضاء على الحياة الإنسانية وعلى كل ما فيها من قيم وإثبات الدكتاتورية والطغيان. ففي الإمكان القضاء على كل شيء في هذا العالم ثم بث روح المذلة والاستكانة والرهبة والخوف. فليس هناك قيمة ثابتة يدافع الإنسان عنها ويركن إليها. ومن ضمن الحلول المتوسطة الجمع بين الإثبات والنفي للمحافظة على القدرة المطلقة والحرية الإنسانية في آن واحد مثل نفي علم قديم بالإرادة ثم إثبات حدوث هذه الإرادة بالفعل.
27
ولكن هل ينفي العلم القديم من أجل إثبات الحرية، وهو نقص في عواطف التأليه بالنسبة إلى العلم كما أنه يثبت تدخل الإرادة حتى ولو كانت حادثة؛ وبالتالي تنتفي الحرية؟ ومن نوع الحلول المتوسطة نفسها التفرقة بين إرادتين، إرادة ذات قديمة وإرادة فعل حادثة ، أو بين إرادة التكوين وهي شاملة للأشياء جميعا وإرادة الفعل التي تترك للفعل الإنساني حريته واستقلاله.
28
أما الجمع بين النفي والإثبات من أجل تنزيه التأليه عن الشر وإثبات الحرية الإنسانية للشر، فإنه أيضا يحد من القدرة المعظمة وفي الوقت نفسه ينفي الحرية الإنسانية للخير، ويوزع الخير والشر بين الله والإنسان.
29
وتتوالى الحلول المتوسطة إلى أن تصبح أقرب إلى نفي القدرة على فعل القبيح وبالتالي نفي القدرة على الظلم باعتباره المثل الصارخ على القبح. وتصبح الغاية من نفي القدرة على فعل القبيح هو تنزيه الله عن فعل الظلم؛ وبالتالي يبلغ أصل العدل قمته في نفي نقيضه وهو الظلم. فبعد تدخل القدرة الإلهية في مواجهة الفعل الإنساني لإثبات عظمتها وسيطرتها عليه انتقلت إلى العدالة الإنسانية لإثبات قدرتها على قلبها وتغييرها إلى الضد؛ ومن ثم ظهر السؤال بوضوح: هل يوصف الله بالقدرة على الظلم؟ فإذا كان الرد بالإيجاب تتحول القدرة إلى شبح مخيف يقضي على المبادئ الإنسانية العامة التي تماثل صفات الله المطلقة. تنفرد صفة وهي القدرة تصول وتجول في باقي الصفات كالعدل، وعلى آثار العدل في الحرية الإنسانية مثل العدالة. ويكون الطريق إلى التنزيه هو إثبات القدرة على فعل الضد. ولما كان الضد على الإنسان، فإنه لا يستعصي على القدرة المعظمة. أما الرد بالنفي فإنه حد لهذه القدرة في مواجهة العدل. ويأتي هذا الحد من داخل القدرة ذاتها؛ فهي قدرة تقوم على الحكمة والرحمة والعقل والعلم وتظهر في الطبيعة ولا توجب الحدث. وقد تكون مجرد افتراض نظري أو تمن يعبر عنه بأداة الشرط «لو»، ثم يصل الأمر إلى نفي القدرة الإلهية علانية حرصا على العدل الإنساني.
فقد يكون السبب في حد القدرة هي الحكمة استنكافا من تعبير عدم القدرة وهو أخف من القول بالعجز. وقد تشفع الحكمة بالرحمة كي تصبح حكمة عملية أو بالعقل لتصبح حكمة نظرية. فالله يقدر على الظلم ولكنه لا يفعل لحكمته ورحمته، وهما صفتان للذات، ويقدر على الظلم ولكن العقل يدل على أنه لا يفعل.
30
وقد يكون قادرا على ظلم الأطفال والمجانين دون العقلاء. وذلك يعني أن العقل قدرة على مقاومة الظلم والدفاع عن العدل. وهو الضامن للقيم والحارس لحقوق الإنسان. ولا مكان لضعاف العقول ولا للأغبياء في هذا العالم. ومع ذلك فإن هذا التصور لا يجعل العدل صفة ذات بل مجرد صفة فعل متغير متقلب طبقا لأحوال الناس، وكأن الله ينتهز الفرصة ليظلم الضعاف والصبية والمجانين ويكذب عليهم؛ وبالتالي يحملهم ما لا طاقة لهم به خاصة وأن مسئولياتهم عن أوضاعهم التي هم عليها محدودة؛ فصغر السن والضعف الجسماني والمرض النفسي يمنع من وقوع الأفعال الواعية الحرة. كما أن ذلك ليس من شيمة العظماء؛ استضعاف الناس والخوف من الأقوياء.
31
وقد لا يوجد أي حرج في القول صراحة بأن الله لا يقدر على فعل القبيح بالرغم مما في التعبير من نيل من إطلاق القدرة. فقد لا يفعل الله القبيح لعلمه أنه قبيح؛ ومن ثم فلا يختار فعله على أي وجه. ينفي القبح من أجل العلم. فالله قادر على فعل ما علم أنه يفعله ولا يقدر على فعله ما علم أنه لا يفعله.
32
والحقيقة أن ذلك تناقض لأنه كيف يقدر الله على ما لا يعلم؟ إن عدم القدرة يحتاج إلى علم وهو غير موجود. كما أن جعل القدرة تابعة للعلم هو جعل العلم أعلى من القدرة. والصفات متساوية في الإطلاق والشمول. ولا يحل الإشكال إلا بجعل القدرة تابعة للعلم. وفي هذه الحالة تكون القدرة مشروطة، وما دامت مشروطة فهي مقيدة، وفي كل الأحوال يمكن فهم ذلك. فلإنسان مع العلم وكمال العقل لا يفعل القبيح ولا يقع منه التشويه. وفعل القبيح نقص وذم. كما يفعل الإنسان الحسن لذاته كما يفعل الفنان أو الصوفي أو المثالي. هو فعل يتصف به المتطهرون أو من يود الإعلان عن الطهارة بإلصاقها بالذات المشخص ووصف أفعاله من خلالها.
ويرجع السؤال القديم في التوحيد: هل الله قادر على ما علم أنه لا يكون؟ هل يجوز كون ما علم الله أنه لا يكون؟ ويعاد طرحه هذه المرة في العدل على المستوى الإنساني الخالص: هل الإنسان قادر على ما علم الله أنه لا يكون؟ والرد بالنفي إثبات لعجز الإنسان أمام علم الله وقدرته، وهو المطلوب. في حين أن الرد بالإيجاب إثبات للقدرة الإنسانية على أنها مصدر لتكوين الأشياء.
33
والحقيقة أن السؤال يضعه الذهن أمام الشعور حتى يستطيع الشعور أن يجد فرصة لديه للتعبير عن عواطف التأليه، خاصة إذا كان السؤال حادا يسمح بنبرة عالية في الرد. وإذا كان الذهن هنا يعارض القدرة بالعلم فهل تستطيع القدرة أن توجد ما قرر العلم عدم وجوده؟ بالرغم من أن السؤال يحتوي على تناقض داخلي وهو العلم بما لا يكون أو كون ما لا يعلم، وبالرغم من أنه يحتوي على نقص في عواطف التأليه، إذ كيف تكون صفتان مطلقتان مثل القدرة والعلم متعارضتين إلا أن الذهن يقدمه كي يسمح للشعور بالتمرين وإظهار مدى انفعاله بالتأليه. والرد بالإيجاب يثبت عظمة القدرة على حساب العلم على ما في ذلك من نقص في عواطف التأليه بالنسبة إلى العلم. بل تكمن خطورته في تثبيت العقلية الغيبية والإيحاء بأنه يمكن العلم بشيء غير موجود أو إيجاد شيء بلا علم. وهو السؤال نفسه: هل خلاف المعلوم مقدور؟ وقد ينشأ حل متوسط يجمع بين الإثبات والنفي، يثبت القدرة على الإمكانية؛ إمكانية كون ما علم أنه لا يكون ولكنه ينفي وقوع ذلك بالفعل.
34
وقد توجد حلول متوسطة أخرى خارج أصلي التوحيد والعدل، والسبق إلى السمعيات أو بالعودة إلى المقدمات النظرية الأولى في الطبيعيات واللغويات. يقال مثلا إن الله لو فعل القبيح لجاز أن يبعث رسولا كاذبا ويظهر المعجز على يديه ليدعوهم إلى الضلال والكفر. والمعجزة دلالة تصديق.
35
وقد يمنع الظلم إذا ما وصلت القدرة إلى الطبيعة والأجسام وأصبحت هذه معراة عن العقول واستحال الوصول إلى الذات من الطبيعة وإلى إثبات وجود الله ابتداء من العالم على ما هو معروف في نظرية الوجود في المقدمات النظرية.
36
فكما أن الحرية الإنسانية قادرة على مقاومة القدرة الإلهية فإن قوانين الطبيعة عليها أقدر. وحتى لو استطاعت القدرة الإلهية فعل الظلم فإن ذلك لا يوجب حدث الأجسام وتظل الأجسام باقية ثابتة. وتبلغ قمة مقاومة الطبيعة وإثبات استحالة اختيار الجور في القول بالطباع وبشمول المبادئ الإنسانية من أجل نفي القدرة على الظلم. وإذا دل الدليل على أن الله يظلم فإن الله يظل متعاليا ليقين أنه لا يظلم.
37
وقد يمنع القبح والظلم من أفعال الله لأن السؤال يظل افتراضا خالصا. كما أن أداة الشرط «لو» لا تدل على الشك؛ الشك في العدل، بل على اليقين؛ اليقين بعدم الظلم.
38
وقد يكون نفي القدرة على الظلم واجبا دون أن يقال «لا يقدر»، أي الاعتراف بالظلم دون إصدار حكم على نفي القدرة.
39
وفي حالة اليأس تلغى المتاهة العقلية بالتوقف المطلق.
40
وقد يأتي الحل الأخير بكل قوة وشجاعة لا خلاف في ذلك بين الأشعري ذاته وبعض المعتزلة والإعلان صراحة على أن الله لا يقدر على فعل الظلم. إذ لا يجوز أن يوصف الله بالقدرة على الكذب أو الحركة أو الجهل، إما لصفة في القديم أو لصفة ترجع إلى المقدرة أو لبعض الأدلة لاستحالة كون المقدور مقدرا أو لأن ذلك ينقص أصلا من أصول التوحيد والعدل.
41
وقد يكون الدافع لذلك الإيمان وشناعة القول بأن الله يقدر على الظلم والتضحية بالقدرة وبأن الله قادر على كل شيء حتى يصل الأمر إلى افتراض الجبر في الله وتحديد قدرته، وبالتالي ينقلب الجبر في أفعال الإنسان إلى جبر في أفعال الله. وقد يكون الدافع هو التصور الجبري للعالم؛ نظرا لنظام الكون الثابت على ما هو معروف في علوم الحكمة. وقد يكون الدافع هو إثبات الصفات الذاتية للأشياء وبالتالي يفرض الموضوع نفسه على الإرادة. وبالتالي تكون استحالة القدرة على الظلم دفاعا عن الإنسان عملا بصرف النظر عن الحق النظري الواجب للذات المشخص. ويكون الرد على السؤال بالنفي إثباتا للتنزيه وللصفات المطلقة وعلى رأسها العدل الإلهي كما أنه يحفظ المبادئ الإنسانية العامة وعلى رأسها العدالة دون أن يكون في ذلك إلحاد فلسفي أو كفر مجوسي.
42
ومن ثم يفلت المتكلم أحيانا من قبضة الإرادة المطلقة ويقضي على اغترابه ويعود إلى العالم ويصبح متكلما باسم الإنسان مدافعا عن عقله وحريته.
سابعا: الصلاح والأصلح، الغائية والعلية
فإذا ما صعب تنزيه الله عن فعل القبائح عن طريق الذات والصفات، فإن كون الإنسان خالقا لأفعاله لا يمنع من أن يكون الله خالقا لكل شيء، كما أن نفي قدرة الله على الظلم بالرغم من جرأة التعبير لا يمنع من أن يكون الله قادرا على كل شيء؛ فلم يبق إلا محاولة ذلك من جديد خارج الذات والصفات في الأفعال. فأفعال الله تتم طبقا لما فيه صلاح العباد. ولم يدخر الله وسعا في فعل الأصلح لهم. وكذلك طبقا للغائية والعلية فكل أفعال الله غائية تهدف إلى غاية وغرض وليس فيها عبث أو تناقض، ومن ثم فهي أفعال معللة بالعلل الغائية. وصلاح العباد وفعل ما هو أصلح غاية الأفعال الإلهية وعلتها كما هو واضح في الشريعة التي تقوم على جلب المصالح ودرء المفاسد. وهنا تتوقف الأفعال؛ فعل الصلاح والأصلح في مواجهة الذات والصفات، خلق الله لكل شيء وقدرته على كل شيء، ويقف العدل في مواجهة الظلم، ويقف صلاح العباد في مواجهة قدرة الذات، وكأن أصل العدل لا يجد إثباتا له إلا في مواجهة أصل التوحيد ومستقلا عنه.
1 (1) هل يمكن نفي الصلاح والأصلح؟
يمكن نفي الصلاح والأصلح عن طريق نفي الواجبات؛ فالله لا يجب عليه شيء من صلاح أو أصلح. هو عدل في أفعاله، بمعنى أنه متصرف في ملكه، يفعل ما يشاء، لا حاكم عليه، وإلا استوجب الذم بتركه، وإن تركه يكون ناقص الفضل وهو محال.
2
وهذا في الحقيقة إرجاع لأصل العدل إلى أصل التوحيد من جديد بعد أن انبثق منه، وعود للإنسان المتعين داخل الإنسان الكامل، وبالتالي قضاء على الموضوع من الأساس؛ فالإنسان المتعين خالق أفعاله، وقادر على العقل والتمييز، لا يملكه أحد، ولا يملي أحد عليه إرادته. وقد بلغت ذروة هذا الرجوع إلى بطن التوحيد في إلغاء الخلق والتكليف، وهو أول الواجبات العقلية في القصة الرمزية للإخوة الثلاثة. توفى الأول صبيا، وبالتالي فلا يثاب ولا يعاقب، في حين بلغ الثاني والثالث، فآمن الثاني ودخل الجنة، وكفر الثالث ودخل النار. فإذا سأل الأول لماذا لم يعش حتى يؤمن ويدخل الجنة في أعلى عليين؟ كان الرد أن الأصلح له أن يموت صغيرا فلو عاش لكان قد كفر فعذب في النار! حينئذ يهب الثالث محتجا ومتسائلا ولماذا لم يمت هو منذ الصغر؟ فقد كان الأصلح له أن يدخل الجنة ولو في رتبة دنيا أفضل من أن يعذب في النار؟
3
فهذا عود من جديد إلى أصل التوحيد في سبق العلم الإلهي لما يحدث وتوجيهه ضد الحرية للقضاء عليها. ولكن إذا كان العقل والحرية هما السبب في فعل الأصلح، فالأصلح نتيجة طبيعية لهما وليس ضدهما. تقوم هذه القضية إذن على خلط بين مستوى الصلاح ومستوى الحرية. فالإنسان يعمل في إطار العمر والقدرات الفعلية والعقلية. لا يتخلى عن حريته إذا ما كانت نتائج أفعاله ليست في صالحه. الحرية هي الأساس في صالح الإنسان. والقصة استدراك ورجوع إلى الوراء وافتراض خالص يقوم على «لو»، أي إنها حجة افتراضية وليست واقعية. بالإضافة إلى أن «لو» قضاء على الفعل إلى اللافعل وإمساك عن التقدم إلى التأخير، وتفضيل لعدم الخلق والتكليف على الخلق والتكليف. وعلى هذا النحو قد يتعدى نفي الأصلح من الأفعال إلى الخلق كله، وبالتالي يكون الأصلح للعاصي ألا يخلق، ورفض الخلق هو كفر بنعمة الحياة أولا وتخل عن الرسالة ونكوص عن المسئولية قبل أن يكون عصيانا في فعل معين.
4
وقد يتعدى أيضا إلى رفض التكليف وأن يكون الإنسان مخلوقا جمادا أو حيوانا؛ وبالتالي ينكر الإنسان نعمة العقل وفضيلة الجهاد. وإنكار حرية الإنسان هو إنكارها للبشر. وأن الشك في صحة التكليف لعلم الله المسبق بكفر الكافر، وبالتالي لا يكون تكليفه صلاحا له وإن كان أصلح للمؤمن، هو عود لضرب الله بالإنسان، دون استطاعة الإنسان أن يفلت منه، في حين أن أصل العدل هو إثبات للإنسان الحر العاقل من داخل الإنسان الكامل، القادر والعالم على الإطلاق ؛ ومن ثم كان الأصلح للإنسان إثبات الحرية وكونه مسئولا عن أفعاله وأن ما يأتيه بحريته واختياره وليس بفعل آخر أصلح له. وبالتالي تجب ثورة الفقراء والمعذبين على أوضاعهم التي ليس فيها صلاحهم لأن الأصلح لهم ممارسة الحرية والغضب وتغيير الوضع القائم إلى وضع أفضل. الصلاح والأصلح إذن حقيقة إنسانية تحدث في الموقف الإنساني وليس افتراضا خياليا يبدأ بأداة الشرط «لو» التي تمحو الخلق والحياة والعقل والتكليف والفعل. وإن جعل حقائق الحياة افتراضا قضاء على البواعث وتسكين للأفعال. والأصلح ليس للفرد بل للجماعة، وإلا فلا معنى للتضحية والشهادة وإنكار الذات. وهو لا يتغير من فرد إلى فرد، ومن وقت إلى وقت بل الصلاح حقيقة موضوعية، هو الصالح العام. قد يحتوي الصالح العام على خسارة فردية ولكنها غير دالة بالنسبة إلى الصالح العام. ليس الصالح هو الأنفع بالنسبة إلى الشخص بل إلى النوع، والإنسان قادر على التمييز بين مستويات الصلاح والأصلح.
5
الأصلح هو الأنفع بوجه عام، إذ يوصف الفعل بأنه نفع وسرور وصلاح وأصلح وليس مجرد لذة وألم أو نفع أو ضرر. هناك مراتب للصلاح والأصلح من حيث المستوى (للفرد أو للجماعة)، والشدة (اللذة والألم، النفع والضرر، الإصلاح والإفساد)، والزمن (الفناء والبقاء). ومن ناحية أخرى قد يقال إن التقيد بالأصلح يجعل أفعال الله متناهية في حين أن أفعاله لا متناهية؛ ومن ثم يؤدي القول بالصلاح والأصلح إلى الجبر في أفعال الله. وإذا كان الله يفعل تفضلا وكرما ولطفا، فاللطف بهذا المعنى نفي للصلاح والأصلح.
6
والحقيقة أن الأصلح هنا بالنسبة إلى الإنسان وليس بالنسبة إلى الله. وهو صلاح محدود في إطار الموقف الإنساني ولا يقلل من لا تناهي الصلاح بالنسبة إلى الله وقدرته عليه. ولو كان الصلاح رفع الموانع وإزاحة العلل لكان في ذلك قضاء على الحرية الإنسانية من جديد، إعطاء الصلاح بيد وسلب الحرية باليد الأخرى، خطوة إلى الأمام ثم خطوة إلى الخلف. وإذا كان الأصلح للناس عدم الحياة والابتداء من الآخرة مباشرة فإن ذلك إلغاء للدنيا ورفض للرسالة وترك لنعم الحياة والتحقق والعمل والإبداع والاستشهاد.
إن نفي الصلاح والأصلح هو هدم للعقل والقدرة على التمييز وإنكار لصفات الأشياء الموضوعية، وهو إنكار أيضا للمصلحة وهي أساس الشرع، وهدم لمصالح الفرد والجماعة وما به حياة الأمة وقوام الدولة. وبالتالي يترك الفرد والأمة بلا عقل مستقل قادر على التمييز وبلا إدراك للصالح العام، فيستسلم الجميع لإرادة الحاكم الفرد المطلق الذي يقرر بمحض إرادته ما هو الصلاح وهو بطبيعة الحال الأصلح له والأفسد للأمة. وقد ظهر ذلك في العقائد المتأخرة الموازية للنظم السياسية التي تقوم على سلطان الحاكم المطلق. وإذا كان خالق الأفعال المطلقة الشاملة للعدل خارجا عن الوجوب انقضى العدل، فالعدل والوجوب واجهتان لشيء واحد. إن هدم العقل والشرع هو هدم لكل قانون بما في ذلك قانون الاستحقاق وبالتالي يعيش الإنسان في عالم من الظلم أو من العبث ولا يجد أمامه إلا الاستسلام للحاكم المطلق، يفعل له ما يشاء؛ وينتهي الأمر كله عنده إلى الرضا بالأمر الواقع، فيرضى الفقير بفقره ويسر الغني بغناه، ويتحول العدل الإنساني إلى ظلم إلهي، ويعود العدل من جديد في بطن التوحيد.
7 (2) إثبات الصلاح والأصلح
إن فعل الصلاح والأصلح ليس قانونا صوريا أو فعلا مطلقا لإرادة خارجية، بل قانون مادي قائم على صلاح الإنسان والأصلح للأمة. ليس الإنسان هو الفرد الأوحد، بل الإنسان العام الذي لا يتغير بتغير الزمان والمكان. وليست مصالح الأمة هي الأمة الفريدة بل هم البشر في كل زمان ومكان. وهي حقيقة إنسانية تقوم على العقل والطبيعة؛ لذلك قام الوحي على المصلحة، وأصبح أساس التشريع درء المفاسد وجلب المصالح. إن اختيار إنسان للأصلح ضرورة مطلقة في النظر والعمل، في الوحي والتطبيق. المصلحة أساس الشرع، لا تعبر عن تكوين ذات مشخصة بقدر ما تعبر عن الحياة الإنسانية، لا تطبق على الله بل على الإنسان. والله بإنزاله الوحي يبغي مصلحة الإنسان كما يبغي مصلحته الخاصة. ولا يبغي الله مصلحة نفسه كما لا يبغي الإنسان مصلحة الله؛ فالمصلحة أساس علم الأصول بشقيه؛ علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. الصلاح والأصلح هما إذن ضمن الواجبات العقلية مثل الخلق والتكليف وشكر المنعم، وأحد وسائل تنزيه الله عن فعل القبيح. وهي واجبات يتصورها الإنسان في الطبيعة بصرف النظر عن الذوات المشخصة، الإنسان أم الله. وإذا ما قيل إنها واجبات على الله، فإن ذلك يكون قياسا للغائب على الشاهد.
8
والشاهد هو التجربة الإنسانية أو تجارب الجماعة والتاريخ، وهي مصدر الحقيقة الإنسانية وحوامل المعاني. ولما كان فعل الأصلح مشاهدا في هذا العالم كان فعله أيضا في أي عالم آخر. وأن قسمة الأحكام إلى واجب ومندوب لا تعني نقصا في ضرورة الأصلح؛ فالمندوب لا يعني تمنيا وتفضلا، بل هو الأصلح المختار الذي يكشف عن حرية الإنسان في اختيار الأصلح. فالصلاح متفاوت الدرجات والإنسان يختار أعلاها لنفسه؛ لذلك كان فعل الصلاح لا ينافي تكافؤ الفرص لأنه اختيار إنساني. وإذا كان الله من خلال الوحي قد فعل الصلاح فإن الإنسان له حرية الاختيار في أن يزيده، وبالتالي يفعل الأصلح أو يقله فيفعل الأقل صلاحا.
9
فإن قيل: إن كان الله يفعل الصلاح فهل يفعل الأصلح؟ وهل يمكن أن يفعل الصلاح وهو قادر على فعل الأصلح؟ وهل هو قادر على فعل الأصلح ولا يفعل إلا الصلاح؟ قيل إن كل هذه افتراضات وهمية ناتجة عن افتراض تدخل إرادة خارجية في الحياة الإنسانية. وإن من المشاهد في الحياة الإنسانية أن الإنسان لا يدخر وسعا في فعل الصلاح والأصلح. وإذا اختار بين الأقل صلاحا والأكثر صلاحا فإنه يختار الأصلح. وإذا اختار الآن الأقل صلاحا فقد يكون لصلاح أعظم فيما بعد. إن اعتبار الأصلح للإنسان بعد الخلق والتكليف، كإنسان حر عاقل واعتبار الأصل له نهاية وكل وغاية إنما تفضيل للواقع على الممكن، وإيثار للعمل على النظر. وما الفائدة من أصلح نظري غير محدد ولا يتحقق منه شيئا؟
10
فإذا ما كان هناك أصلح نظري لا يستعمل فإنه يصبح لطفا، وبالتالي يصبح السؤال: هل يقدر الله على خلق لطيفة لمن علم أنه لا يؤمن كي يؤمن؟ وهنا يقدم العقل للشعور صفتين متعارضتين، هما القدرة والعلم، حتى تكون فرصة أمام الشعور للتعبير عن عواطف الإجلال والتعظيم. فالإثبات تأكيد لسلطان القدرة على حساب العلم، مع أنه أيضا صفة مطلقة، ولكن يشفع لها أنها تتدخل لصالح الإنسان. والتدخل في حد ذاته حتى ولو كان لصالح الإنسان قضاء على استقلال الحرية الإنسانية وحل الشق الثاني من العدل، أي الحسن والقبح العقليين، على حساب الشق الأول منه، وهو حرية الأفعال. وإذا ما ثبت الوضع القديم إن كان فيه ضرر على الإنسان فكيف يحدث ذلك والتأليه منبع الخير؟ أما النفي فإنه تأكيد للحرية الإنسانية حتى ولو كانت في غير مصلحة الإنسان. فالفعل الحر المستقل نابع من إرادة الإنسان حتى ولو كان ضارا له. ويؤثر الإنسان فعلا حرا ضارا على فعل نافع من إرادة خارجية تعمل لصالحه.
11
وماذا لو رفض العقلاء اللطف ما دام العقل لديهم قادرا على الوصول إلى التكليف ومعرفة الصلاح والأصلح من العقل والسمع معا؟ إن افتراض أن يكون الله قد ادخر لطفا لمن علم أنه لا يؤمن حتى لا يؤمن تجويز للظلم على الله، ونفي لحرية الإنسان واختياره، وقضاء على عقله واستقلاله. فأفعال الشعور الداخلية مثل الإيمان والكفر أفعال حرة قائمة على العقل والتمييز.
12
فإن كان هناك أصلح وإن كانت لدى الله ألطاف أخرى لا نهاية لها يعطيها للبشر اختيارا، فلماذا ادخرها الله ولم يعطها حتى يكون العالم أفضل العوالم الممكنة وتغليبا للأصلح على الصلاح؟ ومتى يعطيها الله ومتى يهبها وطبقا لأي مقياس ولأي مدى؟ أليس في ذلك تدخل في الحرية الإنسانية التي أصبحت من قبل أحد مكتسبات العدل، والذي بدوره خرج من بطن التوحيد؟ وما الفائدة من لطف غير مستعمل، مجرد إثبات حق نظري، إثباتا للقدرة المطلقة؟ وقد تم ذلك من قبل في التوحيد، وفي العدل لا تحدث شيئا. إن مصلحة الفرد والجماعة ليست نعمة أو إحسانا أو تفضلا أو لطفا من أحد، بل نتيجة للجهد والمشقة والمعاناة. والأصل ضرورة موضوعية لا صلة لها بالعواطف المشخصة والانفعالات الذاتية والإكراميات شكرا وثناء، حمدا وتبجيلا. ولما كانت الشريعة تقوم على جلب المصالح ودرء المفاسد، فقد يأخذ السؤال صيغة الضرر ويكون: هل يقال إن الله يضر أم لا؟ فالإثبات يبقى إثبات القدرة المطلقة ونفي أية صفة من صفات العجز، وإلا كان هناك نقص في عواطف التأليه وبصرف النظر عن حقوق الإنسان وحياته أو ما ينتج عن إثبات هذه القدرة من طغيان ونفي للعدل وإثبات للطاغوت. وتكون الإجابة بالنفي دفاعا عن حقوق الإنسان وإثبات حقه في دفع الأضرار عن نفسه ومقاومة الظلم.
ولا يؤدي القول بالأصلح إلى رفض الآلام والمشاق الناتجة عن الأفعال؛ لأن الإنسان يفضل أن يركن إلى الكسل والراحة وحياة الدعة والسكون والتعب والنصب والجهد والألم والجرح. كل ذلك لا يمثل نقضا للصلاح والأصلح؛ فالذات تضع نفسها بالجهد وتثبت وجودها بالمقاومة. والغاية من بذل الجهد تحقيق الوجود الإنساني، والإنسان بلا جهد حر يتحول إلى ظاهرة طبيعية حتمية. وبالتالي إذا كان الله متفضلا بالثواب فكيف يجوز الجهد؟ ليس في فعل الأصلح أي جهد زائد أو كدر لا يتحمل، بل هو تأدية للدعوة وضرورة داخلية وأداء للرسالة. فعل الأصلح في حد ذاته فعل إيجابي وليس له أي جزاء آخر، إلا أنه في الحياة العملية كمال للإنسان.
13
ولا يقال أيضا إن الأصلح ألا يعاقب الإنسان في أفعاله وأن يغفر له ويتوب، وبالتالي يتحول الأصلح إلى أن يكون دفاعا عن مصالح الإنسان، ورغباته وأهوائه، وإلى هدم القانون إن لم يكن هناك مقياس موضوعي عام للأصلح دون الوقوع في الفردية والنسبية والمصلحة الشخصية؛ وبالتالي يتخلى الإنسان عن نتائج أفعاله.
14
الأصلح ليس بالرجوع إلى الوراء والتمني، بل هو التقدم إلى الأمام. الأصلح للإنسان أن يكون حرا وإلا كان ظاهرة طبيعية. الأصلح للإنسان أن يرتبط مصيره بالحرية حتى يكون مسئولا عنها محاسبا عليها. ليس الأصلح للإنسان رفض العقل والبلوغ وأن يعيش الإنسان مخلوقا حيا دون أن يكون له عقل بالغ فيعيش حيوانا أعجما أو طفلا أو مجنونا أو معتوها. وكيف يكون هناك أصلح إذا ما اخترم الإنسان قبل العقل والبلوغ؟ إنما الصلاح يقع في حياة الإنسان الحر وليس فقط نتيجة هذا الجهد. ودون عقل لا يكون هناك استحقاق مدح أو ذم.
15
وكيف يمكن شكر النعم كواجب عقلي وعلى فعل الأصلح كواجب حتمي إن لم يكن هناك فعل وإدراك؟
16
ولا يقال إن الأصلح للإنسان ألا تأتيه الرسالة وألا يقوم الرسول بالتبليغ وأن يصرف الله إرادته عنها؛ فالتكليف واجب إنساني. وجهد الإنسان الحر بالنسبة له عملية تتحقق لا تتحدد نتائجها إلا بعد بذل الجهد. الرسالة يقين النظر وباعث على العمل؛ وبالتالي لا تتم عملية التحقق إلا بها، وإلا فكيف يتحول إلى نظام مثالي في العالم؟ ولا ضير في أن يتغير الوحي كشريعة طبقا للصلاح والأصلح على ما هو معروف في الناسخ والمنسوخ حتى تتم عملية المقياس، قياس الشرع على أهلية الإنسان وقدرته. فالشرع موضوع لصالح الإنسان، متغير بتغير مصالحه وليس تعبيرا عن ثبات الذات الإلهية وشمولها. ويمكن للعقل الإنساني أن يدرك الحكمة من هذا التغير ويدرك قانونه الثابت؛ وبالتالي يلحق بالعلم الإلهي الثابت وبإرادة الله المتصلة.
17
وإذا كان الأصلح في الدين يمكن الاتفاق عليه والاعتراف به، فهل الأصلح في الدنيا كذلك؟ والحقيقة أن هذا السؤال إنما يقوم على تفرقة لا وجود لها، إلا افتراضا، بين الدين والدنيا.
18
فما هو مقياس هذه التفرقة؟ إن الوحي تنظيم لشئون الدين، والدنيا تحقيق لهذا التنظيم، والدين هو المثال والدنيا هو الواقع، والمثال يتحقق في الواقع والواقع تحقق للمثال. الأصلح إذن للدين هو الأصلح للدنيا، ولا يوجد صلاحان كل منهما على حدة. وإذا كان الأصلح للعباد فإن مصالح العباد في الدنيا وليس الدين إلا وسيلة لتحقيق هذه المصالح. إن الأصلح ضرورة في الدنيا والدين معا، فالدين هو الدنيا والدنيا هي الدين. وإن جعل الأصلح في الدين فقط دون الدنيا تناقض وتوهم فصل في شيء واحد، وإن كان لا بد من التمييز فإن الأصلح في الدنيا أولى، فيها مصالح العباد مرتبطة بحرية الإنسان وعقله في حين أن الأصلح في الدين لا يمكن للإنسان إدراكه إلا بقياسه على الأصلح في الدنيا. الأصلح واقعة داخلة في نطاق حياة الإنسان بفعل الحرية، لا يوقفها ولا يدفعها أحد، فالأصلح يتحقق من خلال الحرية وفي نطاقها؛ ومن ثم كان الأصلح بعد الخلق والتكليف، ثم اكتشاف الإنسان لنفسه كفعل حر وعقل مستقل وقدرة على إدراك الآيات والبراهين وتجاوز العقبات في المواقف والتمييز بين المصالح والمفاسد، بين الغنى والفقر، بين الصحة والمرض، بين الحياة والموت، بين الحرية والقهر، بين الوحدة والتجزئة، بين الهوية والاغتراب. والأصلح ضرورة عقلية، فالعقل والوجود صنوان، وحكم العقل هو حكم الوجود. والعقل هو شرط الحرية كما أن البلوغ شرط التكليف. الأصلح ضرورة شرعية، إذ يقوم الشرع على جلب المصالح ودرء المفاسد، للفرد وللجماعة. والأصلح ضرورة كافية لا تحتاج إلى ضروريات لا متناهية، والضرورة الكافية هي سبب وجود العقل والشرع والطبيعة معا. والأصلح ضرورة لحياة الإنسان وليس ضرورة لإثبات قدرة مشخصة لا تخضع لأية ضرورة أخرى من طبيعة العقل وواجب الحرية أو بناء الكون ذاته، وليس تشخيصا للطبيعة إما ذهابا بإثباتها أو إيابا بإنكارها. ليس الأصلح تفضلا وكرما، بل هو ضرورة وجودية في طبيعة الأشياء، كما أن الشرع ضرورة كونية ولا مجال فيها للتفضل والكرم والإنعام والإحسان. والأصلح ضرورة دنيوية خالصة وليس أخروية؛ إذ إن الأخرويات كلها نقل من هذا العالم إلى عالم آخر، إما تعبيرا عن أمل أو تعويضا عن حرمان. وإن قيل إن المانع من فعل القبيح وعدم القدرة عليه هو رعاية الأصلح في الآخرة، فإنما يكون ذلك قياسا للغائب على الشاهد وأدخل في موضوع المعاد، والذي لم يثبت بعد في العقليات طبقا لبناء العلم.
19
إن إثبات الأصلح يعني أن الله يفعل الخير دون الشر، أي إنه يرعى مصالح العباد ولا يضرهم، فهو من هذه الناحية تفاؤل وخير وبراءة وطهارة، في حين أن نفيه نظرة شريرة إلى العالم وتصور لله على أنه شرير يفعل الشر ويضر بالناس؛ لذلك كان النفي أقرب إلى التنزيه. ولا يعني النفي أي نقص في عواطف التأليه، بل وضعا لها على أساس إنساني من أجل الإبقاء على مصالح الإنسان. ويتعدى الأمر أحيانا إلى فرض الأصلح على عواطف التنزيه، فتحدد القدرة المطلقة بفعل الأصلح وهو ما عبر عنه الأصوليون من قيام الشرع على المصالح العامة دون تشخيص للقدرة، والحديث عن حكمة الشرع وليس عن شخص الشارع. وما دام الأصلح تعبيرا عن موقف الإنسان وممارسته لحريته وعقله، فإنه يكون تعبيرا عن قانون عام مثل قانون الاستحقاق. والقانون ثابت من وجهة نظر الإنسان. ومن حق الإنسان أن يعيش في عالم يوجهه العقل ويحكمه القانون. أما من وجهة نظر صاحب السلطة والتشريع فالقانون لديه تعبير عن إرادته، يمكنه أن يغيره ويبدله، بل ويوقفه في أي وقت شاء. ولما كنا بشرا ولسنا آلهة، نعبر عن وجهة نظر إنسانية خالصة، فالقانون بالنسبة لنا عام وثابت. وكل محاولة لتغييره أو تبديله أو تأويله أو إيقافه تكون ضد الإنسان ومصالحه. يخضع الإنسان للقانون العام الذي يعبر عن مصلحته لأنه قانون عقلي، ولكنه لا يخضع لإرادة أو لسلطة مطلقة وراء القانون يمكن التلاعب به خاصة ونحن في جيل يتم وضع القانون فيه لحساب الحكام وتعبيرا عن أهوائه ونزواته وليس إثباتا للصالح العام.
والحقيقة أن الصلاح والأصلح تعبير عن ضرورة العقل والشرع معا، وتعبير آخر عن ضرورة الحرية والطبيعة. ليس فيهما أي أثر أجنبي من الخارج، من ثنوية أو غيرها. فالأصلح موضوع أصيل. وهو أساس الشرع ومصدر التشريع وسبب الوحي.
20
وإن أكبر حجة ضد الخصم هي اتهامه بالعمالة الحضارية وبأنه منفصل عن تراثه وبأنه تابع لمؤثرات أجنبية. وليس فيهما أي نقل من العلوم الأخرى مثل علوم الحكمة أو علوم التصوف، بل هما تعبير عن بنية علم الأصول بشقيه، علم أصول الدين وأصول الفقه، يعيدان إلى العلم وحدته بتوحيد علم النظر وعلم العمل؛ علم العقيدة وعلم الشريعة، الوحي والطبيعة على أساس واحد، وهو مصالح الناس ورعاية البشر.
21
إن ما يمكن أن يوجه إلى الصلاح والأصلح هو تبرير الشر في العالم، في الأفعال وفي الطبيعة، واعتبار هذا العالم أفضل العوالم الممكنة، وأن كل ما فيه خير وصلاح، وأن الواقع أفضل من الممكن، والحال أفضل من المآل، وأننا لو علمنا الغيب لاخترنا الواقع، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان. وقد يسبب ذلك نوعا من الاستسلام للأمر الواقع والرضا بكل صنوف الضيم والظلم والهوان، وبالتالي تستحيل قضية التغير الاجتماعي كما يستحيل العمل السياسي الذي يقوم على تغيير الوضع القائم إلى وضع أفضل. وينتهي التقدم، ويقضى على الرغبة في العمل وعلى بذل الجهد، وتنتهي المقاومة للظلم؛ فالأصلح للظالم أن يكون ظالما، وللمظلوم أن يكون مظلوما، وللغني أن يكون غنيا، وللفقير أن يكون فقيرا، وللقاهر أن يكون قاهرا، وللمقهور أن يكون مقهورا، وللمحتل أن يكون محتلا، وللذي يقع عليه الاحتلال أن يقبل الاحتلال. كما يصعب على الإنسان عقلا وقلبا أن يفهم أن الله لا يراعي الصلاح والأصلح، وفي الوقت نفسه يصعب عليه أن يقبل أن يكون ذلك واجبا على الله، فالله لا يجب عليه شيء كحق نظري. والحقيقة أن كل هذه الاستدراكات على الصلاح والأصلح إنما تأتي من اعتباره ضد الحرية، وهي في واقع الأمر تعبير عنه. فقد ثبتت حرية الأفعال في أول شق لأصل العدل بعد انبثاقه عن التوحيد وخروج الإنسان المتعين من الإنسان الكامل. كما تقود العقليات كلها إلى السمعيات وآخرها النظر والعمل ثم الإمامة. فالغاية النهائية هي التغيير الاجتماعي. إن قبول الأمر الواقع كقضاء لا يمنع من الخروج عليه كقدر. كما أن اللفظ المزدوج الصلاح والأصلح يعطيان إمكانية لا نهائية للانتقال من أحدهما إلى الآخر. فلا صالح إلا وله أصلح. فإذا كان الوضع القائم هو الصلاح، فإن تغييره إلى وضع أفضل هو الأصلح؛ ومن ثم يكون التقدم المستمر ممكنا إلى ما لا نهاية. أما التعبير بلفظ الوجوب فهو مصطلح إنساني خالص يتحدد فيه الوجوب العقلي بالوجوب الطبيعي بالوجوب الأخلاقي. وانبثاق العقل من التوحيد يجعل الانتقال من الله إلى الإنسان ممكنا؛ وبالتالي تتوقف لغة الذات والصفات على لغة الأفعال حيث تبرز مصالح الناس وتظهر حياة البشر؛ لذلك يظهر مع ألفاظ الصلاح والأصلح ألفاظ أخرى مثل الجود والجواد والبخل والبخيل والاقتصاد والمقتصد، مما يدل على أنها مصطلحات إنسانية خالصة.
والإصلاح في مقابل الإفساد لفظان في أصل الوحي؛ فالصلح والصلاح للإنسان لنفسه أو لذات البين. وهو إصلاح من الإنسان الحر وأفعال الشعور الداخلية كالإيمان والتقوى والتوبة. وإذا كان الإنسان يدعو الله للإصلاح، فإن الله يأمره به. ويظل الإصلاح فعلا للإنسان أكثر منه فعلا لله. بل يصبح «صالح» اسم علم لما يعطيه الفعل على الشخص من سمة الصلاح. كما يصبح الأنبياء من الصالحين والأعمال كلها من الصالحات. والإصلاح أيضا للعلاقات بين الذوات (الزوجان) وفي الأرض. وهو فعل الإنسان أكثر من فعل الله. الله يعلم الإصلاح ولا يضيع أجر المصلحين، ولكن إصلاح الإنسان شرط، وفعل الله مشروط بفعل الإنسان.
22
أما الفساد فإنه أيضا فعل إنساني ناتج عن التشتت والتبعثر واتباع الهوى دون العقل، وينشأ من أفعال الملوك والقبائل (الرهط) والناس. وهو أقرب إلى فعل الجماعة منه إلى فعل الفرد، وكأن الفساد وضع اجتماعي في حين أن الفرد خير بالفطرة. ويظهر الفساد في الأرض وفي البر والبحر وفي البلاد بفعل الناس. والله يعلم ولا يحب الفساد ولا المفسدين. ويرى المفسدون عاقبة الفساد طبقا للأفعال ونتائج الأفعال، وينالون الجزاء طبقا للاستحقاق. والفساد معنوي ومادي معا، مثل تبديل الحق والاستعلاء والطغيان والكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبخس الناس أشياءهم، وذبح الأبناء واستحياء النساء، وقتل النفس وهلك الحرث والنسل. وتفصيل الفساد للتنبيه عليه مثل ترك الإصلاح كقاعدة عامة يتبعها الإنسان طبقا للفطرة، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما هو الحال في الشق الثاني من علم الأصول.
23 (3) هل يمكن نفي الغائية والعلية؟
ولما كان الصلاح والأصلح غاية في الأفعال وعلة لها، فقد ظهر موضوع الغائية والعلية كموضوع أشمل وأعم حتى استقل بذاته وأصبح أيضا موضوعا للجدل بين النفي والإثبات. كما أنه ارتبط بموضوع التكليف؛ لأن التكليف أيضا تحقيق لغاية؛ غاية الإنسان ورسالته في التاريخ.
24
وقد ظهر الموضوع بحدة في العقائد المتأخرة، نفيا للغائية، تنزيها لله عن الغرض، ومستغنيا عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه.
25
فهل يمكن نفي الغائية؟
يقوم نفي الغائية على نفي الغائية والغرض عن الله. فإذا كان من معاني الواجب ما يلحق بتاركه الضرر وبفاعله النفع، فإن ذلك يستحيل على الله لانتفاء الأغراض المقصودة وإلا كان ناقصا مستكملا بالغاية، ومن ثم لا يوجب شيء على الله.
26
ولما كان غرض الفعل خارجا عنه يحصل به وبتوسطه، فإن الله يفعل ابتداء دون حاجة إلى توسط أو تحقيق غاية خارجة عنه وإلا لتسلسلت الأفعال والغايات إلى ما لا نهاية.
27
والحقيقة أن نفي الغاية يقوم على خلط بين مستوى الله ومستوى الإنسان. فإذا كانت أفعال الله لا نهاية لها ولا غاية، فإن أفعال الإنسان لها غاية ونهاية. الغاية في الفعل الإنساني وفي رسالته في التاريخ وليست في ذات الله. لا يعني إثبات الغاية أو الغرض إذن أي تجويز لنقص على ذات الله، فإن المشار إليه هو الإنسان وليس الله. الله ينفع الإنسان وليس الإنسان هو الذي ينفع الله أو الله هو الذي ينفع ذاته. ليست الدوافع والأغراض مزعجات ولا تدل على النقص، وإلا كان ذلك إنكارا للعالم الإنساني. فالإنسان مجموعة من البواعث والدوافع والغايات والمقاصد. لا يعني نقصان الغرض أي جهل أو فوات فرصة أو فشل على الله؛ فالموضوع كله أفعال الله بالنسبة إلى الإنسان وليست أفعال الله في ذاتها. إن للشرائع غرضا. فقد أتت لمصالح العباد وإلا كانت أفعال الله عبثا بلا قصد. ولما كان الوحي ممكن الوقوع وكانت الرسالة ممكنة التحقيق تكون أفعال الله كلها حكمة وقصدا. إن الغائية هي محور التفكير الأصولي والاعتزالي في إقامة الشرع على أساس المصلحة، إنكار العلية إذن إنكار لأساس الشرع والباعث على وجود الوحي. إنكار التعليل إنكار لأساس الشرع.
28
إن تنزيه الله عن الأغراض ليس تنزيها بل تجويز للعبث والتناقض والظلم والجور. ولما كانت الغائية هي الحياة، فإن نفيها يكون موتا للإله وتناقضا مع صفات العلم والقدرة والحياة. وإلا فلماذا يسمع ويتكلم ويبصر ويريد؟ وكيف تبطل العلة الغائية وهي أسمى العلل، أسمى من العلة الفاعلة والعلة المادية والعلة الصورية؟ بل إنها هي العلة الفاعلة الحقة. فالغاية هي الباعث والدافع على الحركة. هي المستقبل والهدف والمصير. وما الفائدة من إثبات غاية لا نعلمها؟ إن هذا إثبات للجهل الإنساني ونفي للعقل أحد مكتسبات العدل. إن وظيفة الغايات معرفتها أولا من أجل تحقيقها ثانيا، المعرفة بالعقل والتحقيق بالحرية. وإذا كان علم أصول الدين معرفة، فإن علم أصول الفقه تحقيق؛ فغاية النظر العمل.
29
وإذا كان الغرض هو العلة الباعثة للفاعل على الفعل، فكيف يمكن نفيه؟ وكيف يكون الله منزها عن العبث وأفعاله ليس لها أغراض ومقاصد؟ لا يكفي تنزيه القدرة المشخصة عن العبث لضمان موضوعية القيمة والصفات الذاتية للأفعال.
30
ولا يمكن إثبات الحكمة دون الغائية، وإلا فماذا تعني الحكمة؟ إن كان الغرض من إنكار الغائية هو تنزيه الله، فإن تنزيه المؤله عن الغرض والغاية يبطل الحكمة وينال من التنزيه الكامل. إن إنكار الغائية يؤدي إلى الفصل التام بين المؤله والعالم، ويجعل المؤله فعالا لما يريد دون علة أو غاية أو باعث أو دافع، وهو ما يعادل الحرية المطلقة بلا باعث أو سبب، حرية العبث.
إن تنزيه الذات المشخص عن الشر لا يعني وقوع الشر في العالم ولا يجيب عن مصدر علته، بل لا يفعل أكثر من نسبة الشر إلى النفس والخير إلى الذات المشخص تضحية أو مسكنة أو نفاقا أو غرورا. والغاية ليست نقصا يلصق بالإنسان وشرا ينزه الله منه.
وكما أن الغاية في أفعال الله وفي أفعال الإنسان فإنها تكون أيضا في الطبيعة وفي التاريخ؛ فالطبيعة تسير نحو غاية، والتاريخ أيضا يسير نحو غاية. لا تعني الغائية في الطبيعة حاجة طرف وكرم طرف آخر؛ فالطبيعة مستقلة عن أطرافها. وإن تصور علاقة الطرفين المشخصين على أنها علاقة احتياج وكرم تصور قائم على استضعاف أو استذلال أو سؤال أو تملق. الحكمة في الطبيعة وليست في علم مشخص أو إرادة مشخصة.
31
ولا تعني الغائية أي نقص في الطبيعة بل كمالها؛ فالطبيعة متجهة نحو غاية هي كمالها. الغائية هي أساس الوجود في الإنسان وفي الطبيعة. واعتبار الطبيعة مجرد تعبير عن الجود والكرم من وجود مطلق مشخص هو إلغاء لوجود الطبيعة واستقلالها. كما أن إنكار الغائية من الأفعال والطبيعة وإرجاعها إلى فاعل حكيم قضاء على موضوعية الأشياء ووجود العالم المستقل. إن الكون كله بالرغم من أنه حدث ابتداء إلا أنه حدوثه كان لغاية وهدف، كما أن خلق العالم كان لغاية وغرض وليس من خارج الكون أو الخلق، بل من الداخل في طبيعة الكون والخلق.
32
ليس الغرض توسطا لوقوع الفعل، بل هو الباعث والدافع. والله لا يحتاج إلى توسط وإن احتاج كان عاجزا. ولا تتسلسل الأغراض إلى ما لا نهاية لأن الغاية تنتهي بالكمال والتحقق إلى نهاية الزمان؛ فالنهاية إعلان لتحقق الغاية والكمال؛ لذلك كانت الغائية أيضا كامنة في التاريخ باعتباره تطورا للإنسان والطبيعة والكون والخلق كله. الغائية في التاريخ كما أنها في الوحي، وتطور التاريخ نحو غاية مماثل لتطور الوحي حيث تظهر في النهاية نتائج الأفعال وآثارها. وإذا كانت الغاية قيمة فالله هو هذه القيمة ليس بشخصه بل بعلمه ومقصده ووحيه. الغائية في التاريخ هي العناية الإلهية على مستوى حركة التاريخ ومساره. ولا تتحقق هذه الغائية بقدرة مشخصة أو إرادة خارجية، كما لا تتحقق تحققا آليا خارج قوانين التاريخ بل تتحقق بفعل الإنسان وطبقا لقوانين التاريخ. وإذا لم تتحقق الغائية يكون الإنسان قد تخلى عن رسالته في الحياة، ويكون هو المسئول عن عدم تحققها، ولا تقع المسئولية على غياب الغائية وعدمها. ومع ذلك لو تخلى الإنسان عنها اندثر في التاريخ وانهارت الأمم وأتى إنسان آخر ونهضت أمم أخرى لأداء الرسالة ولتحقيق الغائية حفاظا على مصالح الناس والحياة الإنسانية وإبقاء على الوجود ذاته.
ولما كانت الغائية هي أحد مظاهر العلية بدليل العلة الغائية، فلا يمكن نفي العلية أيضا؛ إذ لا تعني العلة جواز الضرر والنفع في ذات الله، فالحديث كله إنساني خالص على مستوى الإنسان، كما أن إرجاع العلة الغائية إلى حكمة الذات المشخص هروب من المشكلة، ومحاولة لمسك الوحي من الطرفين، إثبات الغائية وإثبات الذات المشخص في آن واحد. ورفض الطرفين أو إثباتهما معا تحصيل حاصل.
33
أما الخوف على قدم العالم أو حدوث الله فتلك مسائل ميتافيزيقية خالصة وليس مكانها العلة والغاية بل دليل الحدوث.
34
وأفعال الله معللة بأغراض وإلا كانت عبثا. ولا تعارض بين الحكمة والمصلحة؛ فالحكمة الضارة سفه. ليس التعليل نقصا أو حطة أو حاجة ليتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. بل إن مبحث العلة والمعلول من المبادئ العامة في نظرية الوجود في علم أصول الدين، وهو أساس مباحث العلة في علم أصول الفقه.
35
إن رفض التعليل هو هدم للقوانين الإنسانية، وترك للعالم بلا إدراك وللوقائع بلا أساس نظري. ويشار إلى الفلسفة باعتبارها المسئولة عن نفي العلية؛ لأن واجب الوجود لا يفعل لعلة، في حين أن تصور الفلسفة للعالم تصور حتمي ضروري ويقوم على إثبات العلل الأربعة وفي مقدمتها العلة الغائية. نظام العالم نظام عاقل ومعقول ولكن الخلاف مع علم أصول الدين في صدور العالم لا عن إرادة كعلة بل عن طبيعة كفيض.
36 (4) إثبات الغائية والعلية
إذا دل الدليل على كون الله حكيما، فإن الحكمة تنفي العبث وتثبت الغائية. وليست الغائية في شخص الله، في حد ذاته أو صفاته بل في أفعاله، ليس في أصل التوحيد بل في أصل العدل.
37
ليس الغرض والغاية نقصا أو عيبا أو ضررا أو منفعة فحسب. فالغائية جوهر التاريخ والباعث على الحياة. الوحي له غاية وهو كمال الجنس البشري وإعلان استقلال العقل والإرادة. ليس القصد والغاية مظهرا من مظاهر النقص والحاجة أو جلب المنافع ودرء المضار، فإشباع الحاجات ورعاية المصالح من أسس الشرع ومن أسباب الوحي.
38
ولا تعني الغاية الملذات والنعيم والسرور دون مشقة أو تعب أو آلام. فقد يكون في ذلك نفع نتيجة لبذل الجهد. هي ابتلاء وامتحان وتحقيق لقانون الاستحقاق. وكيف تكون النعم ابتداء دون مشقة وآلام فتنتفي الحكمة من التكليف ويقضى على قانون الاستحقاق؟ ليس المهم هو البداية أو النهاية بل المسار والتجربة والتعلم عن طريق الخطأ والصواب. ولا تعني الغاية الشكر، فلا شكر على أداء الواجبات، والشكر الوحيد هو أداء الواجبات.
39
والغاية تستلزم التعليل، والتعليل قائم في الأحكام بل هو قلب علم أصول الفقه. والتعليل هو العلة الغائية لا العلة الفاعلة أو المادية أو الصورية.
40
وليست علة الخلق منفعة الإنسان ومنع الضرر عنه فقط، فتلك هي علة التشريع والباعث على الرسالة. إنما علة الخلق تحقيق الرسالة، وأداء الأمانة، والمشاركة في معرفة الله، وتحقيق غايته المتمثلة في مقاصد الوحي. فيتوحد قصد الوحي مع قصد الإنسان. فإذا كان الوحي قصدا من الله إلى الإنسان كغائية فإن الإنسان بتحقيق هذا القصد يكمل الغائية ويحققها.
41
وسواء كان التعليل مجازا أم حقيقة فهو قائم في الذهن الإنساني. والفكر الديني كله مجاز يقوم على قياس الغائب على الشاهد. الواجبات العقلية إذن أمور ذهنية وليست في الخارج، أبنية عقلية تعبر عن مقدار عواطف التنزيه. ليس هناك صواب أو خطأ نظري بل مقدار شدة عواطف التأليه وتراوحها بين الانفعال وبين اتحادها مع بنية العقل ذاته. الخلاف إذن ليس لفظيا فقط، بل في أبنية العقل وتعبيرها عن درجة التعظيم والإجلال.
42
الغائية والعلية موجودان في أصل الوحي. فالحكمة هي الكتاب والملك والموعظة الحسنة وفعل الخطاب. حكمة في النظر والعلم، في الوحي والدولة والنصيحة والقول. وصفة الحكيم ليست للذات وحدها مقرونة بالعزيز والعليم والخبير والعلي والحميد، بل صفة للوحي وللكتاب والقرآن والأمر، أي صفة للشرع كغائية في الإنسان والطبيعة والتاريخ.
43
ثامنا: اللطف والألطاف
اللطف في مقابل الأصلح. إن لم تتم أفعال الله طبقا للصلاح والأصلح فإنها تتم طبقا للطف والألطاف. واللطف أكثر قبولا من الأصلح لأنه لا يتضمن صفة الإجبار كالأصلح، بل يوحي باللطف والتفضل والكرم والجود.
1
وقد يدخل اللطف في مسألة الأصلح للتخفيف عن الآلام؛ فاللطف هو الأساس والأصلح والآلام فروع مبنية عليه. وقد يدخل اللطف أيضا في موضوع حرية الأفعال في أفعال الشعور الداخلية مثل التوفيق والهداية والسداد والعصمة، ومن ثم فهو عود إلى الشق الأول من العدل ألا وهو خلق الأفعال وكأن الحسن والقبح العقليين يميلان من جديد إلى الحرية، وأنه من مقتضيات العقل أن يكون الإنسان حرا . اللطف أو المصلحة لحظة اختيار الإنسان الواجب أو تجنب التخلي عن الواجب. فاللطف لا يبعد عن التوفيق والسداد، وبالتالي يدخل في حرية أفعال الشعور الداخلية. ويدخل في باب التكليف في مسألة الجبر والاختيار لإفساح المجال في الإرادة الإنسانية لإظهار عوامل مقوية لها. وبالتالي تثبت الحرية مرتين، مرة منبثقة عن التوحيد، وذلك باستقلال الإرادة الإنسانية عن الإرادة الإلهية، ومرة أخرى باكتشاف العقل وأن حرية الإنسان حسن عقلي؛ وبالتالي فهي واجب عقلي كذلك. قد يقترب اللطف من الجبر إذا كان تدخلا ابتداء وقد يقرب من الكسب إن كان ما يقرب الإنسان على الطاعة وما يبعده عن المعصية، وقد يكون أكثر اتفاقا مع الحرية لأنه ليس تدخلا حتميا في إرادة الإنسان مثل فعل الأصلح، بل مجرد جواز أو إمكان يدل على الفعل الحر. وفي كل الأحوال يكون اللطف أحد مسائل العدل الذي يجمع بين شقيه الرئيسين، الحرية والعقل. وقد يكون اللطف أيضا أحد الأدلة على إثبات النبوة، أي يكون داخلا في السمعيات، فقد آلت العقليات على الانتهاء وشارفت السمعيات على الظهور، النبوة لطف إذا كان العقل أساس النقل وبالتالي تصبح جزءا من المعارف العقلية المستقلة عن النبوات.
2
والحقيقة أن اللطف لا يدخل في مسألة معينة بل هو تصور عام للحياة الإنسانية المغلفة بالوجود المطلق القادر العالم الحي. هو تعبير عن العناية التي تفرضها الحياة الكاملة في الحياة الإنسانية. هو تأييد للعقل بالنبوة، وتأييد للحرية بالعون، وتهيئة الأصلح واستبعاد الفساد. هو تأييد للعمل بتهيئة النظر وإحضار البواعث، والإنسان من قبل على ثقة ويقين من أنه يعيش في أفضل العوالم الممكنة. (1) هل هناك لطف؟ (1-1) تعريفه وأنواعه ومصدره ومحله
اللطف ومقابله المصلحة هو لحظة اختيار الإنسان الواجب أو تجنب التخلي عن الواجب. فاللطف لا يعبر عن التوفيق والسداد بقدر ما يعبر عن إزالة الموانع. فهو تأييد سلبي، أو توفيق بنفي الضد، قضاء على الموانع بالتمكين. ونقيضه المفسدة أي وقوع الضرر بالإنسان. وقد يصل حد الضرر إلى إطلاق اللطف وإضافته إلى الكفر؛ فيسمي ما يقع الكفر عنده لطفا حين توقع مصيبة أعظم، ثم تجنبها حتى ولو كانت مصيبة الكفر، وهناك مصائب أعظم منه. وقد يكون اللطف أقرب إلى الاستطاعة التي يخلقها الله وقت الفعل في نظرية الكسب.
3
واللطف نوعان: لطف مقرب إن كان مقربا من الفعل أو ممكنا منه، ولطف محصل إن كان آتيا للمأمور به، الأول يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية دون حد الإلجاء والاضطرار حرصا على الحرية أو على الكسب، والثاني مثل الآجال والأرزاق والقوى والآلات وإكمال العقل ونصب الأدلة، أي ما تتوقف عليه الطاعة. الأول سلبي للتمكين والثاني إيجابي للفعل. الأول لإزالة الموانع والعقبات والثاني لتهييء الآلات والأسباب. والأول نوعان: ما يكون من فعل الإنسان ملازما له وما يكون من فعل الله، الأول سواء كان عقليا أم شرعيا لدفع الضرر، والثاني لإزاحة العلل وتهيئة سبيل التكليف؛ فاللطف سابق على التكليف أو مقارن له ولا يكون متأخرا عنه وإلا فما الفائدة منه؟ فاللطف هنا مثل الاستطاعة إما قبل الفعل أو مع الفعل. وإذا كانت الاستطاعة أيضا بعد الفعل في التوليد إلا أن اللطف لا يكون بعد الفعل وكأن اللطف لا يكون مولدا.
4
قد يكون اللطف مع التكليف واجبا وبعد التكليف غير واجب، ويكون اللطف هنا أيضا بمعنى الاستطاعة وكأن اللطف هو شرط التكليف ابتداء، وبعد ذلك يترك الإنسان لاستعمال الألطاف الدائمة كالمعارف النظرية، ومنها النبوة أو التأييدات العملية وإزالة الموانع والعقبات أمام الأفعال. وفي هذه الحالة يكون اللطف ضروريا واجبا وإلا لاستحال التكليف؛ لذلك قد لا يكون اللطف إتيانا للفعل ابتداء بل مساعدة على الفعل بعد أن يحدث حتى لا يقضي على حرية الاختيار. فإذا لم يحدث لطف ابتداء فماذا يكون حال التكليف؟ هل يستحق الثواب والعقاب؟ قد يكون اللطف إذن تفضلا بعد التكليف لأن التكليف يقوم على القدرات الذاتية وشرط الفعل، العقل والقدرة على الاختيار الحر. اللطف إذن هبة وليس حقا، ومن ثم فهو ليس شرطا للتكليف بل قد يقع التكليف بدونه. اللطف لا يحسن ولا يقبح نظرا، ولكنه يساعد عملا، فهو أقرب إلى العقل العلمي منه إلى العقل النظري.
5
أما مصدر اللطف فقد يكون من فعل الله أو من غير فعل الله. قد يكون من فعلنا أو من فعل غيرنا. إن كان من فعلنا وجب فعله احترازا من الضرر دون النوافل؛ لأنه لا يحدث ضرر من عدم فعلها. ما يكون من فعل الله إن كان مفعولا مع تكليف الفعل الذي هو لطف فيه، فإنه لا يكون واجبا، وما يفعله بعد حال تكليف الفعل الذي هو لطف فيه فإنه واجب. وما يكون لطفا من فعل نفس المكلف فمن حقه إذا كان لطفا في واجب أن يكون بمنزلته في الوجوب، وإن كان لطفا في النفل فهو بمنزلته. وما يكون لطفا من فعل غير الله وغير المكلف فمن حقه أن يكون المعلوم من حاله أن يقع ويحدث على الوجه الذي هو لطف وفي الوقت. مصادر اللطف إذن ثلاثة: الله والإنسان والطبيعة. لطف الله غير واجب قبل الفعل وإلا استحالت الحرية، وواجب بعده تأييدا له. ولطف الإنسان مثل الفعل وجوبا وندبا. أما لطف الطبيعة فإنه يقع في الزمان والمكان والحال وليس على الإنسان إلا معرفته وتوحد فعله معه.
6
أما بالنسبة إلى محل اللطف فقد يقع اللطف في الفعل أو في إدراك الفعل، أي إن اللطف يكون في العمل كما يكون في النظر. ولا يكون اللطف إلا في أفعال التكليف، أي في الواجبات. وقد يكون اللطف في النوافل. ولا يجوز اللطف في المباح لأن المباح غير مكلف. وإذا كانت أفعال المكلفين على ضربين، العبادات وخارج العبادات، فإن الأولى لا يجوز فيها البدل بينما الثانية يجوز فيها البدل. وقد تكون إقامة الحد من الإمام لطفا إما له أو لغيره، وتضيع الألطاف بفقدان الإمام وإبطال الحدود في هذا الزمان؛ لذلك قد يكون اللطف مشروطا بوقت دون وقت، ويقع في زمان دون زمان. ولا يكون اللطف فرديا بل عاما، لا يكون خاصا بل شاملا. لا يوجد لطف لشخص يكون مفسدة لشخص آخر، اللطف صلاح للجميع. اللطف عام متاح للجميع، ولكنه قد يقع لشخص دون شخص طبقا لشروط الفعل والقدرة عليه. يؤدي اللطف إلى وقوع المصلحة للذات وللآخرين على السواء. ولا يكون اللطف نظرا عاما لا نهائيا، بل هو خاص محدد معين فردي متحقق في الفعل.
7 (1-2) هل يمكن إثبات اللطف أو نفيه؟
عادة يمكن إثبات شيء ونفيه مثل الواجبات العقلية ومثل الصلاح والأصلح. أما اللطف فيصعب إثباته كما يصعب أحيانا نفيه. يمكن إثبات اللطف لأن الله لا يدخر وسعا في اللطف بالعباد؛ فاللطف يمكن أن يكون ابتداء وليس وسطا أو نهاية، فالوسط والنهاية عبث. كما أن اللطف يساعد على الترجيح دون أن يصل إلى حد الإلجاء. وترك اللطف يوجب نقص الغرض من التكليف ومن ثم يكون اللطف واجبا. واللطف أقرب إلى العناية الإلهية والرعاية وتوالي الصلة بعد الخلق دون الإهمال؛ لذلك ينتهي اللطف أحيانا إلى أن يصبح كل شيء تعبيرا عن الإرادة الإلهية الشاملة. إن اللطف أصلح الإنسان، وأصلح للمكلفين الحصول على اللطف، وبالتالي يثبت اللطف بإثبات الأصلح. وأن شعور المكلف بالتوفيق والهداية والسداد حين الطاعة وشعوره بالخذلان والضلال حين المعصية لدليل على وجود اللطف. كما يثبت اللطف بأدلة سمعية، بآيات الفضل والآيات التي تبدأ بأداة الشرط مثل «لو» التي تعني لولا تدخل اللطف لوقعت أضرار أعظم.
8
وقد يتم إثبات اللطف تفضلا وإنعاما دون أن يكون واجبا. كما يمكن إثباته وعدا وإنكاره وجوبا. وإن إتيان الفعل بلا لطف أكثر ثوابا من إتيان الفعل بلطف. وفي سؤال الإخوة الثلاثة قد يسأل الصغير لماذا أعطيتني لطفا واستحق ثوابا أقل؟ وقد يظهر ذلك في صيغة سؤال: هل لدى الله لطف لو أعطاه الكافر لآمن والعاصي لأطاع؟ وإثباتا للطف النظري دون الوجوب العملي ليس في مقدور الله أن يحتفظ بلطف لو فعل لآمن الذين كفروا. بعد إثبات اللطف يكون الخلاف: هل يقدر الله على لطف زائد أم لا يقدر بعد أن أعطى كل ما لديه؟ الأول يمنع القدرة والثاني بخل وشح؛ لذلك لا يجب اللطف على الله. ولو وجب لكان لا يوجد في العالم عاص لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله من الألطاف ما لو فعل به لاختار الواجب وتجنب القبيح. فلما كان هناك عصاة فلا وجوب في اللطف. نفي اللطف هنا يعني عدم الوجوب في حين أن النفي في الجبر والعصمة يعني عدم الوقوع. وما الحكمة في أن يعطي الله لطفا مقربا ثم لا يعطيه كله ويكون قادرا على الزيادة فيه؟ وإذا كان الله لا يستطيع إلا هذا اللطف وهو أخص ما لديه فمقدوراته متناهية وإرادته عاجزة. وفعل إثبات العجز والكرم أفضل من إثبات القدرة والشح؟ وإذا كان اللطف كصفة لله غير متناه مثل باقي الصفات لا غاية له ولا كل، فلماذا البخل والشح؟ وما مقياس العطاء والإمساك؟ هل التفضل مجرد تعبير عن مشيئة مطلقة بلا مقياس؟ هذا هو العبث والتحكم والحكم المطلق. لذلك لا يكون اللطف واجبا ولا يكون مقدورا، بل مجرد تفضل بعد سؤال العصمة والدعاء بالسداد وطلب التوفيق. واللطف استجابة لدعاء وعطاء بعد سؤال. واليد العليا خير من اليد السفلى.
9
يمكن إثبات اللطف إذن نظرا ومنعه عملا. فالله عنده لطف لو فعله لآمن الكافر ولكنه لا يفعل ذلك عملا. وما الفائدة من حق نظري لا يستعمل.
10
لذلك كان نفي اللطف المدخر أفضل من إثباته دون استعمال. فالله قد أعطى أقصى لطف لديه وليس لديه لطف منعه من الكفار حتى لا يؤمنوا وإلا لما كان في أفعاله صلاح العباد؛ فاللطف صلاح، ولما كان الله يفعل الأصلح فإنه يفعل أيضا الألطف.
11
وقد ينفى اللطف بالجبر إذن إن جبر الأفعال لا يحتاج إلى لطف، فالأفعال واقعة جبرا وقسرا بلطف أو غير لطف. والعصمة مثل الجبر تمنع من الإقدام على القبيح وتدفع إلى الطاعة فليست في حاجة إلى لطف.
12
وقد ينفى اللطف بحرية الأفعال. فالإنسان حر في أفعاله لا يحتاج إلى عون أو تأييد سابق أو مقارن أو لاحق إلا من بنية الفعل ذاته من أحكام النظر، وقوة الباعث ووضوح الهدف، وشحذ الطاقة، ومعرفة مسار الفعل وقوانين الحركة في التاريخ. فاللطف في هذه الحالة ليس قوة تأتي من الخارج بلا تمييز ولا شرط، بل هو تحول قوى الفعل من كم إلى كيف. فالفعل يولد طاقة جديدة أثناء تحققه زائدة على الطاقة الأولى التي كانت قبل التحقق.
13
يمثل إثبات اللطف إذن خطورة على حرية الأفعال وتهديدا لأول مكتسب للعدل. وكيف يثبت اللطف أنصار حرية الأفعال؟ الأولى بإثباته أصحاب الكسب لأنه أقرب إلى الاستطاعة التي يخلقها الله ساعة الفعل، ولكن هذه المرة من القدرة ولإزالة الموانع، وكلاهما مساعدة من الخارج للتوفيق. والمساعدة ليست من الخارج بل من الداخل ولكن الإنسان لا يعي القدرات غير المنتظرة نتيجة للإخلاص والتضحية.
اللطف إذن عكس الحرية. إذا كان الإنسان قادرا ولديه استطاعة قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل ففيم اللطف؟ ألا يعتبر اللطف حينئذ تدخلا في حرية الأفعال؟ إنه ليصعب التوفيق بين الحرية واللطف.
14
إن إنكار اللطف ليس إنكارا للقدرة بل إثبات لحرية الاختيار. بل إن التكليف ابتداء لا يحتاج إلى لطف اللهم إلا إذا اعتبرنا العقل والحرية من الألطاف مع أنهما من مكتسبات العدل الذي انبثق عن التوحيد بفعل الحرية ثم انبثق العقل عن الحرية لأنها حرية عاقلة. ألا يمكن للإنسان ترك اللطف اختيارا والاعتماد على حريته وعقله؟
15
وكيف يمكن التوفيق بين اللطف من ناحية والحرية والعقل من ناحية أخرى؟ وماذا لو رفض الأحرار العقلاء اللطف، فالحرية لديهم قادرة على الفعل، والعقل لديهم قادر على الوصول إلى التكاليف؟ وإذا كان اللطف يتدخل في الحرية إلى المنتصف ففيم الحرية؟ ولماذا لا يقطع اللطف الشوط كله؟ وماذا عن البواعث على الإيمان والصوارف عن الكفر؟ هل يقدر الله على منح الأولى ومنع الثانية؟ ولماذا يتناهى اللطف عند حد والله مقدوراته لا نهاية لها؟ وأين يكون اللطف في حالة الإحباط والخذلان؟ ولماذا لا يكون لطف للكافر كي يؤمن كما أن للمؤمن لطفا كي لا يكفر؟ إن الله أقرب إلى الخير فكيف لا يصدر عنه إلا الخير؟ ولماذا يمنع الكافر من الكفر ويقربه إلى الإيمان والطاعة؟ كيف يريد الله كفر الكافر ويمنع عنه لطفه؟ إن من يجوز اللطف لا بد أن يجوز الإضرار في حالة عدم وقوع اللطف. وفي هذه الحالة كيف يضر الله وهو الخير المطلق؟ وإذا ما حصل الإنسان على اللطف، فما المانع ألا يحصل على المزيد، يؤدي اللطف إلى لطف أكبر إلى ما لا نهاية؟ وإذا كان اللطف عاما لا يخص فردا دون فرد، فكيف يقع لفرد دون آخر؟ وما مقياس الاختيار؟ أين تكافؤ الفرص؟ إن الصعوبة في اللطف هي تبرير خصوصية فرد دون آخر. وإذا كان موجودا منذ البداية فلماذا مضاعفته للمطيع وعدم مضاعفته للعاصي؟ وإذا كان مقياس الاختيار هو الطاعة فالبداية للإنسان وبالتالي يكون فعل الإنسان هو الشارط واللطف هو المشروط، ويكون اللطف حينئذ هو القوة غير المتوقعة المتولدة أثناء الفعل من طبيعة الفعل ذاته. صحيح أن اللطف عام ولكن قد يكون اللطف لفرد مفسدة لآخر وهو ضد العدل.
ويبقى سؤال: متى يظهر اللطف ومتى يختفي؟ ولماذا لا يظهر اللطف عند صاحب الآلام والمشاق؟ ولماذا يمتنع عن البائس والفقير والمظلوم والمحروم كما يمتنع الأصلح؟ أين اللطف في الدنيا بالمفسدين في الأرض وبالمحرومين من عدالة السماء؟ بل وأين ألطاف البشر بالبشر والحكام بالمحكومين؟ ألا يؤدي القول باللطف كما يؤدي القول بالأصلح إلى جعل هذا العالم أفضل العوالم الممكنة، ويجعل الإنسان لو علم المقدر لاختار الواقع لأنه لطف فيه، وكما هو معروف في القول المأثور: «اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه». ألا يؤدي القول باللطف إلى قبول كل الأحزان والمصائب وقبول الإنسان وضعه الاجتماعي المزري تفاديا لوضع اجتماعي أكثر إزراء! وحينئذ لا يملك الإنسان إلا الدعاء: «يا خفي الألطاف، نجنا مما نخاف.»
16
إن ذلك كله تجديف على الله وإقحام الإنسان نفسه فيما لا يعنيه وإسقاط عجزه أو قوته على إرادات مشخصة خارجة يجد فيها تعويضا أو عونا؟ إن اللطف لا يتعدى في أصل الوحي العلم كخبرة وهو اللطف النظري أو اللطف بالبشر وبالكون أي الرعاية والعناية والحفاظ على الفعل والجهد. ولكن اللطف أيضا للإنسان، لطف الإنسان بالإنسان كعلاقة اجتماعية وليس فقط كعلاقة بين الله والإنسان.
17 (2) ما هي الألطاف؟
الألطاف في حالة إثباتها قد تكون كل شيء. الخلق لطف؛ فبدون نعمة الخلق لا يستطيع الإنسان أن يدرك أو يفعل أو ينعم بشيء. والطاعة لطف؛ لأن نعمة الطاعة والرضا والسرور لا تعادلها لذة، ولا يساويها فرح. والوعيد لطف؛ لأنه باعث على الفعل وترصد لنتائجه وتفكر في العاقبة. ودعاء المؤمن على الفاسق لطف للداعي؛ لأنه يفرج حزنه ويقويه على خصومه. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لطف؛ لأنه بدونه يتسلط الحكام وتنهار الأمم. والكفارات ليست عقوبات بل لطف؛ لأنها تطهير للنفس وإعادة بناء لها. وإقامة الحد على السارق لطف؛ لأنه تثبيت للوعي وإدراك عملي للحق. والألم النازل بمن يستحق العقوبة لطف؛ لأنه إدراك عملي للقبح وإحساس بآلام الآخرين الناتجة عن فعل القبيح لهم. وما يستحقه الإنسان على فعله من غيره في حكم الموجب لطف؛ لأنه إدراك لما فعله الإنسان للآخر بالتبادل. وإتعاب النفس في المكاسب وطرقها لطف؛ لأنه إدراك لأهمية الفعل عن طريق بذل الجهد. وقد تكون زيادة الشهوة لطفا؛ لأنها إحساس بالحياة وقدرة على فورة النفس خاصة وأن المباح كثير، والعمل الذهني مصاحب لها، وسند لتحقيق رسالة الإنسان في الحياة.
18
ولكن في مقابل هذا المعنى الشامل للطف هناك معنى أضيق يحصر الألطاف في ثلاثة: المعارف النظرية، والنبوة، والتأييدات العملية.
فوجوب المعارف ألطاف؛ لأن المعرفة لطف. ولا تعني المعرفة بالضرورة من الخارج بل هي معرفة داخلية، نعمة الفكر والتأمل والاستدلال. لو لم يكن الإنسان عارفا لما كان سيد الكون، تحق له السيادة والسيطرة عليه وتسخير مظاهر الطبيعة لإرادته، ولكان أقل من الحيوان والجماد. يعلم الإنسان، ويعلم أنه يعلم أي إنه يعلم بالشعور، في حين أن الحيوان لا يعلم بأنه يعلم، يعلم بالغريزة، غريزة المحافظة على البقاء. والجماد وإن كان لا يعلم إلا أنه ليس وجودا مصمتا بل له دلالة، ودلالته معناه، ومعناه هو العلم. والمعرفة بهذا المعنى تكون واجبة عقلا كما تجب بالسمع، وقد تكون أساسا له وأحيانا بديلا عنه . معرفة الله لطف في أداء الواجبات لأنها تدفع الضرر عن النفس، واللطف هو الكرم والجود والعطاء وتقديم الخير على الشر والنزوع الطبيعي نحو الخير. ينشأ وجوب النظر من الرغبة في دفع الضرر، وهذا واقع اجتماعي. كلما كف الناس عن النظر ألحقت بهم الأضرار واستخفت بهم السلطة وسيطرت على مقاديرهم. وكلما نظر الناس وأعملوا عقولهم أدركوا أمورهم وكانوا على وعي بأحوالهم، وكانوا الرقباء على السلطة وما أمكن لأحد الإيقاع بهم أو إيهامهم.
19
والنبوة باعتبارها معارف نظرية وتوجهات عملية هي أيضا لطف. وإن استقلال العقل وقدرته على التمييز تجعل السمع لطفا من الله فيصبح جائز الوقوع وليس ضروري الوقوع. فكما أن النظر والمعارف لطف بالنسبة للعقل بإضافة الاستدلال إلى البداهة، فإن النبوة لطف بالنسبة إلى العقل لأنها يقين البداهة التي يقوم العقل بعد ذلك بتحويله إلى منطق الاستدلال؛ فالصلة بين النبوة والعقل هي صلة الحدس بالبرهان.
20
ولا يفترق في ذلك الخاصة عن العامة إلا في عمق الحدس وتنوع البرهان. النبوة لطف بمعنى تثبيت اليقين وتحويل البداهة العقلية إلى تصديق وجداني. تعطي افتراضات للبرهان تتحقق في الحس والمشاهدة وتثبت بالاستدلال. تحمي العقل من الوقوع في التجزئة والمتناهي في الصغر وتحرص على النظرة الشمولية للحياة. تقصر وقت النظر من أجل تخصيص الجهد وتوجيهه نحو العمل والتحقيق.
أما التأييدات العملية فهي ما يشعر به الإنسان في داخله من توفيق وعون وسداد. وهو التمكين بما فيه من البواعث والدوافع والإمكانيات والوعي والدراية، وكل ذلك سابق على إتيان الفعل. وقد تحدث إمكانيات أخرى أثناء الفعل مصاحبة له، تقويه وتدفعه وتطيل وقته وتجعله أكثر رسوخا وبقاء في التاريخ. فالوقت لا يتجزأ إلى أوقات منفصلة، بل هو شعور دائم ومتصل، يكمن فيه الإحساس بالرسالة المتصلة التي تعبر عن قدرة الإنسان ومصيره. يحدث اللطف في حال الفعل الذي هو حال وجود، أثناء تحققه كقوة متولدة منه، سرعة بديهة في الإدراك، وقوة الباعث في النفس، والرؤية التاريخية على المدى الطويل. ويكون لا شعوريا أولا ثم يراه الإنسان وقد تحقق في نفسه وأمامه، في الواقع وفي الشعور.
21
تاسعا: العوض عن الآلام
إذا كان الله منزها عن القبائح والشرور والآثام، فإذا حدث شيء منها فإنها تكون أصلح للعباد. وإن لم يمكن فهمها بالأصلح فقد تكون لطفا من الله. وإن صعب الاقتناع بها فقد تكون عن استحقاق. وإن لم تكن عن استحقاق فيجب التعويض عنها حتى يتم أصل العدل وينتفي الجور؛ فالظلم كله ضرر لا نفع فيه. ومن حق الظلم أن يكون قبيحا. ويقبح الضرر لأنه عبث وإن لم يكن ظلما. فإذا ما حسن الضرر يخرج عن كونه ظلما أو عبثا. وقد يحسن للنفع. قد يكون النفع دون المضرة أو مساويا لها أو زائدا عليها بشبهة، أو زائدا عليها بلا شبهة. وكذلك لا يقبح الألم لأنه ضرر بل قد يحسن لدفع ضرر أعظم منه. والعباد يقدرون على الآلام ولا ينفرون منها بل يقبلونها عن طيب خاطر ما دام فيها نفع أعظم وخير أقصى.
1
ولا يوجد من ينكر الآلام ولكن يقع الخلاف في كيفية إثباتها وعلى أي مستوى. هل هي آلام عن استحقاق أو عن عوض؟ هل هي آلام للأطفال والبهائم أم آلام للبشر فحسب؟ ولا يمكن الاحتجاج بالآلام على نفي الصانع بحجة أنه لو كان للعالم صانع حكيم لما آلم من لا ذنب له لأن الآلام لا تكون إلا عن استحقاق أو عوض دفاعا عن وجود الصانع وحكمته.
2
ولا يمكن قبول الآلام بلا استحقاق أو عوض؛ لأنها مستحقة من فاعلها وهو الله، كما هو الحال في عقيدة الجبر لأن الآلام نتيجة للحرية والعقل، تتولد منهما، وتوجد في أصل العدل بعد أن انبثق من أصل التوحيد.
3
والآلام إنسانية خالصة تعبر عن نتيجة الفعل وبذل الجهد وليس شرا كونيا أو كارثة طبيعية مستقلة عن فعل الإنسان المتعين، حرية وعقلا، إرادة وإدراكا. إن إثبات وجود موضوعي للشر والخير معا وقوع في ثنائية كونية ونقل للعالم الشعوري إلى العالم الطبيعي كما هو الحال في النظرية الكونية للبشر. وقد يبلغ حد التشخيص إلى اعتبار الآلام هي النور في مقابل الظلمة؛ مما يكشف عن الجانب الإنساني الذي يظهر في الصورة الفنية، ويؤدي إلى القول بفاعلين متساويين في القوة؛ وبالتالي إلى الوقوع في الثنائية فتنتهي الوحدانية. الآلام الكونية سوداوية وإثبات للشر الأنطولوجي في نسيج الكون، واقفا للحرية بالمرصاد ومنازعا طبيعة الإنسان نحو الخير، وبراءة الأشياء وطهارة النفس. ولا يعني إثبات الحسن والقبح كصفتين ذاتيتين للأفعال أي إثبات للآلام الكونية؛ فالقبح ليس في الكون والظلم ليس في الطبيعة بل القبح في الأفعال الإنسانية، وفي كيفية ممارسة الحرية وإعمال العقل. قبح الآلام لنفور الطبع منها وكراهة النفس لها إن لم تكن عن استحقاق أو عن عوض.
4
ليست الآلام فعلا للطبيعة في مقابل فعل الله بل نتيجة لأفعال الإنسان الحرة العاقلة.
5
يمكن التحقق من الآلام بالإحساس أو الإدراك. ولا يعني ذلك مجرد انطباعات حسية نابعة من الاجتماع والافتراق للجزئيات العضوية بل إدراك وجودي يهز المشاعر. والآلام أيضا معاني يدركها العقل ولكنها ليست معاني مجردة، بل معان قائمة بالنفس تهز الوجدان وتبعث على الفرح إذا كان إيلام الغير عن استحقاق أو على الحزن إن كان عن عوض. ليس الإدراك ذاتيا يختلف من فرد إلى فرد بل هو إدراك عام موضوعي يعبر عن الطبع، نفوره واشمئزازه، استحسانه واستهجانه. فالعادة والطبع والإحساس البديهي، كل ذلك يثبت الآلام نتيجة للأفعال الإنسانية الحرة العاقلة. مستوى تحليل الآلام إذن أهم من تحليل الآلام ذاتها. فالألم ليس ظاهرة مادية كونية مستقلة عن فعل الإنسان الحر العاقل، وليس مجرد معنى عقلي مجرد لا يهز المشاعر والوجدان بل هو إدراك نفس وفهم معنى ورؤية واقع واستبصار تاريخ.
6 (1) هل هناك آلام بلا استحقاق؟
ليست المسألة قدرة الله على فعل الآلام. فالموضوع ليس القدرة كصفة للذات في أصل التوحيد بل هي الآلام عن استحقاق أو غير استحقاق كموضوع في أصل العدل. صحيح أن الله فاعل كل شيء وقادر على كل شيء في أصل التوحيد، ولكن في أصل العدل تبرز الآلام كشر في العالم، والله منزه عن الشرور والقبائح. إن تبرير الشر في العالم بمجرد خضوع الإنسان لقدرة مشخصة هو تخل عن مآسي الإنسان وإخضاعه لقوى الشر والعدوان. ولا تقع الآلام ابتداء من واقع التكليف؛ فالتكليف نعمة قبل أن يكون نقمة، وفرح قبل أن يكون حزنا، وسرور قبل أن يكون غما، وانطلاق قبل أن يكون هما.
7
لذلك تكون الآلام للاستحقاق أو للموعظة. للفعل الأول كنتيجة له أو للفعل الثاني كمانع منه. وتحدث الآلام بالرضا والموافقة طبقا للعقل والفهم. هي تجربة بديهية لتحمل المشاق جلبا لمنافع وخير أعظم. لذلك كان حسن التكليف منوطا بالثواب،
8
ويكون الاستحقاق في الدنيا حاضرا ومستقبلا، في حياة الإنسان المباشرة أو في امتدادها عند الآخرين.
9
ويكفي أن يكون الاستحقاق في هذه الدنيا حاضرا أو مستقبلا دون تفضيل في أنواع الآلام وكيفية حدوثها. وأن حدوث الآلام عن طريق «تناسخ الأرواح» مجرد صورة فنية على أن الحياة امتحان وابتلاء وتكليف، وأن الحياة مستمرة إلى الأبد في دورات متعاقبة لا فرق بين حياة الإنسان في الحاضر وفي المستقبل، بين عشيرته الأقربين وفي الحضارة والتاريخ. كما تكشف عن أن الثواب والعقاب نتيجة للأفعال وأن الاستحقاق هو قانون العدل، وأن الحياة قيمة واحدة لا فرق بين الإنسان والحيوان إلا تفاوت المراتب في الحس والعقل والوعي.
10
وقد تكون الآلام موعظة وعبرة. ولكن يظل الإشكال: عظة وعبرة لمن؛ للذات أو للآخر؟ فإن كان للذات فهذا هو التعلم عن طريق المحاولة والخطأ فالحياة امتحان، وإن كان للآخر فلماذا تكون آلام البعض عظة للآخرين فيستفيد الآخر على حساب الذات؟ يمكن ذلك ضمن تجارب البشر الجماعية التي يكون الإنسان جزءا منها وليس مجرد متفرج على مآسي الآخرين. المهم أن تكون العبرة للبشر، للذات أو للآخر، وليس تبريرا للآلام في العالم دفاعا عن إرادة مشخصة ضد وجود الإنسان وحياته وحقه في أن يؤسسها على الحرية والعقل.
11 (2) هل هناك آلام بلا عوض؟
فإذا لم تكن الآلام عن استحقاق فإنها تكون ضرورة بالعوض. فالله لا يتفضل بالآلام ولا يبدأ الشر. الآلام نتيجة للأفعال وليست مقدمة لها. ولماذا لا يجوز العوض على مالك كل شيء؟ بل إن ذلك أوفى للعوض. فالمالك لكل شيء قادر على البذل والاستبدال في ملكه. وهل مالك كل شيء حر التصرف في ملكه دون قانون؟ وهل من سمات الملك الإضرار بالمملوك أم نفعه؟ إن وجوب العوض في العالم ليس تقييدا للقدرة المشخصة بقدر ما هو فهم للعالم وإحكام لوقائعه، بل إن الشريعة نفسها تقوم على العوض. فالتائب الذي أقيم عليه الحد له عوض عند الله إن لم يكن له عوض عند الإمام. وعلى هذا النحو يتصل التوحيد بالفقه، والعقيدة بالشريعة، وتعود إلى علم الأصول وحدته، أصول الدين وأصول الفقه. ولا يرجع العوض إلى التفضل ابتداء، بل إلى معنى وحكمة، وهو رضاء النفس وثقتها بالفعل وتصديقها لقوانين العدل والاستحقاق. فكما لا تقع الآلام ابتداء فكذلك لا تقع الأعواض ابتداء.
12
ولا تفعل الآلام من أجل العوض ابتداء لأن الآلام نتيجة الفعل والجهد وليس وسيلة للحصول على العوض. وإلا كان الإنسان كمن يسبب الألم لنفسه أو يقطع أصبعه أو يده ابتداء بلا مبرر كي يحصل على العوض. فالآلام نتيجة الأفعال والتعويض عنها تأكيد على الأفعال. فكل شيء له معنى ولا يوجد عوض كمجرد تعويض قانوني صوري عن خسارة مادية بلا فعل أو جهد.
13
لا يعني التعويض تبادل منافع أو إيجاد ميزان بين مكسب وخسارة، بل يعني التخلي عن لذة في سبيل سعادة أو عن نفع أقل في سبيل نفع أكثر. لا يعني العوض مساواة كمية بين مقدار الألم ومقدار العوض من حاسب ماهر يملك كل شيء ويقدر على كل شيء، بل العوض هو النتيجة الإيجابية للألم إما لبذل الجهد من جديد أو لتعميق الوعي أو لمعرفة الأخطار أو لكسب الزمان.
14
يثبت العوض إذن عن الآلام إن غاب الاستحقاق حتى يستطيع الإنسان أن يعيش في عالم يحكمه القانون ويدركه العقل دفاعا عن حقوقه ضد مظاهر الظلم والطغيان. تقع الآلام إما للنفس أو للغير. وتكون حسنة إذا كانت عن استحقاق أو عوض، وقبيحة إن لم تكن عن استحقاق أو عوض. في الحالة الأولى يكون العدل، وفي الثانية يكون الظلم.
15
يصح الألم للنفع وإلا وجب العوض. وتصح الآلام استحقاقا أو امتحانا، الأولى للعقوبة والثانية لتقوية النفس وشحذ العزيمة.
16
وقد يقع العوض من الله إلى الإنسان إذا ما ابتدأ بالآلام؛ فيحدث العوض في الحال أو في المآل، في الدنيا وفي الآخرة، انتصافا للمظلوم من الظالم.
17
وقد يقع العوض من الإنسان إلى الإنسان في الحال أو في المآل، فتجب عليه الكفارة والدية. وذلك يدل على أن مفهوم العوض فقهي خالص، أي إنساني صرف، يفرض نفسه على العقيدة وكأن أصول الفقه هو أساس أصول الدين، وكأن الشريعة تفرض نفسها على العقيدة، وكأن العمل يفرض نفسه على النظر.
18
يكون العوض إذن جزاء عن ألم سببه الله للإنسان أو يكون العوض جزاء ألم سببه الإنسان للإنسان، وذلك بأخذ حسنات منه، فإن لم تكن له حسنات فترفع منه السيئات بما يوازي الحسنات. وقد يثير هذا العوض عدة إشكالات، منها: هل يكون العوض في الدنيا أم في «الآخرة»؟ وتسهل الإجابة عليه بأن العوض يكون في الدنيا لأن الآخرة لم تثبت بعد لأنها من السمعيات، وما زلنا في العقليات في أصلي التوحيد والعدل. ولكن استباقا يمكن في «الآخرة» قياسا للغائب على الشاهد. ومنها أيضا أن العوض لا يحبط بالذنوب كالثواب لأنه عوض عن آلام إلا في الحساب الكلي بناء على رغبة الإنسان في التنازل عنه في «الآخرة». ومنها أن العوض لاحق للآلام وليس سابقا عليها؛ فلا يعطى ابتداء. لا يؤلم الإنسان ليعوض بل يحدث الألم لا عن قصد كنتيجة طبيعية للفعل القصدي.
19
وقد يتفضل حساب العوض كما طبقا للزمان، أي مدة الألم وشدته ونوعه. فالعوض المنقطع هو العوض المرئي المباشر نتيجة للجهد، في مقابل العوض الدائم الذي ينتج عن مصير حياة بأسرها. ويدل على ذلك النظر إلى العوض في الشاهد.
20
وقد يكون العوض على أبعاض الأجسام مثل اليد والرجل بين المؤمن والكافر.
21
وقد يصبح العوض ماديا صرفا وليس معنويا فحسب، في الأشياء وليس في الأفعال، ويتحول الأمر كله إلى فقه، ويتحول العوض إلى تعويض، وله مدة إما انتظارا أو فوريا وكأنه تعويض قانوني عن أضرار في حادثة طريق.
22
وهو تصور قانوني للعدل، حسابي كمي لا مكان فيه للأعذار أو العفو، مجرد علاقة بين طرفين، ما يجب عليه التعويض وما يجب له التعويض، علاقة بين المكلف والمكلف وكيفية إيصال العوض ومقداره.
23
صحيح أن العوض يعني انتصار الخير في النهاية، وتطابق نتائج الأفعال مع مقدماتها، وأنه لا مكان للظلم في العالم، وأن البريء المظلوم ينال براءته، والظالم المذنب ينال عقوبته. إنما المهم أن يأتي التعويض من داخل الفعل وبنيته وتكوينه في الفرد وفي الجماعة وفي التاريخ وليس من خارجه تشخيصا له واعتمادا على قدرة مشخصة أكبر خارج التاريخ. والمهم أيضا ألا ينتهي العوض كما هو الحال في الصلاح والأصلح واللطف والألطاف إلى قبول الآلام وتبرير الشر على أمل العوض في الحال أو في المآل ويطول الانتظار، وعمر الإنسان في النهاية أقصر بكثير من عمر التاريخ، فيموت حسرة مع إيمان قوي بعدالة السماء التي لم تتحقق بعد في حياته على الأرض. (3) هل يمكن إيلام الأطفال؟
ليس الموضوع هو إثبات قدرة الله، فالله قادر على كل شيء، ولكن الموضوع هو العدل، أي مصالح العباد ضد الظلم والجور والفساد. فقد انبثق العدل من التوحيد وخرج الإنسان المتعين من الإنسان الكامل. وحتى لو كان الأمر يتعلق بقدرة الله، فهل تثبت ابتداء من إيلام الأطفال وهم لا يقدرون على شيء؟ وهل يتساوى الطرفان: الله والطفل؟
24
وإثبات آلام الأطفال موضوع لعلوم الجسم أو علم النفس أو التربية وليس موضوعا لاهوتيا تأمليا إذا كان المقصود إثبات الآلام على المستوى الطبيعي النفسي الجسمي. وحتى في هذا المستوى، لا يخلو الأمر من إسقاط الإنسان وإحساسه بالألم على الأطفال. فالإسقاط قائم سواء على المستوى اللاهوتي أو على المستوى الطبيعي، وكأن الآلام لا يمكن أن تدرك إلا على المستوى الإنساني. بل ويتدخل المستوى اللاهوتي في المستوى الطبيعي حتى لا تكون الآلام بفعل الخلقة والطبع وتقوم على الأسباب والمسببات.
25
وقد يكون نفي الآلام رد فعل طبيعي لإثبات العدل. فالأطفال لا تتألم لأن الألم عقاب، وعقاب الأطفال ظلم ما داموا ليسوا مكلفين. التكليف مشروط بالعقل والبلوغ، والأطفال والمجانين دون ذلك، بل قد تتحول آلام الأطفال إلى لذات من فرط العدل.
26
والحقيقة أنه لا يجوز إيلام الأطفال؛ فهم تحت سن البلوغ، والبلوغ شرط التكليف. فكيف يحاسب الطفل وهو لم يصل بعد إلى مرحلة البلوغ؟ كيف يكون مسئولا عن نفسه وعن غيره وهو ما زال دون حرية الاختيار؟ إن الآلام لا تكون إلا عن استحقاق، والأطفال لا يستحقون الآلام لأنها نتيجة الأفعال الحرة العاقلة، وأفعال الأطفال ليست كذلك. ولا فرق في ذلك بين أطفال المؤمنين وأطفال الكافرين. وأين تكافؤ الفرص والمساواة في العدل بين طفل المؤمن وطفل الكافر حين يثاب الأول بطاعة آبائه ويعاقب الثاني بعصيان آبائه؟ أليس ذلك ضد المسئولية الفردية والتكليف الفردي؟ وماذا لو قال طفل الكافر كما هو الحال في قصة الإخوة الثلاثة لو كنت عشت لكنت قد آمنت. وما الضامن إذا ما عاش طفل المؤمن ألا يكفر؟
27
لا يؤخذ الطفل إذن بجريرة أبيه:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت (81: 8-9). وكيف يمكن إيلام الأطفال موعظة لآبائهم؟ ولماذا يتألم الأطفال ويتعظ الآباء؟ وهل موعظة الآباء لا بد أن تكون على حساب أطفالهم؟ وهل يتعظ الآباء بعذاب أطفالهم أم يتألمون لآلامهم، ويكفرون إذا كانت آلامهم بغير جريرة أو ذنب؟
28
وكيف تكون آلام الأطفال عبرة للبالغين؟ هم يتألمون وغيرهم يعتبرون! وهل يكون الطفل عبرة للبالغ ولا يكون البالغ عبرة للبالغ؟ وكيف يتوب الأطفال وكيف يتألمون ليثاب الآباء؟ وكيف يوضع الأطفال في النار وكأن الله يفرح بآلامهم؟ ويتحول المطلق إلى صادي كبير ينعم بعذاب الآخرين، أو إلى متسلط قاهر يفعل بلا قانون باسم السلطة المطلقة، تفعل الشرور في العالم، ونجد في ذلك حكمة بالغة!
29
مع أن صورة الأطفال في الآداب الشعبية نموذج البراءة والصدق والطهارة والخير الفطري. وتلك أيضا صورتهم في النقل أنهم مع الأنبياء في الجنة. وقد كان الأنبياء يحبون الأطفال، يلعبون معهم، ويرون فيهم الإيمان الطبيعي. بل إن علاقة الله بالإنسان تصور دائما على أنها علاقة الأم بطفلها، علاقة حنان وعطف ورعاية وحب. وطالما افتدى الآباء أطفالهم منعا لهم من الإيلام والإيذاء. فالأطفال كلهم في الجنة، لا فرق بين أطفال المؤمنين وأطفال المشركين.
30
وإذا ما تألم الأطفال يجب لهم العوض. ولكن مهما كان من عوض، هل يجازي العوض عن الآلام؟ وأيهما أفضل: آلام بعوض أو لا آلام على الإطلاق؟
31
وكيف تكون روح الأطفال عقابا لأرواح الكبار إذا ما تناسخت الأرواح؟ إنه لنعيم أن تتحول روح الظالم إلى روح طفل، فلربما أدرك براءة الأطفال.
32 (4) هل يجوز إيلام البهائم؟
ولما كان الإيلام واقعا على كل كائن حي لنفور الطبع منه، فإن الإيلام يمتد من الإنسان بالغا كان أم طفلا إلى الحيوان. وكما صعب تحديد إيلام الأطفال دون إسقاط إنساني، فالأصعب تحديد إيلام الحيوان دون إسقاط إنساني كذلك. والمواقف واحدة. فكما يجوز إيلام الأطفال بلا استحقاق أو عوض لأن الله مالك كل شيء ولا يجب عليه شيء، فالأولى جواز إيلام الحيوان بلا استحقاق أو عوض لنفس السبب.
33
ولا توجد أعواض ابتداء عن كون الحيوان حيوانا وعدم كونه إنسانا؛ لأن الأعواض نتيجة للآلام وليست سابقة عليها. وإن اعتراض الحيوان على وضعه كحيوان وتفضيل وضع الإنسان يفترض وعيا وعقلا وحرية، وهو ما لا يتوافر في الحيوان. ولما كان الإسقاط الإنساني هو أساس الإدراك، فيستحيل إيلام الحيوان بلا استحقاق أو عوض بصرف النظر عن كمال العقل وشرط التكليف.
34
وهي نظرة إنسانية عادلة تسقط على الحيوان وتفيد الرفق بالحيوان، وهو توجه شرعي. وقد يبلغ تقديس الحياة والرسالة والعدل إلى درجة اعتبار كل شيء حي حتى الجماد وكأنه مكلف يستحق الثواب والعقاب.
35
ومع ذلك يظل التكليف إنسانيا خالصا، مشروطا بالحرية والعقل. بل يكون كل شيء في الطبيعة بما في ذلك الحيوان مسخرا للإنسان؛ لذلك جاز ذبح الحيوان وركوبه كما أباحت الشريعة. وإدراكا لهذا الإسقاط وتفاديا له قد يثبت الإيلام دون حسن أو قبح مثل آلام الدواء والعلاج بالرغم من كون ذلك نافعا، وبالتالي يكون حسنا.
36
ويثير تعويض البهائم عن الآلام عدة مسائل عن كيفية العوض ومدته. هل يتم ذلك في الحال أم في المآل، في الدنيا أم في «الآخرة»؟ وهل يتم العوض عن طريق اقتصاص الحيوان بعضه من البعض الآخر؟ وهل يدوم عوضها أم ينقطع؟
37
وهنا تبرز نظرية التناسخ من جديد لجعل العوض في هذه الدنيا إيثارا لعقاب الحال على عقاب المآل، وتنفيذا للاستحقاق والعوض في التاريخ.
38
عاشرا: خاتمة، أين الإنسان؟
بالرغم من غياب الإنسان كمبحث مستقل في علم أصول الدين وحضوره كإنسان مغترب فيه، كإنسان كامل في أصل التوحيد وكإنسان متعين في أصل الوحي، كذات وصفات في التوحيد، وكحرية وعقل في العدل، إلا أنه يظهر أحيانا كموضوع جزئي في كتب المقالات وفي الموضوعات الطبيعية، وكأن الإنسان ظاهرة طبيعية، وكأنه شيء وليس إنسانا.
1
لم يظهر الإنسان صراحة كأحد موضوعات علم أصول الدين بالرغم من أن العلم كله حديث عن الإنسان. لم يظهر حاضرا إلا في كتب المقالات وإن لم يكن هناك قسم فيه عن الإنسان. لم يظهر إلا كموضوع منفصل لا صلة له بالموضوعات الأخرى، ولكن غالبا ما يظهر كأحد موضوعات الطبيعيات وكأنه شيء وكأنه هذا الإنسان المرئي الموجود في العالم مثل باقي الأشياء. فالإنسان حاضر حضورا مباشرا كموجود طبيعي ضائع وسط الأشياء والمقالات الطبيعية وحاضر حضورا غير مباشر كإنسان مغترب في الإلهيات، بل وفي السمعيات، كإنسان كامل في التوحيد، وكإنسان متعين في العدل، كإنسان كامل في الذات والصفات والأفعال، وكإنسان متعين مثالي في العدل كحرية وعقل، كإنسان مقلوب، غير الإنسان، اللاإنسان، الإنسان الآخر، الإنسان المغاير لذاته الذي اقتص جزءا منه، جوهره وماهيته، وشخصها خارجه فظلت نائية عنه لا يستردها إلا بالمناجاة والدعاء والابتهال والصلاة، أو يتوحد بها من جديد بالرياضة والمجاهدة والأحوال والمقامات كما هو الحال في علوم التصوف. فما يقذفه المتكلم خارجا عنه يسترده الصوفي داخلا فيه. (1) الإنسان حاضرا في الطبيعة
ويظهر الإنسان حاضرا في عدة تصورات. الأول التصور الثنائي للإنسان الذي يجعله مركبا من نفس وبدن، وهو التصور الشائع ليس فقط في العلوم النقلية العقلية، بل أيضا في الدين الشعبي. ولكن الإشكال في كيفية التركيب والممازجة بينهما، أي تحديد الصلة بين النفس والبدن. ولما كان إيجاد وحدة غير مركبة أمرا صعبا كانت الصلة بينهما إما ترتكن مرة إلى روح فتكون الأولوية للروح على البدن، أو ترتكن مرة ثانية إلى البدن فتكون الأولوية للبدن على الروح. في الحالة الأولى يكون الإنسان هو الروح، ويكون الروح هو منبع الحياة ومصدر الحواس. وتداخل الروح البدن وتتشابك فيه ويكون البدن طارئا عليها وآفة لها. الروح جسم لطيف بداخل الجسم الكثيف وهو البدن، محبوس فيه والبدن ضاغط عليه. والروح مستطيع بنفسه والعجز طارئ عليه من البدن. العجز من الجسم وليس من الروح. والموت من الجسم في حين أن الروح كله علم وقدرة وحياة وسمع وبصر وكلام وإرادة، وهي صفات الكائن الحي سواء الله أم الإنسان كروح. الروح هي صاحبة القدرة والقوة والاستطاعة قبل الفعل، وهو جنس واحد، كما أن أفعاله جنس واحد. وهو المأمور والمنهي، أي إنه هو المكلف والمحاسب، المعاقب والمثاب.
2
وينتج عن ذلك أن الإنسان لا يرى وإنما الذي يرى هو الجسد الذي فيه الإنسان، وأن الصحابة لم يروا الرسول وإنما رأوا قالبا كان الرسول فيه، وإن أحدا منا لا يرى أباه أو أمه، أخاه أم أخته، بل يرى قوالب وهياكل. وقد يكون الجماد مثل الإنسان قالبا للروح؛ وبالتالي يصعب التفرقة بين الإنسان والحيوان والجماد ما دامت كلها قوالب وهياكل. ما دامت الرؤية تتم للقالب أو الهيكل وليس للروح فإنه تستحيل رؤية أي شيء حي، إنسانا أم حيوانا، ملكا أم شيطانا. وإذا كانت الروح هي الفاعلة المحاسبة، المثابة والمعاقبة فكيف تقطع يد السارق ويجلد الزاني، وإلا كان المقطوع غير السارق والمجلود غير الزاني، وهو ضد الشرع الذي يوقع الثواب والعقاب على الأشخاص؟ وإذا كانت الروح طاهرة نظيفة، فكيف يخرج عنها أوساخ البدن إخراجا وقيئا وعرقا؟ أم أن أوساخ البدن وإفرازاته طاهرة نظيفة مثل طهارة الروح ونظافتها؟ وإن كان عجز الإنسان لبدنه ما دامت الروح قادرة بنفسها كان العاجز الميت هو الإنسان ، مع أن الإنسان حي قادر، أو كان العاجز الميت هو جسده؛ وبالتالي تبطل قدرة الله على إحياء الموتى لأن الحي لا يموت.
3
والحقيقة أن هذا التصور الثنائي الذي يعطي الأولوية للروح على البدن ينتهي بأن يجعل البدن أقوى من الروح فهو الضاغط عليه الحابس له. صحيح أن الروح منبع لكل مظاهر الحياة، وبالتالي يتم التركيز في هذا التصور على الحياة ومظاهره إلا أنه يصعب تفسير صلة الروح بالبدن. وبالتالي يتحول التصور الثنائي للروح والبدن إلى تصور مثالي للروح، ونظرة تطهرية للبدن باعتباره آفة. كما يصعب فهم صلة التداخل والمداخلة. هل هي مداخلة مادة في مادة لما كانت الروح جسما، أم تداخل لا مادة في مادة لما كانت الروح روحا؟ ولا يهم مصدر هذا التصور، خارجي أم داخلي بعد أن أصبح الخارجي داخليا بفعل الترجمة والتمثل والاحتواء، ولكن المهم هو بنية التصور ذاته ومدى تعبيره عن التصور الحضاري العام. والمهم أيضا هو النقد الذاتي لهذا التصور واكتشاف إمكانية الخروج من هذه الثنائية إلى طرف ثالث هو الإنسان الذي لا هو روح ولا بدن، بل حياة في الجسد، وسط بين الروح المجرد والجسم المرئي. ومع أن هذا التصور طبيعي إلا أنه لم يخل من استعماله كدليل لتصور إلهي، وكأن حياة الإنسان وحياة الله نموذج واحد للحياة.
وقد يرتكن التصور الثنائي للإنسان على البدن لا على الروح، فتكون الأولوية للبدن المرئي لا للروح اللامرئي. وهنا ينقسم هذا التصور الطبيعي المادي إلى تصورين فرعيين؛ إما أن يكون البدن كثيرا جواهر وأعراضا وأخلاطا أو يكون البدن واحدا مرئيا كالجسم أو القوة أو الشخص. الأول يركز على الكثرة والتعدد، بينما يركز الثاني على الوحدة. فالإنسان كثير، وقد تكون هذه الكثرة في الأبعاض؛ أبعاض الإنسان، ويكون البدن هو الجامع لهذه الأبعاض دون أن يفعل كل بعض على حدة.
4
وقد تكون هذه الأبعاض هي الأعراض مجتمعة على جوهر واحد وهو الجسم أو بدون جوهر. وفي الحالة الأولى يكون قانون الاجتماع هو الأخلاط. وفي الحالة الثانية يكون الجوهر هو الحي الناطق أو يتحدد سلبا بنفس التماس والمباينة عنه.
5
فإذا غلبت الوحدة على التعدد في تصور البدن فإنه يكون هو الجسم أو هو هذا المرئي. وقد تكون الوحدة معنوية فيصبح الإنسان هو القوة أو هو الشخص أو هو هذا البشر.
ويتدرج التصور من المستوى المادي إلى المستوى المعنوي حتى يصبح الإنسان هو الإنسان.
6
والحقيقة أن هذا التصور مادي واحدي في مقابل التصور الروحي الثنائي. وبالرغم من أنه أقرب إلى الحس والبداهة، إلا أنه تصور طبيعي صرف غلبت عليه مفاهيم الطبيعة مثل الجواهر والأعراض والأخلاط والقوى والكل والأبعاض، هروبا من المفاهيم اللاهوتية عن الروح والبدن. ولماذا يستبعد الشعر والأظافر من الأعراض ولا تستبعد باقي الأعراض الخارجية عن البدن كجوهر مثل كل الإفرازات، وكل ما يخرج من البدن؟ وكيف تستبعد الحياة والنطق، وحياة الشعور الخالص؟
وهنا يأتي التصور الثالث كرد فعل على التصور الثنائي بشقيه الروحي والمادي، الإلهي والطبيعي، ويعيد إلى الإنسان وحدته. فالإنسان هو بدن وروح لا فصل بينهما ولا تمايز، ليس مادة تتحدد بالطول والعرض والعمق، وليس روحا طائرة حالة في البدن. الإنسان جزء لا يتجزأ، لا تجوز عليه المماسة أو المباينة أو باقي الأعراض وإلا لتعدد الإنسان وتعددت أفعاله وتكاثرت شخصيته واستحالت المسئولية الفردية.
7
وهو مع ذلك مدبر في العالم وموجود فاعل فيه، وما البدن إلا آلة الفعل الظاهرة منه. ومع ذلك لا يوجد في المكان حقيقة ولا تجوز عليه الحركة والسكون والألوان والطعوم، ولكن يجوز عليه العلم والقدرة والحياة والإرادة والكراهة. فالإنسان معنى أو جوهر غير الجسد. وهو عالم مختار حكيم. حياته حياة الوعي والشعور وإن بدا متحركا ساكنا، له لون ورائحة. لا يمكن رؤيته ولا لمسه بل ولا وصفه إلا ظاهرا. ومع ذلك يظهر في البدن ويتجلى فيه. فالبدن آلته للحركة وللفعل، والإنسان هو المتحكم فيه والمدبر له. حقيقة الإنسان في حياة الشعور، وحياة الشعور تتمثل في الإرادة الواعية، أي إن الإرادة القائمة على العلم، وكلاهما تعبير عن الحياة.
8
وهنا أيضا يصبح الإنسان مماثلا لله في حياة الشعور. فهناك شعور واحد يتصف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة. فإذا كان السمع والبصر وسيلتين للعلم، وإذا كانت الإرادة تعبيرا عن القدرة، وإذا كان الكلام إيصالا للعلم تكون الحياة علما وإرادة، ويكون الشعور الحي نظرا وعملا؛ وبالتالي يظهر الإنسان كشعور حي يتجلى في العلم والإرادة، في النظر والعمل، ويسترد الإنسان صفاته بعد طول المطاف.
9
والحقيقة أن هذا التصور لا ينتج عن أثر خارجي من علوم الحكمة أو غيرها، بل نابع من علم أصول الدين، ومحاولة لاكتشاف الإنسان كمبحث مستقل. فالإنسان هو الإنسان دون رده إلى ما هو أكثر منه كروح إلهي ولا إلى ما هو أقل منه كبدن طبيعي. والعجيب أن تتحول النظرة المادية أي التجسيم والتشبيه إلى نظرة روحية في الإنسان، كما تتحول النظرة المثالية أي التنزيه في الإلهيات إلى نظرة طبيعية في الإنسان، وكأن الله والإنسان متقابلان ومتكاملان في التشبيه والتنزيه. إذا ما شبه الله نزه الإنسان، وإذا ما نزه الله شبه الإنسان. (2) الإنسان مغتربا في الله
وبالإضافة إلى الإنسان حاضرا في المقالات عن الإنسان كموجود طبيعي هناك الإنسان مغتربا، الإنسان الكامل الذي يقبع وراء نظرية الذات والصفات، والإنسان المتعين الذي يقبع وراء نظرية الأفعال. الإنسان كذات أو كوعي خالص موجود قديم باق أي لا أول له ولا نهاية له في الزمان ولا يحل في مكان ولا يشبه الحوادث، وواحد. والإنسان كصفات أو كوعي متعين متحقق بالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، والإنسان المتعين بالحرية والمتميز بالعقل، وكأن الحرية هي مبدأ التفرد؛ تفرد الإنسان المتعين من الإنسان الكامل، وأن العقل نتيجة طبيعية للحرية لما كانت الحرية عاقلة مسئولة؛ ومن ثم يكون الإنسان ذاتا وصفات وأفعالا هي النتيجة النهائية للعقليات الشق الأول لعلم أصول الدين.
10
Shafi da ba'a sani ba